شهادات

انقسام وحيد الخلية/ وائل السوّاح

وحيد الخلية حيوان مجهري يتكاثر تكاثرا لا-جنسيا، عبر انقسام الكائن إلى اثنين، ثم أربع، وهكذا كمتوالية هندسية لا تنتهي. وهو بذلك لا يعرف الانقسام بين ذكر وأنثى، ولا الجماع ولا الحياة المشتركة. الأحزاب السياسية في بلادنا أشبه ما تكون بوحيد الخلية. فهي لا تتنوع في داخلها ولا تختلف إيديولوجيا، وإذ تتكاثر، فهي تفعل ذلك عن طريق الانقسام. هذا ما فعله البعث حين انقسم أربعة أو خمسة أحزاب تنتمي إلى يمين ويسار ووسط. عام 1961 انقسم البعث فخرج منه الاشتراكيون العرب والوحدويون الاشتراكيون. وسنة 1966 انقسم إلى يمين ويسار، ثم عاد فانقسم إلى شباطيين وحركة تصحيحية.  ثم انقسم الاشتراكيون العرب أنفسهم والوحدويون الاشتراكيون. وانقسم الاتحاد الاشتراكي خمس أو ست مرات. وجاء دور الشيوعيين حين خرج المكتب السياسي ثم منظمات القاعدة ثم يوسف فيصل، وانقسم المكتب السياسي فخرج منه حركة اتحاد الشيوعيين وعاد بكداش فانقسم وخرجت منه مجموعة قاسيون. وانقسم القوميون السوريون والإسلاميون. وانقسم البارتي الكردي إلى بضعة عشر تنظيما. وهكذا صارت الأحزاب السياسية في الساحة السورية كأطباء الأسنان تزيد نسبتها على حاجة المواطنين السوريين، دون أن تعرف حقا ما الفَرْق بين كل هذه الفِرَق ودون أن تفهم لماذا لم يظهر على الساحة حزب جديد (أو أحزاب) يمثل قوى اجتماعية وفكرية غير تلك القائمة على الساحة. ولماذا لم يظهر في سوريا حزب ليبرالي حقيقي أو اشتراكي ديموقراطي. أيعقل أن يكون الطيف السياسي السوري بمجمله طيفا قوميا-يساريا-شعبويا أو إسلاميا وحسب؟

مسيرة حزب العمل لا تختلف كثيرا عن بقية الأحزاب، فهو أيضا تكاثر انقساميا. أول انقسام كان عام 1978، بعد سنتين فقط من تشكيله (باسمه القديم الرابطة) حين قرر أحمد جمول وهيثم العودات (مناع، لاحقا) ترك صفوف الحزب. كلاهما رأيا أن العمل السري كالعادة السرية، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى لذّة محرمة يعقبها ألم مقيم، دون أن يؤدّي إلى ناتج ذي فائدة. أحمد رأى ضرورة حلّ التنظيم والعودة إلى النشاط الدعاوي النظري عبر الشكل القديم للحلقات. وحين بدا وكأنه يغني خارج السرب مضى يعمل مع المقاومة الفلسطينية بعيدا عن الساحة السورية. أما هيثم ففكر بالانتقال إلى صفوف المكتب السياسي، بيد أن المقام لم يطب له فهاجر إلى فرنسا وبدأ يعمل في مجال حقوق الإنسان.

الانقسام الثاني كان حين انتهز بعض الرفاق اعتقال القيادة التاريخية للحزب في مطلع الثمانينات، وراحوا ينعطفون بالحزب بعقلية قومية-يسارية طفولية ومتطرفة. الانقسام الثالث تمّ في الداخل، بدأ بمجموعة من بضعة أفراد منعزلين وانتهى بثمانين رجلا وامرأة اتفقوا جميعا على عقم العمل السري في زمن البطش، واختلفوا على كل ما عدا ذلك.

لا أريد الآن أن أدافع عن الانقسام الذي جرى في السجن، ولا أريد أيضا أن أزدريه. كان حالة سياسية مرتبطة بزمان ومكان محدّدين، وجاء نتاجا لظروف سياسية وإنسانية لا يمكن أن تتكرّر كثيرا. لست فخورا بها، ولستُ منكرا لها.

بدأت خلافاتنا السياسية داخل السجن تتبلور منذ خريف 1982، ولكنها لم تولد في السجن، بل جاءت امتدادا لخلافاتنا قبل المعتقل. في الأشهر ما قبل انعقاد المؤتمر الأول الذي غيّرت فيه رابطة العمل اسمها إلى حزب العمل في 1-6 آب / أغسطس 1981، كنت وقلّة من الرفاق نعارض هذا التوجّه، وقد كتبت سلسلة مقالات في مجلة “البروليتاري” وهي النشرة الداخلية التي كنا نعبّر فيها عن آرائنا واختلافاتنا أبيّن فيها لماذا كنت أعارض تغيير اسم الرابطة إلى حزب. بالنسبة لي، كان التغيير يتعدّى الاسم إلى جوهر عمل الرابطة. على مدى سنوات كانت الرابطة تعتبر نفسها فصيلا شيوعيا يعمل على بناء الحزب الشيوعي في سوريا من خلال الحوار والتنسيق مع الفئات الأكثر ثورية داخل الحركية الشيوعية المحلية. وكان رهاننا الأساسي على الحزب الشيوعي المكتب السياسي والانشقاقات الشيوعية الأخرى، من مثل حركة اتحاد الشيوعيين التي قادا يوسف نمر ومنظمات القاعدة التي قادها مراد يوسف.

مع تفاقم الأوضاع الأمنية والسياسية واندلاع الحرب المفتوحة بين حافظ الأسد والإخوان المسلمين، ضاعت البوصلة من كثرة الشيوعيين، بما فيهم نحن. ورأينا أنفسنا نقترب أكثر من سياسة الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية الأرثوذكسية بعد أن كنا ننتقدها بحماس وتوقّد. وفجأة برز داخل الرابط من أعلن أن الأمل من وحدة الشيوعيين قد مات، وبالتالي فإننا وحدنا من يمثل الحركة الشيوعية السورية، وقرّر بناء على ذلك تحويل الرابطة إلى حزب.

وفي مطلع آب / أغسطس 1981، سافرت إلى لبنان ومنها إلى بلدة شحيم للمشاركة في المؤتمر التأسيسي الأول لحزب العمل الشيوعي. كنت آمل أن أضغط مع بعض الرفاق على المؤتمر للعدول عن الفكرة، وإبقاء اسم الرابطة وفكرة الحوار مع القوى الشيعية الأخرى لبناء حزب قوي وموحد، ولكنني فشلت، وعزلت مع قلّة من الرفاق بينهم نصّار يحيى، وخسرت مقعدي في اللجنة المركزية الجديدة. وفي طريق العودة، تمّ اعتقالي ولحق بي الشباب إلى تدمر.

انتحى بي نصّار جانبا وقال لي:

“سأترك اللجنة المركزية.”

بيني وبين نصّار تاريخ طويل من الألفة والتقارب في وجهات نظرنا. رجعت بي الأيّام سراعا إلى حيث كنا قبل سنوات في خليّة واحدة مع علي الكردي ومن ثمّ حليم رومية، نقرأ “خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطي”، ونرثي لتخلّي بليخانوف عن الخطّ الثوري، ولكنّ الأيّام ستعلّمنا معا أن الثورة ليست فقط شعارات نرفعها، بل كيف نحقّق هذه الشعارات وما القوّة التي نحتاجها لفعل ذلك. وفي ربيع وصيف 1980، سنجد زوارقنا تجري في نهر واحد. أيّدنا سوية تقرير آب، وحاججنا بقوّة ضدّ أفكار جناح من التنظيم كان أميل إلى التصعيد السياسي والتحريض. وفي المؤتمر كنا قريبين جدا في أفكارنا. ستقارب بيننا السنوات التالية أكثر، حين نشكل مع بعض الرفاق حالة سياسية مختلفة داخل السجن، ثمّ ستباعد بيننا سنوات أخرى بعدها، حين سيأخذه منا – بعيدا –ميشيل فوكو وجاك دريدا وبول ريكور.

كان نصّار يقصد مجموعة أعضاء اللجنة المركزية التي نصّبت نفسها قيادة للمعتقل.  كان نصّار دائما، ومعه أحمد رزق، أحد أكثر الأصوات عقلانية وهدوءا وحكمة.  وخشيت من قراره أن أُترَك في قيادة المعتقل وحيدا.

قلت له: “تعال نحكِ!”

وحكينا. كثيرا. راجعنا سويّة مسار الرابطة منذ تحوّلها إلى حزب ووضْع القيادة الحالية في الخارج التي كانت تنعطف يسارا بشكل حادّ جدا، وراجعنا دور قيادة المعتقل، واتفقنا على أن عضو اللجنة المركزية يكفّ عن لعب هذا الدور لحظة اعتقاله، ليتحوّل إلى مجرّد عضو عادي في التنظيم، كما هي العادة في كثير من الأحزاب التي تعتمد العمل السري وفي ظروف قمعية مشدّدة، تماما كما فعل المناضل المخضرم رياض الترك لحظة اعتقاله في كلّ المرّات التي اعتقل فيها.

ووسعّنا نقاشاتنا مع رفاق آخرين، حتى تكوّنت مجموعة من ستة عشر رفيقا، بينهم نصّار وأحمد روق وأنا، واتفقنا على تشكيل تيار داخل التنظيم، قبل أن ننتقل خطوة إلى الأمام فنترك التنظيم نهائيا.

بيد أن الانقسام الأكبر جرى بعد غزو صدام حسين للكويت. عندها، وبعد ذلك، إبان حرب التحرير، انقسم الجناح ألف يمين إلى معسكرين متبلورين واضحين، لم يعد اللقاء بينهما ممكنا. التيار الأول رأى في صدام بسمارك عربيا جديدا يريد توحيد بلاد العرب بالقوة كما وحد بسمارك الإمارات الألمانية بالقوة، ناسيا أو متناسيا أن سبعينات القرن التاسع عشر ليست تسعينات القرن العشرين، وأن صدام لا يملك من بسمارك إلا ما يملك القذافي من عبد الناصر. دافع أصحاب هذا التيار عن احتلال الكويت وتذكروا كل مساوئ أنظمة الحكم في الخليج (وهي صحيحة) ولم يريدوا أن يتذكّروا فجور صدام وعائلته ومجازره، والمقابر الجماعية وقصور النهاية وملايين القتلى المجانيّين في حرب الخليج الأولى والأمهات الثكلى والأرامل والمغتصبات طوعا والمغتصبات كرها.

التيار الثاني بدأ يبلور وجهة نظر جديدة غير قابلة للمساومة: الأولوية دائما للفرد-الإنسان. الحرية مطلب مطلوب لذاته وبذاته. نريد الديموقراطية لأنها مطلبنا النهائي، وليست لأنها طريقنا إلى التحرير أو مواجهة الغرب أو تعزيز الاقتصاد القومي. نريد الحرية للحرية، تماما على مبدأ الفن للفن، ولن نخجل بعد الآن من هذا المطلب. والطريق إلى ذلك واضح: دولة القانون القائمة على الديموقراطية السياسية، المجتمع المدني وحقوق الإنسان غير القابلة لأية مساومة أو تسوية أو حلول وسط. وداعا للديموقراطية الشعبية والديموقراطية الثورية وديموقراطية الشورى والديموقراطية المشروطة بتقاليد(نا) وأعرافـ(نا) وأخلاقـ(نا) وكلّ ما يحدّ ويقف في وجه ديموقراطية أصيلة واحدة موحدة، هي انعكاس لصورة الروح التي لا صورة لها: الروح الشاملة للكون، والتي إذ تتوزع بين البشر والشجر والحجر لا تنقص قيراطا ولا تزيد. وكما أن الروح واحدة لا تعرف شرقا وغربا ولا جنسيات وحدودا وسجونا وأقبية، كذلك الحرية التي لا تكون إلا إذا كانت نفسها. حرية تعمل من أجل الفرد ويعمل المجتمع من أجلها. حرية لنايا ولين وحنين وليلي وهيا ولكل الأطفال الآخرين الذين سيكبرون يوما على عالم لا بد أن يكون مختلفا: عالم الإنسان فيه هو الأساس، لا الإيديولوجية ولا الحزب ولا النضال ولا السجن ولا الوطن ولا الفروع ولا الأصول ولا الأقبية الرطبة الخانقة النتنة التي يأنف منها الخلد. لا بدّ لجميع الأطفال أن يكبروا في عالم خالِ من كل أنواع الكراهية والحقد والثأر. ومن أجل ذلك لا بد أن تزول كافة أشكال الخوف والقلق والتوتر والتوجس من احتمال أن يعود يوم يمكن لطفلة أن تفيق ذات صباح فلا تجد أباها؛ وعندها يجب أن نفسر لها الأمر بكلمات لن تفهمها. من أجل هذا لا بدّ أن نقول بصوت عال: وداعا للسجون. وداعا للزنازين والسواليل والمهاجع. وداعا لشفيق ومحمد ونزيه. وداعا للسلالم والكراسي والدواليب والطميشات القذرة.  وداعا للسجون!

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى