سياسة

آثار مقتل سليماني على الوضع في المنطقة بشكل عام وفي سورية بشكل خاص؟ -مجموعة مقالات- متجدد

 

مقالات مختارة أضيفت في 7كانون الثاني 2020

محور سليماني الذي لا ينهزم/ عمر قدور

بحسب وعيد مسؤولي المحور الإيراني في طهران وبغداد والضاحية، الثأر لمقتل سليماني آتٍ، وسيكون مزلزلاً، بل سيقلب الأوضاع الاستراتيجية في المنطقة رأساً على عقب. بحسب أجواء المحور نفسه، وبحسب موقع المرشد خامنئي، نال سليماني ما سعى إليه منذ سنوات، المرشد تقدّم بأسمى آيات التبريك لصاحب العصر والزمان لمناسبة الاغتيال، وكأن القاتل الذي وصفه بـ”أشقى أفراد البشر على الأرض” قد نفّذ ما كان يصبو إليه القتيل، ورفعه إلى اللقاء الذي يصبو إليه، وأية حظوة أعلى من عناق سيد الشهداء في الجنة!

لم يتخلف ترامب عن مزاد الوعيد، وأنذر حكام طهران بقصف بنك أهداف مساوٍ لعدد الرهائن الأمريكيين الذين احتجزهم حكم الملالي المنتصر على الشاه. ربما هذه هي المرة الأولى التي يفصح فيها مسبقاً رئيس أمريكي عن تفاصيل ونوايا عسكرية، فلا يكتفي بما هو معلوم للجميع “باستثناء محور إيران!” عن قوة بلاده وقدرتها على إلحاق الدمار. يناسب هذا شخصية ترامب، الذي كان قد تباهى يوماً بأن لديه زراً نووياً أكبر مما لدى نظيره الكوري، مثلما يناسب الجعجعة في المقلب المقابل، وليست صورة المسيح وهو يحتضن ترامب التي روّجها أنصار الأخير سوى ردّ يشبه المهزلة على التراجيديا التي يبنيها نظراؤهم في الطرف الآخر.

بعيداً عن الجعجعة، هناك جهات نشطت فور تنفيذ عملية الاغتيال كي تؤول المواجهة إلى وضع “عقلاني” مقبول. من بين هذه الجهات قادة أوروبيون سعوا من قبل إلى الإبقاء على الاتفاق النووي، وقادة إقليميون لعبوا دور الوساطة سابقاً بين طهران وواشنطن. الاتفاق المرجو من قبل الوسطاء ألا ترد طهران على العملية الأمريكية، أو ألا يطاول الرد الأمن القومي الأمريكي مباشرة بحيث يستدعي المواجهة. ما يشجع الوسطاء تلك القناعة العامة بأن ترامب لا يريد مواجهة كبرى، وأن طهران خارج إدمانها على الشعارات الكبرى لا تريد خوض حرب يُنتظر أن تكون باهظة جداً.

لا ننسى وجود قناعة لدى عشّاق “النظام” في الغرب، ومنهم نسبة كبيرة من الحزب الديموقراطي الأمريكي، مفادها أن طهران رعت ومارست وتمارس الإرهاب، لكنه ذلك الإرهاب المضبوط الخاضع لنظام هرمي، والذي يمكن التفاوض معه بخلاف تنظيمات الإرهاب السني المنفلتة. ذلك يجعل الخلاف مع حكام طهران قابلاً للتفاوض، ومحصوراً في تفاصيل استخدامها الإرهاب والساحات المسموح بها، وبما لا يتعارض مع المصالح الغربية، إذا لم يكن في الأصل ضمن المصالح المشتركة استراتيجياً. من المرجح أن طهران، كرمى لسليماني، لا تريد خسارة هذه الوضعية التي أتاحت لها مكاسب إقليمية جمة، مكاسب لم يُتح مثلها للشاه الذي كان يلقّبه البعض بشرطي المنطقة.

جمهور المحور الإيراني المتلهف إلى الثأر يمكن تهدئته بالطريقة التي تمت تعبئته بها، فهو جمهور اعتاد التكهن بوجود حكمة دائمة لدى قياداته، من دون التساؤل عن ماهيتها أو صلاحيتها. ربما أيضاً، بعيداً عن الاستعراض، لا يود هذا الجمهور حدوث مواجهة كبرى يكون وقودها، أي أنه بوعي أو بلا وعي يتواطأ مع قياداته على امتصاص الإهانة الأمريكية. لن يوجد نصر “إلهي” مفوَّت لدى هذا الجمهور، فهو سيعثر عليه حتى إذا اكتفت طهران بتوجيه ضربات إلى الذين تعتبرهم حلفاء لواشنطن في المنطقة، رغم حدوث مثل هذه الضربات قبل أشهر وبقائها من دون رد أمريكي.

أما إذا أخذنا فرضية التصعيد، فالانتصار فيها مضمون أيضاً وفق المعطيات الحالية. إذا حدث اعتداء مثلاً على قاعدة من القواعد الأمريكية المنتشرة في المنطقة، وسقط فيها عدد من الجنود، فمهما كانت قسوة الرد الأمريكي ستتوجه الأنظار إلى الخسارة الأمريكية ولو لم تكن متناسبة مع الخسارة الإيرانية الجديدة. هنا استئناف لفلكلور معروف في المنطقة، يُعتبر فيه الأذى الذي يوجه للخصم ثميناً ولو كان بسيطاً، في حين يُستهان بالأذى الذي يوقعه هو مهما كان باهظاً. لنقارن على سبيل المثال بين الخسائر الإسرائيلية في كافة حروبها، على صعيد الأرواح والمنشآت، ونظيرتها العربية، وكيف أمكن التباهي بالانتصار على إسرائيل في العديد من الجولات، ولو تحت زعم أنها لم تحقق ما كانت تريد تحقيقه!

الحق أن المحور الإيراني يمتلك قوة لا يمتلكها ترامب، وفرصه في تحقيق النصر أعلى. لدينا حرب لامتكافئة، جانب منها يتعلق بكيفية تعامل كل طرف مع الخسائر، فترامب لا يملك القدرة على الاستهانة بأرواح الأمريكيين، وإذا أضمر الاستهانة في قراراته هناك رأي عام وكونغرس وصحافة لا يغض واحد منها النظر عن الخسائر. بهذا المعنى، لا أهمية قصوى من جهة حكام طهران لبنك الأهداف الذي يلوّح بقصفه، إذا استثنينا محاولتهم الاستفادة من القصف لشدّ عصب جمهورهم وامتلاك شرعية لدى شرائح أخرى، من القوميين على نحو خاص، فضلاً عن كونها فرصة لممارسة المزيد من القمع إزاء المعارضين بحجة الأمن القومي الذي يتعرض للخطر.

في أقسى الاحتمالات، وهذا لن يحدث، لا يضير الفئة الحاكمة أن تبقى في السلطة، ولو كانت عرشاً فوق دمار البلد. هذا هو السلوك النموذجي الذي شهدناه لدى أنظمة مشابهة، ورأينا كيف ترى في بقائها انتصاراً. جوهر قوة هذه الأنظمة هو استبطانها عدم وجود عدم نية لتغييرها، وإثر اغتيال سليماني كان ترامب واضحاً بإعلانه عدم نيته خوض حرب وعدم نيته تغيير النظام في طهران. ومن المستبعد ألا يعرف صناع القرار في واشنطن أن كل ما دون تغيير النظام قابل للتحمل لدى حكام طهران، أي أن العتبة الأدنى للانتصار مضمونة وفق هذه التطمينات.

لقد تنبأ كتّاب ومنظّرون مع نهايات القرن الماضي بأن حروب المستقبل هي حروب ذكية، قادتها العسكريون يجلسون أمام لوحات من الأزرار، وكذلك حال خصومهم، والطرف الخاسر يعلن هزيمته قبل الضغط على الأزرار لمعرفته بتفوق خصمه. ذلك التصور عن حروب تُخاض افتراضياً ويمتنع اندلاعها واقعياً لا يتطلب فقط ذكاء اصطناعياً متماثلاً على صعيد التسليح، وإنما يتطلب تكافؤاً بين الخصمين على مستوى إخلاص كل طرف لمصالح شعبه. ثم إن جميع الفرضيات والنظريات الغربية تبقى قاصرة إزاء عقل يرى الانتصار محتماً ولصيقاً بوجوده، بينما تنتفي أية قرابة بينه وبين العقلانية التي يسبغها الغرب عليه، أو يتوق إلى أن يتحلى بها قليلاً. يتباهى أنصار المحور الإيراني باستعدادهم للشهادة، والحق أن هذا الاستعداد ينسف كافة النظريات المعهودة عن الحروب وعن السياسة، طالما بقي مصنع الشهداء موجوداً ومستمراً في إنتاجهم.

————————-

 العلاقة الإيرانية ـ السورية بعد مهندسها سليماني/ إبراهيم حميدي

لسوريا بالنسبة إلى إيران، خصوصية في تداعيات اغتيال قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» قاسم سليماني و«مسارح» الرد المحتمل. في هذه الساحة، عوامل شخصية وجيوسياسية متراكمة، لا تتوفر في غيرها. فيها بعدان: شخصي رعاه سليماني وطوره في العقدين الأخيرين خصوصاً بعد 2011، ومؤسساتي – استراتيجي بين دمشق وطهران يعود إلى 1979.

سوريا، حلقة إيران للربط البري بين العراق ولبنان. جبهة ثانية بعد جنوب لبنان، في الإطلال على إسرائيل من هضبة الجولان ومسارات تسوية النزاع العربي – الإسرائيلي. الوقوف على مشارف العمق العربي من بوابة الأردن. أيضاً، فيها تماس من حلب وإدلب مع التركة العثمانية. أيضاً، الوصول إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط، تحت الغطاء الروسي.

إضافة إلى إيران، الموجودة رسميا وعبر تنظيماتها، هناك أربعة جيوش أخرى: أولا، القوات الأميركية تقود التحالف الدولي في الحرب ضد «داعش» وتقيم شرق الفرات بجوار تنظيمات عربية جندتها طهران على أطراف قاعدة عسكرية في البوكمال بريف دير الزور. ثانياً، الجيش التركي عبر نقاط الرقابة الخاصة به في إدلب وريفها وفي جيوب «درع الفرات» و«غضن الزيتون» و«نبع السلام» شمال سوريا. ثالثا، إسرائيل، الحاضرة – الغائبة في سوريا عبر غاراتها الجوية المتكررة في دمشق وأطرافها وصولاً إلى حمص وحماة والبوكمال.

رابعاً، روسيا هي اللاعب الرئيسي بين الجيوش الأربعة. أقامت ثلاث قواعد عسكرية طويلة الأمد. في اللاذقية وطرطوس والقامشلي. ونشرت منظومات صواريخ «إس 300» و«إس 300 متطورة» و«إس 400» وعادت من سوريا إلى الشرق الأوسط.

الثأر

لدى تفكير طهران بالثأر لسليماني، لا بد من الأخذ بالاعتبار هذه العوامل العسكرية ووجود اللاعبين الخارجين وأولويات دمشق وإمكاناتها:

شرق الفرات: ما دام أحد «مسارح» الرد، هي منطقة انتشار القوات الأميركية قرب تنظيمات إيران، فإن الطرفين اتخذا إجراءات احترازية. واشنطن عززت قواتها بمضادات صواريخ ودوريات. طهران، أبعدت قواتها من المناطق المفتوحة إلى مناطق سكنية وأخلت بعض القواعد. للبوكمال بعد رمزي عند سليماني. هو الذي أشرف على فتح هذا المعبر للحفاظ على طريق طهران – بغداد – دمشق – بيروت بعدما سيطر الأميركيون على قاعدة التنف وقطعوا الطريق الرئيسي بين العاصمتين العراقية والسورية. سيكون مصير البوكمال عرضة أكثر من غيره للتأثر بغياب «مهندس الطريق البديل».

حلب: الأحياء الشرقية بحلب، كان زارها سليماني مرات عدة بعد استعادة قوات الحكومة لها في ديسمبر (كانون الأول). كما أنه زار غرب حلب باتجاه إدلب. لم تشارك تنظيمات تابعة لطهران في المعارك الأخيرة في جنوب شرقي إدلب التي استعادت فيها دمشق مناطق واسعة. هناك اعتقاد، أن دمشق تريد تسريع «الحسم» في ظل انشغال العالم بتداعيات اغتيال سليماني، لكن هذا محكوم بأمرين: الأول، قمة الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان غدا حيث تعرض على طاولتهما مسودة هدنة في إدلب. الثاني، العلاقة بين قناعة طهران بفتح معركة غرب حلب لتكون إدلب «مسرحا» للثأر ومدى تأثير ذلك على التفاهمات الروسية – التركية – الإيرانية في عملية آستانة.

الجولان: منذ انخراط إيران و«حزب الله» في سوريا بدءا من 2013، كان هناك تركيز على الجنوب السوري. جرى تأسيس خلايا وتنظيمات. بعد التدخل الروسي في 2015 تعرض هذا الوجود لضغوطات: غارات إسرائيلية وسط روسي وصل أحياناً إلى حد التنسيق، إضافة إلى رعاية موسكو اتفاق نص على انسحاب «القوات غير السورية»، أي تنظيمات إيران، من الجنوب والجولان مقابل عودة القوات الحكومة ونشر «القوات الدولية لفك الاشتباك» (أندوف) في الجولان في بداية 2018.

شجعت طهران، يعتقد أن سليماني نفسه، تنظيمات لاستخدام منصة الجولان مرات عدة، كان آخرها في نوفمبر (تشرين الثاني) بعد استهداف تل أبيب قادة من «الجهاد الإسلامي» في غزة ودمشق. كما جرى اختبار طائرات «درون» طارت من وسط سوريا إلى الجنوب. كان الرد الإسرائيلي بقصف واسع على مقرات إيرانية وسورية قرب دمشق وما بعدها.

«دولة الظل»

في منتصف 2015، زار قاسم سليماني موسكو وكان له دور بارز في إقناع الرئيس بوتين في التدخل العسكري المباشر في سوريا لدعم قوات الحكومة التي لم تكن وقتذاك تسيطر على أكثر من 10 في المائة من سوريا. وقتذاك، أبرم اتفاق «زواج المصلحة» لدعم قوات الحكومة وصولاً إلى استعادة ثلثي الأراضي: القوة الجوية من روسيا والقوات البرية من إيران، عبر ميليشيات غير إيرانية بإشراف «الحرس الثوري» وصل عددها في بعض الأوقات إلى نحو 70 ألف عنصر (سوري وغير سوري).

هذه المعادلة لبت مطالب بوتين في تجنب «أفغانستان ثانية» وتحقيق انتصارات بأقل تكلفة بشرية ومادية. لبت طموحات إيران بإنقاذ الحليف الاستراتيجي في دمشق والدخول في النسيج الاجتماعي السوري. ومع تقدم المكاسب العسكرية، كانت روسيا وإيران تتشاركان في تقاسم المصالح الاقتصادية وتعميق النفوذ بحيث يبقى إلى سنوات طويلة. بين دمشق وموسكو اتفاقات مدتها 49 سنة لإقامة القواعد العسكرية وعقود لاستثمار النفط والغاز والفوسفات. بين دمشق وطهران اتفاقات اقتصادية وتجارية وعسكرية يعود بعضها إلى منتصف 2018.

وكان واضحا الفرق بين مقاربتين: روسيا تركز على مؤسسات الدولة، الجيش والأمن والحكومة. إيران تركز على تأسيس «دولة الظل» عبر شبكات و«هندسات اجتماعية» وجمعيات خيرية. روسيا كانت تنتشر في الضوء وفي المدن. إيران كانت تنتشر في العتمة وفي الأرياف.

سليماني كان «مهندس دولة الظل» في سوريا. غيابه سيترك أثرا عملياً في ذلك. الاغتيال أعاد مصير الدور الإيراني في سوريا إلى الواجهة. بات أولوية سواء من حيث إمكانية الرد أو حدود هذا الدور. بات أولوية على حساب تراجع أولويات أخرى تخص العملية السياسية وأخواتها. غياب سليماني «يحرر» أصحاب القرار في دمشق من ذاكرة آخر عشر سنوات. وينطبق هذا على بوتين في حال كانت لديه رغبة في تحديد أو تعريف الدور الإيراني. يضعف دور الشبكات ويعكس فرصة لتعزيز المؤسسات. ترجيح العلاقة بين الجيشين السوري والإيراني على حساب العلاقة بين الحرس الثوري في طهران و«قوات الدفاع الوطني» في دمشق.

غياب سليماني، قد يفتح الطريق لروسيا بإعادة العلاقة السورية – الإيرانية إلى سابق عهدها وتخلصيها من البعد الشخصي، أو يعطيها فرصة لتقديم هذا العرض كي تساهم دول عربية وغربية في إعمار سوريا ودعم عودة اللاجئين والدفع لخروج القوات والميليشيات غير الشرعية.

الشرق الأوسط

—————————-

إيران وخيار تجرّع السمّ/ جمال منصور

    «ويلٌ لي لأنني ما زلتُ على قيد الحياة حتى أتجرّع كأس السُمّ بموافقتي على اتفاقية وقف إطلاق النار… وكم أشعر بالخجل أمام تضحيات هذا الشعب…».

    الإمام الخميني، من خطاب بتاريخ 18 تموز 1988، يعلن فيه قبول إيران قرار وقف إطلاق النار رقم 558، وإنهاء الحرب العراقية الإيرانية

******

تفتح العملية الأميركية التي تم من خلالها اصطياد قاسم سليماني أبواب احتمالاتٍ عديدة، وهي كانت عملية كبرى في هدفها، وفي تخطيطها وتنفيذها وارتدادتها المحتملة، وكبرى أيضاً في دلالاتها الرمزية، سواء لجهة العودةٍ العنيفة والعلنية للقوة المتغطرسة الأميركية إلى المنطقة، أو لجهة محدودية القوة لدى جميع اللاعبين الإقليميين، وإيران على وجه التحديد.

بعد العملية المُذِلّة في كافة تفاصيلها، تشقّقت الصورة التي دأبت إيران على رسمها لنفسها كقوةٍ جدية، قادرة على مناطحة الأميركيين والوقوف في وجههم بصورة تشبه مواجهات الكاوبوي في أفلام هوليوود، التي يخسر فيها من يفقد رباطة جأشه أولاً. وقد جرّبت إيران أن تلعب وفق قوانين اللعبة التي بدأت تتجذّر، بصورةٍ عملية، بعد الانهيار العلني لخط أوباما «الأحمر» نتيجة استخدام طفل إيران المدلل، نظام بشار الأسد، للسلاح الكيماوي عام 2013، تحت أنظار وإشراف القوة الإيرانية، التي كانت لا تزال وقتها القوة الأجنبية الوحيدة على الأرض السورية، قبل الدخول الروسي وانحسار مركزية الدور الإيراني، في العام 2015: إيران متمدّدة قوية، تضرب الخواصر الرخوة لحلفاء واشنطن كالسعودية ودول الخليج الأخرى دونما قلقٍ أو حسابٍ لردٍ محتمل، كما تمسك بخناق العملية السياسية في أربعة بلدان عربية، في عملية تجذير وتكبير طَموحة لنفوذ مُتعاظم. كانت السياسة الأوبامية هي التي رسّخت القبول الأميركي والغربي بهذه المعادلة، وإن على مضض، في مقابل تأمين التوقيع على الاتفاقية النووية مع إيران، بحيث استغلّت إيران الفراغات التي سمحت بها هذه السياسة وراحت تملؤها بمشروعها التوسّعي. لكن مجيء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض كان إيذاناً بانتهاء هذه السياسة.

ثمة كثيرٌ مما يمكن قوله عن طيش ترامب، وعن نقص الرويّة والرزانة، لا بل والحماقة وقِصَر النظر حتى، في تعبيره عن السياسات الخارجية الأميركية، وفي إدارتها وتنفيذها. هذا كلّه صحيح، وتوجد عليه أمثلة وأدلّة واضحة في كل ما يقوله ويفعله الرئيس الأميركي، غير التقليدي بالمرة. فهو يؤذي الحلفاء التقليديين، ويهدد المؤسسات والمنظومات والتوازنات الدولية التي بنتها أميركا بنفسها بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تأسَّسَ عليها استقرار النظام الدولي ومصالح أميركا نفسها. لكن من الواضح، كذلك، أن دونالد ترامب يشكّل تغييراً صارخاً في نهج السياسة الخارجية الأميركية التي رسمها أوباما؛ تلك السياسة القائلة بالانسحاب الاستراتيجي من منطقة الشرق الأوسط، وتخفيض رتبة المنطقة وشؤونها وتطوراتها على سلّم الأولويات الأميركية الاستراتيجية والأمنية، وترتيب شؤونها بالاشتراك ما بين قوة دولية فاعلة وقادرة على فرض «القانون» (روسيا)، وبين أصحاب المصلحة المباشرين في نفط وأمن المنطقة (الأوروبيين، أصحاب الجوار الجيو-استراتيجي المباشر)، وبين مجموعةٍ من الوكلاء المحليين المحتملين (إسرائيل، تركيا، السعودية، وإيران غير نووية -لم لا؟-).

يمثّل دونالد ترامب اتجاهات في «الإيستابليمشنت» الأميركي تؤمن بمبادئ سياسات القوة التقليدية، سياسات المعادلات الصفرية: ربحك هو خسارة لي، وبالعكس. وهذا المبدأ، أو العقيدة حتى، يكاد يكون الثابت الوحيد في نظرة إدارة ترامب إلى الولايات المتحدة ودورها في العالم، وإلى ضرورات ترتيب النظام الدولي والعلاقات مع باقي الدول والهياكل الدولية، بصرف النظر عن أية نُظم أو تقاليد دبلوماسية أو أعراف استقرّ التعامل بها في النظام الدولي بعد العام 1945، وخصوصاً بعد سقوط المعسكر الشيوعي في العام 1991. وهو الأمر الذي يمكن متابعته في سلسلة سياساته التي تبدو وكأنها مرتَجلة وغير مخطّطة، كما يفعل في حربه التجارية تجاه الصين بهدف إخضاع الاقتصاد الصيني لضوابط أميركية، أو كما يبدو في سلسلة تغريداته التي تهدد بإنهاءٍ فعليٍ للناتو إذا لم تَقُم الدول الأعضاء الأخرى بدفع مستلزماتها وزيادة مساهماتها، وإلى آخر هذه السياسات المعروفة.

إذن، يمكننا فهم التصعيد الأميركي الحالي ضمن إطار هذا الثابت الوحيد في نهج ترامب وإدارته؛ نهج فرض السطوة والقوة، نهج فرض الهيمنة عاريةً دون تنميقٍ أو تزويق، نهج «نحنا الدولة ولاك». فبعد أن جرّبت إيران أن تخوض حربَ اعتراضها على الخروج الأميركي أحادي الجانب من الاتفاقية النووية، بتصعيدٍ ممنهج مستندةً إلى قواعد اللعبة السابقة، بدأ ترامب بسحب الأوراق السهلة من يد صانع القرار الإيراني: بدأت إيران ترسل إشارات تقول إنها على وشك الاتفاق مع الأوروبيين والروس لتجاوز العقوبات الأميركية المفروضة عليها، وإذ بحزمةٍ أشد تفرض عقوباتِ مشددةٍ على كل من يتعامل مع إيران بأية طريقة. قرّرت إيران اللجوء إلى لعبة التصعيد على الأرض في العراق، فقتلت (بالخطأ، على الأغلب) متعاقداً أميركياً، فما كان من القوات الأميركية إلا أن استهدفت آمر العملية من ميليشيا حزب الله العراقي في رسالة ردعٍ واضحة إلى مشغّله الإيراني. ثم قرّرت إيران على ما يبدو أن تختبر جدية الولايات المتحدة، عبر القيام بردٍ ثأريٍ يحفظ ماء وجهها أمام جمهورها، فقامت حشود من جمهور ميليشيات إيران في العراق بتحرّكٍ مسرحي أمام السفارة الأميركية في بغداد، في مشهدٍ بدا أن القصد منه هو التذكير بعملية احتلال السفارة الأميركية في طهران عام 1979؛ وإذ بالرد الأميركي القاصم يجيء عبر استهداف موكب الجنرال قاسم سليماني، مهندس هذه وسواها من العمليات الإيرانية، ومن معه، في عمليةٍ استخبارية وعسكرية ضخمة وبالغة التعقيد.

ليس قاسم سليماني، بكل تأكيد، مجرد عضوٍ عاديٍ في سلسلة القيادة العسكرية الإيرانية، أو موظفاً عالي المستوى في إمرة الولي الفقيه؛ ليس مجرد واحدٍ من بين عديدين. فجميع المعلومات المتوافرة عن دوره، والتي يمكن الاستدلال عليها من صعود نجمه في ماكينة البروباغندا الإيرانية ومستتبعاتها «المُمانِعة»، تؤكد على محوريته في إدارة مشروع طهران التوسّعي في المنطقة العربية. وبالإضافة إلى مقدراته العسكرية، ومهاراته التكتيكية في إدارة العمليات التخريبية الموجّهة، وفي تحشيد المقاتلين وتسليحهم وتدريبهم وتوزيع قياداتهم؛ لا بد من الإقرار بعبقرية الرجل الشريرة في إدارة «مَلشَنة» الدول التي تخضع للسلطان الإيراني، بحيث يتم تفريغ هيكل الدولة من كل مضمونه، وتبقى واجهاتها تغطّي، بالكاد، على هيمنة قوى غير نظامية يمسك بتمويلها وإدارتها النظام الإيراني عبر مفتاح الرجل الأهم: قاسم سليماني. كان الرجل موجوداً في الإعلام، وفي المحادثات السرية مع زعماء الدول التابعة في غرف القصور، وعلى الخطوط الأمامية مع مقاتلي الميليشيات، يوجّه ويخطّط ويشرف على التنفيذ. كل هذه العوامل، تجعل من اقتلاعه، وبهذه الطريقة الدراماتيكية، صفعةً موجعةً للنظام الإيراني.

تكاد محاولة توقّع الرد الإيراني، الذي تصاعَدَ الوعيدُ الإعلامي به بأصواتٍ حادةٍ في طهران وضاحية بيروت الجنوبية وصحف وتلفزيونات محور «الممانعة»، تصبح الشغل الشاغل للجميع في المنطقة، سواء أصحاب السلطة والقرار، أو المحللين والمعلّقين، أو الناس العاديين. فثمة خوف من تداعيات ردٍ إيرانيٍ يكاد الجميع يراه محتوماً، وما يمكن أن يتبعه من احتمالات اشتعالٍ كبرى في المنطقة.

وإيران، كما ورد على لسان أحد المعلّقين الفلسطينيين «الممانعين» على قناة العالم الإيرانية ليلة مقتل سليماني، مُلزمةٌ «بالرد الملائم، وإلا انفرط عقد محور الممانعة كلياً». تأتي هذه الكلمات تعبيراً دقيقاً عن أزمة النظام الإيراني الحالية مع تصعيد ترامب المذهل: إما الامتناع عن الرد، أي «الانتحار» سياسياً؛ وإما الرد بأية صورةٍ من الصور والدخول في باب احتمال «الانكسار» أمام القوة الأميركية الطاحنة. الأمر ليس مسألة عدم وجود خيارات لدى إيران، فهي تملك كثيراً من إمكانيات الردود المحتملة: ضربات كبيرة أو صغيرة لأيٍّ من المصالح أو القواعد الأميركية بارزة الحضور في المنطقة العربية؛ أو ضرب شخصيات عربية محسوبة على واشنطن؛ أو تفجيرات في بلدان خليجية ذات وجود شيعي بهدف استحضار إمكانيات عنف طائفي؛ أو عمليات ضد مصالح إسرائيلية أو يهودية في أماكن متعددة من العالم، بهدف استعادة المصداقية «المُمانِعة» وإسكات الأصوات المعترضة على إيران وفق منطق «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». على أن البون شاسعٌ بين وجود الاحتمالات وبين إمكانية تنفيذ أيٍ منها، والأهم، كلفتها في مقابل الفائدة المرتجاة منها في الأصل، ذلك أنّ إيران المحاصرة اقتصادياً، تزداد كذلك عزلةً سياسيةً عمّن يمكنهم دعمها أوروبياً، وحتى عن الروس والصينيين الذين لم يقدّموا أكثر من التصريحات المندِّدة الشاجبة. تكمن مصيبة أيٍ من عمليات الرد الإيرانية، حتى لو تمّت عبر أحد أذرعها «الحليفة» في العراق أو لبنان أو اليمن، في أن الرد الأميركي سيكون على إيران نفسها هذه المرة، وهو سيكون رداً قاسياً للغاية كما تُظهِرُ عملية اصطياد سليماني.

لا نعلم إن كان هناك في إيران من يملك اليوم شرعية الإمام الخميني نفسها، لكي يأخذ القرار الأصعب بـ «تجرّع السمّ»، والقبول بالإملاءات الأميركية بتقليم امتدادات إيران الإقليمية والانكفاء إلى داخل حدودها، على أن الواضح هو أن دائرة الاختيارات تضيق بصورة جديّة، وأن كأس السمّ المترعة تبدو وكأنها على وشك أن تُفرَغَ في حلقوم من يملكون اتّخاذ القرار في طهران.

موقع الجمهورية

——————————-

 «ملتزم، ملهم، مجازف، وجذاب».. معهد واشنطن يكتب عن سليماني الذي لم يعرفه أحد/ مايكل نايتس

في نيسان/أبريل الماضي، عقد معهد واشنطن اجتماعاً مغلقاً حول طاولة مستديرة لمناقشة التأثير المحتمل إذا لم يعد قائد «قوة القدس» التابعة لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني حياً. وناقش المشاركون، الخاضعون لقاعدة «تشاتام هاوس»، الطريقة التي يمكن أن تعمل بها الخلافة في «فيلق القدس» («قوة القدس») وما الذي ستخسره إيران إذا ما أصبح سليماني غير متاح بشكل دائم، وتوصلوا إلى توافق في الآراء حول العديد من القضايا الرئيسية. واليوم، بعد رحيل القائد بالفعل، فقد تساعد استنتاجاتهم صانعي السياسة على اجتياز البحار العاصفة المقبلة، ولو أن بعض جوانب أهميته لا تزال موضع نقاشات حامية.

هل هو شخصية يتعذر الاستعاضة عنها؟

اتفق المشاركون في ورشة العمل على أن سليماني قد أصبح رصيداً استراتيجياً ذا قيمة كبيرة للحكومة الإيرانية التي يهيمن عليها «الحرس الثوري» الإيراني بسبب المزيجة الفريدة لسليماني المؤلفة من ثلاث خصائص:

    قريب من خامنئي. لا يوجد دليل على أن سليماني كان على علاقة وثيقة مع المرشد الأعلى علي خامنئي قبل تعيينه قائداً لـ «قوة القدس» في الفترة 1997-1998. ولكن بمجرد توليه هذا المنصب، سرعان ما بدأ خامنئي ينظر إليه باعتباره قدوة لمثال الجمهورية الإسلامية. وخلافاً للمرؤوسين الآخرين، كان سليماني مطيعاً للمرشد الأعلى وفعالاً إلى حدٍ كبير. وقد أثّر خامنئي على الرؤية المتعنتة التي قدمها سليماني – وتأثر به لاحقاً – والمتمثلة بحركة شيعية مسلحة عابرة للحدود في حالة اندلاع حرب مع أمريكا وإسرائيل والمملكة العربية السعودية.

    مجازف. كان مقتل سليماني أمراً يمكن تفاديه بشكل واضح، إلا أنه قَبِل المخاطرة من خلال التحرّك بالقرب من التجمعات الكبيرة للأصول الجوية والاستخباراتية الأمريكية حول مطار بغداد الدولي، وذلك في الوقت نفسه على وجه التحديد الذي حذر فيه مسؤولون أمريكيون عبر الاتصالات السرية من أنهم قد يقومون بقتله. ومع ذلك، غالباً ما أدّت ميوله السابقة إلى خوض المجازفات، إلى تعزيز المصالح الإقليمية للنظام. على سبيل المثال، كان القوة الدافعة وراء التحركات المبتكرة التالية: نشر قوات عسكرية تقليدية قوية لإنقاذ نظام الأسد في سوريا، واستخدام جحافل شيعية من خارج المنطقة (أفغانستان، باكستان) للهدف نفسه، ومطالبة روسيا بالتدخل في حرب سوريا، وشحن أسلحة متطورة إلى المتمردين الحوثيين في اليمن، ومساعدة «حزب الله» في مشاريع الأنفاق والضربات الدقيقة في لبنان.

    صاحب شخصية ملهمة وجذابة. فضلاً عن جاذبيته كمدير علاقات وصاحب سلطة، كان سليماني محبوب الإعلام، حيث يبدو وكأنه خُلق لعصر شبكات التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت. وكان محبوباً بشكل خاص من قبل المقاتلين (الشيعة) الأفغان الذين دعمهم في سنواته المبكرة، كما بنى قاعدة أتباع قوية بين العرب والباكستانيين (الشيعة).

    ملتزم ومتسق. خلال معظم حياته المهنية كقائد لـ «قوة القدس» – فترة دامت عشرين عاماً – عمل سليماني جاهداً على رعاية علاقاته مع كبار أصحاب المصلحة في مختلف أنحاء أفغانستان والعراق ولبنان وسوريا وغيرها من مناطق الصراع. وكمتحدث باللغة العربية، كان يحظى بالاحترام من الوكلاء المحليين والحلفاء – وكانوا يخشونه في بعض الأحيان.

الأدوار الرئيسية في «قوة القدس»

تولى سليماني قيادة «قوة القدس» بينما كانت في حالة ركود وحوّلها إلى مصدر فعّال لإظهار القوة في أفغانستان، ثم العراق، وأخيراً في سوريا والبحرين واليمن. ومن حيث أسلوب قيادته ومحاور تركيزه، تخصص سليماني في أربعة أدوار رئيسية:

    محور التنسيق. كان سليماني مخولاً لقيادة نهج الحكومة الإيرانية بالكامل في التعامل مع التدخل الإقليمي، وذلك بمساعدة تقاربه مع خامنئي، وديناميته الشخصية، وأقدميته (في تاريخ الترقية) على قادة «الحرس الثوري» الإيراني الآخرين. ونتيجة لذلك، كان بإمكانه سحب قوات من «الحرس الثوري» والجيش التقليدي («أرتش») [وتوجيهها] نحو عمليات مشتركة فعّالة لم يسبق لها مثيل. وكان أيضاً محاوراً رفيع المستوى لإيران مع شركاء عراقيين ولبنانيين وروس وسوريين.

    مكافح عملي. تنقّل سليماني بين بؤر التوتر بكفاءة، وحضر شخصياً وأجرى محادثات رئيسية مع الشركاء حسب الضرورة. وقد عمل في المجالين السياسي والسياسي، حيث زار جبهات القتال بينما كان يتوسط بسهولة في تعيين رؤساء الوزراء العراقيين. وكما لوحظ في ورشة عمل معهد واشنطن، فإن أكثر من شخص عراقي وصفه بأنه «آخر شخص نطلب منه المساعدة، ولكنه أول الواصلين والمنفّذين».

    رمز ظاهر لقوة «الحرس الثوري» الإيراني. قيل للمشاركين في ورشة العمل إن بروز قوة «الحرس الثوري» على مدار سنوات في المنطقة يعتمد على ركيزتين: الصواريخ، وسليماني الذي يُعتبر وجه القدرات الاستطلاعية لـ «قوة القدس».

    وجه «الحرس الثوري» الإيراني في الداخل. كان سليماني الضابط الوحيد الذي يمكنه الظهور بثقة في مواقع الاحتجاج الإيرانية التي تم فيها طرد معظم قادة «الحرس الثوري». ويبدو أن صورته الإيجابية إلى حد معقول جعلته «غير مستهجن»، وبالتالي شكّل جسراً قيّماً بين «الحرس الثوري» وسكان الريف الساخطين.

تراجع في المنحى

في المقال الذي افتتح به مارتن كريمر سلسلة «الخلافة المفاجئة» لمعهد واشنطن، كتب أن العامل الرئيسي في تقييم أهمية أي تحوّل يحصل في الشرق الأوسط يتلخص في تقرير «أين يكون القائد في قوس حياته ومسيرته ورسالته»: هل هو في الوسط أم في النهاية، أم أن الأمور المهمة أصبحت وراءه؟ من الواضح أن تأثير الاستئصال ينخفض في الحالة الأخيرة.

وهنا يصبح موضوع سليماني وقصته أكثر تعقيداً، حيث كانت هناك دلائل تشير إلى أن لمسته الذهبية بدأت في التخلي عنه قبل وفاته. وفي النهاية، ربما يكون قد وقع ضحية لنجاحاته، إلى جانب إيمانه الراسخ بـ «معصوميته» وتكليفه بالمهام بشكل مفرط بسبب فاعليته في الماضي. فبحلول عام 2019، كان مرهقاً بشكل واضح وغير قادر على تفويض العديد من المهام الرئيسية في الخارج، وقد عنى ذلك تعريض نفسه بشكل متكرر لفرص استهدافه من قبل الولايات المتحدة بينما كان يتنقل في جميع أنحاء العراق ولبنان وسوريا.

ووقع أيضاً بعدد من الأخطاء العلنية جداً في السنوات السابقة. فبعضها كان إخفاقات عملياتية، مثل المؤامرة الفاشلة عام 2011 التي كانت ترمي إلى قتل السفير السعودي في واشنطن [عادل الجبير]. وبعضها الآخر كان نجاحات مُكلِّفة جداً، بدءاً من وقوع عدد كبير من الضحايا في صفوف القوات البرية التي نشرها في حلب وصولاً إلى خسارة بعض النفوذ على نظام الأسد بعد دعوة روسيا إلى الدخول في الحرب.

أما المشاريع السياسية لسليماني في العراق فكانت متباينة أيضاً. فقد نجح في ضمان تولي مرشح طيّعٌ [عادل عبد المهدي] رئاسة الوزراء في العراق عام 2018، ولكن فقط بعد فشله في إدراج فالح الفياض إلى هذا المنصب وعدم نجاحه في جلب مرشحه الرئاسي المفضل. والأهم من ذلك، ارتكب خطأً فادحاً في الضغط على الزعماء العراقيين لقمع المتظاهرين الشيعة العراقيين بعنف في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. فقد تعاظم هذا التطاول وتراكمت الأخطاء التي أدت إلى وفاته، بدءاً من مقتل مقاول أمريكي في 27 كانون الأول/ديسمبر مروراً بهجوم على السفارة الأمريكية في بغداد في 31 كانون الأول/ديسمبر، ووصولاً إلى جولته الإقليمية المشؤومة التي زعم أنها تهدف إلى تنظيم هجمات ضدّ أمريكا.

الخاتمة

لم تقف «قوة القدس» مكتوفة الأيدي بينما كان خامنئي يضع رهانه بالكامل على سليماني. فالقائد الجديد للقوة والأقل كاريزمية من سلفه ــ نائب القائد السابق إسماعيل قاآني ــ يَعْرِف عن كثب رؤية سليماني وسيحاول على الأرجح مواصلتها. وبالمثل، يستطيع النواب في كل دولة إعادة ترتيب العلاقات الخارجية إلى حد ما.

ومع ذلك، فإن شيئاً فريداً قد ضاع بموت سليماني. فوحدة القيادة التي تمكّن من تحقيقها قد تتدهور في المستقبل. وقد تصبح العمليات التي يضطلع بها «الحرس الثوري»، و «أرتش»، ووزارة الاستخبارات أقل تنسيقاً، وقد تعود المنافسات إلى الظهور من جديد.

ولعل الأهم من ذلك هو أن «الحرس الثوري» الإيراني سيفقد على الأرجح بعضاً من هيبته التي كانت مستثمرة بشكل مفرط في سليماني. فقد مات الوجه الذي مثّل توسّع «الحرس الثوري» في الشرق الأوسط، وقُتل سليماني في الوقت الذي كان يتنقّل فيه بسرعة في مختلف أنحاء المنطقة في محاولته تصحيح سلسلة متصاعدة من الأخطاء. وبالتزامن مع الاحتجاجات الجماهيرية الأخيرة في العراق ولبنان، وإيران نفسها، يمكن أن يكون موت سليماني بمثابة قوة مُحبِطة للسياسات التوسعية لـ «الحرس الثوري».

ووفقاً لذلك، يجب على صانعي السياسة في الولايات المتحدة أن يسمحوا لواقع اغتياله بالترسخ في مختلف أنحاء المنطقة قبل اتخاذهم المزيد من الإجراءات التي قد تصرف الانتباه عن هذه اللفتة المثيرة. وسواء كان ذلك من خلال العقوبات أو الضربات الحركية، فإن استهداف الشخصيات النخبوية المؤذية يجب أن يكون نموذجاً للتصدّي ضد وكلاء إيران في المستقبل، مع حرص واشنطن على عدم فرض عقوبات جماعية أو بثّ الرعب في نفوس السكان الأبرياء الذين تقوم إيران بقمعهم. ومن حيث العمليات الإعلامية، قد يكون مقتل سليماني نجاحاً ذا أهمية كبيرة ـ إلّا أن ذلك لن يتحقق ما لم تتم متابعته بسياسات أكثر دراسة تُظهر قدرة واشنطن على التوقف، والتأمل في المصالح المشتركة مع الشركاء الأجانب، والانتظار حتى انقشاع الغبار.

——————————

هل تتغير قواعد الاشتباك بين أميركا وإيران؟/ عمار ديوب

بضعة صواريخ أنهت أسطورة إيران، أي قاسم سليماني في العالم العربي. الأسطورة التي تشكلت في ساحات هذا العالم، وأمعنت فيه تخريباً وتطييفاً وتفكيكاً لنسيجه المجتمعي. وحين بدأت الثورات في أواخر عام 2010، كان في الميادين، وقبلاً في حرب تموز 2006 مع قيادة حزب الله. كانت خطورة دوره في سورية بشكل خاص، وكان هو بالذات من استدعى الروس، حالما فشل في إنهاء الثورة، وخوفاً من سقوط نظامٍ تابع لإيران. فاجأته الثورتان في العراق ولبنان، فكان يتنقل بين البلدين ويعدُّ الخطط لسحق الثورتين، بينما أصبحت سورية من نصيب الروس، والدور الإيراني خفت بعد الإجهاز على الفصائل الوطنية، وتحويل ما تبقى منها إلى إسلامية أو جهادية، ومحصورة في مناطق بعينها في سورية. تلك المفاجأة، استعد لها، ووفقاً لخصوصية كل بلد، فما يصحُّ في لبنان لا يصحُّ في العراق؛ ففي لبنان هناك حزب الله وله قيادات قوية، وقادرة على المواجهة، بينما العراق هو المشكلة، فإيران بحدودٍ كبيرة مع العراق الذي يعد أيضا منفذاً لها على العالم، وسوقاً لبضائعها، وفيه ثورة رافضة للوجود الإيراني. وكانت مشكلة إيران منذ عام 2003 مع عدم مغادرة الأميركان له نهائياً.

المصائب التي ابتلي بها العراق منذ 2003 لم تمنعه، وربما بسببها، خرجت ثورة قوية المراس، وتتجذّر يومياً، ووطنية في خطابها وممارساتها، وسلمية في أدوات نضالها، ولسان حال إيران وقاسمها يقول: لماذا لا تتسلّح، ولماذا لا ينصرها السنة؛ ثورة لها هذه الصفات مشكلة حقيقية. ولهذا كان لا بد من تحطيمها، وإشعال بعض المناوشات الحربية هو أفضل الخيارات. ولهذا أوعز سليماني للمليشيات غير المنضوية في الحشد الشعبي، وهذا مليشيات بدوره، ولكن قاسم استطاع إلحاقه بالجيش العراقي، وبقيت تبعيته لإيران، الأمر الذي أضعف الجيش والنظام السياسي العراقي، الضعيف أصلاً. إذاً خطة الخلاص من الثورة بإشعال المناوشات. واعتقدت القيادة الإيرانية، وضمنها قاسم سليماني، أن الولايات المتحدة التي لم تردّ على إسقاط طائرة لها في الصيف الماضي في الخليج، وكذلك لم تردّ على تفجير جزئي لشركة أرامكو اتُهِمت إيران به، وبالتالي سنضغط عليها في العراق، وبذلك نتخلص من الثورة ومن الوجود الأميركي؛ الوهم الإيراني هذا، ربما دفع إيران لتتمادى، وبالتالي، بدأت مليشيات تابعة لها بقصف مواقع عسكرية أميركية، ومهاجمة السفارة الأميركية، ولكن ذلك قاد إلى ما هو غير متوقع، وقُتل قاسم سليماني، ومعه نائب رئيس “الحشد الشعبي”، أبو مهدي المهندس، وآخرون. وبذلك انتهت الأسطورة والشبح الذي كان يتنقل بين الدول العربية، ويُصدر تعليماته، ويقود المعارك، وكأنّ له قدرات فوق بشرية.

فتح مقتله باباً كبيراً للتحليل السياسي، فقد سُجّل بوصفه أهم حدث في بداية العام الجديد 2020، وهناك من رآه سيُغير من قواعد الاشتباك، وسينهي ثورتي العراق ولبنان

“انتهت الأسطورة والشبح الذي كان يتنقل بين الدول العربية، ويُصدر تعليماته، ويقود المعارك، وكأنّ له قدرات فوق بشرية”

والاحتجاجات الإيرانية التي تنبعث مراراً؛ كانت أميركا وإيران تتعاونان في أكثر من بلد، وتختلفان في قضايا كثيرة، لا سيما في موضوع الاتفاق النووي والوضع في العراق وقضايا كثيرة، ولكن خطورة الوضع في العراق، ورغبة إيران في فرض سيطرة كاملة على هذا البلد، والتخلّص من الثورة، هو ما فجّر الموقف بين البلدين بشكل أكثر حدّة؛ والإعلام بدوره يمتلئ بسؤالٍ كبير، ويتمحور على الرد الإيراني المحتمل.

أولاً، هدّدت المليشيات غير المنضوية في الحشد، والتي كان أبو مهدي المهندس لاعباً أساسياً في تأسيسها، بالردِّ، وستضرب القواعد العسكرية الأميركية، وثانياً إجراء تشييع لقاسم سليماني في الكاظمية والنجف وكربلاء، تعبيرا عن التبعية لإيران. وإلى ذلك، هناك تصعيد كلامي كبير من المليشيات التابعة لإيران في لبنان واليمن، ورفضَ النظام السوري ذلك القتل. ويطلق قادة إيران تصريحات كثيرة، ولكن شخصيةً كقاسم سليماني، المعتبرة ثاني شخصية في هذا البلد، تحاصر إيران وتجبرها على الرد، والتخفيف من تعارض التصريحات. الردُّ هذا تكثر التكهنات بصدده، وتميل أغلبها إلى أنّه لن يكون عبر إيران مباشرة، ولا من خلال سورية أو لبنان، وأن العراق هو الملعب، حيث النظام ضعيف، والقتل تمّ فيه، وباليد مليشيات جاهزة لتنفيذ الأوامر الإيرانية مباشرة. وبالتالي، أغلب الظن أن الرد الإيراني سيظل بالوكالة، كما هي الصراعات بين إيران وأميركا قبل موت سليماني. هذا يعني أن إيران، ولأسباب كثيرة، لن تتقدّم خطوة واحدة عما كان من قبل، ذلك أن أي تقدّم سيجعلها عرضةً لتصعيد أميركي وإسرائيلي وعربي كبير، إذاً لا خيارات إيرانية أكثر مما كان.

هل هذا يعني أن في مقدور إيران أن تُبقي سياساتها في المنطقة كما هي؟ هذا سؤال مركزي، وطبعاً ليست الإشارة هنا إلى تأثير شطب دور سليماني، باعتباره كان “مندوباً سامياً” ومهندساً لخطط إيران في عالمنا العربي، حيث لدى إيران سياسات مركزية في إدارة مخططاتها في العالم، ولكن هذا لا يجعلنا نهمّش دور شخصية محورية في داخل إيران وخارجها. إذاً ستتأثر إيران بالتأكيد بمقتله، داخلياً وإقليمياً. إيران التي زعمت أنها تسيطر على أربع دول عربية تواجه رفضاً لها في الدول الأربع؛ فهناك ثورات في لبنان والعراق، وهناك تهميش لها في سورية، واليمن لن يكون من نصيبها. وبالتالي إيران مضطرّة إلى التفكير مليّاً في سياساتها الفاشلة، وما فعلته أميركا، قد تكرّره في أكثر من دولة عربية، وأي خطأ ضد الوجود الأميركي حالياً سيُفهم أنه إيراني المصدر. ضمن ذلك، هناك خطوط حمر أميركية جديدة، والقضية ليست محصورة في لعبة الانتخابات الأميركية والتجديد لترامب فقط، فهناك ضرورة تخفيف الحضور الإيراني في العراق وفي لبنان. ولنلاحظ إرسال أميركا جنودا إضافيين إلى المنطقة، وارتباكات الأنظمة السياسية في هذين البلدين. وبالتالي، تلعب أميركا على المكشوف، وإيران ليست في حالةٍ تسمح لها بأكثر من إطلاق بضعة صواريخ “تافهة”، وأكثر من ذلك قد تكون له نتائج كارثية على النظام الإيراني ذاته.

أية قراءة للعلاقة بين إيران وأميركا حالياً تؤكد خطأ التصعيد الإيراني، إذ سيؤثر ذلك على النظام ذاته، ولن تكون القضية مقتل قادة إضافيين، كما تمّ مع سليماني ورفاقه. وللأسباب أعلاه، لن يكون هناك تصعيد كبير، ولن يكون هناك تغيير كبير في قواعد الاشتباك، ولكن إيران ستكون أضعف بغياب قاسم سليماني، وكذلك كل مليشياتها، والسؤال دائماً: هل تعي إيران فشل سياساتها الإقليمية والداخلية؟ هذا بالضبط ما يفترض التفكير فيه وفقط.

——————————

نهاية “نظرية” وبداية أخرى/ محمد أبو رمان

أيّاً كان ردّ الفعل الإيراني، على المدى القريب أو البعيد، فإنّ ما قام به الرئيس الأميركي، دونالد ترامب (بقتله قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، وهو مفتاح النفوذ الإيراني في المنطقة) أنه أنهى حقبة كاملة، امتدت قرابة عقدين من معادلةٍ نجحت إيران فيها بفرض شروطها، واقعياً، على صيغة العلاقة مع الولايات المتحدة، ما انعكس على صعود النفوذ الإيراني في المنطقة، أو ما أطلق عليه فالي نصر “صحوة الشيعة”.

بدأت هذه الحقبة مع أحداث “11 سبتمبر” في العام 2001، والمراجعات الأميركية الحادّة لأسبابها، وكانت النتيجة لدى نخبة معتبرة من المنظّرين الأميركيين ومراكز التفكير أنّ المشكلة الحقيقية هي في الصفقة التاريخية بين الإدارات الأميركية والأنظمة السلطوية العربية، مقايضة المصالح الأميركية بتجاهل الديمقراطية، ما أدّى إلى فشل ذريع سياسي وتنموي واقتصادي عربي، وفرّخ بدوره القاعدة والإرهاب وأحداث “11 سبتمبر” التي كانت صدمتها بغلبة السعوديين على المنفّذين مدعاةً إلى تسليط الضوء على السعودية، وتحميلها مسؤولية الوهابية والسلفية وتصديرهما إلى العالم، وتحوّلت المملكة، بين ليلة وضحاها، من حليف وصديق قريب، لدى الباحثين والمنظّرين، إلى مصدر الإرهاب ومصدّره! بالضرورة، لم تتبنّ الإدارات الأميركية هذه الوصفة علناً، ولا مباشرةً، فثمّة مصالح عميقة مرتبطة بالسعودية، لكنها استدخلت هذه النتائج في إعادة تقييم العلاقة مع السعودية.

على الجهة المقابلة، ومن رحم الأحداث نفسها، وُلدت النظرية الجديدة تجاه إيران بدفعٍ من لوبي، بعضه ذو أصول إيرانية، في مراكز التفكير والبحث والجامعات الأميركية، وهي أنّه على الرغم من العداء الاستراتيجي والصراع بين أميركا وإيران، فإنّ “الأقلية الشيعية” والسلوك الإيراني يمكن احتواؤهما والتنسيق معهما، فإنه لا يشكّل خطراً حقيقياً، وليس مثلما هي حال “الأغلبية السنّية” التي تحمل “جرثومة” معادية للولايات المتحدة والغرب. وبُنيت على هذه النظرية استنتاجات كثيرة، منها، على سبيل المثال، أنّ إيران هي دولة واحدة ذات نفوذ في المنطقة، يمكن التعامل معها بمنطق “الصفقة”، فتقوم بضبط إيقاع كل القوى التابعة لها، بينما القوى السّنية مشتّتة متحاربة، والجماعات الإرهابية عابرة للدول.

عزّز احتلال العراق والصمت الإيراني، مع الحلفاء الشيعة في العراق، نظرية التحالف الأميركي- الإيراني، وكسب الطرفان. الأميركيون مرّروا مشروعهم في العراق، وأسقطوا النظام بدعم إيراني وداخلي غير معلن، والإيرانيون والشيعة سيطروا على العراق، وكانت الصفقة الأميركية معهم تقوم على مقايضة الوجود الأميركي بالهيمنة الشيعية، من دون أيّ نظرٍ حقيقي في الأزمة السّنية (التي أدت إلى صعود تنظيم داعش في العراق ثم المنطقة) أو التحوّل الديمقراطي الحقيقي. وعملياً تُركت الساحة لإيران مفتوحة.

عزّزت الحرب على الإرهاب، بداية من العام 2015، التفاهمات الضمنية، غير الرسمية،

“إيران دولة واحدة ذات نفوذ في المنطقة، يمكن التعامل معها بمنطق “الصفقة”، فتقوم بضبط إيقاع كل القوى التابعة لها”

الأميركية – الإيرانية، وفي العراق تحديداً حدثت مفارقة مدهشة، فبينما كانت قوات الحشد المدعومة من إيران، وبقيادةٍ غير رسميةٍ من قاسم سليماني تخوض معارك الموصل (2016 – 2017)، بمساندةٍ فاعلةٍ وحاسمةٍ من سلاح الجو الأميركي، على الرغم من أنّ بعض هذه الفصائل كان مصنّفاً ضمن الجماعات الإرهابية في القوائم الأميركية.

أراد الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أن يقنّن النظرية الجديدة تجاه إيران، والتحالفات الواقعية من خلال مفاوضاته مع إيران، وإبرام الاتفاق النووي الذي شمل الدول الكبرى الأخرى (2015)، الذي كان من الممكن أن يُعيد صياغة المنطقة بصورة كاملة، وتكرّس إيران قوّة إقليمية معترفا بها، حتى أنّ دولا أوروبية حينها كانت تتسابق على إقامة جسور وقنواتٍ خلفيةٍ مع إيران، لتحقيق مصالحها الاقتصادية. وأذكر أنّني كنتُ أسمع إطراءً شديداً من مسؤولين أوروبيين على سليماني، بوصفه قائداً أسطورياً إيرانياً، ومحارباً قوياً ضد “داعش”!

بدأ خط البيان العكسي مع وصول الرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، معيداً السياسة الأميركية إلى “الصفقة التقليدية” (التحالف مع الأنظمة العربية ومعاداة إيران). على الرغم من ذلك، لم ينعكس هذا الخطاب العدائي الشديد واقعياً، حتى في الاختبارات الكبيرة التي قامت بها إيران للسياسة الأميركية في العراق وسورية وفي الخليج (خصوصا غارة الدرونز على مواقع شركة أرامكو)، والاستمرار في سياسة بناء النفوذ الإيراني استمرت بصورة قوية، وكان هنالك تقدير إيراني بالتفوق والقوة وتقليل من شأن ردود الفعل الأميركية في المنطقة.

بالنتيجة، تتجاوز الضربات الصاروخية الأميركية، ومقتل سليماني ومعه قائد حزب الله العراقي، أبو مهدي المهندس، مجرّد ردّ فعل لإعادة صياغة الردع الأميركي، ورسالة أنّ هنالك قواعد جديدة يريد العمّ سامّ تكريسها في المنطقة، فالصواريخ الأميركية مزّقت أيضاً تلك النظرية التي كانت تتحدث عن تحالف استراتيجي أميركي – إيراني في المنطقة.

الآن، أوفى ترامب بجزء من وعوده لحلفائه العرب، ووضعهم أمام البدء بتنفيذ النظرية الأخرى التي يقف وراءها اللوبي الصهيوني، وتدفع نحو صفقة القرن، أو ما يسمى “السلام الإقليمي” الذي يقوم على تحالف أميركي – إسرائيلي – عربي في مواجهة النفوذ الإيراني. ومع التطوّرات الجديدة، يمكن القول التفاهمات “الإيرانية – التركية – الروسية”، التي أرادت استثمار التراجع الأميركي لملء الفراغ.

صحيحٌ أنّ رسالة الضربات الأميركية بالدرجة الأولى هي إعادة صياغة الردع الأميركي، ردّاً على مقتل المتعهد الأميركي في قاعدة في العراق، ثم اقتحام السفارة الأميركية، لكن الأفعال وردود الأفعال التي ستترتب على مقتل سليماني ستقود إلى إعادة تصميم التحالفات وقواعد اللعبة في المنطقة بصورة جوهرية من جديد.

العربي الجديد

—————————–

سيناريوهات ما بعد اغتيال سليماني/ محمد عايش

مشهدان من المؤكد أنهما لم يخطرا على بال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عندما اتخذ قراره باغتيال قائد «فيلق القدس» الحاج قاسم سليماني، ولو أنه استحضر هذين المشهدين لربما أعاد النظر في قراره، أو على الأقل فكّر ملياً قبل أن يصدر أمراً باغتيال رجل بحجم رئيس دولة، بل هو أهم من العديد من رؤساء الدول في العالم.

– المشهد الأول: بيروت في 23 أكتوبر/تشرين الأول 1983: شاحنتان مفخختان يقودهما انتحاريان تقتحمان مقر القوة متعددة الجنسيات في لبنان، وهو ما أدى إلى مقتل 241 جندياً من قوات «المارينز»، كما أصيب 128 آخرون توفي 13 منهم في وقت لاحق. كان ذلك الهجوم هو الأكبر الذي يستهدف الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، وكان الرد الأمريكي هو قرار فوري وسريع من الرئيس رونالد ريغان بسحب كافة القوات الأمريكية من لبنان.

– المشهد الثاني: مقديشو في عام 1994: أمر الجنرال محمد فرح عيديد مقاتليه بربط اثنين من الجنود الأمريكيين القتلى وهم عراة بسيارة طافت بهما شوارع العاصمة الصومالية على مرآى ومسمع من كاميرات الصحافيين، فأحدث ضجيجاً لدى الرأي العام الأمريكي، لم يحتمله الرئيس بيل كلينتون فأصدر الأوامر لقواته البالغ تعدادها 30 ألفاً بالانسحاب فوراً من الصومال.

ثمة دلالة واحدة في المشهدين لكنها مهمة، وهي أن القوى الكبرى لا معنى لها في حروب العصابات، والأسلحة الفتاكة لا تعني شيئاً في حروب الشوارع والمواجهات مع الميليشيات، والمعادلات في الحروب التقليدية تختلف تماماً عنها في حروب العصابات ومواجهات الشوارع، وهنا فإن القوى الكبرى تفقد هيبتها. بالمنطق ذاته والمعادلة ذاتها لم تنجح إسرائيل في حربها ضد حزب الله التي استمرت 33 يوماً في عام 2006، وكذا فشلت في إخضاع وهزيمة حركة حماس، عبر ثلاث حروب متتالية، والسر في ذلك ببساطة أنها ليست حروباً نظامية ولا تقليدية، ولا هي مواجهة بين جيشين متقابلين.

باغتيال سليماني دخلت الولايات المتحدة في مواجهة مع إيران، وأغلب الظن أن هذه المواجهة لن تتحول الى حرب تقليدية شاملة، إذ أن أغلب الأطراف بما فيها طهران لا ترغب بحرب شاملة ومدمرة، وربما لا يستطيع الايرانيون أيضاً في ظل ظرفهم السياسي والاقتصادي الراهن خوض الحرب الشاملة، لكن إيران تمتلك قوة من نوع آخر يمكن أن تشكل خطراً حقيقياً على الولايات المتحدة، وعلى وجودها في المنطقة، وهي المجموعات المسلحة والميليشيات الموالية لها. تصريحات المسؤولين الايرانيين كانت واضحة خلال الأيام الماضية بأن الانتقام سيكون على عاتق «محور المقاومة» بكل أركانه، ولن يكون منوطاً بالإيرانيين وحدهم، وهو ما يعني أن الحرس الثوري أعطى الضوء الأخضر لكل الموالين له، بأن يفعلوا ما بوسعهم للانتقام، الأمر الذي قد يوجع الأمريكيين، من دون أن يدفع إلى الانزلاق نحو الحرب المباشرة والشاملة.

في الحروب التي تخوضها المجموعات المسلحة والميليشيات، تواجه الدول ما يُشبه «الشبح»، وقد تتعرض لهجمات موجعة، من دون أن تعرف مصدرها، وهو المتوقع أن تواجهه الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة من المواجهة مع الإيرانيين، وعليه فإنه سيصبح من المؤكد أن اغتيال الحاج سليماني، كان قراراً خاطئاً وخاسراً بالنسبة لواشنطن، إذ أن مواطنيها ومصالحها أصبحوا أكثر عرضة للخطر مما لو ظل الرجل على قيد الحياة.

كل الاحتمالات اليوم واردة ومنطقة الخليج والشرق الأوسط تنام على صفيح ساخن، خاصة أنَّ حلفاء إيران ينتشرون على امتداد أربع دول عربية، بينما الولايات المتحدة ومصالحها وحلفائها بالقرب منهم وفي كل الاتجاهات، وعليه فالمواجهات المحدودة واردة والحرب الشاملة واردة أيضاً، ولا يعلم أحد الى أي قاع ستنزلق هذه المنطقة.

كاتب فلسطيني

القدس العربي

——————-

أيهما الأهم وحدة العراق أم اغتيال سليماني؟/ أمير المفرجي

يبدو أن تداعيات الصراع بين واشنطن وطهران في العراق، بعد عملية استهداف موكب الجنرال قاسم سليماني، التابع للحرس الثوري الإيراني قرب مطار بغداد الدولي، والسياقات السياسية والإعلامية التي دخلت على خطوط المواجهة العسكرية بين هاتين القوتين الاستعماريتين، اللتين تحتلان العراق، اكتسبت أبعادا خطيرة على مستقبل العراق، المغلوب على أمره، الذي يمكن اعتباره بالمفهوم اللغوي والديني على حد سواء، الضحية التي يراد تقديمها لدونالد ترامب، وعلي خامنئي ككبش فداء، ردا على عملية مقتل سليماني، واقتحام المليشيات الإيرانية لمقر السفارة الأمريكية في بغداد.

في الوقت الذي تستمر فيه انتفاضة الآلاف من العراقيين، وصوتهم الوطني الرافض جعل العراق ساحة لتصفية الحسابات لأمور ليس للعراقيين فيها ناقة ولا جمل. وبغياب واضح للتصريحات الرسمية، المنقسمة بين هذا الطرف أو ذاك، التي قد تفسح المجال وتفتح الأبواب على مصراعيها لإعادة انتشار وتموضع المليشيات الموالية لإيران.

من يفهم استراتيجية إيران، الهادفة إلى احتلال العراق، والمجيء برئيس حكومة عراقية موال لها، يفهم الأسباب التي دفعت بالجنرال الإيراني قاسم سليماني، لجعل العراق ساحة للمليشيات، وتحويله ساحة للصراعات الإقليمية والنزاعات الطائفية بين العراقيين أنفسهم. ومن يفهم أسباب تواجد الجنرال الإيراني قاسم سليماني المستمر، على الرغم من القضاء على «تنظيم الدولة»، يرى جيدا مدى حجم إصراره على التدخل في عملية تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، وإلزامها برفض العقوبات الأمريكية على إيران، وإبقاء المصارف العراقية والأسواق العراقية في خدمة المصالح الإيرانية، وعلى حساب مصلحة العراقيين وحقوقهم في التمتع بثرواتهم الطبيعية. ومن يفهم أسباب إصرار الجنرال الإيراني على اختيار الحكومة العراقية، التي رفضها العراقيون في ساحة التحرير في بغداد ومدن العراق، يفهم ويرى بوضوح من هو المسؤول عن العنف، الذي أدى إلى مقتل أكثر من 408 من المتظاهرين العزل من المحتجين على تدخل إيران في أمور البلاد، وفق إحصاء أوردته وكالة رويترز. في الوقت الذي يعيش العراق، منذ الأول من أكتوبر/تشرين الأول، أكبر تحدٍّ على الإطلاق، على وقع انطلاق الاحتجاجات الحاشدة في بغداد وجنوب البلاد، المطالبة بطرد الأحزاب التابعة لإيران، ورفض التبعية والفساد، وتحسين الأوضاع المعيشية، ومحاسبة قاسم سليماني المسؤول عن تدبير قمع المظاهرات، التي شهدها العديد من المدن العراقية في الشهور الماضية.

لا شك في أن عملية اغتيال الجنرال الإيراني في العراق، تدخل ضمن السياق العسكري الاستعماري الذي اختارته الولايات المتحدة في سياستها، التي بدأت في 2003 في احتلالها للعراق، وإسقاطها لنظام صدام حسين. ولا شك أيضا في أن أهمية عملية اغتيال الجنرال الإيراني تدخل بدورها ضمن هذا السياق نفسه، إذا ما أخدنا بعين الاعتبار طبيعة المهمة الملقاة على عاتق قائد فيلق الحرس الإيراني، والمتمثلة في بسط نفوذ إيران الاستعماري، من خلال مشروعها الديني الفارسي المغطى بعباءة الدين السياسي الطائفي. قد لا يفهم البعض من العراقيين المضللين، أن صراع إيران على أرض العراق، الذي ترجمته عملية اغتيال المسؤول العسكري، هو نهاية للمشروع الفارسي، الهادف إلى احتلال العراق، الذي مازال يرتبط بأحلام مشروع إعادة الإمبراطورية الفارسية، التي ماتت بموت سليماني، ولم تمت بعد في عقول القادة الإيرانيين. من هنا ترجمت مشاهد التشييع من قبل البعض للقائد العسكري الإيراني في العراق، الذي لطخت يداه بدماء العراقيين في بغداد والناصرية والنجف، ومُنفذ مشروع إيران في العراق، عن مدى غياب الحس الوطني لأحزاب الدين السياسي، وحقيقة تبعيتها للمشروع الإيراني. وهنا لابد من التأكيد على أن لإيران الأولوية الأخلاقية والقومية في تشييع أبطالها، فعلى الرغم من كونه قائدا لمشروع الولي الفقيه علي خامنئي، لم يكن أكثر من جندي وقائد مستعمر لبلاد الرافدين في نظر العراقيين.

يبقى السؤال هو، أيهما الأهم بالنسبة للعراقيين: تداعيات اغتيال قاسم سليماني المدافع عن الإمبراطورية الإيرانية؟ أم مستقبل العراق بشيعته وسنته وكرده الذي ورثته الأجيال، ومحاولة إيران وأمريكا سرقته في عز النهار؟

كاتب عراقي

القدس العربي

————————–

مقتل سليماني: صيدٌ نادر ولكن بأي ثمن؟/ مثنى عبد الله

فجر الجمعة الثالث من الشهر الجاري، وصل مطار بغداد الدولي الجنرال قاسم سليماني، زعيم فيلق القدس الإيراني، قادما من دمشق. حال خروجه من المطار باتجاه العاصمة العراقية/ أستهدفت طائرة أمريكية مُسيّرة، عجلتين مدنيتين كانت إحداهما تقله وعددا من مساعديه ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقية.

ويبدو أنه قدم على عجل من دمشق، بعد قصف الميليشيات العراقية المرتبطة به قاعدة أمريكية شمال بغداد، قُتل فيها متعاقد مدني أمريكي. وردّت القوات الأمريكية على الحادث بقتل أكثر من 25 عنصرا من ذلك الفصيل. تبع هذا التطور الدراماتيكي، قيام حشود من الميليشيات بالتجمهر أمام السفارة الأمريكية في بغداد، فحرقوا قاعة الاستقبال فيها، وحطموا الأبواب والنوافذ. ويبدو أن حدود الرد والرد المقابل سوف تبقى نهاياتها مفتوحة إلى حين.. لكن أين؟ ومتى؟ وما طبيعة فعل الرد الإيراني المقبل؟

التحرك الإيراني المقابل سيكون حتما بمستوى وقيمة الشخصية التي تم استهدافها. فالرجل هو الشخصية الثانية في النظام الإيراني بعد المرشد الأعلى، ومقرب منه الى درجة كبيرة. كان صانع قوس النيران الممتد من طهران فبغداد إلى دمشق ثم بيروت، ومهندس نزاعات طهران في الشرق الأوسط. وأينما كان النشاط الإيراني موجودا، نرى قاسم سليماني موجودا فيه، وكل الحروب بالوكالة في جميع أنحاء الشرق الأوسط كان سليماني وراءها. وعندما تكون الخسارة بهذه القيمة الاستراتيجية، يصبح الانتقام أو الثأر مضاعفا في كل الأحوال، لذلك كان المرشد الأعلى، لأول مرة، يرأس اجتماعا لمجلس الأمن القومي الإيراني، دلالة على أهمية الحدث.

في الثقافة الشرق الأوسطية القادر على الرد يخيف الآخرين، ومن لا يرد تسقط هيبته. صانع القرار السياسي والعسكري الإيراني، يفضل النمط الحالي من حروب الشرق الأوسط، الحرب غير التماثلية، التي تعتمد بشكل أساس على الاغتيالات والمفخخات والحروب عبر الوكلاء والأذرع، وليست الحرب التماثلية بمعنى الاشتباك بين الجيوش. وربما هو محظوظ في هذا الجانب، لأن الخريطة التي أمامه فيها نخبة من الأهداف الأمريكية ذات الأهمية العالية. ولأن هنالك إعلانا متعمدا من قبل الأمريكيين عن قيامهم بقتل قاسم سليماني، ولكونه شخصية رسمية مسؤولة في النظام، وليس زعيما لمنظمة إرهابية لادولتية، فإن الرد سيكون مباشرا من قبل طهران، وستعترف به أيضا، ومن المؤكد ستكون للأذرع الأخرى في المنطقة وخارج المنطقة أدوار أخرى ساندة للرد المركزي، حيث قال المرشد الأعلى والرئيس روحاني بأن الجميع سينتقمون لمقتل سليماني.

في البُعد البحري، قد يكون الرد الإيراني تعطيل حركة الشحن الدولي في مضيق هرمز، من خلال مهاجمة ناقلات النفط والسفن التجارية، وبذلك تكون هذه ضربة كبيرة للاقتصاد العالمي، حيث يمر من هذا المضيق حوالي 22.5 مليون برميل نفط يوميا. وفي الجانب البري هنالك إحدى عشرة قاعدة أمريكية في العراق، والعديد من القواعد الأخرى المنتشرة في المنطقة، يضاف إليها التواجد العسكري الأمريكي في سوريا. ربما سيكون هنالك استهداف للبعثات الدبلوماسية والشركات والمواطنين الأمريكيين. وقد تتحرك بعض الخلايا النائمة التابعة لحزب الله اللبناني على وجه الخصوص، في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وبلدان أخرى، للقيام بتفجيرات ضد الأصول الامريكية، حيث تبين أن لهذا الحزب نشاطات مشبوهة في العديد من بلدان أوروبا، ما دفع هذه الاخيرة للقيام بحملة لتقييد ومنع ممارسة نشاطاته على أراضيها، إضافة الى دخول الحرب السبرانية على خط الرد أيضا، لتعطيل مصادر الطاقة والمياه وشبكات النقل في البلدان المستهدفة، فلطهران إمكانية واسعة في هذا المجال. كما لا يمكن إغفال الرد في الحقل الدبلوماسي، حيث ستستفيد إيران من حالة الاستياء والتململ الدبلوماسي في أوروبا والصين وروسيا، من الخطوة الأمريكية، التي بدلت قواعد الاشتباك. فهذه الدول تدعي بأن النظام العالمي القائم على قواعد اشتباك حربي متفق عليها، قد تضرر بسبب المنطق الأمريكي الجديد، الذي اعتمد الاغتيال السياسي.

ومع كل هذه الاحتمالات الممكنة وغير الممكنة، تبقى مسارات الرد الإيراني بعد خط الشروع غير تلك التي ستكون في لحظة الانطلاقة الاولى. فوسائل وطبيعة الانتقام الايراني في المرحلة التالية ستتغير تبعا للرد الامريكي على تحركهم الثأري. فالرئيس الامريكي كان واضحا في القول دماء مواطنينا مقابل دماء مواطنيكم، لذلك يمكن أن يكون هنالك استهداف إيراني للجنود الامريكان، لكنه سيكون بالطريقة التي لا تجرهم الى حرب واسعة ومباشرة. فخامنئي حريص على الانتقام، لكنه في الوقت نفسه أكثر حرصا على ديمومة واستمرارية النظام القائم. وهي معادلة صعبة جدا، كي يكون الرد بحجم الخسارة، مع أن تكون الحسابات قائمة على عدم الانجرار الى حرب كبرى. طهران تعلم جيدا أنها مهما امتلكت من قوة ومن رباط الخيل، لن تكون بمستوى ما تملكه واشنطن، وأن التصعيد من جانبها سيكون عندما تضرب مصالح أمريكية من داخل أراضيها. هنا ستختلف قواعد الاشتباك كثيرا، أعلن البيت الأبيض أن هنالك 52 هدفا منتخبا سيتم ضربها داخل إيران. كما أن رفع الجهوزية العسكرية الامريكية مؤخرا يضع الرد الايراني في خانة الأقل ضررا. وهنا سوف يجعل صانع القرار في طهران، ربما يجنح الى التصعيد من خلال الأدوات في المرحلة الثانية، فينتقل الرد الإيراني من مستوى استهداف القواعد الأمريكية والسفارات، الى مستوى استهداف المصالح والأشخاص الذين لهم علاقة بالجهد الامريكي في المنطقة.

إن حادثة قتل قاسم سليماني كانت عملية استخباراتية وعسكرية ناجحة تماما من حيث تحقيق الهدف المتوخى منها، هي تفوق بكثير من حيث الأهمية الاستراتيجية والآثار المترتبة عليها أيضا عمليات أخرى، مثل مقتل زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، وزعيم «تنظيم الدولة» أبو بكر البغدادي وكل القيادات الأخرى، الذين قتلوا على أيدي الجهد الاستخباراتي والعسكري الأمريكي في السنوات والأشهر الماضية. وكما أنها تعد تصعيدا دراماتيكيا لموقف خطير هو موجود أصلا في الشرق الاوسط، ما يدفع باتجاه إثارة مضاعفة للعنف من الخليج حتى شواطئ البحر المتوسط، وهي في الوقت نفسه تسلط حزمة ضوء كبيرة، على الدور الذي لعبته مصادر المعلومات العراقية، في تسهيل قتل هذه الشخصية. فمن هو بمستوى قاسم سليماني كشخصية استراتيجية مهمة، يفترض أن يكون على مستوى عال من التحصين والحماية، لذا يبدو أن هنالك خرقا كبيرا قد حصل، على الرغم من أن الإيرانيين قالوا إنه كان يتحرك بدون حمايات وبشكل علني. هذا القول يخالف الواقع تماما وهي مداراة لفشل استخباراتي كبير.

إن حوادث الاغتيال المعروفة عبر التاريخ أشعلت غالبيتها حروبا واسعة وكبيرة. وأن موضوع الانتقام والثأر في الشرق الاوسط خاصة، حالة معقدة ولها القابلية على البقاء في حالة تفاعل لفترات طويلة، من دون أن تمحى من الذاكرة. لانها ترتبط بمعاني كثيرة تتشكل منها الشخصية الذاتية والمعنوية للشعوب والدول في هذه المنطقة.

كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية

القدس العربي

—————————–

إيران وحزب الله وأضعف الإيمان/ علي الأمين

تفادى الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله توجيه أي رسالة تهديد غير اعتيادية لـ”الشيطان الأكبر” كرد على عملية اغتيال قاسم سليماني. ففي الخطاب الذي ألقاه في احتفال أعدّ للمناسبة، بقي نصرالله ضمن الحدود التي اعتاد اعتمادها في خطابه قبل حدث الاغتيال الذي شهدته بغداد فجر الجمعة، وإذ كان أشار إلى تهديد مباشر للجيش الأميركي، فهو إلى كونه تهديدا تقليديا لمن يصفه بجيش عدو، أحال إلى القيادة الإيرانية عملية الرد على اغتيال سليماني.

وفيما تفادى توجيه أي تهديد يمكن أن يُسجّلَ في خانة الموقف المستجد له من الناحية الأمنية أو العسكرية تجاه أميركا أو إسرائيل، أعفى القيادة الإيرانية وعلى رأسها الولي الفقيه وقائد المحور الذي ينتسب له نصرالله، من أي مسؤولية تجاه أي عملية قد يقوم بها أحد أطراف المحور، مشيرا إلى أن إيران تركت لهم حرية تقدير الموقف دون أن تطلب أو تفرض عليهم القيام برد.

الخطاب الذي ألقاه نصرالله، رغم محاولات تحميله من مؤيديه أو بعض خصومه أبعادا إستراتيجية تجاه واشنطن، إلا أن واقع الحال يقول إن نصرالله الذي أجّل كلمة كان سُرِّب للإعلام من قبل حزبه بأنه سيلقيها يوم الجمعة، أي غداة اغتيال سليماني، إلى يومين أي الأحد الماضي، كشف أنه لم يكن لديه ما يقوله أو يفعله كرد يترقبه أنصاره على هذه العملية.

غير أن تفادي نصرالله القيام بأي رد أو خطوة عسكرية ضد ما اعتبره جريمة أميركية، عُوّضَ عن ذلك بالقول إن حذاء سليماني أهم من رأس الرئيس الأميركي وكل المسؤولين الأميركيين، وبذلك أشبع إلى حدّ ما غريزة الانتقام ولو لفظيا. ما يمكن أن يُشار إليه بعد هدوء نصرالله تجاه الرد العسكري، أنه كان يدرك أن المواجهة التي اختارها الأميركيون هي في العراق، وشدد على ذلك في تفسير معنى المكان الذي جرى فيه الاغتيال، لذا كان يطالب الحكومة العراقية والبرلمان بالرد على الاغتيال بإعلان البراءة من الوجود الأميركي وهو ما سماه “أضعف الإيمان”.

العراق ساحة المواجهة التي تدرك إيران أنها أساس في الهلال الشيعي، وبالتالي تسعى إيران لاستثمار اغتيال سليماني بما يزيل الكوابيس التي أطلقتها الانتفاضة العراقية تجاه إيران، إذ أن شعار “إيران برا برا” هو الشعار الذي صدح به المنتفضون في مدن العراق ولاسيما ذات الرمزية الشيعية، ومشهد حرق القنصليات الإيرانية هو العنوان الذي وسم هذه الانتفاضة التي زعزعت النفوذ الإيراني وهددت وجوده. ما تريده إيران هو طي هذه الصفحة وإلغائها من الوجود، وهو أقصى ما تطمح إليه في تحقيقه وتريد لاغتيال سليماني أن يكون وسيلة لقلب المشهد من عراقيين يطالبون بإخراج إيران، إلى مشهد عراقيين يطالبون بإخراج القوات الأميركية.

الرد الإيراني على عملية الاغتيال، يندرج في سياق أن الرد الفعلي سيؤدي إلى حرب لا تريدها إيران، وعدم الرد هو هزيمة معنوية لن يتحملها النظام الإيراني، وبالتالي فإن الحسابات الإيرانية تنطوي على مخاطر لكونها تتصل بهيبة أميركا ومصالحها من جهة، وبحرص إيراني على الاستفادة من الانقسام الأميركي الداخلي وبرغبة إيران في استخدام الرد في منع وصول ترامب إلى الرئاسة مجددا من جهة ثانية.

فيما يشكل تمدد إيران ونفوذها حجر الرحى في الحسابات الإستراتيجية، وبالتالي فإن الرد يجب ألا يخل بهذا المسار الذي تحاول إيران من خلاله أن تفرض في معادلة الصراع القائمة في المنطقة مقولة أن لا وجود في المنطقة إلا لمشروعين، واحد أميركي إسرائيلي والثاني تقوده إيران، وعلى الجميع في المنطقة إما أن يكونوا مع مشروع إيران أو كما سماه مشروع الحرية والسيادة والاستقلال، أو مع المشروع الأميركي.

وهو في ذلك، كما إيران، يمهد لإنهاء مشهد الانتفاضة في العراق وفي لبنان، انطلاقا من أن المعركة الوجودية أمام الخطر الأميركي والإسرائيلي تتطلب إزاحة كل العناوين السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية جانبا، والاصطفاف لمواجهة الهيمنة الأميركية.

هذه حسابات طهران، يبقى أن الدول التي تشكل المحور الإيراني باتت في وضعية يصعب أن تستجيب لهذا المطلب وسط حال من التحلل السياسي والاقتصادي بات فيه الحديث عن وجود دولة سواء في لبنان أو العراق صعبا إلا إذا أضيف على توصيف دولة كلمة معبرة، لتصبح دولة فاشلة.

العرب

————————-

من قتل سليماني قادر على قتل كل الرؤوس/ محمد قواص

تراجعت منابر إيران خلال أقل من 24 ساعة عن التهديد برد مزلزل ساحق انتقاما لمقتل الجنرال قاسم سليماني، وباتت تهمس برد “مدروس” قد يجري الاتفاق حوله بالرعاية المعلنة للوسيط السويسري.

وفيما تهدد وستهدد الميليشيات التابعة لإيران في العراق ولبنان واليمن بالرد الموعود، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عاجل بالإعلان عن خطط واشنطن برد ساحق داخل إيران نفسها (52 هدفا مرصودا). وعليه فإن واشنطن تستعيد برشاقة زمام المبادرة، فيما تبدو طهران متخبطة مرتبكة، تستعين بترسانتها اللغوية، علّها تعوّض ما نال من هيبتها خلال الساعات الماضية.

تفوّقت الولايات المتحدة على العالم في ما تمتلكه من قوة اقتصادية هائلة، تقلق دولة عظمى كالصين وتجمعا دولي كالاتحاد الأوروبي، حين تلوّح بعقوباتها الاقتصادية. ذهبت الصين إلى اتفاق تجاري مع العملاق الاقتصادي الأميركي، فيما دول حلف شمال الأطلسي تذعن لمطالب ترامب برفع نسب مساهماتها في ميزانية الحلف العسكري الغربي، وتسعى دول أوروبية لإيجاد أرضية ترفع عن منتجاتها رسوم ترامب الجمركية الصاعقة.

لم يكن باستطاعة إيران أن تواجه العقوبات الأميركية المفروضة عليها. انهارت المكابرة، وبدأت كافة منابر النظام في طهران تعترف بأن العقوبات القاسية تخنق البلد. بدا أن طهران تخسر في هذه الساحة وبدا أنها تبحث للرد والدفاع في ساحات أخرى.

عملت إيران على استجداء مواجهة عسكرية ما مع الولايات المتحدة. اعتقدت أن إسقاط طائرة مسيّرة أميركية من أحدث طراز في العالم ومن أغلاها ثمنا بصاروخ بخس فوق مياه الخليج (يونيو الماضي)، سيستدرج ردا أميركيا يتيح لإيران الاستمتاع بنعمة الأزمة العسكرية مع الدولة الأكبر.

كان الهدف هو تحويل السجال من جدل حول برنامجها النووي وبرنامجها للصواريخ الباليستية ونفوذها “المزعزع للاستقرار في المنطقة”، وفق التعبير الأميركي الغربي، إلى انهماك دولي في كيفية إنهاء المواجهة العسكرية الثنائية على نحو يرفع إيران إلى مستوى الندية مع الولايات المتحدة، وبالتالي الذهاب إلى طاولة المفاوضين كمقاتلين يبحثون وقفا لإطلاق النار.

حاولت إيران تحقيق الأمر في الأشهر الأخيرة من خلال هجمات متعددة قامت بها ميليشيات عراقية موالية لطهران ضد القواعد الأميركية في العراق دون أن تحظى طهران بالمواجهة الأميركية الإيرانية الموعودة. بدا أن أذرعها في سوريا ولبنان مكبّلة بقرار دولي عام (تشارك به روسيا) يتيح لإسرائيل التعامل بحزم وحسم مع أي أخطار إيرانية تظهر هناك.

ويجوز القول إن طهران كانت تسلك منهجا صحيحا متكئة به على قواعد لعبة اعتادت عليها خلال العقود الماضية.

منذ أزمة الدبلوماسيين الرهائن في السفارة الأميركية في طهران، مرورا بخطف الرهائن وتفجير ثكنة المارينز في بيروت، انتهاء بتمدد النفوذ الإيراني في ميادين المنطقة، كانت إيران تلاحظ بتلذذ سلوكاً أميركيا يتراوح بين الانسحاب والتراجع والصمت البناء. حتى أن الولايات المتحدة التي لطالما وُصفت بـ”الشيطان الأكبر” في أدبيات “الثورة” الإيرانية، سعت في عهد الرئيس السابق باراك أوباما إلى عقد صفقة الاتفاق النووي مع إيران، والتي تشكل في خفاياها تسليماً بقدر جمهورية الولي الفقيه، وتحضّر لشراكة أميركية إيرانية لمّح إليها أوباما نفسه.

ليس ذنب قاسم سليماني أنه كان واثقا بالثوابت الأميركية التي تربى عليها منذ أن قامت الجمهورية الإسلامية عام 1979. الرجل كان يتحرك بكل حرية يرسم خرائط الصراع في اليمن وسوريا والعراق ولبنان دون أي اعتراض من واشنطن. كان أمر الصمت الأميركي يشبه الرعاية الكاملة للتمدد الإيراني في كل المنطقة.

ولطالما قيل إن التواطؤ الأميركي الإيراني بات أكبر وأكثر صلابة منذ أن أفتى منظّرو المحافظين الجدد بأن السنّة، بعناوينهم المتعددة، باتوا إثر اعتداءات 11 سبتمبر منتجين للعداء الدائم للولايات المتحدة، فيما أن الشيعة، بعنوانهم الوحيد في إيران، هم حلفاء. سقط نظاما العراق وأفغانستان بالتعاون الكامل مع إيران، وهيمنت طهران على بغداد بتواطؤ كامل مع واشنطن.

بدا أن الولايات المتحدة أنهت “التعاقد” مع إيران. تغيّر الزمن وبات متجاوزا لحضور سليماني ومهماته. صار العالم بأجمعه يريد تجاوز “الاستثناء” الإيراني، وبالتالي تجاوز واقعة سليماني وميليشياته. يكفي تأمل مواقف الصين وروسيا، المفترض أنهما حليفان لإيران، كما تأمل موقف أوروبا، المفترض أنها متعاونة مع إيران، لنفهم أن مقتل سليماني هو قرار دولي نفذته مسيّرات أميركية.

نعم سيكون رد إيران مزلزلاً. لكن ذلك الرد سيكون مزلزلا بالنسبة لكل الحالة الإيرانية التي تمدّدت في المنطقة. ستذهب إيران إلى طاولة المفاوضات التي يمعن ترامب في مدّها بعد اغتيال سليماني. لا تملك إيران، بعد رفع الرعاية الأميركية الدولية لتمدّدها، إلا الذهاب مهرولة لعقد اتفاق مع إدارة ترامب، بالذات، صونا لنظام بدا أن تصفية سليماني تمثّل أعراض تهديد لبقائه.

كانت إيران تعوّل على عامل الوقت علّ المرشح دونالد ترامب يفشل في الانتخابات الرئاسية المقبلة لصالح منافس ديمقراطي يعيد إحياء إرث أوباما و”حنانه” تجاه إيران. كانت إيران تهدد ترامب المرشح بخيار عسكري لطالما وعد ناخبيه بتجنبه. بيد أنه وفي ليلة اغتيال سليماني، بدا أن واشنطن هي التي تستدرج طهران للحرب، وبدا أن ترامب المرشح بات يعتبر أن معركته مع إيران هي حصانه الرابح داخل حملته الانتخابية.

شيء ما حصل في واشنطن لم يعلمه سليماني فاجأ النظام، بحرسه ومحافظيه ومعتدليه في طهران.هو انهيار إيراني بامتياز. ولى عصر الثورة الإيرانية. من يقتل سليماني يملك أن يقتل كافة الرؤوس التي كانت تعمل تحت إمرته في كل المنطقة. ومن يقتل أكثر الجنرالات قربا من الولي الفقيه، يبلغ طهران بأن ما زعمته واشنطن من عدم وجود خطط لإسقاط النظام قد يصبح متقادما، وأن هيبة الولايات المتحدة في صراعها الطويل الأمد مع الأخطار الاستراتيجية الكبرى، لاسيما تلك التي تمثلها الصين مثلا، يستدعي إزاحة بيدق عن رقعة اللعب الكبرى.

صحافي وكاتب سياسي لبناني

العرب

——————————

إيران: رد الحقد أم رد الحرب؟/ علي الصراف

يرى “الولي الفقيه”، وحكومته وميليشياته، حقيقة ساطعة، هي أنهم يقفون على أبواب هزيمة منكرة. وأنهم إذا اختاروا الرد على مقتل “الرجل الثاني” في النظام، قاسم سليماني، فإنهم سوف يتلقون ردا ساحقا من جانب الولايات المتحدة.

هناك رهان واحد تستطيع إيران أن تعوّل عليه، هو أن حجم القوات الأميركية في العراق والمنطقة ليس بالسعة التي تسمح بخوض حرب أو غزو إيران.

ولكن من قال إنّ واشنطن تريد أن تغزو إيران؟ ومن قال إنّ انهيار النظام فيها يتطلب مليون جندي؟ ومن قال إنّ الهزيمة يجب أن تكون عسكرية دائما؟

لقد شرب “ولي فقيه” سابقا كأس السُمّ وقَبِل الهزيمة حيال جيش أقل قدرات من الولايات المتحدة. ويعرف خامنئي أن نظامه لن يصمد أسبوعا إذا ما اندلعت حرب.

يستطيع هو وأتباعه، أن يهدد بضرب القواعد الأميركية، أو أن يحرّك مأجوريه وعملاءه لكي يطلبوا رحيل القوات الأميركية من العراق، وأن يعدها، بـ”خروج مذلّ”، ولكنه يعرف أن الغوغائية شيء، والخسائر التي تملى على الأرض شيء آخر. النظام الإيراني يمكن بسهولة أن يسقط من تلقاء نفسه.

أولا لأنه مكروه من جانب شعبه، ولأنه ارتكب فيه من الجرائم ما يكفي لكي ينتظر الناس سقوطه ومحاكمة رموزه، بل وأن يذهبوا إلى دعم أي قوة خارجية تمكّنهم من التخلّص منه ومن الويلات التي فرضها عليهم.

ثانيا اقتصاده المنهار أصلا لن يبقى منه أي شيء إذا ما أدّى القصف المحتمل، ولو على منشآت النفط وحدها، إلى تدمير القليل مما توفره من موارد.

ثالثا قوته العسكرية التي لطالما راهنت على الميليشيات، رخيصة الكلفة، لن تقوى على مواجهة أي قوة عسكرية في المنطقة، فما بالك بقوة الولايات المتحدة. صحيح أن قوته تتضمن حشدا من الصواريخ، إلا أن تصفية الحساب معها يظل سهلا، سواء بفضل التكنولوجيا المتاحة، أو بفضل القوة الصاروخية المضادة. إيران تعرف من هذه الناحية، أنها لا تملك الكثير في هذا الملعب، ولا تسيطر على اللعبة.

رابعا إنه نظام معزول في العالم. حتى أقرب حلفائه إليه لن يتمكّنوا من دعمه إذا جدّ الجدّ. والجميع يعرف أنه نظام جرائم وأعمال وحشية ومصدر رئيسي من مصادر الإرهاب. وتأديبه، كلما شنّ عدوانا جديدا، أمر ممكن. بل وبات منذ الساعة ضروريا.

فإذا أخذت من الغوغائيات السابقة مثالا، فإن ردود الفعل المباشرة على مقتل قاسم سليماني، كفت دلالة على أن هذا النظام وميليشياته وأحزابه يواجه، للمرة الأولى، وضعا بائسا إلى درجة أنه لا يملك إلا أن يُذعن للحقائق ويشرب كأس السم ثانية.

إيران لن ترد. ويا ليتها تفعل. فحتى لو تمت تصفية كل قادة ميليشياتها الآخرين، واحدا بعد الآخر، فإنها لن ترد. ليس الآن على الأقل. لأنها تعرف حجم العاقبة، ولأنها تراها كما يرى المرء أصابع يديه، بل ولأنها لا تملك من الأساس ما تردّ به. حتى ليحسن بالزمرة الفاسدة أن تبحث عن مأوى، وأن تكفّ عن الاعتقاد بأن لها قيمة، وأنها يمكن أن تشكّل خطرا، أو أن تكون شيئا أكبر حشو هراء في موازين القوى.

تعرف تلك الزمرة، على أي حال، أن الكبار إذا دخلوا الملعب، لم يبق للزعاطيط مكان ولا دور. وأنها نهبت بما يكفي لأن تهرب بما كسبت.

ميليشيات الحشد الشعبي سرعان ما قد تتفكك أيضا. لعل قادتها الصغار ينجون مما ارتكبوا من مظالم. وستظل إيرانهم تتلقى الصفعة تلو الأخرى من دون أن تجرؤ على التحدي. لأنه سيكون انتحارا.

وهذه في الواقع فرصة يحسن أن تُستثمر إلى أقصاها. أولا، بإلغاء النظام الطائفي في العراق، وإسقاط طبقة البيض الفاسد التي ظلت تحكمه وطرد ميليشياته إلى حيثما أتت. وثانيا بتغيير النظام في لبنان، لكي يفهم الولي الفقيه أن ملعب الإرهاب يضيق عليه، وأن مقتل سليماني هو بالأحرى مقتل لمشروعه القائم على زرع الميليشيات وزعزعة الاستقرار وتفتيت المجتمعات على أسس طائفية وإغراقها بحروب أهلية لكي تتمدد إيران من خلالها. وثالثا لكي يسقط مفهوم “تصدير الثورة”، وتتقلم أظافر الوحشية داخل إيران نفسها.

وهناك سبب مهم لمتابعة هذه الفرصة؛ سبب تفرضه المعرفة بطبيعة النظام الإيراني، بل وبالطبيعة الحقود للمذهب الصفوي نفسه.

هذا النظام، إذا كان لا يستطيع أن يرد، بسبب ضعفه، فإنه يظل يملك من طاقة الحقد ما يكفي لكي يتدبر أعمالا تخريبية وجرائم يُرضي بها غرور الضغينة ونكران الهزيمة.

الحادث الذي دفع السفينة الأميركية “فينسينز” إلى إطلاق صاروخ على طائرة الركاب الإيرانية فوق مياه الخليج في يوليو 1988، لم يكن سوى خطأ مؤسف. إلا أن إيران تدبرت في الأول ديسمبر من العام نفسه تفجير طائرة لوكربي الشهيرة. التهمة ألصقت بالعقيد معمر القذافي، لأسباب تتعلق بالقذافي نفسه، بينما كانت هناك مصالح أخرى تتحرك مع من ارتكب الجريمة بالفعل. كانت هناك مصلحة للولايات المتحدة وبريطانيا، أن تضع القذافي في القفص، فتمت التغطية على المجرم الحقيقي: آية الله الخميني الذي أمر بالقصاص لسقوط طائرة الركاب الإيرانية.

الكثير من التفاصيل الأخرى، كشف عنها كتاب دوغلاس بويد “لوكربي: الحقيقة”. ولقد انكشفت الحقيقة تاليا بالفعل.

بريطانيا والولايات المتحدة تعرفان الآن أن إيران هي التي كانت وراء تلك الجريمة. ولكنهما ظلتا تتغاضيان عن إعادة توجيه الاتهام، لأن الملف، بالذي كان في القفص، وبالتعويضات، تم طيّه. هذا مجرد مثال، لما يمكن للحقد أن يفعله.

الحرب مع العراق مثال آخر. لقد قبلت إيران الهزيمة عام 1988. إلا أنها انتظرت أعواما طويلة قبل أن تقوم بتصفية الحساب، ليس مع الرئيس الراحل صدام حسين شخصيا فحسب، بل من كل العراق أيضا، حتى حوّلته إلى مستنقع للفساد والقتل والدمار.

إسماعيل شاه الصفوي نفسه، بعدما هُزم على يد السلطان العثماني سليم الأول في صحراء جالديران شرق الأناضول في أغسطس 1514، هرب إلى أذربيجان، وعاد لينتقم من سليم الأول، في غزوة جديدة إلا أنه مات بحقده مسلولا عام 1520.

إنه نظام قائم، برمّته، على الحقد. وما لم يتم سحق رأس الأفعى، فإن قطع ذيولها لن يترك عليها أثرا سوى أن يزيد السُمّ فيها سُمّا.

كاتب عراقي

العرب

————————

من يخرق الخطوط الحمر أولاً؟/ عبد الوهاب بدرخان

الفعل أميركي: اغتيال الجنرال قاسم سليماني. رد الفعل إيراني: استعداد للثأر لهذا الاغتيال. القلق دولي وإقليمي.

لم يكن سليماني شخصاً عادياً بالنسبة إلى إيران، بل أحد رموز النظام والقائد الميداني العسكري والاستراتيجي لنفوذه الإقليمي، ولذا فليس وارداً عند طهران أن تمرّر قتله على أنه مجرد «شهادة يبتغيها كل مجاهد» بل استهداف مباشر للنظام نفسه.

يتبيّن في السياق أن «أبو مهدي المهندس»، الذي قتل في العملية الأميركية ذاتها، كان القائد العسكري المعتمد إيرانياً في العراق، مثل حسن نصرالله في لبنان وعبد الملك «الحوثي» في اليمن.

وبالتالي فإن الضربة كانت قاسية، وأثبتت تصريحات الرئيس الأميركي ومعاونوه أن واشنطن تدرك حجم خطورتها وأرادتها عملاً هجوميّاً.

كان متوقّعاً أن تكتفي القوات الأميركية بالإغارة على خمسة مواقع موزّعة على جانبي الحدود بين سوريا والعراق وحصدها عشرات القتلى والجرحى من «كتائب حزب الله» العراقي، فهذا ردٌّ متناسب على الصواريخ التي أطلقتها تلك الميليشيا على قاعدة كركوك، وتسبّبت بقتل مدني أميركي وإصابة أربعة عسكريين.

لكن حتى هذه الغارات شكّلت في رأي المراقبين نقلة نوعية في الردّ الأميركي على هجمات تكاثرت منذ نهاية (أكتوبر) الماضي على معسكرات توجد فيها قوات أميركية وعراقية.

كانت واشنطن ردّدت منذ صيف 2018، وأبلغت طهران رسمياً عبر قنوات مختلفة، أن مسؤولية أي اعتداء على جنودها ومصالحها ستُحمّل لإيران مباشرة.

وبعد ظهور قادة ميليشيات «الحشد» في التظاهر أمام السفارة الأميركية في بغداد وإحراق مداخلها، وبينهم اثنان ممن لم ينقطع التواصل بينهم وبين دبلوماسيي السفارة، كان ذلك كافياً لاستخلاص واشنطن أن طهران تمتحنها وأن الوقت حان لتنفيذ تحذيرها قبل أن تنتقل الميليشيات إلى درجة أعلى من التصعيد.

لذلك شكّل اغتيال سليماني ذروة ما تعتبره واشنطن ردعاً، كونه غير مسبوق في الوقائع الرسمية العلنية للمواجهة بين الطرفين. كلا الطرفين يرغب في تجنّب الحرب أو على الأقل يريد إبقاءها «بالوكالة» وفي إطار الخطوط الحمر (أميركا لا تستهدف الأراضي الإيرانية وإيران لا تستهدف القوات الأميركية). في الهجوم على قاعدة كركوك تمت بالوكالة ملامسة خطّ أحمر.

وفي الاغتيال هزّت أميركا الخطّ الأحمر في رسالة واضحة بأن حركتها التالية يمكن أن تكون مباشرة ضد أهداف إيرانية. وحين قال الرئيس دونالد ترامب صراحةً إن «إيران لم يسبق أن ربحت حرباً ولم يسبق أن خسرت مفاوضات»، فإنه كان يؤكّد من جهة أن احتمال الحرب بات رهن خيارات طهران، ومن جهة أخرى أن خيار التفاوض سيكون أكثر جدوى لها.

لكن آخر ما كان يفكّر فيه مجلس الأمن القومي المنعقد لساعات بحضور المرشد علي خامنئي هو «التفاوض»، وآخر ما كان يرغب في سماعه هو «ضبط النفس» أو «عدم الإقدام على خطوة استفزازية» (الرئيس الفرنسي). لكن هل تخرق إيران الخطوط الحمر أم تحرص على عدم تحريكها أو تجاوزها؟

* عبد الوهاب بدرخان كاتب صحفي لبناني

الاتحاد

—————————

هل تكفي شعبية ترامب وصلاحياته لإشعال الحرب مع إيران؟

آخر موافقة إعلان حرب من قبل الكونغرس الأمريكي كانت خلال الحرب العالمية الثانية عام 1941، وما تلا ذلك كانت جميعها تدخلات عسكرية جاءت بأمر من الرؤساء الأمريكيين مباشرة لا بموافقة من الجهة التشريعية في البلاد.

ولعل الجدل حول صلاحيات الرئيس الأمريكي في إعلان حرب أو الدخول في حرب أو تنفيذ عمليات عسكرية خارجية محط جدل مستمر في الأروقة السياسية والشعبية بالولايات المتحدة؛ لما يحمل ذلك من مخاطر إذا ما اندلعت حرب طويلة الأمد.

وفي ظل مقتل الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني بغارة أمريكية في بغداد، 3 يناير 2020، مع مجموعة من قيادات مليشيات الحشد الشعبي الموالي لطهران في العراق، لم تكن تلك العملية محل رضا أمريكي واسع من جميع الأطراف، إنما تم اتخاذ القرار من قبل إدارة الرئيس ترامب وبدون علم الكونغرس، حيث رأى الكثيرون أنها إعلان حرب.

ما صلاحيات ترامب الخارجية؟

تكرر سؤال عدة مرات منذ وصول ترامب إلى السلطة عام 2016؛ ما هي صلاحياته الخارجية؟ والسؤال هنا متصل بالحرب والعمليات العسكرية لا بتعيين السفراء والدبلوماسيين أو الأسئلة التي لا تشكل هاجساً لدى الأمريكيين أو السياسيين منهم.

ويتيح الدستور الأمريكي للرئيس إرسال قوات عسكرية إلى مناطق خارج البلاد لمدة 30 يوماً، لكن إذا أراد تمديد مهمة القوات المرسلة فعليه الحصول على موافقة الكونغرس، ولا يملك الرئيس مبدئياً صلاحية إعلان الحرب؛ لأن القرار يعود إلى الكونغرس.

ومن الناحية القانونية ضمن المتبع في واشنطن خلال السنوات الماضية، وبحسب قانون “قرار قوى الحرب” الذي أصدر عام 1973 من طرف الكونغرس، فإنه يجب على الرئيس طلب إذن الكونغرس قبل إعلان الحرب.

ترامب

لكن القانون يستثني حالات معينة يمكن للرئيس فيها التصرف وحيداً في حال حدوثها؛ إذ يقول نص القانون إنه يمكن استخدام القوة في حالة “إعلان الحرب، أو عند وجود إذن قانوني محدد، أو في حالة إعلان طوارئ على المستوى القومي، حيث تتعرض الولايات المتحدة أو أراضيها أو قواتها المسلحة لهجوم”، بحسب تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية.

ورغم أن حالة الاعتداء على الأراضي الأمريكية قد لا تنطبق في الاعتداءات التي وقعت مؤخراً ضد القوات الأمريكية في العراق، فإن شرطي الاعتداء على ممتلكات الولايات المتحدة وقواتها المسلحة حاضران في الأحداث العراقية الأخيرة؛ عندما تعرضت السفارة الأمريكية والنقاط الأمنية من حولها في بغداد إلى اعتداء من جانب مليشيات الحشد الشعبي، وذلك بعد استهداف قاعدة عسكرية تحوي قوات عسكرية أمريكية في العراق.

ولا تعد هذه المسألة جديدة؛ فقد سبق أن تجادل النقاد والسياسيون في هذا الأمر، وبعضهم أثار اعتراضات كثيرة، وقد أثيرت هذه المسألة على سبيل المثال عندما شن الرئيس السابق، باراك أوباما، ضربات جوية ضد ليبيا في العام 2011.

وقد اعتُرض على قانونية الرئيس الأمريكي في القيام بأعمال عسكرية دون موافقة مسبقة من الكونغرس من قبل مسؤولين بإدارة كل رئيس أمريكي؛ مثل أوباما (ليبيا وعملية قتل أسامة بن لادن)، والرئيس جورج بوش الابن (الهجمات الأولية بعد 11 سبتمبر)، والرئيس بيل كلينتون (كوسوفو، هايتي، العراق)، بالإضافة لجورج بوش الأب (بنما)، والرئيس رونالد ريغان (غرينادا، ولبنان، وليبيا)، والحال نفسه مع الرئيس جيمي كارتر (المهمة الفاشلة لإنقاذ الرهائن الإيرانيين)، وكذلك الرئيس جيرالد فورد (حادث فيتنام).

ولذلك بررت إدارة ترامب الهجوم الذي شنته على سليماني بأنه “عمل دفاعي حاسم”، كما جاء في بيان البنتاغون، وذلك لاستباق أي تحركات ضد الولايات المتحدة، إذ تم رصد سليماني وهو “يخطط لشن هجمات وشيكة على الدبلوماسيين والعسكريين الأمريكيين”، بحسب تصريحات الرئيس ترامب، الجمعة (3 يناير 2020).

كما يوجد مخرج قانوني آخر أمام الرئيس ترامب يسمح له باستخدام القوة المباشرة يسمى “قانون استخدام القوة للرد على هجمات 11 سبتمبر”، وقد صدر عام 2001 لمحاربة القاعدة وطالبان، واستخدم لمحاربة “داعش” والتنظيمات المرتبطة بها في القارة الأفريقية.

في حين لفتت صحيفة “واشنطن بوست” إلى أن القانون لا يشمل إيران، التي لم تدرَج ضمن الجهات أو الدول التي تستطيع الولايات المتحدة ممثلة بالرئيس تنفيذ هجمات ضدها.

ما رأي الكونغرس؟

ولعدة جهات في الولايات المتحدة رأي مخالف لما قام به ترامب من استهداف لسليماني، وخصوصاً خصومه الديمقراطيين، الذين كانت لهم ردات فعل مباشرة على العملية، معتبرين أنها ذات أثر سلبي على المصالح الأمريكية.

وفي ظل ذلك بدأ الكونغرس بالتحرك نحو إصدار قانون جديد يقيد من تحركات ترامب بخصوص إيران.

بدورها قالت رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، الأحد (5 يناير 2019): إن “المجلس سيعرض ويصوّت على قرار للحد من تحركات الرئيس ترامب العسكرية فيما يتعلق بإيران”.

وأضافت في بيان: إن “هذا القرار مشابه لذلك الذي قدمه السيناتور تيم كاين في مجلس الشيوخ”.

وجاء في مشروع القرار أن “مسؤوليات الكونغرس الراسخة منذ فتره طويلة من خلال التشديد على أنه إن لم تتخذ إجراءات أخرى داخل الكونغرس فإن الأعمال العسكرية التي تقوم بها الإدارة فيما يتعلق بإيران سوف تتوقف في غضون 30 يوماً”.

ويحمل ذلك أن الأمور لم تحسم بعد من الناحية القانونية، ويطرح تساؤلاً حول احتمال فرض الكونغرس مزيداً من القيود على الحالات الاستثنائية التي ضمنت في القانون الصادر عام 1973، أو أن القرار -في حال صدوره- سيقيد الرئيس فقط فيما يخص الحرب ضد إيران.

وترى الباحثة والمحللة السياسية أماني السنوار في حديث مع “الخليج أونلاين”، أن الديمقراطيين في الكونغرس يسعون منذ أسابيع لتقييد استخدام القوة ضد إيران، ومن جهته يستطيع الرئيس ترامب إبطال مثل هذا القرار -في حال اعتماده- باستخدام الفيتو الرئاسي، كما سبق أن فعل ذلك مرتين على الأقل خلال رئاسته؛ مرة فيما يتعلق باليمن وأخرى بخصوص تقييد التمويل فيما يتعلق بالجدار العازل مع المكسيك.

شعبية ترامب وصلاحياته

وتعد قرارات ترامب مختلفة عن كل سابقيه من الرؤساء الأمريكيين الذين كان لمعظمهم عمليات عسكرية خارجية، أو حرب مصغرة، أو نشر جنود وقواعد عسكرية أمريكية حول العالم، حيث يعتبر أنه أخطر الكونغرس عبر “تويتر” في تغريدة له قبل العملية، وفق ما صرح به الأحد (5 يناير 2020).

ويواجه ترامب قريباً محاكمة لعزله من الرئاسة في مجلس الشيوخ الأمريكي ذي الأغلبية الجمهورية؛ بسبب “سوء استغلال السلطة”، و”عرقلة عمل الكونغرس” فيما يُعرف بـ”فضيحة أوكرانيا”، ويشير الكثير إلى أنها ستمر بتبرئته واستمراره في السلطة حتى نهاية ولايته، لكن شعبيته بسبب هذا الملف انخفضت، وقد تكون الضربة مفيدة كدعاية انتخابية لرئاسيات 2020.

وقالت السنوار لـ”الخليج أونلاين”: إن “الأهم من التفصيلات القانونية حول صلاحيات ترامب أو الكونغرس هو مدى وجود رغبة أمريكية بشن حرب على إيران، أو حتى المجازفة بضربات أخرى نوعية تجبر إيران وحلفاءها بالمنطقة على الانتقام الواسع، وأعتقد أن ترامب وإدارته ليسوا بهذا الوارد مع قرب الاستحقاق الانتخابي ووجود معارضة داخلية قوية للحرب والانشغال بملف العزل”.

وأضافت: إن “ضربة خاطفة وقوية مثل اغتيال سليماني قد تكون مفيدة لسجل إنجازات الإدارة الحالية، لكن توسّعها نحو مواجهة أشمل ستعكر جوهر الحملة الانتخابية القادمة لترامب، التي تركز على الاقتصاد والحد من الاستنزاف المالي والعسكري خارج حدود الولايات المتحدة، مما يضائل من احتمالات قيام مثل هذه المواجهة”.

من جهته يعتقد الباحث في الشأن الأمريكي، عبد الرحمن السراج، أن “اتخاذ ترامب قرار قتل سليماني ليس أقل بكثير من اتخاذه قرار إعلان الحرب، فالأمر لذلك ليس مستبعداً.

ويستدرك في حديث لـ”الخليج أونلاين” بالقول: “لكنني أعتقد أن قيام ترامب بإعلان حرب ضد إيران مرتبط برد الفعل الإيراني، كما كان قرار قتل سليماني باعتقادي بسبب الفعل الإيراني. سياسة الرئيس أوباما خلال السنوات الماضية أرخت الحبل لإيران حتى وصلت لدرجة أنها تستفز الولايات المتحدة كثيراً مع اعتقادها بأنها لن تواجه رداً عنيفاً من قبل واشنطن”.

ويضيف: “لا شك أن اغتيال سليماني يضيف إلى فرص ترامب بالفوز بفترة رئاسية ثانية من حيث الفئة المؤيدة له، التي تؤيده بنسبة ساحقة تجاوزت 85٪ من الناخبين المسجلين كجمهوريين. لكنها تزيد أيضاً من فرص معارضيه الذين استخدموا اغتيال سليماني ضد ترامب”.

ويشير إلى أنه “حتى الآن من الصعب تحديد الفئة الأكثر حظاً في انتخابات الرئاسة، خاصة أن استطلاعات الرأي ما زال بعضها يرجح فوز الديمقراطيين، وبعضها الآخر يرجح فوز ترامب”.

بي جيه كراولي، مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق لشؤون الشرق الأدنى، ومؤلف كتاب “الخط الأحمر: السياسة الخارجية الأمريكية في زمن سياسات متصدعة ودول فاشلة”، قال: “دونالد ترامب ليس صاحب استراتيجية عظيمة. وهو يؤمن بسياسة اللحظة، ويتصرف بشكل غريزي، وكنت سأتفاجأ لو أنه فكر في الآثار اللاحقة، وما الذي سيترتب على هذا القرار”، بحسب ما نقلت شبكة “بي بي سي”.

من جانبه اعتبر لوك كوفي، مدير مركز أليسون للسياسات الخارجية في مؤسسة التراث (مقرها واشنطن)، أن “ترامب اتخذ القرار دون وضع السياسة في الاعتبار، أعتقد أنه أراد تجنب هذا الموقف، وإلا لكان فعلها في وقت سابق. ولكن من الناحية السياسية بالنسبة له فإن هذا يجعله يبدو زعيماً قوياً بالنسبة إلى مؤيديه”.

وبيّن كوفي، بحسب الشبكة البريطانية، أن “ترامب بالكاد يوافق على وجود القوات الأمريكية في ألمانيا، لذا فإن فكرة إرسال قوات أمريكية إلى إيران، فيما لو حصلت الحرب، وفي العام الذي ستجرى فيه الانتخابات، هو أمر غير مقنع، لكن عليه أن يُظهر أن الولايات المتحدة ستمارس ضغوطاً بشكل قوي”.

————————

من سيدعم أمريكا في حربها على إيران إذا وقعت؟

لا تزال أصداء عملية استهداف قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، اللواء قاسم سليماني، إثر قصف أمريكي، تخيم على الأجواء بصورة لم تشهدها طيلة العقدين الأخيرين على وجه التحديد.

عملية القتل الدقيقة التي تعد الأجرأ من نوعها في العراق أحدثت هزة عنيفة في المنطقة بأسرها، تبعها استنفار أمريكي ودولي، وتهديدات من قبل إيران وحلفائها، وسط دعم من عدة دول لقرار الاستهداف، ورفض أخرى.

ورغم أن الكثيرين يستبعدون وقوع حرب بين إيران وأمريكا، فإن تصاعد التوتر بينهما مع استمرار تعرُّض حلفاء أمريكا لهجمات خاطفة، واستعراض قوة أمريكية في الخليج، قد يخرج عن السيطرة، فالحروب قد تندلع أحياناً رغم عدم إرادة أطرافها.

تحركات وتهديدات

في 3 يناير 2020، قتل سليماني بعد استهداف سيارته بطائرة أمريكية مسيّرة على مشارف بغداد قادماً من سوريا، بصحبة أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، ومستشار القاسمي الذي يعتبر الأب الروحي لمليشيات الحرس الثوري الإيراني.

عينت إيران مباشرة الجنرال إسماعيل قآني قائداً جديداً لفليق القدس، وأعلن المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، الحداد ثلاثة أيام في أرجاء البلاد كافة، وخرج علي الشيرازي، ممثل المرشد الأعلى في فيلق القدس، قائلاً إن الانتقام لاغتيال سليماني على يد القوات الأمريكية “واجب شرعي”.

خامئني

وتملك إيران الكثير من الخيارات المتاحة في اختيار الشكل المناسب للردّ على أمريكا؛ أهمها إمكانية إغلاق مضيق هرمز، الممر المائي الذي يعبر منه نحو خُمس النفط المستهلَك عالمياً، وانتشار مليشيات تتبعها في عدة دول في منطقة الشرق الأوسط.

في المقابل قال الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إن واشنطن حددت 52 هدفاً إيرانياً سيتم قصفها إذا استهدفت طهران أي مواقع أمريكية، مضيفاً أن بعض المواقع الإيرانية التي حددتها بلاده على قدر كبير من الأهمية.

وقال ترامب، في أول تصريح له بعد الغارة الأمريكية التي أدت إلى قتل قاسم سليماني، إنه مستعد لاتخاذ ما يلزم لحماية الأمريكيين.

وأرسلت واشنطن آلاف الجنود إلى الشرق الأوسط، وسحبت قطعاً عسكرية من بعض المناطق باتجاه الشرق الأوسط، كما أعلنت حالة الاستنفار في أماكن قواتها.

بريطانيا تؤيد واشنطن

وتكثر السيناريوهات المتوقعة التي ستشهدها المنطقة خلال الأيام القادمة من جرّاء التعهدات الإيرانية “بالانتقام القاسي”، والذي قابله إعلان بعض الدول مساندتها للولايات المتحدة إزاء الخطوة التي قامت بها بـ”قتل سليماني”.

وأعلنت بريطانيا، في 5 يناير 2020، موقفها المؤيد لقتل الولايات المتحدة قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، معتبرة ذلك “حقاً في الدفاع عن النفس”.

وحث وزير الخارجية البريطاني، دومينيك راب، في تصريح لهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، إيران على “سلوك طريق دبلوماسي” لتهدئة التوترات المتصاعدة بعد اغتيال سليماني في غارة أمريكية بالعراق.

دومينيك

كما اتهم إيران بـ “انخراطها منذ مدة طويلة في أنشطة مهددة ومزعزعة للاستقرار”.

وأعرب راب، في حديث منفصل مع قناة “سكاي نيوز” البريطانية، عن “اتفاق” بلاده مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بقتل قاسم سليماني.

وقال: “دعونا نكون واضحين؛ كان (سليماني) يشكل خطراً إقليمياً، وندرك الموقف الذي وجد الأمريكيون أنفسهم فيه، ولديهم حق في ممارسة الدفاع عن النفس”.

ألمانيا والرد على الاستفزازات

وبعد ساعات من مقتل سليماني قالت أولريكه ديمر، المتحدثة باسم حكومة أنجيلا ميركل، إن ألمانيا ستعمل على نزع فتيل التوتر بعد مقتل الجنرال سليماني بغارة أمريكية في بغداد، لكنها تجنبت توجيه نقد مباشر لتصرف الحكومة الأمريكية، وقالت إنه “جاء رداً على استفزازات إيرانية”.

ونبهت المتحدثة إلى أن التصرف الأمريكي “جاء كرد فعل على سلسلة من الاستفزازات العسكرية التي تتحمل مسؤوليتها إيران.. وأُذَكِّر هنا بالهجمات على ناقلات النفط في مضيق هرمز ومنشآت النفط السعودية”.

وتابعت المتحدثة بالقول: إن “الصراعات الإقليمية لا يمكن حلها إلا عبر الطرق الدبلوماسية فقط، ونحن نتبادل الرأي في هذا الشأن مع حلفائنا”.

يذكر أن وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، أعلن أنه تحدث مع نظيره الألماني حول قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باتخاذ إجراءات دفاعية للقضاء على قاسم سليماني، وأكد أن ألمانيا تشعر بالقلق أيضاً إزاء استمرار الاستفزازات العسكرية للنظام الإيراني.

أما عن “إسرائيل” فأعلن رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، وضع الجيش الإسرائيلي في حالة تأهب قصوى بعدما هددت إيران بالثأر.

وقال نتنياهو، في بيان أصدره مكتبه: “مثلما تتمتع إسرائيل بحق الدفاع عن نفسها فإن الولايات المتحدة لديها نفس الحق تماماً”.

وقال وهو يتحدث في مطار باليونان قبل أن يعود إلى “إسرائيل” بعد أن قطع زيارته: “قاسم سليماني مسؤول عن مقتل مواطنين أمريكيين والعديد من الأبرياء الآخرين. كان يخطط لمزيد من الهجمات”.

نتنياهو

وقال نتنياهو في بيانه عن مقتل سليماني إن الرئيس الأمريكي “يستحق كل الثناء في التصرف بسرعة وقوة وحسم. إسرائيل تقف مع الولايات المتحدة في نضالها العادل من أجل السلام والأمن والدفاع عن النفس”.

دول غير متحمسة للقتال

ويستبعد المحلل اللبناني محمود علوش، وبشدّة، سيناريو الحرب المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، قائلاً: “إن مثل هذه الحرب ستكون مدمرة ومكلفة للغاية بالنسبة للمنطقة والعالم بأسره، ومثل هذا الخيار هو آخر ما يُمكن أن تُخطط له طهران وواشنطن”.

وأضاف: “الإيرانيون غير قادرين على تحمّل حرب في هذه الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة، ولا ترامب مستعد لهذه المغامرة قبيل الانتخابات الرئاسية”.

لكنه يرى، في حديثه لـ”الخليج أونلاين”، أنه في حال طرح سيناريو الحرب فإن العالم سيكون أمام انخراط دولي، “إسرائيل معنية بشكل مباشر في أي حرب، لكنّ الحلفاء الآخرين غير متحمّسين لمثل هذه المواجهة، فدول الخليج قلقة من هذا السيناريو الكارثي، وغالبية الأوروبيين لا يُريدون الحرب، وعلاقتهم سيئة أصلاً بإدارة ترامب”.

ويؤكد أن واشنطن “لن تدخل أي حرب مع إيران من دون تحالف يضم أكبر عدد من الحلفاء على غرار حرب الخليج الثانية وغزو العراق، وهذا ما لا يبدو متوفّراً، فضلاً عن عدم توفر الرغبة الأمريكية أصلاً”.

امريكا

ويرى أن المواقف المؤيدة لعملية اغتيال سليماني “هي تحصيل حاصل على اعتبار أن هذه الدول تدور ضمن الفلك الأمريكي، لكنّه من غير الصائب تفسير هذا الدعم على أنه استعداد لانخراط عسكري في أي حرب”.

لكنه أشار، في حديثه لـ”الخليج أونلاين”، إلى أن أكثر ما يدعو للانتباه هو “الموقف الخليجي الذي لم يدعم العملية، ودعا لعدم التصعيد، لأن الخليجيين قلقون من التداعيات المحتملة على أمنهم، وسبق أن دفعوا ثمن حرب الوكالة خلال الفترة الماضية”.

كما يرى أن المواقف الرافضة لعملية اغتيال سليماني “هي أيضاً تحصيل حاصل، لكون أغلب الدول الرافضة، كروسيا والصين، مناهضة للولايات المتحدة، ورغم تضارب المصالح والمواقف، فإن الكل يُجمع على رفض الحرب، وهذا هو الأهم لتجنيب منطقتنا المزيد من الفوضى والمآسي”.

الاصطفاف قد يحدث

وأربك مقتل سليماني، الذي يعد ثاني أهم رجل في إيران، توقعات وحسابات الكثير من المحللين، وتعالت التحذيرات من مغبة اندلاع حرب في منطقة الشرق الأوسط، خاصة مع تهديد طهران.

ويقول رئيس “مركز ساس للأبحاث ودراسة السياسات”، عدنان هاشم، متحدّثاً لـ”الخليج أونلاين”، إن إيران لديها كثير من الخيارات المفتوحة، “مع حرص طهران وواشنطن على عدم الدخول في حرب”.

العراق

وأضاف: “بالتأكيد أن اصطفافاً دولياً بدأ بالتخلق حول العالم سيتزايد إذا بدأت حرب، وإذا ما حدث ذلك فستكون المنطقة ساحة حرب متعددة الأطراف، وفي العادة لا تخوض واشنطن حرباً إلا بحلفاء، وإيران تملك حلفاءها في المنطقة لتوسيع رقعة القتال”.

ويرى أن قرار مقتل سليماني سيكون “نقطة تحول جديدة في المنطقة، وربما العالم، وسيبقى تأثيرها أشهراً، وربما سنوات، على السياسة الدولية في المنطقة”.

وتابع: “ستحرص إيران على أن تقوم بعملية انتقامية مؤثرة على الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها في نفس الوقت ستكون مؤثرة على العالم، بحيث تدفع المجتمع الدولي لسرعة احتوائها”.

ويؤكد أن إيران مع ذلك لن تدخل بحرب مباشرة، بل “ستعتمد على المليشيات التابعة لها لشن هجمات على حلفاء واشنطن في الخليج، ومن ثم فقد نشهد هجمات على منشآت النفط وربما نشهد هجمات متعددة على مضيق هرمز”.

——————–

أوقف أوباما اغتياله وحاول الموساد ونفذ ترامب.. رحلة قرار اغتيال “سليماني” من تل أبيب إلى “مار-ا-لاغو”/ هيثم قطب

بالنسبة لقاسم سليماني، أحد أرفع جنرالات إيران و«شهيد الثورة الحي» كما يحب المرشد الأعلى آية الله “خامنئي” وصفه؛ كان من الصعب عليه بمكان على الأرجح تصديق أن واشنطن ربما تصبح في وقت ما ملاكه الحارس، وأن تنقذه يومًا من عملية اغتيال شرسة، لكن ذلك ما حدث بالفعل، وللمفارقة فقد قام الأمريكيون بإنقاذ “جنرال الظل” منذ أقل من خمس سنوات من أقرب أصدقائهم، الإسرائيليين أنفسهم.

كانت الفترة بين أكتوبر/تشرين الأول 2014 وديسمبر/ كانون الأول 2015 حافلة لسليماني في العراق بالأخص، وقد بدأها “محرك الدُمى” الإيراني الأكثر نجاعة بزيارات معلنة متكررة لقوات البيشمركة الكردية التي كانت تقاتل “تنظيم الدولة الإسلامية” في آمرلي وجرف الصخر، وكان ذلك الظهور الإعلامي الأول للجنرال الغامض في مسرح عمليات بالوكالة لبلاده، ملتقطًا صورًا مع قادة البيشمركة، ثم أتى عام 2015 حاملًا صعودًا لـ «فارس الظلام» كما أسمته مجلة “فورين بوليسي” كنجم سياسي حقيقي، وتتالت صوره في العراق مع ميليشيات الحشد الشعبي في مواجهات “تكريت” الشهيرة ضد التنظيم، والتي كان يقودها بنفسه في تلك المعارك، فضلًا عن زياراته لسوريا أيضًا والتي عملت فيها أذرع إيران وميليشياتها بإشرافه وتخطيطه على مواجهة المعارضة المسلحة لصالح نظام “بشار الأسد”.

لا أحد يعرف على وجه الدقة متى اتخذت إسرائيل في ذلك العام القرار العملي بتصفية الجنرال المرموق، لكن جريدة “الجريدة” الكويتية، وهي صحيفة على اتصال بمصادر إسرائيلية رفيعة وسبق لها الانفراد ببعض حصريات موثقة في الشؤون الإيرانية والعراقية والإسرائيلية؛ كشفت أن الاغتيال كاد أن يتم أثناء إحدى زيارات سليماني الميدانية قرب دمشق، إلا أن بعض دوائر واشنطن الاستخباراتية وقتها أبلغت الإيرانيين بوسيلة غير معلومة بمحاولة الإسرائيليين اغتيال “سليماني”، حيث رأت بعض أجنحة العاصمة على الأرجح نجاح الجنرال وميليشياته في كبح جماح تنظيم الدولة وانتصارات قواته وأنه في صالحهم، فضلًا عن أن اغتيال الجنرال كان سينسف غالبًا جهود 9 سنوات من مفاوضات الاتفاق النووي الموقع في 2015 أيضًا، لينجو سليماني وينشئ الاغتيال غير الناجح خرقًا واسعًا في العلاقات الوثيقة بين الدوائر الاستخباراتية الأمريكية والإسرائيلية.

رأى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” حينها، من كان على خلاف عميق مع الإدارة الأمريكية الموشكة على الرحيل برئاسة “باراك أوباما”؛ أن الاغتيال كما اقتضت العادات الإسرائيلية ليس الوسيلة الوحيدة المناسبة لتنحية خصم عتيد مثل سليماني، لذا وبدلًا من بذل الجهد ومطاردة الجنرال في متاهات الشرق الأوسط؛ اقترح “نتنياهو” رفقة “أفيف كوتشافي” رئيس أركان جيش الاحتلال و”يوسي كوهين” مدير الموساد هندسة حملة إعلامية لتشويه سُمعة “سليماني” أمام الإيرانيين، ودق إسفين عميق بينه وبين “خامنئي” يفضي للإطاحة به في نهاية المطاف.

تخبرنا المصادر الاستخباراتية ببعض تفاصيل القصة المثيرة لمحاولة الإسرائيليين زرع فكرة غير تقليدية في عقول عشرات الملايين من الإيرانيين على الأقل، ففي 2016 شُكلت لجنة صغيرة مشتركة من الموساد والاستخبارات العسكرية “أمان” تقوم بتغذية المواقع المختلفة، والصحافة التقليدية وكذا الرأي العام الإيراني بدفق خبري منظم ومتدرج وشامل يُحمّل سليماني مسؤولية الأزمة الاقتصادية أمام مواطنيه، ويخبرهم باستمرار أن تكلفة الشبكة الإيرانية، التي أنشأها سليماني ويقودها بنفسه، في لبنان وسوريا والعراق واليمن عالية للغاية، وأنهم يتحملوها كدافعي ضرائب مما يتسبب في فقرٍ عامٍ متزايد.

لكن الجميع في إسرائيل يبدو أنهم نسوا معلومة بسيطة للغاية وراسخة لدى عامة الإيرانيين: لا يتحرك سليماني إلا من خلال “خامنئي”، وأنه في أعينهم ينفذ أوامره دومًا، لذا وفي أكتوبر الماضي أقرت بعض المصادر الإسرائيلية المطلعة أن العملية قد فشلت بسبب تلك الحقيقة البديهية، بل وذهب عدد منهم للقول بأن العملية أسهمت في تقوية العلاقة بين سليماني وخامنئي وأكسبتها متانة أكبر، وللمفارقة، فقد استغل سليماني الحملة الإسرائيلية للإشارة المستمرة بأن حياته في خطر أكبر من المعتاد، مما أكسبه حماية إضافية في كل مكان، أما ربحه الأهم فكان إقناعه لخامنئي بتغيير استراتيجية التعامل مع الضربات الإسرائيلية، حيث انتهجت إيران غالبًا سلوك “الاحتواء” في مواجهة ضربات تل أبيب لأذرعها في المنطقة، لكن سليماني أراد تغيير ذلك والرد على كل ضربة على حدة واستهداف المصالح الإسرائيلية بالمقابل بشكل سريع.

في خضم ذلك ومع تولي “دونالد ترامب” للرئاسة، تغيرت الاستراتيجية الأمريكية في التعامل مع إيران من التفاهم إلى محاولة هدم حكومة روحاني وتغيير النظام، وقد فعل ترامب ذلك على مدار ثلاثة أعوام بأقصى ما يستطيع، فأعاد نخب طهران للمربع صفر وألغى الاتفاق النووي بعد عام ونصف فقط من رئاسته، أبريل/نيسان 2018″؛ وصنف الحرس الثوري كـ “منظمة إرهابية” في أبريل التالي من العام الماضي، وطبق خلال رئاسته وللآن حملة «أقصى ضغط» لتركيع نظام الملالي بعقوبات اقتصادية صارمة، لكن إحدى الخطوات الأمريكية المبكرة تجاه طهران لم تكن في كل ذلك، وإنما خصت الجنرال نفسه وكُشف عنها في اليوم الأول من عام 2018: لقد أنهى الإسرائيليون والأمريكيون ثلاث سنوات من الخلاف على “سليماني”، واتفقا على أنه وشبكاته تهديد لمصالحهما، وأعطت الاستخبارات الأمريكية الضوء الأخضر للإسرائيليين لاغتياله إن استطاعوا.

كان من الواضح أن الإسرائيليين والأمريكيين قد ضاقوا ذرعًا بسليماني، ولم يكونوا وحيدين في ذلك، فقد شاركتهم السعودية قبلها عندما كشفت صحيفة نيويورك تايمز أن اجتماعًا عام 2017 ضم مسؤولي استخبارات سعوديين رفيعي المستوى مع رجال أعمال قد ناقش إنشاء برنامج اغتيالات لبعض الرموز الإيرانية عن طريق شركات خاصة، وطرح بعضهم اغتيال سليماني اسمًا، لذا كان العامين الأخيرين بالنسبة له على الأرجح هما الأكثر تهديدًا لحياته، وتأكد ذلك عندما حاولت فرقة مكافحة إرهاب وفرقة خاصة أمريكيتان بمساعدة الموساد، في سبتمبر/أيلول 2018، اغتياله على الأراضي العراقية عندما تحرك من بغداد في طريقه لمحافظة “صلاح الدين”، ثم انفجرت في موكبه سيارة مدرعة فُخخت بكم كبير من المتفجرات، وكان من المفترض أن تكون سيارته على مقربة من العربة المفخخة، لكنه أبدل مركبته ثلاث مرات في الطريق ما أنقذه من الموت، بينما أطاح الانفجار بعدد من مساعديه وأوقع خسائر بشرية كبيرة في الموكب.

أكدت تلك المحاولة جدية النيات الإسرائيلية والضوء الأخضر الأمريكي لتصفيته، محاولات لم تتوقف وكان آخرها ما أعلنه “حسين طائب” رئيس استخبارات الحرس الثوري منذ ثلاثة أشهر، الثالث من أكتوبر الماضي، عن القبض على ثلاثة أشخاص حاولوا تفخيخ منطقة زيارة سليماني أثناء احتفالات عاشوراء السنوية في سبتمبر الماضي أيضًا ونسف موكبه، مضيفًا أنها محاولة إسرائيلية بتنسيق مع بعض الدول العربية، ويبدو أن الأحداث الأخيرة في العراق والتي بدأت بقصف صاروخي على قاعدة “كيه 1” العسكرية بكركوك قُتل فيه متعاقد مدني أمريكي منذ أسبوع، ثم القصف الأمريكي الجوي العنيف بعدها بيوم لمواقع الحشد الشعبي، 29 ديسمبر المنصرم، والذي أسقط أكثر من 70 شخصًا بين قتيل وجريح، ثم حصار السفارة الأمريكية ببغداد من قبل الحشد ردًا على ذلك؛ يبدو أنها سلسلة أحداث حملت برقية نعي سليماني مسبقًا، وهو نعي أتى بأوامر ترامب المباشرة.

الكابوس لا يأتي مرتين

في أدبيات الكوارث السياسية الأمريكية نجد عددًا قليلًا من العلامات البارزة التي تمثل دومًا للمسؤولين كابوسًا لا يمكن السماح بتكراره، وتأتي حادثة رهائن السفارة الأمريكية بطهران في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1979 كواحدة من أهم كوابيس تلك القائمة، حين اقتحم الإيرانيون السفارة في خضم “الثورة الإسلامية” محتجزين 52 أمريكيًا لأكثر من عامٍ وشهرين، وتحمل الذاكرة الأمريكية والعالمية عددًا من التداعيات وردود الأفعال التي تم فيها معاملة الولايات المتحدة كدولة في العالم الثالث، بداية من مطالبات الرئيس “جيمي كارتر” الودية لنظرائه الإيرانيين بالإفراج عن المحتجزين لأسباب إنسانية، ثم محاولات التفاوض غير الناجحة، ومرورًا باستخلاص الإيرانيين لوثائق سرية من السفارة كشفت عن بعض أدوار الاستخبارات الأمريكية والبريطانية في إيران ونشرها علانية، ووصولًا لعملية  “مخلب النسر” العسكرية الأمريكية لتحرير الرهائن في أبريل 1980 والتي فشلت فشلًا ذريعًا متسببة في تدمير طائرتين ومقتل ثمانية جنود أمريكيين وإيراني واحد، وليس انتهاءً بتسبب الحادثة بشكل رئيس في هزيمة “كارتر” في الانتخابات الرئاسية وتولي خلفه “رونالد ريجان” للرئاسة.

لذلك يحمل الأمريكيون إرثَ ذاكرة ثقيل عندما يأتي الأمر لسفارات دولتهم في أي مكان، ويتعاظم ذلك الإرث عندما يتعلق الأمر بالسفارات الأمريكية في الشرق الأوسط، وربما تأتي سفارة المنطقة الخضراء بالعراق على رأس القائمة، وقد كان ذلك على الأرجح ضمن ما دار في رأس “ترامب” ومستشاريه عندما وصلتهم منذ أيام قليلة تقارير محاصرة السفارة الأمريكية ببغداد عشية رأس السنة الجديدة من قبل مئات من أعضاء ومؤيدي الميليشيات الشيعية والحشد الشعبي وغيرهم بعد القصف الجوي العنيف، فارضين حصارًا على مجمع السفارة بالمنطقة الخضراء (الحي الدولي)، وهو حصار تم في وجود القوات العراقية المسؤولة عن حماية المنطقة، حيث عبر المتظاهرون من أسوار المنطقة الخضراء وصولًا للسفارة بلا عقبات تذكر، في مشهد غير مباشر جسد التوتر الحالي في العلاقات الأمريكية – العراقية والمتواجد قبل مقتل سليماني بفترة طويلة.

في الحقيقة، وفيما يتعلق بتعامل ترامب مع الإيرانيين، فإنه كان مدفوعًا إلى هذه الضربة خاصة بعد أدائه المتذبذب منتصف العام الحالي في مواجهتهم على الأقل لحفظ ماء وجهه أمام إدارته وقيادات البنتاجون ومؤيديه من مشرعي الكونجرس، ويقبع ذلك التذبذب في مقدمة الذاكرة المشتركة للمذكورين على الأرجح بعد حادثة الدرون الشهيرة قبل أقل من سبعة أشهر من اغتيال سليماني، في يونيو/حزيران الماضي، وكان ذلك عندما أسقطت الدفاعات الجوية الإيرانية طائرة بدون طيار من نوع RQ-4 Global Hawk، وهي إحدى أغلى وأكبر الطائرات بدون طيار في الترسانة الأمريكية، حيث تبلغ قيمة الواحدة منها ما بين 150 و200 مليون دولار.

يومها كانت هناك اجتماعات عاصفة في البيت الأبيض بين ترامب ومستشاريه وبعض قيادات البنتاجون وبعض أعضاء الكونجرس لمناقشة الرد المناسب، واستقر الأمر في الأخير على توجيه ضربات جوية وبحرية صاروخية مركزة وسريعة داخل الحدود الإيرانية لبعض مواقع الدفاعات الجوية وبعض بطاريات الصواريخ المركزية قبيل الفجر، واستعدت قيادات البنتاجون لقضاء ليلة طويلة لمتابعة العملية وردود أفعال الإيرانيين، وبالفعل حلقت الطائرات وتمركزت السفن الحربية الأمريكية في مضيق هرمز، وبالنسبة لترامب كانت هذه الضربة ستعد الثالثة في غضون ثلاث سنوات بعد ضربتين صاروخيتين في 2017 و2018 على سوريا، لكنه عاد بعد 10 دقائق من إصدار الأمر وأوقف الضربة وأعاد الطائرات والسفن لأماكنها التقليدية وسط دهشة الحاضرين.

لا أحد يعلم على وجه الدقة ما الذي دفع ترامب لتغيير قراره بضرب إيران من الداخل، ربما كان القلق من رد فعل إيراني واسع النطاق لا يمكن مواجهته إلا بعملية عسكرية أمريكية واسعة في الخليج، وربما قرر ترامب أن إسقاط طائرة أمريكية بدون طيار، حتى ولو كانت باهظة الثمن ومتطورة، لا يستدعي إشعال حرب ستلقي باستقرار الخليج وحلفائه هناك للجحيم على الأرجح لفترة غير معلومة، وفي كل الأحوال وأيًا ما دار في رأس الرئيس الأمريكي فإنه خرج بعدها ليصرح أن الضربة ربما كانت «غير متعمدة من الإيرانيين، وربما قام بها أحد طائش وغبي» حد تعبيره، قبل أن تهدأ الأمور ويكتفي بإسقاط قواته الجوية لطائرة درون إيرانية في الشهر التالي مباشرة، يوليو/تموز الماضي.

يؤمن بعض عسكريي البنتاجون وبعض صقور واشنطن أن هذه الحادثة أعطت إيران الجرأة اللازمة لهندسة هجماتها الشاملة على أرامكو في سبتمبر الفائت، وهي هجمات لم يثبت رسميًا تورط إيران فيها رغم إيمان الجميع تقريبًا في واشنطن والرياض بمسؤولية طهران عنها، لذا، وبعد قصف قاعدة كركوك بـ 30 صاروخًا، ومقتل المتعاقد الأمريكي المدني الذي عمل كمترجم (امتنع البنتاجون عن ذكر اسم المتعاقد أو أسماء من كانوا بالقاعدة تلك الليلة)، وإصابة بعض الجنود الأمريكيين والعراقيين؛ لم يكن ترامب على الأرجح لديه أدنى استعداد لتكرار نفس الموقف والاكتفاء بحذره تجاه الإيرانيين ونفوذهم القوي في المنطقة، ومن ثم كان رده المبدئي في صورة هجمات جوية عنيفة على قواعد ميليشيات شيعية في العراق وسوريا بطائرات F-15E Strike Eagles، ومع التهديد باقتحام السفارة وتكرار الكابوس الأمريكي بلغت الأمور بالنسبة لصقور واشنطن خط اللارجعة.

لنقتل سليماني .. هل يكفينا ذلك؟

“جنرال باتريوس، ينبغي أن تعلم أنني، قاسم سليماني، أتحكم في السياسة الخارجية الإيرانية بالنسبة للعراق، وسوريا، ولبنان، وغزة، وأفغانستان..”

(من رسالة أرسلها سليماني لجنرال الأربع نجوم “ديفيد باتريوس” قائد القوات الأمريكية بالعراق عام 2008، بعد قصف ميليشيات شيعية للقنصلية الأمريكية ورفض سليماني لذلك ومحاولته وقفه، حاثًا باتريوس على عدم الرد)

كرئيس لا يحب سلفه “أوباما” أبدًا ويراه ضعيفًا على الدوام، أصبح لدى ترامب فرصة ذهبية لوضع نفسه في مقارنة مباشرة مع “أوباما” يمكنه ربحها أمام الرأي العام الأمريكي في واحدة من المرات النادرة التي لن يخسر فيها تلك المقارنات الدائمة كما اعتاد، وتأتي المقارنة هنا على خلفية رد “أوباما” الدبلوماسي الرصين ورده العسكري الأهدأ على هجمات بني غازي في سبتمبر عام 2012 على القنصلية الأمريكية هناك، والمتسببة في مقتل السفير الأمريكي “كريستوفر ستيفنز” وأوقعت دستة من المصابين من الأمريكيين وقوات الأمن الليبية المكلفة بحماية القنصلية، وقد أكد ذلك السيناتور الجمهوري الشهير “ليندسي غراهام” موضحًا أن تاريخ أحداث بني غازي ألقى بظلاله على تفكير ترامب، وبجانب ردوده “الواهنة” على الإيرانيين العام الماضي كما يصفها الصقور، اكتملت صورة الهدف في رأسه، وأصبح سليماني في عداد الموتى قبل قصف سيارته بخمسة أيام كاملة.

توضح كواليس اجتماع فلوريدا المثيرة، والتي كشف بعض تفاصيلها محررو واشنطن بوست، أهم ما حدث وكيف اتخذ قرار اغتيال سليماني. ففي يوم الأحد الماضي، 29 ديسمبر المنصرم، اجتمع ترامب أثناء أجازته بمعظم مستشاريه لشؤون الأمن القومي والدفاع في منتجعه الفاخر بـ “مار-ا-لاغو”، وبعد أن أعلن بعضهم للصحفيين الحاضرين الضربات الجوية على مواقع الميليشيات الشيعية العراقية؛ كان الاجتماع الخاص حافلًا بمناقشات حول رد آخر جراحي دقيق يؤلم الإيرانيين أكثر، وقد أدهش ترامب معاونيه بجرأته الكبيرة هذه المرة، حيث طلب منهم استهداف سليماني بعدما أعطته الاستخبارات معلومات تفيد بأن الجنرال المرموق في الطريق لبغداد خلال أسبوع واحد، وتماهى الرئيس الأمريكي مع حجة بعض مستشاري شؤون الأمن القومي الذين أخبروه أنه لو لم يتصرف الآن فسيعتقد الإيرانيون أنه بإمكانهم مواصلة الحصول على أي شيء يريدونه.

أصدر ترامب إذن أوامر تتبع سليماني وتم تعقبه استخباريًا عن طريق شبكة معقدة من المراقبين الأرضيين والدرونز ومعلومات استخباراتية من مصادر غير مباشرة، ثم تلقى ترامب توصية بأن أفضل مكان لقتل سليماني سيكون بالقرب من مطار بغداد، ومن ثم أصدر أمره النهائي بالتنفيذ قبيل العملية مباشرة.

تخبرنا تلك التفاصيل أن ترامب، وربما للمرة الأولى خلال فترة رئاسته الأولى الموشكة على الانتهاء؛ قد تماهى تمامًا مع عقلية عسكريي البنتاجون وكذا عسكريي إسرائيل ورئيس وزرائهم التاريخي “نتنياهو”، من يرون أن ضرب إيران ووضع المسؤولين الإيرانيين تحت طائلة الآلة القتالية الأمريكية شديدة التطور هو أمر لا مفر منه لكبح جماحهم في عامٍ شهد فيه النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط انحسارًا وسط موجات التظاهر التي ضربت أهم معاقله في لبنان والعراق، وكذا التصادم الروسي- الإيراني المستتر في سوريا، وقد نقل ترامب قلقه لجراهام قائلًا  له في فلوريدا «سيضربوننا مرة أخرى»، وعنى ذلك أن الرئيس الأمريكي لم يكن بحاجة إلا لدفعة بسيطة.

بعد اغتيال سليماني مباشرة، كان التبرير الأمريكي والذي تكرر على ألسنة ترامب وبومبيو وغيرهم من مسؤولي الصف الأول؛ أن قتله منع «مخططًا لقتل مئات من الأمريكيين» بدون توضيح ماهية المخطط أو حجمه الدقيق وأهدافه، ويمكننا أن نجادل بأن سليماني كان مخططًا ومحركًا للدمى رفيع المستوى وشديد الذكاء والحنكة، لكنه لم يكن عنصرًا تنفيذيًا ما يعني أنه يمكن للمخطط المزعوم أمريكيًا أن يستمر كما هو في طريق تنفيذه حتى بعد موت الجنرال نفسه، وهو أمر يتفق فيه “جون باتيمان” كأحد محللي ومتخصصي الشأن الإيراني الرئيسين في وكالة الاستخبارات العسكرية الأمريكية، قائلًا أنه ربما سيستمر المخطط، لكن تنحية الجنرال من المشهد ستصنع صدمة وارتباكًا لا شك فيه لدى القيادات الإيرانية وستجعلهم أكثر حذرًا.

يحب المسؤولون الإيرانيون التفاخر دومًا بأنهم يمتلكون نفوذًا في بعض أهم رقع الشرق الأوسط يتيح لهم الحركة المفرطة وبلا مخاطر عالية لا يمكن معالجتها أمنيًا أو مخاوف اغتيالات غير قابلة للمواجهة، وقد كانت هذه هي الحالة تمامًا في حياة سليماني حتى العامين الأخيرين كما ذكرنا بعدما أطلقت واشنطن يدها وأيدي الإسرائيليين لتصفيته، ومع ذلك فإن الجنرال امتلك حرصًا وحذرًا سمحا له بإدارة شبكته الضخمة في المنطقة ميدانيًا مع الإفلات المستمر وضمان عدم تحوله للوحة أهداف سهلة لتمارين الاغتيال الإسرائيلية الأمريكية المشتركة.

لم تكن تلك المرة الأولى لوجود سليماني في المرمى الأمريكي تحديدًا، وقد سبقتها أخرى شهيرة عام 2007 حينما كان سليماني في زيارة ميدانية للعراق ومر موكبه على مسافة من قافلة أمنية أمريكية، وقد رفع قائد القافلة وقتها الأمر للقيادة الأمريكية هناك لمعرفة هل تشتبك قواته مع موكب سليماني أم لا، لكن باتريوس قرر أن تكتفي القافلة بالمراقبة وألا تشتبك مع الجنرال الإيراني ربما حذرًا من تصعيد عنيف يعرض الوجود الأمريكي هناك للخطر.

بينما أتت المرة الثانية على شكل مطالبة رسمية في جلسة استماع للكونجرس عام 2011، حينما شهد “ريويل مارك جيرشت”، أخصائي الشرق الأوسط السابق في مديرية عمليات الاستخبارات المركزية الأمريكية، بأنه يجب العثور على سليماني واغتياله، وأتت تلك الشهادة على خلفية محاولة سليماني لاغتيال السفير السعودي في أميركا، وهي خطة تم إحباطها بالمصادفة بعدما حاول بعض معاوني الجنرال تجنيد أحد أعضاء عصابات المخدرات المكسيكية ليتضح فيما بعد أنه مرشد للسلطات الأمريكية، وقد أكمل “جيرشت” شهادته المثيرة وقتها بقوله “سليماني يسافر كثيرًا.. إنه في كل مكان.. اذهبوا وحاولوا القبض عليه أو قتله”، وحينها لم تأخذ واشنطن بنصيحة “جيرشت” المباشرة، لكنها حاولت حصاره بعدما وضعته وزارة الخزانة الأمريكية في نفس العام على قوائم عقوباتها لمسؤولي الشرق الأوسط.

في إطار ذلك، ومع خبرة ميدانية هائلة في إدارة شبكات وأذرع إيران وميليشياتها في العراق وأفغانستان ولبنان وسوريا واليمن، وامتلاكه لسمعة دعائية غربية كبيرة منذ تصدره المشهد الإيراني لمواجهة “تنظيم الدولة” ثم دعم نظام “بشار الأسد”، حيث كان سببًا رئيسًا في دفع روسيا للتدخل العسكري لدعم بشار وقصف المعارضة في منتصف عام 2015 بعد سفره لموسكو كمبعوث شخصي لخامنئي، ومخبرًا الروس أنه مازال يمكنهم إنقاذ بشار رغم استحواذ المعارضة على 80% من الأراضي السورية وقتها؛ في ظل ذلك فإن مقتل سليماني هو نجاح أمريكي كبير لا يمكن إنكار تأثيره أو تعويضه مباشرة، وبالنسبة للإيرانيين فسيقضي قادة الصف الأول من نظام الملالي وقتًا عصيبًا في محاولة ملء الفراغ الهائل الذي تركه سليماني في شبكات بلادهم، وسيقضون وقتًا أصعب في محاولة إيجاد ردٍ تجاه الأمريكيين يحفظ لهم ماء وجوهم، وفي نفس الوقت لا يستفز واشنطن وترامب لشن حملة عسكرية واسعة لن يتوانى الرئيس الأمريكي عن فعلها إن دُفع لذلك، وهو أمر يعلمه الإيرانيون قبل غيرهم، ويؤمنون به الآن بعدما أثبت ترامب أنه لن يمنعه شيء من استخدام قوة بلاده المفرطة إن لزم الأمر في أي مكان بالعالم، بدون أن يلتفت لأي حدود أو سيادة لأي دولة كانت.

—————————————————————-

ملاحظة:

جميع مصادر المادة مضمنة بالهايبر لينك.

—————-

اصطياد الثعلب.. لهذه الأسباب قررت أميركا اغتيال الجنرال سليماني/ عبيدة عامر

لم يكن اغتيال الجنرال سليماني أمرا غير مطروح على الأجندة الأميركية، بل كان على قائمة أولوياتها حيث مثل هو وأدواره المتعددة في المنطقة، خطرا استراتيجيا على مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، وبعض دول دول المنطقة، فالرجل هو الذي أسس لفوضى المليشيات في كامل الإقليم، وعزز من سيطرة إيران في اليمن ولبنان وسوريا والعراق، وهو الشريك الرئيسي في القضاء على تنظيم الدولة.

   في هذا التقرير نلقي نظرة فاحصة على أدوار الرجل وتاريخ صعوده ما جعله يعد الهدف الأميركي الأهم حتى الآن منذ اغتيال بن لادن.

   نص التقرير

 قاسم سليماني

الأسود لونه المعتاد لأرديته المفضلة في الجبهات المختلفة بسوريا والعراق، متسقا مع هالات سوداء واضحة تحت عينيه يزيدها بياض شعره ولحيته وضوحا، ووسط حركة “حزب الله النجباء” الميليشيا المفضلة لديه؛ حمل العناصر المسلحون جنرال الظل الإيراني قاسم سليماني، الموصوف بأنه “العنصر الأشد خطورة في الشرق الأوسط»”على أكتافهم احتفالا بسيطرتهم على بلدة الحاضر الاستراتيجية جنوب حلب نهاية عام ٢٠١٥، ضمن سلسلة المعارك المحتدمة هناك على مدى ثلاثة أعوام، والمنتهية بعد ذلك المشهد بعام واحد فقط في 2016.

باحتفاء واضح وبهتافات طائفية، صعد “الحاج” سليماني، كما يسميه مؤيدوه، على إحدى سيارات مليشيا “النجباء”، وخاطب الحاضرين قائلا لهم إن هذه المعركة هي «بداية النصر وإنقاذ الناس، ليس ناسنا فقط؛ وإنما كل السوريين»، ثم مكررا كلماته بالفارسية، في وجود عناصر الحرس الثوري الإيراني الذي يقود أهم فرقه “فيلق القدس” المسؤول عن العمليات الإيرانية الخارجية منذ 15 عاما، وفي وجود مقاتلين من مليشيات إيرانية تشكلت تحت إشراف الفيلق وبتمويله وتدريبه، بجانب سواها من المليشيات الباكستانية والأفغانية والسورية والعراقية وأبرزها وأكبرها “النجباء” العراقية، المشكلة من عشرة آلاف عنصر تقريبا، قتل منهم ٥٠٠ مقاتل في الحرب السورية فقط، سعيا لـتحقيق حلم «مد الطريق من طهران لدمشق».

كانت السيطرة على بلدة الحاضر هي ذروة عملية “دبيب النمل” التي أشرف عليها الحرس الثوري الإيراني وطبقتها بالدرجة الرئيسة المليشيات الطائفية المدعومة إيرانيا، وعلى رأسها حزب الله، وبدرجة أقل الجيش النظامي السوري والمليشيات المحلية، وبغطاء جوي روسي وسوري كثيف، وانتهت بعد ذلك بعام كامل بالسيطرة على مدينة حلب وخروج الثوار منها. ولكن معركة حلب لم تكن سهلة على طهران، فقد كبدتها ٣٠٠ مقاتل وضابط تقريبا من كل القطاعات العسكرية المختلفة، النظامية وغير النظامية، ما بين (أكتوبر/تشرين الأول) عام ٢٠١٥ وحتى (يناير/كانون الأول) لعام ٢٠١٧، وعلى رأسهم نائب سليماني المباشر السابق، وصديقه وزميله في الحرب العراقية الإيرانية، الجنرال “حسين همداني”، الذي قتل بحلب قبل زيارة سليماني بشهرين.

لتعويض هذا النزيف الحاد؛ أرسلت موسكو مزيدا من طائراتها ومستشاريها، بينما دفعت طهران بالمزيد من المقاتلين من جيشها وحرسها الثوري وميلشياتها، وعلى رأسهم “النجباء” العراقية، التي أرسلت في ذروة المعركة وقبل ثلاثة أيام من انتهائها ألفي مقاتل دفعة واحدة، بحسب تصريح قائدها العسكري.

بشيء من التدقيق في السلاح الظاهر بالصورة أعلاه، وباستخدام دليل كامل نشره “مركز الاستخبارات الميدانية القومي” التابع للجيش الأميركي عام ٢٠٠٤ عقب احتلال العراق، ورفعت السرية عنه عام ٢٠١٥، لتحديد الأسلحة الخفيفة وقاذفات الصواريخ المصنوعة في إيران؛ يُرجح تطابق بعض العلامات، مثل الأخمص (الدبشك) الأسود، وعدم وجود عدسة للتصويب، ووجود المغلاق (أجزاء الشد) وزر الأمان على يمين السلاح لا على يساره، يرجح ذلك كله أن يكون السلاح الموجود في الصورة هو الـ”KLS” الإيراني.

يترافق وجود النسخة الإيرانية للكلاشينكوف الروسي مع الوجود المهجن للحرس الثوري الإيراني عن طريق المليشيات الممولة والمدربة على يديه، وبتلقي عقيدة مباشرة من أحد أبناء الحرس الثوري البررة: سليماني، بما يرتب المشهد كاملا: سلاح إيراني خفيف موزع على مليشيا عراقية بإشراف من الحرس الثوري. إلا أن فصل المسرحية هذه المرة مختلف عن كل الفصول السابقة؛ فهذه المليشيا لا «تحرس الثورة» على الحدود، بل تصدّرها مباشرة كما ترى طهران لحلب. لقد انقلب المشهد، أو بالأحرى؛ انقلبت العقيدة الإيرانية.

180 درجة

“باتت مؤشرات تصدير الثورة الإسلامية مشهودة في كل المنطقة؛ من البحرين إلى سوريا واليمن وحتى شمال أفريقيا”

(قاسم سليماني، ١٢ فبراير/شباط لعام ٢٠١٥ في ذكرى الثورة الإيرانية)

ليست بيئة مرتفعات “باعالم” القاسية والوعرة هي وحدها المختلفة عن سهل بلدة الحاضر وصحاري البوكمال التي اعتاد سليماني الظهور بها في الحرب السورية. لقد كان سليماني كذلك مختلفا تماما عشية العام الإيراني، في (مارس/آذار) ٢٠٠٨، بعد ٢١ عاما من قتاله هناك في الحرب العراقية الإيرانية، عندما كان شابا عشرينيا يقود فيلق “٤١ ثار الله” التابع لمدينة كرمان، والتي شهد بها أصعب أيام طفولته عندما سافر إليها مع أحد أقربائه بعد أن أثقلت ضرائب الشاه عبء عائلته البسيطة من الفلاحين.

شهدت تلك المنطقة التي وقف بها سليماني واحدة من أشد معارك الحرب العراقية الإيرانية، قتل بها عشرات آلاف الجنود من الجانبين بلا أي تقدم يذكر لأي من الجانبين، لذا أشار سليماني إلى الوادي جنوبا متذكرا وقائلا: «هذا طريق دشت عباس، لقد كانت هذه المنطقة الفاصلة بيننا وبين العدو»، مستحضرا ذكرى الجنود الإيرانيين القتلى في تلك المعركة. ثم تحدث سليماني مع أحد من قابلوه هناك قائلا: «ميدان المعركة هو فردوس البشرية المفقود، الفردوس الذي يبلغ به الخلود والبشرية ذروتها. يتخيل الناس فردوسا من الجداول والحوريات والسهول، لكن هناك فردوسا آخر: ميدان المعركة».

بهذه الكلمات ولتلك الذكرى تحديدا، ذكرى الحرب العراقية الإيرانية؛ اختصر سليماني كثيرا من العقيدة العسكرية الإيرانية التي تشكلت ملامحها خلال الحرب العراقية الإيرانية، بحسب ما يوضح عضو فريق تخطيط السياسات في الخارجية الأميركية والباحث في مؤسسة “أميركان إنتربرايز”، ماثيو مكلانيس، المختص بالسياسة الإيرانية في دراسته “المبادئ الإيرانية للحرب”، ففي عشية “الثورة الإسلامية”، ومع اندلاع حرب الثمان سنوات مع العراق، ومع أنه تم الحفاظ على إرث القوات المسلحة الإيرانية، المعروفة باسم الآرتش، من دولة الشاه ذات التدريب والتسليح والتمويل الغربي، إلا أنه تم إعادة تنظيمها لتكون مخصصة للدفاع عن الأراضي الإيرانية، كما تم عزل معظم الضباط والقادة الكبار في الجيش على يد قادة الثورة، خصوصا بعد محاولة انقلاب نوجيه عام ١٩٨٠ على يد سلاح الجو الإيراني، ليدخل في حالة كاملة من التدفق بعد اجتياح صدام عام ١٩٨٠.

على الجانب الآخر؛ كان “الحرس الثوري الإيراني” منظمة جديدة تشكلت فجأة عشية الحرب، وكانت مهمتها حماية النظام من “الثورة المضادة” لا المشاركة في حرب إقليمية مثل جيش صدام. ومع أن ضباطه كانوا يملكون الانضباط والصلابة، إلا أنهم لم يكونوا يمتلكون العقيدة والخبرة العسكرية، بل القليل من التكتيكات الهجومية والدفاعية المكتسبة بالتجربة والخطأ، ومدفوعة بالوقت نفسه بإرث أيديولوجي عال مرتبط بالتاريخ الفارسي والإسلام الشيعي، وأخذ من الأخير تحديدا مفاهيم “الفدائيين والجهاد” الإيرانية، وبموازاة وتنافس ثابت ودائم مع “الآرتش”، مما أدى لأن تكون العقيدة العسكرية الإيرانية هي عقيدة مخصصة لغرض محدد أو كما يطلق عليها “ad hoc”.

عمدت طهران بعد ذلك لثلاثة أنواع من الردع، أولها حرب الوكالة أو اختصاص الحرس الثوري الرئيس، مستهدفا «تصدير الثورة ومواجهة أعداء تقليديين مثل العراق والولايات المتحدة» كما يعلن دوما وفعلا، مثلما حصل مع تدخل الحرس الثوري في الحرب الإسرائيلية اللبنانية عن طريق تشكيل ودعم حزب الله، وهو نموذج سيصبح دليل استعمال طهران الأول في تشكيل المليشيات في كل الدول الإقليمية المتاحة، معتمدة في ذلك على المجتمعات الشيعية كل في بلده، ومن ثم استخدام تلك الميليشيات لنفس أسلوب قتال الجماعات “الإسلامية المسلحة” بتعزيز من مفهومي “المجاهدين” و”الفدائيين”.

أما الثاني فهو الحرب غير المتماثلة، وبها عمدت إيران لاستنزاف خصوم يفوقونها عددا وتقنية، باستخدام تقنيات حروب غير تقليدية أو نظامية، كما بدا واضحا في “حرب ناقلات النفط” التي خاضتها مع الولايات المتحدة، واستخدمت بها الزوارق السريعة والألغام وصواريخ الكروز ضد القوى البحرية الأميركية، أضخم قوة بحرية على سطح الأرض. ويأتي النوع الثالث محدود الاستخدام متمثلا في الصواريخ البالستية، لتظهر قديما ردا على برنامج صدام حسين للصواريخ العراقية بعد أن استشعرت طهران أثرها ودورها النفسي الكبير بالداخل الإيراني.

برغم التركيز الأيديولوجي الكبير ضمن العقيدة العسكرية الإيرانية، إلا أنها عقيدة يمكن وصفها بالـ”عملية”، معتمدة على الدروس التاريخية الذاتية لتجربتها أو لتجارب الدول الأخرى، بما فيها الولايات المتحدة، تستخدم بها الأيديولوجيا كغطاء متوقع، وتبقى مقيدة بالتنافس العسكري بين القوات المسلحة الإيرانية والحرس الثوري الإيراني، إلا أن الأهم هو أن تلك العقيدة لم تعد دفاعية فقط، بل أصبحت إيران ترى الحرب بمنظور ٣٦٠ درجة، فلكونها نظاما قام على ثورة، فهي قلقة دائما من ثورات مضادة داخلية قد يستغلها خصومها ضدها كما ترى، بما يجعلها تنتقل ضمن طيف واسع من الهجوم والدفاع، حيث يمكن أن تتحول حملة عسكرية خارجية للآرتش مباشرة لحملة داخلية، أو حيث تتطلب الحاجة لأن تتحول عملية للحرس الثوري الإيراني من الدفاع عن النظام إلى الردع إلى استعراض القوة ثم الرجوع للردع، أو محاولة فعل كل هذا معا في دائرة كبيرة، إذ يتحمل الحرس الثوري مسؤولية القتال الداخلي والخارجي معا، مثل نشر خبراء “مكافحة التمرد” كما يطلق عليهم، واستخدام الدرونز والمدفعية في سوريا، بجانب قوات الباسيج الموجودة لتأمين الإيرانيين حال الأزمات كما يراها النظام. وعلى الجانب الآخر، يتحمل الآرتش، كونه قوة ذات بنية أكثر تقليدية، مسؤولية تطبيق عقيدة “الدفاع عن الأرض واستعراض القوة”، وبين هذا وذاك تتأرجح عسكرية طهران بين عقيدتين؛ دفاعية تمتلك مقوماتها وأدواتها، وهجومية ما زالت تعمل على استكمالها.

360 درجة

نهاية عام ٢٠١٧، بعد أكثر من عامين على ظهوره في بلدة الحاضر جنوب حلب، بلباسه الأسود المعتاد، ولكن هذه المرة بغطاء رأس يقيه الرياح الجافة في بلدة البوكمال السورية الحدودية مع العراق؛ ظهر الجنرال سليماني مجددا، ولم يغير هذان العامان، بكل الخسائر الإيرانية المادية والبشرية لسليماني ورفاقه من خطابه، متحدثا بنفس النبرة الهادئة عن “النصر الإلهي”، ولكن هذه المرة بلهجة أكثر هجومية بما يتسق مع التغيرات الميدانية على الأرض، فبين الحاضر والبوكمال، تراجعت المعارضة السورية المسلحة في العديد من المناطق الاستراتيجية وعلى رأسها حلب، كما تراجع “تنظيم الدولة الإسلامية” المعروف بـ”داعش” عن مساحاته الواسعة على جانبي الفرات، أمام القوات المدعومة إيرانيا على الجانب الأيمن الممتد نحو العراق والموصل، وهي منطقة طُردت منها “داعش” كذلك، أو من الجانب الأيسر على يد القوات المدعومة أميركيا.

بعد هذه الكلمة، أرسل سليماني للمرشد الأعلى للثورة الإيراني علي خامنئي رسالة هنأه وأبلغه فيها بما أسماه «نهاية داعش» في سوريا والعراق، بما يعني إتمام المهمة «الميدانية» المنوط بها وقواته من جانب خامنئي. لم يكن العام الماضي هو عام نهاية تنظيم الدولة وطردها من معاقلها المدنية الرئيسة وحسب، بل كان عام وصل به التوسع الإيراني في أربع دول؛ سوريا والعراق ولبنان واليمن، لذروته خلال خمس سنوات، وضعت فيها طهران كل ثقلها العسكري والاستخباراتي بما يمكن تسميته بـ«حرب الجميع» السورية، في مشهد جسد الانقلاب الأبرز للعقيدة العسكرية الإيرانية الدفاعية على نفسها منذ نشوب “الثورة الإسلامية”.

أتى هذا التغير التام كتطبيق لخطة خمسية قادت الميزانيات وسياسات الدفاع والأمن الإيرانية خلال أعوام ٢٠١١-٢٠١٧، وشهدت ثلاثة توجهات أمنية كبرى: الأول هو التركيز على إعلاء سمعة إيران وقوتها ودورها الإقليمي لـ«تعزيز الأمن القومي وتطوير المصلحة الوطنية» كما أسمته، من خلال تقوية العلاقات الإقليمية وما يتاح من حلفاء دوليين، إضافة لتعزيز الدور الإيراني لـ«تحرير المنطقة من الوجود العسكري الغربي». والثاني هو «الأمن الشامل»؛ فلا تقف العقيدة العسكرية عند الإجراءات الدفاعية التقليدية مثل حماية الحدود والسيادة وحسب، بل تتوسع وتعزز التعاون بين المؤسسات الأمنية المختلفة، عاكسة قلقا مستمرا من «حرب ناعمة وسعي غربي لتقويض وإسقاط النظام» كما يُروج. أما الثالث فيركز على صنع توازن إقليمي من خلال «تطوير الصناعات الدفاعية وتعزيز الاكتفاء الذاتي»، وتوسيع الحشد الشعبي وتأمين المناطق الحدودية، لتنعكس بحرب وكالة وانتشار ميليشياتي إقليمي واسع النطاق.

انعكست هذه السياسات الهجومية في الأعوام الخمسة بشكل واضح من خلال الهجوم في كل من سوريا والعراق، وبرزت في حملة حلب، وشهدت مشاركة كل القطاعات العسكرية الإيرانية للمرة الأولى؛ من الحرس الثوري الإيراني والباسيج وحتى الآرتش، وإن كان الأخير بشكل أقل، وكبدت إيران فيها كما ذكرنا ٣٠٦ عنصرا بينهم عشرات الضباط متوسطي وعاليي المستوى، إضافة للتوسع في إنفاق عسكري ازداد من ١٠ مليار دولار عام ٢٠١١ إلى ١٦ مليار دولار نهاية عام ٢٠١٦ بحسب تقرير “المراقبة العسكرية” السنوي الصادر عن المعهد الدولي للدراسات ، مع إقرار لزيادة قادمة بالإنفاق العسكري بنسبة ٥%، وتطوير موسع لقدرات الصواريخ البالستية والبنية التحتية الإلكترونية وصناعات السلاح، والعمل على حيازة تكنولوجيا عسكرية متقدمة.

إلا أن التغيرات الأهم تضمنت إعادة تشكيل هيأة الأركان الإيرانية الأكبر منذ نهاية الحرب العراقية الإيرانية، وكان أبرز تغييراتها تعيين الجنرال الغامض محمد باقري، الأب الروحي لاستخبارات الحرس الثوري الإيراني، في منصب رئيس أركان الجيش، في خطوة بدت وكأنها دفع باتجاه قوات مسلحة أكثر انضباطا، واضعا ضمن أولوياته تعزيز قدرات الباسيج وفيلق القدس، إضافة لتوسيع العمليات الاستخباراتية والقوى البحرية الإيرانية لتصل للمحيط الهندي.

كان من التغيرات الهامة كذلك نقل النائب العام السابق لهيأة الأركان الإيرانية الجنرال “غلام علي راشد” لقاعدة “خاتم الأنبياء” المركزية التي تم إعادة بنائها وإحيائها مجددا، والتي لعبت دورا كبيرا في الحرب العراقية الإيرانية منسقة بين الحرس الثوري والآرتش، في إشارة لضخ دماء جديدة والعمل على إعادة التنسيق والترتيب الداخلي بين القوتين العسكريتين المتنافستين، سعيا لعقيدة أكثر هجومية وحدة إقليميا، ربما كانت بداية آثارها هي صواريخ بالستية قصفها الحوثيون على قصر اليمامة في الرياض، اتهمت السعودية إيران بالوقوف وراءها، ونفتها الأخيرة مرارا، وقد لا يكون آخرها حرب هجومية مباشرة مستقبلية مع أعداء تقليديين تبدلوا على مر السنين من بغداد وواشنطن للرياض وتل أبيب.

ميدان

——————————–

أي إيران تثأر لسليماني: «الثورة» أم «الدولة»؟/ عبدالوهاب بدرخان

يستفيض الإيرانيون وأتباعهم في الحديث عن ردّهم الثأري، بعد اغتيال قاسم سليماني، وكأن الردّ “المزلزل” حصل لتوّه، متعمّدين إرعاب سامعيهم، مع أن المطلوب إرعابهم وترهيبهم هم الاميركيون. يشير حسن نصرالله وغيره الى “نعوش” ستُرسل الى دونالد ترامب، ولن يرضوا بأقلّ من ذلك، ويستخلص نصرالله أن اميركا ستخسر المنطقة وترامب سيخسر الانتخابات، لكن الردّ لم يحصل بعد، وإذا حصل فلن يكون بلا ثمن، إلا أن أصحاب التهديد لا يكترثون فثقافة “الاستشهاد” تمدّهم بسعادة مسبقة. يقولون إن الرئيس الأميركي ارتكب “أكبر خطأ استراتيجي”، وقد يكون فعل، غير أنه يعتقد أن الخطأ الحقيقي كان في عدم قتل سليماني قبل زمن. إقرأ أيضاً: ما هي فرقة «الشيطان 82» أو «الموت من الأعلى» المُرسلة الى الشرق الأوسط؟ أما إيرانيو النظام فلا يرون أبداً أنهم ارتكبوا أي خطأ، لا في حق بلدهم وشعبهم ولا خصوصاً في حق بلدان أتباعهم وشعوبها. لم يعد صادماً أن الأتباع العراقيين واللبنانيين واليمنيين والسوريين تجرّدوا من وطنيتهم ولا يعيبهم أنهم غير معنيين بأوطانهم بل بمشيئة أسيادهم في إيران. تعاملت واشنطن مع طهران كما تعاملت إسرائيل مع “حزب الله” في لبنان خلال آب (أغسطس) الماضي، قبيل ردّه على مقتل اثنين من مهندسيه في غارة على منطقة قريبة من دمشق. أرسلت إليهم المواصفات التي يمكن قبولها لأي عملية انتقامية، بأن تكون محدودة ومختصرة ومتناسبة مع الحدث، وإذا تخطّت هذا السقف يخرج الوضع عن السيطرة وتكون العواقب مفتوحة. تصرّف “حزب الله” آنذاك ضمن الإطار المحدّد وطهران لم تنصح بمواجهة واسعة. هذه المرّة يريد الإيرانيون من وكلائهم أن يفعلوا كل شيء وأي شيء – قتل وقصف وتدمير واحتجاز رهائن اميركيين… يعتقدون أنها فرصتهم لتحقيق حلمهم المزمن: طرد الولايات المتحدة من المنطقة، وليس فقط من العراق، من عراقهم وهو ليس بعراقهم، ليكونوا هم البديل، وأي بديل! فممارساتهم مع أتباعهم ليست سوى مشاريع تخريب لن تغفرها شعوبهم ولن تنساها. عاد الأميركيون الى العراق عام 2014على رأس “تحالف دولي”، بعد غياب ثلاثة أعوام، لمهمّة محدّدة هي مقاتلة تنظيم “داعش” وإنهاء سيطرته على أكثر من ثلث مساحة العراق. كانت حكومة نوري المالكي استدعتهم بإيعازٍ من طهران التي قدّرت أن الحرب على “داعش” يمكن أن تكون مدخلاً لـ “شراكة” قسرية وموضوعية مع ادارة باراك أوباما. غير أن البنتاغون رسم خريطة صارمة للمهمة لتتضمّن بالضرورة إعادة تأهيل الجيش وقوى الأمن وقوات مكافحة الإرهاب. بالطبع لم يحبّذ الإيرانيون هذا التوجّه فعمدوا الى تفعيل “الحشد الشعبي” وضغطوا على البرلمان والحكومة العراقيين لإكسابه “شرعية” وتمويل فصائله، لكن بشرط أن يكون تحت إمرة القائد الأعلى للقوات المسلّحة وأن يُنظر في مصيره بعد الخلاص من “دولة الخلافة”. انتهى الجزء الأكبر من المهمة التي تولّى فيها “الحشد” الممارسات المذهبية القذرة ضد سكان مناطق سيطرة “داعش”. ومع انتفاء الحاجة الى “الحشد” تمسّكت إيران بوجوده وتسليحه، ما حتّم أيضاً بقاء الأميركيين سواء لأن خطر “داعش” لم ينتهِ وإن تقلّص، أو لأن الوضع العراقي احتاج إليهم كعامل توازن مع تفاقم سطوة “الحشد” الذي صار جيشاً موازياً تمدّه طهران بصواريخ متطوّرة ويشكّل تهديداً للدولة وقواتها المسلّحة. قوبلت صدمة اغتيال قاسم سليماني من جانب ايرانيي النظام ومناصريه في الخارج بصيحات “الثأر”، وساهم قادة النظام في إزكاء التهويلات وغذّوها وتركوها تتفاعل. نسي الجميع أن إرسال قادة “الحشد” الى السفارة الأميركية في بغداد ومحاولة اقتحامها وإحراقها كانت استفزازاً مباشراً. ألم يكن ذلك “خطأً” أيضاً أم أن الإيرانيين توقّعوا أن يخاف الأميركيون ويفرّوا منسجبين؟ وفي تحليل الشدّة المفرطة التي اتسم بها القصف الأميركي على مواقع “كتائب حزب الله” العراقي وإنزاله عشرات القتلى والجرحى في صفوفه، نسي كثيرون أو تناسوا أن هذا الفصيل “الحشدي” أطلق وابلاً من الصواريخ على قاعدة كركوك وقتل اميركياً وأصاب آخرين، فهل كان الإيرانيون وحشدهم يتوقّعون أن يسكت الأميركيون ويتجاهلوا أن هذا الهجوم كان الحادي عشر في سلسلة بدأت بنهاية تشرين الأول (أكتوبر) الماضي؟.. كان واضحاً أن إيران بدأت مساراً تصاعدياً ضد الوجود الأميركي في العراق تحديداً وفي المنطقة عموماً، وجرى تأكيده في المعلومات عن اجتماع سليماني مع قادة “الحشد” في فيلا في بغداد منتصف أكتوبر (رويترز). المرجّح أن الاميركيين حصلوا على المعلومات بالتنصّت أو من مصادر عراقية، وراحوا بعد ذلك الاميركيون يترقّبون “الخطأ”، إذ رصدوا تحركات “كتائب حزب الله” التي انتدبت للاقتراب من المعسكرات وتنفيذ هجمات، وأبلغوا الحكومة العراقية بل أنذروها، ثم حصل “الخطأ” بسقوط قتيل أميركي فكان الردّ القاسي على تلك “الكتائب”. وفي الوقت نفسه رصد الاميركيون تحركات سليماني ووجوده أخيراً في بيروت ثم دمشق فمطار بغداد حيث كانوا في استقباله. قد يكون قرار اغتياله طُرح أمام ترامب بناء على تقاطع كل المعلومات عن قيادته استهدافاً مباشراً للقوات الأميركية، لكن تهديد البعثة الديبلوماسية في بغداد وحضور قادة “الحشد” للتظاهر وظهور شعار “سليماني قائدنا” على جدران السفارة حسمت القرار، كرسالة ردعية حاسمة لطهران. هذا لا يعني أن واشنطن تجاهلت أهمية الشخص ولا خطورة ما تُقدم عليه، لكنها لم تكن لتجلس وتتلقّى ضرباته وتتفرّج عليه وهو يُشرف على تنفيذ خططه ضدّ قواتها. أسهل القرارات عند ترامب الانسحاب، لكنه أيقن أخيراً أن إيران لا تبحث عن تفاوض (تعتبره مذلّاً في ظل العقوبات) بل عن مواجهة متصاعدة (تهدف الى إذلاله أمام الاميركيين وإفشال إعادة انتخابه لولاية ثانية). لا شك في أن هذا الدافع هو بين تلك التي جعلت سليماني يعيد، بأمر من المرشد، صياغة مهمات ميليشياته المنتشرة في أربعة بلدان. فمن الدوافع أيضاً أن كل مصادر طهران عبّرت عن خشيتها من السنة 2020 التي ستتعمّق فيها تداعيات العقوبات على اقتصادها وقدراتها، إلا أنها قرّرت جعلها سنة انتظار “مصير رئاسة ترامب” وأن تكون مساهمة في سقوطه الانتخابي، ولذلك كان لا بدّ من تدشين مواجهة ساخنة على أن تبدو معزولة عن مسرح التوتّر الرئيسي في الخليج، لكن المخطط الإيراني أخذ في الاعتبار أنه كلما ازدادت الضغوط على ترامب كلما تعزّزت شعبيّته ولذلك كان (ولا يزال) مطلوباً قتل اميركيين بأعداد كبيرة… أما الدافع الآخر للتصعيد فتمثّل في الانتفاضة الشعبية العراقية التي اعتبرتها طهران “مؤامرة أميركية” وفشلت ميليشياتها في اخمادها بالقوة، لذا شعرت بالحاجة الى عمل جانبي استثنائي يغيّر الأولويات في العراق ويرسّخ النظام الذي صاغته إيران وتديره. لم يكن خيارٌ كهذا متاحاً في لبنان باستدراج حرب مع إسرائيل لإجبار الانتفاضة اللبنانية على الانكفاء، لكنه بدا ممكناً في العراق من خلال الفرصة التي يتيحها “الحشد” ضد الوجود الأميركي. العالم يترقّب الردّ/ الثأر الإيراني وما قد يعقبه، خصوصاً أنها المرّة الأولى التي تقترب فيها واشنطن وطهران من التماس المباشر. إذا كانت إيران-“الدولة” هي التي ستتولى الردّ فقد يكون هناك هامش لتفادي حرب مدمّرة لطالما سعت طهران الى إبعادها عن أرضها. أما إذا تولّته إيران-“الثورة” مع إذرعها المنتشرة فستقع تلك الحرب التي كانت دائماً متوقّعة لكن مستبعدة. كثيرون لم يعودوا يميّزون بين هاتين الإيرانَين لكن اللحظات المصيرية تحتّم على نظام الملالي أن يختار. فإيران تحت العقوبات قد تكون قادرة على إشعال حرب أما الاستمرار فيها فهذه مسألة أخرى لا يحسمها انتشار ميليشيات موالية ومستعدة للعمل ولا وجود ترسانة سلاح هائلة.

—————————

هل ستستفيد تركيا من مقتل قاسم سليماني؟/ علي حسين باكير

في 2 يناير الحالي، مزّقت عدّة صواريخ من طائرة أمريكية من دون طيّار جسد قاسم سليماني، و9 آخرين معه من الحرس الثوري والحشد الشعبي الموالي لإيران في العراق على رأسهم أبو مهدي المهندس. وعلى وجه السرعة، توالت ردود الأفعال الإقليميّة والعالمية، وتراوحت بين النأي بالنفس وبين المطالبة بالامتناع عن التصعيد، باستثناء تركيا التي غابت عن المشهد وانتظرت حتى اليوم التالي لتُبلور ردّها الرسمي الأوّل على العملية.

وزارة الخارجية التركية أصدرت بياناً قالت فيه إنّها قلقة من التصعيد الحاصل، وترفض تحويل العراق إلى ساحة حرب لأطراف النزاع، مشيرةً إلى أنّ أي تصعيد سيؤدي إلى مفاقمة حالة عدم الاستقرار. وأكّدت وزارة الخارجيّة في بيانها بأنّ تركيا ضد التدخّلات الخارجية والاغتيالات والمذهبيّة، داعيةً الأطراف المعنيّة إلى ضبط النفس. بيان الخارجيّة التركية تمّت صياغته باحترافية عالية للتعبير عن موقف متوازن ليس لناحية دعم الطرفين أو لترك مسافة بينهما بقدر ما كان بمثابة موقف مضاد لهما.

البيان تجاهل ذكر سليماني بالاسم، وأشار إلى السياسة المذهبية التي كان ينشرها ويغذّيها عبر فيلق القدس والحرس الثوري في المنطقة وهو الأمر الذي كان له دور في ولادة تنظيم “داعش”، كما أنّه أشار إلى ضرورة تحييد العراق وعدم تحويله إلى ساحة إلى تصفية حسابات وهو ما ظل الجانب الإيراني يمارسه لسنوات طويلة الأمر الذي أضرّ بشكل كبير بمصالح تركيا في العراق. تلا ذلك اتصال بين الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان ونظيره الإيراني حسن روحاني قدّم فيه التعازي له وحثّه على عدم التصعيد مع الولايات المتّحدة الأمريكية.

وفي تصريح لاحق له، قال وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو إنّ الرئيس التركي أجرى اتصالات هاتفيّة مع نظرائه في عدد من الدول من أجل خفض حدّة التصعيد بين طهران وواشنطن، مؤكّدا في نفس الوقت على ضرورة تحييد العراق.

قراءة التحرّكات الدبلوماسية التركية في هذه الأزمة تشير إلى ثلاثة أمور تحديداً.

الأمر الأوّل هو أنّها ليست جزءاً من الصراع الجاري بين إيران وحلفائها من جهة والولايات المتّحدة وحلفائها من جهة أخرى، وليس لديها مصلحة في زجّ نفسها في وسط هذه المعركة القائمة بينهما. الثاني هي أنّها ليست معنيّة بحصول تصعيد إيراني- أمريكي، فهي تحاول النأي بنفسها عنه من خلال التركيز على دورها في حث الطرفين على التهدئة. أمّا الثالث وهو الأهم، فيتمثّل في محاولة التموضع من أجل الاستفادة من هذا الصراع عندما يكون هناك فرصة لتحقيق ذلك.

إذا ما عدنا إلى الموقف التركي من جولات التصعيد الأمريكية- الإيرانية التي حصلت في الخليج العربي في الفترة بين مايو وسبتمبر 2019، سنلاحظ أنه لم يكن هناك مواقف تركيّة يستحق الوقوف عندها في هذا الصدد وذلك بالرغم من أنّ أنقرة كانت قد أصبحت لاعباً مهمّاً في معادلة أمن الخليج منذ العام 2010 وذلك بحكم تواجدها في قطر.

في حقيقة الأمر، عمدت تركيا إلى الحفاظ على مسافة في الصراع القائم بين إيران والسعودية خلال المرحلة الماضية، واستجابت كذلك للضغوط الأمريكية بالالتزام التام بالعقوبات المفروضة على إيران، وقد أدّى ذلك إلى مكافأة أنقرة بتخفيض الرسوم المفروضة على صادراتها من الصلب إلى الولايات المتّحدة الأمريكية. علاوة على ذلك، ثمّة أولويات داخلية تركية مرتبطة بمصالح الدولة وأمنها القومي تسمو على صراعات الآخرين الإقليمية، ولذلك فهيّ تحدّد ترتيب الملفّات التي تعني الجانب التركي إقليمياً ودولياً.

الملف الليبي وملف شرق حوض البحر الأبيض المتوسط على وجه التحديد يحتل أولوية الآن في الأجندة التركية. تركيز أنقرة ينصب بشكل مباشر على هذين الملفين حالياً، ومن المتوقع أن يبقى الامر كذلك لمدّة غير قليلة من الزمن. ولذلك يمكن تفسير تأخرّ الموقف التركي من مقتل سليماني من هذا الباب بالتحديد.

الأكيد أنّه وبغض النظر عمّا قد يراه البعض في العلن عن تفاهم محدود أو تعاون جزئي تركي-إيراني، فإنّ أنقرة حذرة جداً من التحركات الإيرانية في المنطقة سيما وأنّها تتناقض مع مصالح تركيا سواء في العراق أو سوريا أو لبنان أو حتى اليمن، ولولا المواقف السعودية المتهوّرة والغبية في كثير من الأحيان، لاسيما بعد العام 2017، لأعفى ذلك أنقرة من أخذ الحسابات الإيرانية بعين الاعتبار تماماً.

لطالما كان هناك تفاهم أمريكي- تركي على الحد من نفوذ إيران الإقليمي، وبالرغم من أنّ هذا الأمر لم يتطور إلى برنامج عمل مشترك بينهما لأسباب ليس هذا مجال نقاشها، إلا أنّه لا ينفي أنّ تكون أنقرة تنظر بعين الرضى سراً إلى مقتل سليماني. لكن ماذا عن تداعيات هذا العمل على موقع ودور تركيا إقليمياً؟

هناك من يشير إلى أنّ مقتل سليماني سيُحدث تخلخلاً في نفوذ طهران الإقليمي على الأقل على المدى القصير، وهو ما قد يفسح المجال لأنقرة للاستفادة من أي تراجع في دور الحرس الثوري الإيراني في المنطقة. عمل الحرس الثوري بقيادة سليماني لوقت طويل على تقويض نفوذ ومصالح تركيا في سوريا والعراق والمنطقة بشكل عام، كما كان له عدّة مواقف عدائية من أنقرة، وهدّد سابقاً باستهداف رادار الناتو الذي استضافته تركيا قبل سنوات.

قد يؤدي خروج القوات الأمريكية من العراق إلى دفع سنّة وأكراد العراق للتقارب بشكل أكبر مع تركيا من أجل محاولة موازنة نفوذ إيران التي تمثّله الميليشيات الإيرانية الحاكمة في العراق، لكنّ من الممكن أن يؤدي الخروج الأمريكي التام من بلاد الرافدين إلى وضع العراق تحت النفوذ الإيراني المباشر بشكل كامل، وهذا قد لا يصبّ في صالح أنقرة على الإطلاق.

أمّا في حال التصعيد الأمريكي- الإيراني، فهناك من يري بأنّ ذلك قد يعيد ذلك القيمة الاستراتيجية للقواعد العسكرية في تركيا على اعتبار أنّ أنقرة ستكون المكان الوحيد الذي لن يتجرّأ الإيرانيون ربما على استهدافه مقارنة بجيرانها في الخليج. لا يعني ذلك أنّ تركيا ستفتح قواعدها لضربات داخل إيران أو لغزو، وإنما ستكون واشنطن بحاجة إلى استخدام القواعد ربما للدعم اللوجستي، وهو ما سيراه المسؤولون الأتراك بمثابة فرصة ثمينة لمحاولة انتزاع تفاهمات مع ترامب في الإقليم.

تلفزيون سوريا

————————–

نهاية رجل جبان/ محمود الحمزة

بلا شك، أثار مقتل المجرم قاسم سليماني ردات فعل واسعة في المنطقة والعالم. كيف لا وهو قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني، والذراع الأيمن للمرشد الأعلى علي خامنئي، ويقال إنه المدلل لديه، لما يلعبه من دور خطير في المنطقة العربية وخارجها.

ونحن -المناصرين للثورات العربية- فرحنا بنفوق هذا الرجل الجبان المجرم، الذي يُعدّ مسؤولًا عن جلب ميليشيات مرتزقة من كل أصقاع الأرض ليقتلوا السوريين تحت رايات طائفية مقيتة. والمفارقة أن فيلقه يحمل اسم القدس، لكنه يقاتل في المدن السورية: حلب والقصير وفي الميادين وغيرها، وفي العراق وفي اليمن، ولكن القدس في اتجاه آخر. هكذا هي الدعاية الخمينية الكاذبة، حيث إنهم هم من أطلق “يوم القدس”، ويزاودون بقضية فلسطين، مثلهم مثل النظام الأسدي، عندما أسس أبشع فرع مخابرات وأكثرها إجرامًا، باسم “فرع فلسطين”.

كان سليماني يتجول بين العراق وسورية ولبنان واليمن، كأنه يتنقل ضمن حدود الدولة الإيرانية. ووصلت به العجرفة والكبرياء إلى درجة أنه استهتر بشعوب المنطقة وقدراتها، واستهتر بأميركا و”إسرائيل”، وكان ذلك بلا شك دعاية كاذبة، ولولا سماح أميركا له بالفرعنة لما بلغ ما بلغ. وعندما قررت أميركا التخلص منه لانتهاء دوره؛ قضت عليه بلمح البصر.

نظام الملالي حوّل أربع دول عربية إلى رهينة لسياسته وأيديولوجيته التوسعية والطائفية. وقد كان سليماني الحاكم الفعلي لسورية والعراق ولبنان واليمن. وكان قائدًا عسكريًا موغلًا في دماء الشعوب، وخلقوا له هالة وأسطورة تنسجم مع البروباغندا الخمينية التي تذكرنا بالدعاية السوفيتية، فهم يصرفون الأموال في خلق شخصيات وإعدادها لتقوم بوظائف معينة، ويقدّمون لها دعاية إعلامية وسياسية ونفسية وعسكرية، ونسوا أن لكل بداية نهاية.

كانت الأخبار عندما تذكر سليماني ترفق ذلك بهالة معينة ووصف مضخم، بأنه قائد عسكري يستطيع أن يظهر حيث لا يتوقع الآخرون، ويزور الجبهات ويعطي التعليمات، وفي الوقت نفسه يظهرونه على أنه متواضع وبسيط وهادئ.

انتهت أسطورة سليماني، كمجرم حرب وقاتل بدم بارد وطائفي وعدو للشعوب. ولكن ماذا يعني مقتل سليماني؟

واشنطن قتلت سليماني بصاروخ واحد، وقتلت معه مسؤولين آخرين في “الحشد الشعبي” و”حزب الله”، وكلهم مجرمون قتلوا الأبرياء تحت مبررات طائفية مقيتة.

هل نقول إن أميركا تساعد الشعوب وتقتل المجرمين؟ طبعًا لا. ومع ذلك، نحن لا نخفي فرحتنا بقرار ترامب في التخلص من هذا المجرم ذي التاريخ الأسود المليء بالجرائم. ولكن هناك مجرمين آخرين يقومون بجرائم أكبر من سليماني، وما زالوا يسرحون ويمرحون، ولم تقرر أميركا التخلص منهم!

بشار الأسد، طاغية دمشق، قتل مليون سوري، ودمّر البنية التحتية والمجتمعية، وهجّر ملايين السوريين، وما زال يقصف المدنيين -مدعومًا من موسكو- بالبراميل والصواريخ، وترامب يتفرج!

صحيح أن واشنطن أصدرت قانون قيصر ضد النظام السوري وحلفائه، وهو قانون مهمّ يُشكر عليه الكونغرس وترامب، لكن الخطوات الأميركية -مع الأسف- تأتي بطيئة جدًا وقليلة الفاعلية، بينما يُقتل السوريون ويشردون ويموتون من البرد والجوع.

تسع سنوات مرت على انطلاقة الثورة السورية ضد الظلم والاستبداد، ثورة الحرية والكرامة، وما زال القتل والتدمير مستمرًا في إدلب، ويتمّ تهجير السوريين وطردهم من أي مأوى، والعالم صامت، وواشنطن لا تجد وسيلة لإرغام عصابة الأسد على التوقف عن القتل على الأقل.

مقتل سليماني كان خطوة مهمة جدًا في تقليم أظفار الإجرام بحق شعوب المنطقة، ولكنه خطوة جزئية محدودة، إذا ما تحدثنا عن ممارسات الأنظمة المستبدة التي استباحت دماء شعوبها في دمشق وطهران.

من جهة أخرى، نجد في مقتل الرجل الجبان سليماني دعمًا لانتفاضة الشعب العراقي واللبناني بشكل مباشر، لأن سليماني كان جالسًا في بغداد ويخطط لقمع التظاهرات الشعبية، وكذلك كان يسافر إلى دمشق وبيروت، وهو يعطي الإرشادات لأزلام النظام الإيراني: الأحزاب والميليشيات الطائفية ومعهم الأسد المجرم.

إن الوظيفة الإجرامية والخطيرة لنظام الملالي لهي أخطر من الأجندة الصهيونية العالمية، وتهدف إلى قمع الشعوب وإخضاع الدول لسياستها في امتصاص الخيرات وتشييعها وتحويلها إلى مزرعة له، عبر إثارة الفوضى والفتن الطائفية والحروب، وتشكيل الميليشيات الطائفية التي تقوض وجود الدول، كما نرى في لبنان والعراق بوضوح. وكل ذلك يرضي “إسرائيل” وأميركا. ولذلك يجب ألا نتسرع ونحكم بأن أميركا دخلت في مواجهة كبرى مع إيران، وأنها تريد إنهاء نظام الملالي. فالموضوع هو تقليم أظفار وتسخين أجواء، لاعتبارات قد تتعلق بالأوضاع السياسية داخل الولايات المتحدة، وترتيبات داخل منطقة الشرق الأوسط، لمصلحة “إسرائيل” بالدرجة الأولى.

علينا، في خضم الفرحة بمقتل مجرم عنيد وخطير كسليماني، ألا ننسى أن أميركا لن تخلصنا من الوباء، ومن المجرم الآخر بشار الأسد، وعلينا أن نحك جلدنا بأظفارنا، وألا ننسى أن كل الدول المنخرطة في الصراع الدائر على أراضي بلادنا تبحث عن تحقيق مصالحها وتنفيذ أجنداتها، وأنها تستخدم الورقة السورية لتحقيق مكاسب أكبر، ولا أحد منها يفكر في مصلحة شعبنا السوري أو غيره من الشعوب العربية.

جيرون

—————————

عن التمييز بين الضحية والقاتل.. قاسم سليماني نموذجا/ ماجد كيالي

قبل أيام لقي قاسم سليماني قائد ما يسمى “فيلق القدس” حتفه في غارة أمريكية، في بغداد، ما أثار تساؤلات وخلافات كبيرة وعميقة، في الأوساط السياسية العربية، وفي وسائط التواصل الاجتماعي، بشأن دور هذا الرجل ومكانته في إطار المشروع الإقليمي لإيران، كما في شأن تقييم هذا المشروع، الأمر الذي يمسّ بتعريف القتيل، كضحية أو كمجرم.

بداية انطلق المستنكرون لمقتل سليماني، والذين تعاملوا معه كضحية، وكبطل، وكأسطورة، من دلالة أن الرجل كان خطرا على المشروع الأمريكي والإسرائيلي، وأنه قضى في غارة أمريكية، بيد أن هؤلاء ينسون تفصيلا بسيطا، وهو أن أبو بكر البغدادي زعيم داعش، ومدعي الخلافة، كان قد قتل قبل أشهر معدودة، أيضا، في غارة أمريكية (قرب إدلب)، وقبله بسنوات قضى أيضا بن لادن زعيم القاعدة في غارة أمريكية، فلماذا لم يتم التعاطي معهما على النحو ذاته إذن؟ أو هل أن استهدافه من قبل غارة أمريكية دلالة على براءته، أو بياض صفحته؟

أيضا ينسى هؤلاء أن سليماني كان طوال السنوات الماضية، يتحرك في جغرافية ممتدة من طهران إلى لبنان، مع سوريا والعراق، بسلام وأمان، تحت العين الأمريكية، دون أن يتم استهدافه. الأهم من كل ذلك أن هؤلاء يتناسون أن الولايات المتحدة، التي كانت أسقطت نظام صدام حسين في العراق (2003) هي التي قوضت جهاز الدولة العراقي، وحلّت الجيش وكل أجهزة الأمن في العراق، وتاليا هي التي مكّنت إيران، عبر ميلشياتها الطائفية العراقية المسلحة، التحكم بالعراق، والذين جاؤوا على ظهر دبابة أمريكية، ناهيك أنها هي سكتت طوال السنوات الماضية، عن التدخل الإيراني في سوريا.

لا يعني ما سبق بأن ثمة خطة أمريكية ـ إيرانية مرتبة، وإنما يعني تحديدا وجود نوع من التقاطع أمريكي ـ إيراني، أو نوع من التواطؤ غير المباشر، على كل ما جرى نشأ على خلفية حدث 11 سبتمبر (2001)، وتأكد بتواطؤ ايران مع الولايات المتحدة في الغزو الأمريكي لأفغانستان (2002)، وثم للعراق (2003)، بظنّ تيار أمريكي، في حينه، بأن إيران، كزعيمة أو كمركز للإسلام السياسي الشيعي، هي وحدها يمكن أن تلجم صعود الإسلام السياسي السني، وأن خلق مناخات الصراع بين هذين التيارين، هو ما يمكن أن يضعفهما ويستنزفهما، وتاليا فإن إيران وحدها هي من يمكنه القيام بالشغل “الوسخ”، في المشرق العربي، بتفتيت البني الدولتية والمجتمعية (على أساس طائفي)، أي حيث لم تنجح إسرائيل في ذلك منذ قيامها، ولصالح خلق بيئة آمنة لإسرائيل.

وكما شهدنا، فإن إيران بغطرستها وبحماقة قياداتها وتوهماتهم، التي وصلت حدّ التبجّح بالسيطرة على خمسة عواصم عربية (بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء وحتى غزة) قامت بهذا الدور، دون أن تلوي على شيء، والنتيجة أن سيطرتها على العراق منذ 17 عاما لم تجعل من العراق دولة مستقرة ومزدهرة، رغم العوائد النفطية الكبيرة فيها، ورغم مجتمعها الذي يحتوي على نخب متعلمة وقادرة. فعلى العكس إذ بات العراق لا دولة، أو دويلة طوائف، أو دويلة ميلشيات، وبات بمثابة باحة خلفية لإيران.

في سوريا أيضا، تم نقل التجربة الإيرانية في العراق، حيث قامت إيران، وميلشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية (حزب الله وفاطميون وزينبيون وعصائب الحق وبدر وأبو الفضل العباس وغيرهم) بمشاركة نظام الأسد الاستبدادي بقتل مئات ألوف السوريين، وتدمير عمرانهم، وتشريد ملايين منهم. وهي مؤخرا قامت بالوقوف صراحة ضد الحراكات والانتفاضات الشعبية، السلمية واللاطائفية، في العراق ولبنان، أي أن إيران، كنظام، أضحت حارسا للنظم الاستبدادية والطائفية والفاسدة في المشرق العربي.

والسؤال هنا، هل إن البطش بالشعب السوري والعراقي واللبناني يخدم مشروع مقاومة إسرائيل حقا؟ وهل حراسة الاستبداد والفساد والطائفية تضر بإسرائيل حقا؟ وهل عوائد التدخلات الإيرانية في سوريا والعراق ولبنان، أضرت بإسرائيل أكثر أم خدمتها أكثر؟ ثم ألا يوضح كل ذلك أن استدعاء مقاومة إسرائيل هو فقط للتغطية على سعي إيران شرعنة وتعزيز نفوذها في المشرق العربي؟

الآن، في الإجابة على سؤال: لماذا قتل سليماني؟ الحقيقة أن هذا الرجل لم يقتل من أجل القدس ولا فلسطين ولا المقاومة، ففيلق القدس (كشبيه لفرع فلسطين للمخابرات في سوريا)، مجرد يستعير الاسم، إذ انه لم يطلق رصاصة باتجاه القدس، وحتى حزب الله، توقف عن المقاومة منذ عشرين عاما (من العام 2000)، باستثناء تلك العملية في 2006 التي تم خطف جنديين إسرائيليين فيها واستجرت حربا مدمرة على لبنان، اضطرت نصر الله للاعتذار عنها، أي أنه طوال عشرين عاما ثمة عملية واحدة، في المقابل انشغل حزب الله يتعزيز هيمنته على لبنان، ثم على سوريا، بمعنى أن سليماني قتل من اجل أمر أخر.

الحقيقة واضحة في هذا المجال فقد قتل سليماني لأنه تجاوز الخطوط الحمر الأمريكية، قتل في لحظة خطأ استراتيجي لإيران، وذلك بسبب إشرافه على حصار ومهاجمة السفارة الأمريكية في طهران، حيث تم اخذ الأمر بتصفيته وتنفيذه بطريقة فورية، كما شهدنا.

على ذلك فإن الجنرال سليماني، ليس ضحية مدنية أو بريئة لرصاصة طائشة، أو لتقاطع نيران، وإنما هو “ضحية”، أو قضى، بسبب انقطاع التقاطع الأمريكي الإيراني، الذي استنفذ أغراضه، بعد أن وصلت أحوال العراق وسوريا إلى ما وصلت إليه من خراب وتشقق، وهو تقاطع بدأ منذ غزو أفغانستان والعراق الذي سلم لإيران وميليشياتها (٢٠٠٣)، كما سبق وذكرنا. قتل سليماني لأن مهمة إيران انتهت في تخريب المشرق العربي، وان الاستثمار الأمريكي والإسرائيلي في دورها الوسخ قد انتهى، واستنفذ، بدليل المظاهرات التي خرجت في لبنان والعراق، سيما في البيئات الشعبية المحسوبة على إيران.

السؤال بالنسبة للعراقيين والسوريين، هل سليماني ضحية أم قاتل؟ الم يعتدي على سيادة تلك الدول؟ الم يتدخل في شؤونها؟ الم يشكل تنظيمات طائفية مسلحة؟ الم يحرك ميليشياته في لبنان والعراق لقتل المتظاهرين السلميين اللاطائفيين لمجرد مطالبتهم بإسقاط نظم الطائفية والحرامية؟ الم يحاصر ويقتل ويشرد السوريين في جنوبي دمشق والزبداني والقصير وحلب؟ هل هو من الناحيتين السياسية والأخلاقية ضحية أم مجرم؟ وهل ما فعله في شعبي سوريا والعراق يضر بإسرائيل أم يخدمها؟ تلك هي الأسئلة التي تطرح نفسها؟ والخلاصة بالنسبة للكل، وللفلسطينيين خاصة، فإن سليماني قتل في العراق بسبب مهاجمة السفارة الأمريكية في بغداد، ولم يقتل من أجل فلسطين ولا من أجل القدس.

بروكار برس

===========================

مقالات مختارة أضيفت في 6 كانون الثاني 2020

سليماني في سوريا: إدارة الجحيم

بعد مقتله بصواريخ جو-أرض أميركية، يبدو النظر إلى حياة قاسم سليماني شبيهاً للغاية بالنظر إلى حياة النظام الإيراني، الذي قفز إلى السلطة في نهاية السبعينات بعد الثورة الإيرانية، ليتولى الخميني الحكم في طهران معلناً ولادة نظام هجين يضع سلطة رجال الدين فوق سلطة رجال الدولة، فالرجل الذي ظهر اسمه في معركة خرمشهر الثانية عام 1982 خلال الحرب العراقية الإيرانية، اقترب من الموت خلال تلك الحرب الوحشية، لكنه نجا ليشرف لاحقاً على كتائب الحرس الثوري الإيراني المنتشرة على الحدود مع أفغانستان، إلى أن عينه خامنئي عام 1998 في منصب قائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني، وهو الجناح المسؤول عن العمليات الخارجية.

وضع هذا المنصب سليماني على تماس مباشر مع التنظيمات والجماعات المرتبطة بإيران في المنطقة، وكانت ميليشيا حزب الله اللبنانية أبرز تلك التنظيمات في ذلك الوقت. بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001، جرى لقاء بين دبلوماسيين إيرانيين بإشراف سليماني ومسؤولين أميركيين، لبدء عملية تعاون لضرب نظام طالبان في أفغانستان، ويبدو أن خبرة سليماني الأفغانية كانت مناسبة للغاية للعب مثل هذا الدور. وعلى الرغم من توقف تلك القنوات المباشرة بين واشنطن وطهران، إلا أن سليماني كان قد انخرط في عملية بناء تفاهمات شديدة التعقيد بين الولايات المتحدة وإيران، شملت أفغانستان والعراق، وأتاحت تخفيف الهجمات ضد الأميركيين في المناطق الشيعية في العراق، وبناء طبقة سياسية شيعية في العراق، موالية لطهران ولا تعترض على الوجود الأميركي، كان مثالها الأبرز نوري المالكي.

في سياق هذه العلاقة، ساعدت إيران الاستخبارات الأميركية في اصطياد قادة تنظيم القاعدة وقادة في طالبان الأفغانية، لكن هذه العلاقة لم تستقر على وضع ثابت، وتخللتها عقوبات أميركية وصِدام سياسي علني ومفاوضات عسيرة حول البرنامج النووي الإيراني، لكنها في الوقت ذاته حافظت على مستوى من الاستقرار في حدّه الأدنى، يسمح بتمدد إيران داخل العراق، مقابل سكوتها عن الوجود الأميركي، ومن ثم إفساح المجال أمام انسحاب هادئ لواشنطن خلال عهد الرئيس باراك أوباما.

كان سليماني حاضراً في هذه العلاقة المركبة، يقوم بإدارة النفوذ الإيراني وتنفيذ أوامر المرشد. وقد أتاح الأميركيون لطهران أن تمتلك نفوذاً جديداً بعد حزب الله، إذ أصبح العراق في يد طهران، وبدأ نجم سليماني بالسطوع في هذا السياق بالتحديد.

تمت ترقية قاسم سليماني إلى رتبة لواء بداية العام 2011، وهو لم يكن مجرد ترفيع عادي حتى لو أن شروطه كانت مكتملة من الناحية الرسمية، فقد رأى النظام الإيراني في الربيع العربي معركة مصيرية للحفاظ على نفوذه في المنطقة، وجرى رسم الاستراتيجية الإيرانية لخدمة هذا الهدف، الذي كانت سوريا في القلب منه.

بعد انطلاق الثورة في سوريا ربيع العام 2011، حسم الإيرانيون خياراتهم سريعاً بالوقوف مع بشار الأسد والحفاظ عليه مهما كلف الثمن، إلا أن آثار التدخل الإيراني الواضح لم تظهر بشكل علني سوى مع اقتراب نظام بشار الأسد من الانهيار عام 2012، الذي شهد أحداثاً عدّة من بينها تفجير خلية الأزمة، ليصبح وجود ميليشيا حزب الله المرتبطة بإيران واضحاً للغاية منذ بداية 2013، خاصة في مناطق حيوية بالنسبة لها مثل القلمون الغربي وريف حمص الجنوبي الغربي.

شهد عام بروز النفوذ الإيراني في سوريا عدة تحولات رئيسية في استراتيجية النظام لقمع الثورة السورية، حيث توسع النظام في العمليات العسكرية، ومن ثمّ توجه إلى تطبيق عمليات حصار وتجويع ضد المناطق التي استعصت عليه عسكرياً، ليس كعقاب لها كما كان الحال في 2011 و2012، بل كاستراتيجية عسكرية تهدف إلى تغيير وجه تلك المناطق إلى الأبد، فقد ترافقت عمليات الحصار والتجويع مع حملات قصف مستمرة من دون توقف على تلك المناطق، وشهد شتاء 2013-2014 حالات وفاة نتيجة سوء التغذية في مخيم اليرموك والغوطة. كانت المجاعة تجتاح المناطق المحاصرة، وكان بروز الدور الإيراني في سوريا مترابطاً بشكل لصيق مع استخدام هذه الاستراتيجية.

قاسم سليماني كان رجل إيران في سوريا، وكان قد شرع في تنظيم بنية جديدة لقوات النظام، إذ بدأت قواته بتدريب وتشكيل ميليشيات طائفية موازية لجيش النظام الذي تمّ اعتباره غير كفؤ، وبدا أن تلك الميليشيات المشكلة تحت ظلال الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، ستكون الذراع الإيراني في العمليات العسكرية ضد المناطق الثائرة في البلاد.

بالتوازي مع تشكيل ميليشيات «الدفاع الوطني»، وميليشيات أخرى بهوية طائفية واضحة مثل كتائب أبي الفضل العباس من سوريين وعراقيين، استقدم سليماني ميليشيات عراقية للقتال في سوريا، وبدأ ببناء ميليشيات أفغانية تقاتل كمرتزقة إلى جانب النظام، الذي أصبح أكثر خضوعاً للنفوذ الإيراني الذي أنقذه من السقوط عسكرياً في الفترة بين عامي 2012 و2013.

نجح الإيرانيون بقيادة سليماني في إنقاذ بشار الأسد من السقوط، لكنهم لم يستطيعوا تغيير موازين القوى لصالحه بشكل حاسم، إذ بقيت أجزاء واسعة من سوريا بيد فصائل المعارضة، وفصائل جهادية مناوئة للنظام، وكان الحل في جلب مزيد من الدعم من حليف مشترك للإيرانيين وبشار الأسد؛ بوتين الذي كان قد لعب دوراً واسعاً في حماية النظام سياسياً في مجلس الأمن ومنع إقرار أي قرار أممي تحت البند السابع ضد النظام السوري. بدا ذلك المخرجَ الوحيد من الاستعصاء الذي دخلت فيه الأوضاع في البلاد، ويُظهر تقرير نشرته وكالة رويترز أن قاسم سليماني شخصياً كان الرجل الذي ذهب إلى موسكو لإقناع بوتين بالتدخل عسكرياً لصالح النظام، وفرض معادلة قوة جديدة في البلاد عام 2015.

نجح سليماني مجدداً في خطته، فقد انخرطت موسكو بشكل واسع في الحرب السورية، من خلال عمليات قصف وحشية أدت إلى دمار لا يمكن تخيله في أحياء حلب الشرقية وبلدات الغوطة المحاصرة وغيرها، مغيرةً مسار الأحداث منذ سقوط أحياء حلب الشرقية في يد النظام نهاية العام 2016.

في مقابلة نادرة لقاسم سليماني مع التلفزيون الرسمي الإيراني أجراها قبل أسابيع من مقتله، تحدث قائد فيلق القدس في الحرس الثوري عن خطة إسرائيلية لتهجير شيعة الجنوب في لبنان خلال حرب 2006، بهدف إحداث تغيير ديموغرافي يمنع حزب الله من تشكيل خطر على إسرائيل، وكيف أنّه لعب دوراً رئيسياً في تلك الحرب ومنع تهجير شيعة الجنوب. وبعد عشر سنوات من تلك الحرب بالضبط، نشرت حسابات مرتبطة بالميليشيات الإيرانية في سوريا صوراً لقاسم سليماني يتجول في أحياء حلب الشرقية التي سيطر عليها النظام بمساعدة إيرانية وروسية؛ كانت تلك الصور تقول إن الرجل نفسه هو المسؤول الأبرز عن تهجير أهالي حلب، بهدف إحداث تغيير ديموغرافي يسمح بالإبقاء على السيطرة الإيرانية في سوريا والمنطقة.

لم تكن تلك هي الصور الأولى لقاسم سليماني في سوريا، إذ كان قد ظهر في زيارات عدة قبلها إلى جبهات القتال في ريف حلب الجنوبي خلال العامين 2015 و2016، وهي المناطق التي لا تزال ميليشيات أجنبية مرتبطة بإيران تتمتع بنفوذ واسع فيها حتى الآن. وفي العام 2015 أيضاً، كان سليماني قد زار جبهات القتال في ريف اللاذقية الشمالي، لكن ظهوره بات أكثر تكراراً بعد التهجير من حلب، إذ ظهر في ريف حماة الشمالي خلال معارك العام 2017، وتحدثت أنباء عن إشرافه المباشر على معارك عدة في الجنوب السوري، وهو ما أكدته قناة الميادين في تسجيلات مصورة نشرتها بعد مقتله، ليتكرر حضوره بعدها في ريف دير الزور الشرقي بعد سيطرة قوات النظام على أجزاء منه، وهي المنطقة التي تعتبر إيران أن إحكام السيطرة عليها أمرٌ حيويٌ لاستكمال مشروعها في المنطقة. ولعلّ آخر ظهور مصوّر لسليماني في سوريا كان هناك، عندما زار مدينة البوكمال في تموز (يوليو) 2019، وهي الزيارة التي قالت الأنباء إن الهدف منها كان الإعداد لمواجهة محتملة مع الولايات المتحدة. ولكن خلف الظهور المُصوَّر والمُعلَن، كان هناك حضور يبدو يومياً في إدارة عمل الأذرع الإيرانية في سوريا والمنطقة، تؤكده ظروف مقتله وهو في رحلة من دمشق إلى بغداد.

أدار سليماني خلال كل تلك الفترة علاقة معقدة بين ميليشيات موالية بشدة لنظامه من جهة، وبين حكومة ضعيفة مرتبطة بنظامه أيضاً من جهة أخرى، وقد كانت إدارة العلاقة بين الميليشيات القوية والحكومات الضعيفة هي جوهر استراتيجية سليماني في المنطقة، أما المدنيون الذين قتلوا بنيران قواته، أو عانوا التجويع على يد حلفائه، أو هُجروا من بيوتهم دون أي مجال للعودة، فقد كانوا الضحايا الضروريين لاكتمال قوة ونفوذ سليماني والنظام الإيراني في بلادنا.

لن ينهي موت سليماني هذا النفوذ الآن طبعاً، لكنه قد يكون بداية لذلك، كما أن قتل سليماني ليس قصاصاً كافياً ولا يجلب العدالة للضحايا، لكنه كان لحظة تنفس وفرح للناجين من جحيم الموت الإيراني الذي كان سليماني من أبرز صنّاعه.

موقع الجمهورية

——————————

لا ترامب يريد حرباً ولا خامنئي.. سليماني راح فرق عملة/ بكر صدقي

كل ما في الأمر أن الإيرانيين أخطؤوا، هذه المرة، في حساباتهم، فدفعوا ثمناً باهظاً، وقد بدؤوا فوراً العمل على احتواء الصراع من خلال الرسائل التي يتبادلونها مع الأميركيين بواسطة السفارة السويسرية في طهران.

كانت حسابات إيران، من إطلاق تحرشات الميليشيات التابعة لها بمواقع أميركية، بما في ذلك السفارة، تقوم على استجرار ردود أفعال أميركية من المستوى نفسه، بهدف تمييع حركة الانتفاضة الشعبية المناوئة للهيمنة الإيرانية على العراق. لقد تعامل خامنئي (أم علينا أن نقول سليماني) وكأن الإدارة الأميركية لا همَّ لها غير إنقاذ النفوذ الإيراني المتهاوي في العراق. الواقع أن توقع ردود فعل أميركية “منضبطة” هو استعادة لمذهب حزب الله اللبناني في علاقته بإسرائيل القائمة على “قواعد اشتباك” محددة لا تجعل الذئب يموت جوعاً ولا الغنم يفنى. معادلة يكسب منها الطرفان معاً ولا يسمح بخروجها عن السيطرة.

لم يحسب سليماني حساباً لكون ترامب من النوع الذي لا يمكن توقع قراراته أو ردود فعله مسبقاً، وأن القوة التي يمتلكها بوصفه رئيساً للدولة الأعظم، تفتح شهيته لخلق وقائع جديدة يمكن الاستفادة منها في معركته المستمرة مع مؤسسة الحكم الأميركية، وفي الانتخابات الرئاسية القادمة، بعد أشهر، التي يريد دخولها للحصول على ولاية جديدة.

كان لافتاً، في هذا الإطار، أن ترامب اتجه، فور إعطائه الأمر بتنفيذ عملية اغتيال سليماني، إلى إحدى كنائس المذهب الإنجيلي ليخاطب الجمهور المجتمع هناك لأكثر من ساعة. جمهور يتوق إلى عودة المسيح المنتظر ليخوض معركة أرمجدون ضد الشر في سيناريو القيامة. وهل من هدية أجمل لهذا الجمهور المتعصب من قتل كبير مجرمي مذهب “المهدي المنتظر” ليشكل ذلك سبباً لاندلاع معركة القيامة؟ انتشرت صورة على وسائل التواصل الاجتماعي لقاسم سليماني قتيلاً يحتضنه من قيل إنه علي بن أبي طالب، وكأنه الحسين الشهيد في حضن أبيه. بالمقابل نشرت صحف غربية صوراً دينية لقيامة المسيح ولمعركة أرمجدون. يتشابه الأسلوب الفني في مجموعتي الصور بطريقة غريبة، وكأننا أمام حق في مواجهة حق، لا حقاً في مواجهة باطل كما يعتقد أنصار الجبهتين.

كأننا نستعيد أجواء “صدام الحضارات” لصموئيل هنتغتون، في همروجة إعلامية تبشر بصراعات قيامية تليق بمقتل قاسم سليماني أو “الحسين الجديد” أو “غيفارا الإيراني” بحسب اليسار الغبي.

كان سليماني، بأحد المعاني، ضحية التضخيم الإعلامي المتعمد لدوره “الغامض”! فـ”الرجل – الشبح” كما كان يطلق عليه كان أبعد ما يكون عن هذا الوصف، يكاد أن يكون “نجم إنستغرام” بحسب إحدى الصحف التركية. تظهر صوره الكثيرة على مختلف جبهات القتال والمواقع في لبنان وسوريا والعراق، يشرب الشاي مع “المجاهدين” الذين يملؤون الشوارع دماً ومجازر حيثما حلوا وحل. يرتدي البزة العسكرية وعلى وجهه ابتسامة حيية. حركته من بيروت حيث التقى بحسن نصر الله، إلى دمشق، إلى مطار بغداد حيث سيقتل مع مرافقيه، كانت مكشوفة تنم عن ثقة مفرطة بطيبة نوايا “الاستكبار العالمي” الغاشم المتمثل بدونالد ترامب. وسواء وصلت المعلومات الاستخبارية حول وصوله إلى مطار بغداد من عملاء سريين “من الداخل”، أو من خلال تكنولوجيا الرصد والتتبع المتطورة، فهي ضربة كبيرة ومهينة لهيبة القيادة الإيرانية أمام أنصارها. فهل سيرغم هذا الإيرانيين على الرد بالقسوة ذاتها على الأميركيين؟ تقول الردود التي تم تسجيلها البارحة أنها ستكون أقل من عادية مع حرص على عدم جرح أصبع أي أميركي. فإيران أبعد ما تكون عن الاستعداد لخوض صراع خاسر ضد الأميركيين في هذا الوقت المأزوم.

أما ترامب فقد حقق بهذه العملية النوعية نقطة كبيرة لصالحه في أنظار الإنجيليين الذين يشكلون جزءاً مهماً من قاعدته الانتخابية. ولن يكون بحاجة إلى ورطة عسكرية مفتوحة قد تكلفه مقتل أو جرح جنود أميركيين مهما كان عددهم محدوداً.

من المرجح إذن أن يتم احتواء شرارة الصراع في حدوده الحالية، فلا معارك قيامية ولا مهدياً في مواجهة المسيح. لقد ذهب سليماني “فرق عملة” كما نقول، ولكن الرجل لم يكن مجرد “فراطة” يمكن استبدالها بسهولة. نحن لا نعرف بصورة يقينية مدى أهمية سليماني داخل النخبة الحاكمة، إلا من خلال الصورة التي صدرتها لنا إيران نفسها بهدف استخدامه كفزاعة لإخافة الخصوم في الحروب الإقليمية التي كان يقودها. يمكننا القول، وفقاً لهذه الصورة، أن سليماني أهم بكثير من المرشد علي خامنئي نفسه حين يتعلق الأمر بالخطط الإمبراطورية للنخبة الحاكمة. فهو المخطط والمقرر والمنفذ وموزع الأدوار في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين جميعاً. وإن كان المرشد هو مركز القرار السياسي الأعلى. فالقرار، في الشؤون الإقليمية، يأتي كنتيجة لجهود سليماني وليس من فوقها.

بهذا المعنى ربما من الصعب استبداله بقائد جديد يمكنه أن يملأ الفراغ الناجم عن اغتياله.

بالنسبة لنا، نحن السوريين، قتل مجرم أوغل في دم أطفالنا وهجر أهلنا طوال سنوات. على أمل أن يتبعه زملاؤه الآخرون من القتلة السفاحين. ثم إنه لم يقتل في بيته (ترى هل لديه بيت؟) وبلده، بل في أحد مسارح جرائمه.   

تلفزيون سوريا

—————————-

الأزمة الأميركية- الإيرانية: كيف ترد طهران على مقتل سليماني؟

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

أعلنت الولايات المتحدة الأميركية أنها استهدفت، فجر 3 كانون الثاني/ يناير 2019، بغارة جويّة نفّذتها طائرة مسيّرة، موكبًا في مطار بغداد كان يقلّ قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، اللواء قاسم سليماني، ونائب رئيس مليشيات هيئة الحشد الشعبي في العراق، جمال جعفر آل إبراهيم، المعروف باسم أبو مهدي المهندس، وثمانية آخرين؛ ما أدى إلى مقتلهم جميعًا. وأصدرت وزارة الدفاع الأميركية بيانًا تبنّت فيه العملية، وقالت إن القرار تمّ اتخاذه بناءً على توجيهات مباشرة من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وأن الهدف من العملية هو ردع أي مخطّطاتٍ لهجمات إيرانية في المستقبل. وقد توعد المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية، علي خامنئي، “بانتقام مؤلم”، متعهدًا بأن “عمل سليماني ونهجه لن يتوقّفا برحيله”، كما أصدر مجلس الأمن القومي الإيراني بيانًا قال فيه إن “الانتقام سيكون ثقيلًا ومؤلمًا”.

خلفيات القرار الأميركي

جاء التصعيد الأخير ضمن الاشتباك الأميركي – الإيراني، منذ إلغاء الاتفاق النووي وتشديد فرض العقوبات على إيران، بما في ذلك منعها من تصدير النفط، والرد الإيراني عبر عمليات (مباشرة أو بالوكالة) في الخليج ضد حلفاء الولايات المتحدة، وقد انتقلت أخيرا إلى العراق. والسبب المباشر وراء التصعيد الأخير تمثل في عملية محاصرة السفارة الأميركية في بغداد، ومحاولة قيادات وعناصر في مليشيات الحشد الشعبي اقتحامها، ردًا على استهداف الولايات المتحدة خمسة معسكرات لمليشيا “كتائب حزب الله العراق” في سورية والعراق، اتهمتها واشنطن بالمسؤولية عن قتل متعاقد أميركي وجرح أربعة جنود في هجوم استهدف قاعدة أميركية قرب كركوك. وقد حمّل الرئيس ترامب في تغريدة على “توتير” إيران المسؤولية عن محاولة اقتحام السفارة، وتوعّدها بالمحاسبة، مضيفًا أن ذلك ليس تحذيرًا لإيران بقدر ما هو تهديدٌ لها. وردّ المرشد الأعلى للجمهورية، خامنئي، بتغريدةٍ سخر فيها من الرئيس الأميركي، واستهزأ بتهديداته، مُؤكدًا، في الوقت نفسه، أن ترامب لن يستطيع فعل شيء ضد إيران. ويشير موقف المرشد الأعلى إلى أن حسابات الجانب الإيراني كانت تقوم على فرضيةٍ أساسيةٍ مفادها عدم رغبة الولايات المتحدة في التصعيد، لأسباب عديدة، أهمها:

• أن اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية يقيّد الرئيس الأميركي، ويقلّص من خياراته، ويجعله أقل رغبةً في دخول مواجهة عسكرية مع إيران.

• أن إقصاء الصقور الذين كانوا يدفعون في تجاه مواجهة علنية مع إيران، وآخرهم مستشار الأمن القومي، جون بولتون، يجعل احتمال التصعيد الأميركي تجاه إيران أضعف.

• ترك سلوك ترامب خلال مدة رئاسته انطباعًا بأنه يفضّل استخدام وسائل مواجهة اقتصادية ودبلوماسية، ولكنه ليس رجل حرب، وذلك على الرغم من تظاهره اللفظي بالعظمة. وقد ترسّخ هذا الانطباع أكثر، بعد أن اختار ترامب عدم الرد على أيٍّ من الهجمات التي اتُهمت إيران بتنفيذها ضد الولايات المتحدة وحلفائها، بين أيار/ مايو وأيلول/ سبتمبر 2019، بما فيها عزوفه عن الرد على إسقاط إيران طائرةً بلا طيار أميركية باهظة الثمن (130 مليون دولار) في تموز/ يوليو 2019، مبرّرًا ذلك بأن قتل عدد كبير من الإيرانيين جرّاء ضربات أميركية محتملة لا يتناسب مع إسقاط طائرة مسيرة.

ربما دفعت هذه المعطيات الإيرانيين إلى التصعيد، لكي لا تبقى سياسة العقوبات والحصار التي فرضها عليهم ترامب بعد انسحابه من الاتفاق النووي في أيار/ مايو 2018 بلا ثمن. لكنهم لم يتوقعوا رد فعل أميركيًا كبيرًا. وقد جاءت حادثة السفارة لتدل على عدم إدراك الإيرانيين حساسية مثل هذه الخطوة، في هذا الوقت تحديدًا، بالنسبة إلى الرئيس ترامب؛ فقد سارعت وسائل الإعلام الأميركية، فور ورود أنباء عن محاصرة السفارة الأميركية في بغداد، ومحاولة اقتحامها، إلى استحضار سيناريو اقتحام السفارة الأميركية في طهران، وأخذ موظفيها رهائن عام 1979، وكذلك مهاجمة السفارة الأميركية في بنغازي حيث قتل السفير الأميركي، كريستوفر ستيفنز، في أيلول/ سبتمبر 2012. كما جرى الربط بين الحادثتين وخسارة الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، الانتخابات الرئاسية عام 1980 بسبب أزمة الرهائن، وكذلك خسارة هيلاري كلينتون الانتخابات الرئاسية عام 2016؛ بعد أن جرى تحميلها إعلاميًا المسؤولية عن ضعف الإجراءات الأمنية التي أدت إلى قتل السفير الأميركي في بنغازي.

كان واضحًا، بحلول هذا الوقت، أن موضوع تأمين السفارات الأميركية في الخارج قد تحوّل إلى ما يشبه الهوس بالنسبة إلى الحكومة الأميركية عمومًا، وإلى رئيسٍ يواجه تحدّيات داخلية كبيرة في سنةٍ انتخابيةٍ حاسمة، خصوصًا، فكان القرار بتوجيه ضربة كبيرة إلى إيران، التي فشلت، على ما يبدو، في قراءة المشهد، بهذه الصورة. ولا يستبعد وجود اعتقاد أميركي أن التصعيد الإيراني ضد الولايات المتحدة انتقل من مياه الخليج إلى داخل العراق، ولا بد من ردع إيران قبل تزايد العمليات التي تقوم بها مباشرة أو بالوكالة في العراق، سيما أن مصلحة إيران تقتضي توجيه الصراع داخل العراق من صراع الشارع المحتجّ ضد الحكومة إلى عناوين أخرى، مثل الوجود الأميركي في العراق.

مأزق الرد

يعدّ سليماني الشخصية الإيرانية الأكثر حضورًا وأهمية في سياسة إيران الإقليمية. ولأكثر من عقدين، قاد سليماني فيلق القدس، المسؤول عن العمليات العسكرية الخارجية في الحرس الثوري الإيراني. وهو يعدّ المهندس الفعلي لمشروع إيران الإقليمي، والمشرف على إنشاء المليشيات الموالية لطهران في المنطقة العربية ودعمها وتسليحها وتسييرها. بهذا المعنى، يعد مقتله ضربةً كبيرةً توجّه إلى نفوذ إيران الإقليمي. وعلى الرغم من مسارعة المرشد إلى تعيين نائبه، العميد إسماعيل قاآني، خلفًا له في قيادة فيلق القدس، فإن هذا سيجد صعوبةً كبيرة في ملء الفراغ؛ بحكم المهمّات المتعدّدة التي كان يتولاها سليماني بصفة شخصية، وخصوصًا في المنطقة العربية.

ولإدراكها قوة الضربة، سارعت الولايات المتحدة إلى احتواء انجراف إيران إلى الرد على قتل اللواء سليماني، بإبداء رغبتها في عدم التصعيد. وفي أول ظهور إعلامي له بعد الضربة، قال الرئيس الأميركي إن واشنطن لا تريد أن تبدأ حربًا، ولا تريد تغيير النظام في إيران. كما جدّد رغبته في فتح باب المفاوضات مع طهران، عندما قال إن إيران لم تربح حربًا لكنّها لم تخسر أي مفاوضات. وقد ترافقت محاولات التهدئة الأميركية مع إعلان “البنتاغون” عن نيته إرسال أربعة آلاف جندي من القوات الخاصة إلى المنطقة، في محاولةٍ لتعزيز قدرات الردع الأميركية في وجه إيران، وثنيها عن القيام بإجراءات انتقامية.

وتتعرّض طهران لضغوط كبيرة من أجل اتخاذ إجراءات انتقامية، سواء من القاعدة الشعبية للتيار المحافظ داخل إيران، أو من حلفائها في الإقليم. وتحتاج إيران إلى الرد أيضًا؛ حتى تعيد الاعتبار لسياسة الردع التي تعرّضت لضربة كبيرة. ولكن إيران تواجه معادلة دقيقة؛ كيف يمكنها أن تردّ من دون أن تستدعي ردًا أميركيًا أشدّ قسوة، قد يقود، في نهاية المطاف، إلى مواجهة شاملة؟ وفي هذا السياق، تراوح خيارات إيران بين ثلاثة احتمالات.

1 ـ الرد المباشر

قد تختار إيران مهاجمة أهداف ومصالح تابعة للولايات المتحدة، سواء في محيط إيران الإقليمي (العراق، والخليج، وأفغانستان، وسورية)، أو في مناطق بعيدة عن منطقة الصراع الرئيسة. ويراوح الرد هنا بين اختيار هدف رمزي يمنح إيران مخرجًا؛ إذ يحفظ لها ماء الوجه من جهة، ويقلّل من احتمال حصول رد أميركي عليها، من جهة أخرى، بالنظر إلى أن واشنطن تسعى، هي الأخرى، إلى احتواء التصعيد، واختيار أن تذهب في اتجاه ضرب أهداف أميركية استراتيجية وذات قيمة عالية. ولكن هذا الاحتمال ضعيف، لأنه يحمل مخاطر كبرى، وسيؤدي إلى رد أميركي عنيف، خصوصا إذا سقط فيه قتلى أميركيون. في هذه الحالة، ليس أمام الرئيس الأميركي سوى أن ينفذ تهديداته بتوجيه ضربةٍ كبيرةٍ إلى إيران؛ فهو لا يملك أن يظهر ضعيفًا في سنة انتخابية حاسمة، فالكثيرون سيحمّلونه المسؤولية عن تدهور الوضع بسبب سياساته نحو إيران.

2 ـ الرد غير المباشر

إذا تبنّت إيران هذا الخيار، فسوف يتم تنفيذه عبر حلفائها في المنطقة أو حتى خارجها. وقد تستهدف خلاله إيران مصالح تابعة للولايات المتحدة أو لحلفائها في المنطقة (إسرائيل، والامارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، على سبيل المثال). ويرجّح أن يتحول العراق في هذا السيناريو أيضًأ إلى ساحة صراع رئيسة بين واشنطن وطهران خلال الفترة المقبلة. وعلى الرغم من أن هذا الخيار هو الأفضل لدى إيران، لأنه يُعفيها من المسؤولية المباشرة، ولديها خبرة كبيرة في تنفيذه، فإن مخاطر تحيق به أيضًا، أهمها: أن إيران قد تجد صعوبةً في التملص من المسؤولية عن أي هجماتٍ في هذه المرحلة، وقد تجد نفسها عرضةً لرد أميركي. كما أن حلفاء إيران في المنطقة، خصوصا في العراق ولبنان، في وضع صعب، وبعضهم مثل حزب الله، لديه مصلحة أكبر في الاستقرار، بعد أن غدا يمثل السلطة الفعلية الحاكمة في لبنان. وقد ينفّذ الحوثيون في اليمن هجماتٍ ضد حلفاء الولايات المتحدة (السعودية غالبًا)، وهو أمرٌ قائم على أي حال؛ فهم في حالة حرب معها أصلًا. عدم الرد

قد تضطر إيران إلى امتصاص هذه الضربة، والتركيز على استثمارها داخليًا لتعزيز وضع النظام، وتوحيد الصفوف خلفه في مواجهة العقوبات الأميركية، والانتظار حتى موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، على أمل أن يسقط ترامب ويفوز الديمقراطيون. في الأثناء، سوف تحاول إيران ممارسة الضغوط على الحكومة العراقية لإخراج القوات الأميركية من العراق كليًا، وإذا نجحت، فسيمثل ذلك نصرًا كبيرًا لها.

خاتمة

غيّر إقدام الولايات المتحدة على اغتيال اللواء، سليماني قواعد الاشتباك المتفق عليها ضمنيًا بين الولايات المتحدة وإيران، خصوصا في العراق. وتتمثل هذه القواعد في عدم استهداف قيادات عليا من الطرفين، والتعايش في سياق صراع تنافسي، لكنه يعدّ منطقيًا أيضًا، إذا راجعنا سلسلة الإجراءات العدائية التصاعدية التي بدأت بين البلدين، منذ أعلن الرئيس ترامب انسحابه من الاتفاق النووي في أيار/ مايو 2018، وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، وصولًا إلى محاولة منعها من تصدير نفطها كليًا.

سوف تحاول إيران خلال المرحلة المقبلة إعادة الاعتبار لهيبتها، من دون أن تعرّض نفسها لمخاطر ضربة أميركية كبيرة. وفي المقابل، ستحاول إدارة ترامب تعزيز سياسة الردع في مواجهتها، لمنعها من الرد، ودفعها في اتجاه طاولة التفاوض. ولكن إقامة هذه المعادلة تتطلب أن يقرأ كل طرفٍ نيات الآخر قراءة دقيقة، وفهم حركاته واحتياجاته؛ فأي خطأ قد يدفعهما نحو مواجهة مباشرة.

——————————

ما بعد سليماني: حدود الرد الإيراني وأشكاله

توعدت إيران بالرد على مقتل سليماني كي ترمم ميزان الردع في صراعها مع الولايات المتحدة، لكن ستضع في اعتبارها تفادي أن يكون الرد مسوِّغًا لاندلاع مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة ستقضي بلا شك على المؤسسات الحيوية بالبلاد.

كان فجر الجمعة، 3 يناير/كانون الثاني 2020، ثقيل الوقع على إيران، فقد تلقت ضربة موجعة بمقتل مهندس نفوذها الخارجي، ورجلها القوي، قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، التابع للحرس الثوري الإيراني، في غارة جوية على مطار بغداد بأمر من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب. وقُتل إلى جانب سليماني نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي، أبو مهدي المهندس، وشخصيات أخرى عراقية وإيرانية.

تصفية سليماني تجعل إيران تشعر بأنها مكشوفة بعد أن انهار الردع الذي كان يمنع الولايات المتحدة من المواجهة المباشرة وتفادي استهداف القيادة الإيرانية، وستواجه القيادة الإيرانية أسئلة: إذا لم نرد على تصفية سليماني ستشعر الإرادة الأميركية بالقدرة على تكرار ذلك دون خشية من العواقب، فما هو الرد المناسب لاسترداد الردع؟ وما شكل الرد الملائم حتى لا يؤدي إلى مواجهة شاملة قد تقضي على نفوذ إيران بل قد تشل السير الطبيعي لإيران نفسها؟ وكيف توظف إيران الرد على تصفية سليماني لتعزيز نفوذها وإزاحة العوائق التي تقف في وجهها؟

ضربة في قلب النظام

لعل طبيعة الملفات التي كان يديرها سليماني تعطي مؤشرًا واضحًا على حجم الدور الذي كان يقوم به، كما أنها تقدم مؤشرات عن شكل وحجم الرد الإيراني مستقبلًا، وتؤذن بتغير واضح في قواعد الاشتباك والخطوط الحمراء المرسومة في علاقة الصراع الإيراني-الأميركي.

يعد سليماني الصانع الحقيقي للنفوذ الإيراني الخارجي، الذي جعله من الشخصيات الرئيسية في النظام، ويعد اغتياله ضربة موجهة للجانبين معًا، أي النفوذ وبنية النظام، وتفرض على النظام الإيراني إعادة الاعتبار للردع القائم مع الولايات المتحدة، وهو تجنب استهداف القيادة الإيرانية في مقابل تفادي إيران استهداف الشخصيات الأميركية، وستضطر إلى إعادة الاعتبار لهذا الردع حتى لا يكون اغتيال الولايات المتحدة لسليماني سابقة، توحي بأن بمقدورها تكرار الاغتيال دون عقاب.

وقد بنى سليماني دوره وسمعته في ساحات المعارك؛ فلقد قاد سليماني، البالغ من العمر 62 عامًا، العمليات العسكرية الإيرانية في الشرق الأوسط خاصة في العراق وسوريا، وتحت قيادته، كانت شبكة النفوذ الإيرانية تتسع وتأخذ شكلًا مؤسسيًّا في المنطقة مع دور كبير لحزب الله في لبنان والميليشيات الشيعية في العراق، وكان تدخله في سوريا عاملًا حاسمًا في ترجيح كفة النظام بعد أن وصلت الثورة في سوريا إلى مشارف القصر الجمهوري، كما ورد في مذكرات حسين همداني، القائد في الحرس الثوري الذي قُتل في حلب. وقد أشرف سليماني بصورة مباشرة على عمليات باب عمرو، وريف حلب وسهل الغاب ومعركة القصير التي شكَّلت منعطفًا في الحرب في سوريا.

مبكرًا، انخرط قاسم سليماني في صفوف الحرس الثوري منذ انطلاقته الأولى عام 1981، وكان قائدًا لفرقة عسكرية خلال الحرب مع العراق، وبعد الحرب اضطلع بمهمة مكافحة تهريب المخدرات على الحدود المشتركة مع أفغانستان. وشكَّل العام 1998 نقلة نوعية في مسيرة سليماني وكذلك في مسيرة فيلق القدس عندما صدر قرار تعيينه قائدًا لهذا الفيلق خلفًا لأحمد وحيدي. ولعب سليماني الدور المحوري في إدارة ملف العلاقات مع أفغانستان في فترة حكم طالبان وخلال الاحتلال الأميركي.

في العراق، ساحة النفوذ الإيرانية الأولى، كان سليماني يتحرك في ملفات عدة بعضها سياسي وجُلُّها أمني/عسكري؛ فقد كان له دور بارز في مجريات العملية السياسة العراقية وفي ملف الأكراد، وأدار المواجهات التي قادها الحشد الشعبي ضد تنظيم الدولة، ليعلن، في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، انتهاء التنظيم في رسالة وجهها إلى خامنئي.

التماسك الإيراني

الإجراءات الإيرانية التي أعقبت اغتيال سليماني اتسمت بإبراز الطابع المؤسسي للدولة والاستمرارية واكتفت التصريحات الرسمية في عمومها بحتمية الرد لكن دون تفاصيل عن شكله ومكانه وتوقيته وأهدافه، وتجنب أي مظهر من مظاهر التخبط أو التسرع أو الاضطراب وفقدان السيطرة.

خلال الساعات التالية لمقتل سليماني كانت الاجتماعات في إيران تتواصل على أعلى المستويات ولعل أهمها اجتماع مجلس الأمن القومي الذي عُقد بحضور مرشد الثورة الإسلامية، آية الله علي خامنئي، واستمر لساعات، ليخرج بعدها ببيان هدَّد فيه الولايات المتحدة بـ”عواقب لا مفرَّ منها” جرَّاء قتلها سليماني. واعتبر عملية القتل “أكبر خطأ استراتيجي” للولايات المتحدة في منطقة غرب آسيا وتوعدها بأنها “لن تفلت بسهولة من تداعيات حساباتها الخاطئة”. وسريعًا.

عَيَّنت القيادة الإيرانية مباشرة بعد اغتيال سليماني، نائبه قائدا جديدا لفيلق القدس، العميد إسماعيل قاآني، وهو اسم بارز في الحرس الثوري، ويكشف سجله عن خبرة ميدانية طويلة. ينحدر من مدينة بجنورد الواقعة في شمال شرقي إيران في الحرب العراقية-الإيرانية، وتقلد مهام عدة من بينها قيادة لواء النصر الخامس، ولواء الإمام الرضا 21، ولديه تجربة ميدانية في سوريا ويعد من القادة المؤثرين في هذا الملف. ووفق بيانات وزارة المالية الأميركية، فهو مسؤول عن ملف الدعم المالي لحلفاء إيران في الخارج وقام بمهام تتعلق بإيصال شحنات من الأسلحة إلى جماعات مرتبطة بإيران في المنطقة. وارتبط اسم قاآني بالزيارة المفاجئة التي قام بها بشار الأسد إلى طهران دون تنسيق مع وزارة الخارجية الإيرانية، والتي أدت وقتها إلى استقالة جواد ظريف؛ حيث كان الرجل الذي أعلن “جلب” بشار الأسد إلى طهران، عقب تكهنات في الداخل الإيراني بأن الأسد بدأ يخطو نحو التخلص من إيران في سوريا. وبالرغم من تبريره عدم إبلاغ الخارجية بموضوع الزيارة بالقول: إن الوزارة مسموح لها أن تعرف ما يتوجب أن تعرفه، إلا أنه استدرك بالتأكيد على العلاقات القوية مع حكومة روحاني رغم اختلاف وجهات النظر في بعض القضايا. وهو على غرار قادة الحرس يطلقون التهديدات لإسرائيل، واعتبر في تصريحات سابقة أن إيران عرضة للتهديد الأميركي، وأنها يجب أن تقابل التهديد بالتهديد.

وفيما يتعلق باليمن، كان قاآني، وفق ما نشره موقع “جاده إيران”، هو من تحدث عن صواريخ لدى أنصار الله يصل مداها إلى 400 كلم، وأن إيران ستستمر بدعمهم، كما أنه أدلى بانتقادات حادة للسلطات السعودية في السعودية.

العصا والجزرة مجددًا

بعد قتل سليماني أعاد ترامب تغريدة سابقة له بأن إيران لم تكسب في أي حرب لكنها لم تخسر في أي تفاوض، لكن من الناحية العملية كانت الإدارة الأميركية تتفاوض لتجنب التصعيد، فلقد تلقت إيران عقب عملية تصفية سليماني رسائل أميركية عبر دول وشخصيات تدعوها إلى التهدئة مقابل تطمينات تتعلق بالعقوبات، لكن الدعوات الأميركية لم تتلق الجواب الذي تريد سماعه من طهران. وإذا كان الرئيس الأميركي يعتقد بأن هذه الضربة ستجر الإيرانيين إلى طاولة المفاوضات، فإن الإيرانيين لا يريدون حاليًّا إلا الانتقام.

رغم عظم الضربة التي لحقت بإيران، ورغم ضغط العقوبات الاقتصادية التي فعلت فعلها في الاقتصاد الإيراني ومعيشة الإيرانيين، إلا أنه لا أحد في إيران اليوم يتحدث عن مفاوضات مع الإدارة الأميركية في عهد ترامب، بل إن الأصوات التي كانت تتحدث على استحياء في الأسابيع الماضية على ضرورة حل دبلوماسي مع واشنطن صمتت بالكامل، وانتقلت أصوات كانت ترى بضرورة الحوار إلى صف من يتبنون خيار المواجهة والتصعيد.

قرار ترامب بتصفية سليماني كان نكسة أصابت الحل التفاوضي، وأصبحت خيارات المبادرة الأوروبية لنزع فتيل التوتر فيما يتعلق بالملف النووي أقل جدوى، أما الوساطة اليابانية فلم يعد هناك مجال للحديث عنها من حيث الأصل بالنسبة للطرف الإيراني.

لكن من جانب آخر تدور في النقاش الداخلي الإيراني تحليلات ترى أن قتل سليماني مصيدة نصبها ترامب لإيران لمزيد من التصعيد بغية توجيه ضربة أكبر لها.

سيناريوهات الرد الإيراني

من الواضح أن مقتل سليماني قد أحدث تغييرًا في قواعد الاشتباك بين الولايات المتحدة وإيران، فبعد أن كان يدار من خلال الحرب بالوكالة واستهداف حلفاء واشنطن، على غرار ما شهدته مياه الخليج ومهاجمة أرامكو، فإن ما حدث نقل الصراع إلى مستويات جديدة المواجهة المباشرة، وقد يؤدي إذا ما بقيت كرة الفعل ورد الفعل متحركة ذهابًا وإيابًا بين الطرفين إلى احتمال نشوب حرب شاملة لن يبقى أحد في المنطقة بمنأى عن تداعياتها.

أما ضرورة الرد لأسباب النفوذ الإقليمي، فقد بررت إيران توسعها وتدخلها في كثير من الساحات، خاصة في خطابها إلى الداخل، بصيغة ترفع عناوين مرتبطة بالأمن القومي، وتوجهت إلى مواطنيها بالقول بأن “الحرس يقاتل في تلك الساحات حتى لا يأتي يوم يكون مضطرًّا فيه إلى القتال في طهران والمدن الإيرانية”. ولذلك، فهي مطالبة برد يقول لمواطنيها بأن دولتهم قادرة وغير عاجزة في الإقليم الذي طالما تحدثت عن يد طولى لها فيه. والرد مطلوب أيضًا بغية استثمار الحالة الشعبية التي عكست تعاطفًا شديدًا وصدمة في المجتمع الإيراني الذي تصدر سليماني لسنوات قائمة الشخصيات الأكثر شعبية فيه (%82) وفق استطلاع للرأي تجريه جامعة ميرلند منذ 2016 في إيران.

وكما أن الساحة العراقية كانت الأرضية التي عززت من خلالها إيران نفوذها الإقليمي فإنها هي ذاتها الأرضية القادرة على خلخلة هذا النفوذ، والقضاء على النفوذ الإيراني في العراق من شأنه أن ينسحب على ساحات أخرى؛ وهو سبب آخر يجعل من الرد الإيراني أمرًا حتميًّا. وبالنسبة للحلفاء، فإن إيران مثَّلت على مدى السنوات الماضية حليفتهم القوية وظهرت بمظهر الدولة القادرة، ولهذا أيضًا فهي معنية بصورة كبيرة بالإبقاء على هذه الصورة لدى حلفائها، وأن توصل رسالة بأنها لن تسمح بأن يكونوا لقمة سائغة، فضلًا عن أن طبيعة الرد الإيراني ستؤثر في نجاح وطبيعة أية تحالفات تريد إيران إقامتها مستقبلًا. ولذلك، نجد الحديث الإيراني عن ضربة واضحة وموجعة.

ولا يمكن تصور رد فعل إيراني لا يشتمل على جانب عسكري، وكما قال ممثل إيران في الأمم المتحدة، تخت روانجي: قَتْل سليماني “فعل عسكري يقتضي ردًّا عسكريًّا”. وإن كانت مسألة الرد العسكري المباشر أو غير المباشر لا تزال غير واضحة، وتتفادى السلطات الإيرانية حسمها، بل وتلمِّح للأمرين.

وبناء على ساحة النفوذ الإيرانية، فلا يمكن حصر رد الفعل في الساحة العراقية فقط، على أهميتها وتأثيرها، بل إن مجمل المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط دخلت في دائرة الاستهداف، وفق ما يؤكده بيان مجلس الأمن القومي.

هناك في المقابل عدة اعتبارات تضبط الرد الإيراني، وهي: ألا يؤدي إلى تعريض إيران نفسها لانتقام أميركي واسع يقضي على البنية القيادية والحيوية للبلد، وألا يوفر مسوغًا لترامب كي يرد، خاصة أنه توعد بالرد إذا استهدفت إيران أميركيين، وألا تنزلق إلى حرب ستجعل ترامب يشغل الرأي العام لأميركي بها بدلًا من انشغاله بمشاكله الداخلية وتقوي حظوظه للفوز بالانتخابات الرئاسية مجددًا.

السيناريو الأول (الضرب باستخدام الأذرع): يتمثل هذا في سلسلة عمليات ممتدة زمنية تستهدف المصالح الأميركية من خلال أذرع إيران، وقد يشمل ذلك عمليات تفجير واغتيال؛ وهو سيناريو قابل للتطبيق خاصة وأن قوى مثل الحشد الشعبي كانت مستهدفة بصورة مباشرة من قبل الأميركيين حتى قبل اغتيال سليماني.

هذا السيناريو منخفض التكلفة لا يضع إيران في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، ويرهق الولايات المتحدة، ويفاقم الشقاقات بداخلها، ويحرمها من مبرر مباشر لشنِّ حرب شاملة على إيران، وقد يدفع القوات الأميركية للانسحاب من العراق وسوريا، وهذا يخدم الهدف الرئيس للأمن القومي الإيراني وهو إخراج القوة الأميركية من المنطقة. وقد يشمل هذا السيناريو ساحات أخرى مثل أفغانستان واليمن، ويكون هدفه الرئيسي استنزاف الوجود الأميركي في المنطقة. وقد يشمل هذا السيناريو أيضًا حرب السفارات واستهداف الشخصيات، في تكرار لما حدث عام 1980 وهو الحدث الذي أسقط جيمي كارتر.

يكون الشق السياسي في هذا السيناريو مهمًّا جدًّا، ومن الراجح أن يكون في ملفين: دفع القوات الأميركية الانسحاب من المنطقة، واتخاذ موقف أكثر تشددًا في الملف النووي، قد يصل إلى حدِّ الانسحاب من الاتفاق وإن كانت هناك اعتبارات تحول دون ذلك، منها الحفاظ على التأييد الأوروبي. علاوة على أن إيران ستوظف هذا التوتر من أجل ترجيح كفة حلفائها في العراق وتوفير غطاء للقضاء على الحراك الشعبي العراقي الذي ندد بوجودها وشجب نفوذها.

السيناريو الثاني (استهداف الحلفاء): ويتمثل بتوجيه ضربات قاسية إلى واحد أو أكثر من حلفاء واشنطن وبشكل أساسي إلى السعودية وإسرائيل. وفي سيناريو كهذا، فإن جماعة أنصار الله في اليمن قد تقوم بمهاجمة قواعد ومنشآت أميركية في السعودية، ويعتمد هذا السيناريو فيما يتعلق بإسرائيل بحزب الله في لبنان في مثل هذا السيناريو، لكن طبيعة ما يشهده لبنان من حراك أسقط الحكومة وأحدث انقسامًا سياسيًّا حادًّا، لا يوفر قاعدة صلبة لحزب الله ليتحرك بهذا الاتجاه.

هذا السيناريو عمومًا أقل رجحانًا لأنه يفتح على إيران مواجهة واسعة مع جوارها، تجعل حاجة هذه الدول إلى الوجود الأميركي أشد، مما يتعارض مع هدف إيران الرئيسي وهو إخلاء المنطقة منه.

السيناريو الثالث (الهجوم المباشر): مهاجمة القواعد والمنشآت العسكرية الأميركية في مناطق عدة أهمها في العراق وسوريا والخليج خاصة أن القواعد العسكرية الأميركية تحيط بإيران إحاطة السوار بالمعصم ويتجاوز عددها في منطقة الخليج ووسط آسيا والقوقاز الـ50 منشأة، وتمتلك إيران من حيث المبدأ قدرة صاروخية قادرة على استهداف 36 قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة، وفق ما صرَّح به رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني، مجتبى ذو النور، لكن هذا السيناريو من الممكن أن يقود إلى حرب شاملة تحمل مخاطر وويلات قد لا تكون إيران وكذلك المنطقة قادرة على تحمل تبعاتها. لذلك، ليس من المرجح أن تتطور الأحداث وفق هذا السيناريو لأنه يستدعي ردًّا أميركيًّا شاملًا يفكِّك البنية القيادية للنظام الإيراني ويشل مرافق الحياة العادية.

———————————

مقتل مهندس الإبادة والتهجير/ عروة خليفة

طفلة ترتدي قبعة ولا يظهر وجهها، تبحث بين التراب، تنتزع حشائش من الأرض، لتأكل. يظهر هذا المشهد في فيديو صوّره رامي السيد في حي الحجر الأسود، أثناء حصار مخيم اليرموك وأحياء جنوب دمشق، وهو كان المشهد الأول الذي خطر في بالي عندما قُتل سليماني بصواريخ أميركية قرب بغداد.

في لقاء قيل إنه الوحيد، أجراه التلفزيون الرسمي الإيراني مع قاسم سليماني، روى القتيل شهادته عن حرب العام 2006 بين إسرائيل وحزب الله، وقال إن الخطة الإسرائيلية الرئيسية كانت تقضي بتهجير شيعة الجنوب لتغيير المنطقة ديموغرافياً، لكنها فشلت. بعد هذه الحرب بخمس أو ست سنوات، بدا أن سليماني يواجه معركة مصيرية في سوريا، فقد كان نظام الأسد، الذي يشكل حلقة رئيسية في التحالف الذي بنته طهران طوال ثلاثين سنة من خلال دعم ميليشيات وأنظمة في المنطقة، على وشك السقوط كما جرى مع حسني مبارك وزين العابدين بن علي. لم يكن سليماني ليقبل بالأمر الواقع، ولذلك شرع مع حلفائه في تنفيذ الخطة التي قال إنّ تل أبيب كانت تُبيتها للجنوب.

بدأت موجات الحصار الخانق في سوريا بشكل تصاعدي، بعد أن كانت المناطق التي تحتضن التظاهرات الكبرى ضد النظام قد تعرضت للعقاب الجماعي من خلال تقطيع الطرقات ومنع الخدمات الرئيسية كالكهرباء والهاتف والمياه، ومن خلال حملات مداهمة قامت بها قوات أمنية وعسكرية. في إحدى تلك الحملات، داهمت دبابتان وعشرات الجنود حيّنا في حرستا عام 2011.

لكن الحصار الممنهج الذي استُخدم أداة رئيسية في الحرب تطور بشكل استراتيجي منذ العام 2013، حيث بدأت قوات النظام بمنع دخول أي شحنات غذائية أو طبية من أي نوع إلى مناطق بعينها مثل الغوطة الشرقية ومخيم اليرموك وأحياء جنوب دمشق وداريا والمعضمية في الغوطة الغربية وريف حمص الشمالي وبعض قرى القلمون الشرقي، ما أدى في الواقع إلى حدوث مجاعة حقيقية في بعض تلك المناطق في شتاء 2013-2014. كان الناس يموتون فعلاً بسبب سوء التغذية في مخيم اليرموك وغيره، وكان هذا النموذج غير معهود من نظام الأسد، إذ لم يكن موجوداً في دفتر تعليمات حافظ الأسد عن الإبادة، الذي يتضمن القصف والمجازر، لكنه لم يكن يتضمن الحصار الطويل والتجويع كاستراتيجية لتحقيق الإخضاع وممارسة الترهيب.

على الأرجح، كان سليماني أحد الأشخاص الذين يقفون وراء هذه الاستراتيجية، التي استُخدمت بقسوة شديدة تجاه مضايا والزبداني وقرى وادي بردى على يد ميليشيا حزب الله التابعة لإيران.

لم يكن الخضوع لنفوذ النظام والقبول به حلّاً بالنسبة للمحاصرين، فقد دُفعوا دفعاً للهجرة عن بلداتهم وبيوتهم؛ كان الحصار ينتهي دائماً بالتهجير، بِدءاً من داريا وحلب، ومن ثم الغوطة والقلمون وريف حمص الشمالي. كان سليماني أحد مهندسي التغيير الديموغرافي في سوريا.

يتضح يوماً بعد آخر أن سليماني، الذي حولته صواريخ الهيل فاير الأميركية إلى أشلاء غير واضحة المعالم، كان الشخص المسؤول والمشرف الرئيسي على عمل ميليشيات إيران في منطقة الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن بنية العلاقة غير واضحة تماماً بدقة، إذ ليس معروفاً ما إذا كانت هرمية الشكل فعلاً أم أنّها كونفدرالية ميليشيات شبيهة بكارتيلات المخدرات في أميركا اللاتينية، أم أنها مزيجٌ مُتغيّر من الإثنين، إلا أن دور سليماني فيها كان رئيسياً بالتأكيد، وهو ما يؤكد سليماني بنفسه، عندما قال إنه كان موجوداً على الطاولة مع حسن نصر الله وعماد مغنية لإدارة العمليات العسكرية خلال حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله. لقد كانت خططه تحظى دوماً بدعم المرشد الإيراني علي خامنئي، إلى درجة أنه أصبح في مركز أقوى حتى مِن مَن يفترض أن يكون رئيسه (أي قائد الحرس الثوري)، إذ كان قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني يقود وينسق عمل ميليشيات منتشرة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ويدخل في خطط مع مافيا دولية لتنفيذ عمليات إجرامية، مثل العملية التي تمّ الكشف عنها في الولايات المتحدة لاغتيال دبلوماسي سعودي بمساعدة من كارتيل مخدرات مكسيكي.

في ليلة الخميس-الجمعة، الثاني والثالث من كانون الثاني (يناير) 2020، انطلقت ثلاثة صواريخ من طائرة درون عسكرية أميركية لتستهدف موكباً كان قد خرج منذ دقائق قليلة من مطار بغداد الدولي. الصواريخ التي أصابت الهدف بِدقة، حولت السيارات إلى حطام والركّاب إلى مِزَق، اتضح أنها لقاسم سليماني وأبي مهدي المهندس القيادي في الحشد الشعبي العراقي وعدد من مرافقيهما.

ستغيّرُ هذه اللحظة التاريخ فعلاً، كما قال زعيم ميليشيا حزب الله حسن نصر الله، فالرجل الذي كان عامل ربط بين الميليشيات الإيرانية في المنطقة ويقود معظمها، ويعرف خفاياها الدقيقة ونقاط ضعفها وقوتها وموقعها وحجمها الحقيقي، قد تم محوه من الوجود على درجة ألف مئوية، وهي الحرارة التي يتسبب بها انفجار صاروخ هيل فاير الأميركي.

تصاعدت تصريحات القيادة الإيرانية، وقيادات الميليشيات في العراق ولبنان؛ الانتقام قادم حسب تلك الميليشيات، وقد بدأت مرحلة جديدة من المواجهة مع الولايات المتحدة كما يزعمون. ومن دون شك، سيكون هناك رد إيراني عبر إحدى الميليشيات على الأغلب، لكن التطور الأبرز أن تصريحات حسن نصر الله التي تضمنتها كلمته الأخيرة خلال العزاء الذي أقيم لسليماني في لبنان، كانت تشبه إلى حد بعيد في مضمونها تصريحات أسامة بن لادن نهاية التسعينات، تلك التصريحات التي كانت بداية حرب أميركية على المنطقة قامت إيران باستغلالها لبدء علاقة شديدة التعقيد مع واشنطن، التي احتلت العراق وأحسّت بالورطة في وقت متأخر، حتى جاء الإنقاذ من طهران التي طوعت لبوش القيادات السياسية الشيعية في العراق.

تصريحات حسن نصر الله، التي تضمنت إشارة واضحة إلى عزم المحور الإيراني إنهاء الوجود العسكري الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، ليست سوى تكرار مذهل لكلمات بن لادن، بما في ذلك ربطه انهيار إسرائيل بخروج واشنطن من المنطقة؛ «ربما لن نحتاج إلى حرب مع إسرائيل بعد ذلك… سيخرجون لوحدهم» قال نصر الله، في تبنٍ واضح لفكرة القاعدة المركزية، وهو ما يعني تغيير قواعد الصراع في المنطقة.

لقد كانت الرغبة في توقيع اتفاق نووي مع إيران، وفي إنهاء الوجود الأميركي في العراق، هي ما قاد أوباما إلى التغاضي عن تحركات سليماني في المنطقة، وعن إنشائه شبكة معقدة من الميليشيات التي عاثت فساداً وقتلت وجوعت المدنيين في سوريا واليمن والعراق، لكن أياً من ذلك لا يبدو ممكناً اليوم، وإذا لم يكن نصر الله يكذب مجدداً، فإن التفاهم الإيراني-الأميركي الذي سمح طوال العقدين الماضين لطهران بتوسيع نفوذها العسكري والطائفي، قد وصل إلى نهايته.

موقع الجمهورية

————————————-

رستم الثورة الإيرانية و«بونابرتها»/ سام سعادة

عرفت الثورة الفرنسية «بونابرتها» الذي انقلب على جمهوريتها، ونشر المنطلقات الثورية في عموم القارة الأوروبية في نفس الوقت بصيرورته «نابليون الأوّل» مزعزعاً بإمبراطوريّته «البرجوازية» سلالات النظام الملكي القديم.

كان الشغل الشاغل في الثورة الروسية في المقابل، كي لا يحمل معه «الجيش الأحمر» قائداً بسمات بونابرتية يطيح بهيمنة الحزب البلشفي. تأوّلت الثورة الروسية أحداثها ومنعطفاتها في مرايا الثورة الفرنسية، وجرى توظيف غريزة الإشتباه والتحسس من «البونابرتية» مرة للإطاحة بباني الجيش الأحمر، القادم من خارج السلك العسكري، ليون تروتسكي، ومرة بتصفية الماريشال الفذ توخاتشيفسكي ذي الأصول الأرستوقراطية، قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية رغم نظرياته العسكرية السديدة التي سيتعان بها عملياً في غمرة الحرب. كذلك جرى إبعاد أبرز صناع النصر فيها على ألمانيا الهتلرية، الماريشال جوكوف، عن مركز القرار العسكري كما السياسي، بسرعة بعد الحرب. أما الثورة الصينية فكان لها «بونابرت» خاصتها، في شخص الماريشال لين بياو، الذي كان قاب قوسين من خلافة ماو، في السنوات الأولى من «الثورة الثقافية»، وبالتالي من فرض هيمنة عسكرية على حساب تلك الحزبية، قبل أن تواجهه العراقيل في الجيش نفسه قبل الحزب، ثم تطيح به «عصابة الأربعة» بقيادة زوجة ماو، ويُردى كـ»خائن» حاول استعجال الخلافة التي وُعِدَ بها.

«بونابرت» الثورة الإيرانية عرف مصيراً مختلفاً. لقد نسجت حول اللواء قاسم سليماني، بشكل أو بآخر، هالة بونابرتية. فالرجل قاد «فيلق القدس» أبرز تشكيلات «حرس الثورة الإسلامية» للعمليات الخاصة والخارجية، وواظب على التمسّك بصورة «الجندي» في خدمة الثورة الإسلامية والولي الفقيه «بعيداً عن الأضواء». هذا البعد عن الأضواء تحوّل بحد ذاته إلى إطار لتنامي الأسطورة، التي نسجها الواقع والمخيال معاً، وتقاطعت مع التفتيت الكياني والمجتمعي لبلدان المشرق العربي بالتحديد. قاد إمبراطورية من الميليشيات المهدوية في المنطقة، وأشرف على إدارة القتال بنفسه سواء في سوريا أم في العراق، وهو المشرف أساساً على ملف «حزب الله» منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي. «بونابرت» في هذه الحالة كان يبدو تماماً كذراع متقدمة لـ«المرشد» الثيوقراطي، إلا أنّ السلك «الحرسي» الذي ينتمي له، ويبرع في قيادة عملياته الخارجية، أصبح بنتيجة سطوته في الداخل وحيويته في الخارج معاً، مهيمناً على السلك «الكهنوتي» نفسه الذي على رأسه الولي الفقيه. والنظام الإسلامي ككل، بثنائية الملالي والحرس الذي يستند إليها من دون أن تلغي ركنه الثالث، بيروقراطية الدولة «المزمنة»، كان يجد في هذا الرجل «التركيبة الكيميائية» المثلى بالنسبة إلى صورة النظام المشتهاة عن نفسه، كـ»ثورة دائمة» سريعة الحركة، توظّف التفكير العسكري في منهج الحروب اللامتكافئة، وكيفية المواءمة ضمن هذه الحروب بين ما القطاعات النظامية والتشكيلات غير النظامية. جمع بونابرت إيران في هذه الحالة بين صورة النظام عن نفسه، وعن ثورته، وبين تاريخ طويل من مكافحة أعمال التمرّد، أي ما هو بالنسبة له مكافحة ثورة مضادة، وما هو بالنسبة لأخصامه وضحاياه مكافحة الأفعال الثورية والتحررية نفسها. حتى قبل مقتله، كان سليماني بمثابة ثالث ثلاثة بنظر مقاتلي الميليشيات المهدوية الموالية لإيران في البرّ العربي، من بعد الخميني والخامنئي، وكان المرشد الحالي قد لقّبه بـ«الشهيد الحيّ» يوم توليته «فيلق القدس».

في الثورة الفرنسية، انقلب بونابرت على الجمهورية وصار الإمبراطور نابليون الأول. في الثورة الروسية، كانت السمة البونابرتية لأي شخصية تتكئ على «العسكر» عاملاً مسرّعاً لتهلكة هذه الشخصية أو إبعادها. في الثورة الصينية، كان «بونابرتها» لين بياو يتجهز لخلافة ماو قبل أن يطيح به الصراع الداخلي من جهة، والتقارب الصيني الأمريكي من جهة ثانية. أما في الحالة الإيرانية، فقد أطيح بالهالة البونابرتية من الخارج تماماً، وقبل أن تستكمل بناء ذاتها، أو أقله قبل أن تدلي بما عندها حول سمات خليفة المرشد الحالي في القادم من سنوات. في لحظة محتدمة للغاية، شرق أوسطياً كما بالنسبة إلى الداخل الأمريكي، أقدمت ادارة دونالد ترامب على بتر المآل البونابرتي لنظام الثورة الإيرانية، في الوقت نفسه الذي زادت فيه سيطرة «الحرس الثوري» على تخت السلطة في إيران، بالمقارنة مع السلك الكهنوتي من ناحية، ومع البيروقراطية المزمنة، من ناحية ثانية. أثرُ مصرع سليماني على سطوة الحرس نفسها هو ما يفرض نفسه كسؤال أوّل، وكلّ انتظار للرد الإيراني على القتل الأمريكي، ثم الردّ الأمريكي على الردّ الإيراني، رهن هذا السؤال الأوّل. الكاريزما البونابرتية التي صنعها ليس فقط سليماني حول نفسه، بل التي صنعها النظام الإيراني ككل والميليشيات المهدوية العربية التي إلى جانبه، حول سليماني، هي الآن مقام خال لا يمكن ملؤه مباشرة. أساساً من سمات الهالة الكاريزمية حين تعقد حول شخصه أنها تصعب الأمور أمام من يعتزم إعادة تشكيل هذه الهالة حول شخص آخر.

في تاريخ الفكر العسكري، سيبقى سليماني من أعلام الحروب غير المتكافئة وغير النظامية. لكن مقتله يدفع أكثر فأكثر بالأمور نحو دوامة الحرب النظامية، الحرب المباشرة بين الولايات المتحدة وبين إيران. لا داعي لاستعجال الأيّام المقبلة، أو للنطق بحتمية هذه الحرب، لكن في أقل تقدير الحديث عن أي تسوية بين أمريكا وإيران الحالية، أي النظام المنبثق عن الثورة الإسلامية فيها، بات خارج تغطية الواقع.

بالتوازي، يمثّل سليماني في تاريخ العلاقات بين شعوب المنطقة تداخلاً بين منحى تغلبي «إيراني» غير مسبوق، على العرب، نتيجة الانقسامات العربية الكيانية والمذهبية والسياسية، وبين منحى «مهدوي» عربي موال لإيران، يتجذر في دائرته المذهبية ويتجاوزها في نفس الوقت، ملحقاً به فلول ما بقي من أيديولوجيات منكسرة أخرى.

باعتبار تاريخ العرب والعجم، يبدو سليماني أشبه ببونابرت الساسانيين، رستم فرخزاد، أبرز القادة المتصدين للفتوحات العربية الذي صاح قاتله بعد القادسية «قتلت رستم وربّ الكعبة». مع فارق جوهري، وهو أن رستم العائد بعد أربعة عشر قرناً، يصدر هذه المرة «الإسلام الثوري» للعرب، إسلام الثورة الإيرانية. إسلام ثوري يبدو «عروبياً» فوق اللزوم، بالنسبة للمعارضين الإيرانيين للجمهورية الإسلامية، ويبدو «فارسياً» ومذهبياً بحتاً بالنسبة للمناوئين العرب لها، أو يبدو بالعكس تماماً متجاوزا للمذهبية ومتجاوزا للقومية بالنسبة لكل معسكر الممانعة بين العرب. إسلام ثوري مدمج بنزعات انبعاث المجد الإمبراطوري الغابر للأخمينيين والساسانيين، لكن أيضاً مدمج بنزعة انتابت إيران بعد ثورتها للابتعاد عن هذا التاريخ القديم، نفس التاريخ الذي يهدّد ترامب اليوم إيران بضرب معالمه، إن هي ردّت على قتل سليماني.

قتل رستم فرخزاد مرة جديدة وفي نفس المكان تقريباً. انما على يد الإمبرياليين الأمريكيين هذه المرة، وليس جيوش عمر. جرت الإطاحة ببونابرت الثورة الإيرانية، إنما على يد أعداء نظامها. في هذا التداخل، بين مرايا رستم ومرايا بونابرت يجوز التأمل قليلاً قبل أن يداهمنا باقي المشهد.

كاتب لبناني

القدس العربي

———————————-

اغتيال سليماني والمهندس… تداعيات الحدث/ صادق الطائي

تضاربت الآراء على مدى أكثرمن ساعتين حول الهدف الذي ضرب قرب مطار بغداد الدولي، فجر يوم الجمعة 3 يناير/كانون الثاني، وانجلى دخان السيارة المتفحمة عن هدف كبير، أو كما يسميه الصحافيون (سمكة كبيرة)، وستكون للعملية تداعيات عراقية محلية وإقليمية ودولية بحسب المراقبين. فالقراءة الأولية لما حصل أنها عملية اغتيال لهدف كبير هو الجنرال قاسم سليماني، أهم جنرال إيراني، ويعده المراقبون الرجل الثاني بعد المرشد الأعلى في إيران، قائد فيلق القدس والمسؤول عن العمليات الخارجية الإيرانية، التي تسوق تصدير الثورة الإيرانية إقليميا وعالميا.

وكان برفقة سليماني القادم من سوريا إلى بغداد عدد من الشخصيات، ربما كان أبرزها جمال جعفر محمد علي، المعروف إعلاميا باسم أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق بالإضافة إلى شخصيات من تشريفات الحشد، كما نشرت بعض وسائل الإعلام تصريحات غير دقيقة عن سقوط شخصيات من حزب الله اللبناني، كانت برفقة سليماني في رحلته المقبلة من بيروت، إذ تم الحديث أولا عن مقتل عضو المجلس السياسي في حزب الله اللبناني الشيخ محمد كوثراني، وتم نفي الخبر لاحقا، ثم أشيع خبر مقتل سامر عبدالله، مسؤول جهاز العمليات الخارجية في حزب الله اللبناني، وهو صهر عماد مغنية أحد قادة الحزب البارزين، إلا أن مصادر رسمية من حزب الله نفت سقوط قتلى من عناصرها في الغارة الأمريكية التي اغتيل فيها الجنرال سليماني.

العملية التي نفذتها القوات الأمريكية، بأوامر مباشرة من الرئيس دونالد ترامب، ذكّرت بنمط العمليات التي نفذتها إسرائيل ضد قيادات حماس والجهاد الاسلامي في الداخل الفلسطيني مثل اغتيال الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، إذ يتم رصد الهدف استخباراتيا، ثم تقوم طائرة هليكوبتر أو طائرة مسيرة بقصف سيارة الهدف، وهذا ما تم في عملية اغتيال سليماني والمهندس، اللذين اغتيلا بقصف طائرة امريكية مسيرة من نوع MQ-9 Reaper، لكن حتى الان لم تعرف تفاصيل المعلومات الاستخبارية التي توفرت للقوات المهاجمة، ليتم الانقضاض على هدف بهذا الحجم. وقد تساءل عدد من المراقبين عن عدم اتخاذ شخصيات بهذه الأهمية الحيطة والحذر عند تحركهم داخل العراق، خصوصا مع الأزمة المشتعلة بين إيران والولايات المتحدة، وكانت هنالك بعض الإشارات الخفية إلى احتمالية وجود فخ تم نصبه، واستقدام الجنرال سليماني إلى بغداد لتتم تصفيته بهذه الطريقة، لكن هذا الكلام يبقى حتى الأن في طور التكهنات.

تصاعد الأزمة الامريكية الايرانية اشتعل منذ أشهر، ووصل في بعض مفاصله إلى مديات خطيرة مثل، حادثة إسقاط إيران للطائرة الامريكية المسيرة، وشروع الولايات المتحدة في التهيئة لضربة عسكرية، تم إيقافها من الرئيس ترامب في الدقائق الاخيرة، وكذلك الضربات الصاروخية التي اصابت منشآت أرامكو النفطية السعودية، وتسببت في شل نصف صادرات البترول السعودية، وعلى الرغم من إعلان حركة انصار الله الحوثية مسؤوليتها عن الضربة، إلا أن اتهامات سعودية وامريكية وجهت لإيران، باعتبارها هي من جهز الحوثيين بالصواريخ البالستية. وامتلأت مياه الخليج بقطع البحرية العسكرية الامريكية، وفي المقابل رفعت ايران من جاهزيتها الحربية إلى أقصى المديات، لكن التصريحات السياسية المتبادلة بين الطرفين، كانت تشير إلى عدم رغبة الطرفين باشعال الحرب الشاملة، لكن بقيت الساحات الموازية مفتوحة لحرب بالانابة .

في العراق تعمدت فصائل المقاومة الإسلامية المدعومة ايرانيا، وعبر منظومتها الاعلامية العملاقة، إذ تمتلك 30 محطة تلفزيونية فضائية و40 اذاعة، الهجوم على الحراك الشعبي في مدن بغداد وجنوب العراق، وفي حملة إعلامية غير مسبوقة تمت فيها شيطنة الحراك واتهامه بالعمالة لمخطط امريكي ـ صهيوني لتدمير المنطقة، كما ثبت عبر قرائن عدة ضلوع ميليشيات من فصائل المقاومة الاسلامية في قنص المتظاهرين، وإطلاق النار عليهم، والمشاركة في اغتيال واختطاف واعتقال وتعذيب الناشطين المدنيين في عدة مدن عراقية. وفي خطوات متسقة مع هذه الجهود، ولسحب البساط من تحت أرجل المنتفضين العراقيين الصامدين في ساحات الاعتصام، ابتدأت عدة فصائل منذ أشهر بتوجيه ضربات بصواريخ مورتر وقذائف كاتيوشا وصواريخ قصيرة المدى، يتم إطلاقها على القواعد العسكرية التي تتواجد فيها قوات امريكية، مثل قاعدة عين الأسد، وقاعدة بلد، وقاعدة كيوان، والسفارة الامريكية في المنطقة الخضراء، وتم تسجيل أكثر من 21 اعتداء، من جهات لم تعلن مسؤوليتها عن الضربات، لكن تصريحات رسمية امريكية اتهمت كتائب حزب الله العراقي، بناء على مخلفات الصواريخ التي تم إطلاقها، وطلبت من حكومة عادل عبد المهدي ضبط الفصائل المنضوية تحت مظلة الحشد الشعبي، التي يجب أن تخضع لأوامر رئيس الوزراء، باعتباره القائد العام للقوات المسلحة، لكن من دون فائدة.

كانت خطة فصائل المقاومة الإسلامية، فتح صراع محدود مع الولايات المتحدة يسحب الاهتمام من ساحات الاحتجاج، وبالتالي تتم المطالبة بفض الاعتصامات، بحجة أن البلد أمام تحديات خطيرة، وكانت حادثة الاعتداء على قاعد «كيوان» شمال غرب كركوك، التي قتل فيها متعاقد امريكي، وأصيب عدد من الجنود بجروح، الشرارة التي أطلقت غضب الجيش الامريكي، الذي نفذ ضربات انتقامية على مقرات حزب الله العراقي في القائم داخل العراق، وكذلك داخل الأراضي السورية، وأدى الهجوم إلى وقوع حوالي 24 ضحية وإصابة العديد بجروح، ما أثار حالة سخط شعبي، ورفض للسلوك الامريكي، لكن اللافت في الأمر كان تصريح رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، عندما قال في حديث تلفزيوني، إنه قد تم ابلاغه من القوات الامريكية بالضربة قبيل تنفيذها، لكنه لم يستطع منع الامريكان من تنفيذها نتيجة إصرارهم، بمعنى أن القيادة العراقية كانت تعلم بالضربة، ولم تتخذ الإجراءات اللازمة، على الأقل لتقليل الخسائر.

تحول تشييع جثامين ضحايا القصف الامريكي إلى مسيرة احتجاج غاضبة من جمهور احزاب وميليشيات فصائل المقاومة الاسلامية، التي دخلت بسهولة إلى المنطقة الخضراء، وحاصرت السفارة الامريكية، كما حاول البعض اقتحام المبنى المحصن، من دون أن ينجحوا في ذلك، وكان على رأس المحاصرين للسفارة شخصيات رسمية وحزبية مثل ابو مهدي المهندس وفالح الفياض، وقادة الفصائل مثل قيس الخزعلي وهادي العامري وحامد الجزائري، ما احرج حكومة عبد المهدي وأضعف موقفها أمام الامريكان. الشعارات كانت تطالب بخروج الامريكان من العراق، عسكريا ودبلوماسيا، في مشهد ذكّر بحصار واقتحام السفارة الامريكية في طهران، إبان الثورة الايرانية عام 1979، بل إن البعض ذهب بعيدا، وتذكر مشهد هروب الامريكان من سايغون في فيتنام عام 1975 ووضع فيديو لاخلاء السفير الامريكي بطائرة مروحية من السفارة، ولم يتسن التأكد من صحة الفيديو المزعوم. كل ذلك دفع البنتاغون إلى إرسال 750 جنديا من مشاة البحرية، تم جلبهم في غضون ساعات من الكويت، لدعم حماية السفارة، وجالت المروحيات الامريكية في سماء المنطقة الخضراء لتراقب الموقف على الارض.

تم فض الاعتصام في اليوم التالي، وبدا أن هنالك ارتياحا لانتشار اإشاعة أن المعتصمين أصابوا هيبة الولايات المتحدة واذلوها، وفي غضون أقل من 72 ساعة جاء الرد صاعقا كبيرا غير متوقع، عبر عملية اغتيال الجنرال سليماني وابو مهدي المهندس رجل ايران القوي في العراق، وكانت التصريحات الامريكية الرسمية قد اتهمت الرجلين بالوقوف وراء الهجوم على السفارة الامريكية في بغداد. يتوقع المراقبون ردا ايرانيا، عبر اذرع ايران المنتشرة إقليميا، والمرجح الاكبر من ساحات المواجهة، وهي الساحة العراقية نظرا لتواجد بضعة الاف من جنود الولايات المتحدة في العراق، اما سوريا فتقريبا قد اخليت من الوجود الامريكي، كما أن ضرب المصالح الامريكية في الخليج العربي سيجر إلى غضب امريكي قد يشعل حربا اقليمية شاملة لن تستطع ايران تحمل نتائجها. أما امريكيا، فيرى المراقبون أن قرار ترامب كان متسرعا، وربما كانت وراءه محاولة للبحث عن مخرج من أزمة إقالته التي يفرضها عليه الديمقراطيون، وقد جاءت تصريحات نانسي بيلوسي زعيمة الاغلبية الديمقراطية في مجلس النواب سلبية، ووجهت اللوم للخطوة التي اتخذها الرئيس، إذ اعتاد الرؤوساء السابقون على أن يستمعوا لزعماء مجلس النواب الديمقراطيين والجمهوريين، قبل اتخاذ مثل هذه الخطوات الخطيرة، لكن يبدو أن ترامب حتى لم يستشر مستشاريه الامنيين في الامر. كما صرح جو بايدن نائب الرئيس الامريكي السابق، واصفا اغتيال الجنرال سليماني بالخطوة الخطيرة التي ستزيد من تعقيد المشهد في منطقة الشرق الاوسط وتجرها إلى مزيد من التوتر.

وتبقى الكرة الان في الملعب الايراني والكل يراقب؛ أين، وكيف ومتى، سترد إيران على الضربة الامريكية الموجعة التي تلقتها؟ أما العراقيون فهم يتلون صلواتهم وادعيتهم مع مطلع العام الجديد سائلين المولى أن يجنب بلدهم صراعات الاخرين التي لن تجلب سوى الخراب لعراقهم.

كاتب عراقي

القدس العربي

—————————–

طهران.. التريث قبل الانتقام/ جمال محمد إبراهيم

(1)

ينشد الشعب العراقي في حراكه تجاوز واقع المحاصصة المذهبية والاستقطاب الطائفي، بحثاً عن خياراتٍ تخرج العراق من أزمته المستفحلة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، إلى براحات حكمٍ رشيد. استهدف بعض الشباب العراقي بحراكهم مقار دبلوماسية وقنصلية للولايات المتحدة الأميركية، في غضبتهم على انتهاك سيادة بلادهم بغارات جوية قامت بها طائرات أميركية على مواقع في التراب العراقي. في واقعة تذكّر باسترهان دبلوماسيين أميركيين في طهران بعد سقوط الشاه رضا بهلوي، ونجاح الثورة الإسلامية عام 1979. هاجم شباب الثورة، وجلهم طلابٌ في عشريناتهم، مقرّ السفارة الأميركية في طهران. ربما كان من بين أولئك الشبان فتىً صغير السن اسمه قاسم سليماني. ذلك جزء من وقائع قصة الرهائن الأميركيين قبل نحو أربعين عاماً.

(2)

تُرى، ماذا أراد الشبان العراقيون الذين اتجهوا إلى المقار الدبلوماسية الأميركية؟ هل أرادوا إعادة السيناريو الذي قاد شباب الثورة الإيرانية قبل أربعين عاماً للاستيلاء على السفارة في طهران، والإمساك بعدد من دبلوماسييها الأميركيين أسرى في مقر سفارتهم 444 يوماً؟ تقول المعطيات الماثلة حالياً، والمتغيرات الموضوعية، إنه من المستحيل إعادة مثل ذلك السيناريو، ونحن في مفتتح العقد الثالث من سنوات القرن الحادي والعشرين. بل إنه لضرب من المستحيلات أن يلدغ الأميركي ثانيةً، وقد حصّن مقر سفارته في بغداد بتكلفةٍ وصلت إلى قرابة نصف مليار دولار.

ولكن الأحداث تجري وكأنها في شريط سينمائي. دبّرت الإدارة الأميركية عملية تصفية قائد فيلق القدس، الجنرال الإيراني قاسم سليماني، يوم 3 يناير/ كانون الثاني 2020، وهو في طريقه خارج مباني مطار بغداد، بزعم أن الرجل يعدّ خططاً لاقتحام السفارة الأميركية في بغداد، وفي ذلك تهديد مباشر لسلامة المواطنين العاملين والدبلوماسيين الأميركيين فيها. تبرّر الإدارة الأميركية فعلها بأن قتل سليماني صار لازماً لإحباط تلك الخطط. ويتساءل المرء مستعجباً، فيما لو كان قتل من وضع تلك الخطة سينهيها ويودي بها إلى الفشل!

(3)

بغض النظر عن تقييمنا دور قاسم سليماني، وما يضمره من عداءٍ لمجمل السياسات الأميركية، فإنّ قتل ذلك الجنرال لم يقوّض دور فيلق القدس، أو يحجّم خططه فحسب، بل قوّض، في الحقيقة، دور المجتمع الدولي، وقزّم من إلزاميته، وقذف كلّ مواثيقه واتفاقياته وقوانينه إلى متاهة الإهمال. عملية اغتيال الإدارة الأميركية سليماني جعلت من المجتمع الدولي ضحيةً حقيقية. لقد استخفّت الإدارة الأميركية بمكانة الهيئات والمنظمات الدولية المنوط بها حماية السلم والأمن الدوليين، وأهدرت مصداقيتها. ولعلّنا لا نستعجب من ردِّ الفعل الإيراني الغاضب، إذ فضّل، على النحو نفسه، إغفال أيّ دور يمكن أن يلعبه المجتمع الدولي لنزع فتيل التصعيد، فأعلنت رموزه التي فوجئت باغتيال “رجلها” في الشرق الأوسط، أنها ستنتقم انتقاماً حاسماً لمقتله.

(4)

أيام الحرب الباردة في أواسط سنوات القرن العشرين، لو وقع اغتيال شخص في مثل خطورة القائد سليماني، لما سمعنا بتفاصيل مقتله ولا عرفنا قاتله، إذ يقوم بتلك العمليات عادة جواسيس ورجال مخابرات وأشباح، أشبه بما كنا نتابع من أفلام الجاسوسية المصنوعة في “هوليوود”، في سنوات القرن العشرين. لكنا، ونحن في بدايات الألفية الثالثة، نشاهد ونتابع بالصوت وبالصورة، رئيس دولة هي الأقوى في العالم يعلن بملء الفم أنه من أمر باغتيال الرجل. ماذا يمكن أن يتوقع العالم من رئيس أقوى دولة، يقف معلناً أن شعاره هو “أميركا أولاً”، ويتراجع عن التزامات بلاده نحو المجتمع الدولي، فلا اليونسكو ولا قضايا الهجرة واللاجئين، ولا مشكلات المناخ وسواها من موجبات التعاون الدولي، هي من أولويات اهتمامه، إذ “أميركا أولاً” ولا شيء سواها.

(5)

ولكن، لننظر إلى صورة ذلك الرئيس، وما يحيط بها من مهدّدات تركته قاب قوسين أو أدنى من إطاحته وعزله من رئاسة الولايات المتحدة الأميركية. تداول السلطة في الساحة الأميركية بين الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، انقلب، في عهد ترامب، إلى صراعٍ شرسٍ بين الحزبين، تتخلله ضرباتٌ فوق الحزام وأيضاً تحت الحزام، كما يقال. للمرّة الأولى، ينقسم الأميركيون إلى فئتين متقابلتين، تتربّص كلٌّ منهما بالأخرى. صحافة منقسمة على نفسها. إعلام نصفه مع الرئيس والنصف الآخر ضده. رئيس أميركي أحدث شرخاً يصعب رتقه بين الحزبين اللذين تداولا سلطة إدارة الولايات المتحدة عقوداً طويلة، بل منذ تأسيسها. وصل الصراع والتلاسن بين الرئاسة في البيت الأبيض والأجهزة التشريعية والإعلامية إلى درجةٍ غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة. وعلى الرغم من ذلك، يسعى ذلك الرئيس، بل يحفر بأظافره، ليخرج من الجبّ الذي سقط فيه بشعاره الأخرق: “أميركا أولاً”، فيتحلل من سقطاته الكبرى، أو يجد طريقاً يبقيه رئيساً فترة ثانية. ولكن من يثقَ بحسن اختيار الناخب الأميركي رئيسه، إذ السياسة الداخلية في الأغلب، وليس السياسة الخارجية، هي التي ستحسم الانتخابات الرئاسية المقبلة؟

(6)

ظلّ الاستعصاءُ الماثل في ملف العلاقات الأميركية الإيرانية دائراً حول ثوابت لا يختلف حولها

“لن تقدم طهران على فعلٍ قد يستغله ترامب لإنجاح حملته الانتخابية”

 مع أجهزة الدولة التشريعية من في البيت الأبيض، جمهورياً أو ديمقراطياً، إلا في التفاصيل غير الرئيسة. إذا رأى الديمقراطيون في الكونغرس أن إقدام ترامب على إصدار قرار إعدام القائد الإيراني، والذي تعدّه بعض الدوائر الإيرانية منافساً محتملاً لتولي رئاسة الجمهورية الإسلامية في إيران، هو بمثابة نيته إعلان الحرب ضد إيران، فإن إبلاغ الكونغرس بتلك النية يكون أمراً ملزماً على الرئيس، وفق الدستور الأميركي في مادته الحادية عشرة.

تمتلك طهران، وإن أفصحتْ عن نيّتها الانتقام لمقتل سليماني، قدراً من الحصافة وحسن التقدير، فلن يكون ردّ الفعل الإيراني، في رأي أكثر المراقبين، متسرّعاً، إذ تراهن طهران على تطورات الأوضاع السياسية الداخلية في الولايات المتحدة، والتي قد تفضي، في أبعد التوقعات، إلى عزل الرئيس نفسه، وهو الذي أمر بقتل المسؤول الإيراني الأخطر قاسم سليماني. لن تقدم طهران على فعلٍ قد يستغله ترامب لإنجاح حملته الانتخابية، بل الأرجح أن تنتظر ما ستسفر عنه معركة الديمقراطيين المحتدمة لعزله.

العربي الجديد

——————————

قاسم سليماني..نهاية حقبة/ حسن فحص

في الصراعات السياسية او العسكرية قد يكون من الصعب على طرفي المعركة التنازل عن بعض الشروط التي تمهد  الطريق امام فتح باب التفاوض والتفاهم والتسوية قبل ان يستطيع واحد من الطرفين تحقيق انجاز ميداني يسمح له اما القبول بالجلوس الى طاولة المفاوضات من دون ان يكون من موقع المهزوم، واما ان يذهب الى التفاوض من موقع المنتصر الذي يريد ان يفرض ارادته على الطرف الاخر، وقد لا يعني ان الطرف الذي يمتلك القدرة والقوة المتفوقة صاحب الخيار في تحديد المنتصر والمهزوم، لان هذه الاحكام العسكرية ستكون نسبية بالنظر الى ساحة الصراع وما يمكن ان يحصل عليه المهزوم من نتائج سياسية وميدانية.

ميدانيا، وصلت المنطقة الى حائط مسدود في الصراع بين الولايات المتحدة والجمهورية الاسلامية الايرانية، خصوصا بعد قرار الرئيس دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي والعودة الى سياسة فرض العقوبات الاقتصادية ضد ايران وجدول الاثني عشر شرطا التي حددها وزير خارجيته مايك بومبيو لاي عملية تفاوض مع ايران وتضمن لواشنطن تعديلا جوهريا على الاتفاق الذي سبق ان وقعته ادارة الرئيس السابق باراك اوباما وتحجيما حقيقيا لشبكة نفوذها السياسية والعسكرية والامنية في الاقليم. وما رافق هذا المسار من تصعيد في التوتر السياسي والعسكري الذي وصل الى مستوى وضع المنطقة على حافة الاشتعال والحرب المدمرة.

القرار الامريكي باخراج قائد قوة القدس في حرس الثورة الاسلامية الجنرال قاسم سليماني من المعادلة باغتياله مباشرة، وهو الذي يعتبر مهندس الدور الايراني الخارجي غير الدبلوماسي والذي يتجاوز الاقليم في العلاقة مع “حركات التحرر” حسب التعريف الإيراني، يعني ان سيد البيت الابيض قرر انهاء ووضع حد لمرحلة التعايش بينه وبين الوجود الايراني في المنطقة والتي كان سليماني احد اركان التفاهم غير المعلن حولها بطرق غير مباشرة، من خلال دوره الذي مثل ضابط الايقاع والحارس للخطوط الحمراء والحريص على عدم تجاوزها من اي من الاطراف المشتبكة في المنطقة خصوصا الاسرائيلي، والابقاء على قبضته ممسكة بقوة بالقرار العسكري والاقليمي ومنع الانجرار وراء المواقف الانفعالية، وذلك في اطار استراتيجية الصبر التي وضعها لرسم وترسيخ وتعزيز الدور الايراني في الاقليم.

اخراج سليماني من المشهدين الايراني والاقليمي، قد يكون نهاية حقبة ارست قواعد اشتباك بين الوجود الايراني والمصالح الامريكية على صعيد منطقة غرب آسيا، قواعد تقوم على ضبط خطوط التعامل مع المستجدات الميدانية ومصالح الاطراف في رسم حدود نفوذ كل اللاعبين في اطار التفاهمات التي تشترك بها القوى الفاعلة على الارض.  وهنا لا بد من الاشارة الى ان الادارة الايرانية اعادت قبل نحو عقد من الزمن تعريف التسميات الجغرافية في وزارة الخارجية، وتبنت التسميات المعتمدة لدى العواصم الكبرى خصوصا الخارجية الامريكية، بحيث تخلت عن تسميات الشرق الاوسط وشبه القارة الهندية وآسيا الوسطى وشمال افريقيا وحولتها الى دوائر تحت مسمى منطقة غرب آٍسيا، ما يعني انها ذهبت الى استخدام لغة التقسيمات الجغرافية التي تفهمها الادارة الامريكية.

لا شك ان اغتيال سليماني امريكيا، يعني بداية حقبة جديدة على انقاض الحقبة السابقة، وبالتالي فان طهران باتت مجبرة امام الاجراء الامريكي الذي خرق كل التفاهمات الدقيقة التي رسمها الجنرال الايراني، ان تعيد ترتيب أولوياتها وارساء قواعد اشتباك جديدة في علاقاتها بين مصالحها الاقليمية وحتى الداخلية وبين المصالح الامريكية وحلفاء واشنطن في المنطقة، خصوصا وان طهران تؤكد ان سليماني وعلى العكس من الروايات التي سادت في الايام الاخيرة بعد احداث يوم 31 ديسمبر كانون الاول 2019 والحصار الذي تعرضت له السفارة الامريكية في بغداد، كان يهدف من زيارته غير المكتملة للعاصمة العراقية اعادة ضبط الامور واستيعاب التداعيات التي أفرزتها هذه التظاهرات والخرق الذي حصل في حدود  التعامل بين النفوذ الايراني والمصالح الامريكية. وبالتالي فانها تقف الان – اي ايران- على اعتاب تحول استراتيجي باتت فيه مجبرة على الذهاب الى الرد على العملية الامريكية والتخلي عن الصبر الاستراتيجي الذي اعتمدته في التعامل مع الضغوط الامريكية من اجل الحفاظ على استمرارية نفوذها ومصالحها في المنطقة، والانتقال من امكانية التفاهم على حدود المصالح مع واشنطن مقابل انسحابها العسكري من المنطقة خصوصا من العراق وسوريا، الى اعتماد خيار المواجهة العسكرية المفتوحة واجبار واشنطن على التخلي عن هذا الوجود والعودة الى قواعد الاشتباك التي سبقت الانسحاب الامريكي عام 2011، اي العودة الى تفعيل العمليات العسكرية ضد قواعد ومراكز انتشار الجيش الامريكي على الاراضي العراقية والسورية من دون الاخذ بعين الاعتبار الاثمان التي قد تدفعها جراء الذهاب الى هذا الخيار.

التغريدة التي أطلقها المرشد الاعلى للنظام الايراني والتي اقتصرت على “بسم الله الرحمن الرحيم” تعني ان القيادة الايرانية بمختلف مستوياتها قد اتخذت قرار المواجهة وان كلمة السر قد أعطيت لانطلاق عمليات الانتقام وبات على المؤسسة العسكرية المعنية بالعمل الميداني الاستعداد لساعة الصفر التي سبق ان تم تحديدها، ومن المتوقع أن تكون عملية متدرجة، اي ان طهران ستقوم بتوجيه الضربة الانتقامية الاولى وتنتظر ردة الفعل الامريكي واذا ما كان سيعمد الى الرد او الاستيعاب، الأمر الذي سيحدد مسار التطورات، اما الذهاب الى مواجهة مفتوحة بغض النظر عن حجم الخسائر والأضرار التي قد تدفعها طهران والتي لن تكون خسائر من طرف واحد بل سيكون الجانب الأمريكي مجبرا على دفع مثلها او اقل منها وقد تزعزع امال ترمب بالعودة الى البيت الابيض، او الانتقال الى تفعيل العمل الدبلوماسي برعاية دولية تلعب فيها موسكو وبكين دورا محوريا. ما قد يفتح الطريق أمام حلول تشمل المنطقة بأكملها.

المدن

————————

جنازة الجنرال… عندما قتل قاسم سليماني العراقيين مرتين/ ميزر كمال

رفض المتظاهرون في بعض المدن العراقية مرور الجنائز الرمزية في ساحاتهم الممتلئة بصور الشباب الذين قتلتهم الميليشيات الموالية لإيران، لتقوم الأخيرة بقتلهم مرة أخرى.

نُقل ما بقيَ من جسد الجنرال الإيراني قاسم سليماني إلى إيران، ليُدفنَ هناك، بعد جولةٍ جنائزية في عدد من المدن العراقية، بدأت في بغداد، حيث قُتل، وانتهت في مدينة النجف. لكن لم يكتفِ أتباع سليماني -وسوادهم الأعظم من الميليشيات التي أسسها هو منذ 2003- بهذا الحدِّ من التمظهر بالغضب، بل تعدى الأمر إلى أكثر من ذلك، إذ أقاموا له ولنائب رئيس ميليشيات الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس -الذي قُتِل معه أيضاً- جنائز رمزية طافوا بها في المدن العراقية، وبخاصة تلك المدن التي تشهد تظاهرات للشهر الثالث على التوالي ضد المد الإيراني، لكن تلك الجنائز الرمزية رفض المتظاهرون مرورها في ساحاتهم الممتلئة بصور الشباب الذين قتلتهم الميليشيات الموالية لإيران، لتقوم الأخيرة بقتلهم مرة أخرى.

الناصرية… جنازة أخرى

فيما وصلت أشلاء سليماني إلى إيران آتية من مدينة النجف، انطلقت جنازة رمزية له في مدينة الناصرية (مركز محافظة ذي قار) جنوب العراق. المشيعون كانوا من ميليشيات “الحشد”، نعشٌ فارغٌ ومشَّاؤون كثيرون، توجهوا إلى ساحة الحبوبي وسط الناصرية التي تواصل احتجاجها منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019.

وصل النعش الفارغ عند مداخل ساحة الحبوبي، لكنَّ المتظاهرين رفضوا مروره بينهم، ففتح المشيعون النار على معتصمي ساحة الحبوبي، وهناك سقط قتيل (شاب عشريني) وأُصيب 4 آخرون، وعلى رغم ذلك لم تمر الجنازة، ولاذ المشيعون “المسلحون” بالفرار، بعد أن واجههم المتظاهرون بالغضب.

جنازة قاسم سليماني الرمزية في مدينة الناصرية

لم ينته الأمر عند هذا الحد، فالناصرية التي عُرفت برد فعلها القوي دائماً، كانت على موعد مع حرائق جديدة، وهذه المرة كانت النار في مقر “هيئة الحشد الشعبي”، إذ انطلقت جنازة سليماني الرمزية من هناك. أحرق المتظاهرون المقر، رداً على مقتل واحدٍ منهم، واحتشدوا طويلاً هناك، في الشارع الذي يفصل بين حيي سومر، وأريدو.

حسين هليل، شاعر ومتظاهر، يقول عن الحادثة: “لم يبق دينٌ أو ربٌ في رأس المدينة، لقد أعطت أكثر من 100 شهيد، ومنذ 1/10/2019 وهي تهتف: (إيران برا برا) ويأتون الآن ليقيموا تشييعاً رمزياً لقاسم سليماني، ويرقصوا على جراح الناس، وعندما يمنعونهم يواجهونهم بالرصاص الحي، إنها خسة ونذالة”.

لا يريد أبناء الناصرية الدخول في حلبة الصراع الأمريكي الإيراني، ويرفضون تصفية الحسابات بين واشنطن وطهران على الأرض العراقية، بهذه الحجة واجه متظاهرو ساحة الحبوبي المليشيات التي أقامت جنازة سليماني الرمزية، لكنَّ أتباع “المقاومة الإسلامية” وحاملي صور الجنرال الإيراني والباكين عليه، أصروا إلا أن يسيل دمٌ مرةً أخرى.

إحراق مقر “الحشد الشعبي” في مدينة الناصرية

مدينة الناصرية، أو “أم الشهداء” كما يسميها المتظاهرون العراقيون الآن، أعلنت منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 أنَّها مدينة “منزوعة الأحزاب” بعد جولات شبابها اليومية لإحراق مقار الأحزاب والحركات والميليشيات الموالية لإيران، والتي كان آخرها مقر “هيئة الحشد الشعبي”، وفي إفادة لوكالة “الأناضول” قال ضابطٌ -طلب ألا يُنشر اسمه- إنَّ “قوات الأمن حاولت الحيلولة دون إشعال النيران في المقر عبر إخلائه من مسلحي “الحشد”، لكن المحتجين أضرموا النيران فيه، على رغم ذلك”.

جردة الدم

في أواخر تشرين الثاني 2019 كانت المعارك الأكثر عنفاً وقتلاً في مدينة الناصرية، ففي 27 من الشهر المذكور، قتلت قوات الأمن والميليشيات الموالية لإيران أكثر من 30 متظاهراً في المدينة، وأصيب أكثر من 125 شخصاً، عندما حاولت تلك القوات إرغام المحتجين -بالرصاص والغاز مسيل الدموع- على فتح جسري النصر والزيتون بمركز المدينة، عندما أغلقهما المتظاهرون تنفيذاً للإضراب العام والعصيان المدني حتى تحقيق المطالب التي خرجت من أجلها التظاهرات في المدن العراقية كلها.

ثمن تلك المجزرة كان استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، وكذلك استقالة جميل الشمري من قيادة شرطة المحافظة، وتشكيل لجنة للتحقيق معه في أسباب المجزرة، لكن القتل ظلَّ سمةَ التظاهرات في الناصرية وغيرها من المدن الغاضبة، وقُدِّرَ للناصرية أن تكون أكثر المدن العراقية حزناً وموتاً، وأكثرها غضباً وحرائق أيضاً، وأن تكون أيضاً أول مدينة تفتتح سجلات الموت عام 2020.

قبل ذلك كانت مدينة الناصرية تشهد قتلاً يومياً للمتظاهرين، فخلال 42 يوماً فقط، وفي الفترة الممتدة من 1/10/2019 ولغاية 12/11/2019 أحصت دائرة صحة ذي قار 96 قتيلاً، فضلاً عن آلاف الجرحى، ومئات المعتقلين، لتتوقف بعدها الدائرة عن نشر إحصاءاتها بأمر من قيادة الشرطة، التي أخذت على عاتقها مسؤولية توثيق أعداد الضحايا، لكنَّها لم تعلن أي أرقام منذ ذلك الوقت.

في البصرة حرائق أخرى

جنازة رمزية أخرى لقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، وهذه المرة في أقصى جنوب العراق، في مدينة البصرة، انطلقت من مبنى المحافظة (مبنى الحكومة المحلية) باتجاه ساحة اعتصام المتظاهرين. وكما في الناصرية، رفض متظاهرو البصرة مرور النعش الفارغ في ساحات اعتصامهم وخيامهم التي تحمل أيضاً صور قتلاهم الذين قضوا في التظاهرات. وحدث اشتباك لفظي بين المشيعين الموالين لإيران، والمتظاهرين العراقيين، انتهى بأن قامت تلك الميليشيات المشيعةِ بإضرام النيران في خيام الاعتصام، وإطلاق الرصاص على المحتجين واتهامهم بأنهم مندسون وموالون لحزب البعث وأميركا وإسرائيل.

سجاد علي متظاهر وشاهد عيان، يروي لـ”درج” ما حدث: “كانت ساحة الاعتصام هادئة، وكل شيء على طبيعته، لكن ميليشيات كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق وسرايا الخرساني اقتحمت ساحة الاعتصام وأمرت الشباب بالمشاركة في التشييع الرمزي لقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وعندما رفض الشباب ذلك، بدأ إحراق الخيم وإطلاق النار على مرأى ومسمع الشرطة والجيش. لم يحرك أحدٌ ساكناً، ولم يكن باستطاعة الشباب مواجهتهم، كنا عزَّلاً وهم كانوا مسلحين”.

سجاد يؤكد أن الميليشيات تريد بث الفتنة وزعزعة استقرار المدينة، والقضاء على التظاهرات، بعدما فشلت في أكثر من مرة سابقاً: “كانوا يستطيعون أن يسلكوا طريقاً أخرى غير طريق ساحة الاعتصام، لكنهم يبحثون عن الفتنة، والدليل أنَّهم جاءوا بأسلحتهم، نحن لا نريد الدخول في صراعات مع أحد، موقف المتظاهرين واضح، نريد إصلاحات حقيقية والقضاء على الفساد، هذا ما خرجنا من أجله، لم نخرج من أجل فلان وفلان، بل خرجنا من أجل العراق”.

حدث هذا كله في الناصرية والبصرة، أما في العاصمة العراقية بغداد، فكان للمتظاهرون في ساحة التحرير ينفذون وقفة تضامنية مع المدينتين، ومثل كل مرة، جاء الرد واضحاً وصريحاً، وبلا مواربة، هتافات عالية تقول: “ذيل… لوكي… أنعل أبو إيران لأبو أميركا”.

درج

————————–

سليماني ومقتل الخطوط الحمر/ غسان شربل

للمرة الأولى منذ عقود، لا مبالغة في القول إن الشرق الأوسط يقف على فوهة بركان. يتضح ذلك من خلال دعوات الثأر التي انطلقت من طهران وبغداد وبيروت. كلام غير مسبوق في حدته يدعو إلى استهداف الوجود الأميركي في المنطقة، ويشكل إطلاق معركة إخراج أميركا من العراق الحلقة الأولى منه.

أقسى المواجهات هي تلك التي يصعب على طرفيها التراجع. من يعرف الدور المحوري للجنرال قاسم سليماني في النظام الإيراني ومشروعه الإقليمي يعرف أن ليس باستطاعة هذا النظام عدم الرد على قتل الرجل الأقرب إلى قلب المرشد، الذي يعتبر بحق جنرال جنرالات الهلال الإيراني. لهذا سارع علي خامنئي إلى التعهد بالثأر، وهو ما فعله قادة «الحشد» في العراق، والأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني حسن نصر الله.

لا تستطيع إيران التراجع عن الثأر لسليماني. اغتياله أصاب هيبتها بجرح، خصوصاً أن الرجل كان حارس الخيوط المعقدة التي نسجها بصبر وعناد من أفغانستان إلى لبنان، مروراً بالعراق وسوريا واليمن ومسارح أخرى. العارفون بتركيبة النظام القائم في طهران يقولون إن نبأ مقتل سليماني هو أسوأ نبأ تلقاه المرشد خلال إقامته المديدة في موقع القرار. المرشد نفسه ساهم في عملية إضفاء هالة استثنائية على دور هذا الجنرال الذي كانت صلاحياته الفعلية تتخطى بكثير صلاحيات منصبه. كان سليماني مهندس الاندفاعة الإيرانية الكبرى في الإقليم، وحارس الدور الإيراني فيه. ولا مبالغة في هذا الكلام. لا ينتخب رئيس ولا تشكل حكومة في لبنان من دون موافقته، والأمر نفسه في العراق. وكلمته في سوريا لا ترد، ويكفي التذكير بأنه حمل خرائط سوريا إلى سيد الكرملين، وأقنعه بالتدخل في هذا البلد لإنقاذ النظام القائم فيه، وهو ما حصل. وبصواريخ سليماني وطائراته المسيّرة، يواصل الحوثيون لعب الدور الذي أوكل إليهم.

لا تستطيع إيران التراجع عن الثأر. وواضح أنها معنية برد يحمل بوضوح بصماتها، وليس عبر الوكلاء، وأن يكون الرد موازياً للضربة التي شكلها شطب أهم جنرالاتها وأكثرهم شعبية. ولأن قتل سليماني يحمل بوضوح التوقيع الأميركي، فإن الرد يفترض أن يكون على الجيش الأميركي نفسه.

وعلى الضفة الأخرى، لا تبدو أميركا قادرة على التراجع. ذهبت بعيداً، وقد تضطر إلى الذهاب أبعد. الأمر يتعلق أيضاً بهيبة أميركا، ومؤسستها العسكرية والأمنية، وصورتها في المنطقة والعالم، من دون أن ننسى مصالحها. ويتعلق الأمر أيضاً بصورة رئيس في الطريق إلى انتخابات. بإصداره الأمر بقتل سليماني، اتخذ دونالد ترمب قراراً أصعب بكثير من ذلك الذي اتخذه بقتل زعيم «داعش»، أو القرار الذي اتخذه سلفه باراك أوباما بقتل زعيم «القاعدة». فقتل سليماني ليس موجهاً فقط إلى إيران ومؤسساتها، بل أيضاً إلى تلك «الجيوش» التي رعا قيامها داخل خرائط عدة في المنطقة. ولهذا يبدو مسرح المواجهة أوسع بكثير مما يعتقد.

كان قاسم سليماني جنرال الاختراقات والانقلابات؛ اختراق الخرائط وتنظيم انقلاب على التوازنات القائمة فيها. هذا ما فعله في لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري، وحرب 2006 مع إسرائيل التي رافقها من داخل الأراضي اللبنانية. منع قيام حكومة لبنانية مستقرة صديقة للغرب، كما منع في العراق بعد إطاحة صدام حسين قيام مؤسسات مستقرة صديقة للغرب. واغتنم في العراق فرصة خطر «داعش» لتحويل «الجهاد الكفائي» الذي دعا إليه آية الله السيستاني إلى فرصة لتسليح «الحشد» وجعله قوة رسمية وشرعية، ما ساهم في مزيد من تقليص الحضور الأميركي في القرار العراقي. ونظم، بالتعاون مع فلاديمير بوتين، انقلاباً على مسار المواجهات في سوريا، مراهناً على أن قدرة بلاده على تجذير حضورها في المجتمع السوري تفوق بكثير قدرة روسيا على دور من هذا النوع. كما رعا الانقلاب الحوثي في اليمن الذي يجابه حتى اليوم بمقاومة شديدة، وسبقته تجربة اختراق غير موفقة في البحرين.

كان سليماني جنرال الاختراقات والانقلابات، وكان مهندس محاولات تطويق عدد من دول المنطقة بمنظومات صاروخية تقيم في دول مجاورة، بهدف التقليل من الأهمية الاستراتيجية لتلك الدول، والتأثير على قراراتها وتحالفاتها. وشهد في الشهور الأخيرة ما يشبه تحقق حلمه الكبير، وهو فتح الطريق من طهران إلى بيروت، مروراً ببغداد ودمشق. وخلال هذه الاندفاعة التي سهلها قيام الأميركيين باقتلاع نظام صدام حسين، شعر سليماني أن العائق الكبير أمام برنامجه هو الخيط الأميركي الذي تراهن عليه عواصم في المنطقة لوقف الهجوم الإيراني الواسع، أو إقامة توازن رادع له. كان حلمه الكبير قطع هذا الخيط.

التحرش بـ«الشيطان الأكبر» ليس نهجاً جديداً بالنسبة إلى إيران الحالية. فبعد تحويل الأميركيين رهائن في سفارة بلادهم في طهران، انتقلت التحرشات إلى الإقليم. كانت بيروت المسرح المفضل: تفجير السفارة الأميركية، وتفجير مقر قيادة المارينز، وخطف الرهائن الذي كان نوعاً من محاولة اقتياد دول كبيرة إلى «أقفاص صغيرة» بسبب عجز هذه الدول عن الاستقالة من مصير مواطنيها المخطوفين. لكن تلك التحرشات لم تحمل توقيعاً إيرانياً صريحاً، مثلها مثل الضربات التي وجهت إلى الجيش الأميركي بعد إسقاط صدام.

وعلى مدى أربعة عقود، تفادى الرؤساء الأميركيون الرد على إيران في إيران، وكان تبادل الضربات محدوداً مضبوطاً. وحققت إيران نجاحاً كبيراً حين تم إبرام الاتفاق النووي من دون التطرق إلى سلوكها الإقليمي، فتابع سليماني سياسة الاختراقات والانقلابات.

جاءت عملية قتل سليماني في وقت ينزف فيه الاقتصاد الإيراني بفعل عقوبات ترمب، وفي وقت يشهد فيه العراق ولبنان احتجاجات شعبية تظهر شيئاً من فشل السياسات المتبعة في دول الهلال الإيراني. لذلك يبدو تراجع المرشد مستبعداً. ثم إن لقتل سليماني في بغداد رمزية أخرى، فقد بدأ سليماني صعوده خلال مشاركته في الحرب العراقية – الإيرانية. وثمة من يقول إنه لم يغفر لأميركا منعها إيران من الانتصار في تلك الحرب. فحين رجحت كفة إيران في المعارك، كانت صور الأقمار الصناعية للحشود الإيرانية تنقل إلى السفارة الأميركية في قبرص، وتنقل من هناك إلى بغداد، على حد ما روى لي الوزير العراقي يومها، حامد الجبوري.

أغلب الظن أن إيران أساءت تقدير قدرة ترمب على اتخاذ قرارات أمنية صعبة، خصوصاً بعدما ظهر أنه يفضل العقوبات الاقتصادية على الضربات العسكرية. وربما كان سليماني نفسه يعد سلامته خطاً أحمر لا يجرؤ أحد على اجتيازه والمغامرة بحرب. فوجئ الجميع بقتل سليماني. يمكن القول إن الخطوط الحمر قُتلت معه. بدايات شديدة السخونة لصفحة جديدة وسنة جديدة في الشرق الأوسط الرهيب.

الشرق الأوسط

—————————-

كيف يغير مقتل سليماني قواعد اللعبة في الشرق الأوسط؟

أعلن البنتاجون، مساء الخميس (بتوقيت أمريكا)، قتل اللواء “قاسم سليماني”، قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، في غارة جوية بالعراق، بتوجيه من الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”.

وقتلت الغارة التي استهدفت “سليماني”، زعيم كتائب “حزب الله” أيضا، وهي ميليشيا وكيلة لإيران في العراق، سبق أن هاجمت القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها بشكل متكرر، وأطلقت صواريخ على قاعدة عسكرية أمريكية مؤخرا؛ قتلت مقاولا أمريكيا، ما دفع الولايات المتحدة للرد وقتل 25 من المرتبطين بالميليشيات في هجمات في العراق وسوريا.

وفي عمليات منفصلة، ألقت القوات الأمريكية القبض على زعماء ميليشيات عراقية مهمة أخرى، كانت لها علاقات وثيقة مع إيران.

ومن المرجح أن يكون مقتل “سليماني” نقطة تحول في علاقات واشنطن مع العراق وإيران، وسيؤثر بشكل كبير على الموقف الأمريكي الشامل في الشرق الأوسط.

وقد يكون رد الفعل هائلا من قبل إيران، ويعتمد الأمر على مدى استعداد الولايات المتحدة جيدا لمواجهة احتمالات الرد الإيراني ورد فعل العديد من وكلاء طهران في الشرق الأوسط.

وبناء على سجل إدارة “ترامب” في المنطقة، فهناك ما يدعو للقلق.

ولأن القوى التقليدية الإيرانية ضعيفة، تعمل طهران غالبا عبر الميليشيات والجماعات وغيرها من الوكلاء لتعزيز مصالحها في الخارج، ويأخذ الحرس الثوري زمام المبادرة في العديد من هذه العمليات.

وفي العراق والبلدان الأخرى التي تلعب فيها إيران دورا عسكريا وسياسيا، مثل اليمن ولبنان وسوريا وأفغانستان، وكذلك فلسطين، غالبا ما يكون الحرس الثوري الإيراني هو الطرف المسيطر في السياسة الخارجية الإيرانية، أو يملك على الأقل صوتا مهما.

وفي أبريل/نيسان، اتخذت إدارة “ترامب” خطوة غير معتادة بتصنيف الحرس الثوري رسميا كمجموعة إرهابية، على الرغم من أنها ذراع للدولة الإيرانية، وبالتالي فهي ليست جهة فاعلة من غير الدول، على عكس معظم الكيانات المدرجة في القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية.

وكان “سليماني” مهندسا للعديد من أكثر قضايا السياسة الخارجية الإيرانية إثارة للجدل، وهو مسؤول مع “فيلق القدس”، عن مقتل العديد من الأمريكيين.

ويضم “فيلق القدس” ما يتراوح بين 10 و20 ألف مقاتل، ويوفر التدريب والأسلحة والتوجيه التنظيمي وغير ذلك من أشكال الدعم للجماعات المؤيدة لإيران في المنطقة.

ويُعد الحرس الثوري الإيراني الذي يتصدره فيلق القدس، المشغل الإيراني الرئيسي لـ “حزب الله” اللبناني، أقوى منظمة عسكرية في لبنان، والذي هاجم (إسرائيل) والولايات المتحدة بناء على طلب إيران.

ويعمل “فيلق القدس” أيضا مع مجموعات فلسطينية تصنفها الولايات المتحدة كمنظمات إرهابية، مثل “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، من بين منظمات أخرى في بلدان أخرى.

وعندما اشتبكت الولايات المتحدة مع القوات الموالية لإيران في العراق سابقا، كان دعم “فيلق القدس” حاسما في جعل تلك الاشتباكات أكثر دموية، حيث زودتهم منذ عام 2005 بالمتفجرات المتطورة التي يمكنها اختراق المركبات المدرعة الأمريكية؛ ما أدى إلى مقتل ما يقرب من 200 أمريكي.

ومع مقتل “سليماني”، سيكون هناك ثمن يجب على واشنطن دفعه. وبسبب نفوذ فيلق القدس الواسع في المنطقة، سيكون لإيران مسارح متعددة متاحة لمهاجمة الولايات المتحدة. وتعد الهجمات على القوات والمنشآت الأمريكية في العراق مرجحة بشكل خاص.

وأمضت طهران أكثر من 15 عاما في بناء شبكات واسعة من مجموعات الميليشيات والسياسيين في العراق. وفي وقت سابق من الأسبوع الماضي، قبل مقتل “سليماني”، تمكنت إيران من حشد الوكلاء المحليين بسرعة للتظاهر بعنف أمام السفارة الأمريكية في بغداد، ما خلق مخاطر أمنية جسيمة على الأفراد هناك، حتى مع تجنب حلفاء طهران المحليين قتل مزيد من الأمريكيين؛ لكن من المرجح الآن أن يتم تفعيل هذا الأمر.

وفي الضربة التي أودت بحياة “سليماني”، قتلت الولايات المتحدة أيضا زعيم ميليشيا كتائب “حزب الله” الموالية لإيران، “أبو المهدي المهندس”، والعديد من الشخصيات البارزة المؤيدة لإيران في العراق.

وكانت كتائب “حزب الله” مسؤولة عن العديد من الهجمات على القوات الأمريكية والعراقية، وغالبا ما كان ذلك بناء على طلب إيران.

ولن تمر هذه العملية أيضا مرور الكرام، فبالإضافة إلى الرغبة في إرضاء إيران، تشعر الميليشيات الموالية لطهران في العراق بالتأكيد، بالغضب لوفاة “المهندس” واعتقال قادتها، وتتوق الآن إلى الانتقام.

قتل “سليماني” قد يعزز يد إيران سياسيا

يتمتع العديد من السياسيين العراقيين، بحكم الضرورة، وفي بعض الحالات باختيارهم، بروابط وثيقة مع إيران، وسيزداد الضغط لإخراج القوات الأمريكية من البلاد.

وإذا كان هناك تناقض بين الوجود الأمريكي والإيراني في العراق، فكل ما في الأمر هو أن إيران لديها المزيد من الحلفاء والمزيد من النفوذ هناك، ومن المرجح أن يذعن العديد من القادة العراقيين للضغوط الإيرانية.

وتعدّ القوات العسكرية الأمريكية في أفغانستان وسوريا معرضة للخطر أيضا، رغم أن كلاهما معرض لمخاطر أخرى بسبب تهديدات تنظيم “الدولة الإسلامية” وطالبان، وغيرها من الجماعات الخطرة. وقد يهاجم الحرس الثوري الإيراني، ووكلاؤه أيضا، السفارات الأمريكية الرسمية والأهداف الأخرى ذات الصلة بالحكومة.

وفي عام 1983، فجر “حزب الله” اللبناني، بدعم من إيران، السفارة الأمريكية في بيروت، وكذلك ثكنات “المارينز” هناك، مما أسفر عن مقتل 220 من مشاة البحرية، وعشرات الأمريكيين الآخرين. وقد يكون المدنيون أيضا في مرمى النيران. ويفتقر بعض الوكلاء الإيرانيين إلى المهارة اللازمة لضرب الأهداف الرسمية المحصنة جيدا، لذا فقد تسعى طهران أيضا إلى إرسال رسالة أوسع لتخويف الولايات المتحدة عبر المدنيين.

وعلى الرغم من أن إيران سترد على الأرجح، إلا أنه من الصعب التنبؤ بنطاق ردها وحجمه. وسوف يدعو المتشددون هناك إلى أن تدفع الولايات المتحدة ثمن قتل “سليماني”.

بالإضافة إلى ذلك، قد يرى النظام الإيراني في الصراع مع الولايات المتحدة فرصة مفيدة لتحويل الانتباه عن أزمات الاقتصاد الإيراني والاحتجاجات الضخمة التي هزت البلاد.

ومع ذلك، أدركت إيران منذ فترة طويلة ضعفها العسكري مقارنة بالولايات المتحدة، ويعرف قادتها أنه لا يمكن لطهران إلا أن تخسر إذا كانت هناك مواجهة شاملة.

وفي الأعوام العديدة من المواجهات بين الولايات المتحدة وإيران، استفزت الأخيرة واشنطن بالهجمات وعبر دعم الوكلاء المناهضين للولايات المتحدة، لكنها حاولت أيضا التهدئة عندما بدت الأمور وكأنها قد تخرج عن نطاق السيطرة.

ومع ذلك، ليس من الواضح ما إذا كان الأمر نفسه ينطبق على الموقف الآن، بعد مقتل شخصية رئيسية مثل “سليماني”.

هل إدارة “ترامب” مستعدة لعواقب تصعيدها؟

يعتمد الأمر على مدى استعداد الولايات المتحدة للرد الإيراني المحتوم. ولا يعتبر التفكير المتأني من سمات إدارة “ترامب”، ومن الأسهل عليها التركيز على الأثر الفوري لقتل “سليماني” عن التفكير في الآثار طويلة الأجل لهذه الضربة.

ويبقى أكثر ما تحتاجه الولايات المتحدة هو الحلفاء؛ فهم ضروريون لردع إيران، ودعم المزيد من العمليات العسكرية ضدها إذا فشل الردع، والمساعدة في حراسة المنشآت الأمريكية، وتقاسم العبء كذلك.

ولسوء الحظ، أبعدت إدارة “ترامب” العديد من الحلفاء التقليديين عنها، وأخفقت في الإبقاء على الأمور ودية مع حلف “الناتو” وأستراليا وغيرهما.

ورفضت إدارة “ترامب” الرد بعد أن هاجمت إيران منشأة نفطية سعودية، وهو خط أحمر تقليدي، وأرسلت رسالة مفادها أن المملكة تتحمل وحدها متطلبات أمنها.

ووقفت أيضا موقف المتفرج في الوقت الذي عملت فيه كل من قطر والسعودية وتركيا والإمارات على تحقيق أهداف فردية متنافسة في بلدان مثل سوريا وليبيا، بدلا من محاولة إيجاد موقف مشترك من شأنه أن يزيد من نفوذ الولايات المتحدة وقوة المساومة في الصراع مع إيران.

ومن غير الواضح ما إذا كان الحلفاء سيتجمعون الآن حول راية واشنطن. وحتى إذا فعلوا ذلك، فقد لا يكونون متحمسين للوقوف إلى جانب الولايات المتحدة.

كما لم يخف الرئيس “ترامب” نفسه رغبته في إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط.

ومن خلال قتل “سليماني”، من المرجح أن تواجه الولايات المتحدة معضلة، فقد يعني ذلك أن تستمر في البقاء في الشرق الأوسط عبر قوات محدودة نسبيا في العراق وسوريا وأفغانستان؛ وبالتالي تكون عرضة للهجمات الإيرانية، أو يمكنها التراجع بشكل أكبر في وجه التهديد الإيراني، ما يبقي قواتها معزولة، ويضعف نفوذها، ويُكسب إيران المزيد من القوة في المنطقة.

ومن هنا، من المحتمل أن يكون مقتل “سليماني”، واستهداف شخصيات موالية لإيران في العراق، لحظة محورية بالنسبة للولايات المتحدة في المنطقة.

وتعتمد درجة دموية تلك اللحظة على ما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة للظهور بشكل أقوى، وعلى ما إذا كانت إدارة “ترامب” تخطط على المدى الطويل، وتعمل بشكل وثيق مع الحلفاء.

لكن سياسة “ترامب” في الشرق الأوسط حتى الآن، تشير إلى أن العكس هو الأرجح. وتكون عملية قتل “سليماني”، في النهاية، مجرد “انتصار أجوف” وقصير الأجل.

———————————-

بعد سليماني.. الحرب أو شيء قريب منها/ عبد الوهاب بدرخان

ليس أمام إيران سوى أن تردّ على الاغتيال الأميركي للجنرال قاسم سليماني، ولا خيار لها سوى أن يكون الردّ قوياً ومتناسباً مع الخسارة التي يمثّلها لها غياب قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني.

فقد كان المسؤول عن إدارة نفوذها في العديد من البلدان التي صدّرت إليها «الثورة»، وأسّست فيها جيوشاً موازية وميليشيات موالية، صحيح أن المرشد علي خامنئي عيّن بعد ساعات على الحدث، قائداً جديداً للفيلق هو الجنرال إسماعيل قاآني، الذي كان نائب سليماني، ويعرف دواخل كل الملفات.

إلا أن أسلوب العمل لا بدّ أن يختلف، خصوصاً أن القائد الراحل أثبت طوال العقدين الأخيرين اطلاعاً استراتيجياً وسياسياً مكّنه من التعامل مع الخطوط الحمر، بموازاة خبرته في الجوانب العسكرية، بالإضافة إلى نسجه معرفة شخصية بقادة الميليشيات في العراق ولبنان واليمن ووجوه النظام السوري.

سيكون هناك اعتماد أساسي على «الوكلاء» كما يسمّون، كمنفّذين لما يخطّطه الخبراء الإيرانيون، والوكلاء جاهزون بحكم الأدلجة المزمنة المعادية لـ«الشيطان الأكبر» الأميركي، وخبرات القتال التي اكتسبوها على التوالي في لبنان ضد إسرائيل، وفي جبهات سوريا ضد الفصائل المعارضة للنظام، وفي العراق خلال محاربة تنظيم «داعش»، وفي اليمن حيث يسيطرون على المناطق الحيوية.

إيران قالت إن الانتقام لسليماني سيعمّ المنطقة، ولن يترك مكاناً آمناً للأميركيين، أما واشنطن فسبق لها أن أرسلت تحذيرات إلى طهران تحمّلها مسؤولية مباشرة عن أي استهداف لقواتها أو مصالحها، كان ذلك في إطار الحفاظ على قواعد الاشتباك من دون تجاوزات.

لكن ما حصل منذ أبريل 2019، أن مقار لـ«الحشد الشعبي» تعرضت لضربات عدة في بغداد ومناطق متفرقة، ما لبثت أن توقفت، ولم تعلن الحكومة نتائج تحقيق أمرت به لتحديد مصدر هذه الضربات، وأكثر ما تردّد حينذاك أن إسرائيل هي التي قامت بتنفيذها بتنسيق مع الأميركيين، وبالتزامن مع ضربات مماثلة لمواقع إيرانية في سوريا بتنسيق مع الروس.

رغم أن الرئيس الأميركي أمر شخصياً باغتيال سليماني، فإنه كرّر القول إنه لا يريد حرباً مع إيران، وهو بذلك يخاطب الداخل الأميركي أولاً، إيران بدورها ردّدت مراراً أنها لا تريد حرباً، لكن الطرفين قد يتورّطان فيها، أو في شيء قريب منها، خلافاً لمواقفهما العلنية، خصوصاً أن المواجهة بينهما حاصلة.

ويبدو أن اتصالاتهما البعيدة عن الأضواء لم تنجح في بلورة أرضية صالحة للتفاوض ما لم تُرفع العقوبات عن إيران، كانت تلك المواجهة متوقّعة في العراق.

لكنها بدأت في خليج عُمان ومضيق هرمز، قبل أن تنتقل إلى العراق وقد تعود إليهما، وبين التوقّعات أيضاً أن يُستأنف استهداف مناطق ومنشآت حيوية في دول خليجية، على غرار ما حصل لمرافق شركة أرامكو.

بين نهاية أكتوبر ونهاية ديسمبر الماضيين، سُجّل 11 استهدافاً لمعسكرات أميركية في العراق، واعتبرت واشنطن أن طهران تضعها في اختبار، لكنها لم تتحرك إلا بعدما قُتل مدني أميركي وجرح أربعة عسكريين في قاعدة كركوك.

ثم جاء الرد أولاً بضرب فصيل «كتائب حزب الله العراق» ثم موكب سليماني، وبالتالي ارتسم منعطف خطير في المنطقة، وسقطت آمال أطراف السلطة في النأي بالعراق عن الصراعات الإقليمية، على العكس، سيكون العراق مسرحاً للمواجهة، أما سوريا ولبنان واليمن فستكون ساحات رديفة.

* عبد الوهاب بدرخان كاتب صحفي لبناني

المصدر | العرب القطرية

——————————-

من هو قاسم سليماني؟/ حسام جزماتي

في السنوات الأخيرة شاعت، بين أنصار الحرس الثوري، قصيدة تخاطب قائدهم المفضل، وتبدأ بالقول: «أيها العدو الوضيع… أنا إيراني!

هل تخيفنا بقطع الرؤوس؟

[لكن] لن يصل دورنا للقتال

ما دام حاضراً قاسم سليماني».

يلخص هذان البيتان، بدقة، وظيفة الجنرال الذي بدأ حياته مدافعاً عن حدود الجمهورية الإسلامية الناشئة ضد جيش صدام، وأنهاها ضيفاً فوق العادة قرب مطار بغداد، بعد أن رسم للإمبراطورية حدوداً متقدمة غير منظورة ومحاربين وكلاء في كل من العراق ولبنان وسوريا بشكل أساسي.

في الكتاب الذي صدر بالفارسية بعنوان خاطرات «الحاج قاسم»، وترجم إلى العربية بعنوان «قاسم سليماني: ذكريات وخواطر»؛ جمع المعدّ بعض ذكريات سليماني وخطبه أثناء معارك «الدفاع المقدس»، وهو وصف الحرب العراقية الإيرانية من وجهة نظر طهران، تاركاً للتاريخ أن يسجل وقائع السنوات التي نقل فيها سليماني الصراع من الدفاع إلى الهجوم عبر التمدد الإقليمي بأذرع راسخة.

غير أن الكتاب لا يفتقر إلى القيمة الراهنة، فهو يرسم بوضوح معالم تكوين هذا القائد البارز، منذ ولادته في قرية صغيرة من ضواحي مدينة كرمان، عام 1958، وتركه المدرسة بعد نيل الابتدائية ليصبح عامل بناء، ثم تمكنه من الحصول على شهادة البكالوريا وشغل وظيفة في «مصلحة مياه كرمان»، حتى التحاقه بالحرس الثوري عام 1980، قبل أشهر من اندلاع الحرب العراقية الإيرانية وانتقاله إلى الجبهة بوصفه قائد فصيل محلي مكون من 300 مقاتل، في مهمة مدتها الأصلية أسبوعان، وقدّر لها أن تستمر حتى انتهاء الحرب بعد ثماني سنوات هي الأعمق والأشد حفراً في حياة هذا المتطوع المتحمس وشخصيته، بين الثانية والعشرين والثلاثين من عمره.

لا شيء أكثر حضوراً في خاطرات سليماني من زملائه «الشهداء» وحكاياتهم. إنهم ليسوا هناك فقط، حيث سقطوا بين الأشجار والرمال والمياه، بل هنا أيضاً، في ذاكرته القريبة ومخيلته. يروحون ويجيئون مسلّحين بمباركة «صاحب الزمان» الذي يتجلى لهم في الأحلام، و«الزهراء» التي لا تفارقهم في الطريق إلى كربلائهم، عندما تلعب الروحانيات الدور الأكبر في تحديد نتيجة المعركة، لا الخطط الحربية المحترفة التي يشير إليها سليماني باستهانة، كما يفعل مترجموه الذين يفاخرون أنه خرّيج مدرسة «الشهداء» لا «الأكاديميات الحديثة».

في هذا، وفي غيره، يبدو سليماني ابناً صميماً لتجربة الحرس الثوري الذي يعدّه «معراج المجاهدين». وبالضبط، كما تغوّل الحرس على الحياة العسكرية والسياسية في إيران باعتباره مؤسسة وصاية فوق حكومية، فضّل سليماني التعامل مع تشكيلات رديفة وقوى أهلية لا مع القوات النظامية؛ كالحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان والميليشيات العديدة في سوريا، وقبل ذلك كله مع فصائل في أفغانستان اللصيقة.

لكنه، بخلاف قادة آخرين في الحرس، لم يتدخل بشكل مؤثر في الشؤون الداخلية وأجنحتها المتصارعة، ولا في هيمنة جنرالاته الاقتصادية وما لحق بها أحياناً من شبه فساد. المشكلة المعلنة الوحيدة التي ارتبطت باسم سليماني كانت عند اصطحابه بشار الأسد في زيارة مفاجئة إلى المرشد، في شباط 2019، دون حتى إبلاغ وزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي تقدّم باستقالته إثر ذلك. لقد كان ظريف، بلحيته المشذبة وبدلته المدنية، رأس ديبلوماسية الحكومة. أما سليماني فكان وزير خارجية الخامنئي وجنديه الأثير، بأساليب حربية وذخيرة وافرة.

في الواقع، يرجع الجزء الأكبر من إنجاز سليماني إلى كونه موضع ثقة الولي الفقيه آية الله علي خامنئي. وذلك عبر ما أتاحه المرشد للجنرال من إمكانات مادية وحربية ومد عباءة «الولاية» عليه بأمر المقلدين بطاعته، وهذا عامل حاسم لدى ملايين الشيعة العراقيين واللبنانيين، سواء في بلادهم أم في سوريا التي انطلقوا لممارسة «الجهاد» فيها، ناهيك عن مجندين أفغان وباكستانيين زجّهم سليماني في هذه الحرب مستنداً إلى علاقات حدودية سابقة، وأخيراً بالاعتماد على أقلية شيعية سورية صغيرة عملت بطاقة شبه كاملة وبمواقع محلية مميزة.

طيلة سنوات من البقاء في الظل تكونت عن سليماني أساطير غذّاها موالوه، ونفخ فيها أعداؤه أحياناً، من الخبرة الإستراتيجية إلى المهارات التكتيكية. غير أن شيئاً من هذا لا يبدو مؤكداً مع وقائع الوحشية البدائية العارية التي اتسمت بها أغلب انتصارات قواته الفصائلية والشعبية متباينة التأهيل في كل من سوريا والعراق. وخاصة إثر مقتله بشكل بدا معه في متناول اليد، إثر سفره بطائرة ركاب من بيئة شهيرة بالفساد في مطار دمشق، بعدما نُسبت إليه عقلية استخباراتية فذة!

أما الفيديوهات القليلة التي بُثت له، أو تسربت، فلا تقول أكثر مما تفيد به سنوات التكوين تلك عن رجل يتمتع ببساطة نسبية مباشرة، لكنه يقضي جل وقته بين عناصره المختلفين على الأرض، متنقلاً بيسر بين الدول، يلقي فيهم مواعظ عاطفية مفعمة بالرموز الطائفية، ويقودهم إلى القتل.

تشكّلت كاريزما قاسم سليماني من نمط القيادة الشعبوي هذا، من إمامته بجنوده قبل الاشتباك، من تقبيله رجلي أم «شهيد»، من تبركه ببقايا اليد المقطوعة لجريح، من تعليق صور من قضوا من رفاق دربه على جدران منزله الذي صار قليلاً ما يمكث فيه خلال الأعوام الفائتة، من الرسالة التي تركها في أحد منازل مدينة البوكمال السورية الحدودية، معتذراً من صاحب البيت على الإقامة فيه لأيام، مغفلاً دولاً قد استباحها ودماء عارمة أسالها!

لكنه، عبر تصرفات المقاتل المخلص هذه والتواضع الشخصي، كوّن علاقات فئوية واسعة سرت عميقاً في شروخ تكوين بلدان المشرق العربي الذي انهارت دوله الوطنية المفلوقة بتصدعات عمودية، وتُركت جماعاته لتتدبر أمرها ولو بالاستثمار الخارجي الذي يغدو داخلياً مع الولاء الطائفي.

سليماني لا يُعوّض بالنسبة لإيران. إنه ليس مجرد قائد يجري تعيين آخر مكانه. فقد صار جزءاً عضوياً من تواريخ دول المنطقة في العقد الأخير. ولذا فإن مقتله يؤذن بوضع حد للطموحات الإمبراطورية بعدما ضاق بها العالم. ورغم التهديدات ذات النبرة العالية يستبعد أن تتورط إيران في حرب شاملة. أما أيتام الحاج قاسم فلا يتقنون الرد سوى بالإرهاب الذي سيستنفر المزيد من الأعداء بسبب شراسته وانتشاره، حتى يتم تطويقه وإخماده. إنه طريق طويل وعسير بعد سنوات من الغطرسة، لكن الأرجح أنه قد بدأ.

كلمات مفتاحية

قاسم سليماني

تلفزيون سوريا

==========================

مقالات مختارة أضيفت بتاريخ 4 كانون الثاني 2020

قصتنا مع قاسم سليماني/ عمر قدور

قصتنا مع قاسم سليماني سليماني يقود العمليات العسكرية في مدينة الميادين بدير الزور السورية الحدودية (روسيا اليوم)

كان ثمة شبح يخيّم في رأسي، اسمه قاسم سليماني. أكتب بداية كسوري يُفترض به نظرياً أن يتلقى خبر مقتله كحدث لا يمسّه مباشرة، كتصعيد بين واشنطن وإيران في العراق وربما الخليج. لكنني لست من استدعى سليماني إلى رأسه، هو من حشر نفسه عنوة فيه، وفعل المثل بملايين رؤوس السوريين بينما كانت تتوالى أخبار تحركاته مع الميليشيات التابعة له في مختلف أنحاء سوريا مخلّفة الإبادة والدمار.

في أواخر ربيع 2011 كنا مجموعة صغيرة تقلّب الفيديوهات الآتية من جسر الشغور، حيث كان الأهالي يتظاهرون ضد بشار الأسد. استوقفتنا آنذاك المواجهة الصامتة بين المتظاهرين والسدّ المسلّح الذي يقف في مواجهتهم، كنا نعيد التسجيل بطيئاً، ونكرر التوقف عند سحنات أولئك المسلحين وردود أفعالهم على هتافات المتظاهرين. لم يكن ذلك السد المسلّح من مخابرات الأسد أو شبيحته، صار ذلك مؤكداً بسبب سحناتهم وتعابير أوجههم التي لا تتفاعل سلباً “وبالتأكيد لا تتفاعل إيجاباً” مع الهتافات. إنهم إيرانيون؛ كنا أكثر من جازمين في استنتاجنا هذا، ولم نكن سعيدين به لأنه يعِد بمواجهة لا نتمناها.

باكراً جداً، عندما كان الرصاص الوحيد الذي يُطلق يأتي من بنادق ورشاشات مخابرات الأسد وشبيحته، شاعت بين السوريين أخبار مجيء قاسم سليماني وإشرافه المباشر على إعادة هيكلة القوات المكلّفة بحماية بشار الأسد شخصياً. تلك الأخبار لا علاقة لها بما سيُشار إليه كصراع شيعي-سني في المنطقة، يجد له ساحة في سوريا، ففي ذلك الوقت كان الطرف “السني” يبذل جهوداً ودودة لإقناع بشار بإجراء بعض الإصلاحات لامتصاص النقمة. في ما بعد ستأتي الأخبار من الإعلام الإيراني، لتكشف عن انتصار رأي سليماني الذي قرر مبكراً “بدعم من المرشد” التدخل لإنقاذ بشار، عندما كان بعض المسؤولين الآخرين يفكرون في فرضية استبداله.

أيضاً كنا نعلم، أبكر بكثير من إعلانه عن تدخله، أن تدخل ميليشيات حزب الله في سوريا لا يأتي إلا بتنسيق وثيق مع طهران، بما فيه التنسيق الميداني. سيكشف سليماني في شهر تشرين الأول الماضي أنه كان قائداً ميدانياً في حرب تموز 2006، لأن مثل هذه المشاركة ترفع من أسهمه في سوق الممانعة، أما التأويل الأوسع فسيتولى موقع المرشد خامنئي تقديمه، إذ اعتبر “نصر” تموز بمثابة هندسة جديدة للمنطقة تلبي المصالح التوسعية الإيرانية. لا حاجة للقول أن سليماني لم يستأذن اللبنانيين ليقود معركة في أرضهم، وأننا قد لا نحظى قريباً برواية دقيقة كاملة عن دوره كقائد ميداني في سوريا، رغم أنه وحليفه اللبناني كانا يسوّقان رواية قتالهما “اليهود” فيها.

تتضارب الأنباء حول تفاصيل مقتل سليماني، وما إذا كان وقت مقتله قادماً من لبنان أو سوريا! الحاج، كما يلقَّب أحياناً، يتنقل بحكم عمله الدموي بين هذه الدول التي صرّح أكثر من مسؤول إيراني بأنها صارت تابعة لحكم الملالي، أما استخدام مطار بغداد الدولي ليسافر منه وإليه فهو بمثابة استخدام مطار داخلي إيراني ليس إلا. وكالة “إرنا” الإيرانية أعلنت عن قدوم القتيل من لبنان، وبات معروفاً أن برفقته نائب رئيس الحشد الشعبي العراقي، مع التذكير بوجود ثورة في لبنان وأخرى في العراق، ودور الرجلين البارز في مسلسل القتل الذي يلاقيه نشطاء عراقيون، وبالتكهنات التي سبقت مقتلهما عن نية لتصعيد الحل الأمني في لبنان. هذا مسلسل من بطولة سليماني، كنا شهدنا حلقاته الأكثر دموية كسوريين، أو وفق دورنا الذي كان يُروّج له، مرة كأنصار لمعاوية وقتلة ليزيد وأخرى كـ”يهود” يمر من فوق جثثهم طريقه المزعوم إلى القدس.

صحيح أن سيرة سليماني فيها محطات بارزة عديدة، إلا أن “نجمه الذي يخصنا” سطع بعد انطلاق الثورة السورية، ليظهر لاحقاً في اليمن، ثم في العراق، وربما لم يسعفه القدر لنرى “بركاته” على لبنان. وأن يبرز اسمه مع ثورات الشعوب، وعلى الضد من تطلعاتها، فهذا وحده كافٍ لوصف الرجل، مع التنويه بوقوفه يوماً ما ضد الرئيس محمد خاتمي الذي كان يُعدّ الوجه المنفتح لحكم الملالي، بل توقيعه مع آخرين على ما يعتبر إنذاراً للرئيس. لا ننسى أيضاً ما يُنسب له من دور مع قادة الحرس الثوري في قمع أكثر من انتفاضة إيرانية، ووجوده بين أولئك القادة له مدلول خاص عطفاً على اعتباره الابن المدلل للمرشد، والوحيد الذي نال منه تكريماً على أعلى مستوى، فوق ما يُقال عن تمتعه بالقدرة على الإنفاق المالي لصالح فيلقه دونما حساب.

كنا نستحق رؤية سليماني في قفص العدالة، كي نطلع على الحقائق والأدوار التي لعبها وذهب ضحيتها عشرات أو مئات الآلاف من أبناء المنطقة. ذلك لم يعد متاحاً، لا بسبب مقتله فحسب، وإنما أيضاً بسبب ما جرت عليه العادة من غياب العدالة في منطقتنا. موقع سليماني نفسه، الموقع الذي يدركه هو تماماً، يجعل منه قاتلاً أو مقتولاً، إذ اختار لنفسه منذ البداية أن يكون محارباً على النحو الذي كان عليه. كان المرشد يطلق عليه لقب “الشهيد الحي”، وأغلب الظن أنه كان سعيداً باللقب، وربما عن إخلاص كان يتمنى موته قتلاً كما حصل، أقلّه هذا قدر أرحم له من المثول أمام عدالة قاتلَ كي لا تتحقق من أجل الآخرين.

سيكون من السهولة تذكيرنا، إذا نسينا، بأن سليماني هو فرد ضمن منظومة لن تكف عن عملها، بل قد تنتقم بوحشية. وسيكون من السهل تذكيرنا، وكأننا لا نعلم، بأن آخر ما تكترث به واشنطن هي مصالح شعوب المنطقة، وبأنها لم تتحرك إلا عندما بدأت أذرع قاسم سليماني بتهديد مصالحها والتوعد بالمزيد. لكن من السهل أيضاً التذكير بأن سليماني كان ذلك الفرد الذي أنفق الكثير من الجهد، وأُنفق عليه الكثير منه، من أجل الظهور كواجهة استثنائية لمشروع لا يعرف الكلل أو الخسارة. من السهل التذكير بأن اغتياله كان خطاً أحمر أمريكياً، قبل أن يكون كذلك إيرانياً، وبأن المخابرات الأمريكية منعت من قبل محاولتي اغتيال بسبب وجوده مع آخرين مُستهدفين.

لن ننسى بالتأكيد أن ميليشيات سليماني كانت تعمل ضمن ما ترضى عنه واشنطن، أو لا يثير غضبها، وأنه هو الذي خرج عن السيناريو المعمول به لسنوات طويلة. لقد دفعنا غالياً ثمن التفاهم غير الصريح بين الطرفين، وقد نشارك في دفع ثمن صراعهما؛ ذلك قد يصحّ أكثر على غير السوريين، السوريين الذين كان لسليماني يد طولى في ألا يبقى لديهم ما يخسرونه.

المدن

————————

أسئلة بخصوص مقتل سليماني../ راتب شعبو

يشير تسلسل الأحداث السابقة لاغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، إلى أن استهدافه جاء ضمن سلسلة أفعال وردود فعل انتقامية طرفاها إيران وأميريكا: مقتل مقاول أميريكي في هجوم نفذته قوات الحشد الشعبي (ذات الولاء الإيراني) على قواعد عراقية في كركوك تستضيف قوات أميريكية، يليه قصف نفذته أميركيا ضد مواقع للحشد الشعبي في محيط بلدة القائم قرب الحدود العراقية السورية انتقاماً، ثم الهجوم على السفارة الأميريكية في بغداد من قبل “أنصار” الحشد الشعبي رداً على القصف، تلا ذلك اغتيال سليماني بطائرات أميريكية مسيرة.

محرك التسلسل السابق للأحداث الانتقامية هو صراع ايراني اميريكي متصاعد منذ أن انسحبت أميريكا من الاتفاق النووي بين ايران والقوى الدولية، وعودة الولايات المتحدة إلى فرض العقوبات وتشديدها على إيران. والضحية الأولى المرشحة لهذا التسلسل الانتقامي هو الحراك الشعبي في العراق الذي يريد استعادة ذاته وسيادته.

فيلق القدس الذي يقوده سليماني، هو وحدات قتالية خاصة مسؤولة عن الأنشطة والعمليات الاستخباراتية وغير التقليدية خارج الحدود، وهو يدعم تشكيلات عسكرية غير دولتية (non state actors) في دول المنطقة (أفغانستان والعراق وسورية ولبنان وفلسطين واليمن)، وفق توجيهات القائد الأعلى علي خامنئي المسؤول المباشر عن الفيلق. على هذا كان قاسم سليماني هو الذراع أو القوة التنفيذية للسياسة الإيرانية التوسعية والهيمنية في المنطقة، السياسة التي تقوم على إنشاء كيانات عسكرية موازية للجيش ومستقلة عنه. كان لسليماني حضور في كل الساحات المذكورة، وقد صنفه أحد قادة جهاز المخابرات المركزية الأميريكية بعد 2013، بأنه الرجل الأقوى في الشرق الأوسط.

وفيما يخص دوره وحضوره في سورية، يقال إن سليماني شارك في وضع استراتيجية نظام الأسد في المواجهة الوحشية للثورة السورية منذ اندلاعها في آذار 2011. ويقال أيضاً إنه هو من فاوض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإقناعه بالتدخل المباشر في سورية، وهو من قاد ميدانياً معركة إعادة السيطرة على شرقي حلب أواخر العام 2016. ليس من المفاجئ بالتالي أن يولد مقتله الفرح وشفاء الغليل لدى نسبة كبيرة من السوريين الذين تعرضوا لبطش النظام (ومن ضمنه بطش القوى الطائفية التابعة لسليماني) على مدى السنوات التسع الماضية.

لكن ما ينبغي التفكير فيه، بعد الارتياح أو الفرح العفوي لمقتل مجرم مسؤول عن موت وعذابات مئات آلاف السوريين، هو ماذا يعني مقتل الرجل بالنسبة لقضية الشعب السوري؟ ماذا نجني من مقتل سليماني بصواريخ أميريكية لم يحركها مقتل وتشريد آلاف العائلات في إدلب اليوم؟ الصراع الذي مات فيه سليماني هو صراع آخر غير الصراع الذي يخوضه السوريون، هو صراع أكبر وأشمل ولا حضور فيه لحقوق السوريين وأحلامهم.

من طبيعة الصراع الأكبر أنه يستتبع الصراع الأصغر ويهمش قضيته. فعل هذا القانون فعله في سياق الثورة السورية والصراع الحربي الذي تلاها، وكان من نتيجة الاستتباع المذكور، أن تهمشت مضامين الثورة ومقاصدها الأولى، وتحولت قوى الثورة إلى عناصر في الصراع الأكبر مبتعدة عن أهدافها الأولى، ما جعلها تفقد قيمتها الثورية. ومع اندراج الصراع السوري الداخلي أكثر فأكثر في إطار صراع إقليمي وعالمي، هو صراع سيطرة واقتسام نفوذ بين دول، راحت أنظار نخبة وجمهور الثورة، تنشد إلى مجريات ومعطيات الصراع بين القوى المنخرطة في الشأن السوري على أمل أن تنعكس هذه المجريات، بطريقة ما، خيراً على صراعهم المباشر مع نظام الأسد.

في نوفمبر 2015، فرح السوريون المقهورون، وشعروا بشيء من النصر، عندما أسقطت تركيا طائرة السوخوي 24 الروسية، وكانت النتيجة أن تركيا دخلت مع روسيا بعد ذلك، في مسار تصفية القضية التي خرج لها السوريون، عن طريق الاقتسام السياسي والعسكري للصراع السوري. كما لم ينتج عن الضربات الاسرائيلية المتكررة لمواقع عسكرية سورية، والتي قابلها كثير من السوريين بلا مبالاة أو حتى بارتياح، تحسين في شروط انتصار الثورة، بل أضافت بالأحرى إلى مأساتهم التي أنزلها بهم نظام الأسد، مشاعر الهوان الوطني العام. واليوم من غير المرجح أن يقود مقتل سليماني إلى نتيجة مغايرة، فقد يؤدي إلى أفعال انتقام إضافية متبادلة تكون سورية أو العراق ساحتها ويدفع الشعبين ضريبتها، أو قد يكون مقتله عنصراً في صفقة ايرانية اميركية على حساب الشعب السوري أو العراقي. وفي كل حال، جاء سريعاً “سليماني” جديد، اسمه “اسماعيل قاآني”، ليتابع السياسة الإيرانية نفسها التي لا تريد أميريكا، في الواقع، سوى تشذيبها من حين لآخر.

كلما علا صوت الصراع الأكبر، كلما ضاع الصراع الأصغر في ثناياه وتهمشت أكثر مضامينه. ويكون الصراع صغيراً بقدر ما يفتقد لقواه الذاتية ولعوامل الاستقلال والندية في علاقته بالخارج. هكذا يبدو فرح السوريين بمقتل سليماني فرح حزين ومحزن.

———————————-

سليماني ومغانم صيد الضواري/ صبحي حديدي

ذات يوم كان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن قد صنّف إيران في خانة “محور الشرّ”، على صعيد الخطاب والسياسة المعلنة؛ وفي الآن ذاته كان قاسم سليماني، أبرز ضباط “الحرس الثوري” الإيراني المسؤولين عن توسيع رقعة ولاية الفقيه في الشرق الأوسط، أبرز المنسّقين مع البنتاغون وأجهزة الاستخبارات الأمريكية المختلفة في التفكيك المنهجي لنفوذ الطالبان في أفغانستان. تلك صيغة من التعاون الأمريكي ــ الإيراني كانت نادرة بالطبع، في عصور ما بعد انتصار الثورة الإسلامية؛ لكنها لم تكن الوحيدة، إذْ سوف تتكرر خلال رئاسة باراك أوباما حين سيقود سليماني التنسيق بين الميليشيات العراقية الشيعية وضباط “الحرس الثوري”، من جهة؛ والقوات الأمريكية التي استقدمتها الحكومة العراقية من جهة ثانية، في الحرب المشتركة ضدّ “داعش”.

هذه المفارقة، غير الغريبة البتة عن ثقافة التعايش بين الولايات المتحدة وخصومها، الافتراضيين والموسميين تحديداً، لم تكن السبب الأبرز وراء رضوخ بوش الابن وأوباما، ثمّ دونالد ترامب نفسه في الواقع، للحيثيات التي ساقها مستشارو مجلس الأمن القومي الأمريكي المتعاقبون، ضدّ وضع سليماني على لائحة صيد الطائرات المسيّرة. كان الناصحون على دراية كافية بما يمكن أن تسفر عنه عملية كهذه، بصرف النظر عن مغانمه؛ فالرجل تلطخت يداه بدماء أمريكية وافرة تستدعي الثأر والقصاص؛ لكنه، أيضاً، الرجل الذي كان مفيداً، ويمكن أن يفيد في قليل أو كثير عند أيّ منعطف مقبل. هذا إلى جانب مقدار الاستفزاز الذي ستنطوي عليه عملية إزاحته من المشهد، خاصة إذا تمت ضمن ملابسات استعراضية تظهّر شخصية التفوّق اليانكي السوبرماني وتجرح الوجدان الجَمْعي الإيراني خصوصاً، ثمّ الشيعي الكوني عموماً.

وهكذا فإنّ الاعتبارات التي حصّنت بوش الابن وأوباما من الوقوع تحت إغواء الذهاب إلى صيد الضواري، ظلت سارية المفعول عند ترامب نفسه أيضاً؛ خاصة وأنّ الطريدة، سليماني، لم يكن متوارياً في جحر على غرار اسامة بن لادن أو البغدادي، بل كان يسرح ويمرح في رابعة النهار. في ليل اليوم الثاني من السنة الجديدة 2020 بدت الإغراءات أشدّ جاذبية من أن تُقاوم، عند رئيس حشر ذاته في أكثر من معركة سياسية داخلية تستلزم قتال الضواري، بعقلية الضواري! الانتخابات الرئاسية على الأبواب، وخصوم الرئيس الديمقراطيون لا يوفرون جهداً لتضييق الخناق عليه عبر إجراءات عزل لا تقتل لكنها تصيب بالدوار، والتصعيد مع إيران بدأ من نقض الاتفاق النووي الأممي وانتقل إلى حرب اقتصادية قوامها عقوبات لا مثيل لها في التاريخ، وها أنه يعبر الحدود إلى العراق… تحت سمع وبصر، ثمّ تخطيط وإشراف، الجنرال الإيراني “المفيد” إياه: سليماني.

والسؤال المدرسي الذي يمكن أن يطرحه ذو البصيرة، فما بالك بأيّ محلل أو خبير أو مستشار في شؤون وشجون السياسة والأمن: هل التخلّص من الأفراد (إذْ هكذا بدت عملية اغتيال سليماني) يمكن أن يبدّل ستراتيجيات عداء كبرى متكاملة، تتفاقم كلّ يوم وتزداد اشتعالاً، بين واشنطن وطهران؟ السؤال المتفرع، والرديف، يتقدّم منطقياً هكذا: وهل الانتقام (إذْ لاح أنّ هذا هو الدافع الثاني، إذا لم يكن الأوّل) ستراتيجية سليمة، ولدى قوّة كونية عظمى على وجه التحديد؟ ولكن، استطراداً، متى كان هذا الطراز من الأسئلة يستولد دلالة كافية، فما بالك أن تكون رادعة، عند الدماغ الذي يحمله ترامب في رأسه؟

في كلّ حال، كان سليماني مجرم حرب، بامتياز، في يقين الملايين من أبناء سوريا والعراق ولبنان واليمن وأفغانستان وأماكن أخرى كثيرة، ممّن أنزلت بهم خياراته الفاشية كوارث مأساوية دامية وبعيدة العواقب؛ وكان عند ملايين آخرين، في المقابل، رأس حربة كبرى لبسط نفوذ ولاية الفقيه، وشحن المقاتل في ميليشيات التشيّع بالغلوّ الأقصى والأشدّ تعطشاً إلى إراقة الدماء على مذبح التعصّب المذهبي. وغيابه لن يحول دون صعود خليفة سواه، أشدّ بطشاً وشراسة وفاشية، إذْ أنّ حراب الوالي الفقيه لا تُعدّ ولا تُحصى.

القدس العربي

——————————

قبل الاغتيال وبعده .. إيرانياً/ غازي دحمان

شغل قاسم سليماني مساحة مهمة في تطورات الأحداث المعاصرة في الشرق الأوسط، فهو، بحسب تقييم العارفين لشؤون المنطقة، مهندس جزء كبير من هذه الأحداث، ويخطئ من يعتقد أن النفوذ الإيراني ما بعد سليماني سيكون مثل ما كان قبل مقتله، فاعتقاد كهذا يحيد خصوصية القائد وأهميته في صناعة الأحداث وتوجيهها. بموته، ستفقد إيران الكثير من مفاتيح نفوذها وسيطرتها في المشرق. صحيح أن الحرس الثوري باق، وأن خليفته إسماعيل قاآني يأتي من المؤسسة نفسها، ويمتلك هامشاً من الخبرة والمعرفة تؤهله للقيادة، لكن الأكيد أن لكل قائد بصمته وأسلوبه اللذين يستحيل استنساخهما لدى قائد آخر أو توريثهما.

ليس سرّاً أن القادة في الشرق، وخصوصا من هم في الصف الأول، وبحجم سليماني، لا يكشفون كل أوراقهم في طريقة إدارتهم الأشياء، ويبقون بعضاً منها أسرارا مكتومة حتى على القيادات العليا، ربما لأنهم يديرونها بطريقةٍ لا تعجب هؤلاء، وربما لأنهم حذرون من كشف أوراقهم كاملة حتى لا يتم الاستغناء عنهم وإطاحتهم، كما أنهم يوزّعون أسرار إدارة العمل، حسب الضرورات العملياتية والمقتضيات الأمنية. وبالتالي، من الصعب على من يخلفهم التقاط جميع تلك الأسرار والتفاصيل، في بيئات عمل عادة ما تكون محكومةً بالتنافس والاستقطابات داخل منظوماتهم. وبالتالي، يبقي هذا القائد مفاتيح كثيرة لا يستطيع غيره تشغيلها، ولا يوجد قائدٌ يخطط لسير المنظمة التي يديرها بعد موته وغيابه.

تتأتى أهمية قاسم سليماني من كونه صانع منظومة إيران في المنطقة، ومهندس خططها ومشاريعها، وقد اختار عناصر تلك المنظومة بعناية، وعبر زمن ليس قصيرا، وأقام علاقات ثقةٍ مع شبكة واسعة من قادة هذه الشبكات. وقد خسرت هذه المنظومة قائدها ومنسّق فعالياتها، ومن الصعب على من يخلفه في القيادة إدارة هذه المنظومة بدرجة السلاسة والإتقان نفسها، كما من الصعب الاعتماد على عنصر التمويل وحده، للمراهنة على أن الأمور لن تتغير.

من جانب آخر، لا يملك أي قائد، بعد سليماني، الشرعية والمكانة الخاصة اللتين حظي بهما، فقد كانت له مكانته المهمة في الهيكلية السياسية والعسكرية الإيرانية، وقد منحته هذه المكانة هامش حركةٍ واسعاً في اتخاذ القرار وتقرير الأمور، من دون الخضوع للبيروقراطيات داخل النظام الإيراني، سواء من حيث طريقة تصرّفه بالميزانيات والمخصّصات اللازمة لإدارة اللعبة في المنطقة، ولا من حيث التعامل مع المستجدّات الطارئة، وكان ذلك أحد أسباب مرونة عمل سليماني في بيئة صراعية معقدة وكثيفة التغيرات.

لسليماني ذراع طويلة في إدارة دفة التطوّرات التي حصلت في المنطقة، خصوصا في سورية والعراق، فقد لعب دوراً مهماً في هندسة مخرجات الحروب في البلدين وتصميمها، من عمليات تدمير المدن، وسياسات الحصار والتجويع، وعمليات التفريغ الديمغرافي. والأخطر من ذلك كله تشويه الثورات في البلدين، ليتسنّى قتلهما بدم بارد، كما بات معلوماً دوره في إقناع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في التدخل في سورية.

ولكن أخطر ما صنعه سليماني هو التشكيلات العسكرية المنتشرة في سورية والعراق، والتي تعد بمئات آلاف المتطوعين الذين ينضوون في مليشيات عديدة تعتبر أهم أدوات إيران في الصراع على المنطقة. وأخطر ما في هذه المنظومة أنها تشكّلت أجساما منفصلة عن الدول التي تتبع لها، وبهدف تعزيز النفوذ الإيراني وتكريسه بالدرجة الأولى، فيما تأتي الأهداف الأخرى، مثل المحافظة على النظم الحاكمة في البلدين، بدرجةٍ ثانيةٍ في سلم أولويات إيران.

أدار قاسم سليماني اللعبة في المنطقة بذكاء وحذر شديديْن، فمن جهةٍ استطاع تعبئة جزء من شعوب المنطقة، لتحقيق أهداف إيران، عبر تحشيد أيديولوجي ديني، ظاهره الاهتمام بمظلومية تلك الشعوب، وإظهار أن العامل الإيراني ليس له أي هدف أو مطمع سوى العمل من أجل خدمة هذه الشعوب، وتحصيل حقوقها. ومن جهة أخرى، عمل على امتصاص الاستفزازات الإسرائيلية والأميركية، حتى لا يتم التشويش على أهدافه في السيطرة على المنطقة. وكان بخبرته السياسية والعسكرية يعلم أن أميركا ليس لديها مشكلة في قتل السوريين والعراقيين. وقد استثمر هذا المعطى للظهور بمظهر القائد الجبار الذي يروّض المجتمعات المحلية في سورية والعراق، ويجذب متحمسين كثيرين للانتقام الطائفي، للانخراط في صفوف مليشياته.

ولكن قاسم سليماني ارتكب أكبر أخطائه عندما تجاوز الخطوط الأميركية الحمراء، عبر مهاجمة سفارة واشنطن في بغداد، واستهداف القواعد الأميركية. وليس واضحاً أسباب ارتكاب سليماني هذا الخطأ، وما إذا كان نتيجة عدم تقييم دقيق لرد الفعل الأميركي، أو نتيجة البيئة الضاغطة التي أوجدتها الظروف الاقتصادية السيئة التي تمر بها إيران جرّاء العقوبات الاقتصادية الأميركية.

سيربك مقتل سليماني إدارة إيران لصراعاتها في المنطقة، خصوصا أنه يحصل في لحظة مفصلية، إذ تواجه إيران تحدّيات شرسة، حتى من حليفها الروسي، ولم يكن ينقصها غياب مهندس وصانع نفوذها، قاسم سليماني.

العربي الجديد

———————————-

الهدف التالي لترامب بعد “سليماني”/ سميرة المسالمة

ينهي الرئيس الأميركي دونالد ترامب مرحلة التراسل عن بعد مع إيران بضربته المباشرة والقاتلة لقاسم سليماني، والقياديين البارزين في الحشد الشعبي العراقي الموالي لإيران، وآخرين قد يخفي قائد مليشيا حزب الله اللبنانية حسن نصر الله هويتهم الحقيقية لبعض الوقت، وهو يبتلع هزيمته ويغص بدموعه، ويستعد لما بعد طور تغيير قواعد الاشتباك التي أعلنتها الولايات المتحدة في عمليتها النوعية أمس الخميس الأول في 2020.

وهم بحسب أفراح الشارع العربي يمثلون رموز الإرهاب الإيراني في سوريا والعراق ولبنان والمنطقة عموماً، ما يعني أننا أمام مرحلة جديدة في المواجهة التي اختصرها ترامب بتغريدة واضحة المعاني “إن إيران لم تفز في الحرب يوماً ولكنها لم تخسر مفاوضات أبدا” ما يعني أنها أمام آخر فرصة للخيار بين حرب خاسرة قد لا تنجو قياداتها من مصير مماثل لسليماني، أو مفاوضات تضمن فيها ماء وجهها وفق عباءة أميركية مقاسها أصغر من إيران المتطاولة حتى حدود العواصم العربية الأربعالتي تتفاخر بالهيمنة عليها (بيروت وصنعاء ودمشق وبغداد) ، ولبسها يستوجب تغييراً ملموساً في شكل وسلوك وخطوات مرتديها.

من جديد تفتح الولايات المتحدة الأميركية الخيارات أمام إيران، بعد أن أنهت قصص “خزعبلاتها” حول قدسية وأسطورة قائد الحرس الثوري الذي التهم من أجساد السوريين والعراقيين وشرب من دمائهم، ليتحول إلى بعبع إيران خارج أراضيها، وتقرر بعمليتها “الاستئصالية” نوع المعركة وزمانها لتحشر النظام الإيراني في زاوية ضيقة فإما الرد على نفاد الصبر الأميركي عليها بحرب يقرر سلفاً ترامب أنها ستكون كسابقاتها “لن تربحها”، أو تبتلع تشبيحها لتتوسط حلفاءها من الغرب لمد طاولة مفاوضات تنهي فيها الإدارة الأميركية الأدوار السابقة التي سمحت بها لإيران في المنطقة بعد قرار انسحابها من العراق.

العملية التي أدت إلى مقتل القاسمي قائد الحرس الثوري ومعه “أبو مهدي المهندس أو جمال إبراهيمي” نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي تعيدنا إلى الشروط ال12 التي أعلنها مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي منذ نحو عام ونيف (16/11/2018) لعودة الولايات المتحدة لإبرام اتفاق مع إيران وتطبيع العلاقات التي تتضمن بين بنودها ما يتعلق بوقف تخصيب اليورانيوم وما يتعلق بالصواريخ الباليستية وإخلاء سبيل المحتجزين الأميركيين، وصولاً إلى وقف دعم الإرهاب بواسطة فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، والتعامل باحترام مع الحكومة العراقية وعدم عرقلة حل التشكيلات الشيعية المسلحة ونزع سلاحها، والتي تأتي على رأسها قوات الحشد الشعبي، ما يعني أن الولايات المتحدة انتقلت من مرحلة مطالبة إيران بالتنفيذ إلى مرحلة التنفيذ الأميركي المباشر وبأسلحتها الفتاكة.

ما يعني أن الشروط الأميركية التي تتشارك فيها إسرائيل لم توضع في الأدراج كما تروج آلة الدعاية الإيرانية ومن يدور في فلكها فهي ما تزال قيد الحياة ما يجعل الوجود الإيراني في سوريا مهدداً وتحت طائلة التنفيذ، من دون أن تتجاهل الولايات المتحدة التزاماتها في تحذير إيران من استمرار عربدتها على دول الجوار وممارسة عملياتها الإرهابية على حلفائها في المنطقة.

لم ينس آنذاك “بومبيو” حصة حزب الله كتنظيم إرهابي في المنطقة، والتي ساوته بالحوثيين وطالبان والقاعدة، ما يعني أنها بعد أن فرغت من رأس الإرهاب “أبو بكر البغدادي” وقياديين معه و”سليماني” و”المهندس” فإن التالي بحسب بنودها ال12 هو رأس أحد تلك التنظيمات المصنفة -على ذمتها- إرهابية فهل قرأ حسن نصر الله تلك الشروط وفهم مغزى العملية النوعية وتمزيق جثث من سمتهم الولايات المتحدة بالإرهابيين وتسلسل قائمة الموتى في تغريدات رئيسها؟

—————————–

ما أثر مقتل سليماني على النفوذ الإيراني في سوريا؟

لا يؤثر اغتيال اللواء قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني على سيطرة إيران المطلقة على العراق فحسب؛ إنما على تسيير عمل قواتها ومليشياتها الطائفية في سوريا أيضاً.

فقد كان سليماني ومجموعة من قادة الحشد الشعبي الموالين بالكامل لطهران قادمين على متن طائرة من العاصمة السورية دمشق، قبل أن تغتالهم الولايات المتحدة قرب مطار بغداد الدولي فجر الجمعة (3 ديسمبر 2020).

وكانت سوريا على مدار السنوات السابقة أحد أهم مراكز نفوذ إيران وتمددها في العالم العربي، حيث تنتشر مليشياتها وأذرعها العسكرية في مناطق متعددة من الخريطة السورية، ولقاسم سليماني صلة مباشرة بكل تلك المجموعات المتهمة بقتل وتهجير مئات الآلاف من السوريين.

النفوذ الإيراني في سوريا

ويعتبر التمدد العسكري الإيراني في سوريا مباشراً منذ عام 2012، عندما سعت طهران من البداية لدعم نظام بشار الأسد من السقوط إبان اندلاع الثورة السورية، في مقابل مد أياديها بكل مكان من البلاد من خلال قوات نظامية ومليشيات “شيعية”.

وشاركت قوات تابعة لـ”الحرس الثوري”، وتحديداً “فيلق القدس” الذي كان يقوده سليماني، بالإضافة إلى ألوية من الجيش الإيراني النظامي، في معارك متعددة، لعل من أبرزها معارك ريف حلب الجنوبي.

وتضع إيران يدها على عدة قواعد عسكرية ذات مكانة استراتيجية، مثل مطار دمشق الدولي، الذي يعتبر محطة لنقل المقاتلين والأسلحة المتطورة بين طهران وسوريا وبيروت حيث توجد مليشيا “حزب الله” اللبناني، وهو ما جعله نقطة قصف دائمة الاستهداف من قِبل دولة الاحتلال الإسرائيلي.

ويسيطر المقاتلون الإيرانيون على مطار “تي فور” بريف حمص وسط سوريا (البادية السورية)، وهنا تتقاسم إيران النفوذ مع روسيا التي تسيطر على مدينة تدمر ذات الموقع الاستراتيجي، فيما لطهران موطئ قدم قريب في المطار الذي قصفته “إسرائيل” عدة مرات.

ويوجد الضباط والجنود الإيرانيون في مطار حماة العسكري، ومطار النيرب بحلب، وبمناطق متفرقة من ريف حلب الجنوبي، وفي قطع عسكرية مهمة في منطقة الكسوة بريف دمشق، حيث تدار من الأخيرة أغلب عمليات المليشيات الإيرانية في الجنوب السوري.

وبالطبع لطهران حضور بارز في غرف العمليات العسكرية المركزية بالعاصمة دمشق، مثل هيئة الأركان، وآمرية الطيران، ومناطق متفرقة دمشق القديمة (قرب المراقد)، وبالقرب من مقام السيدة زينب بجنوب دمشق.

وفي سياق متصل، جلبت طهران عشرات الآلاف من المليشيات الشيعية الأجنبية للقتال إلى جانب نظام الأسد؛ فمنذ عام 2012 تم تأسيس مليشيا “أبو الفضل العباس” العراقية في سوريا لحماية المراقد المقدسة، وهي على اتصال بمليشيات الحشد الشعبي الموجودة في العراق، وغالبيتها لها وجود بسوريا، مثل حركة “النجباء”، و”عصائب أهل الحق”، و”حزب الله العراقي”، وغيره.

وتبرز مليشيا حزب الله اللبناني كأكثر المليشيات الأجنبية التي استجلبتها إيران، قوة في عدة مناطق من سوريا، وإن كانت خسائرها كبيرة من الناحية البشرية والمادية، حيث تسيطر على القصير وبعض مناطق ريف حمص، والقلمون الغربي، ومناطق الجرود التي تفصل سوريا عن لبنان، بالإضافة إلى وجود كبير في المناطق الجنوبية كالسويداء والقنيطرة ودرعا.

وذكرت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” في تقرير سابق لها، أن عدد مقاتلي المليشيات العراقية بسوريا يتراوح بين 15 ألفاً و20 ألف مقاتل، في حين يقدَّر عدد مقاتلي “حزب الله” اللبناني بنحو 7 آلاف إلى 10 آلاف مقاتل، ونحو 5 آلاف إلى 7 آلاف مقاتل أفغاني وإيراني.

في حين تحدثت تقارير صحيفة بأن أرقاماً وصلت إلى 80 ألف مقاتل من هذه المليشيات في خضم المعارك التي كانت جارية على الخريطة السورية بين عامي 2013 و2017، إلى أن انسحب كثير منها مع دخول الروس وتمكُّن النظام من السيطرة على معظم المناطق وتهجير سكانها.

ضربة لإيران ومليشياتها

ويرى متابعون أن اغتيال سليماني سيكون له أثر بالغ على النفوذ الإيراني في سوريا، لذلك سارع المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، بعد ساعات، لتعيين قائد جديد لـ”فيلق القدس” خلفاً لسليماني.

ويؤكد المحلل السياسي السوري فراس فحام، أن مقتل سليماني يشكل ضربة قوية للنفوذ الإيراني خارج حدودها، خصوصاً أن “فيلق القدس” الذي كان يقوده “مكلفٌ العمليات العسكرية خارج إيران، وأصبح يؤدي دوراً رئيساً، وأصبح أحد أركان النفوذ الإيراني في دول الشرق الأوسط”.

ودلل “فحام” على ذلك بقوله: “هناك تأكيدات لقدوم سليماني من سوريا، وجاء من مطار دير الزور العسكري، ويبدو أنه كان يقوم بجولة ميدانية على القادة هناك؛ من أجل تدارس رد الفعل على الضربات اﻷمريكية الأخيرة التي استهدفت عدداً من المليشيات، وتحدثت تسريبات مؤخراً بما يفيد بأن سليماني كان يدبر مع قادة من المليشيا العراقية شن هجمات على القواعد الأمريكية”.

وأضاف في حديثه لـ”الخليج أونلاين”: إن “مقتله يشكل ضربة موجعة لإيران، لأنه كان قد أشرف على تأسيس عشرات من المليشيات الموالية لإيران، كالحشد الشعبي، والمليشيات الطائفية بسوريا، ولأنه القناة الأساسية للتواصل مع حزب الله في لبنان”.

وأوضح أن مقتل سليماني “له تأثير قوي على إيران، خاصة في ظل التصعيد الأمريكي والإسرائيلي ضد القواعد الإيرانية بسوريا، والضربات المتتالية التي تستهدف المليشيات التي تدعمها إيران”.

سوريا

وفيما يتعلق بتأثير مقتل سليماني على تلك المليشيا بالمنطقة، يقول “فحام”: “لا جدال في ذلك، لأن مقتل سليماني يعد ضربة مؤلمة لتلك المليشيا ونفوذها”، مؤكداً أن الضربات التي تتعرض لها المليشيا التي أنشأتها إيران “ليست حديثة اليوم؛ بل مستمرة منذ سنوات وتصاعدت مؤخراً، وهناك هجمات شبه يومية بطائرات من دون طيار في منطقة البوكمال السورية والقائم العراقية، وهذه المنطقة استراتيجية جداً لإيران، لأنها محطة مهمة تربط بين إيران ولبنان والبحر المتوسط”.

وتابع: “ما زلت أقول إن مقتل سليماني ضربة موجعة، لأنه كان يشكل تهديداً لدول عديدة من ضمنها سوريا والعراق وإسرائيل وتركيا، وأعتقد أن استهدافه إضافة إلى تصاعد العمليات العسكرية ضد المليشيا التي أسسها أو التي أشرف على تأسيسها، في المنطقة، سيحدّان من النفوذ الإيراني بسوريا والمنطقة”.

وهناك كثير من المرات التي سُربت فيها صور لسليماني وهو يتفقد الجبهات في سوريا، لإبراز الدور المركزي الذي يمثله نيابة عن إيران عسكرياً وسياسياً.

فقد كان سليماني في سفر مستمر من طهران إلى دمشق مروراً ببغداد، وله دور مهم في استمرار نظام الأسد بالسلطة إلى ما قبل دخول روسيا عام 2015، بسبب حجم الدعم العسكري الهائل الذي قدمته إيران للنظام.

وكانت شبكة علاقات سليماني في العراق وراء سرعة استجلاب المليشيات منها إلى سوريا، بالإضافة إلى الخبراء والعتاد والدعم اللوجيستي القادم من إيران على مدى أعوام الحرب.

وكانت إيران تخشى من سقوط نظام الأسد، وهو الأمر الذي سيُفشل مشروعها التوسعي، الذي عملت عليه سنوات طويلة، فقد قال سليماني في تصريحات له عام 2016: إن “السبب الرئيس للدعم الإيراني لسوريا هو دعم هذه الدولة لإيران، في الوقت الذي وقفت فيه سائر الدول العربية ضدها بالحرب العراقية-الإيرانية”.

وأردف أن وجودهم في سوريا ليس دفاعاً عن سوريا فحسب؛ بل “دفاعاً عن الإسلام وعن الجمهورية الإيرانية نفسها”، مضيفاً: إن “داعش والتنظيمات التكفيرية لم يتم تشكيلها من أجل مواجهة سوريا؛ بل من أجل مواجهة إيران”، معتبراً أن سوريا هي “خط الدفاع الأول عن المقاومة”.

تعيين بديل لسليماني

وبحسب وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (ارنا)، تم تعيين قاآني بأمر من المرشد، علي خامنئي، مؤكدة على لسانه أن مهام الفيلق لن تتغير مع مقتل سليماني.

وسبق أن تزعَّم القائد الجديد لواء “نصر-5” و لواء “الإمام الرضا 21” في الحرب الإيرانية-العراقية.

لكن عدة مؤشرات ترجح أنه لن يغني عن وجود سليماني؛ لما له من أهمية من عدم صراع أي من هذه المليشيات على النفوذ، في ظل شبكة العلاقات التي كان يديرها، وصِلاته المباشرة مع القيادة العليا بطهران.

ويوم السبت (4 ديسمبر 2020)، قالت مصادر سياسية عراقية: إن “الزيارة كانت مفاجئة ولا يعلم بها أي من قادة الكتل السياسية الأقرب إلى إيران، فقط قيادات محدودة بالحشد الشعبي، وهذا يعني أن زيارته كانت ذات طابع عسكري وتتعلق بالهجوم على السفارة الأمريكية، ومن قبلها الضربة الجوية الأمريكية في القائم، على الحدود مع سوريا”.

وأضافت أن زيارته لسوريا كانت تتعلق بملف الحدود ومحاولة دفع قوات من نظام الأسد إلى الشريط الحدودي العراقي-السوري، لتحل محل الفصائل التي استُهدفت.

———————————-

عن اللاحرب القادمة/ حسام كنفاني

منذ اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، توالت التحليلات والتهويلات عن حربٍ كبرى ستعيشها المنطقة، وربما العالم، خصوصا مع تصدّر وسم “الحرب العالمية الثالثة” لائحة الأكثر تداولاً على مواقع التواصل الاجتماعي، غير أن واقع الأمور، والحسابات السياسية والاقتصادية، لا تدفع باتجاه سيناريو من هذا النوع، فلا حرب ستكون بالمعنى التقليدي للكلمة، بل بأشكالٍ حديثةٍ وضرباتٍ خاطفة، تماماً مثلما كانت عملية اغتيال سليماني، ولا سيما أن كلفة الدخول في حربٍ واسعةٍ تقليديةٍ ستكون باهظة على الأطراف المشاركة فيها، وتحديداً إيران التي تعاني من واقع اقتصادي صعب، ستزيد العمليات العسكرية وما قد ينتج عنها من صعوبته.

طهران، بمستوياتها السياسية والعسكرية والدينية، تدرك هذا الأمر. وعلى أساسه، تدرس خيار الرد وأشكاله وماهيته. من المؤكد أن إيران لن تغضّ الطرف عن الاغتيال، ولن تدعه يمر من دون ردة فعل، ولا سيما أن الضربة الأميركية أصابت “الكبرياء” الإيراني في الصميم، إذ كانت مباشرة، ولرأسٍ من رؤوس الهرم في تركيبة السلطة الإيرانية. لا شك في أن من ضمن الحسابات الإيرانية أن الضربة المباشرة الأميركية، وليس عبر الوكلاء (إسرائيل مثلاً)، تستدعي ردّاً مباشراً إيرانياً، وليس عبر الوكلاء أيضاً (المليشيات المتحالفة مع طهران في لبنان واليمن والعراق)، وذلك للحفاظ على ماء وجه القوة التي تجاهر بها إيران في كل مناسبة. هذا بالإضافة إلى أن أوضاع “الوكلاء الإيرانيين” ليست سانحةً لتنفيذ ضرباتٍ غير محسوبة التداعيات، فحزب الله اللبناني، على سبيل المثال، وهو الذراع الأقوى لإيران في الخارج، لديه حسابات داخلية في الظرف اللبناني الراهن، لا يمكنه التغاضي عنها، والمغامرة في عمل عسكري تزيد الأوضاع الداخلية سوءاً، فإضافة إلى الحركة الاحتجاجية اللبنانية، يشكل الوضع الاقتصادي وشحّ السيولة النقدية عاملاً ضاغطاً شعبياً، سيؤثر في مقوّمات الصمود والمواجهة في حال تدحرج أي رد إيراني، عبر حزب الله، إلى مواجهةٍ واسعة، وقد ينقلب على حزب الله نفسه، ومن داخل بيئته. الأمر نفسه يمكن أن يقال عن المليشيات التابعة لطهران في العراق، وهو البلد الذي يعيش ظروفاً مماثلة للبنان. ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة إلى الحوثيين في اليمن، المستنزفين في الحرب الطويلة التي تخوضها السعودية وحلفاؤها هناك.

هذا الواقع يدخل، بشكل أساسي، أيضاً في الاعتبار الإيراني في أثناء دراسة الرد على اغتيال سليماني، والذي تريده طهران مضبوطاً، وفي الوقت نفسه مؤثراً، معوّلة على عدم الرغبة الأميركية في التصعيد أو الدخول في مواجهة واسعة، خصوصاً في الموسم الانتخابي الأميركي، فالتحليلات التي أشارت إلى أن لجوء الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى التصعيد مع إيران لكسب نقاط في حملته الانتخابية، لا أساس لها إذا تم الأخذ في عين الاعتبار أن معظم المواطنين الأميركيين، وتحديداً ناخبي ترامب، لا يعلمون ما يحدث خارج ولاياتهم، أو حتى المقاطعات التي يعيشون فيها. وبالتالي، لا تثمر الحرب مع إيران أو غيرها في صندوق الانتخاب، بل ربما على العكس، إذ إن السلاح الأساسي لترامب في حملته لإعادة انتخابه هو تحسين الاقتصاد وقدرته على خفض أسعار النفط بالنسبة للمواطنين الأميركيين، وزيادة التنافسية للبضائع الأميركية، وهو كله سيتلاشى في حال قرّرت الولايات المتحدة، بعد الرد الإيراني المرتقب، إشعال مواجهة واسعة مع إيران. هذا بالإضافة إلى أن واشنطن لا تحظى بأي دعم من الحلفاء الأوروبيين، والذين لا يودّون الدخول في “مغامرة ترامب”.

هذا لا يعني أن إيران لن ترد، بل سيكون هناك رد، وهو جزء من حربٍ أساساً مشتعلة، لكنها ليست بالمعنى التقليدي للكلمة.

العربي الجديد

—————————–

فصائل الحشد والتصعيد الأمريكي/ صادق الطائي

إذا نظرنا إلى المسوح التي تناولت فصائل الحشد الشعبي العراقي سنجد انها تتكون من حوالي 70 فصيلا مسلحا. الملفت في هذه الفصائل ان حوالي 75 في المئة منها تقلد السيد علي الخامنئي، الولي الفقيه الإيراني، حسب ما تعلنه في مواقعها الرسمية على الإنترنت. ومعنى التقليد في الفقه الشيعي، أن المقلد يتبع وصايا وفتاوى وتوجيهات الفقيه الذي يقلده في الأمور الدينية والدنيوية، بمعنى آخر، إن ثلاثة أرباع فصائل الحشد الشعبي لا تتبع فتاوى المرجع الأعلى في حوزة النجف السيد علي السيستاني، وبالتالي، فهي لم تتشكل استجابة لفتوى السيستاني بالجهاد الكفائي، بل تشكلت وفق احتياجات وخطط السياسة الإيرانية الخارجية التي يقودها وينسقها فيلق القدس/العمليات الخارجية في الحرس الثوري الإيراني، وقائده الجنرال قاسم سليماني.

وهنا يجب أن نشير إلى المعلومات التي يذكرها باحثون مقربون من إيران مثل عبد الأمير العبودي، وهو إعلامي ومحلل سياسي، ذكر في أحد اللقاءات التلفزيونية معلومة مهمة وهي التفريق بين الحشد الشعبي وفصائل المقاومة الإسلامية، إذ ان فصائل المقاومة الإسلامية ومنها منظمة بدر، وعصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله العراقي، وحركة النجباء، وكتائب سيد الشهداء، ولواء ابو الفضل العباس، وحسب العبودي، هي فصائل ولائية، بمعنى انها تدين بالتبعية للولي الفقيه في إيران وتتبع خطه السياسي، عبر التنسيق مع فيلق القدس وقائده قاسم سليماني المسؤول عن تنفيذ سياسة تصدير الثورة الإسلامية في الشرق الأوسط، وبذلك تحصل على التمويل والدعم والتسليح والتدريب من إيران بشكل مباشر. بينما توجد بعض الفصائل الأخرى، التي يمكن اعتبارها حشدا شعبيا وأهمها سرايا السلام التابعة لمقتدى الصدر وبعض الفصائل الصغيرة التي تدين بالولاء لشخصيات سياسية عراقية وتدين فقهيا بتقليد السيد السيستاني في حوزة النجف.

الفرق بين فصائل الحشد وفصائل المقاومة الإسلامية واضح من حيث الانضباط والتسليح والتمويل، إذ تعاني فصائل الحشد من العوز وضعف التسليح وقلة الخبرة والاندفاع العقائدي مما أدى إلى ان تكون خسائرها كبيرة في  المعارك التي خاضتها ضد تنظيم الدولة “داعش” بينما نرى تنسيق فصائل المقاومة الإسلامية فيما بينها عاليا، وتسليحها متطورا، مدعومة بالصواريخ الحرارية والعربات المصفحة التي تم شرائها من إيران، وتمثلت مهماتها على الأرض بإمساك المدن التي يتم تحريرها، أو لعب دور أطواق الحصار قبل مهاجمة المدن من فرق مكافحة الإرهاب كما حصل في تحرير مدن صلاح الدين ونينوى.

صدامات

مع انطلاق العمليات المسلحة ضد عصابات تنظيم الدولة “داعش” التي اشترك فيها الحشد الشعبي مع الجيش العراقي بمختلف صنوفه بالإضافة إلى البيشمركه الكردية، وقد قدم التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة دعما لوجستيا، وبشكل خاص عمليات الطيران التي تكفلت بالقصف الجوي الذي قدم دعما للقوات الأرضية المختلفة.

وقد حدثت بعض التوترات بين القوات الأمريكية وفصائل الحشد المدعومة إيرانيا، وأطلقت بعض الاتهامات المدعية ان طيران التحالف قام بقصف بعض مواقع الحشد، إلا إنها بقيت في حدود الاتهامات، وقد تعاطت معها حكومة العبادي عبر تشكيل لجان تقصي حقائق ولم تصل إلى نتائج مؤثرة، باستثناء بعض الحالات التي وصفت بانها نيران صديقة خاطئة وهو ما يحدث أحيانا في العمليات العسكرية.

وتجدر الإشارة إلى ان الفصائل المختلفة كانت تخضع بشكل صوري لسيطرة القائد العام للقوات المسلحة العراقية، رئيس الوزراء، ألا إن الواقع على الأرض كان متمثلا بسيطرة رجل إيران الأقوى في العراق أبو مهدي المهندس الذي عين نائبا لرئيس هيئة الحشد، بالإضافة إلى شخصيات نافذة مثل هادي العامري قائد منظمة بدر، وقيس الخزعلي قائد ميليشيا عصائب أهل الحق، وبعض القيادات الأخرى القريبة من إيران.

عند انتهاء العمليات العسكرية وإعلان الانتصار على التنظيم الإرهابي في كانون الأول/ديسمبر 2017 بدأت بعض الأصوات تطالب بعودة مقاتلي الحشد إلى حياتهم السابقة قبل الحرب، بينما تعالت أصوات مناهضة بوجوب الابقاء على فصائل الحشد، لأن الجيش العراقي لم يزل بحاجة إلى دعم هذه الفصائل، بل ذهب بعض المغالين منهم مثل الأمين العام لحركة النجباء إلى المطالبة بحل الجيش العراقي واتخاذ فصائل المقاومة الإسلامية جيشا للعراق.

خطوات رئيس الحكومة حيدر العبادي التي اتخذها بشأن حصر السلاح بيد الدولة عبر هيكلة فصائل الحشد ومحاولة دمجها بقوات الشرطة والجيش كانت خجولة ومترددة، بل ويمكن وصف سلوك الرجل بالتخوف من الاحتكاك بالخطوط الإيرانية الحمراء. وكانت كل القوى السياسية تعد العدة لدخول الانتخابات البرلمانية عام 2018 ومن ضمنها كانت فصائل المقاومة الإسلامية المدعومة إيرانيا التي تجمعت في كتلة الفتح التي يقودها هادي العامري، فما كان من العبادي إلا المطالبة بالتمسك بالدستور الذي يمنع القوات المسلحة من خوض العملية السياسية، وبما أن فصائل كتلة الفتح مسلحة وباتت جزءا من القوات المسلحة العراقية، لذا لابد من إعلان موقف واضح لهذه الفصائل وقطع ارتباط الأجنحة العسكرية لها بالمنظمات السياسية، لكن هذا الأمر لم يتم. وخاض الجميع الانتخابات، وفازت بحصة الأسد في البرلمان كتل الفصائل المسلحة، سائرون التابعة للصدر، وجاءت كتلة الفتح ثانية.

تشكلت حكومة عبد المهدي بالتوافق بين سائرون والفتح دون إعلان الكتلة الأكبر في البرلمان، ولم يمض على الحكومة عام واحد حتى أطاحت انتفاضة شعبية حكومة عبد المهدي، إذ ‏انطلقت التظاهرات كحركة مطلبية في شهر تشرين الأول/اكتوبر، وسرعان ما واجهتها الحكومة بعنف مفرط أدى إلى قتل أكثر من 120 ضحية من الشباب المنتفض في الأيام الأربعة الأولى من التظاهرات، بعضهم قتل برصاص قناصين لم يعرف انتمائهم لأي فصائل حتى الآن، كما فشلت لجنة التحقيق التي شكلتها الحكومة بتقديم أجوبة مقنعة لما حدث، لكن الكثير من أصابع الاتهام بقتل المتظاهرين وتصفية واعتقال الناشطين وجهت إلى ميليشيات وفصائل المقاومة الإسلامية المدعومة إيرانيا، والداعمة بدورها لحكومة عبد المهدي والمتحكمة بقراراتها، بالإضافة إلى الاشاعات التي وجهت إلى الجنرال قاسم سليماني شخصيا واتهمامه بلعب دور محوري في سياسة الحكومة التي حاولت فض التظاهرات بالقوة من دون ان تنجح في ذلك حتى وصل عدد الضحايا اليوم إلى 600 شاب وأكثر من 25 ألف جريح، بعضهم إصابته تسببت في إعاقة دائمية.

خلط الأوراق

طوال ايام انتفاضة تشرين كان هناك سعي محموم من ميليشيات ولائية مقربة من طهران لخلط الأوراق وسحب الاهتمام من ساحات الاعتصام عبر تنفيذ عمليات ضد المصالح الأمريكية في العراق، بناء على اتهام الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بدعم ما أسمته (مؤامرة اسقاط العملية السياسية العراقية) وقد اتهمت الولايات المتحدة بعض الفصائل مثل كتائب حزب الله العراقي بتنفيذ عمليات إطلاق صواريخ مورتر وقذائف كاتيوشا وصواريخ قصيرة المدى على قواعد يتواجد فيها الجيش الأمريكي أو على السفارة الأمريكية. ومثلت عملية مهاجمة قاعدة “كيوان” العسكرية شمال غرب محافظة كركوك القشة التي قصمت ظهر البعير‏، إذ قتل فيها مقاول أمني أمريكي، وجرح بعض الجنود الأمريكان يوم 27 كانون الأول/ديسمبر، فكان الرد الأمريكي قاسيا، إذ شنت غارات على معسكرات كتائب حزب الله العراقي في مدينة القائم الحدودية وبعض قواعد الحزب في الداخل السوري، وراح ضحية الهجوم الأمريكي 25 مقاتلا من مقاتلي حزب الله بالإضافة إلى عشرات الجرحى، من جانبه أعلن رئيس الحكومة المستقيل عادل عبد المهدي رسميا انه تم تبليغه بالضربة الأمريكية قبيل تنفيذها، إلا إنه لم يستطع اتخاذ الإجراءات التي توقف تنفيذها نتيجة إصرار الأمريكان، حسب وصفه.

رد فصائل المقاومة الإسلامية جاء يوم الثلاثاء 31 كانون الأول/ديسمبر، عبر تشييع جثامين ضحايا الهجوم من جماهيرهذ الفصائل ومريديها ومقاتليها في بغداد، وقد اقتحموا المنطقة الخضراء بسهولة بعد ان فتحت لهم بوابتها الجنوبية المطلة على الجسر المعلق في بغداد، لتحاصر الجموع الغاضبة السفارة الأمريكية وتبدأ بإعلان الاعتصام أمام السفارة، كما قام عدد من المهاجمين بحرق بوابات السفارة الخارجية في محاولة لاقتحامها، في مشهد ذكر بسيناريو احتلال السفارة الأمريكية في طهران عام 1979.

الأمريكان عززوا حماية سفارتهم في بغداد باستقدام 750 مقاتلا من قوات المارينز من الكويت تم انزلاهم في السفارة، المعتصمون قرروا بناء الخيم والاعتصام أمام السفارة حتى تقر الحكومة والبرلمان قانون اخراج القوات الأمريكية من العراق، وكان على رأس التظاهرات قيادات المقاومة الإسلامية مثل نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس الذي اعتبر الرأس المنفذ للهجوم على السفارة يحيط به قيس الخزعلي وهادي العامري وفالح الفياض، رئيس هيئة الحشد، بالإضافة إلى أعضاء برلمان وسياسيين من كتلة الفتح.

عادل عبد المهدي طلب من المعتصمين فض الاعتصام ومنح الحكومة الفرصة لحل الازمة عبر الإجراءات السياسية، وهذا ما تم فعلا إذ تم نقل مكان الاعتصام إلى شارع ابي نؤاس خارج المنطقة الخضراء. وساد الإعلام السياسي القريب من فصائل المقاومة الإسلامية نوع من التبجح مفاده إن فصائل المقاومة الإسلامية قد كسرت هيبة الأمريكان، وكتب على جدران السفارة شعارات تهاجم أامريكا وتعلن الولاء لإيران بعبارات مثل “سليماني قائدي”.

الرد الأمريكي على الإهانة جاء صاعقا وسريعا وغير متوقع، إذ قامت القوات الأمريكية بتنفيذ عملية اغتيال بطائرات مسيرة قصفت سيارة تضم الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وبعض قيادات الحشد، وهم خارجون من مطار بغداد الدولي فجر يوم الجمعة 3 كانون الثاني/يناير، مما فتح باب المواجهة على مصراعيه، وتوقع تصعيد الحرب الأمريكية الإيرانية مع بداية العام الجديد. فهل سنشهد حربا شاملة بين الطرفين؟ أم سيكتفي الطرفان بضربات محدودة لحفظ ماء الوجه؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.

—————————–

هل تعزز الضربات الأمريكية قبضة إيران على العراق؟/ براء صبري

من الواضح ان حمى الحرب تتأرجح في الشرق الأوسط بنسب متفاوتة، ولكن الأطر المحلية لها ما زالت قائمة. ميادين المعارك ملتزمة بمهمتها، والجهات المتناطحة في الإقليم تشحذ قرونها مع كل رياح جديدة تزيد من نيران التوتر التي تحاصر ميادين الصدام. كل المعايير الخصامية في المنطقة واضحة، ولكن الفارق في النتائج، والردود، والمستجدات، تأتي مع كل جديد في الخريطة السياسية الداخلية لشرطي العالم ما وراء الأطلسي. القدرة على المناورة واللعب لكل جماعة في الشرق الأوسط مرهونة بعقلية الحكم في واشنطن أكثر منه اعتماد على الذكاء المحلي والنشاط الذاتي لدول الإقليم. لم يعد هناك من مفر للنظر إلى التغييرات السياسية في واشنطن على كونه المفتاح الرئيسي للحيز المتاح للزعامات الإقليمية لرسم عالمهم السياسي والعسكري والاقتصادي، ولبناء الطرائق الدفاعية المطلوبة، وللاستفادة من الفرص المتاحة للتقدم على أمل الاستثمار الآني لدعم المستقبل الغامض والمتبدل في ذهنية واشنطن. الجميع يستثمر في الفرص المتاحة له على حساب منافسه وغريمه في الجوار لتخفيف الضغوط عن الجديد. كان ذلك واضحا مع بلد قضى كامل سنين نظام حكمه الإسلاموي الأوليغاريشي تحت الحصار كإيران، التي لم تظهر على الساحة بنشاط مع وجود باراك أوباما الذي فتح خطوط التفاوض معها. البلد الذي تلقى مفاجأة من نوع ثقيل بقتل قائد من قادته المخضرمين كقاسم سليماني في عملية يعتبرها الكثيرون قمة هرم التصعيد الأمريكي في العراق. سليماني الذي كان بالنسبة لحكام إيران وللكثير من الموالين لها في المشرق بمثابة زعيم لا يضاهى مع فاعليته في الساحات السياسية والميادين العسكرية في عموم الشرق الأوسط قتل مع نائب قائد جماعة الحشد الشعبي العراقية أبو مهدي المهندس بضربة أمريكية وبأمر مباشر من ترامب بما يصل لدى البعض لحد تسميته بعدم اكتراث أمريكي واضح بقيمته لدى طهران ولدى معظم الميليشيات الشيعية في الشرق الأوسط. لم يكن مقتل السليماني نتيجة لمخاوف واشنطن من نشاطاته المشبوهة في المنطقة بقدر ما هو استثمار محلي لدى زعيم البيت الأبيض في فترة يعاني منه هو نفسه من قلاقل سياسية وقانونية فيما يبدو أنه في سيره للنجاة منها.

لم يكن سليماني والمهندس سوى قائدين مخربين لاستقرار دول الجوار بنظر الكثير من المتابعين والفاعلين في الإقليم بالطبع، وكانا متهمان بقيادة جماعات عسكرية ارتكبت الكثير من الفظائع ضد المعارضين والمدنيين على أساس الهوية والمذهب من الموصل إلى حلب، حسب وثائق منظمات دولية معنية برصد الانتهاكات.

أوباما وإيران

عندما ظهر أوباما في ساحة القيادة في واشنطن لمح منذ أيامه الأولى إلى خططه الجديدة والغريبة عن سلفه الجمهوري جورج دبليو بوش الأبن في ملف التعامل مع إيران الدولة المعادية لأمريكا وزعيمة المحور الشيعي في العالم الإسلامي. الرجل الذي كان يعمل على إغلاق ملف الصدام المباشر مع المارقين الذي اشتهر به بوش فتح الباب لطهران للخروج من نوافذ متعددة. وواكب دورته الانتخابية الثانية وصول ما يسمى التيار الإصلاحي الذي يقوده روحاني وظريف وفريقهم الناعم الخطاب الذي كان يعتبر ان الانفتاح على طهران سيجنب المنطقة وأمريكا شرور إيران، وسيردع حلم إيران في الحصول على السلاح النووي الذي كانت تسارع الركب للوصول إليه رغم نفيها الرسمي الثابت للمسعى.

وصل الطرفان وبرعاية دولية لما يسمى خطة العمل الشاملة المشتركة، التي كانت بقناعة أوباما أفضل الطرق لاحتواء إيران المنهكة داخلياً، والتي كانت تعاني من خضات اجتماعية وتظاهرات محلية ضد سياسة القمع والفساد المُستشري في عموم الدولة. أُلغيت العقوبات، وبدأت إيران تجني المال من الانفتاح الدولي ومن بيعها للنفط الذي ارتفع إنتاجه إلى أربع ملايين برميل يومياً. مع كل هذا التجدد تغولت إيران في دول المنطقة، وكانت باقي دول الإقليم المتخاصمة معها تشعر بالغضب من ما تسميه “ليونة” واشنطن معها. هذا المسار بقي منتعشا حتى وصول دونالد ترامب إلى السلطة.

ترامب يبدو من خطاباته وقناعاته يتفادى الدخول في حروب مباشرة مع دول العالم. فقد اعتبر تدخل أمريكا في العراق وأفغانستان وحروبها الخارجية مضيعة للمال والأرواح. استثمر بوش في المعارك لقناعاته بأن القوة تجلب العظمة لأمريكا من دون اعتبار للغضب الذي قد ينتج عن هكذا سياسات ساخنة، واستثمر أوباما في العمل الداخلي وفي تنميق الخطابات لقناعته بإن تصدير الصور المثالية عن أمريكا تخفف من الأحقاد ضدها، في حين فضل ترامب تحصين ذاته على تحصين أمريكا. وأكد مراراً أنه لن يدخل بلاده في حروب جديدة، واستخدم لغة فيها الكثير من النرجسية والشروح الاقتصادية المبسطة للقضايا والمصالح الدولية، والتي وصفها البعض بلغة الابتذال! الشيء الأكيد الواضح من كل خطب ترامب أنه ينظر إلى إيران كعدو أول لبلاده في الشرق الأوسط يفيده شخصياً ويعزز تحالفاته الداخلية مع داعميه السياسيين. ووضع ملف الاتفاق النووي مع إيران في صدارة الملفات التي كان يبحث عن انهائها. ظن الكثيرون ان الانسحاب من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات بل وتشديدها كانت هي قمة الإجراء الترامبي، لكن زيادة السخونة بين الأطراف في المنطقة انتهت بعملية يعتقد الكثيرون أنها لم تكن متوقعة لدى أكثر خصوم إيران في الشرق الأوسط وهي اغتيال سليماني في بغداد، وبهذا الشكل المباشر والمحرج لإيران المطلوب منها رد يضاهي الصفعة التي تلقتها.

العراق يُفيد الجميع إلا أهله

رغم ان الضربة الثقيلة جاءت مفاجئة على إيران إلا أن الهجوم المتواضع والمدروس على الأمريكان في K1 بكركوك مع صمود التظاهرات التي كان عداء إيران جزءا من وقودها لم يكن عشوائياً. التشتيت الذي رافق الهجوم كرس الصورة عن حروب تحتم بقاء الجماعات الموالية لإيران في السلك القيادي ببغداد. رد فعل أمريكا على مقتل المتعاقد في كركوك كان جزءا من صورة التشتيت الذي يبتغيه الكثير من الموالين لإيران على حساب التظاهرات. كانت لحظات التشييع، والتظاهرات، والوصول للمنطقة الخضراء جزءا من مشهد سيطرة حلفاء إيران في العراق على المشهد من جديد.

الضربات الأمريكية قربت الكتل الشيعية وعززت سطوة طهران عليها. ولا يمكن للجماعات غير المستسلمة لإيران مع الضربة الأمريكية الأخيرة أن تجد منفذا لها سوى الانصياع لتنفيذ أجندة طهران التي ظهرت في نظرهم بصورة المظلوم الذي يدافع عن نفسه وعنهم في وجه غطرسة واشنطن التي لا تحترم السيادة المحلية للعراق كبلد!

وسط هذا الضجيج لم يعد لبغداد من مكان للعيش على جسر التوازن النحيل بين واشنطن وإيران. حسمت واشنطن المعركة لصالح ارتماء بغداد في حضن إيران مع عدم اكتراث واشنطن لموقفها مع المحيط بتنفيذ العملية على أرضها وبقتل مسؤول محلي أمام العالم. خسارة أخرى تلوح في بغداد مرادفة لخسارة الحكومة وهي سحب البساط الإعلامي والسياسي من التظاهرات التي دفعت فاتورة كبيرة حتى صمدت كل هذا الوقت، ودفعت عادل عبد المهدي لتقديم الاستقالة. هذه التظاهرات التي ستصبح في موقف محرج وخطر لا يوجد خيار لديها سوى الانطواء والصمت ريثما تقل سخونة المشهد. لكن حتى لو قلت تلك السخونة فإن خساراتها ستكون كبيرة مع الزيادة في الضغوط التي ستواجهها بعد ان تزداد قبضة إيران وحلفائها على العراق الهزيل، وبعد الفرصة التي وفرتها واشنطن لطهران ولحلفائها في العراق من جديد؟

إن تصاعد الأحداث في العراق قد يدفع البعض إلى الاعتقاد باحتمال تمدده إلى دول المنطقة ككل التي لإيران حلفاء فيها، مع ترقب الجميع لكيفية الرد الإيراني على مقتل زعيم وصف لديها بإنه العقل المدبر للخطط الخارجية. ورغم الخطابات النارية الصادرة من إيران وحلفائها من الجماعات الشيعية في الإقليم ككل إلا أن الكثير يعتقدون ان الرد سيكون على غير المتوقع ومحدودا في مناطق معينة، مع إدراك طهران إن واشنطن الحالية مستعدة لفعل أي شيء قد يفيد ترامب في حملته الانتخابية حتى لو كان على حساب بعض الحلفاء الإقليميين.

———————————-

عن جنة سليماني المفقودة وحقول الموت وترامب المهووس بأوباما ومشعل الحروب/ إبراهيم درويش

كان من المفترض أن يكون موضوع الأحداث هو المواجهة الأمريكية-الإيرانية المستمرة في العراق، صواريخ تطلق على القواعد العسكرية، مقتل وجرح جنود أمريكيين قرب كركوك ثم انتقام أمريكي بغارة على مواقع تابعة لكتائب حزب الله على الحدود السورية-العراقية ومقتل 24 شخصا بالإضافة لجرح العشرات. ثم جاء بعد ذلك الزحف على السفارة الأمريكية وحرق أجزاء من المجمع من دون ضحايا بين العاملين فيها أو الدبلوماسيين. ومع انسحاب المتظاهرين من محيط المجمع وإرسال تعزيزات أمريكية من الكويت لحماية السفارة، بدأت الأزمة على ما يبدو بالخفوت وسط تحليلات بأن إيران التي برزت متهمة بالهجوم هي التي تقف وراء سلسلة الأحداث التي بدأت تحديدا في 27 كانون الأول (ديسمبر) ثم جاء مقتل اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس المسؤول عن العمليات الخارجية في الحرس الثوري الإيراني ليقلب كل الجدل ويخلط  الأوراق، فالمسؤول عن مقتله ليست إسرائيل التي تلاحقه منذ أكثر من عقدين واقتربت مرات هي وأمريكا من قتله على الساحة السورية، ولكنه الرئيس دونالد ترامب الذي خرج بتصريحاته المعروفة والمتناقضة وهي أنه أوقف حربا ولم يبدأ حربا وأن سليماني أمسك متلبسا بجرمه، حيث كان يخطط لهجمات ضد المصالح الأمريكية. وبدا ترامب غارقا في روايته وإيمانه بالقوة العسكرية والأمنية التي لا تقهر، وهي العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي نشأت بعد هزيمة القوات العربية في عام 1967. ومن هنا فنحن أمام واقع جديد ملتهب يتفق فيه الجميع على أن مقتل سليماني ومن كانوا معه، خاصة أبو مهدي المهندس، زعيم كتائب حزب الله، المسؤول عن الدوامة الأخيرة من المواجهة، أغلق بابا دمويا ومأساويا في تاريخ العراق الحديث والمنطقة بشكل عام ولكنه فتح بابا أسوأ باتت فيه المنطقة والعالم بانتظار الرد الإيراني. فهل تحرق طهران المعبد على من فيه؟ هل ستتريث للثأر لمقتل قائد كان أهم من الرئيس نفسه ووزير الخارجية والاستخبارات؟ هل ستبتلع المرارة التي تحدث عنها آية الله خامنئي؟ وهل ستضرب المصالح الأمريكية أم توجه نيرانها للدول الحليفة لأمريكا بالمنطقة، في افريقيا وأمريكا اللاتينية؟

لا أحد يعرف!

في الحقيقة لا يعرف أحد ما ستؤول إليه الأحداث حتى ترامب نفسه الذي أمر بقتل قائد إيراني على أرض العراق. فقد تصرف الرئيس الأمريكي بناء على غريزته التي بات يقدمها على أي تحليل أو نظرة خبير. ومع مرور ثلاثة أعوام على حكمه لم يعد لديه من المسؤولين الناضجين إلا من يطبل له ويمشي على سيرته ويردد ما يقوله لهم. ومن هنا كان لافتا أن التصريحات الصادرة من واشنطن عقب مقتل سليماني كانت متشابهة. ولا شك بأن المسؤول عن كل التطورات الحالية هو الرئيس نفسه، فتناقضه بين تخليص أمريكا من حروب المنطقة الغبية واللانهائية يدفعه دائما لتوريطها في تشابكات جديدة، وهذا واضح من استراتيجيته تجاه سوريا وبجعله إيران مركزا لاستراتيجيته الخارجية، وهو موضوع ظلت تلح عليه السعودية وإسرائيل بنيامين نتنياهو، الذي طلب وللمفارقة من وزرائه عدم التعليق على مقتل سليماني في محاولة لإبعاد إسرائيل عن المسؤولية. وزاد من إشعال النيران بخروجه من الاتفاقية النووية التي وقعها سلفه باراك أوباما، وهو الشخص الذي يحمل له ترامب الحقد الدفين ويحاول مسح وتفكيك كل إنجاز له خاصة تلك الاتفاقية الدولية التي وقعت عام 2015 وخرج منها ترامب في العام الماضي وبدأ معها حربه الاقتصادية على إيران وفرض عليها سياسة “أقصى ضغط” والتي لم تنجح في تركيع الجمهورية الإسلامية رغم الضرر الاقتصادي الذي حل بها. ودفع ترامب الذي ظل يراوح بين داعية الحرب والسلام وهوسه بالحصول على اتفاقية أفضل من تلك التي وقعها سلفه أوباما إيران للتصعيد البطيء الذي كان علامة العام الماضي من تفجير الناقلات في الخليج وضرب المنشآت النفطية السعودية التي لم يرد عليها ترامب لخيبة السعوديين الذين عولوا على حمايته من جارتهم القوية. وفي نهاية العام الماضي بدأت طهران تصعد في العراق وهو ما قاد لقتل سليماني الذي يبدو أنه انتقام لم يقم على حسابات حقيقية سوى ما يراه الرئيس من خلال تغريداته ويريد سماعه مما تبقى لديه من مستشارين. واللافت أن الرد على مقتل القيادي الإيراني في واشنطن جاء بناء على الخطوط الحزبية، فقد بذل الجمهوريون أقصى جهدهم للثناء على الرئيس وفعله أما الديمقراطيون فقد شجبوا القرار الذي اتخذ دون إعلام الكونغرس وحذروا من جر أمريكا لحرب مع إيران كما بدا من تصريحات المرشح الديمقراطي بيرني ساندرز. ولا أحد يشك في واشنطن أن وراء قتل سليماني رغبة من الرئيس حرف القصة عن الأخبار السيئة الآتية من بغداد وتحضيرات الكونغرس لمحاكمته بهدف عزله بعد الفضيحة الأوكرانية. وقد يكون مقتل سليماني الذي يزور العراق وسوريا بشكل متكرر وظهر منذ عام 2014 للعلن بل وقاتل إلى جانب قواته وحضر جنازات من قتل منهم ورقص معهم بعد تدمير القرى والبلدات السنية في سوريا والعراق، الرسالة التي كان يبحث عنها ترامب في السياسة الداخلية. ويعرف ترامب أن سليماني يتردد منذ اندلاع التظاهرات العراقية وبشكل مستمر على بغداد. وبدت رحلته من دمشق إلى مطار بغداد الدولي عادية في هذا السياق، مع أنه يعرف باستهدافه، فهو مطلوب منذ وقت مع أن جورج دبليو بوش رفض قتله عام 2008 أثناء العملية التي خططت لها “سي آي إيه” والموساد لقتل الزعيم العسكري لحزب الله، عماد مغنية في دمشق.

لا دبلوماسية

وبهذا القرار أدخل ترامب وحلفاؤه بسياستهم القائمة على استهداف إيران المنطقة للمجهول، ففي محاولاتهم مواجهة التأثير الإيراني المتزايد بالمنطقة فإنهم دخلوا المواجهة بدون سياسة واضحة. ومن هنا فقتل الرجل الذي كان وراء كل توسع إيراني في المنطقة ووراء كل عملية قتل قامت بها الجماعات الوكيلة في العراق وسوريا ولبنان واليمن سيؤدي إلى حالة عدم الاستقرار ومزيد من القتلى الأبرياء الذين ظلوا وقود الحروب الأهلية التي اندلعت بعد القرار الكارثي لجورج دبليو بوش غزو العراق عام 2003 وتسليمه للجماعات الشيعية الموالية لإيران، وهي نفسها التي تخوض حربا ضد أمريكا بعدما تسلحت بالسلاح الإيراني والأمريكي في الحرب ضد تنظيم “الدولة” الإسلامية الذي هزم وقتل قائده أبو بكر البغدادي العام الماضي. وقد يكون ترامب محقا في مقاربته بين البغدادي وسليماني من ناحية الإثم لكن القيادي الإيراني كان يمثل دولة محورية عدد سكانها 80 مليون نسمة وبتاريخ طويل وجيش تعداده نصف مليون جندي بالإضافة إلى الجماعات الوكيلة التي لم تأت من العراق وسوريا ولبنان واليمن فقط بل ومن أفغانستان وباكستان. مقارنة بالخلافة التي قتل زعيمها وتناثرت جثث أتباعه في العراق وسوريا.

ومن هنا فأي حديث عن الدبلوماسية أو دفع إيران نحو الطاولة لم يعد في الحسبان. وبدلا من أزمة نووية واحدة مع كوريا الشمالية فنحن أمام أزمتين بعد انهيار الاتفاقية النووية مع إيران تماما. وكما ترى باربرا سلافين من المجلس الاطلنطي بمقال بصحيفة “نيويورك تايمز” (3/1/2020) فالجماعات المتشددة مثل القاعدة وتنظيم “الدولة” والصين وروسيا تشعر الآن بالفرح لتورط أمريكا مرة أخرى بالشرق الأوسط. وتقول إن من تابع التقلبات في العلاقات الأمريكية-الإيرانية خلال العقود الأربعة الماضية يجد أن ما وصلت إليه هو تراجيدي.  فرغم تعاطف طهران مع واشنطن بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وتعاونها بالإطاحة بنظام طالبان في كابول وضعها بوش ضمن محور الشر. وانتقمت إيران من أمريكا بالسيطرة على العراق واستفادت من “الديمقراطية” بوضع رجالها في الحكم. وتحول العراق والممر البري الذي أشرف عليه سليماني لقاعدة نقل السلاح والمقاتلين للدفاع عن نظام بشار الأسد وإيصال السلاح لحزب الله في لبنان. وإزاء التطورات الجديدة في ملف العلاقات المتوتر فلن يمنع أحد إيران من مواصلة برنامجها النووي والحصول على ما تريده بشكل يدفع دول المنطقة لسباق تسلح نووي لن يتردد ترامب بإشعال وقوده. والمحزن في كل هذا أن المتأثر الأكبر من سياسات ترامب المتهورة وتشدد المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية وطموحات من معه هم الإيرانيون العاديون وشعوب المنطقة. ولن يسقط النظام الإيراني وسيعيش بعد ترامب لكن المنطقة ستتلظى بنار أفعاله المدمرة.

إرث سليماني

 وعلينا ألا ننسى أيضا إرث سليماني نفسه، فهو ليس بالضرورة ضحية بل كان الجلاد، ولم يكن مجرد زعيم فيلق عسكري مسؤول عن العلاقات الخارجية فقد كان أهم من وزير الدفاع والخارجية ووزارة الاستخبارات كما أبرزت “الوثائق الإيرانية” التي نشرها موقع “ذي إنترسيبت” و”نيويورك تايمز” فهو الذي مول الجهود للدفاع عن نظام الأسد وقدم النصح له حول التعامل مع حلب وخنقها. وهو من دعم وساهم في اختيار وزراء العراق ودرب الحوثيين على ضرب السعودية بالصواريخ. ورحيل شخص بهذا المستوى والأهمية هو خسارة فادحة لإيران وطموحاتها في المنطقة. صحيح أن القوة الإيرانية تمددت أكبر من قدرتها وأصبحت تواجه عقبات للحفاظ على تأثيرها بسبب العقوبات الأمريكية، إلا أن مهارة سليماني نبعت من قدرته على بناء لاعبين غير دول وجماعات وكيلة مستقلة نوعا ما وقادرة على تمويل نفسها بنفسها ومستعدة في الوقت نفسه لتنفيذ أوامر السيد الإيراني. والخطر في القرار الأمريكي لتجميده أنه سينقل حرب الظل إلى العلن. وستتأثر أمريكا بطريقة أو بأخرى، فلديها قواعد عسكرية في دول الخليج وجنود في سوريا والعراق وأكبر مجمع سفارة بالعالم في بغداد. وربما قررت إيران إغلاق مضيق هرمز متسببة بأزمة اقتصادية عالمية أو طلبت من حزب الله تفعيل المواجهة مع إسرائيل أو قررت شن حرب الكرتونية. وبالمحصلة كل الاحتمالات مفتوحة، صحيح أن أمريكا قوية وتفوقت على عدوتها في كل المواجهات لكن إيران لها أصدقاؤها في الصين وروسيا. وعلى خلاف قتل زعيم القاعدة أسامة بن لادن الذي اختفى لسنوات ولم يعد مهما فإن ترامب بقتله سليماني أعلن عن بداية حروب المستقبل. وربما راهن كما تقول صحيفة “التايمز” (3/1/2020) على حالة الضعف الإيرانية بسبب العقوبات والتظاهرات المضادة لها داخليا وفي العراق ولبنان، وأن قتل سليماني قد يضعف سلطة المرشد لكنه لم يقرأ كالعادة دروس الماضي فكلما أصبحت طهران ضعيفة داخليا كلما شنت حروبا في الخارج. في النهاية لن يوقف قتل سليماني حقول الموت التي شارك في صناعتها بل سيزيد من احتمالات الموت. ولو عكسنا الصورة وافترضنا أن إيران هي التي قتلت قائد القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط؟ قطعا سيكون عملها بمثابة إعلان حرب. والمهم أن العملية في مطار بغداد الدولي هي الأكثر وضوحا وتقوم بها أمريكا ضد إيران من الثورة الإسلامية عام 1979 وقطعا لن تكون تداعياتها جيدة على العراق الذي تواجه حكومته وضعا قلقا وسيطالب البرلمان برحيل الأمريكيين، فهل سيرد ترامب على المطالب وقد أعلنت وزارة الدفاع عن نشر عدة آلاف من الجنود الأمريكيين؟ ومنذ بداية المواجهة في أيار (مايو) 2018 نشرت البنتاغون 14.000 جندي بالمنطقة ووصل 100 من قوات الردع السريع لتأمين سفارة بغداد، في وقت دعا فيه مايك بومبيو، وزير الخارجية الرعايا الأمريكيين لمغادرة العراق.

في عام 2009 قال سليماني لجنوده أن هناك جنة أخرى غير التي تحفل بالخضرة والنعيم والمتعة وهي جبهة القتال، التي قال عنها “هي الجنة الضائعة للإنسان” وربما ذهب وانضم إلى ضحاياها لكن جنته الضائعة لا تزال في مكانها وكأنها قدر مكتوب على المنطقة العربية، ويقود الجنة اليوم رجل في واشنطن.

القدس العربي

—————————————

هل وقعت الولايات المتحدة بفخ إيراني؟

قال المحلل البارز في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية تسيبي برئيل، إن أحداث الأسبوع الماضي في العراق انتهت، كما يبدو، بعرض للهدف المتمثل بالقوة الأميركية. حلقت طائرات الاباتشي في السماء لحماية السفارة الأميركية في بغداد، وأعلنت واشنطن بأنها سترسل الى هناك 750 جنديا من البحرية، وأمرت المليشيات الشيعية، التي انقض رجالها على مبنى السفارة على مدى يومين متتاليين، المتظاهرين بالانسحاب ومغادرة المكان. ومن المشكوك فيه أن تكون هذه هي نهاية القصة أو أنها القصة الحقيقية. الاكثر احتمالاً هو أن الولايات المتحدة سقطت، هذا الأسبوع، في شرك إيراني محكم، يمكنه أن يضع علامات استفهام حول استمرار التواجد العسكري الأميركي في العراق.

هذه الاحداث هي نتيجة متأخرة لعدد من الاحداث التي بدأت بقرار دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي. فالعقوبات الشديدة المفروضة على إيران شلت الاقتصاد فيها، وحثت القيادة على المصادقة للحرس الثوري باتخاذ خطوات واسعة من الاستفزازات العسكرية ضد الولايات المتحدة وحلفائها في الخليج الفارسي.

هدف إيران الرئيسي، حسب تقديرات أجهزة الاستخبارات الغربية، هو دفع واشنطن لرفع العقوبات والعودة الى المفاوضات حول الموضوع النووي.

ولكن هذا لم يساعد. وفي هذه الاثناء تفاقمت مشاكل إيران نفسها، ازاء موجة مظاهرات واسعة تحدت حكومتين تقعان تحت نفوذها في لبنان وفي العراق. ففي العراق قتل اكثر من 400 متظاهر بنار الاجهزة الامنية والمليشيات الشيعية. وفي لبنان لم تسجل احداث عنيفة، لكن سمعت هتافات صريحة ضد تآمر إيران والنفوذ الكبير لـ”حزب الله”. في تشرين الثاني، انزلقت الاضطرابات الى إيران نفسها، وقُتل اكثر من 300 متظاهر. وأفاد تقرير لوكالة “رويترز” عن قتل 500 شخص تقريبا في المظاهرات في إيران، وهو مشكوك فيه كما يبدو، لكن هكذا ايضا كانت الموجة الشديدة من المظاهرات في إيران قبل عقد تقريبا.

وتقلّص مجال مناورة ترامب. فالرئيس لا يريد التورط في حرب إقليمية في الشرق الاوسط، وبالتأكيد ليس في سنة انتخابات، لكنه في الوقت ذاته لا يمكنه السماح لنفسه بأن يظهر ضعيفا أمام استفزازات إيران. وطالما أن الهجمات تتركز على السعودية ودولة الامارات فإن ترامب ضبط نفسه واكتفى بتهديدات عامة. ولكن في الاشهر الاخيرة سجلت عشرة احداث قصف لصواريخ كاتيوشا وقذائف على قواعد عراقية يتواجد فيها جنود ومتعهدون مدنيون أميركيون في ارجاء العراق. ووقفت خلف هذه الهجمات مليشيات شيعية ممولة من إيران، على رأسها تنظيم “حزب الله” العراقي. وفي القصف ال11 يوم الجمعة قبل الماضي في مدينة كركوك قتل مواطن أميركي. هذه المرة ترامب لا يستطيع الادعاء بأن البصق على وجهه هو مطر. في هجوم عقابي أميركي على القواعد الخمس للمليشيات الشيعية في العراق وسورية قتل على الاقل 25 شخصا.

ما حدث بعد ذلك في محيط السفارة الأميركية في بغداد لم يكن أمرا عفويا، وبالتأكيد ليس صدفة. حسب تقارير موثوقة كان هذا عرضاً متعمداً أداره الإيرانيون من خلف الكواليس. المتظاهرون لم يكونوا مواطنين غاضبين (أو اشخاصا جاؤوا للتعزية، مثلما تم الادعاء في نبأ غريب الى درجة ما نشر في “نيويورك تايمز”)، بل هم أعضاء في المليشيات الشيعية. قوات الأمن العراقية، التي كان يجب عليها حماية السفارة كجزء من شبكة حماية خارجية، مكنت المتظاهرين، الثلاثاء الماضي، من اقتحام المنشأة، وانفضاض المتظاهرين كان نتيجة توجيه من أعلى.

توقف الأمر، ولكنه لم ينته تماما. القصف الأميركي والمواجهة العنيفة على سور السفارة يذكر بما حدث في مرة سابقة. وهو يخدم هدفا إيرانيا مهما. لقد عادوا وأشعلوا الخلافات الداخلية في العراق حول استمرار تواجد 5 آلاف جندي أميركي في الدولة (قبل التعزيزات). الاحداث الاخيرة يمكنها أن تعيد للنقاش من جديد في البرلمان طلب طرد الجنود الأميركيين. وهي مبادرة تم طرحها في الصيف الماضي على خلفية الادعاء بأن الولايات المتحدة كانت متورطة بالهجمات التي نسبت لإسرائيل ضد المليشيات في العراق. هذا هدف إيراني مهم، حتى لو كان هدفا ثانويا بالنسبة لتخفيف ضغط العقوبات. اعتادت طهران في السنوات الأخيرة على رؤية العراق ساحتها الخلفية. ومغادرة الأميركيين ستسهل عليها، وإن لم يمنع ذلك استمرار المتظاهرات ضد الحكومة العراقية.

في هذه الاثناء لا توجد أي دلائل على أن المواجهة في السفارة، التي سارع ترامب الى تتويجها كانتصار حاسم لسياسته، ستجعل الأميركيين يفحصون مجددا اتباع سياسة عدائية اكثر تجاه إيران. الإيرانيون بوساطة المليشيات يمكنهم الآن توسيع هجماتهم ضد القوات الأميركية في العراق. والولايات المتحدة تقوم الآن برسم حدود ساحة اللعب في العراق، وهي تفضل التركيز على المبعوثين وليس على من أرسلهم: الهجمات، هذا الاسبوع، أصابت المليشيات الشيعية وليس الحرس الثوري. وحسب تقارير لوسائل الاعلام الأميركية، فإن قائد قوة القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني، كان موجودا في مرمى التصويب لإسرائيل والولايات المتحدة منذ اكثر من عقد. وحسب هذه التقارير، في عملية اغتيال أحد قادة “حزب الله”، عماد مغنية، الذي قتل في دمشق في شباط 2008، أرادت إسرائيل تصفية سليماني ايضا الذي كان في الجوار. الأميركيون فرضوا “الفيتو”. ازاء الاضرار التي تسبب بها سليماني في السنوات الـ 12 الماضية، ربما كان هذا القرار خاطئا.

في محاضرة في المركز متعدد المجالات في هرتسيليا، الاسبوع الماضي، أشار رئيس الاركان، افيف كوخافي، الى نشاطات لإسرائيل قائمة ومستقبلية ضد الإيرانيين ومبعوثيهم في العراق. ولكن التصعيد الذي حدث في العراق منذ ذلك الحين يلزم إسرائيل باتباع سياسة الحذر. ورغم الاغراء لاستغلال الفرصة وضرب مصالح إيران، يبدو أن هذا بالضبط هو السيناريو الذي يفضل فيه بالنسبة لها أن لا تضع نفسها في مركز لوحة الاهداف.

المدن

—————————-

مقتل قاسم سليماني: هل الردّ مؤجل؟

الأرجح أن رد طهران لن يكون وشيكاً، لا بل أن عبارة “المكان والزمان المناسبين” توحي بأن لا رد الآن، لكن طهران تجيد الاستثمار في “الجفلة” التي يُحدثها الخوف من ردود الفعل.

وفي اليوم الثاني على قتل المارينز الجنرال قاسم سليماني ظهر أن هامش الرد الإيراني ضيق، والأرجح أنه مؤجل. واشنطن متحفزة، وقواتها في العراق مستمرة باستهداف مواقع ومواكب لقادة في الحشد الشعبي. بالأمس قصفت طائرة أميركية موكباً للحشد في منطقة التاجي شمال بغداد، وقادة الحشد، لا سيما منهم قيس الخزعلي، اختفوا، وثمة أخباراً غير موثقة عن أنهم غادروا إلى إيران، وعن أن آخرين من قادة الصف الثاني غادروا إلى بيروت. الرد في العراق اليوم سيكون استدراجاً لضربات أميركية أشد قسوة، وربما عرض الأجواء الإيرانية لامتحانات لا يبدو أن طهران مستعدة للخوض فيها.

في واشنطن اليوم دونالد ترامب، رجل لا يمكن أن يتوقع أحد نوع ردود أفعاله، لكنه الآن في مزاج انقضاضي. وطهران سبق أن اختبرت ضعف حساسيته حيال إسقاطها طائرة الاستطلاع في الخليج، لكنها اليوم اختبرت نوعاً ثانياً من ضعف الحساسية، فالرجل غير مكترثٍ بـ”سيادة” العراق ولا بتوازنات الاشتباك اليومي مع الإيرانيين فيه، لا بل هو غير مكترث بإدارته نفسها، ذاك أنه أعطى الأمر بقتل سليماني من دون العودة لأحد في البنتاغون. لا شك في أن طهران تأخذ هذا الأمر في الاعتبار حين تفكر في الرد، خصوصاً في العراق.

بالأمس تحدث ترامب عن بنك أهداف كبير بحوزته، وبعد ذلك أغارت الطائرة على موكب الحشد في التاجي. أرسل ثلاثة آلاف جندي إضافيين إلى القاعدة الأميركية في الكويت، وصرح مسؤول أميركي عن احتمال إرسال جنود لحماية السفارة في بيروت. هذا الكلام غير المكترث لسيادة الدول المعنية فيه، هو كلام “ترامبي” بامتياز. يريد الرئيس أن يرسل جنوداً إلى لبنان! وهو أرسل جنوداً إلى الكويت، الدولة الصغيرة المجاورة لإيران، والتي لا ترغب بتوتير العلاقة معها. كل هذا لا قيمة له في حسابات الرجل.

إنما ثمة مشهد آخر ينفرج فيه موقع طهران، وتظهر فيه واشنطن في موقع “المعتدي”، فالتشييع الذي شهدته بغداد اليوم لمن هم في عرف واشنطن “أشرار” شاركت فيه الدولة العراقية بغالبية أركانها. عُزفت للجنائز ألحان القوى المسلحة الرسمية، وتقدم المشيعين رئيس الحكومة المستقيل، وقدم رئيس الجمهورية العزاء وكذلك رئيس البرلمان، وممثلو المرجعية الدينية، ومشى خلف الجنازة عشرات الآلاف. هذا المشهد يضع واشنطن في موقع غريب، فقواتها تقيم في المنطقة الخضراء وفي قواعد قرب المطار، وطائراتها مستمرة بشن غارات على مواكب الحشد وعلى قادته. هذه لحظة عراقية غريبة ونادرة، ومن الصعب على المرء تحديد ما تعنيه، لكن الأكيد أن موقع واشنطن قبل الغارة هو غيره بعدها. فالعراق الرسمي والعراق “الشيعي” أبّنا من تعتبرهم الولايات المتحدة أشراراً، ومن تتهمهم بالوقوف وراء قتل أميركيين. هذه المفارقة سيُبنى عليها لاحقاً، وسينجم عنها فرز حاد في علاقة البيت الأبيض مع أطراف السلطة في العراق. والأرجح أن يكون لمشهد التشييع ارتدادات على انتفاضة العراقيين على الحكومة الشيعية، ذاك أن المنتفضين سيكونون هذه المرة عرضة لمزيد من التخوين والأرجح لمزيد من العنف في مواجهتهم.

الأرجح أن رد طهران لن يكون وشيكاً، لا بل أن عبارة “المكان والزمان المناسبين” توحي بأن لا رد الآن، لكن طهران تجيد الاستثمار في “الجفلة” التي يُحدثها الخوف من ردود الفعل. في العراق، مشهد التشييع سيمتد إلى تثبيت قادة الحشد في الحكومة المقبلة، وفي بيروت ستنقض دولة “حزب الله” على الانتفاضة وستتخفف من شروط المنتفضين أثناء تشكيلها الحكومة.

سيكون رد طهران أفقياً بهذا المعنى، وستحاول مقايضة دماء جنرالها باستعادة نفوذها المهتز بفعل الانتفاضات. وعلى هذا الصعيد، سيكون نفسها أطول من نفس واشنطن التي لطالما تراجعت في نصف الطريق، حالما يشعر سيد البيت الأبيض بأن المهمة في الحدود الأميركية قد أنجزت.

لا شك في أن طهران اليوم في موقع لا تحسد عليه، ليس ميدانياً وحسب، إنما اقتصادياً أيضاً بفعل العقوبات والحصار. وإذا كانت الأصوات العالية في محور الممانعة لا قيمة لها في هذا المشهد وهذا الاستعصاء، وبالتالي فان الرد لن يكون مزلزلاً، فإن ابتلاع الخسارة قد يكون أفقاً لحماية النفوذ، وربما لتزخيمه. 

درج

————————-

مقال مهم جداً عن العداء بين حافظ الاسد وقاسم سليماني/ صقر الملحم

أعرفهم عن قرب :

المكان : السفارة السورية في طهران

منذ اليوم الأول لوفاة الرئيس حافظ الأسد في 10 حزيران عام 2000 لم تتوقف السفارة السورية في طهران عن استقبال المُعزّين من كبار القادة السياسيين والعسكريين الايرانيين منذ الصباح الباكر وحتى منتصف الليل ..ورغم أنّ معظمهم شارك في مراسم العزاء في مدينة القرداحة الا أنهم كانوا يزورون السفارة السورية في طهران بشكل شبه يومي ..!!!

في الساعة الحادية عشرة صباحاً من يوم الثلاثاء 20 حزيران عام 2000 وصل الى السفارة السورية وفدٌ عسكريٌ ايراني رفيع المستوى معظمهم من الحرس الثوري الايراني وكان من بينهم قاسم سليماني ورغم أنه لم يكن برتبة أعلى من غيره الا كان واضحاً حضوره بشكل قوي ويرافقه عددٌ من قادة المعارضة العراقية الذين كانوا يمارسون نشاطهم السياسي من مدينة قم …وكنتُ قد التقيتُ بمعظمهم هناك ..!!!

في المكتب الكبير للسفير كنا نستقبلُ المعزين وفي احدى زواياه جلس ( قاسم سليماني ) وكنتُ أنا شخصياً قريباً منه وقال هامساً بصوتٍ سمعته وباللغة الفارسية :

– لقد أخّرَ حافظ الأسد مشروعنا في الشرق الأوسط مدة 20 عاماً …والآن رحلَ ذلك الجبل من أمامنا ..الآن ستستيقظُ زينب من قبرها في دمشق ..وستصلُ سفننا الى البحر الأبيض المتوسط ..!!!

وبالعودة الى العداء بين الرئيس حافظ الأسد وقاسم سليماني ..لا بدّ من معرفة ما يلي :

بعد انتصار الثورة الإيرانية مباشرة عيّن الرئيس حافظ الأسد ابن أخيه ( رضوان الأسد ) قائما بالأعمال في السفارة السورية في طهران باسم ( إياد المحمود ) وبصفة مستشار الرئيس وبدرجة وزير ..وكان خبيراً استراتيجياً وكان أحد الأركان الأساسية في مطبخ الرئيس الأسد للسياسة الخارجية وكان من خريجي المخابرات السوفييتية ال (كي جي بي )واختصَّ اياد المحمود ( رضوان الأسد ) بملف العلاقات السورية الايرانية ..

بعد مباشرة العميد إياد المحمود عمله في السفارة إستطاع نسج علاقات واسعة مع رموز الثورة الإيرانية بمساعدة عدد من الشخصيات العراقية المعارضة والمسؤولين الإيرانيين من حملة الجوازات السورية قبل انتصار الثورة الإيرانية وبسبب الصراع الداخلي الإيراني الذي لم تكن سورية طرفا فيه بين قوى الثورة التي تمثل خط الإمام الخميني وهي المؤسسة الدينية المحافظة وأداتها الحرس الثوري وبين القوى التي كانت تعمل على تحويل الثورة إلى نظام وفتح قناة مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب بعامة والمتمثل بالثنائي علي خامنئي رئيس الجمهورية وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس الشورى ومن معهما .

كانت سياسة الرئيس حافظ الأسد الخارجية تقوم على إرساء علاقة متوازنة بين القوى الإقليمية والدولية مع ثبات العلاقة الإستراتيجية مع الإتحاد السوفييتي آنذاك و استقلال القرار السياسي العربي السوري وعدم السماح لأي جهة بفرض وجهة نظرها على القرار السوري المستقل ..

بدأت الضغوط على العميد إياد المحمود والعمل على محاصرته داخل السفارة السورية ومنعه من التحرك والالتقاء مع القادة الإيرانيين خارج الأطر الرسمية البيروقراطية بعد رفض الرئيس الأسد عدة دعوات لزيارة إيران وعدم فتح سورية جبهة مباشرة ضد صدام حسين على الحدود العراقية السورية إلى جانب إيران في الحرب مع العراق …وفي إحدى الليالي وبينما كان العميد إياد المحمود عائدا إلى منزله كانت بانتظاره سيارة إسعاف تقف قريبا من باب منزله وبعد نزوله من سيارته هاجمه عدد من الرجال فأطلق طلقتين من مسدسه عيار 9 ملم باتجاههم أصابت إحداهما أحد المهاجمين في بطنه فقيّد المهاجمون اياد المحمود ومددوه على بطنه في سيارة الإسعاف وجلسوا بأحذيتهم فوق رأسه وظهره وهم يكيلون له سيلا من الشتائم البذيئة له وللرئيس حافظ الأسد بالإضافة إلى التهديد بموته في حالة وفاة الشخص المصاب ..

كانت زوجة إياد المحمود قد خرجت على صوت إطلاق النار وشاهدت بأم عينها إختطاف زوجها فاتصلت فوراً بالرئيس حافظ الأسد فهي قريبته أيضا بالإضافة إلى كونها زوجة ابن أخيه فاتصل فورا بعبد الحليم خدام الذي كان وقتها وزيرا للخارجية ووجهه بالإتصال بالخارجية الإيرانية وتبليغها بأن سورية ستقطع علاقتها نهائيا بإيران ما لم يعد إياد المحمود إلى سورية خلال 24 ساعة وفعلا تم إطلاق سراح إياد المحمود وعاد هو وعائلته إلى سورية ..!!!

.إن الذي أشرف على خطف إياد المحمود وشارك فيه هما قاسم سليماني قائد فيلق القدس الحالي والذي اغتيل منذ عدة أيام بقصفٍ من الطيران الأمريكي في العراق ومصطفى مصطفوي مسؤول الإغتيالات في فيلق القدس حيث كانا يعملان وقتذاك تحت إمرة محسن رفيق دوست أحد قادة الحرس الثوري والذي سطا هو وجماعته على منشآت الميرة العامة التابعة للجيش الإيراني بعد انتصار الثورة والتي تقدر قيمتها بمليارات الدولارات آنذاك والذي تم إنهاء علاقته بالحرس الثوري بعد ارتباطه بخامنئي حيث سمي وزيرا لشؤون الحرس الثوري وتم فصله من قيادة الحرس لأن قيادة الحرس الثوري كانت وما تزال تختلف مع خامنئي …!!

قبل ستة أشهر من هذا التاريخ الذي أكتبُ فيه هذا البوست ..التقيتُ في جنيف بمسؤول عربي كبير وبناء على طلب سفير تلك الدولة العربية والذي كان ومازال صديقي وهو موجود حالياً كسفير لدولته في احدى الدول الأوروبية ..وكان اللقاء لمناقشة الوضع الايراني والاحتمالات المستقبلية ..قلتُ له بالحرف الواحد :

– إنَّ التيار الإصلاحي في ايران مُرهق من تصرفات الحرس الثوري الايراني وتمدده في الدول العربية على حساب افقار الشعب الايراني ونهب خيرات ايران والدول العربية ..وهو يتطلع الى الخلاص بأية طريقة من هذا الكابوس الذي اسمه ( الحرس الثوري ) …ويريد تحويل ايران الى دولة عصرية متصالحة مع جيرانها ومع العالم وتحسين الوضع الاقتصادي للشعب الايراني ..وأعتقدُ أنهم يجهزون بالاتفاق السري بينهم وبين الولايات المتحدة للخلاص من قادة الحرس الثوري وعلى رأسهم ( قاسم سليماني ) وفيما بعد ستشهد العلاقات الأمريكية الايرانية انفتاحاً واسعاً على الرغم ما نسمعه من تهديدات بالحرب الشاملة ..مع الأسف لم يقتنع ذلك المسؤول العربي بأقوالي ..بل قال :

– الولايات المتحدة ليست مستعدة للمغامرة بهكذا عمل !!

قلتُ :

– صدقني هذا ما سيحدث وأنا متأكدٌ منه !!

أنهينا اللقاء لعدم قناعته بهذا الكلام ..!!!

بالأمس تلقيتُ اتصالاً هاتفياً من صديقي السفير يخبرني بأنّ ذلك المسؤول في بلاده وجه لي دعوة لزيارة بلده للالتقاء به ومتابعة حديثنا وأنا متأكدٌ أنه قرأ بوستي هذا وأنا لا يوجد ما أخفيه فليس هناك ما هو سري ..!!

البقية تأتي قريباً

نشر وتوزيع (كلنا شركاء)

————————-

هل تصفّي واشنطن كل قادة الهجوم على سفارتها؟/ ثناء علي

أعلنت القوات الأميركية نجاحها في تصفية كل من أبي مهدي المهندس الذي ظهر أمام السفارة الأميركية أثناء هجوم أتباع “الحشد الشعبي”، وقائد “فيلق القدس” قاسم سليماني الذي أكد بتهديد صرّح عنه للإعلام أنه سيمحو الوجود الأميركي من العراق.

عند الواحدة بعد منتصف الليل، في 3 كانون الأول/ ديسمبر 2020، سمع سُكان جانب الكرخ من العاصمة بغداد دوي انفجارتٍ متكررة. يقول زياد طارق أحد سُكان منطقة حيّ الجهاد المجاورة لشارع مطار بغداد الدولي: “في بادئ الأمر سمعنا ضربات كثيرة، ومن ثم سمعنا صوت طائرات تدور فوق سماء مطار بغداد، وفجأة سُمع دوي انفجار رهيب هزّ جانب الكرخ بأكمله.”

سُكان الكرخ كانوا يتوقعون أن الحادث هو قصف مطار بغداد الدولي بطائرات كاتيوشا، إلا أن الوقائع اختلفت. محمد عبد الواحد أحد الشهود إذ يقع بيته في الشارع المجاور لشارع المطار يقول:” أنا وأصدقائي اعتدنا السهر بعد منتصف الليل أمام منزلنا والثرثرة، فوجئنا بالنيران التي تصاعدت بعد دوي الانفجار وذهبنا لرؤية ما يحدث ولكن على بعد مسافة ليست بالقليلة، لأن الوضع مُتأزم في العراق ولم يكن  سهلاً الاقتراب من الانفجار، إلا أنه لم يكن تفجيراً للمطار بل كان تفجيراً لرتل من السيارات المدنية.”

قاسم سليماني

بعد ساعات، أعلن النائب في البرلمان العراقي عن الطائفة السنية مشعان الجبوري نعياً لكل من أبي مهدي المهندس وقاسم سليماني، فانتشر الخبر في وسائل الإعلام العراقية والعربية والعالمية.

مصدر مقرب من “هيئة الحشد الشعبي” رفض الكشف عن اسمه، يؤكد لـ”درج” أن “نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبا مهدي المهندس توجه إلى مطار بغداد لاستقبال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، وأنه توجه بسيارات مدنية، وكان بصحبته كل من محمد الشيباني وحسن عبد الهادي ومحمد رضا الجابري وهم مسؤولون في مكتب المهندس، وبعد إخراج سليماني من المطار تمت عملية القصف بطائرات أميركية مسيّرة، وفق المعلومات الأولية”.

تهديد مُسبق

أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في تغريدة على “تويتر” أن أميركا ستحاسب كل قادة الحشد الشعبي من الزعماء أو السياسيين الذين خرجوا للتظاهر أمام السفارة الأميركية في العراق، والذين ساهموا بالاعتداء على السفارة.

هذه التغريدة جاءت بعد ساعات من وصول أتباع “الحشد الشعبي” وقادتهم إلى مقر السفارة الأميركية في بغداد، وعلى إثرها ينشر رئيس “هيئة الحشد الشعبي” فالح الفياض صورته الشخصية عبر حسابه في “فايسبوك”، يؤكد من خلالها وقوفه عند جسر الطابقين في بغداد عند مدخل المنطقة الخضراء، وأنه حضر تشييع جثامين قتلى لواء 46 و45 للحشد الشعبي الذي تعرض لهجوم أميركي، وأنه لم يشارك في الوصول إلى مقر السفارة. وكأنه بذلك يقدم تبريراً لبومبيو.

وعند الساعة الواحدة والنصف ليلاً، أعلنت القوات الأميركية نجاحها في تصفية كل من أبي مهدي المهندس الذي ظهر هو الآخر أمام السفارة الأميركية أثناء هجوم أتباع “الحشد الشعبي”، وقائد “فيلق القدس” قاسم سليماني الذي أكد بتهديد صرّح عنه للإعلام أنه سيمحو الوجود الأميركي من العراق. ثم جاءت أنباء لوكالات أجنبية ودولية عن اعتقال كل من زعيم “منظمة بدر” هادي العامري والأمين العام لفصيل “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي. وأكد المتحدث العسكري باسم حركة “عصائب أهل الحق” جواد الطيباوي لـ”درج” أن “لا صحة لأنباء اعتقال الشيخ قيس الخزعلي من قبل القوات الأميركية، وأن الولايات المتحدة لا تستطيع القيام بذلك أبداً، فالشيخ لديه أتباع قادرون على إيقاف القوات الأميركية عند حدّها في الوقت المناسب.”

مظاهر الاحتفالات

يقول وائل:” ما أن انتشر بيان مقتل سليماني والمهندس حتى رفع المتظاهرون في ساحة التحرير الأعلام العراقية وأخذوا يجوبون ساحة التظاهر بفرحٍ وعلت أصوات الأهازيج، نعم فدماء أبنائنا لم تذهب سُدى. جُملة (الخال مرّ من هُنا) التي كتبها المتظاهرون أمام السفارة الأميركية هي ذاتها الجملة التي كتبها القاتلون الذين أحرقوا كراج جسر السنك، والذين رشقوا المتظاهرين ليلتها بالرصاص الحي، من هنا علمنا وتيقنا أن الذين قتلوا المتظاهرين هم المهندس وسليماني، ولا سبيل لنا سوى الاحتفاء.”

سياسياً ودولياً، يؤكد المحلل السياسي غالب الشابندر أن “تصفية المهندس وسليماني في العراق هو انتهاك واضح لسيادة العراق، بالضبط كما اعتدى متظاهرو الحشد الشعبي على السفارة الأميركية الذي كان انتهاكاً واضحاً أيضاً لسيادة البلد، وما حصل وسيحصل سيجعل العراق أرضاً لتصفية الحسابات وهذا أمر مقلق سيجرنا إلى حروب لا نهاية لها ولن يخسر فيها سوى العراق”.

لم تستمر مظاهر الاحتفال في بغداد طويلاً، فما أن مدّت خيوط النهار ضوءها حتى انتشرت قوات من الجيش العراقي في شوارع العاصمة بغداد، وعاد المتظاهرون مضطرن إلى الهدوء. يقول ابراهيم عدنان:” هُنالك جماعات تدخل ساحة التحرير، وتبث تهديداتها بين المتظاهرين بأن أي احتفال أو مظاهر احتفال بمقتل سليماني والمهندس ستؤدي إلى قتل المتظاهرين وذبحهم، وإنهاء التظاهرات أصبح وشيكاً وعلينا ألا نفرح فالعبرة بمن يضحك في النهاية.”

تحليلات وتهديدات وهروب

النائب العراقي السابق فائق الشيخ علي يُطالب المتظاهرين بالترويّ وعدم إبداء أي مظاهر للاحتفال قائلاً: “لاتحتفلوا بمقتل سليماني والمهندس لأنكم ستذبحون”. ووجه علي رسالة إلى أتباع الميليشيات:” لا تستعرضوا عضلاتكم على العراقيين، وإن كنتم قادرين على فعل شيء فواجهوا أميركا”. وتوجه إلى الميليشيات المسلحة قائلاً: “أفرغوا الأماكن السكنية في الأحياء الفقيرة من أسلحتكم بعدما جعلتم هذه الأحياء مخابئ لأسلحتكم، لأن أميركا ستقوم بقصف هذه الأماكن ومن يدفع الثمن هم العراقيون فقط.”

المحلل السياسي العراقي سلام عبد الرحمن يؤكد أن “ما يحصل مهزلة وانتهاك واضح للسيادة العراقية سواء من قبل إيران أو الولايات المتحدة الأميركية. في الواقع نحن لم نرَ حتى الآن جثماني سليماني والمهندس. من قال أن هذا ليس اتفاقاً أميركياً – إيرانياً مع الحكومة العراقية لقمع التظاهرات في ساحة التحرير؟ من قال إنه ليس أسلوباً لإلهاء العراقيين عن اختيار رئيس حكومة يناسبهم؟ هُنالك أسئلة كثيرة والوضع شائك ولا تمكن قراءته بسهولة.”

ويذكر مصدر من جهاز الأمن الوطني أن “فالح الفياض رئيس الأمن الوطني سيهرب خارج العراق بعد مقتل سليماني والمهندس.”

في المقابل، تتوعد الحكومة الإيرانية بالانتقام والرد على الولايات المتحدة الأميركية، ويخشى محللون سياسيون أن يكون هذا الانتقام على الأراضي العراقية أيضاً .

تناقضات تغريدة الصدر

بتغريدةٍ تعج بالتناقضات، عزّى زعيم التيار الصدري الجمهورية الإسلامية في إيران بمقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني، إلا أن تغريدة الصدر لم تكُن بريئة كما وصفها المحلل السياسي عبد الستار الحلي قائلا،ً “التغريدة التي انطلقت بالآية الكريمة (فرحين بما اتاهم الله من فضله مستبشرون… وتنتهي بـ(لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، والتي تضمنت تقديم التعازي لإيران بسليماني، من دون ذكر أبي مهدي المهندس، لم تكن مجرد التعزية بريئة، وكأن الصدر يُعلن أن أتباعه يسيرون في طريقٍ صحيحة، وكأنه يستبشر بمقتل أبي مهدي المهندس الذي أدى وجوده إلى زهق الكثير من الأرواح العراقية البريئة”.

ومن خلال تغريدة الصدر نجده يعيد تفعيل مهمات ميليشيات “جيش المهدي” و”لواء اليوم الموعود”. وفي هذا الصدد، يذكر الحلي أن “التشديد على كلمة “المنضبطة” في تغريدة الصدر، والتي يشير بها إلى الميليشيات التي أعاد تفعيل مهماتها، تدل على أن الصدر لا يبتغي بذلك اقتتالاً داخلياً لتصفية الحسابات بين الولايات المتحدة وإيران، وأنه أعاد تفعيل هذه الميليشيات لحماية الأراضي العراقية على أن تكون منضبطة وألا تستغل كوسيلة لتصفية المواطنين العراقيين”.

درج

————————-

النهاية العبثية للجنرال قاسم سليماني

خطوة مهاجمة السفارة في بغداد قبل أيام من قبل “الحشد الشعبي”، امتداد طبيعي لوجهة النفوذ الذي بناه قاسم سليماني في العراق، وقرار واشنطن قتل الرجل الذي قاتلت إلى جانبه قبل أقل من ثلاث سنوات، بدا كسراً لهذا المسار.

ثمة بعد عبثي لخطوة الرئيس الأميركي المتمثلة في إعطاء الأمر لقوات المارينز بقتل قاسم سليماني بالقرب من مطار بغداد، على رغم السياق الواقعي للعملية. البعد العبثي يتمثل في أن الرجلين وقبل أقل من ثلاث سنوات كانا يقاتلان جنباً إلى جنب في الموصل! فما الذي دهاهما؟

المعادلة عام 2017، تمثلت على النحو التالي: قاسم سليماني يقود “الحشد الشعبي” في الحرب على “داعش”، فيما يتولى الجيش العراقي التنسيق مع طائرات التحالف التي كانت تستهدف مواقع التنظيم تمهيداً لتقدم مجموعات الحشد. لقد شهدنا ذلك بأم أعيننا نحن الذين كنا على تخوم الشاطئ الأيمن من المدينة، وكان بيننا على خطوط القتال خبراء أميركيون يتولون تنسيق العمليات، وكان أيضاً أبو مهدي المهندس!

السنوات الثلاث التي تفصل بين القتال إلى جانبه وبين قتله، لم تكن قطعاً لمسارات الحرب المشتركة. ما كان لهزيمة “داعش” أن تُنجز لولا قوات المارينز. لكن الأميركيين عملوا ما بوسعهم لكي تنجز طهران مهمة قضمها العراق، بدءاً من معاهدة الانسحاب التي وقعها الرئيس السابق باراك أوباما، ووصولاً إلى الانكفاء بعد هزيمة “داعش”. الجنرال سليماني لم يبذل جهوداً كبرى في العراق أثناء قضمه نفوذ واشنطن فيه. في سوريا كانت مهمته أصعب وكلفتها أكبر. في العراق، بدا أن واشنطن تفسح للرجل المجال، وتتولى تسليمه الموقع تلو الآخر. وفي اللحظة الأخيرة استيقظ دونالد ترامب على ضرورة قتله.

هذا المسار هو تماماً ما يرسم البعد العبثي لقرار ترامب قتل سليماني. لقد تمدد الرجل في بلاد الرافدين تحت أنظار الأميركيين. واشنطن أسقطت صدام حسين وباشرت انكفاءها، وفي الحصيلة الأولى ثَبُت أن طهران هي المستفيد الأول من إسقاطه. واشنطن فشلت في تحويل عراق ما بعد صدام حسين إلى نموذج الدولة التي ترغب بها. لقد كانت خطوة مهاجمة السفارة في بغداد قبل أيام من قبل مناصرين لفصائل “الحشد الشعبي”، امتداد طبيعي لوجهة النفوذ الذي بناه قاسم سليماني في العراق، وقرار واشنطن قتل الرجل الذي قاتلت إلى جانبه قبل أقل من ثلاث سنوات، بدا كسراً لهذا المسار.

الخطوة ليست قطعاً مع هذا المسار فحسب، إنما انعطافة كبرى في شكل المواجهة بين واشنطن وطهران. الإدارة الأميركية أعلنت أنها أقدمت على تنفيذ العملية، ما يعني أنها مستعدة لما يتبعها من احتمالات. طهران بدورها صار صعباً عليها ألا تبادر إلى الرد. وبهذا المعنى فإن ترامب أعلن حرباً لا عودة عنها.

ثمة خطأ كبير في مشهد تجاور النفوذين الإيراني والأميركي في العراق. فلحظات الانسجام وإن بقيت ضمنية كانت كثيرة. اسقاط صدام كان أحد هذه اللحظات، وهزيمة “داعش” أيضاً، وبين هذين الحدثين نشأت قوى محلية حائرة في علاقاتها وولاءاتها، عادت طهران وأخضعتها، ثم تمكنت من استخدامها في نزاعها مع واشنطن، وكان آخرها واقعة مهاجمة السفارة. وقبل هذه الواقعة جاءت الغارات الغامضة على مواقع فصائل الحشد الموالية لطهران، وبعدها استهداف القواعد الأميركية ومقتل مدني أميركي بالقرب من كركوك، وهو ما ردت عليه واشنطن بالإغارة على البوكمال. كل هذا كان يحصل في منطقة نفوذ مشترك بين عدوين كبيرين.

كان لا بد لهذا النزاع أن يتحول إلى حرب معلنة، وخطوط قتال واضحة. مقتل قاسم سليماني سيكون تحولاً نحو هذه الوجهة. لقد صار من الصعب أن يتجاور النفوذان الأميركي والإيراني في العراق، وربما في لبنان أيضاً. قد تكون قدرة واشنطن على الردع أكبر، لكن قدرة طهران على هضم الصفعة الأميركية منعدمة. الحرب خارج أرضها خيار ممكن. العراق قريب من أجوائها وحدودها، ولواشنطن قواعد فيه، وقدرة على المبادرة. لبنان وسوريا متاحان، وربما الخليج.

درج

————————-

قواعد الاشتباك الجديدة والسيناريوهات بعد مقتل قاسم سليماني/ د. خطار أبودياب

تحول العراق في الفترة الأخيرة بفضل قدر الجغرافيا وتطور الأحداث منذ 2003، إلى الساحة الأساسية في اختبار القوة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران. ويمكننا القول بأن عملية “البرق الأزرق” التي استهدفت قاسم سليماني (قائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني) وأبومهدي المهندس (رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق) وصحبهما، تعتبر تصعيدا لا سابق له في المسلسل الطويل من التجاذب والتوتر بين واشنطن وطهران.

 ومما لا شك فيه أن مصرع سليماني رمز المشروع الإمبراطوري الإيراني ومنفّذه، يضع الشرق الأوسط والخليج في عين العاصفة أكثر من أيّ وقت مضى. وهذا التجاوز للخطوط الحمراء سياسياً وأمنياً وعسكرياً وصل إلى حده الأقصى ويعقّد السيناريوهات المرتسمة، ويزيد من الاحتمال بأن يكون العام 2020 عام إيران وعام مرحلة جديدة ستسمح بتوضيح مآل مجمل المشهد الإقليمي.

قبل الوصول إلى “الضربة القاضية” في بدايات 2020، كان حصاد العام الماضي المتباين عامل التباس ربما جعل حسابات إيران خاطئة في تقييم ردة فعل ترامب عند بعض المفاصل. وازداد قلق الدوائر العليا في إيران نتيجة تزامن الاحتجاجات في داخلها مع الانتفاضات التي هزّت وتهزّ دائرة نفوذها في العراق ولبنان. في مواجهة استراتيجية “الضغط الأقصى” التي مارستها الإدارة الأميركية على طهران (منذ مايو 2018) لإرغامها على العودة إلى طاولة المفاوضات والبحث في اتفاق نووي جديد يشمل برنامجها الصاروخي وتطلعاتها الإقليمية، انتقلت إيران إلى سياسة أكثر جرأة إزاء حلفاء واشنطن في المنطقة، شملت هجمات نسبت إليها أو إلى وكلائها على ناقلات نفط.

وقد نجحت العقوبات الأميركية في إضعاف الاقتصاد الإيراني وتقليص دعم طهران لوكلائها، ولكن في غياب استراتيجية متكاملة للمواجهة، لجأت إيران إلى سياسة حافة الهاوية فانتقلت من هجوم إلى آخر أقوى، وكأنّ لا شيء أكثر تخسره. وكاد إسقاط “الحرس الثوري” طائرة تجسس أميركية مسيّرة لدى اختراقها المجال الجوي الإيراني، أن ينقل المواجهة إلى مرحلة جديدة لولا تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في اللحظة الأخيرة. لكن الهجوم على منشأتي “أرامكو” كان الأخطر إطلاقاً وشكّل الصدمة الكبرى في قطاع إنتاج النفط في 63 سنة.

ومع أن أدلة أظهرت تورطا إيرانيا مباشرا في الهجوم، لم تتخذ واشنطن أيّ إجراء عسكري لوقف طهران عند حدها. وهكذا فإنه مع تراجع ترامب عن توجيه ضربة عسكرية في يونيو 2018 إلى طهران رداً على إسقاطها الطائرة المسيرة، تأكدت طهران من أن سيد البيت الأبيض لن يذهب أبداً إلى الحرب، وأن تهديداته التي يطلقها عبر “تويتر” ليست إلا استعراضات ومن هنا كانت ضربة أرامكو وتباهي إيران بربح المواجهة وعدم ليّ ذراعها.

بيد أن تطور الأحداث من العراق إلى لبنان أعاد خلط الأوراق. وأدى خوف إيران من خسارة نفوذها في محورها لارتكاب خطأ تقديري مع استهداف قاعدة أميركية في العراق ومقتل متعاقد أميركي، وهي كانت تعتقد بأن هذه الضربة لا تخرق الخطوط الحمراء وما تعتبره نوعاً من “قواعد الاشتباك” مع واشنطن. لكن تطور المشهد بمجمله وحصول مناورات بحرية في مياه الخليج بين روسيا والصين وإيران للمرة الأولى، كان من العوامل التي دفعت بالبنتاغون لتوجيه ضربات كبيرة للحشد الشعبي العراقي والحرس الثوري الإيراني في الأنبار وعلى الحدود العراقية – السورية.

 ونظراً لقساوة الخسائر وطبيعة الاستهداف، كان لا بد من رد متناسب ظنوا أن السفارة الأميركية في بغداد يمكن أن تكون هدفه المثالي للتهويل والضغط على إدارة ترامب. وهنا كان الخطأ الجسيم لأن ذلك ذكّر الرئيس الأميركي بمصير غريمته هيلاري كلينتون بعد مقتل السفير الأميركي في بنغازي، وأعاد للذاكرة قبل أربعين سنة احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية في طهران وكأن الزمن لم يغير أساليب النظام الإيراني. إزاء هذا التحدي لمجمل الوجود العسكري الأميركي في العراق وكل الإقليم، كان القرار بتصفية سليماني والمهندس وأترابهما من ضباط وقيادات الحرس والحشد وحزب الله.

إن اتخاذ القرار باغتيال “الرجل القوي” لإيران وواضع استراتيجية التمدد الإيراني في الإقليم وحول العالم، هو أول قرار من هذا النوع تتخذه واشنطن منذ أربعة عقود من الزمن، ويشكل كسبا يضع حداً لمسلسل “هوليوودي” ظنت طهران أنها ستلعبه طويلاً. خلافاً لكل الإدارات السابقة، تجرأ ترامب والبنتاغون على تغيير قواعد الاشتباك ونقل الصراع إلى مصاف جديد مع الخسائر التي لحقت بقيادات لإيران وأذرعها. والأدهى أيضا بالنسبة إلى إيران الضربة التي تلقتها هيبتها ومن الصعب ترميمها.

 وهذه النقلة الأميركية مرتبطة بتصاعد الاختراق الروسي في المنطقة والصعود الصيني، والملاحظ أن ردود الفعل الروسية والصينية حيال الضربات الأميركية التي سبقت عملية “البرق الأزرق” تشي برغبة في عدم التصعيد بين ثالوث الكبار وعلى الأرجح وصولاً إلى تقاسم النفوذ. ومن الأسباب الأخرى لزيادة الاندفاع الأميركي، القلق الذي برز في واشنطن إثر الكلام عن إمكانية حوار بين طهران وبعض العواصم في الخليج العربي، وفقدان صدقية واشنطن حول الالتزام بأمن الخليج وأمن الطاقة. ومن هنا أتى التصعيد الأميركي ليضرب عدة أهداف في وقت واحد.

إزاء خسارة لا تعوض بالنسبة إلى طهران، خاصة أن استبدال قاسم سليماني ليس بالأمر اليسير لأنه لم يكن صاحب الخطط العسكرية لإنقاد النظام في دمشق فحسب، بل كان كذلك صانع السياسة الإيرانية في العراق ولبنان واليمن ومحرك الخلايا النائمة. ولذلك سيصعب على “الجمهورية الإسلامية” تحمّل خسارتها ولا بدّ لها من الردّ والأرجح ألا يكون شاملاً لأنها لا تتحمل مجابهة شاملة في ظل انهيار اقتصادي واحتجاج داخلي. والأرجح أن يكون الردّ محصوراً في العراق حيث ليس من المستبعد إعادة انتشار وانسحاب أميركي على المدى المتوسط. لكن تدحرج التصعيد يمكن أن يجعل الوضع خارجا عن السيطرة وأن يتصور البعض في طهران أن خسارة ترامب الانتخابات تمرّ عبر جرّه إلى مواجهة كبرى من دون احتساب مخاطر الردّ الأميركي الصاعق.

لكن هذا السيناريو في الردّ المحدود يرتبط كذلك بعوامل أخرى وبالعامل الإسرائيلي تحديداً، لأن قرار عدم السماح بالتمركز الإيراني في سوريا والعراق يمكن أن يفجر الموقف وصولا لاستهداف البرنامج النووي الإيراني. ولذا ستكون الأشهر القادمة حافلة بالتصعيد والمتغيرات. وتبدو كل المنطقة على صفيح ساخن حتى إشعار آخر.

أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس

العرب

—————————–

فورين بوليسي: ترامب يلعب بالنار في الشرق الأوسط

في يونيو/حزيران 2011، بينما كانت القوات الأمريكية تنسحب من العراق، شن مسلحون تدعمهم إيران سلسلة من الهجمات الصاروخية القوية على قواعد الولايات المتحدة، وتم قتل أكثر من 10 جنود أمريكيين، وكانت أكبر خسارة في الأرواح في صفوف لتك القوات خلال عدة أشهر.

وكان لدى إدارة الرئيس السابق “باراك أوباما” خياران للانتقام، إما بضربة داخل إيران تقتل من خلالها قادة إيرانيين، أو تنفيذ غارات عبر قوات العمليات الخاصة في العراق ضد القدرات الصاروخية للمليشيات، ولتفادي التصعيد إلى حرب أوسع مع إيران، اختارت الإدارة الخيار الأخير.

وفي نهاية الأسبوع الماضي، وردا على هجوم صاروخي في 27 ديسمبر/كانون الأول 2019، أسفر عن مقتل مقاول أمريكي وإصابة العديد من الأمريكيين والعراقيين في قاعدة بالقرب من كركوك، اتبعت إدارة “دونالد ترامب” في البداية خيارا مشابها عبر شن غارات جوية انتقامية ضد كتائب “حزب الله”، الميليشيا العراقية التي تتماشى بشكل وثيق مع الحرس الثوري الإيراني.

ولكن بعد ذلك، في وقت مبكر من يوم الجمعة الماضي، في العراق، (الذي يوافق مساء الخميس في الولايات المتحدة)، ألقى الرئيس الأمريكي بقنبلة صادمة للمنطقة والعالم، حيث أذن لهجوم بطائرة بدون طيار أسفر عن مقتل اللواء “قاسم سليماني”، قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، وأحد أبرز قادة إيران، بالإضافة إلى عدد من كبار قادة الميليشيات العراقية، بالقرب من مطار بغداد.

مرحلة أكثر خطورة من الاستفزاز

ومع مقتل “سليماني”، دخلت دورة الضغط والاستفزاز المستمرة منذ أشهر بين واشنطن وطهران مرحلة أكثر خطورة، وأصبح خطر اندلاع حريق في جميع أنحاء المنطقة أعلى احتمالا من أي وقت مضى، بحسب ما تقول مجلة “فورين بوليسي” في مقال ترجمه “الخليج الجديد”.

وقبل الهجوم بفترة وجيزة، هدد وزير الدفاع الأمريكي “مارك أسبير” باتخاذ إجراء وقائي لحماية القوات الأمريكية، قائلا: “لقد تغيرت اللعبة”. لكن هذه ليست لعبة، ولا يمكن أن تكون، مع حجم المخاطر بالنسبة للجانبين.

وبالنسبة لشخصية مثل “قاسم سليماني”، فلا يجب أن يذرف أحد الدموع لأجله. فقد ساعد كزعيم لفيلق القدس، في تنظيم هجمات الميليشيات العراقية الشيعية التي أودت بحياة المئات من القوات الأمريكية خلال الاحتلال الأمريكي للعراق.

كما قام بتوجيه السياسة الإيرانية ودعمها لـ “حزب الله” اللبناني، والحركات الجهادية في غزة، والمتمردين الحوثيين في اليمن، ونظام “بشار الأسد” في سوريا. وكان له يد في الهجمات الإيرانية في الخارج، وحملات القمع ضد المتظاهرين الإيرانيين في الداخل.

وفي الآونة الأخيرة، ردا على انسحاب “ترامب” من الاتفاق النووي لعام 2015، وحملة “أقصى ضغط” التي فرضتها الإدارة الأمريكية، قامت إيران بسلسلة من الاستفزازات التي حملت بصمات “سليماني”، بما في ذلك تهديدات لقوات واشنطن في العراق.

ووفقا لرئيس هيئة الأركان المشتركة “مارك ميلي”، انخرطت الجماعات المدعومة من إيران في حملة متواصلة من الهجمات الصاروخية التي تستهدف المنشآت الأمريكية في العراق منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019.

لكن حتى 27 ديسمبر/كانون الأول، لم تُسفك أي دماء أمريكية، حتى تم قتل أمريكيين في غارة أخيرة، ردت عليها الولايات المتحدة بسرعة، وشنت ضربات ضد أهداف تابعة لكتائب “حزب الله” العراقي على جانبي الحدود العراقية السورية.

ودفع هذا بدوره قادة الميليشيات الشيعية إلى الحشد لحصار السفارة الأمريكية في بغداد؛ ما أثار شبح سيناريو يشبه “بنغازي” الليبية، وكان هذا هو سياق قرار “ترامب” بقتل “سليماني”.

مخاطر المواجهة

ولكن مهما كان الأمريكيون يشعرون الآن بتحقيق العدالة بقتل “العقل المدبر للإرهاب”، فلا ينبغي أن يحجب ذلك الشعور الاحتمال الحقيقي للغاية؛ بأن اغتياله قد يثير أحداثا تخرج عن نطاق السيطرة بطرق تضع المصالح الأمريكية ومصالح حلفائها في خطر أعمق.

وكانت إدارتان أمريكيتان سابقتان قد قررتا عدم اتخاذ قرار توجيه ضربة مباشرة ضد “سليماني” بدافع القلق، وشاركهما البنتاجون ومجتمع الاستخبارات ذلك القلق على نطاق واسع، في أن التصعيد الشامل قد يتبع مثل تلك الخطوة على الأرجح.

وفي الآونة الأخيرة، في الربيع الماضي على وجه التحديد، حذرت وزارة الدفاع البيت الأبيض من خطوة تصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية أجنبية، بحجة أنه قد يعرض حياة الأمريكيين في العراق وأماكن أخرى في المنطقة للخطر.

لكن “ترامب” أقدم على الخطوة على أي حال، وفي يونيو/حزيران الماضي، ساعد رئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك، “جوزيف دانفورد”، في إقناع “ترامب” بالتراجع عن الانتقام لإسقاط طهران طائرة أمريكية بدون طيار عبر ضربة في الأراضي الإيرانية. لكن هذا الحذر لم يكن حاضرا هذه المرة.

وبرر كل من “ترامب” ووزير الخارجية “مايك بومبيو” قتل “سليماني” باعتباره ضروريا لتفادي هجمات إضافية وشيكة ضد القوات الأمريكية.

ومن الصعب تقييم هذه الادعاءات في غياب نشر الإدارة للمعلومات الاستخباراتية ذات الصلة، في حين أن بيان وزارة الدفاع الأمريكية، (البنتاجون)، الذي أعلن فيه أن الهجوم كان استباقيا، فإنه لم يكشف شيئا عن هجوم إيراني وشيك.

علاوة على ذلك، تشير بعض التقارير إلى أن “ترامب” سمح باستهداف “سليماني” بعد الهجوم الصاروخي في 27 ديسمبر/كانون الأول، وأن قوات العمليات الخاصة الأمريكية كانت تنتظر لحظة الحصول على فرصة واضحة ومؤكدة لقتل “سليماني” منذ ذلك الحين.

وقد يفسر هذا سبب حدوث العملية حتى بعد انتهاء الحصار المفروض على السفارة الأمريكية، حين بدا أن الأحداث تهدأ في العراق.

وبغض النظر، يبدو أن “ترامب” وأقرب مستشاريه، كان لديهم نظرية وراء القتل المستهدف لـ “سليماني”، ويبدو أنهم يعتقدون أن إيران هي “نمر من ورق”، وأنه بمجرد انتهاء الضجيج، سوف تعود إلى كهفها من جديد.

والنظام الإيراني في الماضي أبدى بعض الحذر في مواجهة عدو أقوى، وكذلك الأمر في إدارة التصعيد، حيث استجاب القادة الإيرانيون تاريخيا للهجمات التي كانت سرية ويمكن إنكارها، بأن غضوا الطرف عن الرد.

لكن عملية “سليماني” مختلفة. لقد كان عملا علنيا ضد ثاني أشهر مسؤول في إيران. ومن وجهة نظر إيرانية، فإن الاغتيال يعادل أن يتم قتل مدير وكالة الاستخبارات المركزية، ووزير الدفاع، ووزير الخارجية، معا، لكن كل ذلك بالنسبة لإيران كان يجتمع في شخص واحد.

أشكال الرد المتوقع

وسواء أكانت الولايات المتحدة توافق أم لا، فإن إيران تعتبر ذلك عملا من أعمال الحرب. وسوف يرد النظام في الوقت والمكان والطريقة التي يختارها؛ لأن الشيء الوحيد الذي يخشاه أكثر من الصراع مع الولايات المتحدة هو التراجع في مواجهة مثل هذا التحدي المباشر للنظام.

وردا على قتل “سليماني”، هدد المرشد الأعلى الإيراني “علي خامنئي” بأن “الانتقام القوي ينتظر المجرمين الذين سفكوا دماء سليماني ودماء الشهداء الآخرين”.

وقد يأتي الانتقام في أشكال عديدة، ويمكن لإيران دفع مجموعات الميليشيات الشيعية لتصعيد الهجمات الصاروخية والقنابل المزروعة على الطريق بشكل ملحوظ ضد الأفراد الأمريكيين في العراق، والدفع باتجاه تنظيم احتجاجات وهجمات إضافية ضد السفارة الأمريكية في بغداد.

وقد يستهدف الوكلاء الإيرانيون بضع مئات من القوات الأمريكية التي تحمي حقول النفط في شرق سوريا، أو القيام بهجمات مباشرة ضد القوات الأمريكية في أفغانستان.

ويمكن لإيران أن تطلق صواريخ باليستية على المنشآت الأمريكية في العراق أو الخليج العربي، أو تكثف عمليات تخريب الشحن الدولي عبر مضيق هرمز، أو شن هجمات إضافية بالصواريخ أو الطائرات بدون طيار ضد البنية التحتية الحيوية للطاقة في المنطقة، أو تشجيع “حزب الله” اللبناني، أو الحركات الفلسطينية المسلحة، على مهاجمة (إسرائيل).

ويمكن لطهران تنظيم هجمات ضد الأمريكيين أو المصالح الأمريكية في المنطقة، كما فعلت في الثمانينات في بيروت، وفي عام 1996 في عملية “أبراج الخبر” بالمملكة العربية السعودية، أو التخطيط لشن هجوم داخل الولايات المتحدة، كما حاولت في عام 2011 ضد السفير السعودي في واشنطن، أو يمكن لإيران استخدام قدراتها الإلكترونية المتطورة بشكل متزايد لضرب الولايات المتحدة.

وإذا تسبب الانتقام الإيراني في المزيد من الدماء الأمريكية، فسوف يدفع ذلك بضربات أمريكية مضادة، تهدف، على حد تعبير بيان صدر مؤخرا عن البنتاجون، إلى “ردع خطط الهجوم الإيراني المستقبلية”.

وسوف يضطر القادة الإيرانيون، عند مواجهة ضربات أمريكية إضافية ضد قواتهم ومصالحهم، إلى رد مماثل. وقد لا يرغب أي من الطرفين في حرب شاملة، لكن مع كل تصعيد وتصعيد مضاد، تزداد احتمالات الانزلاق إلى مثل هذه الحرب، ويكون من الصعب رؤية مجال للهروب من هذه الدوامة المتصاعدة.

عواقب جانبية

وحتى إذا تجنب الجانبان شن حرب إقليمية، فمن المحتمل أن تكون هناك عواقب جانبية أخرى عميقة لمقتل “سليماني”. وقد يتسبب الغضب العراقي من العملية في جعل الوجود الأمريكي في البلاد يقترب من نهايته.

حيث ندد رئيس الوزراء العراقي “عادل عبدالمهدي” بالضربة بالفعل، باعتبارها انتهاكا للسيادة العراقية، وعملا عدوانيا ضد الشعب العراقي، ولن يكون مفاجئا إذا طالب البرلمان العراقي بالانسحاب الكامل للقوات الأمريكية في الأيام المقبلة.

وقد يستغل “ترامب”، الذي طالما كان ينتقد تأمين الحلفاء “غير الممتنين”، الأمر بالفعل كفرصة لسحب القوات. وربما تروق النتيجة لمؤيدي “ترامب”، لكنها ستمهد الطريق لإيران لتوسيع نفوذها في العراق بشكل أكبر، مع زيادة صعوبة التحقق من عدم عودة تنظيم “الدولة الإسلامية”.

ومن المحتمل أن تكثف إيران استفزازاتها على الجبهة النووية أيضا. وعلى مدار العام الماضي، ردا على انسحاب “ترامب” من الاتفاق النووي، استأنفت طهران تدريجيا عناصر برنامجها النووي.

ومع تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة، من المحتمل اتخاذ خطوات أكثر دراماتيكية، بما في ذلك استئناف مستويات أعلى بكثير من تخصيب اليورانيوم. وبينما تقترب إيران أكثر فأكثر من القدرة على إنتاج الوقود لسلاح نووي، مع تلاشي احتمالات الحل الدبلوماسي، سوف يظهر طريق آخر إلى مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة أو (إسرائيل).

وبالنظر إلى هذه المخاطر، تحتاج الإدارة إلى إطلاع الشعب الأمريكي على استراتيجيتها وخططها، وتحتاج إلى توفير المعلومات الاستخباراتية التي استخدمتها لتبرير الضربة، وشرح كيف سيخفف ذلك من المخاطر التي لا تعد ولا تحصى الناجمة عن ذلك.

يجب أن تكون الإدارة قد استعدت قبل الضربة لعملية أمنية وطنية شاملة لضمان سلامة الأفراد العسكريين والدبلوماسيين الأمريكيين في جميع أنحاء الشرق الأوسط، والاستعداد لعمليات الإجلاء المدني المحتملة، وحماية البنية التحتية الحيوية في المنطقة وفي الداخل ضد المليشيات المدعومة من إيران أو الهجمات الإلكترونية، وأن تكون القوات الأمريكية مستعدة لردع طهران وإدارة التصعيد معها.

وحتى الآن، لم يُظهر “ترامب” العقلية أو الصبر اللازم لمثل هذه المداولات، ولم تُظهر إدارته أبدا مثل هذه الكفاءة. والآن، بسبب القرارات “المشؤومة” التي اتخذها، تواجه الإدارة إلى حد بعيد اختبارها الأعظم.

وبينما تتوجه الولايات المتحدة إلى مياه مفتوحة ومظلمة على نحو متزايد، يوجد خطر حقيقي للغاية من أن الإدارة “تبحر عمياء” عبر هذه المياه.

————————-

الولايات المتحدة قتلت قاسم سليماني، قائد فيلق القدس/ مايكل يونغ

في وقت مبكّر من صبيحة 2 كانون الثاني/يناير، نفّذت الولايات المتحدة في مطار بغداد عملية اغتيال مدروسة لقاسم سليماني، قائد فيلق القدس، المسؤول عن وحدة العمليات الخارجية في الحرس الثوري الإيراني. كما قُتِلَ في الهجوم أبو مهدي المهندس، الشخصية البارزة في قوات الحشد الشعبي وقائد كتائب حزب الله الذي استهدفته الولايات المتحدة، علاوة على أشخاص آخرين، في هجمات جوية شنّتها الأسبوع الماضي،.

كانت نيويورك تايمز نسبت إلى مسؤولين أميركيين قولهم أن الرئيس ترامب هو الذي أعطى الضوء الأخضر للاغتيال. كما أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن “اللواء سليماني كان يطوّر بدأبٍ خططاً لمهاجمة دبلوماسيين وعناصر عسكرية أميركية في العراق وفي كل المنطقة”. وبعد عملية الاغتيال، نسب الإعلام الإيراني إلى المرشد الأعلى الإيراني أية الله خامنئي قوله أن “كل أنصار المقاومة سيطلبون الثأر لسليماني”.

لماذا هذا التطور مهم؟

لدى الأميركيين العديد من المبررات لقتل سليماني، فهو كان رأس الحربة في عمليات إيران ضد الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. ومع ذلك، قرار اغتياله كان بمثابة تصعيد ملحوظ ضد كل من إيران والدولة العراقية: فالاغتيال لم يُنفَّذ في مطار بغداد وحسب (الأمر الذي أهان العراقيين)، بل قامت أيضاً واشنطن عبره بتسليط الضوء بشكل غير مباشر على حقيقة أن سليماني كان يصول ويجول كما يشاء في العراق، ماعنى أن البلاد باتت مجرد حلبة للتنافس الأميركي- الإيراني. صحيح أن هذا الأمر كان واضحاً قبل ذلك للكثيرين، لكن ستكون له مضاعفات على الوجود الأميركي في العراق مستقبلا، إذ هو قد يُغلق عملياً فصل التعايش الصعب بين الأميركيين والإيرانيين.

كان سليماني الوجه الأبرز لطموحات إيران الإقليمية. فهو كان ينشط في منطقة شاسعة تمتد من العراق إلى سورية ومن لبنان إلى اليمن. ولذا، ستكون إيران حريصة على أن تُظهر أن مصرعه لن يؤثّر على خططها الإقليمية، وأن في حوزتها لائحة طويلة من الردود المحتملة. وبالتالي، قد يُصبح الدبلوماسيون والعسكريون وحتى المدنيون الأميركيون في أرجاءالمنطقة، ناهيك عن حلفاء أميركا الرئيسيين، هدفاً للانتقام الإيراني. طهران مضطّرة حكماً لاستعراض قدرات ردع قوية، خاصة وأنها تُواجه الآن ما تعتبره معارضة مثيرة للتوتر من جانب حركات شعبية في العراق وإلى درجة أقل في لبنان، إضافة إلى تحديات صامتة من طرف روسيا لنفوذها في سورية.

ستكون الحاجة ملحّة للرد بشدة، في مرحلة بات فيها عدم الرضى المحلي من نظام إيران في ذرى شاهقة. وهذا يعود أساساً إلى المضاعفات الاقتصادية للعقوبات التي تقودها الولايات المتحدة، وإلى اتهام العديد من الإيرانيين لقيادتهم بأنها تكرّس موارد ثمينة للشؤون الإقليمية على حساب شعبها. لذلك، سيهدف النظام، من خلال توجيه ضربات عنيفة ضد الأميركيين وشركائهم في الخليج أو إسرائيل، إلى إطلاق إشارة في الداخل مفادها أن الجمهورية الإسلامية لن تخاف ولن تتراجع عن أجندتها الإقليمية.

في المقابل ، تبدو الرسالة من منظور الإدارة الأميركية مُلتبسة. فالرئيس ترامب قال أنه لايريد حرباً مع إيران، لكنه مع هذا التصعيد الدراماتيكي أظهر أنه مستعد للانخراط بالفعل في هكذا حرب. وهذا استمرار لحملة “أقصى الضغوط” على طهران التي تستهدف، من وجهة النظر الأميركية، إجبار إيران على قبول شروط واشنطن للحد من برنامجها النووي وتدخلاتها في البلدان العربية. بيد أن إيران تعتبر نفوذها الإقليمي خارج دائرة التفاوض، وستعمد إلى رفع مستوى عدم الاستقرار الإقليمي لتعزيز مثل هذه الرسالة.

ما المضاعفات للمستقبل؟

يبدو أننا عالقون في منطق الحرب بين إيران والولايات المتحدة، وحلفاء كلٍّ منهما. ربما واشنطن وطهران لاتريدان ذلك، لكن إدارة ترامب، عبر إقدامها على اغتيال سليماني، أظهرت أنها مستعدة لمجابهة سياسات إيران الإقليمية، وبالقوة إذا اقتضى الأمر. إذن، لاسبيل أمام الإيرانيين للخروج من هذا الوضع سوى المغالاة في التصعيد ليظهروا للأميركيين أن انتهاج هذا المسار سيكبّد واشنطن أكلافاً باهظة. ونظراً إلى تمنّع دونالد ترامب عن خوض حرب مع إيران، واقتراب الحملة المزمعة لإعادة انتخابه رئيساً، يراهن الإيرانيون على واقع أن الرئيس الأميركي ربما لايتحرّق شوقاً في الوقت الراهن لبذل الغالي والنفيس من أجل احتواء طهران.

مع ذلك، ينبغي على النظام الإيراني أن يلزم الحذر. فإذا ما قرّر الأميركيون، ربما بالتنسيق مع إسرائيل، شنّ ضربات انتقامية على إيران وبنيتها التحتية الاقتصادية، سيلحقون أضراراً كبرى بالاقتصاد الإيراني الهش أصلاً، كما سيحشدون في صفّهم الدول العربية المناوئة للجمهورية الإسلامية، الأمر الذي من شأنه أن يضعف النفوذ الإيراني في أرجاء العالم العربي. وفي حين أن الصين وروسيا قد تمنحان إيران دعماً دبلوماسياً، إلا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يسعى إلى الإفادة من التراجع الإيراني لتوسيع نفوذ موسكو في المنطقة.

غالب الظن أن تغرق المنطقة في لُجج فوضى عارمة. لكن إيران تفضّل تحريك بيادقها على تخوم الدول العربية، مستفيدةً من الأنظمة السياسية المُختلة ومتجنّبةً الانخراط المباشر في النزاعات. وهذا الأمر لم يسمح فقط لطهران بأن تلعب سابقاً دوراً معطّلاً كبيراً على الأرض، بل أثار أيضاً قلق الحكومات العربية التي شهدت بروز ميليشيات خارجة عن سيطرتها وموالية لإيران. إن مساعي تدمير إيران قد ترغم هذه الحكومات على اتّخاذ موقف أوضح ضد الأساليب التي تتّبعها طهران وشبكاتها الإقليمية.

صحيحٌ أننا لم نبلغ هذه المرحلة بعد، لكن اغتيال سليماني يشرّع الأبواب أمام احتمالات جديدة لم تكن الإدارات الأميركية السابقة مستعدّة لاستكشافها. لذا، يتعيّن على واشنطن وطهران أن تحسبا جيّداً كل خطوة تتّخذانها في هذه المرحلة المتأجّجة الجديدة من تاريخ الصراع بينهما. فأي خطأ يقع سيكبّد الطرفين خسائر كبيرة، لذا من الممكن أيضاً أن يقرّرا الابتعاد عن حافة الهاوية لتجنّب الغرق في مستنقع الغموض المدمّر.

—————————–

إعلان حرب أمريكي على تنظيمات مسلحة حليفة لإيران في المنطقة العربية؟: اغتيال قاسم سليماني – تصعيد خطير بين أمريكا وإيران

استهدفت طائراتٌ أمريكية مسيَّرة من دون طيَّار موكب الجنرال قاسم سليماني (قائد فيلق القدس) في مطار بغداد، بعد وصول قاسم سليماني إلى هناك. جاء أمر اغتيال قاسم سليماني من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب شخصيًا، الذي نجح من خلال ذلك وبكلّ تأكيد على المدى القصير في إشباع رغبته بالانتقام.

هذا الهجوم هو ردُّ دونالد ترامب على اقتحام المتظاهرين السفارة الأمريكية ببغداد قبل بضعة أيَّام. كان مقتحمو السفارة من كتائب حزب الله، وهي واحدة من الميليشيات الشيعية في العراق المدعومة والمُوجَّهة من قِبَل إيران. وفي المقابل اقتحمت هذه المجموعات شبه العسكرية السفارة الأمريكية كردّ منها على قيام القوَّات الجوية الأمريكية قبل ذلك بقصف مواقعها في العراق.

برَّرت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) هذه الضربة ضدَّ قاسم سليماني بقولها إنَّ سليماني كان يعمل بنشاط على مخططات لاستهداف الدبلوماسيين والمقاتلين الأمريكيين في العراق والمنطقة.

مهندس سياسة إيران الإقليمية

لقد تم عمليًا التخطيط مسبقًا للمزيد من التصعيد. إذ إنَّ القائد المقتول قاسم سليماني لم يكن مجرَّد جنرال إيراني فقط. بل لقد كان لدى الحرس الثوري الإيراني بطلًا، يخضع مباشرة إلى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية آية الله علي خامنئي. ولكن هذا وحده لا يصف أهميَّته بشكل مناسب.

خطر التصعيد في الصراع الأمريكي الإيراني: أعلن الزعيم الديني والسياسي الإيراني آية الله علي خامنئي بعد استهداف قاسم سليماني أنَّ المقاومة ضدَّ الولايات المتَّحدة الأمريكية وإسرائيل سوف تستمر الآن بدافع مزدوج. ودعا في الوقت نفسه إلى حداد وطني لثلاثة أيَّام.

قاسم سليماني هو مهندس السياسة الإيرانية الرامية إلى بناء شبكة من الميليشيات الشيعية في جميع أنحاء المنطقة. لم يتمكَّن بمساعدة هذه الشبكة القائدُ قاسم سليماني ذو الاثنين وستين عامًا من ضمان وتوسيع النفوذ الإيراني فحسب، بل أنشأ أيضًا أجهزةً يمكن أن تعمل عسكريًا وسياسيًا كأقمار صناعية إيرانية يتم توجيهها عن بُعد.

والطرف الأبرز من بين هذه الميليشيات هو حزب الله في لبنان، وكذلك العديد من الميليشيات الشيعية وأحزابها التي تحدِّد السياسة في بغداد. هذه القوَّات التي كان يتم توجيهها عن بعد من قِبَل قاسم سليماني، تقاتل أيضًا في سوريا إلى جانب الأسد، وقد ساعدت بشكل حاسم الديكتاتور السوري على تحقيق انتصاراته العسكرية ضدَّ المسلحين السوريين في الأعوام الأخيرة. كذلك كان المسلحون الحوثيون في اليمن جزءًا من استراتيجية قاسم سليماني الرامية إلى توسيع مجال النفوذ الإيراني.

وبالذات هذه الشبكة التي أنشأها قاسم سليماني تجعل الوضع الحالي والردّ على اغتياله خَطِرَيْن للغاية ولا يمكن التنبُّؤ بهما. وذلك لأنَّه خلق جبهات كثيرة يجب على كلّ عدو لإيران أن يستعد لها.

وعلى العكس من التدخُّلات العسكرية الأمريكية السابقة في المنطقة، مثلًا ضدَّ عراق صدام حسين أو طالبان في أفغانستان، فإنَّ الصراع ضدَّ إيران لا يقتصر لذلك على حدودها الجغرافية. هذه هي تركة قاسم سليماني الأكثر أهمية، التي يمكن معها للنظام الإيراني الآن الردّ على اغتياله.

“عندما يتصارع فيلان ينسحقُ العشب تحت أقدامهما”

على الأرجح أن تجري الجبهة الأولى في العراق، بين الميليشيات الشيعية الموجودة هناك والقوَّات والمصالح الأمريكية الباقية هناك. في هذا الصراع يمكن للقسم الأكبر من العراقيين غير المنتمين للميليشيات الشيعية أن يراقبوا الأحداث فقط. ما من شكّ في أنَّكم تعرفون المثل القائل: “عندما يتصارع فيلان ينسحقُ العشب تحت أقدامهما”.

ولكن قد تتعرَّض السفارات والمصالح الأمريكية لهجمات أيضًا في جميع الدول الأخرى الموجود فيها ميليشيات شيعية. يمكن للإيرانيين أيضًا أن يستخدموا شبكة الميليشيات الشيعية لتصعيب حياة حلفاء الولايات المتَّحدة الأمريكية في المنطقة، مثل إسرائيل أو المملكة العربية السعودية. ويمكنهم أيضًا مهاجمة المنشآت النفطية والناقلات.

لقد أثبت الإيرانيون بالفعل عدة مرَّات في العام الماضي 2019 مدى هشاشة صناعة النفط السعودية وإمكانية استهدافها، وأثبتوا بالتالي مدى هشاشة سوق النفط العالمية وإمكانية استهدافها. فبعد استهداف منشأتي النفط السعوديتين التابعتين لشركة أرامكو السعودية الحكومية في بقيق وخُرَيص بطائرات مسيَّرة من دون طيَّار، اضطر السعوديون بين ليلة وضحاها إلى خفض إنتاجهم من النفط إلى النصف.

وبما أنَّ المملكة العربية السعودية تنتج عشرة في المائة من النفط المُسَوَّق في جميع أنحاء العالم، فقد أدَّى هذا فجأة إلى خسارة سوق النفط العالمية خمسة في المائة من إمدادت الذهب الأسود. ولذلك فلا عجب من أنَّ مجرَّد خبر اغتيال قاسم سليماني أسفر عن زيادة سعر النفط بنحو أربع نقاط مئوية.

لقد أعلنت القيادة الإيرانية بشكل واضح كلَّ الوضوح عن أنَّ الردّ الإيراني محسوم. حيث كتب المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي خامنئي في بيان تعزية تم بثه على التلفزيون الرسمي الإيراني أنَّ: عمل قاسم سليماني “لن يتوقَّف برحيله (…) ولن يبلغ طريقًا مسدودً، لكن الانتقام الشديد سيكون بانتظار المجرمين الذين تلوَّثت أيديهم القذرة بدمائة”. كذلك كتب على موقع تويتر وزيرُ الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أنَّ: “اغتيال الجنرال قاسم سليماني أمر خطير للغاية وتصعيد أحمق”.

كما أعلن متحدِّثٌ باسم الحكومة الإيرانية عن اجتماع لجهاز الأمن الإيراني بعد بضع ساعات من أجل مناقشة ردود الفعل الإيرانية المحتملة.

ومع إعلانها الحداد الوطني ثلاثة أيَّام، تأخذ إيران أوَّلًا استراحة لتُفكِّر في: أين ومتى سيكون الانتقام وأين يمكن أن يؤلم انتقامُها الولايات المتَّحدة الأمريكية أو الاقتصاد العالمي أشدَّ ألم. وعلى الأرجح أنَّ إمكانيات التصعيد الإيرانية غير محدودة تقريبًا.

كريم الجوهري

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

——————————

نيويورك تايمز: اغتيال قاسم سليماني وحَّد الإيرانيين خلف قياداتهم

    سليماني أشبه بالرمز المقدس

    توحيد الإصلاحي والمتشدد

    الاغتيال قوى نفوذ المتشددين

    تراجع أهمية الاحتجاجات الداخلية

    الداعمون لحقوق الإنسان ينادون بالانتقام لمقتله

لا شك أن تغيير النظام في إيران يعد ركيزة في السياسة الخارجية الأمريكية منذ اندلاع ثورة الخميني في طهران، لكن قرار الرئيس دونالد ترامب اغتيال قائد فيلق القدس وثاني أقوى شخص في النظام الإيراني قاسم سليماني، قد أتى بنتائج عكسية، على الأقل حتى الآن.

صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: «الإيرانيون يتَّحِدون خلف قياداتهم بعد اغتيال الولايات المتحدة قائدهم العسكري»، ألقت فيه الضوء على رد الفعل داخل إيران بعد مقتل سليماني.

سليماني أشبه بالرمز المقدس

في جميع أنحاء المدن الإيرانية، احتشد عشرات الآلاف في الشوارع حداداً على اللواء قاسم سليماني. وخرجت النساء متّشحات بالسواد، والرجال يحملون صور سليماني. ورُفع علم أسود على القبة الذهبية لضريح الإمام علي الرضا في مدينة مشهد، أحد أقدس المواقع الشيعية.

وقبل أسابيع قليلة، كانت الشوارع مليئة بالمتظاهرين الغاضبين من قادتهم بسبب التدهور الاقتصادي والعزلة الدولية المفروضة على البلاد، ولكن في الوقت الحالي، على الأقل، تبدو إيران متحدة في غضبها من الولايات المتحدة.

ولسنوات طويلة، ظلّت الأمة منقسمة، يقودها الثوار القدامى، العازمون على فرض إرادتهم على أغلبية السُّكَّان من الشباب المتعطّشين للعيش في بلد طبيعي بعلاقات طبيعية مع بقية دول العالم، والذين لا يحملون أيَّ ذكرى عن الشاه، الذي أطاحته الثورة الإسلامية عام 1979، وفجأة، ومع اغتيال أحد كبار القادة العسكريين في البلاد، احتشدت الأمة خلف قياداتها.

الصغير والكبير، الغني والفقير، المتشدد والإصلاحي؛ كان اللواء سليماني، القائد العسكري الأقوى والأكثر نفوذاً، يحظى بتقديرهم، وكان أشبه برمزٍ مُقدَّس. وبعد مقتله في بغداد يوم الجمعة 3 يناير/كانون الثاني، في غارة جوية بطائرة مُسيَّرة بأوامر من الرئيس ترامب، أصبحت صوره الآن في كل مكان في طهران، بالشارة السوداء.

توحيد الإصلاحي والمتشدد

وكتب الرئيس الإيراني حسن روحاني، الذي كان يتبنى الدفاع عن الدبلوماسية والتكامل مع الغرب، على منصة تويتر: «سوف ينتقم الشعب الإيراني بلا شك ممن ارتكب هذه الجريمة المروعة».

وفي يوم السبت، 4 يناير/كانون الثاني، في العراق، تظاهر عشرات الآلاف من المقاتلين المؤيدين لإيران في العاصمة بغداد، مُتعهِّدين بالانتقام من الولايات المتحدة، في جنازة اثنين من القادة العسكريين العراقيين الذين قتلا في نفس الهجوم.

وفي إيران، أعرب سياسيون ومواطنون عاديون من جميع الأطياف تأييدهم الكامل لتعهّد المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، بأن «الانتقام الشديد بانتظار هؤلاء المجرمين» الذين قتلوا سليماني.

الاغتيال قوى نفوذ المتشددين

ويقول خبراء من داخل إيران وخارجها، إنَّ عملية الاغتيال يبدو أنها عزَّزَت من قبضة ونفوذ المتشددين في البلاد، مُقوِّضةً موقف مَن كانوا يدعون إلى التحاور مع الغرب، على الأقل في الوقت الحالي.

وأصبح المعتدلون في إيران، مثل روحاني، في موقف دفاعي صعب منذ انسحاب ترامب من الاتفاق النووي 2015، وفرض مجموعة من العقوبات التي أسهمت في التدهور الاقتصادي الحاد لإيران.

وعزَّزَ هذا التحول موقف المنتقدين المتشددين الذين قالوا إنه يُفقِد أولئك الذين قبلوا بالضمانات الأمريكية مصداقيتهم. وتسمك المعتدلون بآمالٍ ضئيلة في استئناف المفاوضات مع واشنطن- المُحتَمَلة بين الرئيسين الأمريكي والإيراني.

يبدو أن أي حديث عن التحرر أو التفاوض أخطر الآن مِمَّا كان عليه منذ سنوات، وسوف يختفي من النقاش العام في الوقت الحالي على الأرجح. كتبت سارة معصومي، الصحفية الإصلاحية البارزة، على تويتر، أن احتمال إجراء مفاوضات حالية مع الولايات المتحدة «أقل من الصفر».

وقال ولي نصر، الباحث بشؤون الشرق الأوسط والعميد السابق لكلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكينز: «على المدى القصير على الأقل، سوف يؤدي الاغتيال إلى احتشاد الجميع خلف القيادة، فقد كان سليماني شخصيةً شعبيةً بارزة». ويتوقع أن يكون هناك «اندفاعٌ عاطفي قوي» سواء كان شعبياً أو بتعزيزٍ من وسائل الإعلام الحكومية.

وتمنح إيران كل مراتب الشرف والتكريم للواء سليماني كما لو كان خليطاً بين رجل الدولة والقديس. سوف تمر جثته على كل الأضرحة والمزارات في كل المدن الشيعية المقدسة، من سامراء والكاظمية وكربلاء والنجف في العراق إلى مشهد وقم في إيران.

ومع وصول جثته إلى أربع مدن إيرانية خلال الأيام المقبلة، من المتوقع أن نشهد حشوداً ضخمة تستعرض تضامنها وتحدِّيها للغرب. ومع ذلك، قد يكون استعراض الوحدة المنتظر قصير الأمد.

تراجع أهمية الاحتجاجات الداخلية

لا تزال المظالم العميقة التي أشعلت المظاهرات ضد الحكومة، في نوفمبر/تشرين الثاني، قائمة: المعاناة الاقتصادية والعزلة الدولية والقمع الاجتماعي. وأشاد بعض أنصار المعارضة الإيرانية بعملية الاغتيال، ويؤيدون زيادة واشنطن لسياسة الضغط الأقصى على حكَّام إيران.

وخلال الشهر الماضي ديسمبر/كانون الأول، اندلعت احتجاجاتٌ ضخمة مناهضة للحكومة هزَّت أرجاء إيران، وأظهرت سخطاً عميقاً ازداد عمقاً مع التعامل الوحشي مع المظاهرات، مما أسفر عن مقتل حوالي ألف شخص. ومن المتوقع الآن أن يسود الشعور بالغضب من الولايات المتحدة ويصرف الانتباه عن المعاناة الاقتصادية للبلاد والمظاهرات الأخيرة.

وقد يستخدم قادة إيران عملية الاغتيال بمثابة ذريعة لتكثيف قمعها للمعارضين والمنتقدين، وقال أمير رشيدي، خبير الأمان الرقمي الإيراني المقيم في نيويورك: «مقتل اللواء سليماني أسوأ ما قد يحدث للانتفاضات المدنية في إيران والعراق»، وأضاف: «سوف يزيد الضغط على الشعب الذي يعيش بالفعل في محنة شديدة سياسياً واقتصادياً».

وعلى مدار أيام قليلة، تصاعد الصراع بين الولايات المتحدة وإيران بشكل هائل. إذ قُتل أمريكي في هجوم صاروخي على قاعدة عسكرية في العراق، يوم الجمعة 27 ديسمبر/كانون الأول، ووجهت الولايات المتحدة اتهاماتها إلى الميليشيات المدعومة من إيران، وشنّت غارات جوية يوم الأحد 29 ديسمبر/كانون الأول، أسفرت عن مقتل بضعة وعشرين شخصاً من مقاتلي الميليشيات. وفي يوم الثلاثاء، 31 ديسمبر/كانون الأول، حاصرت الميليشيات مجمع السفارة الأمريكية في بغداد، واخترقوا الجدار الخارجي وأشعلوا النار في بعض المباني.

وكان اللواء سليماني يقود فيلق القدس من قوات الحرس الثوري الإيراني، المسؤول عن العمليات العسكرية الإيرانية في الخارج. وقاد القوات الإيرانية التي قاتلت عناصر الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش). وكان مسؤولاً أيضاً عن الدور الإيراني في تسليح وتدريب وتوجيه الميليشيات الشيعية المقاتلة لعناصر داعش، وقد أسفر الهجوم الأمريكي أيضاً عن مقتل أبومهدي المهندس، القيادي البارز في الميليشيا العراقية المدعومة من إيران.

بالإضافة إلى ذلك، كان سليماني يدير التوجيه الإيراني لقوات خارجية مثل الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان وغيرهم ممن يواجهون الولايات المتحدة أو حلفاءها الإقليميين، إسرائيل والسعودية. ووضعته الولايات المتحدة على قوائم الإرهاب في 2007، وفرضت عليه عقوبات اقتصادية.

ولكن داخل إيران، صدَّرَت إيران صورته للعامة على أنه الشخص الذي يحافظ على أمن البلاد. وانتقل من خانة قائد الظل إلى اسمٍ مألوف يظهر في النشرات الإخبارية ومقاطع الفيديو، يوجِّه القوات في المعارك، ويجتمع بالقادة الحلفاء، ويلقي خطباً وأشعاراً عن فضل الاستشهاد.

وقالت سانام فاكيل، كبيرة الباحثين ورئيسة المنتدى الإيراني بمعهد تشاتام هاوس للشؤون الدولية في لندن: «يعتبر قاسم سليماني هو الوجه العام لسياسة إيران الإقليمية. ومنذ القتال ضد داعش يمكنك أن ترى زيادة كبيرة في أعداد داعميه ومؤيديه».

الداعمون لحقوق الإنسان ينادون بالانتقام لمقتله

وتحوَّلَ الإيرانيون المدافعون عادةً عن حقوق الإنسان إلى التضامن الوطني، وأعربوا عن حزنهم على مقتل سليماني، ونشرت بهاره رهنما، واحدة من أشهر الممثلات الإيرانيات المعروفة بدعمها لحقوق المرأة، على حساب إنستغرام: «كيف ننسى كم كان داعش قريباً منَّا وننسى من هزم هذا الوحش؟».

كان من المعروف على نطاق واسع عن اللواء سليماني أنه من التيار المحافظ، ولكنه حرص على عدم الانحياز إلى أي فصيل سياسي في إيران، أو الانخراط في النزاعات الداخلية، مما سمح بأن يُنظر له على أنه أعلى من السياسة.

وقالت أريان الطباطبائي، باحثة العلوم السياسية بمؤسسة راند، التي تركز على الشرق الأوسط وإيران: «إنه شخص يتمتع بعمق واتساع في العلاقات مع النظام الإيراني، مما سمح له بالعمل مع كل الجهات الفاعلة الرئيسية في المشهد السياسي». وأشارت أريان إلى علاقة العمل الوثيقة التي جمعته مع وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، الذي يعتبر من التيار المعتدل.

وقالت: «كل ممثلي الأطياف السياسية الكبرى في إيران، من الإصلاحيين إلى المتشددين، يقولون إنها خسارة كبيرة».

وأعلنت إيران عن موكب جنائزي يستمر ثلاثة أيام للواء سليماني، يبدأ السبت، 4 يناير/كانون الثاني، في بغداد، ثم ينتقل إلى المدن الأخرى في العراق. وسوف يستمر الموكب في مدينة مشهد الإيرانية يوم الأحد، 5 يناير/كانون الثاني، ثم يصل إلى طهران يوم الإثنين، 6 يناير/كانون الثاني، حيث يُصلّي آية الله خامنئي على جثمان سليماني في جامعة طهران.

وفي يوم الثلاثاء، 7 يناير/كانون الثاني، سوف يُحمل الجثمان إلى مسقط رأسه، مدينة كرمان، حتى يُدفن هناك. وذكرت وسائل الإعلام الإيرانية أنه ترك وصيةً يطلب فيها مدفناً بسيطاً في مسقط رأسه.

وقال العديد من الأشخاص المُطَّلِعين على تخطيط الموكب إنهم يتوقعون إقبالاً هائلاً وقدوم قادة الجماعات المسلحة من جميع أنحاء البلاد لحضور الموكب والمراسم.

وقال راز زيمت، المختص بالملف الإيراني في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب: «العديد من الإيرانيين، سواء كانوا يحبون النظام الحاكم أو لا يحبونه، اعتبروا سليماني رمزاً وطنياً. وإنهم يرون اغتياله بمثابة جرح كبير لكبريائهم الوطني». وكتب محمود دولت‌ آبادي، الكاتب الإيراني البارز الذي ينادي بحرية الفنون: «فقدت إيران مجدداً واحداً من أشرف أبنائها».

ومنذ انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، أعادت إيران إحياء برنامجها النووي على مراحل، وسط تصاعد التوترات والنزاعات مع الولايات المتحدة. ووعدت الأطراف الأوروبية الموقعة على الاتفاق بإيجاد طريقة لتعويض الآثار الناجمة عن العقوبات، ولكنهم فشلوا حتى الآن. ولم تصل التلميحات إلى استئناف المفاوضات مع واشنطن إلى أي جديد.

وقال ولي نصر: «كان موقف المعتدلين صعباً بالفعل قبل اغتيال اللواء سليماني، وهناك انتخابات تشريعية في إيران الشهر المقبل. أعتقد أن المتشددين سوف يبلون بلاءً حسناً في الانتخابات. هذا النوع من الضغوط على إيران، مثل أي دولة أخرى، يجعل مقاليد الأمور بين يدي قوات الأمن».

عربي بوست

—————————

ما بين إيران وأميركا وسائر الأنظمة: نحن الضحايا دوماً/ يوسف بزي

في عز انتفاضة المواطنين العراقيين، سعياً لطموحهم البديهي ببناء دولة المواطنة والعدالة والحرية، المستقلة حقاً عن المشروعين الإيراني والأميركي في آن واحد، قررت “الميليشيات” (السلطة الفعلية) تخريب العراق وتدميره على رؤوس أهله. قررت قتل المدنيين العزل والتنكيل بشبان وشابات الانتفاضة المدنية السلمية. كما قررت في الوقت نفسه افتعال “عمليات” موضعية ومتنقلة ضد القواعد والمنشآت والمصالح الأميركية استجلاباً لـ”العدو” وتدبير حرب تطيح بالمسار الذي أراده العراقيون لمستقبلهم.

وقوع العراق ما بين “داعش” (وقبله “القاعدة”) و”الحشد الشعبي” (وقبله ميليشيات منظمة بدر وجيش المهدي وما شاكل) هو تتمة لوقوعه عام 2003 بين الاستراتيجية الإيرانية والاستراتيجية الخليجية: إفشال المشروع الأميركي في تحويل العراق إلى نموذج “بناء الأمم”. حينها، انهمكت كل دول المنطقة في منع قيام العراق مجدداً. سوريا الأسد تسلح العشائر السنية وتؤمن ممراً من حلب إلى الموصل لـ”الجهاديين” الذين يقتلون الشيعة، وإيران (حليفة الأسد) تمول وتسلح الميليشيات الشيعية التي تقتل السنّة. فيما بعض دول الخليج تؤمن المال والسلاح والممر الصحراوي إلى داخل العراق لجحافل “الجهاديين”، إلى الأنبار وغيرها.

تلاقى الأعداء هؤلاء على هدف واحد، هو ليس منع الأميركيين من خطتهم وحسب، بل منع عودة العراق القوي، “المخيف” لدول الخليج والعدو القديم لإيران والخصم المرعب لسوريا الأسد.

يكفي النظر إلى حال الضعف والفقر والتشرذم والخراب والفساد والتمزق الطائفي

الذي يعتري العراق، الذي يمتلك مقومات وطاقات كافية لتضعه بمصاف الدول المقتدرة والثرية والمزدهرة، لنفهم أن هذه المفارقة بين الواقع والممكن تدل على فظاعة ما ارتكبته الأنظمة بالشعب العراقي ودولته.

قامت استراتيجية الحرس الثوري، وفق تعبير قاسم سليماني نفسه، على الدرس الأليم من الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات: إنهاء التهديد العراقي إلى الأبد والحرص على بقائه ضعيفاً.

الاستراتيجية الخليجية مشابهة لأسباب مختلفة: غزو الكويت مثال واضح. ومنها أيضاً خطر قيام نموذج سياسي ثقافي اجتماعي في العراق، قد يسبب عدوى تصيب دول الخليج، خصوصاً السعودية. عدا عن التنافس التاريخي في الإمساك بالقرار العربي: مصر، السعودية، العراق (وسوريا والجزائر إلى حد ما).

اليوم، وانقضاضاً على انتفاضة العراقيين وجرّ العراق إلى واقع مغاير، وإعادته مسرحاً وساحة لحروب الآخرين على أرضه، يحدث الاشتباك المفتعل عمداً وإصراراً بين الولايات المتحدة وإيران.

إنه السيناريو القذر نفسه الذي نفذه الحرس الثوري وبشار الأسد وحزب الله في صيف العام 2006، حين استدعوا إسرائيل عمداً إلى الحرب، انقلاباً على انتفاضة اللبنانيين طلباً للاستقلال ولبناء الدولة والخروج من الوصاية السورية والتدخل الإيراني وإنهاء الحال الميليشياوية. هكذا، تم تدمير لبنان وإدخاله في نفق مظلم نحو الانهيار، المستمر حتى يومنا هذا. ليكون راهناً بلداً مخطوفاً منذوراً لمخططات إيران وحرسها وحزبها المسلح.

وإذ تجددت انتفاضة اللبنانيين منذ تشرين الأول الماضي، كان الجواب عليها جاهزاً وفعّالاً: انظروا ماذا نفعل بنظرائكم العراقيين، التفتوا إلى ماضي الحرب الأهلية التي نستطيع تجديدها، انتبهوا إلى الحدود الجنوبية حيث صواريخنا على أهبة تفجير حرب مع إسرائيل.. بل تذكروا ما اقترفناه في سوريا.

إنها “السياسة” ذاتها، التي نفذها بوحشية منقطعة النظير نظام بشار الأسد. بل وكثف من ضراوتها إلى حد جهنمي. فمقابل خروج السوريين بالطموحات والتطلعات ذاتها التي عبرت عنها كل شعوب المنطقة والعالم العربي، استجلب ليس حرباً واحدة بل سلسلة من الحروب وسلسلة من الاحتلالات. وبدل الميليشيا الواحدة أنشأ واستدعى ما لايعد منها، وجيوشاً ومرتزقة وجماعات إرهاب. وبالطبع، تحت إشراف الحرس الثوري الإيراني، المحترف في تدمير المشرق العربي، كما لم يحلم به أي مشروع استعماري سابق.

السيئ والشرير في هذا المشهد، هو الأميركي نفسه، الذي قتل قاسم سليماني لا لأن الأخير شريك أصيل في المذبحة العراقية والسورية التي أودت بحياة مئات الألوف من الأبرياء، بل لأنه مسؤول عن مقتل أميركي واحد وعن حرق مبنى بالسفارة الأميركية في بغداد.

لا تعاقب أميركا إيرانَ على شرورها تجاهنا، بل هو القصاص “المدروس” بسبب المسّ

بالمصالح الأميركية وحسب. ويمكن القول إن الهدف الأميركي المعلن هو تحقيق “الصفقة” المناسبة مع النظام الإيراني، على قاعدة “التعامل مع القوي”. وبالتأكيد، على حساب الضعفاء العرب، على حساب هذه الكيانات الممزقة والواهنة والمنهارة.

كل ما يحدث، إنما هو فوق جثثنا وفوق خرابنا. عراك بين إمبريالية عالمية نحت جانباً في هذا الجزء من العالم كل اعتبار أخلاقي وقيمي، بمواجهة مشروع إمبراطوري إقليمي تسعى إليه دولة قومية إيرانية متسلحة بطاقة دينية كفيلة بالتعبئة والحشد والاستتباع.

كل ما يحدث هو وأد أحلام مواطني سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، بأن يحظوا بدولة وطنية ترعاهم وتنبثق من إرادتهم وهويتهم وطموحاتهم، وأن يعيشوا حياة “طبيعية” مثل سائر البشر.

هذه الرغبة الأخيرة، أن نكون بشراً وحسب هو الذي استثناه الغرب عنا، واحتقرته منظومة “الممانعة”. لقد اتفقا سوياً أن نبقى هكذا: ضحايا.

تلفزيون سوريا

————————-

سليماني الوجه الآخر للبغدادي/ فارس الذهبي

في فجر يوم الجمعة، وفي اليوم الثاني من العام الجديد، قتل الجنرال قاسم سليماني وهو عائد من ميادين جهاده في لبنان، فبعد أن وصل دمشق صعد في شركة أجنحة الشام التي هي الشركة السورية الوحيدة العاملة بين دمشق وبغداد، فحط في الأخيرة واستقبله نائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس برفقة عدد من قادة الميليشيات في العراق و سوريا ولبنان، وما إن خرج الموكب من مطار بغداد حتى اصطادتهم طائرة بلا طيار موجهة من قيادة العلميات المشتركة الأميركية في المنطقة الوسطى، فقتلا على الفور برفقة عدد من قادة الفصائل الميليشاوية العاملة في العراق وسوريا ولبنان.

رغم تصريحات إدارة الرئيس ترمب بإعلانها إنجاز العملية بنجاح، إلا أن هنالك نذراً هائلة بالتصعيد تلوح في منطقة الشرق الأوسط، فإيران ونظامها السياسي اعتبرا منذ منتصف العام المنصرم أن أميركا ترمب عالقة في مكان ما في المنتصف بين القوى المتصارعة في الشرق الأوسط، تخشى فيه من أن تتورط في أي نزاع مع الميليشيات من الممكن أن يؤدي إلى سقوط ضحايا أميركية أو خسارة لنفوذ ما أو مصالح ما متعلقة باستقرار النفط العالمي أو التجارة الأميركية في المنطقة، فعاثت قوات الخامنئي فساداً وعربدة مع كل خطوة من تصعيد العقوبات العسكرية الأميركية على إيران، فاحتجزت ناقلات نفط من عدد من الدول، وفجرت ناقلات عربية في ميناء الفجيرة، وأمرت الحوثيين بقصف شركة أرامكو الأسطورية في البقيق، ولم تتحرك الولايات المتحدة

بأي رد كان على كل ما حصل، حتى إن إيران سليماني قامت بتفجير عملية المفاوضات بين حركة طالبان وإدارة ترمب في الدوحة، عن طريق ميليشياتها في أفغانستان التي نفذت عملية في سبتمبر\ أيلول الماضي ضد القوات الأميركية فاضطرت الولايات المتحدة إلى ايقاف المفاوضات تحت الضغط الشعبي.

كل هذه العربدة الإيرانية كان يقودها، قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني الذي كان يشرف بشكل مباشر على العمليات (القذرة) التي لم يكن الحرس الثوري الإيراني يتورط بها لأنه كجهة مسؤولة ورسمية جزء من النظام الايراني وبالتالي سيترتب على تدخله توريط للنظام بشكل أو بآخر..

سعى قاسم سليماني بكل الوسائل لأن يوسع النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط عبر تدخلات سياسية مرات، وعسكرية مرات أخرى، واستخباراتية أمنية مرات أخرى، فمن المهام التي تتحدث وسائل الإعلام الغربية أنه كان متورطاً بها، اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، ودعمه لانتفاضة الأكراد ضد صدام حسين، و تورطه الدموي جداً في الحرب السورية ومسؤوليته المباشرة عن العشرات وربما المئات من المجازر في سوريا التي تمت بحق المدنيين من القصير إلى الزبداني و مضايا وصولاً إلى معركة حلب الكبرى والبوكمال والمنطقة الشرقية بشكل عام، و يذكر بأن القائد الوحيد مما يسمى حلف المقاومة الذي دخل حلب وشارك في احتفالات الميليشيات إبان سقوط حلب 2017 هو قاسم سليماني، حيث انتشرت صور عديدة له ويتجول في شوارع حلب المهدمة وأمام قلعتها التاريخية، في صور اعتبرها السوريون من طرفي النزاع مهينة جداً وتشير بشدة إلى أنه قائد قوة احتلال غريبة عن الأراضي السورية.

أما بعيد اندلاع المظاهرات في لبنان والعراق، فقد كثف الجنرال سليماني زياراته إلى البلدين، وأشرف بشكل مباشر على قمع المظاهرات في العراق وأمر بشكل واضح كافة عناصر ميليشيات الحشد الشعبي التابعة بشكل مباشر له إلى قتل وقمع المظاهرات بأي شكل، وهو الأمر الذي تكرر في شوارع طهران أيضاً وبإشراف مباشر منه.

كان قاسم سليماني أحد أعمدة الارهاب المزلزل للمنطقة منذ ما لا يقل عن ربع قرن، وكان لوجوده وشخصيته العدوانية الدموية أكبر الأثر على التطورات الدموية التي جرت في بلدانه، حيث بات البعض من الدبلوماسيين والسياسيين العرب والغربيين يصفونه بأنه الحاكم العسكري للبلاد العربية المفوض بشكل مباشر من الخامنئي لتسيير أمور لبنان والعراق وسوريا واليمن، فكان يتنقل بين هذه الدول دون أن يخطر حكوماتها و يتجول من الموصل حتى جنوب لبنان والجولان، ويجتمع مع قادة مؤثرين في تلك الدول بصفة دبلوماسية وسياسية وهو ما يتنافى مع صفته العسكرية الميدانية.

مع تطور الأوضاع بين إيران و الولايات المتحدة منذ سنة ونصف، برزت أصوات تنادي بتسليمه الرئاسة في إيران ليكون “قائداً حاسماً ومواجهاً صلباً”  للطغيان الأميركي على حد قولهم، و قد اجتمع المرشد الأعلى للثورة الاسلامية في إيران معه مئات المرات واستشاره في قضايا تتجاوز صلاحياته، وهو الأمر الذي اعتبرته الدول الأوروبية تصعيداً للخلاف بين الطرفين، فحكومة إيراني بقيادة المصنف ارهابياً ستكون بمنزلة حكومة إعلان حرب، وهو الأمر الذي يجسد الصراع الداخلي بين الأطراف السياسية في ايران نفسها، فالحرس الثوري حاول عدة مرات الانقضاض على السلطة وإزاحة الإصلاحيين من واجهة الحكم، لأنه يعتبر أنهم يجاملون الغرب ويتفاوضون معه أكثر مما ينبغي، وكمثال على الخلاف بين تلك الأجنحة هي استقالة وزير الخارجية جواد ظريف بعد أن استبعده قاسم سليماني من اللقاء الرسمي المفترض بين المرشد الاسلامي خامنئي وبين رئيس النظام السوري بشار الأسد في العام الفائت، وحضره سليماني فقط، مما اعتبره زعيم الدبلوماسية الإيرانية خرقاً لأصول وتراتبية الاستقبالات الرسمية فقدم استقالته على الفور كاحتجاج على تدخل الحرس الثوري في الحياة السياسية.

سليماني هذا، حصل على كل تلك القوة والنفوذ الغريب في إيران والمنطقة لأنه مدعوم بشكل مباشر و قوي من المرشد نفسه، حتى إن التقارير الواردة من إيران طوال العقد الماضي تتحدث عن علاقة أخوية بين الطرفين، وإعجاب شخصي من المرشد بالرجل الذي استطاع تطويع خمسة بلدان في المنطقة لمصلحة إيران، وكافئه على ذلك بالترقيات والمناصب إضافة إلى منحه وسام ذو الفقار، وهو أعلى وسام

إيراني من الممكن أن يمنح في تاريخ البلاد، وهو لم يعط في فترة تمتد لثمانين عاماً لأكثر من عشرة أشخاص، مثل الجنرال فضل الله زاهدي الذي أطاح بحكومة مصدق واستلم رئاسة الوزراء فيما بعد كخليفة له في عام 1953، ويعد قاسم سليماني الرجل العسكري الأول منذ انتصار ثورة الخميني 1979، الذي يحصل على هذا الوسام العسكري الرفيع الذي بدء العمل به في العام 1921، وهو ما يعكس حجم الرجل وتأثيره في النظام الإيراني الحالي.

لم يكن قاسم سليماني سوى إرهابي كبير ولكن بلباس عسكري نظامي، فلوائح قتلاه وجرائمه تمتد من أفغانستان إلى لبنان والعراق وسوريا واليمن، وحتى إيران نفسها، رغم أن جرائمه هو وأبو مهدي المهندس معروفة عند الأميركيين منذ مطلع الثمانينات حينما فجرا السفارة الأميركية في بيروت وقتلا المئات من جنود المارينز، إلا أن سنة الولايات المتحدة الدائمة تكمن في استخدام أعدائها حتى الحد الأقصى ومن ثم التخلص منهم بعد أن ينجزوا المطلوب منهم إنجازه، مثله مثل الارهابي أبو بكر البغدادي، الذي قتل وسلب ونهب من بلاد المشرق مدناً وقرى تكاد تضاهي ما اقترفه قاسم سليماني، فما لم يدمره سليماني دمره البغدادي، فكانا رغم صراعهما الظاهر واقتتالهما بين العراق وسوريا، كانا وجهين لعملة واحدة من الارهاب والقتل والدموية، استخدمتهما أميركا حينما أرادت، وأميركا قتلتهما حينما أرادت.

تلفزيون سوريا،

————————–

الفرح بمقدار/ سلام الكواكبي

تم قتل المدعو قاسم سليماني من قبل المدعو دونالد ترامب، أو بأوامر مباشرة من الأخير، وهو في فترة استراحة بين شوطين من لعبته المفضلة الغولف، التي كلفت مبارياته في ملاعبها الخزينة الأميركية مبلغًا يتجاوز 115 مليون دولار. يشتمل هذا المبلغ المتواضع على نفقات السفر والإقامة والمباريات في منتجعات مخصصة لرياضة النخب هذه، وبالمصادفة، كان أغلبها ملكًا لشركات السيد الرئيس.

وعلى هامش الإنفاق الحكومي على ملذّات السيد الرئيس، وقد نشرته كل صحف القارة الأميركية، هناك خلاف حاد بين عاصمة اليانكي وعاصمة الملالي. خلاف أداره بسياسة التفافية البيت الأبيض توازيًا مع تراخي باراك أوباما الذي كان يجد في الإيرانيين “أعداء عقلانيين”، على خلاف الأصدقاء العرب من الخليج تحديدًا الذين وصَفهم لأقرب مستشاريه بـ “الأصدقاء غير العقلانيين”. وإن كان رأي أوباما قابلًا لنقاش فلسفي ليس هنا مكانه، فإنه ساهم في إزهاق مصالح الولايات المتحدة أولًا، والغرب ثانيًا، وأصدقائه العرب من الحكام -حتى من الشعوب التي لم يكنّ لها أي مودة- أمام محراب الإعجاب المتهافت بطهران وعجرفتها الإقليمية. ولم يكن مستغربًا أن أحد مستشاريه حينذاك كان يفخر بإعجابه الشديد بحكمة ونجاعة السياسة الإيرانية، حتى إنه وضع صورة لزعيم ديني وعسكري لبناني يُنفّذ سياسة طهران في صدر مكتبه في البيت الأبيض.

اليوم، قتل الأميركيون قاسم سليماني، وهو -لمن نسى أو يحاول أن ينسى- الرجل الثاني بعد المرشد الأعلى، والمخطط الأمني والعسكري الفعلي لكل حروب المنطقة، من صنعاء إلى حلب مرورًا بإدارته للعصابات الطائفية “الجهادية” في العراق، والتي تتبجّح علنًا باستمرار الجهاد حتى ظهور المهدي المنتظر، دون أن يُلصق بها نعت الجهاد لأنه حصرًا، لدى وسائل الإعلام الغربية، يُطلق على طائفة دون سواها. كما أنه مسؤول آلة القمع الداخلية، وعلى هامش هذا وذاك، فهو على رأس إمبراطورية فساد بناها الحرس الثوري، مستفيدًا من العقوبات المفروضة على إيران منذ سنوات، عبر النشاط الحصري في الأسواق السوداء التي مأسسها.

أجمع عدد كبير من السوريين على تقاسم الفرح بمناسبة هذا العقاب الدامي لمن أسال دماء الآلاف منهم، وكذا بعض العراقيين وبعض اللبنانيين وبعض اليمنيين. ولكن إن توقفنا قليلًا عند “الفرحة” السورية، فإننا نتلمّس أن منبعها عاطفة إنسانية ارتبطت بالمعاناة وبالدمار وبالدماء وبالتهجير، وهي مشروعة، بالرغم من كل الانتقادات الطهرانية التي يحلو للبعض التميّز بإطلاق أحكامها. بالمقابل، لا يمكن لهذه الفرحة إن جازت في المطلق أن تُعمي الكثيرين، خصوصًا ممن يدّعي وصلًا بالسياسة وبالتحليل السياسي، عن محدودية أثر هذا العمل بخصوص معاناته الذاتية وحتى الإقليمية. فمن جهة، على الرغم من هول الضربة التي تلقتها السياسة الإيرانية بمقتل أحد مهندسيها الأشاوس، فإنها ستستفيد إلى أقصى حد في حشد الدعم، أو على الأقل التفهم، من قبل حجم لا بأس به من الرأي العام العالمي الذي لديه كره مبدئي لكل ما تقوم به الولايات المتحدة منذ حرب فيتنام. كما أن محدودية العملية، ككل عمليات ترامب، تكمن في عدم تصوّر ما يلي. وعلى الرغم من أن محللين عربًا سردوا سيناريوهات مفصلة عن خبايا القرارات الأميركية، وكأنهم كانوا في بيت الخلاء المجاور للمكتب البيضوي، فإن التصور لم يجهز لليوم الذي يلي الضربة، عدا بالطبع الحشد الإعلامي والعسكري.

من جهة أخرى، علمتنا تجارب مواجهات سابقة أن تخطي خطوط الصراع اللفظي والانتقال إلى المواجهة المباشرة يمكن أن يحمل معه بوادر حلول تفاوضية، والتجربة مع كوريا الشمالية قريبة جدا. ولا شيء يمنع، مباشرة أو من خلال الوساطات، أن ينطلق حوار فعلي بين واشنطن وطهران سيكون حتمًا على حساب العرب من أصدقاء واشنطن، والذين يتم استنفاد ثرواتهم من قبل العم سام بحجة حمايتهم من التغول الفارسي.

ما يهمنا في كل هذه التقلبات، بما أن غدًا لناظره لقريب، هو أن تكون فرحتنا كسوريين موزونة بحدود الحدث، ولا تمتد إلى إعجاب مقيت بترامب، وكأنه المسيح المخلص، والبدء بإجراء المقارنات الهزيلة بأوباما الذي “خذلنا”. فالرهان السطحي والعفوي على ترامب والاحتفاء به، ليس فقط من قبل عامة الناس، وهذا طبيعي، بل من قيادات الرأي العام الذين تعتبر كتاباتهم مؤثرة، غير ذي فائدة عمليًا، كما أنه ينقلنا من رهان على حصان خاسر (أحصنة؟) إلى حصان يبحث عن ربح لن يغنينا في شيء.

سيترتب على ما سبق من تحليل سريع إطلاق نعوت وتوصيفات، كاد الصمت الذي ملت إليه بدايةً أن يعفيني منها، وسيتم حتمًا الاجتزاء والاجتهاد في التفسير والاستنتاج، وهذه رياضة محبوبة. بالمقابل، أجد أن معلمنا أنطونيو غرامشي قد أمرنا، كمثقفين، أو كأشباه مثقفين حتى لا أحيج البعض إلى وصمي بها، أن نكون أصحاب مواقف واضحة، ولو على حساب الاحتفاء بنا. مسؤولية المثقف العضوي الملتزم بقضية إنسانية وأخلاقية أن يُنبّه إلى ما يظنه انحرافًا أو خطأً. ومع التكرار، بأن عدو عدوي ليس من المحتم أن يكون صديقي، يا أولي الألباب.

جيرون

————————

قاتِلٌ يَخلِفُ قاتلًا/ باسل العودات

مات “سليماني”، وخسرت إيران أحد أعتى متطرفيها، وأحد أقسى متعصبيها، وأقوى قتلتها.

ابتهج كثيرون لموته، ليس في سورية وحدها، وهي التي عانت خططه الشريرة طوال ثماني سنوات، بل في مختلف أنحاء العالم، واعتقد كثيرون أن إيران تلقّت ضربة موجعة ستؤثر فيها في قادم الأيام.

بعد بضع ساعات فقط، أعلن المرشد الإيراني علي خامنئي تعيين العميد إسماعيل قآني خلفًا لصاحب الذكر السيء، فالمشروع الاحتلالي لا يجب أن يتوقف من أجل شخص، وآلة القتل لا يجب أن ترتاح من أجل موت شخص، وشراهة “فيلق القدس” للدم تنتظر من يُطلقها من جديد.

مات قاتلٌ، وخَلَفَهُ آخر، وربما كان القاتل الجديد أكثر شراسة من السابق وأعتى، فهو رجل خامنئي الأكثر تطرفًا، ونائب قائد “فيلق القدس”، وأحد أبرز قادة الحرس الثوري خلال الحرب العراقية – الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، والمسؤول المالي في “فيلق القدس” المسؤول عن تمويل الأذرع العسكرية الطائفية الخارجية لإيران، وهو المصدر الرئيس لتغذية الميليشيات الإيرانية في المنطقة بالسلاح: “حزب الله” في لبنان، و”حماس” في فلسطين، و”الحوثي” في اليمن، و”الحشد الشعبي” في العراق، و”فاطميون” في سورية.

ليس هذا فحسب، فإن قآني الشديد الصلة بخامنئي، كان ظل سليماني الأكثر تشددًا، والمستشار الإيراني العسكري في سورية، كما كان حاضرًا بقوة خلف الكواليس في كل العمليات الإيرانية “غير النظيفة” في الدول العربية، وهو مؤيّد شرس لفرض سيطرة إيران على المنطقة، وتدخلها في الشؤون الداخلية لدول الجوار، ولو بالقوة، وهو من قال إن الحرب في سورية “وجودية ومصيرية”، بالنسبة إلى إيران.

قآني هو الرجل الإيراني الأصلب، وهو أكثر ميلًا نحو التشدد، مقارنة مع سليماني، وله خبرة كبيرة في التعامل مع جبهات القتال المختلفة، ويُعرف عنه أنه من المنظرين لمفهوم “التشكيلات الشعبية”، أو بتعبير أدق الميليشيات الطائفية، التي أدمت المنطقة العربية بجرائمها ومجازرها، وكان شريكًا ومشرفًا على الجرائم الإيرانية التي ارتبطت بهذه الميليشيات طوال السنوات الثمانية الماضية، وهو أحد القادة الإيرانيين المصنفين إرهابين لدى الولايات المتحدة، فقد أدرجته وزارة الخزانة الأميركية على قوائم الإرهاب قبل سنوات، وهناك كثير مما يمكن أن يُقال عن القادم الجديد.

إذًا، فشعوب المنطقة في الشرق ودّعت قاتلًا، وستستقبل قاتلًا جديدًا. ودّعت مصيبة، وستأتي مصيبة جديدة إلى أحضانها، فإيران ولّادة لمثل هؤلاء، ولن تفرغ جعبتها من المتشددين الطائفين الإرهابيين القساة، والحل ليس بقتل واحد، بل بتجفيف منابع الإرهاب فيها، وإرغامها على أن تُغيّر نهجها الاحتلالي التوسعي الطائفي المتعصب، وإلا فإنها ستبقى مفرخة للإرهاب العابر للحدود لعقود قادمة.

——————–

أسئلة ما بعد سليماني.. الحسابات الإستراتيجية أمام احتمالات التصعيد

شيّع مئات العراقيين صباح اليوم السبت قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني إلى جانب نائب رئيس ميليشيا الحشد العراقي، وباقي القيادات الذين قتلوا بالقصف الجوي الأمريكي الذي استهدف موكبهم في مطار بغداد الدولي، في ظل توتر وصفته الصحف الغربية بأنه وصل لأعلى مستوياته منذ مهاجمة الطلاب الإيرانيين للسفارة الأمريكية في طهران عام 1979.

أثار استهداف سليماني الذي يعتبر “الرجل الثاني في إيران” الكثير من الجدل في أوساط الساسة الأمريكيين، الذين انقسموا بين مؤيد أو رافض للعملية، التي نفذت بتوجيه من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، دون أن تعرض على أعضاء الكونغرس الأمريكي كما درجت العادة في مثل هذه الضربات، وبالأخص أنها استهدفت رجلًا كان من بين الأسماء المطروحة لخلافة الزعيم الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي.

وبعد تنفيذ الضربة الجوية بساعات كشف مسؤولون أمريكيون أن الرئيس ترامب اتخذ قرار توجيه الضربة تحت إلحاح “جزئي” من فريقه الاستشاري الذي يريد اتخاذ إجراءات متشددة اتجاه إيران، ما وضع وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) أمام تنفيذ أوامر الرئيس، ويضيف المسؤولون في هذا السياق إلى أن الهدف من رحلة سليماني الأخيرة للعراق كان التخطيط لشن هجمات ضد دبلوماسيين وعسكريين أمريكيين، وكذلك منشآت عسكرية تضم أمريكيين في لبنان وسوريا والعراق.

وكانت وكالة رويترز قد نشرت تقريرًا أشارت إلى أن سليماني أجرى اجتماعًا مع قادة الميليشيات الشيعية في منتصف تشرين الأول/أكتوبر الماضي، في فيلا على ضفاف نهر الفرات تطل على مجمع السفارة الأمريكية في بغداد، وأضافت الوكالة نقلًا عن مصدرين أمنيين أن سليماني طلب في الاجتماع تصعيد الهجمات ضد أهداف أمريكية في العراق عبر أسحلة جديدة متطورة أرسلتها إليهم طهران. 

وتنقل الوكالة عن مصدرين أمنيين، وسياسيون شيعة عراقيون، ومسؤولون في الحكومة العراقية أن سليماني كان يخطط لمهاجمة القوات الأمريكية بهدف إثارة رد عسكري يدفع بتوجيه غضب العراقيين ضد واشنطن.

هل تندلع حرب شاملة بين طهران وواشنطن في المنطقة؟

تشير معظم التحليلات إلى أن طهران لن تترك عملية استهداف سليماني دون أن ترد عليها، كما درجت العادة في الحوادث السابقة التي حصلت خلال الأشهر الماضية، وعلى الجانب الأخر تدرك واشنطن أن قواتها سوف تتعرض لهجوم انتقامي يثأر لمقتل سليماني، ويؤكد هذه المعطيات إعلان واشنطن إرسالها 3500 جندي إضافي من الفرقة 82 المحمولة جوًا إلى منطقة الشرق الأوسط كإجراء احترازي.

ويرى محللون في هذا الشأن أنه في حال دعا الزعيم الأعلى لضبط النفس فإنه سيظهر في موقف ضعيف إن كان داخل إيران أو خارجها بين الجماعات المسلحة التابعة لها، لذلك فإن طهران ستختار الرد على مقتل سليماني بانتقام على نطاق أصغر، إما عبر جماعاتها المسلحة بمهاجمة ناقلات النفط في منطقة الخليج، لكن هذا الخيار قد يؤدي إلى مواجهة عسكرية يريد الطرفان تجنبها، أو عبر تكتيكات غير متوقعة من جماعاتها المسلحة ما قد يعرض القوات الأمريكية المتمركزة في الشرق الأوسط للخطر.

وترى تقارير أن لدى طهران وواشنطن مصالح مشتركة وأعداء مشتركين بناءً على عملهما سابقًا في العراق وأفغانستان، مشيرة إلى أنه في حال نشوب حرب بين الطرفين فإن كلاهما سيدفع ثمنًا باهظًا، وأنه بوسع الدبلوماسية حل الكثير من المشاكل كما أنها خيار”.  وهو ما يبدو أنه خيار بدأ يحتل مساحة على الأرض، مع محاولات عدة للوساطة الإقليمية والدولية.

فيما يقول الباحث البارز في معهد كارنيغي كريم سجادبور لوكالة رويترز، إنه “في الوقت الذي يتوقع فيه كثيرون حربًا عالمية ثالثة، فإن العقود الأربعة الأخيرة من تاريخ إيران تبرز أن الشيء الأهم بالنسبة للجمهورية الإسلامية هو بقاؤها”، مشيرًا إلى أن طهران لا تتحمل في الوقت الحالي “حربًا شاملة مع الولايات المتحدة في الوقت الذي ترزح فيه تحت وطأة عقوبات اقتصادية مرهقة واضطرابات داخلية، لا سيما من دون سليماني”.

ونقلت وكالة مهر الإيرانية على لسان نائب قائد الحرس الثوري الإيراني علي فدوي أن واشنطن بعثت برسالة لطهران تطلب منها “ألا يتجاوز حجم الرد الايراني سقف الانتقام لسليماني فقط”، وأضاف فدوي معلقًا على الرسالة: “لا يمكن لواشنطن أن تحدد شكل وطبيعة وسقف الرد الإيراني بعد اغتيالها سليماني”، مشيرًا إلى أن “الخبراء يعرفون أن جريمة أمريكا تفتقر لأي قيمة أمنية فتحركات سليماني لم تكن سرًا”.

هل أراد ترامب تحقيق مكسب سياسي باستهدافه سليماني؟

واجهت الإدارة الأمريكية موجًة من الانتقادات من داخل الكونغرس الأمريكي بسبب عدم إطلاعها النواب الديمقراطيين على تنفيذ الضربة الجوية كما كانت تجري الأمور عادًة، متهمين ترامب بأنه عزز احتمال تصاعد العنف في منطقة محفوفة بالمخاطر بالأصل، إلا أن ترامب رد على انتقادات إعطائه أوامر توجيه الضربة بالقول إنه أراد إيقاف الحرب لا إشعالها.

لكن موقع بوليتيكو الأمريكي أشار إلى أن الإدارة الأمريكية أبلغت أقرب حلفائها قبل تنفيذ الضربة الجوية، بمن فيهم كبار الديمقراطيين في الكونغرس، الذي ينتقدون عدم إبلاغهم مسبقًا، ورغم كل هذا التضارب في قرار تنفيذ الضربة فإنه لا يزال حتى الآن من غير المعروف كيف استطاع ترامب مع مساعديه التغلب على المعارضين لتنفيذ مثل هذا الهجوم بغية عدم تورط واشنطن بحرب جديدة في الشرق الأوسط، حسب وصفه.

حتى أن الديمقراطيين ضغطوا على المرشحة الديمقراطية وعضو مجلس الشيوخ إليزابيث وارن لتعديل وصفها لسليماني في تغريدتها من “قاتل”، قبل أن تعود وتصدر بيانًا ثانيًا يصف مقتل سليماني بأنه “اغتيال مسؤول عسكري أجنبي كبير”، وواجهت وارن انتقادات من الجمهوريين بسبب تعديلها وصف سليماني في البيان الثاني، ما اتضح في تقرير لمجلة واشنطن إكزامينر الأمريكية.

وهاجمت المجلة وارن بالقول إن اليسار الأمريكي – في إشارة للحزب الديمقراطي – لم يستطع حتى “الاعتراف بأن الرجل المسؤول عن تنسيق الهجمات الاستراتيجية الإيرانية ومقتل المئات من الأمريكيين كان سيئًا للغاية”، وأضافت المجلة بأن وارن التي أظهرت استطلاعات الرأي تراجعًا في جمعها التبرعات لحملتها الانتخابية، وصفت في بيانها الثاني مقتل سليماني بأنه “اغتيال”.

ويقول موقع مجلة بوليتيكو الأمريكية إن اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري استغلت الضربة الجوية لتهاجم عبرها المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية جو بايدن، والذي من المتوقع أن يكون المرشح الديمقراطي المنافس لترامب في الانتخابات النهائية، فقد قال الموقع الأمريكي إن الجمهوريين أشاروا إلى أنه لو كان بايدن رئيسًا كان “سيبقى أسامة بن لادن على قيد الحياة، وسيبقى أبو بكر البغدادي على قيد الحياة، وسيبقى سليماني على قيد الحياة، وستتناول الصين الغداء، وستكون إيران في طريقها إلى السلاح النووي”.

أما فيما يخص موقف الديمقراطيين فأشار الموقع إلى أن اهتمامهم الأكبر متمثل بتذكير ترامب فيما يخص حديثه عن شروط الحملة الانتخابية، مضيفة أنه خلال ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما تكهن ترامب مرارًا بأن أوباما سيقوم باستغلال طهران لتحقيق مكاسب سياسية، وتابع بوليتيكو بأن ترامب حذر في العديد من تغريداته السابقة بأنه سيهاجم طهران “في المستقبل غير البعيد لأنها ستساعده على الفوز في الانتخابات”.

وكانت منطقة التاجي شمال بغداد قد تعرضت لغارة جوية أمريكية استهدفت موكبًا مؤلفًا من سيارتين فجر اليوم السبت، وفيما تخدثت تقارير صحفية عن أن قياديًا بارزًا من الحشد قتل مع خمسة من مرافقيه في الغارة الجوية، نفى الحشد الشعبي في بيان له صحة ما ورد من تقارير إعلامية.

الترا صوت

———————–

ما بعد مقتل سليماني/ عمر كوش

وصلت الأزمة الأميركية الإيرانية إلى ذروة تصعيدٍ غير مسبوقة مع العملية العسكرية النوعية التي قامت بها طائرة أميركية بدون طيار قرب مطار بغداد، وقتل فيها قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، ونائب قائد مليشيات الحشد الشعبي في العراق، أبو مهدي المهندس، الذي يوصف بأنه القائد الفعلي لهذه المليشيات، وأوفى رجل لنظام الملالي الإيراني في العراق، كما قتل في العملية قادة آخرون في مليشيات الحشد الطائفي العراقي.

هذه العملية العسكرية هي أخطر وأقوى عملية أميركية ضد النظام الإيراني وأذرعه المليشياوية، كونها استهدفت ما هو أبعد من سليماني، لتطاول مشروع النفوذ الإيراني في المنطقة، بوصفه المسؤول الأول عن مدّ أذرع طهران المليشياوية الطويلة في المنطقة، ورجل المهمات الخارجية للنظام الإيراني، والمقرّب من كبير الملالي ووليهم الفقيه علي خامنئي وصاحب سرّه. وقد تغنى به متشدّدو ملالي طهران كثيراً إلى درجة وصفه بـ”منسق العواصم الأربع”، ويقصدون بها بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.

ولم يخف الأميركان أن العملية جاءت بأمر من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حيث أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، أنها جاءت “بتوجيهاتٍ” منه، بوصفها عملاً حاسماً “لحماية الأفراد الأميركيين في الخارج”، وفور انتهاء عملية حرق بوابات السفارة في بغداد ومحاصرتها من مليشيات الحشد الشعبي، ولكن الحقيقة تشي بأنها جاءت ردّاً على الأقاويل التي صوّرت ترامب رئيساً أنعزالياً، ويريد سحب قواته من العراق والمنطقة. وما يؤكد سبق الإصرار الإميركي على تأكيد الوجود الأميركي واستعراض القوة أن العملية جاءت في أعقاب تحذيرٍ من وزير الدفاع الأميركي، مارك إسبر، لإيران، أعلن فيه أن الجيش الأميركي سيشنّ ضربات “وقائية” ضد مليشيات النظام الإيراني في كل من العراق وسورية، إذا وجدت إشاراتٍ تدل على أنها تخطط لمزيد من الهجمات على القواعد والعسكريين الأميركيين في المنطقة.

ويبدو أن محاولات النظام الإيراني التحرّش بالولايات المتحدة، عبر هجمات صاروخية، قامت بها مليشيات حزب الله العراقي، على قاعدةٍ تأوي عسكريين أميركيين في كركوك، وأفضت إلى مقتل متعاقد أميركي، قد أدّت إلى نتائج لم يتوقعها ساسة طهران، لأنهم لم يفهموا الرسالة من تنفيذ القوات الأميركية ضرباتٍ عسكرية على مواقع مليشياتهم في العراق وسورية، بل أوعزوا إلى المليشيات الطائفية في العراق بالتحرّك ومحاصرة السفارة الأميركية، في رد فعل على الهجمات الأميركية، معوّلين على عدم رد الإدارة الأميركية، وأن تمرّ العملية من دون أي ردّ من الولايات المتحدة، مثلما مرّت عملية إسقاط الطائرة الأميركية بدون طيار عند مضيق هرمز في يونيو/ حزيران الماضي.

ولعل أهم ما تضمنته الرسالة الأميركية من عملية قتل سليماني، وقبلها عملية قصف مواقع مليشيات حزب الله العراقي، أن قواعد اللعبة ما بين الولايات المتحدة والنظام الإيراني تغيرت. ووفقها تغيرت قواعد الاشتباك، بما يعني أن التحرّشات والاستفزازات التي سيقوم بها نظام الملالي الإيراني، سواء عبر أذرعه المليشياوية الطائفية أم بشكل مباشر، ستواجه برد أميركي فوري، لذلك فإن ساسة إيران سيحسبون ألف حساب لما بعد مقتل سليماني. أي في حال فكّروا في الرد على عملية قتله، خصوصا وأنهم يواجهون أوضاعاً صعبة، سواء في الداخل الإيراني أم في الخارج، حيث تهدّد ثورتا العراق ولبنان نظامي المحاصصة الطائفية في البلدين، اللذين ترعاهما وتصرف عليهما طهران، وبالتالي فإن تحولاً كبيراً تحمله الهجمات الأميركية في سورية والعراق، وبما يشكل منعطفاً خطيراً، خصوصاً إذا استتبعت ردّاً إيرانياً، سواء في العراق أم في لبنان بواسطة مليشيات حزب الله أم في قطاع غزة، بواسطة حركتي الجهاد الإسلامي وحماس.

غير أن تتبع تغريدات الرئيس ترامب وسائر المسؤولين الأميركيين وتصريحاتهم، وكذلك تصريحات المسؤولين الإيرانيين، يظهر أنهم لا يرغبون في نشوب حربٍ مفتوحة بين النظام الإيراني والولايات المتحدة، على الرغم من محاولات متشدّدين في نظام الملالي تصدير أزمة نظامهم الداخلية إلى الخارج، ولذلك أي ردّ عسكري إيرني محتمل سيكون محدوداً جداً وغير مؤثر، وقد يتخذ من أحد البلدان العربية ساحةً له. ومن غير المتوقع أن يمتد ليشمل إسرائيل، لأن ذلك سيوسع المواجهة، ويأخذها إلى آفاق أخرى غير متوقعة.

وإن كانت الحروب بين الدول تقاس بمدى كلفتها ومنفعتها لها، أي وفق العلاقة ما بين ثمنها وفائدتها، فإن تكلفة أي حرب مقبلة بين الولايات المتحدة والنظام الإيراني وثمنها سيكونان كبيرين جداً، وخصوصا بالنسبة للشعب الإيراني. وستكون الفائدة التي ستجنى منها ضئيلة أميركياً إن لم تكن محدودة وسريعة؛ لأنها ستفضي إلى سلسلة من الأزمات في المنطقة، لأن آثارها وارتداداتها وإرهاصاتها لن تنحصر بين الولايات المتحدة وإيران، بل ستفيض على العراق ولبنان اللذين يشهدان ثورة مستمرة ضد التركيبة السياسية الطائفية فيهما، والمحكومين بظروفٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ مأزومة ودقيقة.

وعلى الرغم من ارتفاع حدّة الأصوات المنادية بالانتقام في إيران، يعي أصحاب هذه الأصوات، بدءاً من المرشد علي خامنئي، يعون جيداً إنهم لم يردّوا على الضربات العسكرية الإسرائيلية المتكرّرة على مواقعهم العسكرية في سورية، ولذلك مرجّح أن لا يوسّع النظام الإيراني دائرة المناوشات المحدودة للحرب الجارية مع أميركا على أرض العراق. ولن يغامر حزب الله بإشعال معركةٍ مع إسرائيل انتقاماً لمقتل سليماني، كذلك لن يفعل قادة جركتي الجهاد الإسلامي وحماس في غزة، إلا إذا ارتكب نظام الملالي حماقة سيندم عليها كثيراً، ووقتها قد لا ينفعه الندم.

العربي الجديد

————————–

الولايات المتحدة تواجه أزمة جديدة في الشرق الأوسط قد تودي إلى حرب إقليمية/ رائد صالحة

واشنطن-“القدس العربي”:حذر وزير الدفاع الأمريكي، مارك إسبير، قبل ساعات من تنفيذ الغارة الجوية المميتة، التي أدت لمقتل قاسم سليماني وعدد من القياديين في “الحشد الشعبي” من أن الولايات المتحدة تشهد علامات على أن إيران أو قواتها قد تخطط لشن هجمات إضافية على المصالح الأمريكية، مضيفاً أن الولايات المتحدة مستعدة لاتخاذ إجراء وقائي ضد هذه الهجمات.

وبالفعل، أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أوامره بتنفيذ أول “إجراء وقائي” ولكن القرار كان مفاجئاً وكبيراً إلى حد الجزع من اندلاع حرب إقليمية جديدة في المنطقة، حيث أسفرت الغارة الأمريكية المباغتة قرب مطار بغداد عن مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني ونائب قوات”الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس.

وحذرت واشنطن من أنها ستتحرك إذا تلقت أي إشارات أو كلمة عن هجمات من أي نوع، وقالت إنها ستتخذ المزيد من الإجراءات الوقائية

الوجود الأمريكي في العراق

عملية بغداد وتعليقات إسبير جاءت بعد أن اختتمت بعثة الولايات المتحدة في العراق عام 2019 عملها بملاحظات تتحدث عن عنف واقتحامات وحريق وسخط، حيث قام مؤيدو الميليشيات التي تدعمها إيران باختراق أبواب السفارة الأمريكية في بغداد، وأشعلوا حرائق صغيرة في الممتلكات، وعلى الفور، سارع الدبلوماسيون الأمريكيون بالاختفاء عن الأنظار.

هذه التطورات وضعت علامة استفهام حول مستقبل الوجود الأمريكي في العراق، حيث ناقش المشرعون في الكونغرس وغيرهم في واشنطن أهمية الأزمة وكيفية استجابة الولايات المتحدة لها.

وقد ألقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اللوم على حادث يوم الثلاثاء بشكل صارخ على إيران، ما جعل من دراما السفارة أحدث فصل في التوترات بين أمريكا وإيران، والتي يخشى البعض أن تؤدي إلى الحرب. وقال ترامب في تغريدة “الآن تقوم إيران بتنظيم هجوم على السفارة الأمريكية في العراق، سوف يتحملون المسؤولية الكاملة، ونتوقع أن يستخدم العراق قواته لحماية السفارة”.

ولكن نقاد ترامب ألقوا اللوم عليه، وقالوا إن سياسة الشرق الأوسط الخاطئة هي التي أدت إلى مشهد السفارة، وعلى سبيل المثال، أكد السيناتور كريس مورفي أن ترامب جعل أمريكا عاجزة في الشرق الأوسط، مشيراً إلى أن لا أحد يخاف أمريكا، وأضاف ساخراً أن أمريكا تحولت إلى تجمع في “غرف آمنة” على أمل أن يذهب “الأشرار” وأوضح السيناتور مورفي أن الهجوم على السفارة في بغداد كان مروعاً ولكن يمكن التنبؤ به.

واندلعت موجة التوتر الأخيرة عندما ألقت إدارة ترامب باللوم على ميليشيات كتائب حزب الله المدعومة من إيران في هجوم أسفر عن مقتل مقاول أمريكي وإصابة أربعة من أفراد الخدمة الأمريكية، ورداً على ذلك، نفذت الولايات المتحدة غارات جوية ضد خمسة أهداف لكتائب حزب الله في العراق وسوريا، ما أسفر عن مقتل 25 من مقاتلي الجماعة على الأقل.

وقام الآلاف من المتظاهرين باقتحام مجمع السفارة في بغداد رداُ على الغارات، وردد بعضهم هتافات “الموت لأمريكا” وهم يرتدون زيا عسكرياً.

وبالنسبة لإدارة ترامب فقد كانت الهجمات الأخيرة على السفارة بمثابة تغيير لقواعد اللعبة في العراق بين الولايات المتحدة وإيران.

ودار نقاش ساخن في الكونغرس بين حلفاء وخصوم ترامب حول الغارة الأمريكية في بغداد حيث أيد الجمهوريون العملية المميتة، وقالوا إن سليماني كان عدواً للولايات المتحدة، في حين حذر العديد من الديمقراطيين من اندلاع حرب إقليمية جديدة في الشرق الأوسط، كما ثار سؤال حول قانونية العملية لأن ترامب أصدر أمره بدون أخذ أذن من الكونغرس.

وبينما كان النقاش يدور في واشنطن حول فعالية وقانونية قتل سليماني، ترك البنتاغون الباب مفتوحاً أمام الأعمال المستقبلية لردع الهجمات الإيرانية.

وقالت وزارة الدفاع الأمريكية إن هذه الضربة تهدف إلى ردع خطط الهجوم الإيراني في المستقبل، وأكدت أن “الولايات المتحدة ستواصل اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لحماية الشعب الأمريكي والمصالح الأمريكية في جميع أنحاء العالم”.

المزيد من التصعيد

سليماني، هو العقل المدبر العسكري الذي اعتبره وزير الخارجية مايك بومبيو بنفس القدر من الخطورة مثل زعيم تنظيم”الدولة الإسلامية” أبو بكر البغدادي، وإذا كانت إدارة ترامب تعلم خطورة ومكانة سليماني في طهران، فهي بالتاكيد تعلم، وفقا لتوقعات الخبراء، أن طهران سترد بالتأكيد لأن عدم الرد سيعني أنها ضعيفة للغاية، وهذا يعني المزيد من التصعيد.

وقد حرصت واشنطن على بعث رسالة إلى طهران مع الغارة الجوية القاتلة، وهي أن العملية تهدف إلى وقف عمليات إيرانية مستقبلية في العراق في محاولة لتخفيف حدة رد الفعل المتوقع. ولكن مقتل سليماني والمهندس يعتبر نقطة تحول محتملة في الشرق الأوسط، ومن المتوقع أن تجلب انتقاماً شديداً من إيران والقوات التي تدعمها في المنطقة ضد الكيان الإسرائيلي المحتل والمصالح الأمريكية.

وناقش إسبير ووزير الخارجية بومبيو ورئيس الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي مع ترامب آثار الغارات الجوية الأمريكية في الشرق الأوسط، ووضع خيارات أخرى لردع “السلوك السيئ” في المنطقة، على حد تعبير البيت الأبيض.

وقد جعل ترامب مواجهة إيران حجر الزاوية في سياسته الخارجية، ولكنه سعى إلى موازنة خطابه اللاذع مع رغبته في تجنب المزيد من التشابك في الحروب الخارجية.

وقد تميزت السنة الماضية بالعديد من حالات الصراع القريب بين طهران وواشنطن، بما في ذلك في حزيران/يونيو بعد أن اتهمت الولايات المتحدة إيران باسقاط طائرة أمريكية بدون طيار، وفي أيلول/سبتمبر بعد هجوم على منشآت نفط سعودية.

وقد أثار اقتحام السفارة الأمريكية في العراق مقارنات تاريخية قد ساعدت على ما يبدو من الرد الأمريكي العنيف. حيث وصف جون بولتون، المستشار السابق لترامب للأمن القومي، حادث الأسبوع الماضي بأنه “مباشرة من قواعد اللعبة الإيرانية في عام 1979 عندما اقتحم الإيرانيون السفارة الأمريكية في طهران وأشعلوا أزمة الرهائن.

كما أدت الأحداث في العراق، أيضاً، إلى تلميحات لهجوم عام 2012 على المجمع الأمريكي في بنغازي في ليبيا، حيث قُتل السفير كريستوفر ستيفنز.

وتعهد السيناتور غراهام، الذي قال إنه التقى مع ترامب لمناقشة الوضع، بأنه “لن تكون هناك بنغازي أخرى”.

———————————

إيران تخطط للثأر من قتلة سليماني في سوريا وإسرائيل/ مشرق ريسان

رجّح مراقبون للشأن السياسي الإيراني، أن تعمدّ طهران إلى التأني في ردّها “المؤكد” تجاه المصالح الأمريكية في المنطقة، على خلفية اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، وفيما تشير التوقعات إلى إن الردّ لن يكون في العراق، بسبب جهود ووساطات لـ”ضبطّ النفس” والتهدئة، يرجّح أن يكون الثأر الإيراني في إسرائيل.

الباحث والأكاديمي الدكتور هشام الكندي، يقول لـ”القدس العربي” إن “قاسم سليماني كان معروفاً لدى الأمريكان بأنه يمثل خطاً أحمر إيرانياً في التعامل وقواعد الاشتباك بين البلدين” مبيناً إن “اغتيال قاسم سليماني خطأ كبير ارتكبته إدارة ترامب تحديداً، وهذا سيسبب للولايات المتحدة مشكلات كبيرة، حسب قول ساسة أمريكان، من بينهم رئيسة الكونغرس ومرشحة الرئاسة ونواب في الحزب الجمهوري”.

وأضاف: “مقتل سليماني يمثل إعلان حالة حرب على إيران، بكون إن أمريكا اغتالت مواطنا إيرانيا بهذه الدرجة الرفيعة، بالإضافة إلى إن اغتيال سليماني جاء وهو ضيف على العراق ويقدم خدمة للعراق بصفة رسمية، كونه مستشار الحكومة العراقية لمحاربة الإرهاب”.

وأشار إلى إن “إيران اليوم أمام تحديين لسمعتها أولاً، وأيضاً أمام آخر يتمثل في رمزية سليماني الكبيرة في محور المقاومة والممانعة، الذي تحرص إيران على إدامته ووجوده، كونها هي من تقود هذا المحور” لافتاً إلى إن “سليماني ليس قائداً فقط بل رمزاً للمقاومة والمقاومين، وله دور كبير جداً في هزيمة الإرهاب في العراق وأيضاً في سوريا. والموقف الرسمي يؤكد ذلك”.

وتابع: “ليس أمام إيران إلا الردّ” منوهاً إلى أن “الردّ الإيراني المعتاد هو غير متوقع وغير انفعالي. الأمريكان يعرفون ذلك جيداً، وهذا ما كان واضحاً من خلال إرسال واشنطن موفداً عربياً (من سلطنة عُمان) إلى طهران وعرضوا عليهم رفع العقوبات ومزيدا من المغريات في مقابل ترك طهران الردّ”.

وأكمل: “الأمريكيون يدركون ما هو الردّ الإيراني، الذي سيكون في ظروف عام انتخابي. لنا أن نتخيل ضربة إيرانية بشرعية الردّ على استهداف سليماني ستكون نهاية حلم ترامب في العودة إلى البيت الأبيض لولاية ثانية. هذا الأمر مُدرك أمريكياً والإيرانيون يعرفونه جيداً وسيعملون عليه” موضّحاً إنه “مهما كان الرد فسيكون بالتأكيد ليفشل عودة ترامب إلى البيت الأبيض لمرّة ثانية”.

أكذوبة أمريكا

ووفق الكندي فإن “الردّ الإيراني، سيكون عبر استهداف إيران واحدة من المصالح الأمريكية في كل المنطقة باستثناء العراق” عازياً السبب في ذلك إلى إن “إيران لن تقوم بتصديق أكذوبة أمريكا التي تقول بأن طهران تستغل بغداد لتصفية حساباتها مع واشنطن، كما يروج الأمريكان”.

ومضى قائلاً: “إيران تُدرك إن أمريكا أضعف من أن تدخل في مواجهة مباشرة معها. تجربة إسقاط طائرة التجسس في 10حزيران/يونيو 2019 بكلفة ربع مليون دولار، هي خير دليل على ذلك، كما إن ترامب قال قبل نحو أسبوع بأنه لا يسعى إلى الدخول في مواجهة مباشرة مع إيران” مشيراً إلى إن “إيران لديها استطلاعات على القواعد الأمريكية في أفغانستان في دول الخليج (تضم 36 قاعدة). وطهران أعلنت إن تلك القواعد في مرمى نيرانها، كما إن لدى إيران معلومات عن حاملات الطائرات والبوارج المنتشرة في المياه الدولية في الخليج وبحر عُمان”.

وحسب المحلل السياسي العراقي فإن “إيران لن تُقدم على ضرب قاعدة أمريكية في الخليج، إن لم تنطلق منها طائرات أو صواريخ للاعتداء على إيران” موضحاً إن “الأهداف المكشوفة بالنسبة لإيران هي الأهداف البحرية المنتشرة في الخليج وفي بحر العرب. واستهدافها سيكون عملا ضد عسكريين وليس مدنيين، ولن يكون هناك تداخل مع بقية الدول حتى وإن كانت تضم قواعد أمريكية في بلدانها، وهذا ما تريده إيران”.

وزاد بالقول: “إيران تمتلك بنكاً من المعلومات لأهداف من الممكن إسقاطها. هي أعلنت على لسان قائد الحرس الثوري إن لديها أكثر من 800 هدف تحت مرمى صواريخها” مرجّحاً “إمكانية أن تستهدف إيران القواعد الأمريكية في سوريا، لكن الضربة الأكثر ضرراً والأكبر توقعاً ستكون نحو إسرائيل”.

وختم قائلاً: “الردّ لن يخرج عما قاله المرشد الأعلى الإيراني بأنه سيكون ردّاً حاسماً وحازماً وقوياً ورادعاً للأمريكان، وأضاف بأنه سيكون سريعاً”.

المواجهة المباشرة

ويرى تحليل آخر لخطوات الردّ الإيراني لـ”الثأر” من الأمريكان على مقتل سليماني، لن تكون على مستوى “المواجهة المباشرة” بل إن طهران ستعمل على تغيير مسار الشارع العراقي من “رافضٍ” لوجودها وتدخلها في العراق إلى اتجاه آخر مؤيد للجمهورية الإسلامية، من خلال “الأمن السيبراني” بعكس خطوات “أشد” في دول في المنطقة تُمثل عُمقاً مهماً واستراتيجياً لدى الولايات المتحدة الأمريكية.

في هذا الشأن، يقول الباحث والأكاديمي العراقي الدكتور حيدر البرزنجي، لـ”القدس العربي” إن “الأمريكان بدأوا بالدخول في حرب مباشرة مع إيران. كان للأمريكان أذرع مثل القاعدة وداعش، لكن المواجهة اليوم بدأت تأخذ صورة أخرى تتمثل بالتدخل المباشر” مبيناً إن “إيران سترد على مقتل سليماني، لكن وسائل الردّ وأدواته تبقى مفتوحة لديهم، خصوصاً في ظل وجود ميدان واسع وخيارات متعددة لدى طهران للردّ”.

وأضاف: “الوضع في اليمن أكثر استقراراً، والوضع في لبنان غير جاهز للرد، بسبب الداخل المتأزم، في حين الساحة في العراق واليمن أكثر انفراجاً وانفتاحاً” موضحاً إن “حادثة أرامكو أخذت صدى كبيرا من دون الإثبات رسمياً بأن إيران هي من قامت بهذا الفعل، لهذا فمن المرجّح أن يتم استهداف قواعد خليجية أو مصالح اقتصادية في كل أنحاء العالم- خصوصاً في الدول الإقليمية- من دون أن تشير إيران لنفسها أو ربما قد ُتشير”.

وأكمل: “الردّ الإيراني حتمي وحازم، لكنه لن يكون في هذه الفترة. الإيرانيون يحتاجون وقتاً للترتيب والتكتيك للردّ، حتى تكون الضربة قوية بحجم قاسم سليماني” منوهاً إلى أن “التهديد الأمريكي لقادة الفصائل المسلحة في العراق، لا يختلف عن التهديدات التي تطال قادة حركة حماس، وزعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله”.

وأكد البرزنجي إن “الدعم الإيراني لفصائل المقاومة الإسلامية في العراق سيبقى مستمراً” لافتاً في الوقت عينه إلى إن “الاستراتيجية الإيرانية ستختلف. في الفترة الماضية كانت تهدف إلى التدخل للاستشارة والمعونة العسكرية في موضوع داعش، وأهملت الجانب الثقافي، الأمر الذي فتح ساحة كبيرة للأمريكان في تجهيز جيوش إلكترونية من الشباب العراقي حتى جعلوهم عملاء في بعض الحالات، وهيأوا المجتمع ثقافياً لرفض إيران، وهذا ما يبدو واضحاً من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، والهجمة التي يتعرض لها أي شخص يترحم لسليماني”.

ومضى قائلاً: “الاستراتيجية الإيرانية الجديدة ستعتمد على الأمن السيبراني، بكون إن كلاً من واشنطن وطهران، لا تريدان الخوض في حرب مباشرة”.

لكن الخبير العسكري أحمد الشريفي يرى أن الردّ الإيراني على مقتل سليماني “لن يكون في العراق” مستبعداً أيّ تصعيد من قبل الفصائل الشيعية المسلحة الموالية لإيران تجاه القواعد والمصالح الأمريكية في العراق.

ويضيف الشريفي لـ”القدس العربي” إنه “ستكون هناك عمليات تهدئة وضبط نفس، بسبب إن العمليات المتبادلة رفعت من منسوب التهديد والتحدي إلى مستوى عالٍ جداً” مبيناً إنه “خلال هذه الفترة سيكون هناك هدوء من الطرفين، وإذا كان هناك ردّ فإنه سيكون إقليمياً”.

واستبعد أن “تردّ إيران على واشنطن في داخل العراق، نظراً لخصوصية الأوضاع في البلاد” لكنه لم يستبعد أن “يستمر استهداف واشنطن لقادة في الحشد الشعبي في الأيام المقبلة، في حال كان هناك تصعيد من قبل الحشد تجاه الأمريكان”.

واعتبر إن “هذا الأمر مقروء بالنسبة للحشد، لذلك لن يُصعّد وسيجنب نفسه تلقي ضربات من الأمريكان على اعتبار إن هناك حالة من عدم التكافؤ”.

القدس العربي

———————————

هل أصبح العراق والمنطقة على حافة حرب بالوكالة/ مصطفى العبيدي

تلاشت سريعا آمال العراقيين بان يكون 2020 عام استقرار وحل لأزمات البلاد المزمنة، بعد أن وجدوا أنفسهم وسط سعير الصراع الأمريكي الإيراني، مع تصاعد التهديدات المتبادلة عقب قيام الولايات المتحدة بتصفية الجنرال الإيراني قاسم سليماني وقادة في الميليشيات ردا على مهاجمة الفصائل المسلحة للسفارة الأمريكية في بغداد.

وكما كان متوقعا، لم تسمح الولايات المتحدة أن يمر عابرا، قيام ميليشيات مقربة من إيران بمحاولة اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد بتواطؤ من سلطات بغداد، لتكون عملية مهاجمة السفارة هي الشرارة التي أعلنت فتح أبواب المواجهة الأمريكية الإيرانية في العراق على مصراعيها، ومع كل التداعيات والتوقعات الناجمة عنها.

ومع مهاجمة الفصائل الشيعية المسلحة في العراق للسفارة الأمريكية في بغداد، في محاولة لتكرار سيناريو مهاجمة السفارة الأمريكية في طهران وأسر موظفيها عام 1979 فإن هذه الفصائل أثبتت بانها أصبحت دولة داخل الدولة، وأنها تسير لوحدها في مشروع إقليمي مستقل عن حكومة بغداد التي تبدو عاجزة تماما عن ردعها أو الحفاظ على سيادة الدولة.

الرد الأمريكي

وإذا كان التصعيد والتهديدات المتبادلة في المواجهة الأمريكية الإيرانية في العراق، ليس مفاجئا ضمن سلسلة تطورات تمثلت في تكرار قصف الميليشيات للسفارة والقواعد التي تتواجد فيها قوات أمريكية، وما أعقبها من الغارة الأمريكية على مواقع حزب الله المقرب من إيران في العراق وسوريا وسقوط نحو 28 مقاتلا فيها، فان ردود الأفعال الأخيرة لواشنطن، أظهرت استعدادا أمريكيا غير متوقع للمواجهة وحماية مصالحها في العراق وسمعتها دوليا، وكسرت طابع التردد الذي لازم سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

وإزاء محاولات الميليشيات اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد عقب الغارة الأمريكية على مقرات حزب الله، جاء الرد الأمريكي سريعا عبر تهديدات جدية للرئيس الأمريكي الذي حمل إيران المسؤولية عن أي خسائر في الأرواح في أي هجمات على منشآت أمريكية، في إقرار واضح بهيمنة إيران على الشأن العراقي، كما حذر ترامب في تغريدة من ان “أي استهداف للمصالح الأمريكية سيواجه بمهاجمة آبار النفط الإيرانية” من دون أن ينسى توجيه الدعوة “للعراقيين للتحرك ضد الهيمنة والسيطرة على بلدهم من قبل إيران”.

إلا أن الرد الأمريكي الأعنف على استفزازات الميليشيات المدعومة إيرانيا، تمثل في تنفيذ عملية اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني، الذي يلقبه الكثيرون بانه (بريمر إيران في العراق) والابن المدلل لنظام طهران، بأمر من الرئيس الأمريكي، في ضربة صاروخية قرب مطار بغداد الدولي فجر الجمعة، حيث قتل معه عدد من قادة الحشد الشعبي بينهم أبو مهدي المهندس ومحمد رضا الجابري وآخرون ضمن الموكب الذي كان مغادرا مطار بغداد باتجاه العاصمة العراقية.

وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر، أعلن إن هناك مؤشرات على أن إيران أو فصائل تحظى بدعمها ربما تخطط لشن مزيد من الهجمات، مضيفا أن الولايات المتحدة قد تتخذ خطوات استباقية لحماية الأمريكيين، و”سيندمون على ذلك”. كما أعلن البنتاغون إرسال نحو 4000 جندي من قوات النخبة على الفور إلى الشرق الأوسط، وصل بعضهم إلى السفارة في بغداد في 13 طائرة نقل، مع طائرات آباتشي الهجومية، فيما أكدت مصادر مختلفة ان القوات الأمريكية في العراق ودول الخليج العربي قد دخلت حالة التأهب القصوى، وسط توقعات بتصعيد خطير مقبل على المنطقة برمتها.

القوى العراقية

من المؤكد ان اغتيال سليماني ومهاجمة السفارة الأمريكية، قد عمقا الخلافات بين القوى والأحزاب العراقية، بين القوى الشيعية المؤيدة لمواقف إيران والداعية للانتقام من الولايات المتحدة، وبين قوى كردية وسنية ووطنية رافضة للزج بالعراق في صراع البلدين، ومدافعة عن الوجود الأمريكي في العراق، وسط دعوات باستخدام الحكمة وضبط النفس وعدم التصعيد في هذا الصراع. وأظهرت تصريحات وتهديدات بعض القادة الشيعية ان التطورات الأخيرة توجب على القوى السياسية جميعا اتخاذ قرار إبعاد القوات الأمريكية وسفارتها، مما ينبئ بمواجهة حادة في البرلمان عند طرح قانون اخراج القوات الأمريكية من العراق، المقررة اليوم الأحد.

وبالنسبة لأغلب الفصائل المسلحة الموالية لإيران كالعصائب وحزب الله، فقد أدانت قتل سليماني وهجوم القائم، وأبلغت عناصرها بالاستعداد عسكريا لتنفيذ المهام المطلوبة من دون تحديدها. وفي المقابل أفادت مصادر، ان الفصائل المسلحة في بغداد، وخوفا من استهداف الطيران الأمريكي لها، بعد قتل المهندس وسليماني، قامت بإغلاق وتغيير معظم مقارها في العاصمة المنتشرة في أحياء الجادرية والكرادة وشارع فلسطين، كما نقلت الأسلحة من تلك المقرات إلى مناطق أكثر أمنا.

أما حكومة عادل عبد المهدي المقالة، التي حملها العراقيون مسؤولية تدهور الأوضاع وتصاعد الصراع الأمريكي الإيراني، فإنها وصفت سليماني وأبو مهدي المهندس الذي قتل معه بانهما “رمزان كبيران” في تحقيق النصر على تنظيم “داعش” مشيرة إلى أن اغتيال قائد عسكري عراقي يشغل منصبا رسميا يعد “عدوانا على العراق دولة وحكومة وشعبا” كما يمثل “خرقا فاضحا” لشروط تواجد القوات الأمريكية في العراق، مؤكدة ان “العملية تعد تصعيدا خطيرا يشعل فتيل حرب مدمرة في العراق والمنطقة والعالم”.

وشعبيا، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي أفلاما توثق لحظة خروج مظاهرات حاشدة في الساعة الرابعة فجرا في ساحة التحرير وشوارع العراق، تأييدا للضربة الجوية الأمريكية التي استهدفت سليماني، فيما شهدت بعض المناطق تظاهرات مناوءة للغارة.

ردود الأفعال الإيرانية

أما ردود الأافعال الإيرانية التي صعقت باغتيال أبرز قادة الحرس الثوري والذراع الضارب في مشروعها الإقليمي، فإنها توعدت بالانتقام والرد القاسي على العملية. فالرئيس الإيراني حسن روحاني، أكد ان الانتقام من اغتيال قاسم سليماني سيطال أمريكا، فيما أعلن وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، ان الولايات المتحدة الأمريكية تتحمل تداعيات اغتيال قاسم سليماني، واصفا ما حصل بـ”الإرهاب الدولي الأمريكي والتصعيد الخطير للغاية والغبي”. وكذلك أعلن علي الشيرازي ممثل المرشد الأعلى علي خامئي في فيلق القدس ان “الانتقام لاغتيال قاسم سليماني واجب شرعي” وقال: سنحرم الأمريكيين النوم” فيما توعد مجلس الأمن القومي الإيراني “بالرد العنيف على الاغتيال في الوقت والمكان المناسب”.

التحريض بمهاجمة السفارة الأمريكية

وكان تناقضا واضحا، إنكار الحكومة الإيرانية علاقتها بالهجوم على السفارة الأمريكية في بغداد من قبل فصائل مسلحة موالية لها، إذ ان التحريض الإيراني كان واضحا عندما حذر المتحدث باسم الخارجية الإيرانية عباس موسوي، من أن “على الولايات المتحدة أن تتحمل تداعيات اعتداءها على القوات العراقية وإنهاء وجودها العسكري” في إشارة للقصف الأمريكي لمواقع حزب الله، فيما قال الحرس الثوري الإيراني في بيان له “إن الرد على الضربات الأمريكية هو حق طبيعي للشعب العراقي، والقوات المدافعة عن العراق” إضافة إلى دعوة المتحدث باسم لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، حسين تقوي حسيني “الحشد الشعبي” إلى مهاجمة المصالح الأمريكية في العراق.

ولاحظ المراقبون، ان مهاجمي السفارة الأمريكية حرصوا على ترديد هتافات تمجد إيران من أمام بوابة السفارة وتصويرها وبثها عبر الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، كما قام المهاجمون بكتابة شعارات على جدران وبوابات السفارة حسمت مرجعية المهاجمين، مثل “سليماني قائدي” و”الخميني مرجعي” وغيرها من الشعارات المشابهة.

وكان أبو آلاء الولائي، أمين عام ميليشيا “كتائب سيد الشهداء” المقربة من إيران، أكثر صراحة عندما أعلن إن “الخط الممتد من حصار سفارة أمريكا في طهران عام 1979 إلى حصار سفارتها في بغداد عام 2019 يختصر التاريخ كله”. متوعدا بمحاصرة معسكرات القوات الأمريكية، أضافة إلى “سفارات دول الانبطاح كالسعودية والإمارات والبحرين وغيرها”.

الانتفاضة

وأدت عملية مهاجمة السفارة الأمريكية واغتيال سليماني وما أعقبهما من تداعيات، إلى قلق تنسيقيات التظاهرات وبعض القوى السياسية والمراقبين، من ان هذه الظروف، قد تكون مبررا لتوجه الفصائل المسلحة، لمحاولة فض الاعتصامات في ساحة التحرير، خاصة بعد انسحاب مهاجمي السفارة من المنطقة الخضراء، ونصبهم خيام اعتصام في شارع ابي نؤاس القريب من ساحة التحرير، ولذا سارعت تنسيقيات التظاهرات إلى الإعلان عن براءتها من الهجوم على السفارة الأمريكية والنأي بالبلد عن الصراع الأمريكي الإيراني مع اصرارها على الصمود حتى تحقيق أهدافها الإصلاحية.

ولذا أكد المتظاهرون المطالبون بالإصلاحات، بقاءهم في أماكن الاعتصامات وتعزيز الأعداد المشاركة وتوسيع فعالياتهم رغم برودة الجو وتصاعد حملات البطش بهم، حيث ارتفعت أعداد عمليات الاغتيالات والخطف من المتظاهرين إلى أكثر من 33 عملية اغتيال و67 عملية خطف إضافة إلى 489 شهيدا و22 ألف جريح ومئات المعتقلين، حسب مفوضية حقوق الإنسان.

وهكذا فان الأيام الآتية لا تبشر بالخير للعراقيين، وسط تصاعد المواجهة الأمريكية الإيرانية في البلاد، وخاصة بعد اغتيال سليماني، في وقت تتمسك فيه الأحزاب الحاكمة، بالسلطة والهيمنة على شؤون البلاد متجاهلة التظاهرات المطالبة بالإصلاحات. ويرى المراقبون ان مهاجمة السفارة الأمريكية، تشير إلى دخول العراق مرحلة اللا دولة، عندما جعلت الفصائل المسلحة نفسها فوق سلطة الدولة، مقابل عجز حكومة بغداد عن الوقوف أمام سطوتها، وهو ما سيدفع دول العالم إلى إعادة النظر بعلاقاتها بالعراق وفي تواجد بعثاتها في بيئة غير آمنة، مع مخاوف من إعادة وضع العراق تحت البند السابع وإشراف مجلس الأمن الدولي عليه، لانقاذه من الأوضاع المتردية.

القدس العربي

———————————-

الجبهة اللبنانية-الإسرائيلية ليست على خط الردّ الإيراني في المدى المنظور/ رلى موفّق

لم يكن جفّ حبر النبأ عن اصطياد الولايات المتحدة الأمريكية لرجل إيران القوي الجنرال قاسم سليماني، في عملية مباغتة على تخوم مطار بغداد الدولي، حتى تطايرت الأسئلة والشظايا عن الدوافع التي أَملت على الرئيس دونالد ترامب اتخاذ “القرار الكبير” بتوجيه صفعة موجعة لإيران، والتداعيات المحتملة في ضوء التحدي ربما غير المسبوق أمام طهران التي بدت هيبتها على المحك.

ففي اللحظة التي كانت التحرّيات على أشدّها لسبر أغوار “الصندوق الأسود” للعملية الأمريكية التي أمر بها ترامب، تركزت الأنظار على “مسرح العمليات” في العراق الذي أفضت التطورات العاصفة فيه إلى شطب سليماني الذي كانت له اليد الطولى في تركيب معادلات هذا البلد على النحو الذي يضمن تثبيت النفوذ الإيراني في الحديقة الخلفية لطهران.

لم تكن الولايات المتحدة، في وارد التخلص من “مهندس” النفوذ الإيراني خارج بلاد فارس، وغالباً ما قاتلا معاً أيام المعركة ضد “داعش” في العراق حين كانت الطائرات الأمريكية في الجو وسليماني على الأرض، لكن أفول الإرهاب ذات الطبيعة السنيّة في سوريا والعراق دفع بالصراع نحو آفاق جديدة شكّلت شرارته تمزيق ترامب للاتفاق النووي، ووضع إدارته النقاط الـ12 في مواجهة إيران ونفوذها.

ورغم العقوبات الموجعة والمتدحرجة التي تجرعتها إيران، خصوصاً مع “صفر تصدير للنفط” فإنها استمرت في معاندة الوقائع الجديدة، في سياق تكتيكات تجلّت في مسألتين: الأولى ترتبط بمدى قدرتها على الصمود إلى ما بعد الانتخابات الأمريكية لتحديد اتجاهات الريح، بحيث تذهب إلى التفاوض مع ترامب في حال تجديد ولايته، أو “تعود إلى قواعدها سالمة” مع مجيء رئيس ديمقراطي. أما المسألة الثانية، فتتعلق بمحاولة تحسين أوراقها أو الحد من خسائرها في مناطق نفوذها لاعتقادها بأن ترامب المنخرط بقضه وقضيضه في التحضير للانتخابات الرئاسية، أدار ظهره للمنطقة التي لا يريد أن يسمع بها.

هذه الخلاصة المتخيّلة التي اعتمدتها طهران في تعاطيها مع الولايات المتحدة “المهزومة” بعدما اعتقدت ان ترامب يلملم عصاه للرحيل من المنطقة، في ضوء تململه الدائم من وجود قوات له في سوريا وتجنبه المواجهات العسكرية في الرد على تحرشاتها، على غرار ما حدث في مضيق هرمز.

وفي اعتقاد دوائر متابعة أن إيران التي سقطت في أوهامها حاولت الهروب إلى الأمام في العراق، حيث استحكم المأزق في وجهها بعد انتفاضة العراقيين وديمومة حركتهم الاحتجاجية التي قلبت الطاولة مع اضطرار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي إلى الاستقالة، وفشل إمرار أي بديل موال لإيران، وتلويح الرئيس برهم صالح بالاستقالة.

وبدا أن الهروب الإيراني إلى الأمام في بغداد، حسب هؤلاء، انطوى على محاولة التحرش بالقوات الأمريكية لـ”نقل العدسة” من ساحة التحرير في اتجاه الصراع مع الأمريكي، الأمر الذي من شأنه تقويض حركة الاحتجاج وقمعها. وانطوى كذلك على السعي إلى دفع المركب من الخلف في معركة إخراج الأمريكيين من العراق في وقت مستقطع ينهمك فيه ترامب بمعركته الانتخابية.

وبهذا المعنى جاء التصعيد المتدرّج عبر قتل متعاقد أمريكي يعمل مع قوات بلاده في العراق، رد عليه الجيش الأمريكي بغارات قاسية على معاقل “حزب الله” العراقي على الحدود العراقية-السورية، ومن ثم الردّ على محاولة اقتحام السفارة الأمريكية من حلفاء إيران في بغداد بقتل سليماني في تطور وضع المنطقة فوق فوهة احتمالات غامضة.

هل سترد إيران؟ من الصعب الخروج بإجابات حاسمة، رغم كل التهديدات التي تنفجر عبر مكبرات الصوت، في طهران وعواصم نفوذها في المنطقة، إذ ثمة تقديرات متباينة في هذا الشأن.

بعض التقديرات ترى أن احتمالات الرد الإيراني في تضاؤل. فطهران غير القادرة، أو غير الراغبة في الذهاب إلى الحرب مع الولايات المتحدة أدركت أن ترامب قرر النظر إليها بـ”العين الحمراء” خصوصاً ان أي رد لا يحمل توقيعها لن يكون رداً، وأي رسائل بالواسطة لن تكون مجدية.

وإذ تعتقد دوائر خبيرة في شؤون المنطقة أن أي مجازفة أمريكية بتوجيه ضربة بالمباشر لأي هدف أمريكي سترد عليه واشنطن على طريقة الصاع صاعين، فإنها تبدي ميلاً إلى القول إن طهران التي تدير معاركها بعقل بارد ستتفادى أي مغامرات تأخذها إلى الحرب. ويرى هؤلاء أن استراتيجية النَفَس الطويل التي تعتمدها طهران تجعلها تُعلن معركة إخراج الأمريكيين من العراق كمكسب استراتيجي من خلال تحميلها العراقيين مسؤولية الدفع في هذا الاتجاه عبر الآليات الدستورية، ومن خلال رفع مستوى التحرش الميداني.

أما البعض الآخر، فيعتبر أن مكانة إيران في المنطقة وهيبتها كلاعب إقليمي تجعلانها مضطرة للرد في “المكان والزمان المناسبين” مهما كان الثمن، خصوصاً أن تراخيها إزاء الضربة الموجعة التي تلقتها سيزيد من مأزقها في التعاطي مع ساحات نفوذها المهتزة في المنطقة، لا سيما العراق ولبنان، وتالياً فلن يكون في وسعها إلا “دوزنة” ردّ محسوب يحفظ دورها كقاطرة المشروع الإقليمي المتعدد الساحات.

وفي اعتقاد منظري المحور، فإن إيران ستتولى الرد، إذ لا بد أن تكون بصماتها واضحة نتيجة اعتبارات عدة، منها الاستهداف المباشر وحجمه الذي كسرت به واشنطن قواعد اللعبة الماضية. فوفق هؤلاء، فإن سليماني كان موجوداً ضمن شعاع أمني محسوب على الأمريكيين، من دون تخفٍ، بما يعكس أن الإيرانيين لم يضعوا على الإطلاق في حساباتهم أي خطوة تهدد أمنهم هناك، وكانوا يتحركون في هذه الدائرة ضمن قواعد الاشتباك التي كانت قائمة بين الطرفين.

مجلس الأمن القومي الإيراني حدد ساحة غرب آسيا، موسّعاً من دائرة لائحة الأهداف، بما يعطي الحرس الثوري إمكانية تحرك أكبر في إطار بنك الأهداف، لا سيما بعد شمولها أفغانستان وأذربيجان وغيرها من الدول المحيطة جغرافياً.

في المدى المنظور، ليس ثمَّة ما يوحي بالقلق على مستوى ترجمة التوتر الإيراني-الأمريكي ميدانياً على الحدود مع إسرائيل، أقله في المرحلة الأولى. فاستخدام لبنان سيكون مرتبطاً بطبيعة الرد الذي سيستند على قراءة دقيقة للمنطقة وواقع كل الجبهات وظروفها ومعطياتها. ويقول مقربون من دوائر “حزب الله” إن دور الجبهة اللبنانية يتحدد على ضوء ما بعد الردّ الإيراني على عملية اغتيال سليماني. فإذا ذهب الردّ الأمريكي على الردّ الإيراني إلى مرحلة تدحرج للوقائع، عندها يمكن الحديث عن فتح المدى الأوسع للصراع وشموله الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية وعناصر الردع الحاكمة لها.

والاقتناع بابتعاد كأس الحرب عن الجبهة اللبنانية في المرحلة الراهنة، في رأي مقربين من الحزب، يعود إلى أن طهران هي المعنية مباشرة بالردّ أولاً، وباستهداف مصالح أمريكية بالمباشر ثانياً، إذ أن الهدف هو إعادة تثبيت قواعد الاشتباك بعدما ظهر أن الأمريكيين قد تخطوا القواعد المرسومة!.

——————————–

ردّ إيران على قتل سليماني: الحرب اللا متماثلة؟/ عبدالناصر العايد

تتوجه الأنظار اليوم إلى طهران، لمعرفة نوع وماهية ردّها على العملية الجريئة والمفاجئة للقوات الاميركية قرب مطار بغداد، والتي أدت إلى مقتل اللواء قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس” وأهم جنرالات “الحرس الثوري”، وكذلك “أبو مهدي المهندس”، نائب قائد “هيئة الحشد الشعبي” ومؤسس “كتائب حزب الله” في العراق.

ليست المواجهة التي سعت إليها طهران

منذ أن ألغى ترامب الاتفاق النووي مع ايران، وإعادة فرض العقوبات عليها، سعت طهران إلى مواجهة عسكرية تناسبها، وهي عمليات عسكرية على المستوى المليشياتي في الشرق الأوسط، من اليمن إلى العراق على سوريا وصولاً إلى لبنان. وكانت التحركات الأخيرة في العراق، وقصف القواعد الأميركية هناك ببضعة صواريخ “مجهولة” المصدر، ومن ثم اقتحام السفارة الاميركية في بغداد، نوعاً من عملية جس النبض، وتهيئة الميدان لانطلاقة كبرى.

هدف ايران كان الوصول إلى حالة الحرب اللامتماثلة، من خلال المشاغبة والمناوشة، واستراتيجية “اضرب واختفي”، التي لا تتيح للطرف الآخرالانتصار مهما بلغت قوته، حيث يعد “عدم انتصار” الطرف الأقوى في هذا النوع من الحروب، هزيمة لها.

لقد سعت طهران من خلال بيادقها المنتشرة في كامل ميدان المواجهة، إلى حرب من نوع حرب تموز 2006، التي انتصر فيها “حزب الله” لأن إسرائيل لم تتمكن من تدمير كل قواه، واضطرت إلى عقد تفاهم معه، ما مكنه لاحقاً من التحول إلى شرطي في لبنان وسوريا، وهو ذات الدور الذي تطمح ايران لبلوغه اقليمياً، من خلال مواجهة أوسع، ومع الطرف الأقوى دولياً وهو الولايات المتحدة.

هل عطل مقتل سليماني الخطة الإيرانية؟

رغم الخبرة الواسعة، والحضور الكاريزمي، إلا إن غياب سليماني لن يؤثر كثيراً على الخطة الايرانية، فالقوى الايرانية المنتشرة في المنطقة، ورغم ارتباطها الرمزي به، إلا أنها في تصميمها الأصلي، تحوز الاستقلالية التكتيكية والعملياتية، وترتبط بالقيادة المركزية الإيرانية تمويلياً والتوجهات العامة، وفي تأدية خدمات محددة وطارئة. ويصعب تخيل أن شخصاً واحداً مثل سليماني، إضافة لمهماته السياسية والدعائية وأعباءه الأمنية الكثيرة، قادر على قيادة كل هذا الحشد من المليشيات متعددة الانظمة والتوجهات والجبهات، من اليمن إلى لبنان. وبالتالي، فإن غيابه قد لن يؤثر كثيراً على خطة  المواجهة الايرانية، وهي ستسمر على الاغلب كما هو مخطط لها. وربما يخلف سليماني قادة أكثر حماساً وسعياً لإثبات الذات.

ويمكن تخيل أزمة يخلقها غياب سليماني الشخصي في ميادين آخرى؛ معركة خلافة المرشد، ورئاسة الجمهورية الإيرانية المقبلة. وربما يفتح مقتله الباب على تصارع داخلي بين أجنحة الحكم في ايران.

الضربة المركزية ستواجه بردود لا مركزية

إن هذه الضربة الموجهة إلى المركز العصبي لقوى ايران الخارجية، لن تشل تلك القوى، وبـ”ايحاء” من المرشد الأعلى ومعاونيه، ستشن كافة الاذرع الايرانية، وربما في وقت متزامن، هجمات “لا مركزية” وباساليب عسكرية هجينة، تختلط فيها الوسائل البدائية لحروب العصابات مع الامكانيات التقنية الحديثة، لتحقيق أكبر قدر من الايذاء التكتيكي للقوات الاميركية، والدول الاقليمية الحليفة لها، ولمصالح كل هؤلاء الأطراف.

وسيكون “الثأر” لمقتل سليماني، عنوان حملة واسعة النطاق، غير محددة الميدان ولا التوقيت ولا التكتيك، للضغط المتصاعد، الذي تتورط فيه مزيد من القوى الموالية لإيران، خاصة الأطراف المرتبطة بها طائفياً. وسيتم تضخيم نتائج تلك الحملة، واستثمارها اعلامياً وعقائدياً وسياسياً، إلى مدى يتجاوز كثيراً نتائجها العسكرية الفعلية.

استحضار الجهاديين “السنّة”

كان لافتاً أن نعي وزير الخارجية الإيرانية جواد ظريف، قد ركّز على إن اغتيال الجنرال سليماني هو اغتيال للقوة الأكثر فعالية التي تقاتل “داعش” و”النصرة”، وتتحمل الولايات المتحدة مسؤولية جميع عواقبه. وهذا ما يتضمن تهديداً بالجهاديين، وتلويحاً بدور لهم في المواجهة، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهو ما تحاول ايران القيام به من خلال السماح للجماعات الجهادية بإعادة ترتيب اوراقها في ملاذات آمنة تسيطر عليها سواء في سوريا أو في العراق، وإعادة اطلاقهم في المشهد الشرق اوسطي والعالمي.

يحقق ذلك لطهران استعادة دورها كشرطي فعال في المنطقة، وإعادة طرح الفكرة القائلة بأن التشدد الديني “الشيعي” وعلى الرغم من كل شعاراته المناهضة للغرب، هو تشدد وعنف موجه إلى الداخل الإسلامي وحسب، ولا يمكن مساواته بالتطرف السني، الموجه بكليته نحو الولايات المتحدة والغرب.

الحرب قامت

لا تستطيع ايران شن حرب تقليدية ضد الولايات المتحدة، لكنها تستطيع أن تشن الحرب اللا متماثلة بكفاءة كبيرة، وقتل اللواء سليماني، الذي هو من أفعال الحرب التقليدية الاستباقية، من غير المحتمل أن يدفعها إلى حرف استراتيجيتها. فالمغامرة بتصعيد “متهور” سيجلب لها مزيداً من الأعداء والخصوم ويعمق أزماتها الداخلية والخارجية، وليس بوسع الولي الفقيه سوى الاستمرار في الصراع القائم اصلاً منذ أشهر طويلة، بين الاذرع الايرانية، والطائرات المجهولة الهوية، بانتظار تغير اتجاه الريح هنا أو هناك.

المدن

————————-

قاسم سليماني.. الذي نراه في كل مكان/ لبنى الراوي

يذكر الصحافي ديكستر فلكنز في مطبوعة “ذي نيويوركر” الأميركية أنه في العام 2011 استخدم قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، عصابة مكسيكية تتاجر بالمخدرات بهدف تفجير السفير السعودي إلى الولايات المتحدة حين كان يتناول الطعام في مطعم على بعد كيلومترات قليلة من البيت الأبيض. ولكن تبيّن أن رجل العصابات الذي لجأ إليه عميل سليماني كان مخبرًا لإدارة مكافحة المخدرات الأميركية. رغم ذلك، قال مسؤولان أميركيان سابقان للجنة تابعة للكونغرس إن من الضروري اغتيال سليماني، رغم فشل المؤامرة. ذكر أحدهما: “نراه في كل مكان. نالوا منه. حاولوا اعتقاله أو اقتلوه”. أما في إيران، فوقّع أكثر من مئتي شخصية بارزة رسالة تنديد تدافع عنه. وقد أعلنت حملة في مواقع التواصل الاجتماعي: “كلنا قاسم سليماني”. وقبل ثلاثة أشهر أكد يوسي كوهين رئيس الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) أن اغتيال قاسم سليماني”ليس مستحيلا”، لكنه أوضح أنه ليس مستهدفا من الموساد، وذلك بعد ادعاء إيران إحباط محاولة لاغتيال سليمان، متهمة أجهزة استخبارات إسرائيلية وعربية بالتخطيط لها. وبينما كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، أن سليماني، كان هدفا لعملية سرية قادتها قوات أميركية خاصة، بينما كان يقود سيارته وسط قافلة من إيران إلى شمال العراق في يناير 2007. وقالت الصحيفة، إن سليماني، الذي كان وقتها كبير قادة الأمن والاستخبارات في إيران، أفلت من القبضة الأميركية، أو بالأحرى، فإن القبضة الأمريكية هي التي أفلتته، حيث تراجع قائد المهمة عن قراره بقتله في الأمتار الأخيرة، وفقا لرواية الصحيفة.

وبالعودة الى مقال ذي نيويوركر لا أعتقد أن هذه الصورة التي رسمها ديكستر فلكنز قبل سنوات، بعيدة مما حصل في بغداد بعد اغتيال “حجي قاسم”. هذا الجنرال الذي كنا نراه في كل مكان فعلاً. ففي أوج حرب المدن والبلدات في سوريا والعراق، وبعد الانتهاء من تدمير كل مدينة (خصوصاً حلب) إثر حرب ضروس بين المسلحين المعارضين والجيش الأسدي وأتباعه، كان الجنرال الإيراني قاسم سليماني، يطل في الميدان من خلال الصور، بشعره أبيض، ولحيته المشذبة جيدًا، و”عيناه تشعان تحفظًا وحذرًا”، كما كتبت “ذي نيويوركر”. كان يطل بطريقة استفزازية، “هادئة” ترشح زيتاً مقدساً، كل صوره توحي بأن عدداً قليلاً من المرافقين يمشون معه، مقارنة باسمه الضخم في صناعة الحروب والمكائد والنزاعات والتوترات. كان حضوره نوعاً من تشجيع ايديولوجي للقتال، فهو في معظم ثقافته يحفز على “الشهادة” بمفهومها الديني، ويناصر أبناء الشهداء وعائلاتهم، ويعتبره المرشد الأعلى “شهيد الثورة الحي”، منذ ما قبل مقتله بزمن. حين كنا نرى صوره في الميدان، كان دائماً يخطر في بالنا سؤال: هل هذه شجاعة الرجل؟ أم أن حضوره المباغت أحياناً، والمتوقع في أكثر الأوقات، إيحاء بأن الشبح الإيراني أصبح هنا، أن الثورة الخمينية على الأبواب… كل صورة لسليماني في الميدان كانت تعادل توقيعه على تدمير مدينة أو منطقة، مقبرة جديدة تتسع لآلاف الأشخاص. وكل زيارة لسليماني إلى عاصمة عربية من العواصم التي تقول إيران إنها تسيطر عليها، كانت إشارة إلى إسقاط حكومة أو تشكيل حكومة. كان يتعمد الأفعال الهمجية ومن ثم الصور “البسيطة” مع المقاتلين في الجبهات، سواء ريف حلب أو ريف حماة، أو الحدود السورية العراقية، أو كردستان أو بغداد، وحتى بيروت.

أحد الأصدقاء أخبرني ذات مرة أن سليماني في تعاطيه مع الشرق الأوسط كان مثل غازي كنعان، قائد جهاز الأمن والاستطلاع للقوات السورية العاملة في لبنان، والذي كان يصنع الحروب والفتن ويدمر المدن، يدبر المكائد والمصالحات ويتدخل في تعيين هذا الموظف وانتخاب ذاك المختار، ويظهر نفسه حامياً ووصياً. سليماني المتدرج من عاشق لكمال الأجسام، وسقاء الجنود في بداية حرب الخنادق بين إيران والعراق، والمستطلع على الجبهات و”سارق الماعز” لاحقاً، تولى قيادة فيلق القدس قبل أكثر من 20 سنة. سياسته أدواتها رشوة المسؤولين في الشرق الأوسط، “تخويفهم عندما تدعو الحاجة، وقتلهم كحلٍّ أخير”(بحسب ذي نيويوركر). وهو سعى منذ ذلك الحين إلى “إعادة صياغة الشرق الأوسط بما يتناسب مع مصالح إيران” (لاحظواً جيدا هذه العبارة)، وهذا ما سُمي “الهلال الشيعي” الذي يمتد من إيران الى العراق والبحرين وسوريا ولبنان. وعمل سليماني كوسيط داعم وقوة عسكرية وتوجيه لمجموعات مقاتلة تتشكل من “حزب الله” وقوات “بدر” و”النجباء” الى “الحشد الشعبي”، وفي سوريا هناك ألوية زينب و”فاطميون”… كان سليماني مهندس صياغة الشرق الأوسط الجديد على الطريقة الإيرانية، وهو سبق نظرية الأميركية كوندوليزا رايس والشرق الأوسط الجديد على الطريقة الأميركية. وما بين “تصدير الثورة” على الطريقة الإيرانية الخمينية الحرسية، و”الفوضى الخلاقة” على الطريقة الإدارة الأميركية، مئات المدن والبلدات المدمّرة، ملايين الضحايا والمشردين في العراق وسوريا واليمن ونسبياً لبنان، خصوصاً في “حرب تموز” التي كان “حجي قاسم” أبرز المشرفين عليها…

والمنافسة بين الفوضى الخلاقة الأميركية، وتصدير الثورة الإيرانية بلغت ذروتها بعد 11 أيلول 2001. وبعد الحرب على أفغانستان، وإسقاط صدام حسين العام 2003، ومع الإخفاق الأميركي في إرساء الاستقرار في العراق، أطلق سليماني حملة ترهيب قاسية، سواء في بناء خلايا لتنظيم القاعدة او في تأسيس مليشيا عراقية موالية لإيران. بدا سليماني، أحياناً، مسروراً بالسخرية من نظرائه الأميركيين، رغم التعاون في أكثر من موضع، خصوصاً في أفغانستان (تلاقت إدارة البيت الأبيض مع نظام ملالي إيراني في محاربة عصابة طالبان المتطرفة). وفي خضم الأزمة العراقية، وتشعب الجماعات المقاتلة ضد الأميركيين (بعثية وايرانية وقاعدة)، كان سليماني يشتغل شغله في نحت “الخوازيق” للأميركيين، وخلال “حرب تموز” بين إسرائيل وحزب الله في لبنان في صيف 2006، تراجع العنف في بغداد. وعندما انتهى القتال، نقلت “ذي نيويوركر” أن سليماني بعث، على ما يُفترض، برسالة إلى القائد الأميركي ورد فيها: “آمل أن تكون قد استمتعت بفترة السلام والهدوء في بغداد. كنت منهمكاً بما يدور في بيروت”. كان حجي قاسم ماكراً ويعرف كيف يستفز خصمه، وكيف يستدرجه للوقوع في فخه.

في 22 ديسمبر 2010، هنّأ جيمس جيفري، السفير الأميركي إلى العراق، والجنرال لويد أوستن، القائد الأميركي الأعلى في العراق، الشعب العراقي بتشكيل حكومة جديدة بقيادة نوري المالكي. بدا أن حجي قاسم استدرج الأميركيين إلى فخ حكومة المالكي، بعد إقصاء العلماني إياد علاوي المقرب من العرب، صاحب الحق في تشكيل الحكومة لأنه يملك الأكثرية النيابية. تقول “ذي نيويوركر” نقلاً عن جيفري وأوستن: “نتطلع بشوق إلى العمل مع الحكومة الائتلافية الجديدة بهدف تعميق رؤيتنا المشتركة عن دولة عراقية ديموقراطية”. لكنهما أغفلا ذِكر أن الصفقة الأساسية التي أدت إلى ولادة الحكومة العراقية لم تكن من صنعهما، بل من صنع سليماني الذي وضع شروطاً لتشكيل الحكومة. الأول أن يصبح (الراحل) جلال طالباني (صديق النظام الإيراني القديم) رئيساً، والثاني أن يصر المالكي وشركاؤه في الائتلاف على رحيل الجنود الأميركيين من البلد. حين أصدر جيفري تهنئته، طردهم سليماني من البلد، إلا أنهم خجلوا من الإقرار بذلك علانية. لم تقر إدارة جورج دبليو بوش الحمقاء بأنها سلّمتْ العراق إلى الإيرانيين، وأتت من بعد إدارة باراك أوباما لتسلمهم الشرق الأوسط على طبق من فضة…

وبعد زمن من الأخذ والرد وتسجيل النقاط هناك وهناك، وبعد تراكمات من الحرب الناعمة والحرب بالواسطة، وجعل شعوب الشرق الأوسط حقلاً للتجارب في تنفيذ المعارك وضرب الصواريخ، بدت الرأس الكبيرة (سليماني) بالنسبة لـ”سيدة الامبريالية العالمية” أو “الشيطان الأكبر” بحسب التسمية الخمينية، تحتاج كبسة زر في خضم الحرب الذكية التي تتشكل أدواتها من طائرات بلا طيار، وأحياناً أدوات ثقافية وجواسيس. كبسة زر كانت كافية لذبح “رجل الظل” (لقب سليماني) وصاحبه معاً، وإنهاء أسطورته. لنراقب جيداً الطريق الذي كان يسلكه قبل مقتله أو اغتياله أو تصفيته. فهو الإيراني في بيروت، ذهب إلى العراق عبر سوريا، وقُتل في بغداد، وهو بذلك ينضمّ إلى سلسلة أساطير عرفنا أفعالها بقوّة (عماد مغنية، مصطفى بدر الدين)، ولا نزال نبحث عن أسرارها…

بالطبع، ورغم كمّ الخراب في الشرق الأوسط، سيخرج بعض المفكرين والكتّاب والكتبة الذين يعيشون في ظل الامبريالية وعرينها ورحابها ويكتبون في صحفها ويعلّمون في جامعاتها، ويتحدثون عن أمجاد سليماني في المقاومة ومحاربة الامبريالية العالمية، وسيحذروننا من “وضع” يدنا في اليد الأميركية، وإلى ما هنالك من دروس ممجوجة في الوطنية، وهم يعرفون جيداً أن “الفوضى الخلاقة” و”تصدير الثورة”، “طنجرة ولاقت غطاءها” في الشرق الاوسط.

حجي قاسم أسطورة فعلاً، لكن الأسطورة أيضاً تموت..

المدن

—————————

لاهوت سليماني وناسوت الأسد/ بشار جابر

لاهوت سليماني وناسوت الأسد زج سليماني مشايخ العلويين السوريين، قبل أفرادهم، في الحجيج إلى إيران وتسويق ثقافتها الدينية (غيتي)

كان وصول سليماني إلى سوريا مُبكراً، الرجل الذي نشأ على ما يبدو أنها حربٌ دائمة، وعلى أن المجتمع عليه دوماً أن يظهر مقاتلاً وجلفاً وبشعاً أمام أعداء سلطته. تربى سليماني على يدَي الخُميني، الذي شكل نواة إحدى أقوى المليشيات الاجتماعية، والتي تُشكل هرماً خفياً للسلطة، وليست منظمات الدفاع الوطني، والمليشيات السورية غير النظامية، إلا بلورة لثقافة الخُميني في جعل الدولة والجامع – الدين – وفئة اجتماعية مؤدلجة دينياً كياناً صراعياً داخل المجتمع وباتجاه الخارج إن لزم الأمر.

وصل السليماني إلى سوريا بلحية بيضاء، فتحول في المعنى المخيالي لنظام الأسد، إلى العجوز الحكيم الذي يُستمعُ لنصحه، أكثر من كونه رجل إيران، وأقوى رجال المنطقة وحاكمُ عنفها. بشار الأسد الذي أحال للتقاعد كل عجائز فترة أبيه، استعان بلحية بيضاء، كدلالة على حكمة يرتجيها، أكثر من كونه يرتضي بإزاحة قوته وهيبة جيشه، إلى قائد غريب أمسك زمام الخرائط في سوريا.

الأفضل في سليماني أنه لا يبدو غريباً عن أي منطقة تطأها قدماه، الاستعداد الفطري غير المثقف لدى أبناء المنطقة، جعل آلية عمله أسهل، البُعد الطائفي، البذور الاجتماعية المستعدة للانخراط بالأدلجة جراء خوفها وقلة انتمائها الوطني الكلاسيكي تجعله سيداً بسهولة. وبدايته السورية كانت في جعل العلويين جماعة سياسية مسلحة، وقبل ذلك جماعة دينية، أو جماعة أخلاقية بالبعد الفلسفي والإيديولوجي. هذا صلب ما علمه الملتحي الأبيض لبشار الأسد ونظامه، لجعل سوريا موطناً لصراع ديني لا يتوقف، ولجعل العلويين جماعة في وجه جماعة جرى صنعها بصنع نقيضها الحتمي.

فاستعاض عن الجيش السوري بمليشيات طائفية من نوع مطابق لما ينجح فيه، أو لأفضل ما نشأ عليه ويُمكن جعله عمومياً. تصدير الثورة بجعل آلياتها عنفاً مُسيطراً وأميناً ومُشكلاً للجماعات الدينية، ذات الأخلاقية المطابقة لإيديولوجيا الخُميني وعقليته. ولم يكن متهاوناً في جعل نفسه حاكماً وقائداً عسكرياً فقط، بل زج مشايخ العلويين قبل أفرادهم، بالحجيج إلى إيران وتسويق ثقافتها الدينية. فهو يتماهى مع الإيديولوجيا الدينية من دون أي تلفيق، فلم يستعض باستعداد العلويين والشيعة في سوريا القتال مع النظام بفطرة الخوف التي زرعها النظام، عن بنائهم دينياً، وهيكلة فراغهم الديني السلوكي، فطوّع معتقداتهم لتصبح ما قبل حداثوية كما يليق بحروب مقدسة، مشعوذة وطائفية وذات سيكولوجيا تحول الآخر إلى بهيمية سوداء، ينورها القتل، ويشرعن موتها. كان السليماني وحشاً خجولاً مؤمناً بما يقوم به. متعالى إلى الحد الذي يجعلُ من نفسه مُمسكاً بكنزٍ سماوي، بمعرفة تدلهُ عليها السماء، ما لم نستثنِ روح الخميني والخامنئي من بعده. هذا التعالي المرضي، مشعوذ بطريقة رائجة لما بعد الحداثة، التي لا تجترح من العقل وروح الجماعات الحرة والأفراد فيها أي معنى، فتخلق انفعالات رمزية وتمثلات فردية عبثية اسطورية، كتمردٍ على أفكار معقلنة أو معقولة أو طموحة.

فيظهر السليماني في سوريا من دون ضحكة أو ابتسامة، ولا ترتفع يداه لنصرٍ ما، فيبقى متعالياً، موارباً خلف أبواب نصر الجنود وضحكاتهم، يظهر عليه البرد أحياناً، فيسير مُسرعاً في حلب، وبين الجنود الذين لا يهتفون وهم حوله لاحترام بُعده المسلكي الحكيم الهادئ المتأمل. وتهربُ صوره المُسربة إلى الجموع، كخفي معتم ظهر من جسرِ وجوده السماوي إلى السوريين وإلى جماعته وأتباعه نفسهم كحدث أسلوبي نادر.

ورغم عمله في كيان سوريا، التي يبدو فيها النظام الرسمي علمانياً، إلا أنه تعلمَ ألا يحارب قوى لا تعادي عمله، ولا تضرب إسقاطه الخيالي الإلهوي على الواقع. بل أن يبدو أستاذاً حكيماً بتجسدٍ مادي خفيف. فما يعنيه أن يظهر النظام كيفما أراد، لطالما يظهر جانبه التبشيري الأسطوري القوي فعلياً على الأرض. أي أن بشار الأسد ليس سوى (ناسوت) حائر كذوب وضائع، أما السليماني فهو لاهوت يتحدث عن الله ونيابة عن أركانه في إيران، صانعاً لمجد المجتمع الأخلاقي المقاتل المؤمن، والذين جندهم الله بالصلات المباشرة بالناسوت (السليماني) الذي يشق نفسه وصانعيه وأتباعه لكي يصبح لاهوتاً خالصاً. وهو ليس إلا كما يقول كوجييف عن رجال الدين “ناسوت من شأنه أن يجهل نفسه”. متناسياً باستعلائه أنه ناسوت بحت. أو يمكن تأنيسه وفهمه.

ميديا حديثة تُعيد خلقه وأسطرته، موسيقى ذات إيقاع ديني تُصاحب فيديوهاته، خلافاً للناسوتيين المقاتلين العساكر، الذين يجتلبون موسيقى حماسية أو عنفوانية فيشكلون أتباعاً منفعلين ومتماثلين في طغيانهم وتسلطهم. أما السليماني فلا يليق له الظهور سوى كمتأملٍ اختار الحرب لأنها لسان الله فيه وضرورة وجوده، وأن مهامه لا تتوقف بزمنٍ جزئي تُحدده أغنية أو تُنمطه.

لكن السليماني لم يستطع النجاح في البيئة السورية، سوى بالاعتماد على أبناء جلدته، فكانت صدمته في عدم قدرته على تسويغ السلوك الإيماني الجمعي للعلويين بجعلهم إيديولوجيين ثوريين أسوة بالعراقيين واللبنانيين، فخيبوه سريعاً ما أن وصل الروس، وبات الناسوت منتصراً على لاهوته في سوريا. إلا أنه لم يستكن وسارع لاقتناص حربه من النظام والروس والاكتفاء بأتباعٍ شيعة يقاتلون معه وله. هذه الإزاحة الروسية جعلته أكثر استعلاءً، وتمركزاً فاكتفت الميديا الدينية في الشق العراقي واللبناني بتقديسه، أما في سوريا، فتتجلى إيمانيته البحتة. فحتى يوم وفاته، لم تتوقف مليشياته عن القتال والحرب بصمت، وكأن سوريا محج تأملاته وسطوة صبره وتجارب أتباعه والمؤمنين بأفكاره. لقد مات في سوريا اللاهوت البحت، والذي استعان فيه بشار الأسد عنوة وتوافقاً، الحكيم اللاهوتي الذي قاد حرباً دينية يخشى من وضوحها ناسوتي لعوب مثل بشار الأسد توفي قتلاً. هذا النجاح المهيب للاهوت الخفي لن يتكرر بسهولة. ما يُهين موت السليماني في سوريا فرح النظام بموت لاهوتي خدم نظامي ناسوتي بالمطلق، من دون أن ينجح في جعل سوريا اجتماعياً تتبع فكره أو قادته. مات اللاهوت صامتاً متوارياً من دون شهرة أصيلة، أو أتباع سوريين. خدماته الآن تظهر لكنها ستُنسى سريعاً.

المدن

—————————–

رد بارد على اغتيال سليماني؟/ مهند الحاج علي

ليس التكهن بالرد الإيراني على اغتيال قاسم سليماني، قائد فرقة “القدس” في الحرس الثوري الإيراني، سهلاً في هذه المرحلة، سيما أن أحداً لم يتوقع إقدام إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على اتخاذ هذا القرار. لكن سلوك طهران في المنطقة، وتحديداً خلال السنتين الماضيتين، يجعلنا نفكر بـ3 مرتكزات للسياسة الإيرانية والتي بدورها ستُحدد مسار القرار بالرد.

أولاً، ليس هناك ما يوحي بتخلي طهران عن استراتيجية الحروب بالوكالة، وبالتالي من المستبعد أن نرى رداً إيرانياً مباشراً. لم يقع الاغتيال على الأراضي الإيرانية، بل في العراق، ما يضعه في سياق حروب الوكالة التي تمرست فيها إيران خلال الفترة الماضية، وبات سليماني نفسه أحد أبطالها ورموزها.

علينا التفكير هنا بقدرة الوكلاء على الرد، مع أو من دون تجاوز “الخط الأحمر” الذي رسمته الولايات المتحدة وبقوة، أي قتل جنود أو مواطنين أميركيين. يبقى أن استهداف الأميركيين ممكن ومحتمل وربما متوقع في العراق حيث نزع الطرفان قفازاتهما خلال الأسابيع الماضية، وباتت المواجهة بينهما مفتوحة على كل الاحتمالات. لكن من المستبعد وقوع قتلى أميركيين نظراً للقدرات العسكرية المتفوقة والتحصينات. لذا فإن استهداف الأميركيين وقواعدهم مُرجح في العراق (رمزياً) ومستبعد خارجه (سوريا واليمن ولبنان)، على الأقل مرحلياً.

أمام صانع القرار الإيراني هدفان أساسيان قد يرمي إلى تحقيقهما من خلال التصعيد في العراق، وهما انسحاب أميركي ووقف للاحتجاجات المناوئة من خلال المزيد من القمع والاعتداءات الدموية على المتظاهرين العراقيين. ذلك أن اغتيال “أبو مهدي المهندس” قد يُساعد حلفاء إيران في العراق على تبرير موجة جديدة من العنف، بحجة اصطفاف المحتجين مع الولايات المتحدة، سيما في حال تبدل جذري في موقف مقتدى الصدر.

لكن، في المقابل، بإمكان إيران التصعيد أكثر في مواجهة حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. وهنا نجد مروحة من الاحتمالات تتراوح بين استخدام الميليشيات للتصعيد، والعودة الى مجموعة الأهداف السابقة من تفجير ناقلات نفط إلى عمليات قصف صاروخية لبنى تحتية حيوية لاقتصاد المنطقة والعالم. وهذه كارثة على المنطقة بأسرها.

ثانياً، لم يتهور الإيراني في الرد، إلى الآن على الأقل، بل يدرس عادة خياراته بهدوء ويبقى ضمن أولوياته الاستراتيجية. سبق لإسرائيل أن قتلت قادة وجنوداً ايرانيين على الأراضي السورية، وجاء الرد باهتاً بصواريخ لم تصب أهدافها في الجولان السوري. ليس لأن طهران غير قادرة على ضرب إسرائيل وايقاع ضحايا، بل لأن لإيران أولويات استراتيجية في سوريا منها انقاذ النظام السوري والتأسيس لنفوذ طويل الأمد. حتى هذه اللحظة، لا يبدو أن النمط الإيراني في اتخاذ القرار قد تغير.

ثالثاً، للداخل الإيراني حسابات في السياسة الخارجية، سيما في هذه المرحلة الحساسة. ذاك أن سليماني تمتع خلال الفترة الماضية بشعبية كبيرة في أوساط الإيرانيين، ظهرت في استطلاعات الرأي، إذ إن للرجل معجبين من خارج نادي مؤيدي النظام. وبالتالي، يُساعد هذا الاغتيال النظام على تجاوز النقمة الشعبية على تردي الوضع الاقتصادي نتيجة العقوبات الأميركية وتراجع صادرات النفط إلى عشرة بالمئة مما كانت عليه قبل سنوات قليلة.

لكن في المقابل، ستنعكس أي حرب أو مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة سلباً على الاقتصاد الإيراني، وعلى قدرة النظام في ضبط الداخل، وستزيد من احتمالات ضعفه وربما انهياره.

لهذا السبب، يُرجح أن تلجأ ايران إلى الوكلاء للتصعيد في المنطقة دون تجاوز خطوط ترامب. لكن هنا لحظة مصارحة مؤلمة مع الواقع إذ يهتز العالم لمقتل أميركي أو إيراني، في حين يستحيل الآلاف من أبناء العراق وسوريا ولبنان واليمن مجرد أرقام لا يحتسبها أو يكترث بها أحد أباطرة حروب الوكالة.

الرد الإيراني سيُعري واقعاً مؤلماً في وضوحه ووقاحته.

المدن

————————

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى