الناس

تحلمُ بأن تكون مخبراً؟.. إستخدم “الخط البعثي”!/ وليد بركسية

يبدو أن حزب “البعث” الحاكم في سوريا منذ نحو 56 عاماً، وجد طريقة “مبتكرة” لإبعاد صفة الخشبية والتحجر عنه وعن المنتمين إليه، بالاستفادة من التكنولوجيا الحديثة لتطوير أساليبه الروتينية في قيادة البلاد وتنفيذ مزيد من الاستغلال بحق السوريين. إذ بات في إمكان الرفاق البعثيين المخلصين، كتابة التقارير التي اعتادوا تسلميها باليد للقيادة المختصة، إلكترونياً عبر قوة الإنترنت، بالاستفاد من خدمة “خط بعثي” التي يقدمها موقع “البعث ميديا” الرسمي.

ونشرت صفحات تابعة لحزب “البعث” في “فايسبوك” إعلاناً عن الخدمة جاء فيه أن من لديه شكوى تتعلق بالحزب أو أحد الرفاق (أعضاء أو قياديين)، ويود إيصالها بسرية تامة إلى القيادة القطرية مباشرة، ما عليه إلا أن يدون شكواه مرفقة بمعلوماته الشخصية. مع الإشارة إلى أن المعلومات الشخصية المدونة “تخضع لمعايير حماية الخصوصية، ولا يتم تداولها من قبل أي طرف ثالث”.

وفيما يبدو الإعلان ككل أشبه بنص مكتوب في جريدة “الحدود” الساخرة الشهيرة، إلا أن الواقع في سوريا الأسد يتخطى حدود الخيال والمنطق. فقد عمم نظام الأسد، منذ عقود، ظاهرة كتابة التقارير، عبر زراعة عملاء للأجهزة الأمنية في أنحاء البلاد، من أجل كتابة التقارير الأمنية، والتي أودت بكثيرين إلى معتقلات المخابرات، وكانت تلك الطريقة واحدة من خصائص الدولة البوليسية المروعة التي بناها حافظ الأسد واستكمل نهجها ابنه بشار.

ورغم أن الخدمة أطلقت العام 2014، إلا أن الحزب لم يقم بالترويج لها على نطاق واسع. ولهذا لم ينتبه السوريون لوجودها أصلاً، مع الانشغال العام في تلك الفترة بقضايا أكثر إلحاحاً حيث كانت البلاد تشهد تقلبات سياسية وعسكرية كبيرة، مع تراجع النظام حينها وظهور تنظيم “داعش” وسيطرة المعارضة على أجزاء واسعة من البلاد، قبل التدخل الروسي المباشر الذي قلب موازين القوى منذ العام 2015.

ويجب القول أن الإعلان البعثي عن الخدمة “المبتكرة” يفتقد للابتكار، وربما كان الأجدى تقديمه عبر إعلان مصور ليتم بثه عبر المحطات التلفزيونية وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، كي يراه جميع الراغبين في الانضمام لجيش المخبرين الموجود أصلاً. وأن يأخذ صيغة مثل: “هل تريد ان تكون مخبراً؟ لا توجد شعبة بعثية قريبة من منزلك؟ تفضل السرعة على الانتظار؟ خطك سيء وتحب التكنولوجيا؟ لا تقلق يا رفيق، حزبنا المعادي لقوى الإمبريالية والعولمة يستخدم التقنية للصالح العام فقط، فاليوم بات بإمكانك استخدام “خط بعثي”! خدمة جديدة وخاصة نقدمها لك مجاناً. ما عليك إلا الدخول الى بوابة البعث ميديا الإلكترونية، إملأ الاستمارة المطلوبة، ليصل تقريرك فوراً إلى القيادات المختصة. لا تنسى ترداد الشعار في نهاية الطلب! والنصر لقضية شعبنا”.

وطوال سنوات كانت عبارة “الحيطان إلها آدان”، جملة يعرفها أي سوري، منذ طفولته، للتحذير من الخوض في السياسة خوفاً من “كتّاب التقارير” المتعاملين مع مخابرات النظام. ولم يكن بالإمكان التعامل بأريحية أمام الغرباء أو في الأماكن العامة، وحتى في الجلسات الخاصة. فرغم أن بعض الأشخاص معرفون في مجتمعاتهم المحلية بأنهم “كتّيبة تقارير” إلا أنه لا يمكن الحكم على أحد بمجرد معرفته، ولا يمكن الثقة في أحد، وبالتالي من الأسلم الخضوع بصمت.

من هذا المستوى كان النظام يعمل على زرع الخوف لدى الشعب السوري، من النظام نفسه لأن العقوبات المروعة، من الاعتقال إلى الإعدام، تنتظر كل من تسول له نفسه التفوه بكلمة غير مرغوبة، كالتحدث بسوء عن شخص الرئيس أو أقاربه، أو إبداء اعتراض على سياسة الدولة أو التذمر من الأوضاع الاقتصادية، إلى الخوف من الآخرين، ما يخلق مجتمعات مفككة، يتربص بعضها ببعضها الآخر، وتسهل السيطرة عليها نظرياً، لأن المخبر يمكن أن يكون أي شخص: سائق التاكسي، الحلاق الثرثار، الزميل في الدائرة الرسمية، وحتى الصديق على مقعد الدراسة…

ضمن هذا المناخ البوليسي، كان المخبر، المعروف في دوائره الضيقة بأنه مخبر، يحظى بشيء من النفوذ والاحتقار في الوقت نفسه. وتكرست تلك الظاهرة بعد أحداث الثمانينيات في حماة، حيث ركز النظام على تأسيس جيش من المخبرين غير الرسميين، كما انتشرت التقارير الكيدية، التي يستطيع أي شخص تقديمها للجهات الأمنية لإلحاق الضرر بشخص آخر، لأسباب شخصية بحتة. وتمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي، وأحاديث السوريين الخاصة، بقصص عن حالات اعتقال مؤلمة من هذا النمط، وهو ما تكرر بشكل واضح في التعليقات المتفرقة على الإعلان الجديد.

وكانت هناك أسباب كثيرة لانضمام الأفراد إلى تلك “المهنة”، كالعامل المادي أو الرغبة في النفوذ والتقرب من السلطة، بالإضافة لنموذج “المخبر المجرم”، حيث عقد النظام صفقات مع مسجونين بقضايا جنائية، لإطلاق سراحهم مقابل كتابة التقارير، وبالتالي أُعطيت لهم مساحة الانتماء بدلاً من النبذ، ما يضمن ولاءهم، وعمل هذا النمط بالتحديد على ترهيب السوريين علناً تحت جناح القانون. وتطور هذا النموذج، ليخلق ظاهرة الشبيحة الذين ساهموا في قمع المظاهرات السلمية بعد الثورة السورية العام 2011 وفي الحرب التي شنها النظام ضد شعبه في وقت لاحق.

ورغم عداء النظام العام للتكنولوجيا التي يصفها دائماً في خطابه الدبلوماسي والإعلامي، بأنها شريكة في الحرب الكونية على “الدولة السورية”، يحاول الاستفادة منها لتحديث أساليبه القمعية والترهيبية الكلاسيكية.

لكن مع انتشار الإعلان الجديد للخدمة، تذكر السوريون في “فايسبوك” و”تويتر” ذلك الماضي المظلم، الذي كان أحد أسباب الثورة على النظام السوري أصلاً، كما امتلأت مواقع التواصل بمنشورات ساخرة من عقلية النظام الأمنية إلى جانب قصص توثق تجارب أصحابها مع المخبرين في سوريا الأسد، والتي حملت كثيراً من عبارات الاحتقار لنموذج الدولة البوليسية.

وهنا يمكن تلمس الهوة التي تفصل النظام، بوصفه سلطة سياسية فاقدة للشرعية، عن السوريين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية. ففيما يحاول النظام تجديد نفسه بالعودة إلى جذوره، تبقى فلسفته الشمولية محافظة على إطارها العام: “المواطنة تعني الخضوع التام للقيادة”، لكن السوريين عبروا بوضوح عن تجاوزهم لتلك المرحلة وباتوا بحاجة لنظام سياسي يلبي تطلعاتهم ضمن عقد اجتماعي جديد لا يقوم على الخضوع، وكان ذلك بالتحديد محور الثورة السورية المطالبة بالكرامة والديموقراطية معاً، ولهذا بالتحديد تبقى الثورة السورية مستمرة ولو ادعى النظام العكس.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى