سياسة

عن المنطقة الامنة في شمال سورية -مقالات مختارات-


الأغراض السياسية والعسكرية من المنطقة الآمنة في سوريا/ أكرم البني

لم يلتفت أحد إلى الشعب السوري عندما كان في أمسّ الحاجة إلى منطقة آمنة، تقيه الموت والاعتقال والتشريد، وبقي شعار «المنطقة الآمنة مطلبنا» الذي رفعه المتظاهرون السلميون مطلع ديسمبر (كانون الأول) عام 2011 مجرد شعار بارد، لم يلبث أن طُوي مع إحجام العالم كله عن تقديم يد العون لشلّ القدرات الضاربة والأكثر فتكاً للسلطة السورية وحلفائها، لكن وللأسف، تغدو المنطقة الآمنة اليوم مشروعاً قابلاً للتنفيذ مع توافق المصالح والحسابات «الأنانية» للنخب الحاكمة في أهم الدول المنخرطة في الصراع السوري.

لم تأتِ الموافقة الصريحة للرئيس الأميركي دونالد ترمب على منطقة آمنة إلا عندما قرر سحب قواته من شرق سوريا، ربما لحفظ ماء الوجه، وكي لا يبدو قرار انسحابه أشبه بمزيد من الإذعان والتسليم لإرادة موسكو في تقرير مصير سوريا، وربما كمخرج لا يظهره كمن خذل حلفاءه الأكراد وتركهم لقمة سائغة أمام الجيش التركي، ما يعرقل الاتجاه الكردي الذي يميل إلى مهادنة النظام والعودة إلى أحضانه، وربما لإرضاء حكومة أنقرة ولجم اندفاعها، وإنْ مؤقتاً، لملء الفراغ وتوسيع رقعة حضورها عسكرياً، من دون أن نغفل توظيف هذا الخيار لإشراك أطراف عربية في التأثير بالمستقبل السوري، من خلال دعوته لها كي تتحمل جلّ الأعباء المادية لإنشاء المنطقة الآمنة، وفي الطريق مغازلة الموقف الأوروبي الذي يميل، عبر تصريحات ألمانية وفرنسية وبريطانية، إلى إنشاء منطقة آمنة. والدافع مشترك هو التعويل على هذه المنطقة لاحتواء سيل الهاربين من أتون العنف، وتخميد نزوعهم للهجرة نحو البلدان الغربية، وأيضاً لضمان إغلاق الحدود بين سوريا وتركيا، وعرقلة التحاق «الجهاديين» الإسلامويين ذوي الأصول الأوروبية بالجماعات الإرهابية هناك.

في المقابل، وبرغم تكرار مطالبة تركيا بمنطقة آمنة، لكن يبدو أنها تتحسب اليوم من أن يعيق هذا الخيار تمددها وتوسيع نفوذها في سوريا، خاصة إنْ لم تستطع تسخير تلك المنطقة لقطف بعض المنافع والثمار. أولاً، تحصيل شرعية دولية عبر قرار أممي لإدارة هذه المنطقة، وتالياً لوجود تركيا العسكري في سوريا، ما يخفف حاجتها إلى التوافق مع موسكو في هذا الصدد، ويساعدها على ربط هذه البقعة الجغرافية، اقتصادياً وأمنياً وتعليمياً، بها، كما فعلت في كل موقع احتلته عسكرياً. ثانياً، مدّ نفوذ تركيا إلى شرق البلاد عندما تشمل المنطقة الآمنة شريطاً حدودياً بطول 80 كيلومتراً، وبعمق يتجاوز 40 كيلومتراً، بما يمكنها من وقف تدفق مزيد من اللاجئين السوريين إلى أراضيها ثم تأهيل تلك المنطقة لاحتواء قسم كبير منهم يمكن تسييره من مخيمات اللجوء، عدا تحويلها إلى ما يشبه القاعدة لتجميع فصائل المعارضة المقربين منها، وتأهيلهم كورقة ضغط في مفاوضات المحاصصة على النفوذ في سوريا والمشرق العربي! ثالثاً، وهو الأهم، توظيف تلك المنطقة كشريط عازل على طول الحدود لوأد احتمال تبلور وضع عسكري وميداني للأكراد السوريين، يؤهلهم لإقامة كانتونهم القومي، بما في ذلك التنكيل بهم وإرهابهم، والمثال مدينة عفرين، لإجبارهم على الهجرة وإحلال جماعات أهلية موالية لأنقرة مكانهم، ما يضعف وزن حزب العمال الكردستاني، ويعزز مواجهته عسكرياً على الأرض التركية وتطويع ملحقاته السياسية ووسطه الانتخابي.

لا يمكن تفسير سياسة موسكو التي تفهمت تصريحات ترمب حول المنطقة الآمنة، وإن اشترطت موافقة دمشق المسبقة عليها، إلا بأنها نوع من المرونة، كأن الغرض هو مغازلة الرئيس الأميركي وتخفيف ردود الفعل ضده على مشارف انسحاب قواته من سوريا، أو الاستعانة بفكرة المنطقة الآمنة لمحاصرة تمدد طهران والميليشيا الموالية لها في شرق البلاد، وربما لتشجيع الأكراد السوريين على التعاطي الإيجابي مع حكومة دمشق، بدليل بدء رعاية موسكو مفاوضات مشتركة بينهما، أو لإيجاد معيار جديد في التعاطي مع الوجود التركي في سوريا، تمهيداً لنسف اتفاق سوتشي حول مدينة إدلب، والبدء بتهيئة الأجواء لحرب استئصال تهضم آخر منطقة من مناطق خفض التصعيد، متوسلة عجز أنقرة عن الحد من مخاطر «جبهة تحرير الشام» (النصرة) التي تمكنت من توسيع سيطرتها في إدلب وأرياف حماة وحلب.

ويبقى الواضح هو إصرار النظام السوري وحليفته إيران على رفض فكرة المنطقة الآمنة، تحت ادعاء أنها تشرعن تقسيم البلاد، ولكن الحقيقة تتجلى بدافع استئصالي عميق لديهما ضد ثورة السوريين يحدوه تصعيد العنف والقتل والتدمير وتشديد الحصار لإثارة رعب المدنيين وإرهابهم وإجبارهم على الفرار أو تهجيرهم قسرياً، بما في ذلك رفض تحييد أي بقعة سورية يناهضها أهلها، ويمكنها استقبال النازحين وتجنيبهم شروط اللجوء القاسية خارج البلاد!

من تحصيل الحاصل أن تعلن المعارضة السورية التي طالما طالبت بمنطقة آمنة، موقفاً مؤيداً لإعلان ترمب، لكن مع تحسبها من أن لا يفضي ذلك إلى إرباك مصالح راعيتها تركيا، بينما نكأت عودة الحديث عن منطقة آمنة جروح غالبية السوريين المنكوبين، وأثارت عندهم سؤالاً لا يزال مفتوحاً على الغموض والضياع؛ هل ستسمح فعلاً المستجدات اليوم بتبلور تفاهم أممي يفرض منطقة آمنة تكون حلقة داعمة لمسار التسوية السياسية، وفاتحة لتخفيف معاناة السوريين وما يكابدونه، أم سيغدو هذا الهدف سبباً لمزيد من التجاذبات الإقليمية والدولية، وحافزاً لتسعير الصراع الدموي وتعميق حالة الانقسام والتشظي والقهر في المجتمع السوري؟

صحيح أن المنطقة الآمنة كانت باب خلاص لشعوب عانت الأمرين من الحروب والفتك والاضطهاد، كشمال العراق عام 1991، ثم البوسنة عام 1992، وبعدهما ليبيا عام 2011، وصحيح أن ثمة حاجة أخلاقية وإنسانية مزمنة لبذل جهد أممي يعمل على منطقة آمنة للشعب السوري بعيدة عن العنف والتنكيل السلطويين، وخالية من «داعش» والتنظيمات الإرهابية الأخرى، ولكن الصحيح أيضاً أن ثمة مياهاً كثيرة جرت، بدّلت توازنات القوى، وغيرت المواقف والاصطفافات، وأفقدت المنطقة الآمنة جدواها الإنسانية، لتغدو محكومة بأغراض سياسية وعسكرية، تتقارب حيناً وتتعارض أحياناً، بين أهم الأطراف الفاعلة والمؤثرة بالصراع السوري، ما يجعلها أشبه بكرة ثلج تتدحرج وتكبر من دون اتجاهات معروفة لها، ويرجح أن تفتح على معطيات وتحديات جديدة قد تمهد لإبقاء الإقليم في حالة توتر وعدم استقرار، هذا إنْ لم تستجرّ صراعات وحروباً لا أفق لها.

الشرق الأوسط

المنطقة الآمنة والهواجس التركية/ بكر صدقي

هبطت فكرة “المنطقة الآمنة” التي ذكرها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إحدى تغريداته، كالقنبلة الموقوتة على رؤوس كثير من الفاعلين الإقليميين في الصراع السوري. أما التهديد بتقويض الاقتصاد التركي “إذا هاجمت تركيا الأكراد في سوريا” الذي ورد في التغريدة نفسها، فربما كان رداً من واشنطن على المهانة التي تعرض لها مستشار الأمن القومي جون بولتون والوفد المرافق له في أنقرة حين رفض أردوغان استقباله. وقد جاءت المكالمة الهاتفية بين الرئيسين التركي والأميركي لتتجاوز آثار تهديد ترامب، وتضع أسس تفاهم لا نعرف محتواه وتفاصيله بين واشنطن وأنقرة حول مصير شرقي الفرات بعد انسحاب القوات الأميركية.

وإذا كانت عبارة “المنطقة الآمنة” قوبلت بارتياب في بعض الإعلام التركي، فقد اعتبرها بعض آخر بمثابة انتصار دبلوماسي لتركيا وأردوغان بالذات، من خلال تصوير الأمر على أن الرئيس التركي تمكن من إقناع ترامب بالمطالب التركية الخاصة بإبعاد “الخطر الكردي” المفترض عن حدودها الجنوبية.

أما الارتياب والتوجس فيعودان إلى تشبيه ما يحدث اليوم في شمال سوريا بما حدث في شمال العراق وأدى إلى قيام كيان كردي شبه مستقل عن العاصمة بغداد. في حين إن المتفائلين، في الرأي العام التركي، يرون أن عمق 20 ميلاً (32 كم) الذي ذكره الأميركيون، هو نوع من منطقة عازلة يتم إخلاؤها من الكرد، أو على الأقل من وحدات حماية الشعب التي تعتبرها أنقرة منظمة إرهابية والفرع السوري لحزب العمال الكردستاني.

يتابع مراسل صحيفة “خبر ترك” الإلكترونية في واشنطن “سردار تورغوت” هذا الموضوع بشكل يومي، من خلال مصادره السياسية والإعلامية والدبلوماسية في العاصمة الأميركية. فيما يلي بعض مما كتبه تورغوت بخصوص موضوع المنطقة الآمنة:

في شباط 2018 تم عقد اجتماع أمني خاص، في واشنطن، موضوعه مصير كرد سوريا في شرق نهر الفرات، ترأسه وزير الخارجية الحالي مايك بومبيو الذي كان، حينذاك، مدير المخابرات المركزية الأميركية، وحضره رؤساء أجهزة الاستخبارات الروسية الذين كانوا، رسمياً، ممنوعين من دخول الولايات المتحدة. وقد دار النقاش، في هذا الاجتماع، حول خطة أعدها المستشرق الروسي المقرب من دوائر صنع القرار في موسكو فيتالي نعومكين.

ويعتبر “تورغوت” أن “الدولة الأميركية العميقة” حسب تعبيره “مغرمة” بفكرة إقامة دولة كردية مستقلة، ويزعم أن البنتاغون قد أعد خارطة لتلك الدولة المفترضة منذ العام 1992، وكانت تمتد من شمال العراق إلى شمال سوريا، لينتهي إلى تأكيد انتصاري بأن تركيا بقيادة أردوغان قد مزقت تلك الخريطة، أي خربت مخططات واشنطن بشأن الدولة الكردية المفترضة.

وهكذا، حين عقد اجتماع واشنطن الأمني الأميركي – الروسي، في شباط 2018، كانت الولايات المتحدة قد اقتنعت ببطلان صلاحية الخارطة المذكورة، وشعرت بالحاجة

إلى خطة جديدة بشأن شرقي الفرات. “فيتالي نعومكين قدم الخطة المطلوبة للأميركيين” يقول تورغوت، ويضيف مؤكداً أن “الدولتين العميقتين” في موسكو وواشنطن وصلتا إلى اتفاق مبدئي حول وجوب المراعاة الصارمة لأمن الحدود التركية ومصالح أمنها القومي.

تتضمن خطة نعومكين التي يسميها “نموذج شمال العراق”، وفقاً للمراسل التركي، إدارة ذاتية كردية على أن تكون بعيدة عن الحدود التركية بمسافة 30 كم على الأقل، وأن يرفع العلم السوري على حدودها، ولا يكون فيها جيش (كردي). أما “المجموعات المسلحة الكردية” فيمكنها أن تقوم بدور شرطة محلية. كما يرتفع علم الدولة السورية على الدوائر الحكومية، ويتم الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وعلى ألا يدخل الجيش السوري مناطق الإدارة الذاتية، دائماً وفقاً لمعلومات المراسل سردار تورغوت.

قام نعومكين، هذا الشهر، بزيارة واشنطن ليشرح تفاصيل خطته المذكورة للنخب السياسية الأميركية، فتحدث في جامعة جورج تاون أمام جمهور ممن تلقوا دعوات خاصة. وبعد عودته إلى موسكو جرى اتصال هاتفي بين الرئيسين الأميركي والروسي، استغرق ساعة ونصف، كان موضوعه خطة نعومكين، حسب المراسل التركي الذي يضيف قائلاً إن الرئيسين قد اتفقا، من حيث المبدأ، على الاهتمام بشكل خاص بالهواجس التركية بشأن أمنها القومي، وبحيث لا تنشأ “أوضاع غير مرغوبة من تركيا على حدودها الجنوبية”.

ويختم تورغوت تقريره المتفائل من وجهة النظر التركية بالقول إن الاستعدادات الأولية لعقد قمة ثلاثية بين ترامب وبوتين وأردوغان، في أواخر العام الجاري، قد بدأت فعلاً.

هل خليط المعلومات والافتراضات والرغبات الذي يتألف منه تقرير المراسل التركي يعكس الحقيقة فعلاً، أم أنه محكوم، إلى حد كبير، بنظريات المؤامرة من جهة، وتحويل الرغبات إلى وقائع متخيلة من جهة ثانية؟ هذا ما ستكشفه لنا الأسابيع القادمة.

تلفزيون سوريا

وثائق الاتفاق السوري ـ التركي- أضنة

في أواخر التسعينات ازدادت حدة التوتر كثيراَ في العلاقات بين تركيا ونظام حافظ الأسد بسبب الدعم المتواصل من قبل الأخير لتنظيم حزب العمال الكردستاني PKK، وإقامة زعيمه عبدالله أوجلان في العاصمة دمشق إلى جانب عدد من قياديي الحزب، ورعاية نظام الأسد الأب لمعسكرات تدريب الحزب في داخل الأراضي السورية ومنطقة البقاع في لبنان التي كانت تحت نفوذ جيش النظام في ذلك الوقت.

حشدت تركيا قواتها على الحدود مع سوريا في تشرين الأول من عام 1998، وهدّدت بعملية عسكرية في الوقت الذي أعلن فيه الرئيس التركي حينها سليمان ديميريل “أن صبر تركيا قد نفذ تجاه سياسيات سوريا المعادية”، في إشارة منه لاحتواء النظام لقيادات حزب العمال وإنشائه معسكرات تدريب له داخل الأراضي السورية.

رضخ الأسد الأب لجهود الوساطة بقيادة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، التي تكللت بتوقيع اتفاق أضنة في 20 تشرين الأول عام 1998، والتي شكلت نقطة تحول فارقة في العلاقات بين البلدين، قدّم فيها الأسد تنازلاً كاملاً ووافق على المطالب التركية كافة.

وبعد أن طُرد أوجلان من قبل الأسد إلى روسيا ومن ثم انتقل بعد ذلك إلى دول أوروبية واستقر به المطاف في العاصمة الكينية نيروبي، قبضت تركيا عليه في نيروبي في 15 شباط 1999 بعملية استخباراتية معقدة.

الجدير بالذكر أن عبدالله أوجلان المولود في قرية ايمرلي بولاية أورفا جنوبي تركيا عام 1948، دخل الأراضي السورية في نهاية عام 1979 بعد عام من تأسيسه حزب العمال الكردستاني.

وعقد أوجلان المؤتمر الثاني للحزب داخل سوريا في عام 1982، لينجح بعدها باستقطاب عشرات آلاف المقاتلين الكرد لبدء الحرب ضد تركيا عام 1984.

على ماذا نص اتفاق أضنة؟

1 – إعطاء أنقرة الحق بملاحقة «حزب العمال الكردستاني» لعمق 5 كيلومترات شمال سوريا، بموجب الملحق رقم 4 لاتفاق أضنة.

2 – تتخلى دمشق عن أي مطالبة بحقوقها في لواء إسكندرون (إقليم هاتاي) الذي ضمّته تركيا في 1939، بموجب الملحق رقم 3.

3 – اعتبار «حزب العمال الكردستاني» بزعامة عبد الله أوجلان، المعتقل في تركيا منذ بداية 1999، «تنظيما إرهابياً»، بموجب نصوص الاتفاق.

4 – أنقرة تفسر الاتفاق على أنه يعني أن «وحدات حماية الشعب» الكردية هي «تنظيم إرهابي»، باعتبار أن أنقرة تعتبرها ظلاً سورياً لـ«حزب العمال».

5 – في المقابل، يعني تنفيذ الاتفاق اعتراف أنقرة بشرعية الحكومة السورية؛ لأن تنفيذ الاتفاق يتطلب كثيراً من الإجراءات، بينها تشكيل لجنة مشتركة وتشغيل خط ساخن.

6 – كما يعني بدء اتصالات سياسية مباشرة، بدلاً من «اتصالات غير مباشرة» أقرّ بها وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، ما يعني أنها تتم عبر الجانب الروسي.

7 – يعني أيضاً، إعادة تشغيل السفارة التركية في دمشق، والسفارة السورية في أنقرة، علماً بأن لدمشق قنصلية في إسطنبول، باعتبار أن الاتفاق يتطلب تعيين ضابط ارتباط أمني في كل سفارة.

8 – يعني أيضاً، انتشار القوات الحكومية السورية على الحدود، والاعتراف بالحدود القائمة، علماً بأن فصائل معارضة إسلامية تسيطر على الحدود من منطقة «درع الفرات» في جرابلس إلى باب الهوى في إدلب إلى حدود اللاذقية على البحر المتوسط، فيما تسيطر «قوات سوريا الديمقراطية» التي تضم «وحدات حماية الشعب» الكردية، على الحدود من جرابلس شمال حلب إلى فش خابور قرب حدود العراق شرقاً.

9 – كما أنه يقدم بديلاً من التفاهم التركي – الأميركي حول عمق «المنطقة العازلة» البالغ 32 كيلومتراً شمال شرقي سوريا، إذ إنه يسمح لقوات تركية بالتوغل بعمق 5 كيلومترات فقط.

10 – يعني أيضاً دفع «وحدات حماية الشعب» الكردية من موقع الخصم مع دمشق، وفرملة المفاوضات الجارية بتقطع، والقضاء على مشروع «الإدارة الذاتية» الذي دعم الأميركيون والتحالف الدولي إقامته شرق نهر الفرات.

هنا نص اتفاق أضنة وملاحقه

محضر اجتماع الوفدين السوري والتركي في مدينة أضنة، ونص الاتفاق الموقع بتاريخ 20 أكتوبر (تشرين الأول) 1998…

في ضوء الرسائل المنقولة باسم سوريا من خلال رئيس جمهورية مصر العربية، صاحب الفخامة الرئيس حسني مبارك، ومن خلال وزير خارجية إيران سعادة وزير الخارجية كمال خرازي، ممثل الرئيس الإيراني صاحب الفخامة محمد سيد خاتمي، وعبر السيد عمرو موسى، التقى المبعوثان التركي والسوري المذكور اسماهما في القائمة المرفقة (الملحق رقم 1)، في أضنة يومي 19 و20 أكتوبر (تشرين الأول) العام 1998 لمناقشة مسألة التعاون في مكافحة الإرهاب.

خلال اللقاء، كرر الجانب التركي المطالب التركية التي كانت عرضت على الرئيس المصري (الملحق رقم 2)، لإنهاء التوتر الحالي في العلاقة بين الطرفين. وعلاوة على ذلك، نبّه الجانب التركي الجانب السوري إلى الرد الذي ورد من سوريا عبر جمهورية مصر العربية، والذي ينطوي على الالتزامات التالية…

1 – اعتباراً من الآن، عبد الله أوجلان (زعيم «حزب العمال الكردستاني» المعتقل في تركيا منذ بداية 1999) لن يكون في سوريا، وبالتأكيد لن يسمح له بدخول سوريا.

2 – لن يسمح لعناصر «حزب العمال الكردستاني» في الخارج بدخول سوريا.

3 – اعتبارا من الآن، معسكرات «حزب العمال الكردستاني» لن تعمل على الأراضي السورية، وبالتأكيد لن يسمح لها بأن تصبح نشطة.

4 – كثير من أعضاء «حزب العمال الكردستاني» جرى اعتقالهم وإحالتهم إلى المحكمة، وتم إعداد اللوائح المتعلقة بأسمائهم، وقدمت سوريا هذه اللوائح إلى الجانب التركي.

أكد الجانب السوري النقاط المذكورة أعلاه. وعلاوة على ذلك، اتفق الطرفان على النقاط التالية…

1 – إن سوريا، على أساس مبدأ المعاملة بالمثل، لن تسمح بأي نشاط ينطلق من أراضيها، بهدف الإضرار بأمن واستقرار تركيا. كما لن تسمح سوريا بتوريد الأسلحة والمواد اللوجستية والدعم المالي والترويجي لأنشطة «حزب العمال الكردستاني» على أراضيها.

2 – صنفت سوريا «حزب العمال الكردستاني» على أنه منظمة إرهابية. كما حظرت أنشطة الحزب والمنظمات التابعة له على أراضيها، إلى جانب منظمات إرهابية أخرى.

3 – لن تسمح سوريا لـ«حزب العمال الكردستاني» بإنشاء مخيمات أو مرافق أخرى لغايات التدريب والمأوى أو ممارسة أنشطة تجارية على أراضيها.

4 – لن تسمح سوريا لأعضاء «حزب العمال الكردستاني» باستخدام أراضيها للعبور إلى دول ثالثة.

5 – ستتخذ سوريا الإجراءات اللازمة كافة لمنع قادة «حزب العمال الكردستاني» الإرهابي من دخول الأراضي السورية، وستوجه سلطاتها على النقاط الحدودية بتنفيذ هذه الإجراءات.

اتفق الجانبان على وضع آليات معينة لتنفيذ الإجراءات المشار إليها أعلاه بفاعلية وشفافية. وفي هذا السياق…

أ – سيتم إقامة وتشغيل خط اتصال هاتفي مباشر فوراً بين السلطات الأمنية العليا لدى البلدين.

ب – يقوم الطرفان بتعيين ممثلين خاصين أمنيين في بعثتيهما الدبلوماسيتين في أنقرة ودمشق، ويتم تقديم هذين الممثلين إلى سلطات البلد المضيف من قبل رؤساء البعثة.

ج – في سياق مكافحة الإرهاب، اقترح الجانب التركي على الجانب السوري إنشاء نظام من شأنه تمكين المراقبة الأمنية من تحسين إجراءاتها وفاعليتها. وذكر الجانب السوري أنه سيقدم الاقتراح إلى سلطاته للحصول على موافقة، وسيقوم بالرد في أقرب وقت ممكن.

د – اتفق الجانبان، التركي والسوري، ويتوقف ذلك على الحصول على موافقة لبنان، على تولي قضية مكافحة «حزب العمال الكردستاني» الإرهابي في إطار ثلاثي (الجيش السوري كان وقتذاك في لبنان، وكان «حزب العمال الكردستاني» يقيم معسكرات له في منطقة البقاع اللبناني).

هـ – يُلزم الجانب السوري نفسه باتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ النقاط المذكورة في «محضر الاجتماع» هذا، وتحقيق نتائج ملموسة.

أضنة، 20 أكتوبر 1998

عن الوفد التركي – السفير أوغور زيال – معاون الأمين العام في وزارة الخارجية

وعن الوفد السوري – اللواء عدنان بدر الحسن – رئيس شعبة الأمن السياسي

الملحق رقم 2… مطالب تركيا المحددة من سوريا

من أجل تطبيع علاقاتنا، نتوقع من سوريا الالتزام بالقواعد والمبادئ الأساسية للعلاقات الدولية. وفي هذا الصدد، ينبغي تحقيق المطالب المحددة التالية…

1 – نظراً لحقيقة أن العلاقات التركية – السورية كانت قد تضررت بشكل جدي بسبب الدعم السوري للإرهاب، نريد من سوريا القبول رسمياً بالتزاماتها، والتخلي عن موقفها السابق بشأن هذه المسألة. ويجب أن تشمل هذه الالتزامات تعهداً رسمياً بعدم منح الإرهابيين الدعم، أو الملاذ، أو المساعدة المالية. وينبغي أيضاً على سوريا محاكمة مجرمي «حزب العمال الكردستاني» وتسليمهم إلى تركيا، بما في ذلك زعيم «حزب العمال الكردستاني»، عبد الله أوجلان ومعاونوه (كانت دمشق أبعدت أوجلان قبل توجه اللواء بدر حسن إلى تركيا، وتلقت السلطات التركية إشعاراً من موسكو بوصوله فعلاً إلى أراضيها).

2 – في هذا الإطار، يجب على سوريا…

* ألا تسمح لمخيمات تدريب الإرهابيين بالعمل على الأراضي الواقعة تحت سيطرتها.

* ألا تزود «حزب العمال الكردستاني» بالأسلحة والمواد اللوجستية.

* ألا تزود أعضاء «حزب العمال الكردستاني» بوثائق هوية مزورة.

* ألا تساعد الإرهابيين على الدخول القانوني والتسلل إلى تركيا.

* ألا ترخص الأنشطة الترويجية للمنظمة الإرهابية، أي «حزب العمال الكردستاني».

* ألا تسمح لأعضاء «حزب العمال الكردستاني» بإنشاء وتشغيل مقرات على أراضيها.

* ألا تسهل عبور الإرهابيين من دول ثالثة إلى شمال العراق وتركيا.

3 – التعاون في جميع الأنشطة الرامية إلى مكافحة الإرهاب.

4 – الامتناع عن تحريض البلدان الأخرى الأعضاء في جامعة الدول العربية ضد تركيا.

5 – في ضوء ما سبق، وما لم توقف سوريا هذه الأعمال فوراً، مع كل العواقب، تحتفظ تركيا بحقّها في ممارسة حقها الطبيعي في الدفاع عن النفس، وتحت كل الظروف للمطالبة بتعويض عادل عن الخسائر في الأرواح والممتلكات.

في الواقع، نقلت هذه الآراء إلى سوريا من خلال القنوات الدبلوماسية، في 23 يناير (كانون الثاني) 1996. ومع ذلك، فقد قوبلت تحذيراتنا بآذان صماء.

الملحق رقم 3

اعتباراً من الآن، يعتبر الطرفان أن الخلافات الحدودية بينهما منتهية، وأن أياً منهما ليست له أي مطالب أو حقوق مستحقة في أراضي الطرف الآخر.

الملحق رقم 4

يفهم الجانب السوري أن إخفاقه في اتخاذ التدابير والواجبات الأمنية، المنصوص عليها في هذا الاتفاق، يعطي تركيا الحق في اتخاذ جميع الإجراءات الأمنية اللازمة داخل الأراضي السورية حتى عمق 5 كم.

المنطقة “الآمنة”.. جدل الرهانات بين الولايات المتحدة وتركيا/ ماجد كيالي

تساؤلات عديدة تطرحها فكرة “المنطقة الآمنة” في سوريا، بخصوص معناها وحدودها وغاياتها السياسية، وهي الأسئلة التي يفترض وضع إجابات لها من ثلاثة أطراف رئيسية هي الولايات المتحدة الأميركية وتركيا وروسيا. فعلى الرغم من أن تلك المنطقة هي نتاج توافق لم تتضّح أبعاده بعد، بين الطرفين الأولين، إلا أنه من الصعب أيضاً، الالتفاف على الموقف الروسي، بحكم العلاقة التي أضحت تربط تركيا بروسيا، في الصراع السوري، سيما في الأعوام الثلاثة الماضية، وهو الأمر الذي سيتم بحثه في لقاء قمة ثنائي يجمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في موسكو يوم 23 يناير الجاري، ما يذكّر بالقمة الثنائية السابقة التي عقدت في سوتشي بينهما في 17 سبتمبر من العام الماضي، ونجم عنها، في حينه، اتفاق “وقف التصعيد” في منطقة إدلب وريفها.

على أي حال ليست تلك هي المرة الأولى التي تطرح فيها فكرة المنطقة الآمنة، في شمالي غرب سوريا، أو شرقي الفرات، حيث تسيطر الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، إذ كانت طُرحت في بدايات الثورة السورية سيما بعد تحولها إلى صراع مسلح، ونتيجة انتهاج النظام القصف بالطائرات ما كانت نتيجته مصرع مئات الألوف من السوريين وتهجير الملايين منهم وتدمير عمرانهم.

وقد يجدر التذكير هنا أن هذه الفكرة كانت تأخذ شكل فرض منطقة حظر جوي أحياناً، على نحو ما جرى في العراق في التسعينات، أو شكل فرض منطقة آمنة محصّنة تجاه أي عمليات عسكرية، بما في ذلك القصف الجوي، على نحو ما فرضته الولايات المتحدة في المنطقة المذكورة في العامين الماضيين.

أيضا، يأتي في ذات السياق أن كل من دول “ثلاثي أستانة”، أي روسيا وتركيا وإيران، كانت وقّعت على اتفاق أستانة في مايو 2017، الذي يقضي بإنشاء “مناطق منخفضة التصعيد” أو ما عرف بـ”المناطق الآمنة” في سوريا، في الشمال (في حلب وإدلب وأريافهما) وفي الوسط (دمشق وريفها) وفي الجنوب (درعا وريفها)، وهو الأمر الذي تم تجديده في إدلب، كما قدمنا، أواخر العام الماضي، علما أن منطقة إدلب هي الوحيدة التي صمد فيها ذلك الاتفاق، من بين المناطق الأربع المذكورة، والتي استعاد النظام السيطرة عليها بمساعدة عسكرية روسية.

بيد أن المسألة الأهم هنا تكمن في لفت الانتباه إلى أن طرح فكرة “المنطقة الآمنة” في الظروف والمعطيات الراهنة يختلف عنه في البدايات، لأسباب عدة أهمها:

أولا، كان الهدف من إنشاء تلك المنطقة في البداية شل الآلة العسكرية للنظام، وتالياً تجنيب السوريين أعمال القصف والتشريد وتدمير العمران، في حين الهدف منها حاليا هو الاحتفاظ بها كمنطقة نفوذ تحت الولاية الأميركية أو التركية، أو ضمن توافق أميركي- تركي، كورقة مساومة في تشكيل سوريا المستقبل.

ثانيا، في البداية كانت المسألة لا تتعلق فقط بمنطقة محدّدة، ولا لحماية مجموعة سكانية معينة (الأكراد مثلا)، وإنما تتعلق بفرض حظر جوي في مختلف المناطق، أي في الشمال والجنوب والوسط، بما يشمل حماية معظم السوريين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

ثالثا، يجري الحديث عن تلك المنطقة حاليا في إطار سعي الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في الصراع العسكري في سوريا (الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران وإسرائيل)، لفرض أجنداتها الخاصة التي تختلف عن مصالح السوريين وعن تطلعاتهم، عبر فرض سيطرة كل منها في منطقة معينة، لتحسين مكانتها في التقرير بالشأن السوري.

رابعا، في البدايات تم طرح هذه الفكرة في مواجهة النظام، حيث لم يكن ثمة تدخل عسكري مباشر، لا روسي ولا تركي ولا أميركي، وحيث التدخل الإيراني لم يكن بتلك القوة أو الحضور، في حين الأمر اليوم مختلف تماما مع حضور كل تلك القوى على مسرح الصراع السوري.

خامسا، فوق كل ما تقدم فإن تموضع القوى الخارجية المتصارعة في سوريا لم يكن على النحو الحاصل في هذه الظروف، إذ ثمة الآن نوع من تنسيق روسي – إيراني – تركي، وهو ما تمثل بمسار أستانة (في العام 2017) ومؤتمر سوتشي (عام 2018)، حيث كانت تركيا في السابق تقف في موقع مختلف، أي متوافق مع المعارضة السورية، وأقرب لموقف الولايات المتحدة، وأكثر بعدا عن الطرفين الآخرين أي روسيا وإيران حلفاء النظام، بل وفي الخندق المواجه لهما.

سادسا، يجري الحديث عن المنطقة الآمنة هذه المرة، بين الولايات المتحدة وتركيا، بمعزل عن الأطراف الأخرى، لا سيما روسيا وإيران، أي أن الولايات المتحدة هي التي ستكون معنية بفرض احترام هذه المنطقة بعد حل مختلف الجوانب المتعلقة بالترتيبات التركية التي يفترض أن تقوم، ويأتي ضمنها الحؤول دون فتح معركة مع قوات “قسد”، إن بإبعادها من تلك المنطقة، وإيجاد منطقة خالية من تلك القوات محاذية للحدود التركية، بعمق 30 كيلومترا إلى الداخل السوري، أو بإيجاد طريقة يمكن من خلالها غربلة تلك القوات وإخراج الجماعات التي لا تريدها تركيا بشبهة ولائها لحزب العمال الديمقراطي ـ التركي، والمرتبطة بإيران.

عموما، وكما قدمنا، فإن طرح “المنطقة الآمنة”، الذي جاء بعيد اعتزام إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب قواتها من منطقة شرقي الفرات في سوريا (حوالي 2000 عسكري)، مع تأكيدها العمل على مواصلة الحرب ضد الإرهاب ومن أجل إخراج إيران من المنطقة، وفرض الحل السياسي وفق قرار مجلس الأمن الدولي 2254، مازال يحتاج إلى المزيد من الوقت والفحص لاستكشاف حدوده وغاياته ومدى التوافق بين الأطراف المعنية بشأنه.

كاتب سياسي فلسطيني

العرب

بانتظار تغريدة ترامب القادمة/ سميرة المسالمة

استطاع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن يجعل من “تويتر” سلاحاً يضيفه إلى قائمة المنتجات الأميركية في مجال تصنيع الأسلحة، وهو ما يمكن وصفه بأنه سهل الاستخدام وسريع الفعالية وأكثر دقة في إصابة الهدف الحيوي، كما أعطى صفة المرونة التي تصل إلى أعلى درجاتها (انقلابها على نفسها) لسياسات الولايات المتحدة، في تعاطيها مع صراعاتها وتوافقاتها الدولية، لتضعنا، بين ساعة وأخرى، بين حرب تقرع طبولها، إلى تحالفاتٍ تكاد تصل بتوافقاتها إلى مستوى المصالح العليا المشتركة بالقدر نفسه، والتوجه مع الخصم السابق إلى الحليف اللاحق.

وبعيداَ عن فكرة تلقائية تلك “التغريدات” المرعبة وتهورها، فإن المتتبع لمآلات ما ينتجه محتواها من تفاهماتٍ لاحقة، وقدرته في التراجع عن المحتوى الانفعالي “المدرك”، وتغيير اتجاهاته بما يضمن الاستثمار الكبير له، في عداواته المفتعلة وصداقاته غير الآمنة، فإن التعويل على وصول قطار التسويات بين الجانبين، التركي والأميركي، بشأن شمال سورية، إلى بر الأمان، يبقى في إطار التمنيات، في ظل وقائع السرد التاريخي لعامين من حكم ترامب، وتذبذب تصريحاته وتناقضاتها وأهدافها.

كما أن الحديث عن خلافاتٍ في التفسير الكامن وراء الرغبة الأميركية بإقامة منطقةٍ آمنةٍ في الشمال، والتي سارعت تركيا في تبنيها على أنها مقترحٌ تركي أساساً، تدخل ضمن منظومة التعاطي الدولي مع الصراع في سورية، منذ بداية التدخل الدولي في 2011، وحتى ما بعد التعاطي الأميركي مع اتصال ترامب لإنهاء مفاعيل تغريدته الصادمة لحليفته تركيا “سندمر تركيا اقتصادياً إذا هاجمت الأكراد، وسنقيم منطقة آمنة بعرض 20 ميلاً”، فقد تعمّدت الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، منذ اندلاع الثورة السورية، مد أطراف الصراع المحلي بوقود الاشتعال على الجانبين، النظام والمعارضة، فحيث اصطفّت إيران مع مليشياتها، وكذلك روسيا، مع النظام لتشجيعه في الاستمرار بسيناريو العنف المتصاعد ضد معارضيه، فعل ما سمي أصدقاء سورية الأمر ذاته، عبر تصريحات متتالية بدأت من الجانب الأميركي، عندما صرّح بأن الأسد فقد شرعيته، إلى عقد المؤتمرات، والتسليح وغرف الموم والموك وما بينهما.

لقد أفسحت الاصطفافات الدولية أمام الصراع المحلي السوري أن يتطوّر إلى صراع دولي،

توزّع شرره في العالم، وهو إذ يرخي بظلاله على الدول الإقليمية، ومنها تركيا، ويفتح لها باب التجاذبات، أو الخلافات البينية، فإنه، في الوقت عينه، يستخدمها أدواتٍ في حرب التغيير الشاملة لإعدادات المنطقة برمتها، بما يضمن خلط الأوراق، وتغيير الأولويات، ووضع المنطقة كاملةً في خدمة المشروع الإسرائيلي التصالحي، أو ما تسمى “صفقة القرن” على حساب القضية الفلسطينية، بعد أن أصبحت الصراعات في المنطقة بعيدةً عن الصراع العربي الإسرائيلي، ليحل مكانها الصراع الإيراني العربي، والذي أتاحته أميركا لإيران من خلال تمكينها من احتلال العراق، فكرياً واقتصادياً وسياسياً، وعبر مليشياتها المسلحة تحت الغطاء الطائفي، ولاحقاً الصراع على أمجاد الإمبراطوريات المنهارة.

ويمكن اعتبار ضبابية فكرة المنطقة الآمنة التي طرحها ترامب، وتلقفها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وتفسيراتها العديدة من كل الأطراف، إذ اعتبرتها تركيا مشروعا يرضي طموحاتها، ويعزّز من وجودها الشرعي في سورية، ويقع ضمن اتفاقاتها السابقة مع النظام السوري (أضنة 1998)، في حين استشعر فيها الكرد (قوات سوريا الديمقراطية) العدو المستهدف من تركيا، أنها ورقة حماية لهم، وتسمح لهم بتوسيع هوامش المفاوضات مع النظام السوري، بما يضمن حكماً ذاتياً لهم في شرق الفرات، إلا أن النظام السوري اعتبرها احتلالاً تركياً مدعوماً أميركياً، ومتغاضياً بذلك عن حقيقة موقف الداعم الرئيسي له (روسيا) التي لا تمانع بتنفيذها إلى جانب الأتراك، وفق شروطٍ تقييدية، كتغيير اسمها إلى منطقةٍ عازلة، أو إشراك قوات النظام، بحماية حدودها ومؤسساته، بتقديم الخدمات لها، أي بمعنى أنها شروط لفتح باب التفاوض، وهي غير مانعةٍ لإقامتها، وبعيدةٌ، في الوقت نفسه، عن كل ما تدّعيه في حرصها على ضمان السيادة السورية على أراضيها ووحدتها، أي أن تضارب التفسيرات التي سادت في كل ما يخص الصراع في سورية من تصريحات لمسؤولين من وزراء ورؤساء، وبيان جنيف 1 وملحقاته، وقرارات أممية وبيانات على مستوى رئاسة المنظمة الدولية (عددها 17)، لا تزال تحكم منطق إدارة الصراع في سورية، فحيث بدا التوافق الدولي على بيان جنيف1 (2012) يقترب من انتزاع حل سياسي للصراع السوري- السوري، استطاعت كل الدول المنخرطة فيه أن تجعل من تفسيراتها المخالفة لشركائها في التوقيع عليه سبباً في ديمومة الصراع وتطور أشكاله، من سياسي إلى مسلح بين النظام ومجموعاتٍ من جيشه منشقة عنه للدفاع عن المتظاهرين، إلى تجنيد أطراف محلية واستدعاءات أيديولوجية متطرّفة أو “معتدلة” لإنشاء ما سميت الفصائل الإسلامية التي تدار وفق أجندات مشغليها، إلى صراعٍ دولي مباشر، حتى استبعدت منه الجهات المحلية، لتحل مكانها الأدواتُ المرتهنةُ لمصلحة الأجندات المتحاربة على حيز النفوذ داخل الأراضي السورية، والعابرة إلى ما بعدها، جغرافياً واقتصادياً وحتى تاريخياً.

ومن هنا، فإن الرهان على دخول منطقة شمال سورية في مرحلة حل النزاع في سورية وعليها، بعد المصالحة غير المضمونة بين الرئيسين الأميركي والتركي، يبدو خاسراً، في ظل استمرار “التغريدات”، والمتغيرات التي تحدثها الأطراف المتضرّرة من التقارب أخيرا، والذي يعني إطباق الخناق على إيران من جهة، واستمرار استخدام ورقة الكرد باتجاهين مختلفين: تارّة لمعاقبتهم، حيث تغرّد بعض قياداتهم خارج الهوى الأميركي، وتارة أخرى لطمأنتهم، وفتح أبوابٍ جديدة لهم للدخول طرفا لازما ومفروضا على المفاوضات السورية – السورية، والعبور فوق جسر الموانع الذي وضعته تركيا في وجه مشاركتهم في ما سميت اللجنة الدستورية. ومع كل ما سبق، فإن ترامب قادر على العودة دائماً إلى نقطة الصفر التي تفتح باب المساومات، وطرح المزايدات العلنية والسرية بين الأطراف الصديقة، وكذلك التي تقع في خانة أعدائه أيضاً.

العربي الجديد

سورية.. حزام تركي/ بشير البكر

شكّلت مسألة الأمن الحدودي عامل قلق واستنزاف للسلطات التركية، منذ النصف الثاني من عقد الثمانينيات في القرن الماضي، عندما بدأ حزب العمال الكردستاني العمل المسلح ضد الدولة التركية في منطقة جنوب الأناضول. ولم يكن في وسع هذا الحزب أن يتحوّل إلى تهديد وخطر، لو لم يحصل على دعم كبير من السلطات السورية من أعلى المستويات. وتمثل الدعم في استقبال قيادة الحزب في دمشق، برئاسة عبدالله أوجلان، وفتح معسكرات تدريبٍ له في داخل سورية، وخارجها في منطقة البقاع اللبنانية.

كان هدف نظام دمشق، برئاسة حافظ الأسد، استخدام ورقة العمل المسلح ضد تركيا، من أجل الحصول على تنازلات تركية في حرب المياه، حيث بدأت تركيا، منذ أواخر السبعينيات، بناء سلسلة من السدود على نهر الفرات، وصارت تتحكم بتدفقه، الأمر الذي قلّل من حصة سورية والعراق من مياه النهر، وأثر كثيرا على الزراعة في البلدين. ولكن مع مرور الوقت قلبت أنقرة اللعبة، ففي عام 1998، اتخذت قرارا بالرد عسكريا على أعمال “الكردستاني” داخل سورية، وحشدت في ذلك الوقت فرقتين عسكريتين، وهددت باجتياح حلب، ووضعت شرطا لوقف العملية هو طرد أوجلان من دمشق التي كان يتمتع فيها بتسهيلاتٍ كبيرةٍ، ويحظى باستقبال أعلى المستويات، وتسليم بعض قادته وإغلاق معسكرات التدريب. ورضخت دمشق للضغوط، ورحلت أوجلان من سورية. وبعد مطاردةٍ في عدة بلدانٍ، تمكّنت الأجهزة التركية من توقيفه في كينيا في فبراير/ شباط 1999، موجهةً بذلك ضربةً إلى العمال الكردستاني الذي فقد زعيما على قدرٍ كبير من الكاريزما والتأثير، تجاوز أكراد تركيا إلى عامة الأكراد. وهذا ما يفسّر حضور “الكردستاني” خارج تركيا، وخصوصا في سورية التي باتت مع الزمن تشكّل قاعدة خلفية للحزب.

وقادت التهدئة التركية السورية إلى تفاهم أمني بين الطرفين، يجيز لهما الملاحقات الأمنية في المناطق الحدودية، وكان ذلك فاتحةً لعلاقاتٍ رسميةٍ بين البلدين، تطورت بسرعةٍ إلى حد كانت العلاقات عشية الثورة السورية في مارس/ آذار 2011 تسير نحو تعاون اقتصادي يشمل، في صورة أساسية، إقامة مشاريع مشتركة من أجل تطوير منطقة الجزيرة السورية زراعيا. وجرى في عام 2008 الاتفاق على مشروع الغاب الذي يعتمد على أساليب الزراعة والري التركية، بعد أن باتت الجزيرة السورية تعاني من شحّ المياه وتراجع الأمطار. وبدأت أولى خطوات هذا المشروع عام 2010، وأحد أهداف تنمية هذه المنطقة هو القضاء على العمل المسلح فيها، من خلال إيجاد فرص عمل لأربعة ملايين من ساكنيها، لكن وقوف تركيا إلى جانب الثورة نسف كل شيء، وأعاد الموقف إلى نقطة الصفر.

ولم يتراجع قلق تركيا الأمني، بل تنامى بقدر ما شهدت الحدود من تطوراتٍ خلال ثماني سنوات، وبات المطروح اليوم منطقةً تركيةً آمنةً بعرض 20 ميلا، وفق ما حدّدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أي 32 كلم. وسوف تشكّل هذه المنطقة حزاما أمنيا على طول حوالي 500 كلم، يحول دون تهديد الطرف الكردي تركيا من جهة، ومن جهةٍ ثانيةٍ يسمح لتركيا بضرب البنى التى تم تشييدها داخل هذه المنطقة، وما توفره من أرضيةٍ لحزب العمال الكردستاني الذي صار الطرف العسكري المتحكّم بالجزيرة السورية، من خلال “قوات سورية الديمقراطية” ذات الأغلبية الكردية.

وتعوّل تركيا على هذه المنطقة، كي تشكل حزاما عازلا، يُبعد عنها مخاطر حزب العمال الكردستاني من سورية. وأوضح مسؤولون أتراك أن التفاهم مع واشنطن قاد إلى إبعاد القوات الكردية من المنطقة، وتسليم إدارتها للعرب تحت إشراف وتمويل تركي دولي. لكن السؤال الذي يبقى مطروحا يتعلق بموقف النظام السوري وروسيا، خصوصا أنهما يعملان على بسط سيطرتهما على الجزيرة السورية.

العربي الجديد

منطقة آمنة أم منطقة عازلة؟/ بكر صدقي

«أؤمن بأننا وصلنا إلى تفاهم ذي أهمية تاريخية»! هكذا وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان محادثاته مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في المكالمة الهاتفية التي بادر الأول إلى إجرائها.

تفاهم ذو أهمية تاريخية في الموضوعات التي تباحثا فيها، وفي القلب منها موضوع «المنطقة الآمنة» في شمال سوريا حيث تسيطر الآن «قوات سوريا الديموقراطية» بحماية الولايات المتحدة التي تستعد للإنسحاب!

واسترسل الرئيس التركي في شرح مفهومه للمنطقة الآمنة، فقال إن تركيا هي التي ستقيمها بدعم من الحلفاء وأولهم واشنطن، وأن أبرز وجوه هذا الدعم هو الغطاء الجوي، في حين تقوم مؤسسة الإنشاءات الحكومية التركية ببناء مساكن من طابقين (أرضي وأول) تحيط بها حديقة على مساحة 500 متر مربع!

جاءت هذه التطورات بعد التغريدة الاستفزازية لترامب التي هدد فيها تركيا بتقويض اقتصادها إذا مست بالأكراد. وفي التغريدة نفسها ألقى ترامب بطعم «المنطقة الآمنة» بعمق 20 ميلاً (نحو 32 كم). لوحظ في ردود فعل أنقرة على تهديد ترامب أنها اتسمت بالهدوء والتفهم. فقد قال وزير الخارجية مولود شاويش أوغلو، مثلاً، إن تركيا تفهم أن الرئيس ترامب يتعرض لضغوط داخلية كبيرة! وإن لم يهمل رفض لغة التهديد. لكنه، بالمقابل، كرر دعوة تركيا للإدارة الأمريكية بأن تميّز بين «الإرهابيين» والأكراد. «لا مشكلة لدينا مع الأكراد» قال «بل نحن نحميهم من الإرهابيين. لقد استقبلت تركيا 200 ألف من أكراد كوباني نزحوا إليها أثناء الحرب».

أما بالنسبة للمنطقة الآمنة، فقد فضل شاويش أوغلو أن يبيع الأمريكيين من كيسهم، فقال إن هذه الفكرة هي، في الأصل، اقتراح الرئيس أردوغان الذي كان قد رفضه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما.

ترى ما الذي تغير، خلال أقل من 24 ساعة، ليمحو ترامب آثار تغريدته الاستفزازية ويتحدث بدلاً من ذلك عن آفاق تطوير العلاقات الاقتصادية مع تركيا؟ وهو ما ترجمه أردوغان بالكلام عن طموح البلدين في زيادة التبادل التجاري بينهما في الفترة القادمة وصولاً إلى رقم 75 مليار دولار سنوياً!

هل هو فصل جديد مما يسمى بـ«المزاج المتقلب لترامب»؟ أم أن الأمر يتعلق بمباراة ملاكمة من النوع المتفق على نتيجتها لأغراض المراهنات؟ ما يمكننا التأكد منه، حالياً، هو أن ثمة تفاهمات بين واشنطن وأنقرة بشأن كيفية ملء الفراغ في شرقي الفرات بعد الانسحاب الأمريكي، كشف ترامب عن عنوانها العريض بعبارة «منطقة آمنة».

هذه العبارة تستدعي، بداهةً، ما حدث، في العام 1991، في العراق إبان الحرب الأمريكية حين أعلنت واشنطن عن منطقتي حظر طيران في الشمال الكردي والجنوب الشيعي. فأطلقت تغريدة ترامب، في الرأي العام التركي، موجة هواجس جديدة بشأن «مؤامرة» أمريكية لإقامة كيان كردي في شمال سوريا، تحت يافطة «المنطقة الآمنة»، وهو ما تعتبره أنقرة، تقليدياً، خطراً على أمنها القومي، ويشكل جوهر السياسة التركية في سوريا، منذ العام 2015، على الأقل. يتحدث أركان الحكم في أنقرة عن أن تفاصيل فكرة المنطقة الآمنة ستكون موضوعاً لمباحثات فريقي عمل من الجانبين الأمريكي والتركي في الأسابيع القادمة. وهو ما قد يعني وجود تباينات بين التصورين الأمريكي والتركي لشكل ومضمون المنطقة الآمنة، وهل هي منطقة حظر طيران أم منطقة عازلة بين تركيا وكرد سوريا تتمركز فيها قوات «بيشمركة روج» الكردية السورية التي تم تدريبها تحت إشراف قوات بارزاني في إقليم كردستان، كما يتم التداول؟ كذلك سيطرح الموضوع في القمة المرتقبة، في 23 الشهر الجاري في موسكو، بين الرئيسين بوتين وأردوغان. موسكو التي لزمت الصمت، إلى الآن، بشأن ما يطرح من مشاريع لملء الفراغ الأمريكي شرقي الفرات، أعلنت، الأربعاء، على لسان وزير خارجيتها لافروف بأن روسيا ستراعي، في موضوع المنطقة الآمنة، هواجس ومصالح جميع الدول المجاورة لسوريا، بما فيها تركيا»! وهو ما يعني موافقة مبدئية روسية على فكرة المنطقة الآمنة، وستكون لها شروطها. تتداول الصحافة التركية، بهذا الصدد، أن التفاهم على موضوع المنطقة الآمنة، تم في قمة هلسنكي بين ترامب وبوتين في تموز/يوليو 2018. تدور، في كواليس السياسة في واشنطن، تكهنات بشأن قمة ثلاثية «تاريخية» تجمع كلاً من ترامب وبوتين وأردوغان، في أواخر السنة الجارية، يكون موضوعها سوريا.

كذلك لوحظ، في تصريحات أركان الحكم في تركيا، في اليومين الماضيين، تجنباً لذكر «وحدات حماية الشعب» و«حزب الاتحاد الديموقراطي» أو «قوات سوريا الديموقراطية»، والكلام بدلاً من ذلك عن «أخوتنا الأكراد» و«داعش وكل المنظمات الإرهابية في شرق الفرات». وهل كانت مجرد مصادفة أن تتم، قبل أيام، زيارة محمد أوجالان لأخيه عبد الله ـ الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني المسجون في جزيرة إيمرالي ـ بعد عزلة تامة استمرت سنتين ونصف؟

ولم يعلن محمد أوجالان أي شيء عن مضمون الزيارة بعد انتهائها مباشرةً، تاركاً ذلك لقيادة «حزب الشعوب الديمقراطي» ـ الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني. ولم تفصح القيادة المذكورة عن مضمون الزيارة إلا بعد 4 أيام من حصولها، فقال الرئيس المشترك للحزب سزائي تمللي إن أوجالان قال لأخيه إنه «في صحة جيدة»! وهذا كل شيء. هل كانت هذه «الرسالة» من أوجالان، بعد سنتين ونصف من الصمت القسري، بحاجة لاجتماع قيادة «الشعوب الديمقراطي» للتداول في إعلانها؟

أما الناطقون باسم «الإدارة الذاتية» فيتضح من تصريحاتهم أنهم فوجئوا بكلام ترامب حول المنطقة الآمنة. ومن المعروف أن أحد ممثليهم في موسكو أعلن، قبل أيام، عن تعليق المفاوضات مع نظام الأسد «لأنه لم يغير عقليته». يقال إن الأمريكيين طلبوا من قادة «الوحدات» و«قسد» تجميد المفاوضات مع نظام دمشق. أما صالح مسلم فقد أعلن، صراحةً، عن مفاجأته بخصوص المنطقة الآمنة. هذا كل ما يمكن أن يقال، حالياً، بشأن الخطط الأمريكية لمرحلة ما بعد الانسحاب من سوريا، أو كنه التفاهمات الأمريكية ـ التركية، أو الأمريكية ـ الروسية ـ التركية.

كاتب سوري

القدس العربي

المناطق الآمنة التي تريدها تركيا في سوريا/ رانيا مصطفى

بات الهاجس الكردي المتحكم الأول في السياسة التركية في سوريا منذ تدخل التحالف الدولي في المنطقة في عام 2014، واعتماده في سوريا على وحدات حماية الشعب الكردية، العصب الأساسي لقوات سوريا الديمقراطية الكردية- العربية.

تركيا التي دعمت الفصائل العسكرية على كل الأراضي السورية، واحتضنت تشكيلات المعارضة السياسية على أراضيها، اضطرت بسبب هاجسها الأمني تجاه الأكراد إلى أن تقبل باتفاقيات خفض التصعيد، ثم المصالحة والتهجير لمناطق المعارضة في شرقي حلب وفي ريف دمشق والغوطة الشرقية والغوطة الغربية وريف حمص الشمالي والجنوب السوري، مقابل استيلائها على كلّ من جرابلس عفرين وريفها في عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون. ووافقت على تسليم روسيا والنظام مناطق شرق السكة في إدلب، بعد الدخول في حلف أستانة مع موسكو وطهران الداعمتين للنظام السوري.

كما عقدت تركيا مع حليفها الروسي اتفاق المنطقة العازلة في إدلب، ويجري الآن استكمال التشاور الروسي – التركي، لإنهاء ملف الفصائل المتعددة في إدلب وإنهاء ملف الجهادية، وفتح الطريقين الدوليين الرئيسيين، دمشق – حلب واللاذقية- حلب، بالتوازي مع مشاورات مستمرة مع الروس والأميركيين، كل على حدة، بشأن إيجاد حلّ يهدّئ المخاوف الأمنية التركية تجاه تواجد عناصر من حزب العمال الكردستاني على حدودها مع سوريا.

الرئيس الأميركي دونالد ترامب عازم على الانسحاب من سوريا؛ لكنّ صراعات تدور بين مسؤولي وزارة الدفاع ووزارة الخارجية الأميركية، إضافة إلى صراع بين المشرّعين في الكونغرس، ليس حول كيفية ترتيب الوضع بما يضمن المصالح الأميركية في المنطقة، ويبقي الدور الروسي محصورا في حدود سوريا، بل حول ماهية الاستراتيجية الأميركية في المنطقة والعالم ككل.

التصريحات الأميركية الأخيرة المعلنة تقول باستكمال محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وتحجيم إيران، لكن قبل إعلان ترامب قرار الانسحاب نهاية العام الماضي، كانت استراتيجية الولايات المتحدة في سوريا، والتي حملها المبعوث الأميركي إلى سوريا جيمس جيفري منذ توليه المنصب، تتضمّن أيضا المضي في الحل السياسي على أساس حكومة انتقالية وفق مسار جنيف، ووعود لحلفائهم في قوات سوريا الديمقراطية بدعم مطلبهم الفيدرالي، ما يعني تحجيما أكبر للدور الروسي الذي يضع كل رهاناته في استعادة نظام الأسد السيطرة على كل سوريا، وبقائه في الحكم.

بالتالي الانسحاب الأميركي، بما يعنيه من سحب 2000 جندي أميركي من سوريا، ونقل القواعد والمعدات بضعة كيلومترات إلى داخل الأراضي العراقية، ليس عملية معقدة عسكريا؛ التعقيد في كيفية ترتيب الوضع السوري، بالشكل الذي يوازن بين مصالح الطرفين الروسي والتركي، مع تحجيم التواجد الإيراني بالمحاصرة الاقتصادية، وبمواصلة الضربات الإسرائيلية في سوريا.

تركيا ما تزال تحشد عسكرها وعتادها، منذ شهرين، لاقتحام شرق الفرات، وإنهاء مشكلة التهديد الكردي؛ وبعد قرار الانسحاب، ثم حديث المنطقة الآمنة، يكثّف المسؤولون الأتراك والأميركيون اتصالاتهم بهذا الشأن، ومن الممكن أن تقدّم تركيا تنازلات للحليف الأميركي خارج سوريا، خاصة أنهما شريكان في حلف شمال الأطلسي، وحجم التبادل التجاري بينهما في ازدياد، حيث تحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بحماسة عن إمكانية وصوله إلى الرقم 75 مليار دولار سنويا.

وفي نفس الوقت التوافقات الروسية – التركية داخل سوريا تزداد قوة وتقاربا، مع تولي تركيا حل ملفّ إدلب، بما يتعلق بإنهاء الحالة الفصائلية وحل المعضلة الجهادية، باتجاه تجمّع عسكري مطواع، يقبل بالتوافقات النهائية حول الحل السياسي، ويبدو أن فيلق الشام، المدعوم سياسيا من الإخوان المسلمين، هو المرشح للمضي في هذا الدور.

وقد يضع لقاء موسكو المرتقب في الـ23 من الشهر الجاري، بين الرئيس الروسي فلادمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، الخطوط العريضة لتصوّر نهائي روسي- تركي حول ملفات إدلب ومنبج وشرق الفرات والمنطقة الآمنة.

تركيا لن تتخلى أمام روسيا عن شرط حماية حدودها، وأن تكون المنطقة الآمنة بإشراف وتمويل تركي دولي، مع سقوط خيار دخول قوات عربية للفصل بين تركيا والوحدات الكردية، وضعف الطرح المتعلق بأن تتولى المهمّة قوات من البيشمركة السورية المدرّبة لدى مسعود البارزاني في إقليم كردستان العراق. وروسيا تريد السيطرة على كامل سوريا، لذلك تقول بوحدة سوريا، وتسعى لتوافق بين القيادات الكردية مع حكومة دمشق حول دولة مركزية.

وتريد دمشق أن تكون للأكراد إدارة محلية موسعة، وأن تعمل قوات سوريا الديمقراطية تحت إمرة الجيش الرسمي، ويريد الجانب الكردي تعديل دستور 2012، والحصول على إدارة ذاتية، وإن كانت أقل من الفيدرالية، مع الاعتراف بالأكراد، وبحقوقهم الثقافية، وتخصيص موازنة مالية للمنطقة التي تشكل ثلث مساحة سوريا، وتضم 90 بالمئة من الاحتياطي النفطي، ونصف الغاز السوري، وغالبية الإنتاج الزراعي من القطن والحبوب، مقابل الاعتراف بشرعية الرئيس السوري “المنتخب” في 2014، كرئيس لكل سوريا.

انسحاب الولايات المتحدة من سوريا سيضعف الجانب الكردي، وسيجد نفسه مضطرا أكثر للرضوخ إلى شروط النظام، خاصة أن روسيا تريد له هذا الرضوخ أيضا، وأن تنزع منه السلاح، وتدخله تحت إمرة جيش النظام.

لطالما تعثّر على موسكو تمرير الحل الروسي الذي اّتفق عليه الروس والأتراك في سوتشي مطلع العام الماضي، بحضور ممثلي النظام والمعارضة والأمم المتحدة، والذي يقول بلجنة دستورية تقرّ دستورا في ظل حكم الرئيس الأسد، دون تغييرات جوهرية في نظامه. لكن مخرجات سوتشي هي الخيار الوحيد الذي تريده موسكو؛ وهي الآن تريد تمريره بعد قرار تراجع النفوذ الأميركي في سوريا، من بوابة التوافق مع الأتراك.

ستجد موسكو نفسها مضطرة إلى القبول بالشرط التركي، باقتطاع شريط حدودي بعمق 20 ميلا/32 كيلومترا، وطول 460 كيلومترا، داخل الأراضي السورية، وترك بقية شرق الفرات لروسيا والنظام، إذا ما تم التوافق مع الأميركيين حولها بعد الانسحاب، مقابل تسوية مقبولة لوضع إدلب، التي لا تشكل أهمية استراتيجية كبيرة للروس، وما يهمّهم تأمين الحركة التجارية على الطرق الدولية.

ستكتفي تركيا بحصتها من سوريا في جرابلس وعفرين وربما منبج، ونفوذ مشترك مع روسيا في إدلب، وربما تتمكّن، إذا ما تم التوافق على حل سياسي، من فرض بعض المعارضين، الذين تدعمهم، في حكومة دمشق، مقابل حلٍّ نهائي لمشكلة تواجد مقاتلي حزب العمال الكردستاني وفروعهم في داخل سوريا.

كاتبة سورية

العرب

سيناريوهات المنطقة الآمنة في سورية/ حسين عبد العزيز

ليس مهماً ما إذا كانت المنطقة التي يتحدّث عنها الأميركيون والأتراك في شمالي سورية آمنة أم عازلة، فعلى أرض الواقع، ثمّة تشابك كبيرٌ بين المفهومين، ويصعب التمييز بينهما، بخلاف التأطير النظري/ القانوني الذي يعتبر الأولى ذات بعد إنساني، والثانية ذات بعد عسكري، فالمناطق الآمنة في البوسنة والهرسك عام 1993 لم تمنع القوات الصربية من ارتكاب مجزرة سربرنيتشا، والمنطقة الآمنة التي أقيمت في رواند عام 1995 لم تمنع قبيلة الهوتو من قتل نحو مليون شخص من قبيلة التوتسي.

بالنسبة لتركيا، تعني المنطقة الآمنة، أو العازلة، إبعاد الوحدات الكردية عن الحدود التركية أولاً، وتقطيع أوصال مشروع الإدارة الذاتية ثانياً، وإضعاف القوة العسكرية للوحدات الكردية ثالثاً، في حين تعني هذه المنطقة للأميركيين حماية المصالح التركية في سورية، من دون إضعاف القوة العسكرية للأكراد، وإبعادهم عن إدارة المناطق ذات الغالبية الكردية.

وسينعكس هذا التباين، بطبيعة الحال، على ماهية المنطقة المراد تشكيلها، إن كان على مستوى المساحة الجغرافية، أو على مستوى الهيمنة العسكرية والإدارية، أو حتى على مستوى الحماية الجوية، إذ لا يمكن تصوّر إنشاء منطقة آمنة أو عازلة من دون حظر للطيران.

وكان المبعوث الأميركي إلى سورية، جيمس جيفري، أول من لمّح إلى إمكانية تطبيق حظر للطيران في الشمال السوري، في أعقاب اجتماع “المجموعة المصغّرة بشأن سورية” في الرابع من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، عندما قال: “تذكّروا كيف كنا موجودين ليس في شمال العراق، بل فوقه خلال 13 عاما ضمن إطار عملية المراقبة الشمالية”.

وتتطلب هذه التفاصيل، بحكم الواقع، التوافق بين واشنطن وأنقرة على تحديد طبيعة “المنطقة

الآمنة”، وتتطلب أيضا توسيع مروحة التفاهمات، لتشمل روسيا، اللاعب الفاعل في الساحة السورية، فكل من واشنطن وأنقرة بحاجةٍ إلى ضوء أخضر روسي.

ومن مفارقات السياسة أن موسكو تبدو غير معترضةٍ على فكرة “المنطقة الآمنة”، على الرغم من تصريحاتٍ توحي بعكس ذلك.

بالنسبة لروسيا، فإن ملء قوى تحظى بدعم تركي الفراغ في شرق الفرات يعتبر حلا معقولا، إذا استحال تطبيق النموذج الأمثل بالنسبة لها، وهو سيطرة النظام السوري على كامل المنطقة، فسيطرة قوى ترضى عنها تركيا تعني إضعاف القوة الكردية التي ستجد نفسها مضطرةً إلى الارتماء في أحضان النظام، وتقديم التنازلات المطلوبة، كما أن موسكو تفضل التعامل مع تركيا في الشمال السوري، ليس لأنها الناظم لموازين قوى المعارضة فحسب، بل أيضا لأنه ليس لتركيا أطماع جغرافية في سورية، وربما تصريح الوزير الروسي، سيرغي لافروف، يحمل بعض الإشارات، حين أكّد “وجوب تقييم إنشاء المنطقة الآمنة في إطار وحدة الأراضي السورية”.

وضمن هذه المعطيات تبرز عدة سيناريوهات، لتطبيق المنطقة الآمنة أو العازلة:

أولاً، خضوع المنطقة المراد تشكيلها لهيمنة تركيا عبر فصائل المعارضة الموجودة في منطقتي عفرين ودرع الفرات، وهو احتمالٌ بعيد التحقق، بسبب الرفض الأميركي ـ الروسي المشترك. وبالنسبة لواشنطن، فإن هيمنة تركيا على “المنطقة الآمنة” تعني القضاء نهائيا على الحضور الكردي، ليس على المستوى العسكري فحسب، بل أيضا على المستوى الإداري، وبالتالي القضاء على التجربة الديمقراطية الناشئة في المناطق الكردية. ومن شأن ذلك أن يدفع الأكراد للارتماء في أحضان النظام، ما يعني القضاء على كل الترتيبات التي قامت بها الولايات المتحدة خلال الأعوام الأربعة الماضية. وبالنسبة لموسكو، فإن مناطق شرق الفرات لا يجب أن تتبع للنفوذ التركي، كما هو حاصل في الشمال الغربي من سورية. وبالتالي تقبل موسكو وجود قواتٍ محايدة تحظى برضى تركي ورضى النظام إلى حد ما. ومن هنا، تبدو موسكو وواشنطن متفقتين على أن لا تكون “المنطقة الآمنة” متوغلةً في عمق الأراضي السورية، وتعتبر اتفاقية آضنة الموقعة بين تركيا وسورية عام 1998 مرجعا قانونيا في تحديد عمق المنطقة.

ثانياً، وصول النظام السوري إلى الحدود مع تركيا، وهو أمرٌ يلقى رفضا قاطعا من واشنطن

وأنقرة: بالنسبة لواشنطن يعني حصول ذلك القضاء على المصالح الأميركية البعيدة في سورية، ووضع الأكراد بين فكي كماشة النظام، إذ يصبحون محاصرين من قوات النظام وحلفائه من الشمال والجنوب. وبالنسبة لأنقرة، فهي وإن كانت لا تعارض بسط النظام سيطرته على شرق الفرات في نهاية المطاف، إلا أن الظروف الحالية لا تسمح بذلك، لأن النظام سيتحالف مع الأكراد في محاربة تركيا.

ثالثاً، حل وسط يرضي جميع الأطراف، وهو ما قصده ترامب، حين تحدث عن ضرورة إدارة المنطقة من قوى محلية. صحيحٌ أنه لم يحدد ماهية القوى المحلية، ولكن يبدو أن الأمور تسير على نحوٍ لا يكون في “المنطقة الآمنة” أي حضور عسكري يتبع تركيا بشكل مباشر (فصائل المعارضة)، ولا يكون ثمّة حضور عسكري لـ “وحدات حماية الشعب” الكردي. ويكون البديل إدخال قوات محايدة، مثل “قوات النخبة” العربية التابعة لأحمد الجربا، وقوات “بشمركة روج أوفا” الكردية التابعة للمجلس الوطني الكردي، مع مشاركة القوات العربية التابعة لـ “قوات سورية الديمقراطية”، ولا يكون لهذه القوات صلاحية إدارة المنطقة، فدورها يقتصر على الحماية فقط، في حين تترك الإدارة لمجالس مدنية، بحسب المكون الإثني الغالب. وباستثناء “الاتحاد الديمقراطي” الكردي، تبدو جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية موافقة على هذا الطرح لأنه يعجل بمغادرة الولايات المتحدة الأرض السورية، من دون أن يؤدّي إلى حدوث الفوضى.

العربي الجديد

لمن ستكون المنطقة الآمنة؟/ شعبان عبود

ألقى اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنشاء منطقة آمنة في شمال شرق سوريا، مزيدا من الغموض والضبابية على المشهد المعقد أصلا بفعل قراره سحب القوات الأميركية من الأراضي السورية. لا يخفى على أحد هنا أن الإعلان عن إنشاء المنطقة الآمنة ما هو إلا محاولة أميركية للملمة آثار القرار غير المدروس جيدا بالانسحاب.

لقد أدركت الولايات المتحدة بعد إعلانها سحب القوات من شمال شرق سوريا، أن فراغا كبيرا سينشأ بعد رحيل قواتها، وستكون إيران وروسيا والنظام السوري، إضافة إلى تنظيم داعش، هي أكثر الأطراف المؤهلة لملء هذا الفراغ، والأكثر ترقبا وتوثبا وانتظارا له، وهي أيضا الأطراف التي لا تريدها واشنطن أن تحل مكانها، أو أن تحقق انتصارا عسكريا وسياسيا بعد انسحابها. في هذا الصدد كلنا يعرف حجم الانتقادات الداخلية

في الولايات المتحدة لهذا القرار الاعتباطي، وخاصة من قبل قادة في البنتاغون ومجلس الشيوخ، ومنهم من هو مقرب من إدارة الرئيس دونالد ترامب، مثل عضو مجلس الشيوخ ليندسي غراهم.

صحيح أن الإعلان عن إنشاء منطقة آمنة بعرض32 كلم شمال سوريا أتى بعد مباحثات بين الرئيس ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، لكن من الواضح أن ما تريده واشنطن من المنطقة الآمنة يختلف عما تريده أنقرة، وذلك رغم وصف أردوغان الاتفاق بـ “التفاهم التاريخي”. فالرئيس التركي نفسه الذي وصف هذا التفاهم بـ “التاريخي”، عاد وقال بنفس المناسبة خلال كلمة ألقاها في البرلمان أمام كتلة “حزب العدالة والتنمية” الحاكم، إن اختلاف مواقف أنقرة وواشنطن حول سوريا “أمر محزن”.

وإضافة إلى تركيا والولايات المتحدة، هناك العديد من القوى واللاعبين الدوليين والإقليميين الذين لديهم مواقف مختلفة، وتطلعات متناقضة حول المنطقة الآمنة، ومنهم من لا يريدها أصلا، مثل روسيا التي أعلن وزير خارجيتها سيرغي لافروف رفض بلاده المقترح الأميركي بإقامتها، وشدد على أن الجيش السوري هو مَن يجب أن يسيطر على شمال البلاد، قائلا إن “الحل الوحيد والأمثل هو نقل هذه المناطق لسيطرة الحكومة السورية وقوات الأمن السورية والهياكل الإدارية”.

أيضا تتطلع قوات سوريا الديموقراطية، ووحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبر أكبر مكونات هذه القوات، إلى المنطقة الآمنة بعين مختلفة تماما عن الجميع، وربما مختلفة عن الولايات المتحدة ذاتها.

فإذا كانت واشنطن تريد من المنطقة الآمنة تحقيق عدة أهداف بعد تفاهمات مع تركيا، مثل منع قوى “معادية” من ملء الفراغ بعد سحب قواتها، مثل روسيا وإيران والنظام السوري وتنظيم داعش، وتريد أيضا توفير نوع من “الحماية” لحلفائها الأكراد، فإن تطلعات هؤلاء “الحلفاء” أنفسهم تختلف عما تريده واشنطن وتتناقض تماما عما تطمح إليه أنقرة.

فالقوى الكردية الممسكة بزمام الأمور على الأرض، ونقصد هنا قوات سوريا الديمقراطية، ما تزال حائرة ومتوجسة، وربما لديها مخاوف فيما لو استطاعت أنقرة إقناع واشنطن وموسكو بلعب دور عسكري ولوجستي مركزي في إدارة هذه المنطقة، ولعل الرد الأولي للقيادي الكردي ألدار خليل الرافض لهذه المنطقة، يعكس حقيقة هذه الهواجس حين قال إنه “يمكن رسم خط فاصل بين تركيا وشمال سوريا عبر استقدام قوات من الأمم المتحدة تابعة للأمم المتحدة لحفظ الأمن والسلام أو الضغط على تركيا لعدم القيام بمهاجمة مناطقنا”.

ومن ناحية ثانية، ربما ترى هذه القوات الكردية في المنطقة الآمنة، فيما لو كانت بإشراف أميركي كبير ومساهمة محدودة من أنقرة، حاجزا يمنع القوات التركية من شن عمليات عسكرية ضدها كعمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”. كذلك، ربما تتطلع هذه القوات الكردية لأن تكون المنطقة الآمنة بداية لتحقيق إقليم شبه مستقل وكيان فيدرالي أسوة بـ “كردستان العراق”، مستفيدة من دعم أو غطاء أميركي لهذه المنطقة.

أما تركيا، فترى ضرورة أن تقام المنطقة بالتشاور مع جميع الأطراف المؤثرة، بما فيها الدول الضامنة في مفاوضات أستانا (تركيا وروسيا وإيران)، وتؤكد على رفضها مشاركة وحدات حماية الشعب الكردية في العملية. لا بل إن أنقرة تريد من المنطقة أن تكون نهاية لأحلام الأكراد السوريين بتشكيل كيان شبه مستقل مثل إقليم كردستان العراق، وحاجزا أو ربما سدا، أمام من تعتبرهم منظمات “إرهابية” تهدد الأمن القومي التركي. ولقد أوضح الرئيس رجب طيب أردوغان ذلك صراحة حين قال إن بلاده لن تسمح أبدا “بمنطقة آمنة تتحول إلى مستنقع جديد ضد تركيا مثل ذلك الموجود في شمال العراق، ونحن لا نتحدث عن منطقة آمنة (كحماية) من تركيا وإنما منطقة لإبعاد الإرهابيين”.

وأمام من يعتقد  أن الكلمة النهائية في موضوع المنطقة الآمنة ستكون في نهاية المطاف لتركيا، نظرا لأن الولايات المتحدة

بصدد البحث عن شريك وحليف قوي يمكن الاتكال عليه عسكريا لملء الفراغ بعد انسحاب القوات الأميركية، ويمنع عودة تنظيم داعش، ويقطع الطريق على الميليشيات الإيرانية وروسيا وقوات النظام السوري، وأمام من يرى أن واشنطن تسعى من وراء هذه المنطقة إلى حماية حلفائها الأكراد المحليين، والاعتماد عليهم لتحقيق مصالحها، ولجم الطموحات التركية في سوريا، أمام هذا وذاك، فإن ثمة طريقا طويلا وشاقا من المباحثات بين كل الأطراف الدولية الفاعلة والمؤثرة في المشهد السوري المعقد، لكن الثابت أن الولايات المتحدة التي قررت الانسحاب عسكريا من شمال شرق سوريا،  لن تنسحب نهائيا من المشهد سواء اعتمدت على تركيا في موضوع المنطقة الآمنة أم اعتمدت على حلفائها الأكراد وقواتها العسكرية المنتشرة في المنطقة.

ولعل تاريخ التدخل العسكري الأميركي في العديد من البلدان في منطقة الشرق الأوسط، أو غيرها من الدول، (اليابان، ألمانيا، كوريا، أفغانستان، العراق..)  يؤكد أن الولايات المتحدة، غالبا ما استطاعت الحفاظ على مبررات للوجود العسكري حتى لو لم تحظ تلك المبررات بدعم من الرأي العام الأميركي نفسه، أو من قبل شعوب وحكومات تلك الدول التي توجد فيها القوات الأميركية. التجربة تقول إن واشنطن قد تتخذ قرارات بسحب أو تقليص عديد قواتها هنا أو هناك، لكنها لا تنسحب نهائيا من المشهد.

تلفزيون سوريا

المنطقة الآمنة: اشتباك المصالح الإقليمية والدولية/ سعيد قاسم

تحاول أطراف محلية، إقليمية ودولية، القيام بدور في ترجمة “المنطقة الآمنة” على الأرض شمال شرقي سوريا، بين سوريا وتركيا. وتحاول كل الأطراف فرض وقائع على الأرض، ما سيجعل من تفاصيل المنطقة الآمنة معرضة للتعديل والاختلاف، حتى بعد تنفيذها.

قرار الرئيس الأميركي بالانسحاب السريع من سوريا، ثم فرملته إلى انسحاب بطيئ على مراحل، وسط العجلة التركية، والترقب الروسي، جعل من مواقف أطراف محلية وإقليمية أخرى أقل ظهوراً، رغم أنها ليست أقل فاعلية. وفيما يزور، الأربعاء، الرئيس التركي موسكو، لمناقشة “المنطقة الأمنة” ضمن جملة مواضيع سورية أخرى، فقد سبقه وفد من “الاتحاد الديموقراطي” إلى موسكو للغاية ذاتها.

مجلسُ مقاطعة الحسكة التابع لـ”الإدارة الذاتية”، افتتح الثلاثاء، مركزاً له في حي تل حجر الكردي، في مدينة الحسكة، والقرار بجعل الحسكة مقاطعة ضمن “الإدارة الذاتية”، كان قد صدر قبل أكثر من عام، ضمن المخطط الإداري لـ”فيدرالية شمال شرق سوريا”، إلا إن تنفيذه الآن يوحي بتطورات متعلقة بموضوع “المنطقة الآمنة”.

وتعمل “الادارة الذاتية” على التحضير لسيناريوهات “المنطقة الآمنة”، إذ خففت المظاهر العسكرية في ديرك والجوادية وتربسبيه الحدودية، وسحبت قوات “الدفاع الذاتي” من مركزها التدريبية في تلك المدن إلى مركزها في مدينة الحسكة. وتقع الحسكة خارج منطقة الـ30 كيلومتراً المصممة لانشاء المنطقة الآمنة.

من جهة ثانية، يزور وفد برلماني فرنسي، منذ الاثنين، مناطق “الادارة الذاتية”، ويضم ماتيلدا بانوت ودانييل ابونو وباسكال ترادور، واستقبله في مدينة القامشلي الناطقة باسم مكتب “مؤتمر ستار”؛ وهو تنظيم نسائي منضوٍ في الادارة الذاتية ومعنيٌ بحقوق بالمرأة.

وقال دانييل أبونو، الثلاثاء، إنهم اطلعوا على “النموذج الديموقراطي للادارة الذاتية”، وإنهم سيناقشون مع الحكومة الفرنسية “ضرورة فرض حظر جوي على شمال وشرق سوريا”.

مصادر خاصة، قالت لـ”المدن”، إن زيارة الوفد الفرنسي تأتي في إطار ترتيبات المنطقة الآمنة، إذ ستشرف فرنسا، ضمن تحالف مع دول أخرى، عليها. وبحسب المصدر، فإن فرنسا والامارات، ستلعبان الدور الأكبر في الاشراف على المنطقة الحدودية الممتدة بين الدرباسية وكوباني، فيما ستشرف قوات “بيشمركة روج” و”قوات النخبة” على المنطقة الممتدة بين المالكية “ديريك” إلى عامودا، فيما ستكون مناطق نفوذ “قسد” هي الحسكة وديرالزور والرقة والقامشلي، وستنسحب من منبج لتدار من قبل تركيا وروسيا، ضمن اتفاقية تشمل أيضا الابقاء على القواعد الأميركية في منبج.

سكرتير “حزب يكيتي الكردستاني” سليمان أوسو، قال بوجود توافق إقليمي ودولي على تشكيل منطقة آمنة إرضاءً لتركيا، والتي كانت سباقة بطرح هذا المشروع. وأوضح: وفق المعطيات المتوفرة لدينا ستكون قوات “بيشمركة روج” جزءاً من القوة العسكرية المقترحة لحماية المنطقة، مؤكداً أن “الحراك الديبلوماسي النشط الذي يبذله ممثلو المجلس الكردي مع الدول المؤثرة بالملف السوري ينذر بمؤشرات إيجابية بهذا المنحى”.

وحزب “يكيتي” هو أحد الأحزاب الرئيسية في “المجلس الوطني الكردي” السوري المعارض المنضوي في “الإئتلاف” السوري، وهو الممثل السياسي لقوات “بيشمركة روج” المؤلفة من الأكراد السوريين المنشقين عن قوات النظام والتي تتخذ من كردستان العراق مقراً لها.

إلا أن وجود دور لـ”بيشمركة روج” مرتبط بمحاولة إقليم كردستان لعب دور رئيسي في المنطقة الآمنة، ويبدو أن تركيا ترفض ذلك، إذ قال الرئيس التركي إنه لن يسمح بحصول مستنقع في سوريا شبيه بالمستنقع الذي حصل شمالي العراق.

الهدف الرئيسي للتحرك الكثيف لمسؤولي إقليم كردستان في هذا الاتجاه، هو قطع الطريق أمام ما يبدو محاولة تركية للوصول من خلال المثلث الحدودي السوري العراقي التركي، إلى الأراضي العراقية مباشرة، متجاوزة اقليم كردستان. ويستفيد الاقليم من التجارة العراقية-التركية عبر معبر ابراهيم خليل الحدودي. ويحاول الإقليم الاستفادة من تحالفه مع عشيرة الشمر في العراق، تفادياً لمستجدات سياسية قد تحاصره اقتصادياً.

المنطقة الامنة حسب الرؤية التركية هي منطقة تشارك فيها جميع المكونات، ضمن اشرافها المباشر، ما يُحقق لها أهدافاً بعيدة المدى، كتفادي ظهور كيانات كردية تعتبرها تهديداً لأمنها القومي. ويتضارب ذلك مع مصالح الولايات المتحدة، التي يُستبعد أن تسمح بتطورات أمنية في المناطق النفطية التي ستشرف عليها “بيشمركة روج” و”قوات النخبة”. وهي المناطق التي لم تُنشئ فيها الولايات المتحدة أبراج مراقبة، ما يشير إلى أنها لم تكن بالأساس معرضة للتهديد.

المدن

إنعاش اتفاقية أضنة؟/ سمير صالحة

ازدادت في أواخر التسعينيات حدة التوتر بين أنقرة ودمشق بسبب الدعم المتواصل الذي كانت تقدمه دمشق لتنظيم “حزب العمال الكردستاني” المصنّف إرهابيا من قبل كثير من العواصم والدول، رداً على سياسة تركيا المائية وتمسك سوريا بطرح مصير موضوع منطقة إسكندرون الحدودية وطبيعة التحالفات الإقليمية المتباعدة بين البلدين. أعلنت أنقرة الاستنفار العام والاستعداد العسكري لإنهاء هذه الحالة على حدودها عبر توجيه إنذار أخير لدمشق فتحركت الوساطات العربية بإشراف مصري ساهم في الوصول إلى توقيع اتفاقية أضنة عام 1998 وإخراج عبد الله أوجلان من سوريا وفتح صفحة جديدة من العلاقات التركية السورية.

قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل يومين، إن اتفاقية أضنة المبرمة قبل عقدين ما زالت فاعلة وإن أنقرة قد تلجأ إلى تنفيذ بنودها مشيرا إلى أنه بحث ذلك مع نظيره الروسي فلادمير بوتين خلال لقائهما الأخير. تُفسّر أنقرة الاتفاق على أنه يعطيها حق التدخل العسكري المباشر لأن “وحدات حماية الشعب” هي تنظيم إرهابي امتدادي لحزب العمال الكردستاني. لكن هناك من يرى في الجانب الآخر أن الاتفاق يتطلب تحريك آليات مشتركة واضحة بينها خط اتصال مباشر بين سلطات البلدين وتشكيل لجان عمل مشترك تتخذ القرارات المناسبة بهذا الخصوص. ألن يكون لتغيير خارطة الوجود العسكري في شمال سوريا اليوم أي تأثير على طريقة تنفيذ اتفاقية أضنة حيث يغيب النظام عن التواجد هناك ويريد ويكرر دائما أنه يدعو المجتمع الدولي لمساندته على استرداد سلطته الكاملة على الأراضي السورية؟

النصوص العربية المتناقلة تتحدث وبموجب هذه الاتفاقية عن إعطاء تركيا الحق بمطاردة هذه المجموعات الإرهابية بعمق 5 كيلومترات شمال سوريا، وعن إمكانية اتخاذ تركيا للتدابير اللازمة لمنع تهديدات هذه المجموعات فهل يمكن تفسير ذلك على أنه مستند قانوني يعطي أنقرة حق إقامة منطقة آمنة أو عازلة داخل الأراضي السورية؟

العودة إلى طرح تنفيذ اتفاقية أضنة يعني وجود التباعد التركي الروسي في تفهّم وقبول منطق المنطقة الآمنة الذي تتحدث واشنطن مجددا عنه. ما تقوم به موسكو اليوم يعكس أكثر من حقيقة، فهي تدعم بشار الأسد باتجاه أن يسترد السيطرة على كافة المناطق السورية بما فيها المناطق التي ستنسحب منها القوات الأميركية وتشجع “قسد” على الحوار مع النظام من أجل تحقيق هذه الغاية. لكن ما يقوله الكرملين اليوم حول إن اتفاقية أضنة ما زال مفعولها مستمرا يعكس حقيقة أنه يتطلع إلى محاصرة “قسد” بورقة دمشق وصوب التنسيق مع واشنطن في الملف السوري وتحديدا في شرق الفرات لتقليص النفوذ التركي والإيراني وتقاسم الكعكعة السورية مناصفة مع واشنطن.

أنقرة وعبر وزير خارجيتها مولود جاووش أوغلو ترى أن تصريح بوتين بشأن اتفاقية أضنة بين تركيا وسوريا، يعني أن لأنقرة الحق في التدخل عسكريا إذا لم تستطع سوريا القضاء على “الإرهابيين” الذين يهددون تركيا. لكن هناك من يرى في موسكو ودمشق أن الهدف من خلال فتح الطريق أمام القوات التركية في شرق الفرات أن تتراجع عن خطة المنطقة الآمنة مقابل تعهد النظام بموجب اتفاقية رسمية بإنهاء وجود “وحدات حماية الشعب” وضمان عدم قيام كيان انفصالي على الحدود التركية السورية. النتيجة التي أعلنت بعد لقاء نائب وزير الخارجية التركية سيدات أونال، مع نظيره الروسي سيرغي فيرشينين، في العاصمة موسكو، بعد اجتماع القمة الأخير تقول أيضا إن أنقرة وموسكو يبحثان فرصة طمأنة تركيا حدوديا وقطع الطريق على مشروع انفصالي في شمال سوريا.

يقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن أنقرة قادرة بمفردها على إدارة شؤون المنطقة الآمنة في شمال سوريا لكنها تفضل أن يكون ذلك بالتشاور والتنسيق مع واشنطن وموسكو، لكن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يماطل في إنجاز تفاهمات مدينة منبج التركية الأميركية فكيف سيفتح الطريق أمام أنقرة لتنفرد في إمساك خيوط اللعبة في المنطقة الآمنة؟

بوتين من ناحيته هو يعلن أنه يمسك بورقة اتفاقية أضنة الموقعة قبل 21 عاما بين أنقرة ودمشق لتضييق الخناق على التحرك التركي في المناطق الحدودية فهذه الاتفاقية قد تعطي الأتراك حق مطاردة عناصر التنظيمات الإرهابية داخل الأراضي السورية اذا ما فشل النظام في ذلك لكنها لا تعطيها حق إقامة منطقة آمنة أو عازلة تحت ذريعة فشل النظام السوري في حماية الأمن القومي التركي كما تردد موسكو نفسها.

بإيجاز أكثر إذا ما قررت تركيا فعلا العودة إلى إحياء اتفاقية أضنة فهي تكون بذلك أعلنت العودة إلى تنفيذ مواد ونصوص هذه الاتفاقية التي تجعل من النظام في سوريا شريكا ومرجعا قانونيا وسياسيا في تنفيذها كونها اتفاقية ثنائية فيها كثير من المواد التي تتحدث عن ضرور المراقبة والتحرك الأمني والعسكري والاستخباراتي المشترك لمحاربة المجموعات الإرهابية.

مشكلة أخرى أكبر هي أن أنقرة تعرف أن موسكو تخوض عملية وساطة بين مجموعات “حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني” الموصف بالإرهابي في تركيا، وبين النظام السوري باتجاه تأمين صيغة أمنية تخرج هذه المجموعات من شمال سوريا كخطر يهدد الأمن الحدودي التركي فهل ستعارض تركيا تفاهمات من هذا النوع إذا ما أعطتها ما تريده من ضمانات أمنية حتى ولو كانت تمنح موسكو فرض مشهد سياسي جديد على الجميع في سوريا؟

الحديث عن تحريك اتفاقية أضنة بين تركيا وروسيا هدفه تذكير واشنطن بوجود بدائل أمامهما إذا ما ماطلت في تنفيذ قرار الانسحاب وبالتالي إحراق ورقة اللاعب المحلي الكردي التي تملكها في سوريا عبر أكثر من مناورة، بينها التلويح بإعادة الروح إلى تفاهمات أضنة التي تلزم أنقرة بتشكيل لجان عمل تركي سوري ولجان مراقبة وتفعيل خطوط التواصل بينهما قبل كل شيء. لكن تفعيل اتفاقية أضنة يتطلب أيضا الأخذ بعين الاعتبار التغيرات السياسية والعسكرية والميدانية الديمغرافية في سوريا والتي لعبت تركيا دورا أساسيا في حدوثها عبر عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون في الشمال السوري فكيف ستكون عملية تطبيق اتفاقية أضنة من جانب واحد، وهي ثنائية وقعت في أجواء وظروف معروفة الأسباب؟

التلويح باتفاقية أضنة من الممكن تفسيره على أنه قد يضيق الخناق على مشروع الكيان الإداري الكردي المستقل في سوريا وإلزام “وحدات حماية الشعب” بقبول الحل التركي – الروسي كبديل أكثر فاعلية وعملية من الطرح الأميركي الذي تعارضه الدول الضامنة ويرفضه النظام وقوى المعارضة السورية بأكملها. لكنه أيضا وعبر إحياء اتفاقية أضنة التركية السورية الموقعة عام 1998 يعني كذلك أن روسيا من خلال توسطها بين النظام في سوريا و”مسد” كسبت نفوذا جديدا في شرق الفرات بقبول ودعم تركي هدفه تقليص النفوذ الأميركي هناك وإضعاف التنسيق بين واشنطن والوحدات الكردية المحسوبة عليها فهل سيظل ترمب متفرجا؟

تلفزيون سوريا

الشمال السوري: رهانات أردوغان بين تقلبات ترامب وخطط بوتين/ د. خطار أبودياب

على مسافة شهرين من الذكرى الثامنة لانطلاق شرارتها، تبدو “الحروب السورية” الكبيرة والصغيرة وكأنها لا تنتهي، وتتركز الحلقة الراهنة منها على شمال البلاد وشرقها مع رقصة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بين منبج وإدلب وشرق الفرات، حيث يحاول إعادة كتابة التاريخ، بعد قرن على نهاية الإمبراطورية العثمانية، والمشاركة في رسم خرائط جديدة في إقليم ملتهب عبر منع الأكراد من تركيز أي وضع جغرافي جديد لهم، ولعب دور أحد صناع الوضع السوري الجديد برمته.

لكن الطموح التركي الفضفاض سيصطدم بعوامل تفجير في منطقة مليئة بالانهيارات، وترتبط مآلاته بخيارات أطراف مسار أستانة وخاصة خطط ومناورات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مدير “اللعبة الكبرى الجديدة” في سوريا، وليس بعيداً عن القرارات النهائية للولايات المتحدة الأميركية التي لا تزال تتمتع بالموقع القيادي في الشرق الأوسط حتى إشعار آخر بالرغم من ضبابية وتقلبات مواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

احتدم الجدل والتزاحم حول توزيع النفوذ في المناطق الاستراتيجية لشمالي سوريا وشرقها بعد قرار الرئيس ترامب الانسحاب الأميركي منها، والذي تحول تدريجيا إلى “إعادة تموضع” مع قدر غير يسير من الغموض أو التخبط بسبب تحفظ المؤسسات الأميركية واستقالة وزير الدفاع نفسه.

وبعد جولتين في المنطقة لوزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون، برز التصحيح وإعادة النظر بما يشبه الترتيب بين ترامب وأردوغان لجهة “التهديد بتدمير الاقتصاد التركي في حال ضرب الشركاء الأكراد”، وإرفاق ذلك بتصور عن “منطقة آمنة بعرض 20 ميلا (32 كلم)” تضمن مصالح تركيا الأمنية في جوارها السوري وتحمي الأكراد حسب وجهة نظر سيد البيت الأبيض. لكن سرعان ما انتهز الرئيس التركي الفرصة واتصل بنظيره الأميركي ونقل عنه تأكيد انسحاب القوات الأميركية من المنطقة و”التوصل إلى تفاهم له أهمية تاريخية كبيرة”، لأن تركيا ستتولى إنشاء المنطقة الآمنة بعد التشاور مع الأطراف المؤثرة بما فيها الدول الضامنة لمسار أستانة.

وأكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن مسألة المنطقة الآمنة ستُطرح على أجندة لقاء القمة المتوقع بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في وقت لاحق من يناير الجاري. لكن ما تعتبره تركيا “منطقة آمنة” في شمال سوريا، يعتبره الأكراد “مكمنا” ينذر بحروب طويلة، حيث تصر أنقرة على استبعاد “وحدات حماية الشعب الكردي (نواة قوات سوريا الديمقراطية الحليف الرئيسي لواشنطن والتحالف الدولي في الحرب ضد تنظيم داعش) من الترتيبات الأمنية المستقبلية”. ويتم ذلك بسباق مع الزمن وبموازاة مسار آخر تشرف عليه قاعدة حميميم الروسية بين النظام في دمشق وممثلي أبرز الأطراف الكردية السورية من أجل بلورة ترتيب يتيح إعادة سيطرة الدولة السورية على هذه المنطقة.

قبل كل هذه المناورات كان بعض المراقبين يتحدثون عن تركيز مناطق نفوذ أميركية وروسية وتركية وإيرانية على خلفيات استراتيجية وعلى تقاسم موارد الغاز والنفط والمياه والزراعة من عفرين والزيتون فيها إلى دير الزور والنفط حولها. لكن الضبابية السائدة حاليا لا تتصل حصرا بجوار حلب الشهباء وإقليم الجزيرة وفراتها، بل تمتد أيضا إلى إدلب الخضراء وحماة وبالقرب من الساحل حيث سجلت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا المرتبطة بتنظيم القاعدة) تقدما حاسما في ظلال اتفاق 17 سبتمبر 2018 المتعارف عليه باسم “هدنة بوتين – أردوغان في إدلب”.

لا بد من التذكير بأن محافظة إدلب كانت معقل المعارضة السورية المسلحة ودارت فيها حرب مع القوات الموالية، لكن دخول النصرة وداعش على الخط غيّر من طبيعة النزاع الذي أخذ يتوسع منذ العام 2012 مع زيادة حدة كل أنواع التدخلات الخارجية في ظل استباحة حدود سوريا وتقويض استقرارها، وخاصة من ناحية الاندفاع الإيراني لحماية النظام السوري جسر المشروع الإمبراطوري نحو البحر المتوسط في لبنان، أو لناحية الانخراط التركي في إطار التوجهات الغربية والذي أخذ يتأقلم مع الاختراق الروسي الاستراتيجي وبالضبط منذ معركة حلب أواخر العام 2016.

بيد أن رجب طيب أردوغان الذي عزز على وقع “الحروب السورية” صعوده الداخلي من رئيس للوزراء إلى رئيس للجمهورية في ظل نظام “رئاسي سلطاني” كان يلعب على الساحة السورية لعبته الخاصة ومصلحة بلاده العليا حسب رؤيته.

من اللافت أنه في موازاة احتضان المعارضات السورية وممارسة وصاية على بعضها (سهّلتها قرابة أيديولوجية وأموال بعض العرب) فتحت تركيا حدودها بشكل طوعي أو بتغاض أو بعجز، أمام المتشددين من أنصار “الأمميات الإسلامية” أو من جماعات الإرهاب المصنوعة والجاهزة عند الطلب تحت غطاء محاربة النظام السوري. وكل ذلك مهّد لإرسال الجيش التركي إلى داخل الأراضي السورية في عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” تحت عنوان “مكافحة الإرهاب” و”الأمن القومي”، لكن الهدف الأساسي الدائم كان إجهاض حلم الأكراد بما يشبه الإقليم، ولتأمين الحضور إلى أي طاولة ستقرر لاحقا مستقبل سوريا.

تبعاً للتطورات الأخيرة المتصلة بقرار ترامب وتغيّر موازين القوى في إدلب، يصح التساؤل عن اقتراب أردوغان من تحقيق رهاناته. وتقول مصادر من الشمال السوري إن “المنطقة الآمنة التي تعتزم الحكومة التركية إقامتها على طول الحدود مع سوريا ستضم بلدات من 3 محافظات، هي حلب والرقة والحسكة. ووفقا للمسح فإن المنطقة الآمنة تمتد على طول 460 كيلومترا، على طول الحدود التركية السورية، وبعمق 20 ميلا”.

لكن للوهلة الأولى لن تسمح واشنطن وموسكو بذلك، ولن ترضى دمشق بتمرير رسم مثل هذه المنطقة، وأمامها عقبات جمة ومتنوعة. ووفق مصادر أوروبية وأميركية فإن “واشنطن تخاطر بشدة بإسناد مهمة القضاء على داعش لتركيا لأن أنقرة لا تهتم بمحاربة التنظيم، وإنما تصب كل تركيزها على القضاء على الأكراد شمال سوريا”.

وتستطرد هذه المصادر بخصوص إدلب “أن أولوية تركيا في هذه المرحلة، ليست محاربة النصرة، بل الأكراد وتحديدا وحدات حماية الشعب الكردية في شرقي الفرات، وعليه لم تتحرك تركيا ضد النصرة”، من دون أن يعني ما سبق أن احتمال خلط الأوراق غير وارد على مدى قريب أو متوسط إن عبر المواجهة مع النصرة أو تسهيل ضربها.

وهذه السيطرة لـ”هيئة تحرير الشام” في قطاع واسع تدلل على صعوبات تركية لفرض احترام أو تطبيق اتفاق سوتشي، لكن ربما يصبح الفرز الحاصل أفضل طريقة للتخلص منها لاحقا، من خلال عملية عسكرية مشتركة تقودها روسيا على شاكلة معارك حلب والغوطة الشرقية، وحينها تبيّن أن لكل شيء ثمنه في مساومات اللاعبين الخارجيين المتقاطعة على حساب السوريين، إذ حصلت صفقات غير معلنة في معارك حلب وجوار دمشق والقنيطرة ودرعا بين عدة لاعبين تحت رعاية العراب الروسي وموافقة المايسترو الأميركي.

يسود الاعتقاد، أحيانا، بأن المهمة الأردوغانية سهلة المنال بسبب عدم وجود مصالح حيوية وسياسة متماسكة لواشنطن في الملف السوري من جهة، والإدارة الروسية البراغماتية لهذا الملف من جهة أخرى. لكن الارتباك الموجود سيزيد من عوامل الالتهاب في الشمال السوري لأن الأولويات في دائرة “الفوضى الدولية” لا تحد من الأطماع الإقليمية المكشوفة في سوريا، إذ لا يقتصر التدخل الإيراني على دعم النظام في دمشق والمبارزة المقننة مع إسرائيل، بل يمتد إلى الشرق والشمال السوريين ليس فقط للتقاسم مع تركيا وروسيا بل للتصارع معهما أحيانا. إزاء هذه اللعبة المعقدة ستكون الخاصرة الرخوة لأردوغان ليس فقط في الجوار السوري إذا ترك قواته تتوغل كثيرا فيه، بل في الداخل التركي أيضا حيث يقوى عضد معارضيه الذين لا تدغدغهم الأحلام السلطانية.

أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس

العرب

عودة إلى المنطقة الآمنة في سورية/ عمر كوش

عاد الحديث مجدداً بشأن المنطقة الآمنة في شمالي سورية، وجاء من الطرف الأميركي هذه المرة، في تغريدة أطلقها الرئيس دونالد ترامب، وتلقفها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي سارع إلى الاتصال بنظيره الأميركي، محاولاً بناء تفاهم معه حولها، بوصفها مطلباً تركياً، طرحه شخصياً قبل أربع سنوات، ولم تسنح الظروف الدولية والإقليمية لإشادتها في أكثر من مناسبة.

وأثارت العودة إلى المنطقة الآمنة حفيظة (ورفض) القوى المسيطرة على مناطق شمالي شرق سورية، ممثلةً في مليشيات الحماية الكردية، وما يعرف بمجلس سورية الديمقرطية، والإدارة الذاتية، وتعد جميعها من مخرجات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية. كما سارع نظام الأسد الإجرامي إلى رفضها، واعتبرها مسّاً بسيادته المفقودة منذ ثماني سنوات.

وتأتي العودة إلى المنطقة الآمنة في وقتٍ استكملت فيه تركيا حشد وحداتٍ كبيرة من جيشها على طول حدودها الجنوبية، المقابلة لمناطق سيطرة مليشيات الوحدات التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في سورية، وتتوعد بالقيام بعمليةٍ عسكريةٍ ضدها في منبج، وفي مناطق شرق الفرات، وذلك على خلفية قرار الانسحاب، سواء الفوري أو البطيء، الذي اتخذه ترامب، وظهر بمثابة تخلٍّ عن دعم هذه المليشيات التي اتخذتها الولايات المتحدة حليفاً أساسياً في حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتركها تواجه مصيرها وحدها، مثلما فعلت مع فصائل المعارضة السورية في أكثر من موقع ومناسبة، عندما تخلت عنها، وأرسلت رسائل واضحة إليها، مفادها أن لا تتوقع أي دعم أميركي حيال الهجمات الذي شنها تحالف النظام البوتيني مع النظام الإيراني ونظام الأسد ضدها في مختلف الجبهات، وانتهى أمر معظمها بالذوبان، وسلّمت أسلحتها، وانخرطت في تسويات روسية لصالح نظام الأسد. ولذلك تبدو عودة الإدارة الأميركية

إلى طرح المنطقة الآمنة بمثابة محاولة للملمة آثار قرار ترامب سحب قوات بلاده من سورية، إذ اصطدمت بالفراغ الذي سيحدثه هذا القرار، وبتبعاته وارتداداته على مختلف القوى الخائضة في القضية السورية، حيث يتحضر كل من نظامي الأسد وإيران لملء هذا الفراغ، بدعم من حليفهما نظام بوتين، فيما يحشد الأتراك قواتهم، ويتحضرون لمعركةٍ في منبج وشرقي الفرات. وبالتالي، فإن إقامة منطقة آمنة، تفصل ما بين تركيا ومليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي، تعد مخرجاً مقبولاً تركياً، كونه يبددّ مخاوفها الأمنية من جهة أولى، ويحافظ على موقعٍ للمليشيات المدعومة أميركياً من جهة ثانية.

ويحقق المخرج الأميركي بالعودة إلى المنطقة الآمنة، المعادلة التي طرحها وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، قبل أيام قليلة، خلال جولته في المنطقة، وتقضي بتأمين “الحماية للأكراد في سورية، مع السماح للأتراك بالدفاع عن بلادهم ضد الإرهابيين”. وهو مخرج أرضى الساسة الأتراك، وخفف من وقع تغريدة ترامب عن تدمير “تركيا اقتصادياً إذا هاجمت الأكراد”.

غير أن تصور المنطقة الآمنة التي طرحها الرئيس ترامب يختلف عن التصورات التي يطرحها الساسة الأتراك، إذ يريد الرئيس الأميركي إنشاء حزام أمني، يفصل بين حشود القوات التركية على الحدود السورية والمناطق التي تسيطر عليها مليشيات الوحدات الكردية في شمالي شرقي سورية. لذلك لم تحسم الأمور بشأن هذه المنطقة بعد، ولم تعرف كل التفاصيل بشأنها، إذ ستظهر خلافات عديدة عند وضع الخرائط بين العسكريين الأميركيين والأتراك، وهو ما يفسّر الصمت الذي أعقب لقاء رئيس هيئة الأركان التركية، ياشار غولر، مع نظيره الأميركي جيمس دانفورد، في العاصمة البلجيكية بروكسل، على هامش اجتماعات حلف شمال الأطلسي (الناتو).

في المقابل، تطمح الأوساط السياسية التركية إلى أن تمتدّ هذه المنطقة على طول 460

كيلومتراً، بدءاً من المثلث الحدودي بين سورية والعراق وتركيا عند مدينة القامشلي في أقصى الشمال الشرقي، مروراً بمدن وبلدات كل من الحسكة ورأس العين وتل أبيض وعين العرب، وصولاً إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات المقابلة لمدينة جرابلس. ولكن هذا الطموح التركي يصطدم بمواقف الأطراف الأخرى، ويتطلب تفاهماتٍ دوليةً وإقليمية، وخصوصا مع دول محور أستانة، حيث من المنتظر أن تكون المنطقة الآمنة حاضرةً بقوة على جدول أعمال اللقاء المرتقب في موسكو، بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 23 يناير/ كانون الثاني الجاري.

ويبدو من تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن موسكو لا تعارض فكرة “المنطقة الآمنة”، انطلاقاً من أنها تراعي “المصالح الأمنية لدول المنطقة، بما فيها تركيا”، على الرغم من تكراره النغمة البائسة التي اعتاد عزفها في كل مناسبة، بشأن “الحفاظ على وحدة الأراضي السورية”. ومع ذلك، فإن أسئلة عديدة تُطرح بشأن المنطقة الآمنة، وخصوصا من أين تبدأ وإلى أين ستنتهي؟ ومن يشرف على إدارتها وحمايتها؟ وهل ستغطى دولياً أم أممياً؟ وما هو وضعها القانوني؟ وسوى ذلك.

ومهما كانت حيثيات العودة إلى المنطقة الآمنة، فإن من الصعب القول إن طريقها بات سالكاً، هذه المرة، نحو الإشادة والتحقق على الأرض، إذ إنها تتطلب ليس فقط توافقاتٍ دوليةً وإقليميةً، بل دعماً لوجستياً ومادياً من الأطراف الخائضة في القضية السورية، إضافة إلى عدم إمكان التكهن بمواقف الرئيس ترامب الذي عادة ما يتخذ قراراته منفرداً، وقد يتراجع عنها بعد حين، نظراً إلى طبيعته وتركيبته، وميله إلى صنع المفاجئ واللامتوقع، بل وإثارة الزوابع والعواصف، إذ يمتلك قدرة استثنائية في الاستعراض، وخطف الأضواء وخلط الأوراق.

العربي الجديد

لمن سنأمن في المنطقة الآمنة ؟/ سمير صالحة

إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن عودة الروح إلى مشروع تركيا القديم – الجديد الهادف لإنشاء منطقة آمنة في شمال سوريا بعد اتصال هاتفي مع نظيره الأميركي دونالد ترمب، أشعل نقاشا تركيا وسوريا وإقليميا حول أسباب وخلفيات وأهداف هذا القرار وفرص تحقيقه وسط كل هذه التعقيدات في الملف السوري.

ما الذي دفع ترامب الذي كان يهدّد قبل ساعات بتدمير الاقتصاد التركي إذا ما قررت أنقرة تحريك قواتها ضد حليفه المحلي في سوريا “وحدات حماية الشعب” الكردية لتبديل رأيه مرة أخرى ومنح الرئيس التركي مثل هذه الفرصة والإعلان عن “تفاهم تاريخي” من هذا النوع؟

ما هي العلاقة بين قرار ترامب سحب القوات من سوريا وتمسكه بحماية حلفائه في “قسد” وتهديد أنقرة بين الحين والآخر أمنيا وسياسيا واقتصاديا، وبين تحوله الأخير نحو إعطاء تركيا ما تريده في مشروع المنطقة الآمنة؟

أي نوع من التعهدات ستقدمها قيادة حزب العدالة والتنمية للبيت الأبيض والكرملين مقابل الحصول على ما تريده في تنفيذ هذه الخطة؟

هل هو تحرك يخدم مسار التسوية السياسية في سوريا ويُسرّع إقناع اللاعبين المحليين والإقليميين بضرورة دعمه والوقوف إلى جانبه؟

وما هي مصلحة السوريين في الحكم والمعارضة من إنشاء منطقة من هذا النوع بعد مرور 7 سنوات على اقتراحها من قبل تركيا؟ وهل ظروف وأجواء ومعطيات اليوم تتفق مع خارطة التحالفات والمعادلات السورية يومها؟ وهل يسقط مشروع المنطقة الآمنة حلم “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي بالتقسيم والانفصال في شمال سوريا؟

أنقرة لا تريد النظام و”قسد” في المنطقة الآمنة، وروسيا تقول إن الفرصة الوحيدة هي تسليم المنطقة بأكملها لبشار الأسد، وأميركا تشترط الحصول على ضمانات تركية كافية أنها لن تنقض على حليفها المحلي الذي يريد بدوره ضمانات دولية بعدم فرض النفوذ التركي على مناطق وجوده. فأية طبخة بحص هي ستكون قادرة على جمع التناقضات وإرضاء الجميع وفتح الطريق أمام التسويات السياسية في سوريا؟

أنقرة تدرك تماما أن روسيا وإيران هما من عرقل خطتها في غرب الفرات لناحية الوصول إلى الأهداف التي وضعتها ميدانيا وجغرافيا، وهي لن تتجاهل قدرات واشنطن في فعل ذلك أيضا في شرق الفرات فكيف إذا ما التقت المصالح والحسابات الأميركية الروسية أمام التصلب والتعنت التركي في شمال سوريا؟ المنطقة الآمنة قد تتحول إلى مصيدة العنكبوت المنصوبة لتركيا في شمال سوريا.

وأنقرة تعرف جيدا استحالة التفرّد في تنفيذ خطة من هذا النوع وهي لن تحاول فعل ذلك أصلا فهناك شروط الإعداد القانوني والسياسي واللوجستي والدعم الأممي والدولي الذي لا مفر منه. حدود المنطقة ومساحتها وتجهيزها وأهدافها بين القضايا الواجب التفاهم حولها بين اللاعبين الإقليميين المؤثرين في الملف السوري.

في العلن يذكر بعض القوميين الأتراك بثوابت “الميثاق المللي” التركي في سوريا . لكن دولت بهشلي رئيس حزب الحركة القومية اليميني يحذّر من خطة منطقة آمنة تتحول إلى مصيدة جديدة كما حصل عام 1991 في شمال العراق عبر خط العرض 36 ومحاولات بناء كيان كردي مستقل في شمال سوريا بحماية الخط 32 هذه المرة. هاجس رسم حدود المنطقة الآمنة يقلق الأتراك لناحية تحوله إلى فرصة لرسم حدود الكيان الكردي المستقل في شمال سوريا.

أردوغان ودون أي تردد يقول سنقيم منطقة آمنة في شمال سوريا نشرف نحن على إدارة شؤونها. لكن هناك حقيقة أخرى تقول أن دور هذه المنطقة والمطلوب منها هو الذي سيحدد مواصفاتها وشكلها وطريقة إقرارها ودعمها وتمويلها.

خطة المنطقة الآمنة للوهلة الأولى هي قنبلة موقوتة جديدة فجرها ترامب في شمال سوريا لزيادة التباعد والاصطفافات وتعقيدات المشهد السوري. أول ارتداداتها قد تكون تأزم الأمور أكثر فأكثر في إدلب ومناطق تخفيض التوتر بين أنقرة وموسكو. قد يكون إشعال جبهة غرب الفرات مجددا هو هدف ترامب الحقيقي عبر طرح التقارب والانفتاح الأميركي التركي في شرقه. إنشاء منطقة آمنة بمقاييس وذهنية عام 2012 لن يقدم كثيرا لسوريا وللشعب السوري.

واشنطن تريد محاصرة تحالف أستانة الثلاثي، إما عبر نسفه باتجاه منصة حوار بديل تخرج إيران من المعادلة أو هي تريد أن يكون الحوار أميركياً روسياً بشكل مباشر عبر تحييد الدورين التركي والإيراني معا من خلال مناورة من هذا النوع تعقد حسابات موسكو أكثر فأكثر وتلزمها بإعطائها ما تريد.

بين مهام ودور هذه المنطقة حسب أردوغان إبعاد التنظيمات الإرهابية مثل عناصر تنظيم داعش و”حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي عن مناطقها الحدودية وحماية الأمنين القومي التركي والسوري. لكن قيادات “قسد” تقول إنه في حال كانت المنطقة برعاية التحالف الدولي أو تحت إشراف الأمم المتحدة فسنرحب بذلك، أما إذا فرضت من قبل تركيا فلن نقبل بقيامها. لذلك نرى واشنطن وكما أعلن وزير خارجيتها، مايك بومبيو، من الرياض قبل أيام، تردّد أن هدف هذه المنطقة هو تفادي هجوم تركي ضد مناطق سيطرة الوحدات الكردية في شمال وشمال شرقي سوريا “نريد التأكد من أن الزملاء الذين قاتلوا معنا لإسقاط داعش لديهم الأمن” وتعلن في الوقت نفسه اهتمامها بحماية الأمن القومي التركي فكيف ستجمع كل هذه التناقضات؟

الملفت هنا هو التقاء ما يقوله النظام وقيادات قوات سوريا الديمقراطية حول الخطة التركية “سيطرت تركيا في آذار العام الماضي على مدينة عفرين، وقبلها على مدن جرابلس والباب، وتسعى للسيطرة على منبج وشمال شرقي سوريا، لاقتطاع هذه الأراضي من الدولة السورية، لتصبح مناطق نفوذ تابعة لها”.

تركيا أعلنت باكراً أن موضوع المنطقة الآمنة لن يُبحث مع واشنطن وحدها بل سيحظى بالقسم الأكبر من لقاء الرئيسين أردوغان وفلاديمير في 23 كانون الثاني الجاري، وكذلك سيُطرح على طاولة المباحثات الثلاثية للدول الضامنة في تفاهمات أستانة والمعني هنا هو إيران طبعا.

حظوظ أنقرة في تحقيق ما تريده حول المنطقة الآمنة مرتبط بقدرتها على إقناع الرئيسين ترامب وبوتين بقبول الخطة ودعمها، لكن لعبة التوازنات الحالية في المشهد السوري تكاد تقول إن وصول تركيا إلى ما تريده لن يكون سهلا بسبب تضارب وتباعد المصالح والسياسات الأميركية الروسية في سوريا. دون أن نغفل الدور والحراك الإيراني العربي الأوروبي الذي دخل مجددا على خط الأزمة وأنعش حلفاءَهم المحليين في الأسابيع الأخيرة.

بعد أيام فقط على التفاهمات التركية الأميركية حول انطلاق نقاشات المنطقة الآمنة وقع هجوم منبج الإرهابي. من فعل ذلك ولماذا؟ هل هو جناح داعش داخل وحدات الحماية الكردية أم جناح وحدات الحماية في صفوف داعش؟ لا فرق طالما أن مصلحتهما مشتركة في محاربة إنشاء منطقة تطيح بطموحاتهما الانفصالية في سوريا.

تلفزيون سوريا

ما العمل كي لا تكون «المنطقة الآمنة»مدخلاً لتقسيم سوريا؟/ عصام نعمان

قبل أسبوعين، قال دونالد ترامب لرجب طيب أردوغان في تغريدة هاتفية: «سوريا لك». «هدية» ترامب جاءت في سياق إعلان متكرر وملتبس حول عزمه سحب قواته المحتلة من شرق سوريا (التنف) وشمالها الشرقي (الرقة والحسكة). أردوغان كشف، مضمون الهدية بإعلانه لاحقاً، إنه توصّل وترامب إلى «تفاهم تاريخي» حول إقامة «منطقة آمنة» على طول الحدود التركية – السورية بعمق نحو 30 كيلومتراً.

قبل كشف هذا «التفاهم» الغامض، كانت تركيا قد سيطرت على المنطقة الممتدة بين عفرين في شمال غرب سوريا وجرابلس في شرقها بعمليتين عسكريتين، أطلقت على الأولى اسم «درع الفرات» سنة 2016 وعلى الثانية «غصن الزيتون» في 1918. الذريعة؟ مقاتلة «الإرهابيين» من الأكراد السوريين و»داعش».النتيجة؟ باتت تركيا تسيطر على نحو 400 كيلومتر مربع من الأراضي السورية. فوق ذلك، قامت تركيا بإنشاء ما يُسمى «الجيش الوطني» بدمج أكثر الفصائل التي كانت تقاتل تحت راية «الجيش السوري الحر»، وأضافت إليه لاحقاً جهاز «الشرطة الوطنية « المكلف فرض الأمن داخل المدن.

يتضح من معلومات سربتها صحف تركية أن «المنطقة الآمنة» تشمل مدناً وبلدات تسيطر عليها «وحدات حماية الشعب» و«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) الكردية، وقد أظهر مسح أجرته وكالة «انباء الاناضول» التركية شبه الرسمية، أن المدن والبلدات المراد ضمها إلى «المنطقة الآمنة» تشمل مدينة القامشلي وبلدات رأس العين، وتل تمر، والدرباسية، وعامودا، واليعربية، والمالكية (محافظة الحسكة)، وكذلك عين العرب (محافظة حلب) وتل أبيض (محافظة الرقة). كما عارضت تركيا عودة الجيش السوري إلى منبج.

لم تكتفِ تركيا بالسيطرة العسكرية على هذه المدن والبلدات، بل قامت ايضاً، على الصعيد القضائي، بتشكيل محكمة عسكرية في مدينة الباب، وضابطة عدلية في مناطق إعزاز والباب وجرابلس. وعلى الصعيد الاقتصادي، دشنت تركيا مشاريع تنموية واهتمت بالبنى التحتية وفتحت باب الاستثمار، ما أدى إلى ربط المنطقة بأنقرة ارتباطاً وثيقاً. وعلى الصعيد التعليمي، أصبحت المناهج تحت رعاية أنقرة، وكذلك المدرّسين والعاملين في المشاريع الجديدة والموظفين في المجالس المحلية والمؤسسات العسكرية، التي باتت رواتبهم تُدفع بالليرة التركية. قيام أنقرة بعملية التتريك هذه لمنطقة سورية مترامية الأطراف ذكّر المراقبين بخطة تطلق عليها أنقرة اسم «ميثاق ملي» للوصول من حلب في سوريا إلى الموصل وكركوك في العراق.

ظاهر الحال أن غالبية الاكراد السوريين يعارضون مخطط أردوغان للسيطرة على شمال شرق سوريا. مسؤول العلاقات الخارجية لحركة المجتمع الديمقراطي الكردية ألدار خليل، احتج على الخطوات التركية بقوله: «إن تركيا احتلت إدلب وعفرين وهي تحاول الآن احتلال منبج وشمال سوريا لعزلها عن أراضي البلاد وبذلك تُقسّم سوريا».

أصاب ألدار خليل في وصف ما تقوم به تركيا بأنه محاولة لتقسيم البلاد. أردوغان اعترف بأن ما يقوم به ليس برضى سكان المناطق المسيطر عليها، ولاسيما الاكراد منهم، بقوله: «إنهم ارهابيون، وهل يمكننا أن نترك هذه المنطقة لإرهابيين؟».

رغم وضوح غايات تركيا فإن القيادات الكردية المعنية لم تتخذ، بعد، قراراً حاسماً بالعودة إلى حضن الدولة السورية ورعايتها، ذلك أن المفاوضات بين الطرفين لم تتوصل بعد إلى اتفاق واضح لتوحيد الجهود في وجه المخططات التركية التي تحظى، على ما يبدو، بدعمٍ من الولايات المتحدة وتأييد ضمني من «اسرائيل» كأن ما يقوم به اردوغان من تدابير تقسيمية هو بالنيابة عن ترامب ونتنياهو. فها هو رئيس هيئة الاركان الأمريكية المشتركة الجنرال جون دانفورد يبحث مع المسؤولين الاتراك تفاصيل خطة السيطرة التركية على مناطق الشمال السوري.

لأبرز مؤسسي الكيان الصهيوني ديفيد بن غوريون توصية لافتة لزملائه: إن بقاء «اسرائيل» رهن بنجاحها في تقسيم محيطها الجغرافي الذي يشمل لبنان وسوريا والاردن والعراق ومصر. قادة الولايات المتحدة المتعاقبون، ولاسيما بوش الابن وترامب، تبنّوا مخطط بن غوريون وخلفائه من القادة الصهاينة وقاموا بتنفيذه بعمليات عدوانية متدرجة. أليس الاحتلال الامريكي للعراق سنة 2003، والسيطرة على ما لا يقلّ عن ثلث مساحة سوريا سنتي 2017 و2018 بدعوى محاربة التنظيمات الإرهابية، عمليات حربية سافرة تصبّ في خدمة المخطط الصهيوني التقسيمي الذي يقوم أردوغان الآن، لأسباب يدّعي أنها تخدم أمن بلاده القومي، بمتابعة تنفيذه؟

لا يغيب عن حصافة المراقبين مشهديات التمويه والتغطية التي تقوم بها واشنطن وتل أبيب لشدّ انتباه العالم بعيداً عن الساحة السورية. فالولايات المتحدة تعدّ لقمةٍ في وارسو، عاصمة بولونيا، تشارك فيها سبعون دولة في منتصف الشهر المقبل غايتها إعداد البيئة السياسية العالمية لإمكانية استعمال القوة العسكرية ضد إيران بعدما تمكّنت من تجاوز العقوبات الامريكية المفروضة عليها من جهة، وتتجه إلى النجاح في إطلاق قمر اصطناعي بصاروخ باليستي من جهة أخرى. نتنياهو هدد هو الآخر باستعمال القوة ضد إيران إذا لم «تمتثل» لتعليماته بعدم تمركز قواتها في سوريا. المراقبون يرجّحون بألا تنجح قمة وارسو لأن معظم دول الاتحاد الاوروبي ستقاطعها، كما يرجّحون ألاّ يتمكن نتنياهو من إلحاق أذى بسوريا، لأن الغاية الرئيسة من تهديداته لها ولإيران هي للاستهلاك المحلي، في سياق معركة انتخابية يريد الفوز فيها دونما تداعيات.

لا يقتضي، بطبيعة الحال، الاستهتار بتهديدات ترامب ونتنياهو العدوانية، فما العمل؟

الجواب، بالإضافة إلى ما تقوم به سوريا وقوى المقاومة العربية حالياً من جهود في مواجهة «اسرائيل» وتركيا مباشرةً وامريكا مداورة، يقتضي ترسيخ حقيقة بازغة في عقول القادة والقوى الحيّة في المشرق العربي مفادها أن تقسيم سوريا عدوى ستنتقل حتماً إلى سائر الأقطار، إذا لم يتم تطويقها وسحقها في مهدها، وأن شرط نجاح هذه المهمة التاريخية هو في ترفيع مستوى التنسيق والتحالف السياسي والعسكري بين سوريا والعراق، وتنظيمات المقاومة في كل أنحاء القارة العربية، من أجل مواجهة مخططات أمريكا و»إسرائيل» التقسيمية بتوسيع دائرة الاشتباك معها. كل ذلك بالتعاون والتنسيق السياسي والميداني مع كلٍّ من روسيا وايران، والانفتاح على الأكراد لكفالة ممارسة حقوقهم المدنية والديمقراطية في إطار وحدة الدولة والبلاد.

هل ثمة خيار افضل؟

كاتب لبناني

القدس العربي

السيناريو المَنسي؛ شمال سوريا.. كشمال قبرص/ معتز مراد

أحاول في هذا المقال أن أرجح أحد الخيارات الممكنة في المستقبل، بغض النظر عن الجغرافية النهائية التي سيستقر عليها شمال سوريا، وهل سيكون شرق الفرات (كله أو بعضه) جزءاً من المناطق التي ستتولى تركيا إدارتها وتنميتها في المستقبل أم لا. فخلال السنوات الماضية، تم التطرق إلى الكثير من السيناريوهات التي يمكن أن يؤول إليها الوضع في سوريا. حيث تم الحديث عن الصَومَلة واللّبنَنَة والأفغَنة، وتم تشبيه الحالة السورية بحالة البوسنة والهرسك. لكن لم يتم التطرق إلى حالة أخرى، قد تكون ممكنة لمستقبل شمال سوريا، هذا الشمال الذي تحاول تركيا بكل قوتها وإمكانياتها، أن يكون ضمن سيطرتها أو مجال نفوذها، لأسباب، أهمها على الإطلاق، حماية أمنها القومي، المتمثل في العديد من القضايا، على رأسها منع قيام دولة كردية متصلة على حدودها الجنوبية، لما فيه من مخاطر تقسيم تركيا نفسها لاحقاً، وما يعني ذلك من احتمالات الحرب الأهلية والمواجهات المسلحة وحروب الوكالة. أما ثاني الأسباب، فهو تأمين منطقة آمنة للسوريين، تتولى تركيا مسؤولية تطويرها وتنميتها، بما يضمن عودة أعداد كبيرة من اللاجئين الموجودين على أراضيها.

لكن يرجح الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين عدم قدرة تركيا على البقاء في سوريا، طالما أن وجودها لم يكن بطلب من النظام

في دمشق، الذي يعتبرها قوة احتلال، ومن ورائه روسيا، الدولة الكبيرة، التي تتولى حمايته وإعادة تأهيليه على المستوى الدولي، وتضغط كثيراً في سبيل عودة كامل الجغرافيا السورية إلى سيطرة الأسد.

لكن ينسى هؤلاء، أن الوقائع لا تخضع دائما لمثل هذه السيناريوهات، وقد نشهد تطوراً مشابهاً لما حصل في قبرص الشمالية، التي تتشابه مع شمال سوريا في بعض القضايا الأساسية. أهمها؛ أن الشمالَين (السوري والقبرصي) يمثلان أهمية قصوى للأمن القومي التركي، وإن اختلفت التفاصيل الأخرى.

حيث أنه، وبسبب العداء التاريخي والتنافس التقليدي على الموارد الحيوية بين اليونان وتركيا، ونظراً للروابط المتينة دينياً وعرقياً بين القبارصة ذوي الأصول اليونانية ودولة اليونان، ظلت قبرص على الدوام تمثل مصدر تهديد للأمن القومي التركي. فهي فضلاً عن قربها الجغرافي (75 كلم)، يمكن في حال اتحادها مع اليونان والتواجد العسكري اليوناني على أراضيها، وعلى خلفية الثارات التاريخية القديمة بين اليونان وتركيا، أن تزيد من الحصار البحري على تركيا وتهدد أمنها، وتغلق منافذها البحرية في بحر إيجة المؤدية إلى الدردنيل والبوسفور، وكافة الموانئ التركية شرق البحر المتوسط. وهي أخطار تحسب لها تركيا ألف حساب.

وقبل أن أنتقل للحديث عن قبرص الشمالية (الدولة التي لا يعترف فيها أي كيان سياسي في العالم، سوى تركيا)، فإنني أود أن أؤكد، أنه بدلاً من أن يحافظ نظام الأسد على سوريا الوطن مستقلاً، فإنه استدعى دولاً كإيران وروسيا لمواجهة الثورة السورية، ليصبحان أطرافاً في قضية وطنية. فشَرَّع بذلك الاحتلال ومناطق النفوذ، وتدخلات الدول الإقليمية والعالمية، بهدف حماية مصالحها وأمنها القومي، وتنفيذ برامجها العابرة للحدود.

في عام 1960م نالت جزيرة قبرص استقلالها عن بريطانيا وأصبحت كياناً سياسياً مستقلاً وموحداً. اتفق خلالها كل من القبارصة الأتراك واليونانيين على إلغاء خطتي الاتحاد مع اليونان ومع تركيا، على أن يحكموا الجزيرة  بموجب الدستور، الذي يُقسّم المناصب الوزارية والمقاعد البرلمانية والوظائف المدنية، حسب نسب متفق عليها بين المجتمعين ( 30% من مجموع المقاعد والوظائف للقبارصة الأتراك، في مقابل 70% للقبارصة اليونانيين).

لكن خلال السنوات الأولى، عاشت الجمهورية الوليدة الكثير من الأزمات الداخلية، واستقطاباً متزايداً بين المكونين الأساسيين للمجتمع القبرصي (الأتراك واليونانيين)، تخللها تعديلات دستورية، ولجوء إلى المحاكم العليا، ومواجهات مسلحة بين الطرفين، سقط فيها المئات من الضحايا، وهُدمت الكثير من المنازل والبنى التحتية، وحصلت موجات نزوح داخلية (نزح آلاف القبارصة اليونانيين من الشمال نحو الجنوب، بالمقابل، نزح آلاف القبارصة الأتراك من الجنوب نحو الشمال). أضف إلى عمليات نزوح خارجية باتجاه تركيا ودول أوروبا واستراليا. وخلال سنوات المواجهة بين الطرفين، التي امتدت منذ عام 1963 م إلى 1974 م، دعا كل طرف للاحتماء بدولته الأم (تركيا أو اليونان).

تدخلت تركيا عسكرياً لصالح القبارصة الأتراك، بعد الانقلاب العسكري الذي قام به القبارصة اليونانيون سنة 1974م، وسيطرت خلالها على ما يقارب 37% من مساحة الجزيرة الشمالية، ثم بدأت بتنظيم قوات مسلحة محلية، وأنشأت أحزمة آمنة تفصل بين شطري الجزيرة.

لم يعترف أي كيان سياسي بهذا التدخل، ورفض الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لاحقاً إعلان قبرص الشمالية جمهورية مستقلة من طرف واحد سنة 1983م واعتبره باطلاً، ودعموا بالتالي قرار جمهورية قبرص “اليونانية”، التي أعلنت إغلاق كافة المطارات والموانئ الخارجة عن نطاق سيطرتها. كما أن الاتحاد الأوروبي اعتبر حل الأزمة القبرصية شرطاً أمام مفاوضات انضمام تركيا له.

من الناحية السياسية، اعتمدت قبرص الشمالية النظام الجمهوري النيابي شبه الرئاسي، الذي يترأس فيه رئيس الجمهورية الدولة، ويترأس رئيس الوزراء الحكومة، مع استقلال السلطة القضائية . في حين تمثلت السلطة التشريعية في مجلس الجمهورية، الذي يتألف من 50 عضواً ممثلين لخمس مقاطعات انتخابية.

أما في مجال النفوذ إلى العالم الخارجي، فتعتمد قبرص الشمالية نفس الكود التركي للاتصالات الدولية (+90 392)، حيث أنها لا تحظى بكود اتصالات دولي خاص بها، وينطبق ذلك على شبكه الإنترنت، حيث لا تمتلك نطاقاً أعلى في ترميز الدولة، ولكنها تحت النطاق الثانوي التابع لتركيا nc.tr.  أما بالنسبة للبث التلفزيوني، فمحطاتها تبث عبر القمر التركي تركسات. فيما تعتمد الليرة التركية عملة محلية. ويحصل القبارصة الأتراك على جواز السفر التركي، حتى يتمكنوا من السفر حول العالم عبر المطارات التركية.

من الناحية الاقتصادية، تعتمد قبرص الشمالية أساساً على قطاع الخدمات (69% من الناتج المحلي الإجمالي بحسب إحصائيات عام 2007) والذي يشمل القطاع الصحي ,قطاع التجارة ,السياحة والتعليم. ويساهم القطاع الصناعي (صناعات خفيفة) بنسبة 22% من إجمالي الناتج المحلي, أما الزراعة فتساهم ب9% منه، ولكن نسبة كبيرة من الأعباء الإدارية تتكفل بها الحكومة التركية.  وبغض النظر عن القيود المفروضة من قبل المجتمع الدولي, فإن اقتصاد قبرص الشمالية قد نما بشكل كبير، وكانت معدلات النمو في حجم الناتج المحلي الإجمالي في الفترة 2001-2005 على الشكل التالي 5.4%, 6.9%, 11.4%و 15.4% و 10.6%.

أما في مجال التعليم العالي، فيوجد فيها ست جامعات، خمسة منها أُسست بعد عام 1974م، أحدها جامعة شرق المتوسط التي نالت الاعتراف الدولي، وجامعات أخرى أصبح لها فروع حول العالم. في حين أن الجامعات الست معترف بها في نظام التعليم العالي التركي.

وفيما يتعلق بمجال الحريات والديمقراطية، فقد تمتعت جمهورية

شمال قبرص بسجل جيد في مجال حقوق الإنسان وحرية الصحافة، تجاوزت فيه السجل الخاص بحقوق الإنسان في تركيا.

ورغم أن حالة الحصار والمقاطعة الدولية لم توقف حركة التطور الاجتماعي والحضاري كما ذكرنا، إلا أن قادة جمهورية شمال قبرص يسعون دائماً لإنهاء الحصار وبناء علاقات طبيعية مع المجتمع الدولي.

مما سبق، نلاحظ أن تركيا تصرفت بحزم كبير، رغم كل التهديدات الدولية، ورغم أن الأمم المتحدة نفسها اعتبرت التدخل غير شرعي، وطالب تركيا بسحب قواتها، لكن الأخيرة دافعت حتى النهاية عن مصالحها وأمنها القومي. كذلك يتم التعامل اليوم مع الوجود التركي شمال سوريا، الذي يعتبره معظم المراقبين، مؤقتاً وغير قانوني، في الوقت الذي نشهد ضغوطاً ومفاوضاتٍ مستمرة، بين تركيا وبين أهم اللاعبين الدوليين في سوريا، أمريكا الدولة العظمى، وروسيا الدولة الكبيرة المساندة للأسد. إلا أنني أستطيع القول، حسب متابعتي للسياسة التركية، إن الانسحاب التركي من سوريا لن يكون في المدى القريب ولا المتوسط، ولك أن تلاحظ عزيزي القارئ، قِطعَات الجيش التركي التي باتت موجودة في العمق السوري (إدلب وشمال حلب تحديداً)، في الوقت الذي أخذت  الحكومة التركية على عاتقها تنمية هذه المناطق، وبدأت خدمات البريد (PTT)، وتنظيم الحدائق، وتطوير عمل المجالس المحلية والبنية التحتية، وإعادة ترتيب تشكيلات الجيش الحر، إضافة لخدمة الاتصالات التركية التي تُخدّم شمال سوريا منذ عدة سنوات.

وعلينا ألا ننسى أخيراً، أن تركيا باتت تربط انسحابها من سوريا بتأمين انتخابات حرة ونزيهة يشارك فيها كل السوريين، داخل سوريا وخارجها.  هذه “الانتخابات النزيهة”، التي لن تحصل، حتى لو شارك فيها بشار الأسد، وكان صاحب الحظ الوحيد بالفوز، بسبب طبيعة النظام الذي يعتمد على المعارك الصفرية، وعدم وجود أي هامش تفاوضي أو إصلاح محتمل في بنيته، وكون الأشخاص الآخرين الذين يمكن أن ينافسوه، لا يتمتعون بأي قدرات تنظيمية أو حواضن مجتمعية.

تلفزيون سوريا

«تتريك» الشمال السوري/ مصطفى زين

كانت استراتيجية الأسد الأب تقوم على أساس فك الحصار الإقليمي المفروض على سورية: إسرائيل تحاصرها من الجنوب، وتركيا من الشمال، وإيران الشاه من الشرق، وكان لا يطمئن إلى موقف لبنان والأردن ويعتبرهما الخاصرة الضعيفة. أما العراق، فعلى رغم شعاراته العروبية المطابقة لشعاراته ، وعلى رغم حكم حكم حزب البعث فيه، فكان خلافه معه مستحكماً إلى حدود العداء.

ما ان انتصرت الثورة في إيران حتى وجدنا الأسد الأب يساندها بكل ما أوتي من قوة، معتبراً أنه خرق الحصار، وأن طهران اصبحت إلى جانبه، فدعم الحكم الجديد ، مخالفاً كل المواقف العربية التي أعربت عن مخاوفها من تصدير الثورة إليها، خصوصاً انها رفعت شعار «الصحوة الإسلامية». وبقي على موقفه، على رغم اندلاع حرب الخليج الأولى التي استمرت ثمان سنوات. كما أرسل جيشه إلى لبنان لتأمين الخاصرة الضعيفة.

لكن فتح ثغرة في الحصار، قابله تشدد تركي في الشمال، وتهديدات إسرائيلية في الجنوب، وبدأت أنقرة تطالب دمشق بوضع حد لدعمها الأكراد وتسليمها زعيمهم عبدالله أوجلان وإغلاق معسكرات تدريب مقاتليه في البقاع اللبناني، وأرفقت مطالها بحشود عسكرية على الحدود كما حشدت إسرائيل قواتها من جهة الجنوب فاستجاب الأسد الأب للضغوط، ووقع عام 1998 ما عرف باتفاقية أضنة التي تنص على منع «الإرهابيين» الأكراد من اتخاذ سورية مقراً والإنطلاق منها في عمليات عبر الأناضول، كما تنص على حق الجيش التركي بملاحقة الإرهابيين في الأراضي السورية إلى مسافة خمسة كيلومترات.

هذا شيئ من التاريخ القريب جداً. أما حالياً فالحصار المطبق على سورية لم يعد تركياً وإسرائيلياً فحسب، ولم تعد الدولتان تطلقان مجرد تهديدات بالغزو، بل اصبحتا تنفذان هذه التهديدات عملياً: أنقرة تحشد جيوشها شمالاً، وترسل الإرهابيين من كل انحاء العالم، بعد تدريبهم وتسليحهم، وتفاوض باسمهم، مرة مع الدول الأوروبية وأخرى مع روسيا وأميركا، وتفرض شخصيات من قادتهم للمشاركة في وضع دستور جديد لسورية. أما إيران فغارقة في الحروب، تدافع عن النظام، لكنها في الوقت ذاته تتطلع ترسيخ علاقاتها التجارية مع تركيا، وتحاول أن تكون وسيطاً، لكنها وسيط من موقع المنحاز إلى يؤمن له مصالحه.

تبقى روسيا، وهي الأكثر استفادة من استقرار الوضع في سورية كي لا تغرق في المستنقع وتخرج منه مهزومة مثلما خرجت من أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي. ومثلها مثل إيران، ترى في تركيا عاملاً يساعدها في تثبيت نفوذها في المشرق، حتى وإن اقتطعت جزءاً من الأراضي السورية.

يستغل أردوغان واقع حليفي دمشق، وحاجتهما إليه وعدم رغبتهما في المواجهة، كما يستغل انسحاب أميركا، ليعود إلى طرح مشروعه الأساسي، إقامة «منطقة آمنة» في الأراضي السورية تمتد مسافة 450 كيلومتراً بعمق 32 كيلومتراً. وكان طرح هذه الفكرة فور اندلاع الحروب على سورية وفيها عام 2011 ، وقد احتل جرابلس وعفرين، وبدأ عمليات تطهير عرقي فيهما وتتريكهما، ويسعى إلى توسيع رقعة «المنطقة الآمنة» بـ «التفاهم مع روسيا والولايات المتحدة»، على ما أعلن خلال لقائه بوتين هذا الأسبوع.

تركيا تحقق حلماً قديماً في ضم أجزاء من سورية، وإيران تمد نفوذها عبرها، وروسيا وصلت إلى المياه الدافئة، وإسرائيل تحررت من قوة كانت تشكل لها هاجساً، وأميركا عممت فوضاها «الخلاقة»… أما العرب فلا مشروع لديهم، وهم غارقون في متاهاتهم ودمائهم.

الحياة

أهداف تركيا تصطدم ببوتين صانع الملوك في سوريا/ ديميتار بيشيف

كان أي شخص يتوقع الكثير من زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى موسكو هذا الأسبوع، لكن سبب شعوره بخيبة الأمل مرده أن المحادثات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم تسفر عن أي شيء مهم بشأن القضايا الكبرى بين البلدين.

فشل الرئيس التركي في الحصول على موافقة واضحة من الكرملين لإقامة منطقة أمنية في شمال شرق سوريا في أعقاب الانسحاب الذي تعهد به الرئيس دونالد ترامب للقوات الأميركية البالغ قوامها 2000 جندي هناك. ولم يكن هناك أي إعلان عن مصير جيب إدلب الذي تسيطر عليه المعارضة المسلحة حيث حققت هيئة تحرير الشام مكاسب. والهيئة جماعة متشددة كانت متحالفة مع تنظيم القاعدة ذات يوم.

ما اختار بوتين وأردوغان التأكيد عليه بدلاً من ذلك، خلال مؤتمرهما الصحافي المشترك، كان التعاون المزدهر بين تركيا وروسيا في مجالات الطاقة والتجارة والسياحة. ومع ذلك، وبالرغم من أن المشاريع، التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات مثل خط أنابيب ترك ستريم لنقل الغاز من روسيا عبر البحر الأسود إلى تركيا ومحطة أكوكيو للطاقة النووية التي تبنيها الشركات الروسية في تركيا، تُعد أمراً بالغ الأهمية، فمن الواضح أن سوريا كانت في قلب المحادثات.

لم يفقد أردوغان الأمل في أن روسيا ستوافق في نهاية المطاف على هجوم تركي على الأراضي السورية التي يسيطر عليها الأكراد في شرق نهر الفرات. وقد أثار القضية في مقالة افتتاحية نُشرت في صحيفة كومرسانت اليومية واسعة الانتشار في موسكو، في تطابق لمقالة سابقة كتبها في صحيفة نيويورك تايمز.

ليست روسيا بالضرورة ضد مثل هذا السيناريو، لكن بوتين أوضح أن التدخل التركي يجب أن يحدث بشروط روسيا. في المؤتمر الصحافي المشترك، أقر الرئيس الروسي بأن أنقرة لديها مخاوف أمنية مشروعة. ثم سارع بوتين إلى إضافة أن اتفاق عام 1998 الذي وقعته تركيا وسوريا في أضنة يرسم الطريق إلى الأمام.

في ذلك الوقت، وافقت الحكومة السورية على حظر حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية وإغلاق معسكراته ووقف تسليحه وطرد زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان من أراضيها. لكن ما كان في السابق تنازلا سوريا تحت تهديد حرب شاملة لوحت به تركيا يخدم الآن بوتين كذريعة للمطالبة بأن يقبل أردوغان الرئيس السوري بشار الأسد كشريك.

لا تزال روسيا تتمسك بقوة بموقفها المتمثل في أن الحكومة السورية يجب أن تسيطر على شمال شرق البلاد. إذا كانت تركيا تريد القضاء على القوات الكردية في سوريا، فعليها أن تنسق مع دمشق.

الوضع في إدلب محفوف بالمخاطر كما كان من قبل. إنها معقل هيئة تحرير الشام بشكل فعلي. في وقت سابق من هذا الشهر، هاجم الجهاديون حركة نورالدين الزنكي المنافسة في محافظة إدلب وريف حلب، وانتزعوا السيطرة على 20 بلدة وقرية. إن هزيمة حليف أنقرة، وهو جزء من الجيش السوري الحر، تُعرّض للخطر اتفاقاً توصل إليه بوتين وأردوغان في شهر سبتمبر الماضي كي تقوم تركيا بنزع سلاح هيئة تحرير الشام.

في الفترة التي سبقت زيارة الرئيس التركي لموسكو، انتقد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف تركيا لتقاعسها عن الالتزام بالاتفاق حتى النهاية. في الوقت الحالي يلعب بوتين دور الشرطي الجيد ويعطي تركيا الفضل في القيام بكل ما في وسعها.

وقال بوتين أيضاً إن مسؤولي الأمن والدفاع في الجانبين ما زالوا يجرون محادثات. في الواقع، رافق هاكان فيدان، رئيس جهاز الاستخبارات الوطنية التركي أردوغان، بعد زيارة موسكو في نهاية شهر ديسمبر مع وزير الدفاع التركي خلوصي أكار.

ومع ذلك، في واقع الأمر لم يعد هناك الكثير من الوقت في انتظار إدلب. دون أي خطة لكيفية التعامل مع هيئة تحرير الشام، لن تكون تركيا قادرة على تأجيل عملية النظام ضد الجيب لفترة أطول.

يبدو أن ورقة التفاوض الرئيسية لدى أنقرة تتمثل في اللجنة الدستورية السورية المستقبلية. ولكي تبدأ اللجنة عملها بنجاح، تحتاج روسيا والأسد إلى موافقة تركيا باعتبارها راعية للمعارضة. مما لا شك فيه تعرضت اللجنة للعراقيل بسبب الخلافات السياسية بشأن تشكيلها. لكن بوتين يشير الآن بأصابع الاتهام إلى فرنسا وبريطانيا وألمانيا كمخربين.

في المؤتمر الصحافي، أخرج بوتين نسخة من الرسالة التي أرسلتها الدول الثلاث إلى الأمم المتحدة للمطالبة بعدم إعطاء تفويض للجنة الدستورية. وركز أردوغان، الذي حظي بالإشادة على عقد قمة رباعية مع بوتين والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على إعادة إعمار سوريا ولم يحاول الرد على رواية الرئيس الروسي. بدا أردوغان يشعر بالارتياح لرؤية تركيا وروسيا تعملان جنباً إلى جنب دون الغرب.

وبشكل عام، أكدت المحادثات في موسكو على دور بوتين كصانع للملوك في سوريا. تريد تركيا أن تأخذ روسيا مصالحها في الحسبان، حتى لو كان ذلك على حساب إبعاد دمشق وطهران. يتحوط بوتين في رهاناته وهو على الأقل منفتح على مطالب أردوغان ولو من الناحية النظرية. لكن حتى لو كانت تركيا تحمل بعض أوراق اللعب، فإن لديها اليد الأضعف. ولكي تجعل الكرملين يأتي في صفها، فعليها أن تلعب بمهارة أكبر كثيراً.

كاتب في موقع أحوال التركية

العرب

منطقة أمنية لمن؟/ راجح الخوري

قبل أن تهبط طائرة الرئيس رجب طيب إردوغان في موسكو يوم الأربعاء الماضي، تعمّدت الخارجية الروسية توجيه رسالة ذات مغزى عميق، وتحديداً إلى أنقرة، عندما أعلنت أن الموقف في منطقة خفض التصعيد في إدلب يتدهور سريعاً، وأن تلك المنطقة باتت تقريباً تخضع بالكامل لسيطرة «جبهة النصرة» («القاعدة» سابقاً)، وقبل ذلك بيومين كان وزير الخارجية سيرغي لافروف، قد أعلن أن السيطرة على منطقة إدلب يجب أن تعود إلى الحكومة السورية.

كانت هذه رسائل قوية وواضحة إلى إردوغان، الذي يجهد بين واشنطن وموسكو لبسط سيطرته على شريط حدودي بعمق ثلاثين كيلومتراً داخل الأراضي السورية وتحديداً في منطقة إدلب، وكان واضحاً أنه فور إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب، عن سحب القوات الأميركية من سوريا، أن تركيا قفزت إلى الإعلان فوراً أنها تريد أن تسيطر على المنطقة الأمنية على حدودها الجنوبية!

رغم أن ترمب كان قد أشار إلى هذه المنطقة الأمنية، تعجّل إردوغان بالإعلان عن أن تركيا ستسيطر عليها، ثم هدد بأنه سيشن عملية عسكرية ضد «قوات سوريا الديمقراطية» ومعظمها من المقاتلين الأكراد، الذين أبلوا في المعارك ضد «داعش» بقيادة الأميركيين وتغطيتهم الجوية وحرروا الرقة كما هو معروف.

عندها رد عليه ترمب بالقول: إن الولايات المتحدة ستدمر الاقتصاد التركي إذا هاجمت أنقرة الأكراد. ولكن بعد مكالمة هاتفية فورية بين الرئيسين، تراجعت التهديدات فجأة وغاب التوتر، وكان مثيراً أن يعلن إردوغان «أن الرئيس الأميركي تطرق إلى منطقة آمنة بعرض عشرين كيلومتراً سنقيمها على طول الحدود السورية، وأن تركيا ستطلب هناك دعماً لوجيستياً من التحالف الدولي»، في حين أعلن إبراهيم كالين المتحدث باسمه، أن المنطقة ستكون تحت سيطرة تركيا!

الحديث المتصاعد عن السيطرة التركية بدا للمراقبين غريباً لسببين؛ أولاً لأن السيطرة الميدانية على منطقة إدلب هي في يد «جبهة النصرة» كما تعلن روسيا صراحةً، ما يزيد من الشكوك حول أن تركيا هي التي تدعم «النصرة» وتمدها بالسلاح والدعم، وثانياً لأنه ليس كافياً أن يتفق ترمب وإردوغان على هذه المنطقة الأمنية لكي يصبح الأمر واقعاً.

ذلك أن الرسائل الروسية المشار إليها أعلاه وصلت فوراً إلى أنقرة، ثم إن الحكومة السورية أعلنت أنها ستتصدى للتدخل التركي في أراضيها، أما «قوات سوريا الديمقراطية» فقد أعلنت أن هذه المنطقة ستكون منطقة احتلال تركي، وهذا ما ساعد الروس على إحياء الحوار والتعاون الميداني بين دمشق والأكراد، الذين قيل إنهم سيحصلون على حكم ذاتي وعلى اعتراف بلغتهم الأم، وفي هذا السياق يقول لافروف: «على دمشق أن تسيطر على شمال البلاد، وندعم الاتصالات بين الأكراد والسلطات السورية».

وسط كل هذا ورغم أن الحسابات الروسية تدفع دائماً في اتجاه السعي لانتزاع تركيا من حلف الأطلسي وإبعادها عن واشنطن، وسبق لها أن استثمرت في الخلاف بين واشنطن وأنقرة وباعت تركيا منظومة من صواريخ «إس 400»، فإنه ليس من المتوقع أن يحصل إردوغان على مباركة فلاديمير بوتين للسيطرة التركية على إدلب والشريط الحدودي، وذلك لأسباب استراتيجية وأمنية.

ذلك أن بوتين ينظر إلى سوريا كقاعدة استراتيجية مهمة للنفوذ الروسي العائد على مستوى السياسة الدولية، فمن القرم إلى دمشق يمتد الجسر الذي تعبر عليه روسيا لاستعادة دورها وإحياء توازنات الاستقطاب الثنائي، ولهذا لن يسمح بوتين بأن تصبح القواعد الروسية في حميميم وجوارها عُرضة لاضطرابات تقوم بها «جبهة النصرة» التي تحظى برعاية ضمنية من إردوغان، ثم إن سوريا باتت قاعدة ارتكاز للمصالح الروسية في المنطقة، والعقود الطويلة المدى الموقَّعة مع دمشق تصل إلى خمســــــــين سنة قابلة للتمديد!

بوتين يعرف جيداً أنه من غير المعقول السماح لإردوغان بالسيطرة على شريط حدودي بهذا العمق في شمال سوريا، لأن من شأن هذا إبقاء جذوة الصراع قائمة، خصوصاً مع وجود النفوذ الإيراني، الذي يحاول منافسة موسكو على الجبنة السورية، ومع تصاعد حدة العمليات الإسرائيلية ضد المواقع الإيرانية في سوريا.

ثم إنه ليس خافياً على الرئيس الروسي صحة كل ما أعلنه بريت ماكغورك المبعوث السابق للرئيس الأميركي إلى سوريا، عبر محطة «سي إن إن» قبل أيام عن الدعم الميداني، الذي لطالما وفّره إردوغان للإرهابيين، سواء في «داعش» أو «جبهة النصرة»، معلناً صراحةً «أن تركيا فشلت في الاستجابة لمطالب قوات التحالف الدولي بوقف شحنات الأسلحة التي يتم تهريبها عبر الحدود التركية – السورية، للمساعدة في جهود محاربة الإرهابيين، ولم يتم الوفاء بأيٍّ من اقتراحات أنقرة المتكررة للمشاركة في محاربة «داعش»!

ما حصل مع الأميركيين سبق أن حصل مع الروس، ذلك أن إردوغان يحاول دائماً أن يضع على الطاولة مقترحات تبدو من الناحية النظرية جيدة، لكن لم يتم الالتزام بمضمونها ولم يحصل أي تقدم، وفي هذا الصدد يقول ماكغورك: «قضيت وقتاً طويلاً في أنقرة لأن معظم المواد التي يتم تهريبها لإيصال الإمدادات لآلة الحرب للإرهابيين كانت بكل صراحة تمر عبر الحدود من تركيا إلى سوريا»!

المحادثات بين بوتين وإردوغان ركزت على محور أساسي وهي المنطقة الأمنية التي تريد تركيا السيطرة عليها، والتي ستؤخِّر طبعاً أي حلٍّ سياسي ممكن في سوريا، هذا إذا كانت موسكو راغبة فعلاً في الحل، لكن من الضروري أن نتذكّر أن الحديث عن المنطقة الآمنة بدأ بعد التفاهم بين الدول الثلاث الضامنة، روسيا وتركيا وإيران، على ما سُميت مناطق «خفض التوتر».

لهذا يبقى دائماً في وسع بوتين أن يضع أمام إردوغان، ولو على سبيل التذكير والإحراج، نص ذلك الاتفاق الذي وُقّع في آستانة في الرابع من مايو (أيار) عام 2017، حول إقامة هذه المناطق، وأن يقرأ له مثلاً البند الثالث الذي يقول: «إن إقامة هذه المناطق لا تمس سيادة سوريا واستقلالها ووحدة أراضيها»، فما معنى السيطرة التركية على شريط حدودي بعمق ثلاثين كيلومتراً؟

أما البند السادس فأكد العزم على «محاربة (داعش) و(النصرة) والتنظيمات الإرهابية»، فماذا كانت النتيجة بعد مرور عامين تقريباً، عندما تعلن موسكو أن «النصرة» باتت تسيطر على إدلب بالكامل تقريباً، أما البند الثاني فيقول: «إن هذه المناطق إجراء مؤقت لمدة ستة أشهر»، فما معنى إقامة منطقة آمنة تسيطر عليها تركيا من خلال مجموعات من التنظيمات والمسلحين الإرهابيين؟

في النهاية مَن نصدّق؛ بيان الرئاسة التركية الذي أعلن بعد المحادثات الهاتفية بين ترمب وإردوغان، أنهما بحثا فكرة إنشاء منطقة يتمّ تطهيرها من الإرهابيين في شمال سوريا، أم بيان الخارجية الروسية الذي أعلن عشية القمة بين إردوغان وبوتين، أن محافظة إدلب باتت بالكامل تحت سيطرة «جبهة النصرة»، التي كانت تركيا قد تعهدت بمحاربتها والقضاء عليها في آستانة قبل عامين، في حين يؤكد بريت ماكغورك أن تركيا تنخرط عميقاً في رعاية «النصرة» التي تسيطر على إدلب؟

الشرق الأوسط

كُرد سوريا… رهان الحسم/ آلان حسن

يبدو أن إرهاصات انتهاء الحرب السورية الممتدة منذ مارس/آذار 2011 باتت تظهر الآن، وعليه فإن البلد الذي يقف على أعتاب العام التاسع من عمر مأساته، سيكون على موعد مع بداية نهايتها، لكن لكل ولادة مخاض، ومخاض سوريا المستقبل يواجه عوائق جمّة، والطلق يحمل معه العديد من الصعوبات التي تواجه خروج المولود الجديد إلى النور.

ما من قوة إقليمية أو دولية إلا وشاركت، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في الصراع، لكن الخواتيم تختلف عن البدايات، فالكلام الفصل في النهاية هو للقوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا.

أصبحت الجغرافية السورية الآن مقسمة النفوذ بين كل من روسيا التي تسيطر على ما اصطُلِحَ على تسميته بسوريا المفيدة، وتركيا التي تسيطر على جزء كبير من شريطها الحدودي مع مناطق غرب نهر الفرات من الجانب السوري، والبلدان ينسقان، مع إيران، تحت مظلة محور أستانة.

الجغرافيا الوحيدة التي بقيت خارج سرب «المحور» ذاك كانت مناطق شرق الفرات، التي تسمى سوريا الغنية؛ وذلك لوجود خزان سوريا النفطي والغازي والمائي والزراعي الأكبر، وهي ضمن النفوذ الأمريكي، حسب اتفاقات كيري لافروف منتصف عام 2016. لكن ما كان جلياً أن لا هدف استراتيجياً للولايات المتحدة في تلك المنطقة، وكانت تستخدمها كورقة للمساومة مع خصمها الدولي روسيا، وعدوها في المنطقة إيران، وكذلك حليفها المتمرد تركيا. غياب الاستراتيجية الأمريكية كان واضحاً في تردد الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة الرئيس باراك أوباما في التدخل بشكل مباشر في المعضلة السورية، إلا في التلويح بالتدخل العسكري أواخر عام 2013 الذي انتهى حينها بصفقة مع الجانب الروسي قضت بتسليم الحكومة السورية لترسانتها الكيماوية لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية. واختلف الأمر قليلاً مع الرئيس دونالد ترامب الذي شن ضربتين عسكريتين، بالاشتراك مع فرنسا وبريطانيا، ضد أهداف للجيش السوري قالت إنها تصنع مواد كيماوية تستخدم ضد المعارضين.

لكن إعلان الرئيس الأمريكي في مارس 2018 عن خطط لسحب قواته من سوريا لغياب النجاعة الاقتصادية لوجوده هناك، أكد الفرضية القائلة بالتعامل التكتيكي لواشنطن مع الملف السوري، ولم يكن التدخل الفرنسي حينها وضغوط المستشارين العسكريين وكذلك الدعم المالي السعودي للبقاء في سوريا، سوى تأجيل للقرار الرئيسي المتمثل بالخروج، ولم يثنِ كل ذلك ترامب عن العودة إلى قراره بالانسحاب من سوريا، وهذه المرة بجدول سريع وكامل للانسحاب، ولا تلغي تصريحات المسؤولين الأمريكيين اللاحقة، حول تشذيب الخروج من سوريا شيئاً من وضوح هدف إدارة الرئيس ترامب، الذي ضرب آراء كل المنتقدين عرض الحائط، بدءاً بوزير دفاعه جيمس ماتيس، الذي استقال بعد خلافاته المتكررة مع الرئيس ترامب، مروراً بالمبعوث الأمريكي للتحالف بريت ماكغورك، وليس انتهاءً بنواب بارزين في الكونغرس.

الانسحاب الأمريكي خلط الأوراق في المشهد السوري بطريقة درامية، فتركيا باتت اليوم مترددة أكثر من أي وقت مضى في إطلاق عمليتها المرتقبة للهجوم على مدينة منبج (غرب الفرات) كمقدمة لعملية أكبر في شرق الفرات (منطقة النفوذ الأمريكية) والقضاء على مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي المتمثل بالإدارة الذاتية المعلنة منذ يناير/كانون الثاني 2014 بالمقابل فإن روسيا الاتحادية تشكك بجدية الانسحاب الأمريكي، وتربطه بالأفعال، لا بالأقوال، وهذا ما ينطبق على موقف حليفتيه؛ دمشق وطهران. تريد واشنطن إعادة تركيا إلى الحضن الأمريكي وإبعادها تدريجياً عن موسكو، وكذلك ضمّها لمحور الدول المحاصِرة اقتصادياً لإيران. أما دمشق فتريد إعادة سيطرتها على كامل شرق الفرات قبل أي عملية تفاوض في مسار جنيف، ولن ترضى بنفوذ تركي أكبر من ذلك الذي تراه الآن في سوريا، حيث تسيطر أنقرة على أجزاء كبيرة من الشريط الحدودي مع سوريا في محافظة إدلب ومدن عملية درع الفرات (الباب وإعزاز وجرابلس) بالإضافة لمدينة عفرين.

سيكون على الكرد الاختيار بين خيارات قاسية للغاية، وهم الذين كانوا أكبر المنتصرين في الحرب السورية التي خسرها الجميع، فمناطقهم كانت الأكثر أمناً في البلاد، لكن بقاء الحال من المحال. خيارهم الأول هو المواجهة مع تركيا في سيناريو مكرر لذلك الذي كان في عفرين، والذي دفعوا على إثره أثماناً باهظة، ولم يقبلوا العروض أو النصائح التي طلبت منهم التصرف بواقعية في مواجهة دولة أطلسية لها مصالح كبيرة مع القوى الكبرى. هذا الخيار سيكون بمثابة غلطة اللغّام، التي لن يستطيع الحصول على فرصة أخرى بعدها. أما الخيار الآخر فهو التفاوض مع الحكومة السورية، الرافضة بصلابة لأي طرح للإدارة الذاتية القائمة في شمال وشرق سوريا، وتريد أن يتم الاتفاق وفق قانون الإدارة المحلية رقم 107 المثبت دستورياً بالمادتين 130 و131.

المرحلة الآن دقيقة للغاية في الشمال السوري، وعليه فإن على حزب الاتحاد الديمقراطي الابتعاد عن الصلف السياسي الذي يتبعه مع مخالفيه، وإيلاء الاهتمام اللازم بالآراء التي لم يعتد سماعها طيلة فترة حكمه، والتخلي عن المشاريع الطوباوية التي تدفع بالمنطقة إلى الهاوية. قد تكون روسيا الاتحادية هي التي تملك مفتاح الوصول لحل مقبول بين الكرد والحكومة السورية، عبر الضغط على الجانبين لتقديم تنازلات تفضي إلى حل ينهي هذه القضية بأقل الخسائر، وتجنب المنطقة وأهلها مصيراً مجهولاً قد يتعدى ما حصل في عفرين.

*كاتب سوريّ

القدس العربي

التركة السورية في صراع القوى الدولية/ رضوان زيادة

هل ستستطيع تركيا أن ترث كل مساحات الأرض التي ستتركها القوات الأميركية في سورية. هذا سؤالٌ من الصعب الإجابة عنه، وما زال الموقف التركي، في هذا الإطار، غامضاً، فالقيادة التركية تدرك أن هذه المساحات واسعة للغاية، ويحتاج إبقاؤها تحت السيطرة التركية إلى عديد من القوات والأسلحة والموارد المالية، من أجل إدارة المجتمعات المحلية داخلها، وخصوصاً في الرقة التي دمرتها القوات الأميركية بالكامل، بهدف القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولم تساهم بتاتاً في تمويل إعادة إعمارها، أو إعادتها إلى الحياة، بما يتطلبه ذلك من بنى تحتية، وعودة للمدنيين هناك.

ولذلك، يبرز السؤال هنا: كيف سيكون موقف روسيا؟ وهل ستكتفي الولايات المتحدة بالتنسيق مع تركيا من دون روسيا في سحب قواتها الكاملة من سورية؟ لا توجد مؤشراتٌ، في الوقت الحالي، تدل على أن الولايات المتحدة ستقوم بالتنسيق مع روسيا، فالعلاقة اليوم في منتهى الرسمية، على الأقل في الجانب العلني منها، لكن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أظهر إشاراتٍ إلى التنسيق مع تركيا، وأرسل مستشاره لشؤون الأمن القومي، جون بولتون، بهدف تحقيق التنسيق الضروري، غير أن الزيارة فشلت في تهدئة المخاوف التركية.

كما أن روسيا تنظر إلى هذه المناطق الغنية بالنفط والغاز أولوية لها. ولذلك صرح الرئيس بوتين، فور إعلان ترامب الانسحاب من سورية، بأنه خبر جيد، ومن المحتمل أن يجري تنسيق عالي المستوى بين الطرفين، الروسي والتركي، لملء الفراغ في مناطق شرق سورية وريف البادية، لا سيما أن شركات روسية تحضر لاستخراج الغاز واستثماره في هذه المناطق، وهو ما يعني أن روسيا وتركيا ستكونان الرابحين الأكبر في خلافة الأراضي التي كانت الولايات المتحدة تسيطر عليها في سورية.

وبالنسبة للأسد، يبدو صورياً أنه يستعيد بعض الأراضي، خصوصاً إذا ما سيطرت القوات الروسية على بعضها. ولكن عملياً يظهر بمنتهى الضعف، وعدم القدرة على مغادرة دمشق التي يحكم الخناق على سكانها أمنياً وعسكريا، مع انهيار الوضع الاقتصادي بشكل كامل، وعدم القدرة على تحمل أعباء إعادة الإعمار، ولو في الحد الأدنى. وعلى الرغم من مظاهر الحرارة العربية من وزير الخارجية البحريني، خالد آل خليفة، وزيارة رئيس السودان عمر البشير دمشق، وزيارة مدير مكتب الأمن الوطني، علي مملوك، القاهرة، إلا أن بين النظام واستعادة صورته عربيا مسافة ليست قصيرة، وربما تثمر الضغوط الغربية في إبقاء العزلة العربية عليه، بسبب المجازر الجماعية التي ارتكبها بحق السوريين على مدى السنوات السبع الماضية.

يعتبر التفاوض اليوم على وراثة الأطراف الدولية والإقليمية الأراضي السورية نتيجة حتمية لفشل الدولة المركزية على مدار السنوات السبع الماضية، في إبقاء وحدة سورية قيمة مركزية، وفي الربط بين السوريين وأرضهم، فتشتت السوريين في بقاع الأرض اليوم، حيث يعيش خارجها أكثر من سبعة ملايين لاجئ، يعد انعكاسا بسيطاً لانهيار فكرة الدولة المركزية في أعين السوريين، وتلاشي شرعيتها التي يمكن أن تستمدها. ولذلك، ما زالت المعارضة السورية اليوم المتحالفة مع تركيا، وخصوصا فصائل الجيش السوري الحر، والذي اعتمدت عليه تركيا في الدخول إلى كثير من الأراضي الحدودية، وتحريرها من قوات الحماية الكردية، تعتبر الأسد عدوها الأول، وبالتالي تبدو مستعدة للحفاظ على جزء من سيطرتها على الأراضي السورية، بالاعتماد على المساندة التركية، إذا كان ثمن هذا الخروج الأميركي تسليم هذه الأراضي لنظام الأسد.

وبالتالي يمكن القول إنه على المدى البعيد ستتحول سورية إلى أراضٍ خاضعة للسيطرة الذاتية، قسم منها يخضع لنظام الأسد تحت الوصاية الروسية بشكل كبير، مع وجودٍ كبير للمليشيات الإيرانية، وتلك المتحالفة معها، وأراض أخرى خاضعة لسيطرة المعارضة السورية في الشمال تحت الوصاية التركية، مع انهيار كامل للمناطق الكردية التي كانت تحت الوصاية الأميركية، وهو ما يعني أن تغير حجم الأراضي واتساعها لحساب هذا الطرف من ذاك يبدو بعيداً جداً من طموح وصولٍ إلى الحل السياسي الذي يقود إلى انتقالٍ سياسيٍّ حقيقيٍّ، يقوده السوريون، ويؤدي إلى تغييرٍ لنظام الأسد، فقد شهدنا، في السنوات الثماني الماضية، تغييرا كبيرا لمعادلات

الجغرافيا على الأرض، لكنها كانت، في جوهرها، قائمةً على تغييرات مؤقتة، تعتمد على تغير مصالح القوى الإقليمية والدولية من طبيعة الصراع في سورية. ولذلك، تبدو رغبة ترامب الانسحاب الكامل من سورية أحد أوجه هذا التغير، في النظر إلى المصالح الأميركية في سورية، حيث لا يرى ترامب أي مصلحة أميركية في البقاء في سورية، وتحمل تكاليف البقاء هناك، للقضاء الكلي على “داعش”، أو تحمل تكاليف إعادة الإعمار التي أعلن أن السعودية ستتكفل بها.

تنقل صحيفة واشنطن بوست أن الرئيس ترامب أخذ نصيحة الانسحاب من سورية من السيناتور راند بول من ولاية كنتاكي، حيث تذكر الصحيفة أن سياسة الرئيس ترامب الخارجية لا تتبع أي أيديولوجية راسخة، لكنها غالباً ما تكون مزيجًا من وجهات نظره الشخصية التي طال أمدها وتأثير آخر شخص يعيره أذنه. في هذه الأيام، يستمع ترامب، أكثر من أي وقت مضى، إلى السناتور راند بول الذي يدير بهدوء السياسة الخارجية الأميركية في اتجاه جديد.

ولذلك، جعل قرار ترامب المفاجئ، سحب جميع القوات الأميركية من سورية، على عكس نصيحة فريق الأمن القومي بأكمله، كثيرين يعتقدون أن لمحادثات بول المتكرّرة عبر الهاتف مع ترامب خارج إطار عملية السياسة تأثيرا كبيرا على قرارات الرئيس ترامب بشأن السياسة الخارجية. والمؤكد أن الاثنين يعتبران من رفاق لعبة الغولف، فهما يلعبانها معا في أحيانٍ كثيرة.

أصبح الجميع يدرك أن صوت راند بول هو الذي يوليه الرئيس اهتماما متزايدا، وهو يمتلك رؤية أيديولوجية تقوم على انسحاب الولايات المتحدة الكامل من العالم، ويبدو ترامب ما زال بعيدا عن ذلك، ولكنها ربما تجعله يوما بعد يوم أقرب إلى وجهة النظر هذه.

العربي الجديد

لا حرية ولا عدالة في سوريا في زمن “أهون الشرين”/ كريستين هيلبيرغ

وحدات الشعب الكردية – ما من متنازعين إلا وكان الأسد ثالثهما الضاحك

ما من طرفين اختلفا في سوريا إلا وكان الأسد هو المستفيد. مثلاً: تختلف واشنطن مع تركيا حول المسلحين الأكراد، وقد يستفيد النظام من ذلك لاستعادة شمال شرق سوريا. تحليل كريستين هيلبيرغ

يقوم بشار الأسد بدوره المُجسَّد كَـ “أهْوَن الشرَّيْن” بشكل جيد. وها هو يحتفل الرئيس السوري منذ أعوام بتحقيقه نجاحًا تلو الآخر. فمع حكمه يعرف المعنيون ما يوجد لديهم.

السوريون لديهم نظام حكم يشبه المافيا من حيث تنظيمه، يحكمهم بالخوف ويمارس التعذيب بشكل ممنهج – وعلى أية حال أفضل من خلافةٍ معادية للحياة. من السهل على الإسرائيليين التعامل مع الأسد كخصم مجاور يمكن التنبُّؤ بأفعالِه – لأنَّ المتشدِّدين المؤدلَجين يمكن أن يكونوا أسوأ. وكذلك باتت في هذه الأثناء الولايات المتَّحدة الأمريكية في عهد دونالد ترامب تجد من جديد أنَّ آية الله خامنئي في إيران ” أكثر شرًّا” من “طاغية” دمشق.

صحيح أنَّ أوروبا غاضبة من جرائم حرب الأسد، ولكنها تخاف أكثر من الفوضى وانهيار الدولة وقدوم المزيد من اللاجئين. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ شبيحة النظام يقتلون السوريين فقط ولا يقتلون أوروبيين، ولذلك فكل شيء أقل سوءًا مما يبدو.

ولهذا السبب فقد نجح الأسد في الارتقاء إلى منزلة “أهون الشرَّين”. وبفضل الدعم الروسي والإيراني، فقد دمَّر كلَّ بديل حقيقي لحكمه. اتَّفقت جميع الأطراف الفاعلة في النزاع السوري على بقائه في السلطة. وتمكَّن جهازه الأمني ​​والدعائي من خلق انقسام في المجتمع: العلويون والسُّنة يكرهون بعضهم بعضًا، المعتدلون والمتطرِّفون يتحاربون ضدَّ بعضهم، العرب والأكراد يواجهون بعضهم في قومية عمياء. وما من طرفين متنازعين في سوريا إلا وكان الأسد ثالثهما الضاحك المستفيد من نزاعهما.

نموذج ليس ديمقراطيًا ولكن “يمكن تحمُّله”

إنَّ مَنْ يرغب بعد في متابعة هذا السيناريو على الهواء مباشرة، يجب عليه مراقبة التطوُّرات في شمال شرق سوريا. وهناك يحكم حزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي (PYD) – وهو الحزب الشقيق لحزب العمَّال الكردستاني (PKK) – منطقةً ذات إدارة ذاتية واسعة النطاق. نظام حزب واحد يضطهد النقَّاد، ولكنه يدعم النساء – نموذج ليس ديمقراطيًا، ولكن من وجهة نظر الكثير من الأكراد السوريين يمكن تحمَّله بالمقارنة مع الأوضاع السائدة في بقية أنحاء البلاد وأماكن أخرى من المنطقة.

القوَّات المسلحة التابعة لحزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي هي وحدات حماية الشعب (YPG)، التي قاتلت ضدَّ تنظيم “الدولة الإسلامية” على الأرض – بدعم جوي من الولايات المتَّحدة الأمريكية وكذلك من فرنسا وبريطانيا وألمانيا. وتقريبًا في كلِّ مكان تم فيه دحر تنظيم داعش منذ عام 2014، تولى السلطة حزبُ الاتِّحاد الديمقراطي الكردي – وفي بعض الأماكن بالاشتراك مع شركاء محليين.

ولذلك فإنَّ منطقة نفوذ هذا الحزب الكردي أصبحت تشمل في هذه الأثناء ربع سوريا، بما في ذلك أيضًا مدنًا عربية مثل مدينة الرقة. ومنذ شهر آذار/مارس 2016 يطلق الحزب على نفسه اسم الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا، باللغة الكردية “روج آفا”.

تعتبر روج آفا بالنسبة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان “دولة إرهابية” تُهدِّد أمن تركيا بسبب علاقاتها الوثيقة مع حزب العمَّال الكردستاني. ولهذا السبب فهو يريد طرد حزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي من المنطقة. وبحسب إردوغان فإنَّ ما تم تحقيقه في محافظة عفرين الكردية في مطلع عام 2018 يجب تكراره شرق نهر الفرات. وهناك يقف الجيش التركي مستعدًا للهجوم – جنبًا إلى جنب مع المعارضين المسلحين السوريين، الذين اِنكفأوا في السنوات الأخيرة من ثوَّار إلى أتباع لتركيا. وهم بالنسبة لإردوغان مرتزقة مفيدون في محاربة أعداء الدولة التركية، أي: وحدات حماية الشعب. وبناء على ذلك فإنَّ حلفاء الغرب هم إرهابيو أنقرة.

{لا مكان للحرية والعدالة في سوريا في زمن “أهْوَن الشرَّيْن” وَ “أسوأ الشرَّيْن”. صحيح أن أوروبا غاضبة من جرائم حرب الأسد، ولكنها تخاف أكثر من الفوضى وانهيار الدولة وقدوم المزيد من اللاجئين. بالإضافة إلى ذلك، فإن شبيحة النظام يقتلون السوريين فقط ولا يقتلون أوروبيين، ولذلك فكل شيء أقل سوءًا مما يبدو.}

{لَعَلَّ حزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي في سوريا يحفظ ماء وجهه بحصول الأكراد على تنازلات ثقافية ووسائل إعلام ناطقة بالكردية موالية للنظام السوري وتعليم خاص بالأكراد، ويتمكَّن بذلك من إخفاء خسارته للسلطة من خلال هياكل لامركزية زائفة واستيلاء خفي من قِبَل النظام على السلطة.}

الولايات المتَّحدة الأمريكية لا تتَّبع أية استراتيجية

لقد أظهرت المحادثات بين ممثِّلين عن الجانبين الأمريكي والتركي ألاَّ شيء سيتغَّير في ذلك حتى إشعار آخر. سافر مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون إلى أنقرة لكي ينتزع من القيادة التركية وعدًا بعدم مهاجمة الأكراد في حال انسحاب القوَّات الأمريكية. غير أنَّ إردوغان ردَّه خائبًا. وبهذا يبقى حاليًا الوجود الأمريكي هو الضمان الوحيد لعدم إقدام تركيا على غزو منطقة “روج آفا”.

وبناءً على ذلك فإنَّ السؤال الكبير هو: متى وفي ظلِّ أية ظروف ستقوم الولايات المتَّحدة الأمريكية بسحب جنودها البالغ عددهم ألفي جندي من سوريا، وكيف تريد بعد ذلك منع إردوغان من شنّ الهجوم.

توجد في واشنطن إجابات كثيرة على السؤال حول خطط الانسحاب الأمريكي من سوريا، بحيث ألاَّ شيء يبدو محسومًا. الرئيس ترامب يناقض نفسه باستمرار في تغريداته على موقع تويتر وبياناته – ففي وقت ما قال يجب أن يتم الانسحاب بسرعة، ثم ادَّعى أنَّه لم يقل بتاتًا إنَّ الانسحاب يجب أن يتم بسرعة، ثم قال إنَّه لا يريد البقاء في سوريا (التي وصفها بأنَّها “رمل وموت”)، وهو لا يريد محاربة تنظيم داعش، لكن يجب أن يحاربه الآخرون (إيران وروسيا وتركيا).

وبعد ذلك صرَّح من جديد بأنَّه لا يريد الانسحاب تمامًا حتى اختفاء تنظيم داعش، ويجب حماية الأكراد، ولكن من حقِّ أنقرة أن تحارب “الإرهاب” (المُتمثِّل من وجهة نظر إردوغان في وحدات حماية الشعب، ومن وجهة نظر ترامب في داعش). ومن هذه المناوشات اللفظية السريعة المتَّسمة بالجهل ومن دون اتِّباع أية استراتيجية، يحاول وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون استخلاص سياسة عملية – ولكن دون جدوى.

لا علاقة لذلك بالحرِّية والعدالة

ومن ناحية أخرى من السهل ببساطة الإجابة على السؤال: كيف تريد الولايات المتَّحدة الأمريكية حماية الأكراد من دون وجود قوَّات لها على الأرض؟ والجواب هو: أمريكا لا تستطيع فعل ذلك. لقد أدرك ذلك منذ فترة طويلة كلٌّ من حزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي ووحدات حماية الشعب وباتا يبحثان الآن عن خلاصهما في مكان آخر – في موسكو ودمشق.

والانسحاب الأمريكي يمهِّد الطريق لخطط بوتين وبالتالي لعودة الأسد إلى شمال شرق سوريا. موسكو تريد إعادة المنطقة إلى تحت سيطرة النظام الكاملة وسحق الإدارة الذاتية الكردية وخداع حزب الاتِّحاد الديمقراطي ببعض الحقوق الثقافية وكذلك دمج وحدات حماية الشعب في القوَّات المسلحة السورية.

والحسابات هي أنَّ إردوغان سيتخلى في ضوء هذا الاحتمال عن الهجوم على شمال شرق سوريا. لا سيما وأنَّ هذا الهجوم يعتبر موضوع جدال إلى حدّ كبير داخل القيادة التركية، وذلك لأنَّ وحدات حماية الشعب شرق نهر الفرات مجهَّزة بفضل الأمريكيين بشكل أفضل، كما أنَّ أي هجوم مثل الهجوم على عفرين في العام الماضي (2018) سيثير انتقادات دولية وتضامنًا مع الأكراد.

ولهذا السبب فإنَّ رؤية بوتين تجد في أنقرة آذانًا صاغية: إذا تقدَّمت قوَّات الأسد فإنَّ وحدات حماية الشعب ستنسحب، وسيعمل النظام على الحدود كمنطقة عازلة بين حزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي [في سوريا] وحزب العمَّال الكردستاني [في تركيا] وسيكون الأسد هو الوحيد القادر على ضمان “وحدة سوريا الإقليمية”، وبالتالي القادر على منع الأكراد وبشكل مستدام من التمتُّع بالحكم الذاتي.

وهذا يعيدنا إلى دور الأسد المفضَّل إليه باعتباره “أهون الشرَّين”. فمن وجهة نظر حزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي يعتبر النظام السوري أفضل من إردوغان. كما أنَّ إردوغان يُفضِّل الترتيب مع الأسد على رفاق حزب العمَّال الكردستاني في السلاح. وهذا يؤكِّد أحد القواعد الأساسية في النزاع: عندما يتقاتل طرفان في سوريا، يستفيد الأسد دائمًا باعتباره الطرف الثالث الضاحك عليهما.

الأكراد لا يوجد لديهم أي خيار

{موسكو تريد إعادة منطقة شمال شرق سوريا إلى سيطرة النظام السوري الكاملة وسحق الإدارة الذاتية الكردية وخداع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ببعض الحقوق الثقافية، وكذلك دمج وحدات حماية الشعب الكردية في القوات المسلحة السورية.}

{بفضل الدعم الروسي والإيراني دمَّر الأسد كل بديل حقيقي لحكمه، واتفقت جميع الأطراف الفاعلة في النزاع السوري على بقائه في السلطة، بعد أن تمكن جهازه الأمني ​​والدعائي من خلق انقسام في المجتمع: العلويون والسُّنة يكرهون بعضهم بعضا، المعتدلون والمتطرفون يتحاربون ضد بعضهم، العرب والأكراد يواجهون بعضهم في قومية عمياء. وما من طرفين متنازعين في سوريا إلا وكان الأسد ثالثهما الضاحك المستفيد من نزاعهما.}

إذًا كيف يبدو المستقبل في روج آفا؟ بناءً على طلب من وحدات حماية الشعب فقد أرسل النظام في  بداية شهر كانون الثاني/يناير 2019 قوَّات إلى منبج، وهي المدينة الكبيرة الوحيدة الخاضعة للإدارة الكردية غرب الفرات. منذ فترة طويلة تريد تركيا السيطرة على منبج بمساعدة المعارضين المسلحين، علمًا بأنَّ المفاوضات مع الولايات المتَّحدة الأمريكية، التي توجد لديها قوَّات هناك، لم تسفر عن أي شيء. والآن تمركز جنود الأسد بين المعارضين المسلحين الموالين لتركيا وبين وحدات حماية الشعب الكردية، ولذلك يبدو أنَّه تمكَّن من تفادي احتمال إقدام تركيا على الغزو.

وإذا قدِّر للتعاون بين وحدات حماية الشعب والنظام السوري أن يسير في منبج بنجاح، فمن الممكن لدمشق أن ترسل المزيد من القوَّات إلى “روج آفا” وأن تتمركز على طول حدود سوريا مع تركيا.

في الوقت نفسه يتفاوض حزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي مع النظام السوري من خلال وساطة روسية. وطالما بقي الأمريكيون محافظين على وجودهم العسكري هناك، يمكن للأكراد أن يطالبوا بالمزيد – وذلك لأنَّ انسحاب القوَّات الأمريكية غير الواضح أو غير الكامل أو البطيء من شأنه أن يُعزِّز موقفهم أمام النظام وروسيا.

ومع ذلك فإنَّ الاتِّفاق في النهاية سيراعي مصالح دمشق، لأنَّ قوى التدخُّل الرئيسية، أي روسيا وإيران وتركيا تريد جميعها في سوريا دولةً مركزيةً قوية. وهذا يعني في شمال شرق سوريا حصول النظام السوري على أكبر قدر ممكن من السلطة، وحصول الأكراد على أقل قدر ممكن من الحقوق.

لا يوجد لدى الأكراد أي خيار من دون دعم أمريكي أو أوروبي يمكنهم الاعتماد عليه. وبما أنَّ العالم كلّه لم يبقَ أمامه سوى القبول بالأسد، فإنَّ الأكراد أيضًا سيستمرون في التوصُّل إلى ترتيبات مع النظام. ولَعَلَّ حزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي يحفظ ماء وجهه بحصول الأكراد على تنازلات ثقافية ووسائل إعلام ناطقة بالكردية موالية للنظام وتعليم خاص بهم، ويتمكَّن من إخفاء خسارته للسلطة من خلال استيلاء خفي على السلطة من قِبَل النظام وبهياكل لامركزية زائفة.

يتبدد في الوقت الحاضر حلمُ أكراد سوريا في حصولهم على الحكم الذاتي. سيتم في المكاتب الإدارية والفصول الدراسية داخل “روج آفا” إنزال صور زعيم حزب العمَّال الكردستاني عبد الله أوجلان وتعليق صور الأسد من جديد. وكلُّ هذا لا علاقة له بالحرِّية والعدالة. ولكن يبدو على أية حال ألاَّ مكان للحرِّية والعدالة في سوريا في زمن “أهون الشرَّين” و”أسوأ الشرَّين”.

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2019

ar.Qantara.de

كريستين هيلبيرغ كاتبة ومحللة صحفية ألمانية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى