سياسة

تقارب المصالح/ سلام الكواكبي

تُهيمن العواطف الجياشة والتفكير الرغبوي على التحليلات السياسية المتعلقة بالملف السوري وخصوصاً في استنباط الاستنتاجات والتوقعات المرتبطة بالتطورات الأخيرة الحاصلة في السياسة التركية تجاه المسألة السورية والتقارب التركي الروسي القائم.

ويبدو واضحاً من خلال متابعة الآراء المتعددة هيمنة الاستقطاب شديد التطرف والحدية في الآراء. فمن جهة، لدينا مدافعون مستميتون عن مجمل المواقف التركية وهم أصحاب ميول تبريرية لكل تفاصيل الأداء التركي الماضي والحالي، وذلك مهما انعكس هذا الأداء نظرياً أو عملياً بشكل سلبي على مصالح السوريين كشعب عموماً، ومن جهة أخرى، هناك جموع المنددين والمهاجمين لهذه السياسات في المطلق والتي غالباً ما يتم استسهال نسبها إلى محطات وذرائع تاريخية مرتبطة بالحلم العثماني الحقيقي أو المتخيل.

وفي محاولة باردة لفهم تطور العلاقة التركية مع روسيا، يجدر التوقف عند “الطلاق” الذي تم بين تركيا وأميركا في إدارة الملف السوري. فهناك تفاوت وتعارض وتصادم واضح بين المصالح التركية والمصالح الأميركية في المشهد السوري. وقد سبق للأميركيين تسليح وتدريب ميليشيات قسد، مما دفع الأتراك إلى اعتبار أن الدولة الأهم في الحلف الأطلسي الذي تنتمي إليه تركيا تُسلّح وتُدرّب مقاتلين يوجهون أسلحتهم إلى الجانب التركي. ويعتبر الأتراك، على مختلف مشاربهم السياسية من موالين ومعارضين لرجب طيب أردوغان، بأن الأخير لا يمكنه قبول هذا الأمر كما سواه من الأتراك، لدرجة أن البعض منهم يعيب عليه مدى صبره تجاه تفاقم هذا الوضع.

هذا الصدام السياسي الواضح دفع بأنقرة إلى أحضان موسكو مع التأكيد بأن الشعور الغالب الذي وصل إلى الساسة الأتراك باكراً هو بأن روسيا البوتينية صارت قوة دولية صاعدة، وبأن ما تُمليه إقليمياً ودولياً يلقى معارضة خجولة من الغرب تكاد تشبه القبول على مضض. يُضاف إلى هذا التقييم البارد، شعور أكثر دفئاً بموقف تضامني روسي مع تركيا الأردوغانية بعد انقلاب تموز 2016. موقف غاب تماماً عن الحلفاء الغربيين التقليديين لتركيا الذين إما هم التزموا صمت الحملان أو عبروا بنصف الكلام عن تأييد مموّه للانقلاب أو بنصف آخر عن تنديد خجول به.

ويعتبر الساسة الأتراك بأن روسيا، وعلى الرغم من تقربها من القادة الكرد في ميليشيات قسد، إلا أنها تجنبت تسليحهم وتدريبهم، في العلن على أقل تقدير. ويترجم الأتراك هذا الموقف على أنه فهم روسي للمسائل الحساسة في الملف الكردي التي تؤجّج الحذر التركي، في حين أن الغرب في تعامله مع هذا الملف قد أظهر مستوى عالٍ من الأنانية والفردية تجاه المصالح التركية “المشروعة” أمنية كانت أم سياسية.

والتقارب الحاصل في السنوات الأخيرة بين موسكو وأنقرة سبقه تاريخ غني بالصدامات بين روسيا القيصرية والسوفييتية مع تركيا العثمانية والكمالية. وقد تواجه الطرفان في القوقاز وفي البلقان وفي آسيا الوسطى وكان النصر روسياً دائماً. وقد سجلت روسيا القيصرية نفسها عنصراً مهيمناً في الداخل العثماني عندما فرضت حمايتها للأرثودوكس في الإمبراطورية. وتأجج العداء في الحقبة السوفييتية حيث شعرت تركيا بالتهديد الشيوعي مما رمى بها في أحضان الغرب الأطلسي كما اعتبرت موسكو أن تركيا تشجع التوجهات الإسلامية في جمهوريات الاتحاد السوفييتي الآسيوية. وقد هدأت الأمور مع نهاية الحرب الباردة، فابتعدت موسكو نظرياً عن الحدود التركية ليحل مكانها أرمينيا وجورجيا وأوكرانيا كجيران مباشرين.

رغم هذا التنافر التاريخي، فلا يجب إهمال تقارب تاريخي نسبي يمكن تلمّسه في الجناح اليساري من الكمالية التركية والذي يستند أساساً إلى التقارب الكمالي مع توجهات الثورة البلشفية في معاداة الامبريالية الغربية في عشرينات القرن الماضي على الرغم من مواجهة اليسار التركي المحلي بدموية من قبل التيار الكمالي. وتأسس على هذا التاريخ توجه مشترك لمواجهة التوجه الغربي التوسعي.

وعلى الرغم من أن التاريخ حمل عدة حروب وقعت بين تركيا العثمانية وروسيا القيصرية، لدرجة أن تعبير “الموسكوف” تركياً يحمل دلالات سلبية، إلا أن معاداة الغرب في العصر الحديث تُعتبر سمة مشتركة بين السياستين الروسية والتركية خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتحميل الكرملين حتى اليوم المسؤولية للغرب من جهة، واستبعاد تركيا من المشروع الأوروبي بطرق متنوعة من جهة أخرى. فالتوجه الذي أسس له الروس تحت مسمى الأوراسية الذي يضم القوى الصاعدة في آسيا الى جانب روسيا الأوروبية، يستهوي تركيا التي تبحث عن توسّع اقتصادي وسياسي بعيداً عن الغرب غير الراضي عنها وغير القابل بها. والأوراسية المُتبناة تركياً ليست محصورة في القيادات السياسية لا بل إنها تلقى تجاوباً ودعماً مجتمعياً أيضاً.

ومن جهة المصالح الاقتصادية، يبدو أن السوق الروسية كما السياحة الروسية كانا عاملين أساسيين أثرّا بقوة لدى الجانب التركي في إعادة الحرارة المرتفعة إلى العلاقات بين البلدين. أُضيف إلى البعد الاقتصادي بُعدٌ عسكري ترجمته تلبية الصناعة الحربية الروسية للاحتياجات التركية المحظورة غرباً.

من النادر أن يُلقي التحليل العاطفي نظرة شاملة وواسعة وثاقبة في المسارات السياسية خصوصاً إن تمتّعت الثقافة السياسية السائدة بمنطق الأبيض أو الأسود، والعدو الدائم أمام الصديق الدائم.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى