سياسة

أسديون ضد الأسد/ عمر قدور

المراوحة التي يشهدها الوضع السوري لا تعني توقف التغييرات على صعيد السوريين أنفسهم، أو توقف الجدالات السورية التي تتحين مناسبات غير سورية أيضاً لتظهير الاختلافات، على نحو ما شهدنا مؤخراً لمناسبة خسارة حزب العدالة الانتخابات في استنبول بين أردوغانيين سوريين وآخرين. الجمود السياسي والعسكري أمران لم يعودا في أيدي السوريين أصلاً، وتبدل خرائط النفوذ رهن بالصراعات والتوازنات الخارجية، بما في ذلك مقدار النفوذ الذي يمارسه أي طرف خارجي على بشار الأسد أو النفوذ الذي يتقاسمه الخارج على بقايا تنظيمات المعارضة. لقد أوقع الخارج بالسوريين هزيمةً كبرى وقاسية، وكأنما بات هو المخوّل الوحيد بتدبير الهزيمة وإخراجها على النحو الذي يراه مناسباً.

استُنزف تنظيم الأسد وانهار لصالح حلفائه، وحدث شيء مشابه لبقايا تنظيمات المعارضة. اليوم لا مشروع فعلياً يجمع من كانوا قبل سنوات موالي الأسد، ولا مشروع يجمع من كانوا قبل سنوات في جهة الثورة. انهيار الإطار الوطني للصراع تلاه انهيار في جبهتيه، إلا أن ما يبقى مهماً هو جبهة الثورة التي كان يُفترض بها حمل المشروع الوطني، وانهيار المشروع الوطني في هذه الجهة له مدلولات بالغة السوء على مستقبل القضية السورية عموماً.

ربما كان الانتصار الكبير الذي حققته الأسدية هو تغلغلها في بيئة الثورة، وهذا لا يُحسب لجهد مميز قامت به بعد الثورة وإنما لمجمل الظروف التي ساهم فيها الخارج فوق بقاء السوريين لعقود طويلة تحت حكمها. لقد قيل الكثير في أن أية ثورة لا بد أن تحمل شيئاً من خصائص النظام الذي تقوم ضده، والمصيبة كانت في استخدام القول الموضوعي من أجل تبرير أخطاء وخطايا، مع أن استكماله المنطقي يأتي بالسعي الحثيث مع الوقت للتخلص من أثقال النظام السابق التي تحملها أية ثورة لا العكس. من جهتها، تكفلت وحشية الأسد بالتغطية على كل ما عداها، وهذا إن صحّ لدى جمهور الثورة لم تثبت صحته خارجياً، لأن أخطاء وارتكابات التنظيمات المحسوبة على الثورة وُضعت في الكفة الأخرى للميزان.

 بالتأكيد لا يوجد ثورة طهرانية، لكننا “بقليل من القسوة” نستطيع القول أن الثورة السورية حفلت بأسديين ضد الأسد، وكان هذا واحداً من أفجع مظاهر الهزيمة الداخلية. بالطبع المقصود بالأسديين ليسوا أولئك الذين انشقوا عن أجهزة السلطة مع بداية الثورة، فهم متباينون في ما بينهم جداً. المقصود على نحو خاص أولئك الذين ظنوا أن بإمكانهم التغلب على الأسد باستخدام أسلحته ذاتها، ولو امتلك البعض منهم القدرة على تشخيص طبيعة الأسدية.

واحد من الأمثلة الأكثر شيوعاً هو الموضوع الطائفي، إذ نرى قلة ممن لا يعلنون تأييدهم الصريح للأسد تنكر استثمار الأخير في المسألة الطائفية. ربما قلة أيضاً ترى أن ذلك الاستثمار هو استثمار مزدوج على طرفي ما يسمى الأقليات والأكثرية، وبالتالي يكون التصدي له على الطرفين. ما رأيناه خلال سنوات تركيز شريحة “ذات صوت عال” على هذا الجانب تحديداً، بحيث يصبح القول أن النظام طائفي بمثابة البديهية التي لا تحتاج إلى نقاش، ويصبح تحديداً البديل عن فهم استثماره في المسألة الطائفية. هنا لا حاجة لتكرار واقع وجود طائفيين في سوريا، وهؤلاء هم الذين يُستخدمون في الاستثمار الطائفي، وهم بهذا المعنى أكثر إخلاصاً من مشغّليهم.

الرد على البعد الطائفي للأسدية، بعد الانتهاء من تشريحه، يُفترض به ألا يزيد في عدد المستثمرين والمشغَّلين لأنه يصبّ في مياه الأسدية. ولقد رأينا فشل المراهنة على تحويل الأكثرية العددية “ذات المنبت السني” إلى طائفة؛ رأينا ذلك قبل حكم البعث “أي ضمن الخيار الديموقراطي” عندما كانت حصيلة الإخوان المسلمين في الانتخابات هزيلة جداً، ثم رأيناه في معركة الإسلاميين مع الخيار الأمني أو العسكري، فكانوا مشتتين بقدر ما كان الخصم قادراً على الإبادة. الأهم من ذلك أنهم في مناطق سيطرتهم قدموا نموذجاً مشابهاً للإرهاب الأسدي، مع تضييق أشد على الحريات الشخصية. بعبارة أخرى، كانت الأرض خصبة طوال السنوات الأخيرة لامتحان الاستثمار الطائفي المضاد، ولا يُنتظر أن يأتي مثيل لها مستقبلاً بعد الأسدية التي تبرع بتقديمها إسلاميون أو طائفيون التحقوا بهم.

وكي لا يكون الإسلاميون كبش فداء للهزيمة، لم تقدّم المعارضة بمجملها نموذجاً مقنعاً للأداء السياسي، ولا كان سوء الأداء مرتبطاً فقط بقلة الخبرة. لدينا نماذج طاغية من أولئك الذين عملوا في هيئات المعارضة، أو امتهنوا العمل فيها، وسرعان ما تحولوا إلى نموذج سلطوي مشابه للنموذج الأسدي، من حيث الانقطاع عن جمهور الثورة، وأيضاً من حيث الالتحاق بالخارج. خلال سنوات لم تجد هذه المعارضة نفسها مسؤولة عن تقديم كشف حساب عن عملها، ولا حتى كشف يتعلق بحساباتها المالية ومصادر تمويلها وأوجه الإنفاق رغم اتهامات فساد راجت حولها، بصرف النظر عن صحتها أو عدمها.

في الأصل لا يوجد ما يمكن تسميته انتظام هرمي في الهيئات الممثِّلة للثورة، ولا أحد خارج “المطبخ” على دراية بالآلية التي شُكِّلت بها، أو بالآليات التي اتُبعت أحياناً لتوسعتها، وهي توسعة فشلت في تقديم جديد على المستوى التمثيلي العام أو على مستوى السياسات. لقد أصبحت هيئات المعارضة أشبه بسلطة على الثورة، مع التنويه ثانية بانفصالها عن قاعدة الثورة، وهذه وصفة مشابهة جداً للأسدية. ما لا يقل أهمية هو خواء لغة المعارضة التي اعتمدت التنديد بوحشية الأسد كخطاب عاطفي وحيد، الأمر الذي يذكّرنا بخطاب الممانعة المندد بإسرائيل للتغطية على مشاكل الداخل.

على هوامش تلك الهيئات تواجد بوفرة ذلك المزاج الذي يمنع النقد، بذريعة أولوية المعركة ضد الأسد. هذا المزاج فيه ما فيه من أسدية “لا صوت يعلو على صوت المعركة”، وإن كان دافعه العاطفي الطيب ذلك الحرص على عدم تشتيت الانتباه عن العدو الأساسي. ثم إن التغاضي عن الأخطاء والانتهاكات أدى إلى شرعنتها على نحو ما، أي أصبحت عرفاً بحيث يبرر الواحد منها الآخر، وهكذا يصبح التصدي لواحدها فاقداً المصداقية أو انتقائياً. لكثرة شيوعها لاحقاً، سيأتي الرد على انتهاك أية جهة من مشايعيها بالإشارة إلى انتهاكات الجهة المقابلة، وليكون غرق الكثيرين في ارتكاب الأخطاء وتبريرها على النموذج الذي يُفترض أنهم خرجوا للثورة عليه.

بالطبع لا يجوز تجاهل فئة من الأسديين، كان معظم أفرادها منتمياً إلى أجواء اليسار. أفراد هذه الفئة هم على الطرف الآخر، وهم أصحاب ادعاء الطهرانية المطلقة، ولكثرة اشتراطاتهم على الثورة المقبولة تبدو مستحيلة في أي وقت. وجه التشابه مع الأسدية، وحتى مع الإسلاميين، هو ذلك النزوع إلى الهندسة الاجتماعية لكن هذه المرة من منطلق صلاحية المجتمع للتغيير الديموقراطي. أفراد هذه الفئة غادروا فكرة التغيير من فوق على طريقة الثورات الاشتراكية، لكنهم لم يفارقوا تلك النظرة النخبوية المتعالية، وبقيت الفوقية هي الحبل السري الذي يشدهم إلى ماضيهم الذي لن يعود.

عاملان ربما يكون لهما التأثير الأكبر في قبول ذلك الحجم من الأسدية ضمن الثورة؛ أولهما انطلاقها من موقع الضعف الشديد، من مجتمع أعزل تماماً في مواجهة قوة متوحشة، ما اقتضى الحرص على اكتساب كل من يرى له خصومة مع الأسد ولو من موقع مغاير للثورة. العامل الآخر المكمل هو الإحساس الذي لم يعبَّر عنه كثيراً وهو النظر إلى الثورة كفرصة تاريخية قد لا تتكرر خلال أجيال، وخسارتها تعني خسارة حلم التغيير حتى أمد بعيد، لذا من المهم انتصارها على أي وجه كان ثم يمكن النظر في ما يليها في أوانه.

ما بتنا نراه في البيئة المحسوبة على الثورة، منذ اتضاح معالم الهزيمة، من شتائم متبادلة، ومن عدم قبول بالرأي الآخر ومحاولة تصفية أصحابه معنوياً؛ كلها لا نستطيع اعتبارها من مظاهر الهزيمة فحسب، بل هي أيضاً نتيجة تراكم أسدي على حساب الثورة. استرداد الفارق الأخلاقي والوطني الصارم مع الأسدية، والذي لا يتكئ فقط على وحشيتها، ربما يكون أهم استثمار ممكن في المستقبل لمن لا يرون أن المستقبل ينتهي الآن، فضلاً عن قطع الطريق على أولئك الذين يتربصون في كل وقت كي يقولوا: أسد نعرفه أفضل من أسد لا نعرفه.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى