أبحاثشهادات

وداعا سلامة كيلة -متجدد-

 

 

 

 

 

سلامة كيلة.. حضور عربي ضد الاستبداد

تلاحقت في السنوات القليلة الأخيرة إصدارات الكاتب الفلسطيني الراحل اليوم، في عمّان، سلامة كيلة (1955 – 2018). نذكر منها سلسلة “كرّاسات الماركسية” التي يعود فيها بالتحليل إلى جذور الحركات اليسارية وأدبياتها التأسيسية، وصولاً إلى مؤلفات مثل “الصراع الطبقي في سورية.. الثورة وصيرورتها”، و”الهوية والقومية والحداثة”، و”صور الجهاد”، وهي أعمال كما تبيّن عناوينها يطبّق فيها أفكاره ومنهجياته على وقائع راهنة.

إصدارات السنوات الأخيرة تُمثّل عيّنة من مجمل المدوّنة الضخمة التي تركها كيلة حيث انهمك في دراسة وتفكيك أهم القضايا التي تعبر المنطقة العربية، بوجوهها المتعدّدة، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، وقد وجد في النظرية الماركسية مرتكزاً لهذا الجهد، وهي التي تتفرّع في أصلها نحو السياسة والاقتصاد والفلسفة، وإن أشار كيلة في أكثر من مناسبة إلى مسألة انحسارها في العالم العربي عند وجهها السياسي، وخمول التجديد فيها.

كانت هذه الرؤية النقدية لليسار العربي منطلق مراجعات عدّة في النظرية الماركسية نفسها، حيث بدا صاحب كتاب “النهضة المجهضة” وقد فتح نصوصه، بين مؤلفات ومقالات ومحاضرات، على جديد الفكر النقدي والذي يعيد النظر في كل ما جرت وراثته من نظريات وأفكار من القرن العشرين، وقد يكون كتابه “الإمبريالية في مرحلتها المالية” تحييناً لمجمل متداول النقد اليساري العربي، الذي لا يزال في معظمه يتناول الإمبريالية بحسب مفهومها الأول، من ماركس إلى لينين، فيما يُظهر كيلة تحوّلاتها التي خلقت مسافة بين الكلمة وما تحيل إليه. وفي كتابات أخرى، امتدّ هذا الجهد النقدي إلى ما هو أوسع مثل كتابه “الإسلام في سياق تاريخي” و”النهضة المجهضة”.

بعيداً عن المؤلفات، كان كيلة مثقفاً عربياً متجاوزاً للحدود القُطرية، وقد تجسّد ذلك بشكل واضح في مرحلة انتفاضات وثورات 2011 وما بعدها، بحضوره في أكثر من حراك في تونس ومصر وغيرهما، إضافة إلى انشغال – واضح في الكتابات أيضاً – بما آلت إليه الثورة السورية، دون أن ننسى انشغاله الفكري بالقضية الفلسطينية وقد وضع حولها كتاباً بعنوان “المسألة الفلسطينية”.

هذا الحضور في العالم العربي، زمن الثورات، نجد أثره في مشوار حياته بشكل عام، فقد وُلد سلامة كيلة في فلسطين، بيرزيت تحديداً، ودرس العلوم السياسية في بغداد، واستقر لسنوات طويلة في سورية، وفيها عرف سجون الأسد قبل أن يُبعده عنها النظام، وكانت له إقامات متعدّدة في مصر، وحضور مكثّف في تونس ولبنان، وها هو يرحل في عمّان.

العربي الجديد

 

 

 

سلامة كيلة يودّع الحياة بعد صراع مع المرض والاستبداد

دمشق ـ «القدس العربي»: نعى كتاب فلسطينيون وسوريون ظهيرة أمس الثلاثاء، الكاتب الفلسطيني سلامة كيلة الذي وافته المنية في العاصمة الأردنية عمان، بعد صراع طويل مع مرض السرطان، وأيضا معارك طويلة خاضها ضد الاستبداد بأشكاله المختلفة.

واعتُبرت وفاة كيلة خسارة كبيرة للفكر العربي والنضال ضد الطغيان والقهر، وأيضا فقدانا لا يعوض لأولئك الذين قرروا التمسك بالأمل حتى آخر اللحظات، رغم كل ما تعيشه البلدان العربية من خذلان وانكسارات.

ولد سلامة كيلة في مدينة بيرزيت الفلسطينية عام 1955، ودرس العلوم السياسية في جامعة بغداد، حيث حصل على درجة البكالوريوس عام 1979. ومنذ سنوات شبابه الأولى برز كيلة في مجال الكتابة التي تنوعت بين المقالات الصحافية والكتب والأبحاث، التي جسدت نشاطه في المقاومة الفلسطينية وداخل التيار اليساري والعمل الماركسي الفلسطيني والعربي، وهي كتابات تسببت في وضع اسمه على لائحة المطلوبين للسلطات الإسرائيلية بتهمة «العمل المقاوم»، وأيضا في اعتقاله لمدة ثمانية أعوام (بين 1992 و2000) في سوريا، التي انتقل للحياة فيها منذ عام 1981، وذلك بتهمة «مناهضة أهداف الثورة» والمقصود فيها ثورة حزب البعث العربي الاشتراكي.

كتب كيلة في عدة مطبوعات عربية أبرزها «الوحدة» و«دراسات عربية» و«الطريق» اللبنانية و«النهج»، ونشر منذ عام 1987 أكثر من ثلاثين كتابا في السياسة والنظريات الشيوعية والاقتصاد منها: «نقد الحزب، حول الأيديولوجيا والتنظيم، العرب ومسألة الأمة، نقد الماركسية الرائجة، الماركسية واختيارات التطور، المادية والمثالية في الماركسية، مشكلات الماركسية في الوطن العربي، إشكالية الحركة القومية العربية».

وكتب في آخر مقالاته «في الموقف ضد الاستبداد»، التي طالب فيها الأحزاب السياسية والقوى المعارضة في البلدان العربية بالتوقف عن الردح، ولوم النظم الاستبدادية عما آلت إليه حال تلك البلدان وتلك القوى من مشكلات وفشل وانهيارات، وبالعمل على تلمس الأوضاع الجديدة في العالم العربي ورسم سياساتها على أساس تلك الأوضاع، وعلى أساس حاجات ومطالب الشعوب الحقيقية.

وعلى صعيد آخر، تميز سلامة كيلة بمواقفه المساندة للربيع العربي وللثورة في سوريا، التي وصفها في آخر كتبه «ثورة حقيقية.. منظور ماركسي للثورة السورية» الصادر عام 2014 بأنها ثورة ثرية وفيها من البطولات قدر ما فيها من الوحشية التي مارستها السلطة، وهي حقيقية، بمعنى أنها شهدت أقسى المواجهة من قبل الطبقة المسيطرة ضد الشعب، الذي بذل أقصى البطولة. كما استمر بالتساؤل عن الأسباب التي دفعت الشيوعيين وكافة الدول والهيئات اليسارية للوقوف ضد السوريين، الذين خرجوا إلى الشوارع منادين بالحرية والكرامة.

ورغم هذه المواقف والآراء، لم يفت كيلة أن يشير في فرص متعددة إلى الوبال الذي أصاب الثورة السورية متمثلا في الجهاديين الأصوليين ممن ساهموا في تحويل ما يحدث في سوريا إلى حرب دامية. ونتيجة هذه الآراء، اعتقل كيلة في السجون السورية مرة ثانية لمدة شهرين عام 2012، وبعد الإفراج عنه تم ترحيله بشكل إجباري إلى الأردن، الذي عاش فيه حتى مماته.

وإثر وفاته، تتابعت المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي من كتاب ومثقفــــين اختار كل منهم نعـــي هذا الكاتب البارز بطريقته، مع الإجماع على الخسارة الكبيرة والفراغ الذي سيتركه فقده في أوساط الكتابة والثقافة وأيضا النضال.

وكتب الصحافي الفلسطيني صادق أبو حامد: «غاب من حمل هم الشعوب وظل واثقا من نصرها حتى النهاية.. غاب العنيد المثابر.. رغم السجون والأمراض والهموم.. مات عراب التفاؤل التاريخي.. وداعا سلامة.. وداعا». وأيضا المحامي والناشط الحقوقي ثامر الجهماني: «وداعا سلامة كيلة المفكر الفلسطيني السوري الكبير. جمعتنا دمشق وفرقتنا المنافي»، والصحافي الفلسطيني ربيع عيد: «وفاة المفكّر الفلسطيني سلامة كيلة. خبر محزن لنا جميعا. كان من المفترض أن التقيه ولم أعرف أن الموت سيكون حاضرا هذا الأسبوع في عمّان. كان دائما يهتم بأخبار الداخل الفلسطيني ويتواصل بشكل دائم». بقي حلم كيلة حتى آخر لحظاته بأن يدفن في بلده فلسطين، لكنه حلم لا يبدو بأن تحقيقه من السهولة بمكان، رغم سعي أقربائه لدفنه في مسقط رأسه. وبعد وفاته، بقيت لنا أعماله ونشاطه ونضاله الطويل، التي لا بد أن تساهم في تعبيد الطريق أمام كل من يناضل ضد الاستبداد والطغيان بكافة أشكاله، علّهم يحققون أحلامهم يوما ما.

القدس العربي

 

 

 

 

 

وداعا سلامة كيلة

رحل المفكر الفلسطيني السوري سلامة كيلة، الثلاثاء، في العاصمة الأردنية عمان، عن عمر ناهز الـ63 عاما (1955–2018)، بعدما انهارت صحته بشكل مفاجئ.

وسلامة كيلة من مواليد مدينة بيرزيت في فلسطين سنة 1955، حصل على بكالوريوس فى العلوم السياسية من جامعة بغداد سنة 1979، وعمل فى المقاومة الفلسطينية ثم في اليسار العربي، ونشط في العمل الماركسي العربي.

درس العلوم السياسية في جامعة بغداد، ثم انتقل للعيش في سوريا عام 1981، اعتقله النظام السوري أول مرة عام 1992 لمدة ثماني سنوات بتهمة “مناهضة أهداف الثورة”.

ثم عاود النظام اعتقاله في العام 2012، وتعرض لتعذيب شديد رغم حالته الصحية المتهورة. وتم ترحيله بعد خروجه من الاعتقال خارج سوريا، باتجاه المملكة الأردنية الهاشمية، فلم يستطع العودة إلى فلسطين بسبب اعترافات عليه عام 1976 بأنه منتم إلى “حركة فتح”. ومن الأردن انتقل إلى مصر، حيث أمضى سنواته الأخيرة متنقلاً بين البلدين.

أصدر كيلة ما يقارب 30 كتابًا في السياسة والاقتصاد والنظرية الماركسية، منها “الثورة ومشكلات التنظيم”، و”نقد الماركسية الرائجة”، والإمبريالية ونهب العالم”. كما كان كاتباً غزيراً في العديد من الصحف والمجلات العربية، مثل الطريق اللبنانية والنهج ودراسات عربية والوحدة وبدايات.

رحل كيلة بعد أيام معدودة من نشر آخر مقال له في “العربي الجديد” بعنوان “في الموقف من الاستبداد”، هاجم فيه للمفارقة النخب قبل الاستبداد، ولخص فيها مشكلة الثورة والتحول في البلدان العربية.

من مؤلفات كيلة:

  1. نقد الحزب ، دار دمشق 1987
  2. الثورة ومشكلات التنظيم ( صدر بإسم سعيد المغربي ) منشورات الوعي 1986
  3. نقد التجربة التنظيمية الراهنة ( صدر بإسم سعيد المغربي ) منشورات الوعي 1988
  4. حول الأيديولوجيا والتنظيم ، دار دمشق/ دمشق 1987
  5. التراث والمستقبل، دار الصعود/ بيروت 1988
  6. العرب ومسألة الأمة، دار الفارابي/ بيروت 1989
  7. نقد الماركسية الرائجة، منشورات الوعي الجديد 1990
  8. إشكالية الحركة القومية العربية -محاولة توضيح، دار كنعان/ دمشق 1991
  9. الإمبريالية ونهب العالم ، دار التنوير العلمي/ عمان 1992
  10. مقدمة عن ملكية الأرض في الإسلام، دار المدى/ دمشق 2001
  11. فوضى الأفكار: الماركسية واختيارات التطوّر، دار الينابيع/ دمشق 2001
  12. المادية والمثالية في الماركسية-مناقشة لفكر ملتبس- دار الينابيع/ دمشق 2001
  13. الاشتراكية أو البربرية، دار بولاق/ عمان، دار الكنوز الأدبية/ بيروت 2001
  14. أطروحات من اجل ماركسية مناضلة ، دار التنوير/ دمشق ، منشورات الوعي الجديد 2002
  15. عصر الإمبراطورية الجديدة، دار التكوين/ دمشق 2003
  16. التطوّر المحتجز: الماركسية و إختيارات التطوّر الإقتصادي الإجتماعي دار الطليعة الجديدة/ دمشق 2003
  17. مشكلات الماركسية في الوطن العربي، دار التكوين/ دمشق2003
  18. العولمة الراهنة: آليات إعادة إنتاج النمط الرأسمالي، دار نينوى/ دمشق2004.
  19. الأبعاد المستقبلية: المشروع الصهيوني والمسألة الفلسطينية، دار أزمنة/ عمان2004
  20. من هيغل إلى ماركس: موضوعات حول الجدل (ج1)، دار الفارابي/ بيروت 2004
  21. إشكالية الحركة القومية العربية (طبعة موسّعة ) دار ورد/ عمان 2005

 

 

 

كراسات سلامة كيلة: راهنية الفكر وأولوية التغيير/ رشيد علي
غادرنا سلامة كيلة، المفكر الماركسي الفلسطيني السوري، المولود في بيرزيت عام 1955، والحاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة بغداد عام 1979. لطالما عرّف كيلة عن نفسه بأنه متعدد الجنسيات العربية، في محاولة لتبيان تشابك المصير العربي تبعًا للبنى الاجتماعية والاقتصادية المتشابهة إلى حد ما بين هذه الدول، إلى جانب التحديات السياسة والثقافية التي تواجهها محليًا ودوليًا.
حين منع كيلة من دخول فلسطين المحتلة على خلفية انتمائه السياسي لحركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» التي كان يشكل مع مجموعة من الشبان الجناح اليساري فيها، أقام في سوريا منذ عام 1981، لينشط هناك فيما بعد مع حزب العمل الشيوعي السوري المعارض. وبسبب نشاطه هذا، جرى اعتقاله إلى جانب عدد من رفاقه في آذار 1992 ولمدة ثمان سنوات تعرض فيها لمختلف أشكال التعذيب، ليتم الإفراج عنه في آذار 2000.
حين اندلعت الثورة السورية عام 2011، أعيد اعتقال كيلة لمدة ثلاثة اسابيع (عُذب خلالها أيضًا) في نيسان 2012 على خلفية دورية «اليساري» التي أشرف عليها بمساعدة مجموعة من الشخصيات، صدر منها أقل من خمسة أعداد، ساندت الحراك الشعبي السلمي، ووضعت قائمة من المطالب على رأسها إسقاط النظام. وفي أعقاب ذلك أبعد إلى الأردن.
في الأردن، تفرغ كيلة للإنتاج المعرفي، فنشرت له العديد من الكتب والمقالات حول سوريا، إلى جانب دراسات في القضايا الاقتصادية العربية والعالمية. كما تنقل كيلة بين العواصم العربية محاضرًا الجمهور السياسي العربي عبر المنصات الثقافية، ومتفاعلًا مع القوى السياسية والتجمعات الشبابية عبر الحلقات النقاشية والمقابلات الشخصية الإعلامية وغيرها.
كان كيلة غزير الإنتاج، فهو يمتلك عشرات الكتب ومئات الأبحاث والمقالات التي تناولت مباحث مختلفة في الفلسفة والصراع العربي – الإسرائيلي، والوضع العربي الراهن. لكن واحدًا من إسهاماته الفريدة في المنطقة العربية كان الكرّاسات الماركسية التي سعى فيها إلى تقديم النظرية الماركسية لجمهور محلي واسع. فقد ظل مؤمنًا براهنية النظرية الماركسية لما تقدمه من حلول لتغيير الوضع القائم في البلدان العربية تحديدًا، من خلال أدواتها التحليلية الشمولية وما ينبثق عنها من آليات عملية على أرض الواقع.
انطلاقًا من هذا الإيمان، كان كيلة من الشخصيات المثقفة القليلة التي أخذت على عاتقها إحياء فكرة الكرّاسات النظرية التي راجت في عقود سابقة. فقد لعبت فكرة الكرّاسات الصادرة في القرن الماضي دورًا كبيرًا في عملية نشر الفكر اليساري في العالم العربي، ومثلت بالنسبة للأحزاب الشيوعية العربية، إلى جانب المنشورات التعريفية والدوريات (صحف ومجلات)، الطريق المناسب لبناء الكادر والتواصل مع قاعدتها الجماهيرية حينها، في ظل الأحكام العرفية والملاحقات الأمنية. لكن مثل هذه المنشورات تراجعت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، سواء من حيث الإصدارات أو من حيث الجودة، ودخول الكثير من الأحزاب عمومًا واليسارية خصوصًا أزمة تثقيف حتى في النظرية التي تدعي الانتماء إليها.
في هذا السياق، تبرز أهمية إحياء كيلة لفكرة الكراسات، من خلال إشرافه على نشر ثلاثة عشر كرّاسا في الماركسية، صدرت الطبعة الأولى منها في الفترة الممتدة بين عامي 2007 – 2011.
شملت كراسات كيلة إعادة نشر لكراس «رأس المال والعمل المأجور» لكارل ماركس، وكراسين للينين هما: «كارل ماركس» الذي نشر تحت عنوان «الماركسية: عرض مختصر»، ورسالة لينين للاشتراكيين الديمقراطيين في سانت بطرسبرغ في مطلع القرن العشرين التي جاءت تحت عنوان «رسالة إلى رفيق: حول مهماتنا التنظيمية»، وكراس لماو تسي تونغ هو «في الممارسة العملية: في العلاقة بين المعرفة والممارسة العملية»، وكراسين للمفكر الماركسي الأردني هشام غصيب هما: «الديموقراطية من منظور ماركسي»، و«فلسفة ماركس». لتتبقى سبعة كراسات كتبها كيلة نفسه. وقد جرى ترتيب الكراسات في سلسلة تضمن للقارئ فهمًا متسقًا للأعمدة الأساسية للنظرية الماركسية، وتفاعلها مع الواقع، والواقع العربي تحديدًا.
تناولت كراسات مثل «الماركسية: عرض مختصر» و«رأس المال والعمل المأجور» و«الجدل والتصور المادي للتاريخ» ركائز أساسية في النظرية الماركسية، بدءًا من المادية الجدلية ومقولتها بأن وعي الإنسان نتاج واقعه الذي تشكل البنية الاقتصادية الاجتماعية المحدد الأساسي له، مرورًا بمفهوم الصراع الطبقي الذي تنبني على أساسه الاختلافات الأيديولوجية، وصولًا إلى الجانب الاقتصادي من النظرية الماركسية ونظرية القيمة التي تفسر ربح الرأسمالي بوصفه فائض القيمة الذي ينتجه العمال.
«إن جوهر الماركسية هو الجدل، وإنها –بما أنها جدل- تفرض إعادة إنتاج ذاتها بشكل مستمر، وهي هنا إعادة إنتاج مستمرة للصيرورة الواقعية». هذا الاقتباس الوارد في كراس «الجدل والتصور المادي للتاريخ»، ذكر في معرض حديث كيلة عن دور ماركس وإنجلز في نقد جدل هيغل، ونقله من صورته المثالية المنطلقة من الوعي إلى الواقع المادي والصيرورة الواقعية. فالماركسية من حيث أنها منهج تحليلي جدلي، تمتلك سياقها التطوري (الثوري) من خلال الواقع المادي المتغير باستمرار، وهذا ما يجعل الماركسية متجاوزة لنفسها كنظرية في خضم السيل المعرفي الإنساني الهائل، باعتبارها متسقة مع الواقع العلمي المادي بحسب تعبير كيلة.
التناول النقدي للنظرية الماركسية (وهذا ما تتطلبه هذه النظرية بالأساس)، يظهر في جميع كراسات كيلة، إلا أنه يتركز في كرّاس «بصدد الماركسية»، الذي وجه فيه نقد حادًا إلى أشكال الجمود التي أصابت الماركسية، أو بحسب تعبيره «أسقطت وألصقت بالمنهج والنظرية الماركسيتين».
والملفت أن الكراس يعتبر أن المحاولات التي دفعت باتجاه تخليص الماركسية من جوهرها الثوري هي المرحلة الأولى من سلسلة الجمود هذه، كمحاولة الديمقراطي الاجتماعي الألماني إدوارد برنشتاين (1850 – 1932) لتأسيس ما سمي بـ«الاشتراكية التدريجية»، وهو ما نادى به كاوتسكي وآخرون من منظري الأممية الثانية. فالماركسية ليست إصلاحية لتهادن الأنظمة البروجوازية من أجل دفع هذه الأخيرة لتقديم بعض التنازلات للطبقة العاملة والطبقات المعدمة. بل إنها تسعى إلى تغيير النظام السياسي برمته عبر انقلاب ثوري لتأمين حياة كريمة للجميع ولضمان التطور في مختلف أصعدة الحياة العامة.
كما يأتي كيلة على ذكر الفترة التي اعتلى فيها ستالين الأمانة العامة للحزب الشيوعي السوفييتي وما سادها من تكرار اصطلاحي للمفاهيم النظرية دون تناولها تناولًا نقديًا بما يتناسب مع الظروف الاجتماعية الاقتصادية والتاريخية المعنية بكل مجتمع، وهذا ما يسميه كيلة «التبسيط المخّل الذي انتشر باسم الماركسية».
وتجدر الإشارة هنا إلى أن كيلة تعثر برأيي في وصفه غالبية الإنتاج المعرفي السوفييتي بالجمود النظري. فالعدد الهائل من المؤلفات السوفييتية التي بحثت في الكثير من الظواهر الاجتماعية-الاقتصادية، ناهيك عن الطبيعية، لا يمكن وضعها في سلة واحدة، ويتطلب تقييمها دراسة حثيثة. إضافة لذلك، فإن ظرف الحرب الباردة ووجود جانب دعائي في عدد غير قليل من هذه المؤلفات، لكن احتواء المؤلَّف على جانب دعائي لا يُسحب منه بالضرورة التحليل الماركسي الرصين.
بعد مناقشة موضوعة الجمود، ينتقل كيلة إلى توصيف حال المنطقة العربية، مشددًا على ضرورة تكييف الفكر الماركسي مع المتطلبات الواقعية للمجتمعات العربية ذات التركيب الاقتصادي الهجين، الصناعي-الزراعي، وهو ما يؤثر على شكل البناء الطبقي. يرد كيلة ذلك أولًا للاستعمار الذي سطا على العملية الإنتاجية برمتها في آواخر وجود الدولة العثمانية وبعد اندثارها، بعدما كانت مستعبدة ماليًا للغرب أصلًا. فقد جرى تشويه الريف من خلال التركيز على إنتاج سلع معينة دون سلع أخرى، وتهجير كوادره إلى المدن واستيعابها في المؤسسات الأمنية وغيرها من المؤسسات البيروقراطية غير الإنتاجية التي تشرف عليها أنظمة سياسية محلية تابعة للاستعمار. هذا إلى جانب طفرة النفط في دول الخليج وأثرها السلبي على شكل القوى العاملة ووزنها في البلدان العربية.
يستمر كرّاس «طريق الانتفاضة: لماذا تثور الطبقات الشعبية؟» في شرح الوضع الاجتماعي-الاقتصادي العربي، من حيث أن الأنظمة السياسية التي خلّفها الاستعمار سعت وتسعى إلى تكييف السوق الداخلية بما يتناسب مع متطلبات السوق الرأسمالية العالمية وما يسودها من تبادل غير متكافئ لصالح الدول الرأسمالية المتقدمة. يعود ذلك على المجتمعات العربية وغيرها الكثير من بلدان العالم الثالث بالحرمان من انتهاج مسار تطور اقتصادي-إنتاجي خاص بها، ناهيك عن قمع الأصوات المطالبة بالانعتاق من التبعية السياسية والاقتصادية، وتوفير وضع معيشي ملائم للطبقة العاملة والفلاحين وصغار الكسبة من الفئات الاجتماعية ذات الدخل المحدود.
أما الأنظمة السياسية العربية التي اختارت مسارًا اقتصاديًا مخالفًا للتطور الاقتصادي الرأسمالي بعد انسحاب الاستعمار من المنطقة، وانتهجت التخطيط المركزي للاقتصاد المطعّم بكثير من الأفكار والرؤى الاشتراكية، فقد أدى بها الأمر إلى تطبيق سياسات تقدمية بالفعل على أرض الواقع، مثل ازدهار الصناعات التحويلية واتساع القدرة للوصول للسلعة في شكلها النهائي وتقديمها للمستهلك، وتوزيع الأراضي على الفلاحين، وتوفير بيئة تبادلية تضمن حماية السوق المحلية من توغل المنتج الأجنبي. ينطبق هذا على دول مثل مصر، وسوريا، والعراق، والجزائر، إلا أن فئات طفيلية سيطرت على القطاع العام في هذه الدول، ونهبته وطوعته لمصالحها الطبقية الضيقة. هذه المرحلة التي بدأت مع مطلع السبعينيات من القرن الماضي هي، بحسب كيلة، مرحلة «السيطرة المافيوية» على القطاع العام.
يشير كيلة إلى أن هذه النظم أخذت طابع «التمنّع» في علاقتها مع الغرب، ليس لأنها تعبر عن حالة مبدئية من الانحياز للطبقة العاملة أو للاشتراكية، بل لتحصيل شروط تسوية «أفضل» تضمن مصالحها وتوسيع نفوذها الاقتصادي، وذلك بانتهاج اقتصاد الصدمة عبر خصخصة مؤسسات الدولة والانفتاح الاقتصادي تحت حجج التحديث والتنافسية، وهذا ما حصل في مصر بعد تسلم السادات منصب رئاسة الجمهورية، وهو نفسه ما حدث في سوريا مع نهاية القرن.
إن وجهة نظر كيلة هذه هي أساس موقفه المعارض للنظام السوري قبل وبعد 2011، وهي أيضًا التي يستند عليها في مجابهة «اليساريين» وغيرهم من المساندين للنظام وقيادته.
فكيلة يجيب على السؤال «لماذا تثور الطبقات الشعبية؟» بأن الثورة هي النتيجة الطبيعية للفقر والتجويع ونقص الخدمات والقمع السياسي، وتوفير الحد الأدنى من كل شيء (أجور، صحة وتعليم، بنى تحتية، رفاهية… إلخ) أي توفير الحد الأدنى من الحياة من أجل الإبقاء على عملية إعادة انتاج رأس المال المتحرك (قوة العمل). كل هذا سيؤدي في نهاية المطاف إلى الانتفاضة والثورة على أساس طبقي. هذه هي حركة التاريخ، وهذه هي الصيرورة الواقعية.
درس كيلة أوضاع البلدان التي شهدت مجتمعاتها انتفاض الطبقات المعدمة في الثمانينيات (تونس – كانون الأول 1984، المغرب – كانون الأول 1984، السودان – نيسان 1985، مصر – 1986، الأردن – نيسان 1989)، ليتبين له ازدياد الوضع المعيشي سوءًا في تلك الفترات، وانحدار جميع المؤشرات الاقتصادية (عجز الموازين التجارية، عجز الميزانيات العامة، انخفاض سعر صرف العملات المحلية، وارتفاع نسب التضخم…).
تُظهر هذه التحليلات إيمان كيلة بتكرار الانتفاضات الشعبية، ليس بهدف تحقيق مطالبها من قبل سلطة سياسية تسيطر عليها طبقيًا برجوازياتٌ مرتهنةٌ للأجنبي، بل بهدف إقامة سلطة تعبّر عن مصالح الطبقات الشعبية. يظهر هذا جليًا في آخر فقرة من مقدمة كرّاسه «طريق الانتفاضة»، التي يقول فيها: «لا شك من أنني أهدف من إصدار هذا الكراس إلى التأكيد بأن الانتفاضة باتت أداة أساسية لتحقيق التغيير. إنها طريق التغيير في كل النظم الكومبرادورية، وهي ممكنة، بل يمكن أن أقول حتمية».
وفي الكراسين، «في الممارسة» و«المهمات الديمقراطية والمهمات الاشتراكية»، يجري الحديث عن دور القوى التقدمية والثورية في المجتمعات لقيادة التغيير، وضرورة التحام هذه القوى مع الطبقة العاملة والفئات المنخرطة معها، ونشر الوعي في صفوفها من خلال دراسة ماركسية لهذه المجتمعات بالطبع.
ويرسم كيلة شكل العلاقة بين هذه القوى والسلطة على أساس أن تكون الأولى هي الند والنقيض للثانية، لا أن تحاول القوى والأحزاب الشيوعية أن تقنع السلطة بالتنازل للطبقة العاملة بل في أن تنظم صفوفها بطريقة تتمكن من خلالها من مجابهة هذه السلطة التي لن تتردد في استخدام العنف في حال جرى تهديد مصالحها.
حذر كيلة من النزوع إلى الخيار الإصلاحي، الذي نرى نتائجه عيانيًا من ضعف هذه الأحزاب وعدم فاعليتها وتبعثر قاعدتها الجماهيرية التي كان مصيرها التخلف والرجعية الدينية والجريمة. فالتنظيم بحسبه هو جانب مفصلي لقيادة التغيير وحمل مطامح الفئات الشعبية والتعبير عنها وتحقيقها، ودون التنظيم المتمسك بالنظرية الماركسية أداةً للتحليل، ستتعلم الجماهير من أخطائها عبر جولات وصولات من الحراك الاجتماعي؛ دون التنظيم لا أحد يعرف المدة التي سيستغرقها هذا المخاض.
ختامًا، تبرز كراسات سلامة كيلة كمرشد للكادر الحزبي وللدارس أو لمن يود الاطلاع على الفكر الماركسي وعلى تطبيقات هذا الفكر عربيًا، وتتضمن إشارة واضحة وجلية لراهنية هذا الفكر باعتباره الأداة المثلى للرد على الحجم الهائل من التعبئة الأيدولوجية المستمرة من النظم السياسية الرأسمالية لتبرير مسلكياتها الاجتماعية المجحفة والمجرمة في كثير من الأحيان في وجه الجماهير الشعبية. لكن هذه الراهنية تفقد معناها التطبيقي دون صياغة أدوات عمل تحصن الجماهير في نضالها في سبيل تأمين مصالحها.
حبر

 

 

 

سلامة كيلة… يساري ضد اليسارL وديع عواودة
عند منتصف ظهيرة الثلاثاء الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 2018، غيّب الموت أحد أبرز الكتاب العرب. إنه سلامة كيلة، المناضل الفلسطيني الذي أمضى سنوات حياته الثلاث والستين في مقارعة الاستبداد في كافة أشكاله وصنوفه، ليس فقط في فلسطين وإنما في العديد من الدول العربية.
وإثر إعلان نبأ رحيله بعد صراع طويل مع مرض السرطان، تتالت بيانات ومنشورات التعازي بوفاته، من أدباء وكتاب ومفكرين فلسطينيين وعرب، وكان على رأسها نعي وزارة الثقافة الفلسطينية الذي جاء فيه: «برحيل كيلة فقدت فلسطين إحدى قاماتها الفكرية، وفقدت الثقافة العربية واحداً من أبرز المنظرين على أكثر من مستوى، هو الذي ولد في بيرزيت عام 1955، وأبعد عنها بسبب نشاطاته ضد الاحتلال الإسرائيلي، كما أن له تجربة في النضال السياسي داخل صفوف المقاومة الفلسطينية. كيلة كان مناضلاً سياسياً له وزنه، ومفكراً على قدر عالٍ من الأهمية. كان واحداً من أبرز المنظرين العرب في السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا والتاريخ والفكر، لاسيما ما يتعلق بالماركسية واليسار وتحولاته، والحركة القومية والواقع العربي والرأسمالية والحركات الإسلاموية وغيرها».
إذن، رحل سلامة كيلة، وسيغيب إلى الأبد ذلك الوجه الذي نال من قسماته المرض وحفر عميقاً في تجاعيده، بدون أن يسمح لرحلة العذاب في السجون والمنافي بأن توهن عزيمة نضاله ضد الظلم والطغيان، وأكبر شاهد على ذلك العشرات من مؤلفاته التي لم تقتصر عند نمط أو موضوع معين، أو حتى وسيلة نشر ورقية كانت أم إلكترونية، ولم تتوقف رغم سنوات السجن والملاحقة والاضطرار للتنقل من بلد إلى آخر هرباً من الاستبداد والقمع.
«أنا مواطن عربي. مواطن في هذا الوطن من المحيط إلى الخليج. أنا مواطن سوري، فلسطيني، مصري، أردني.. بالتالي أنا معني بتغيير هذه النظم، التي لا يمكن أن تتحرر فلسطين بوجودها. فلسطين لن تتخلص من الاحتلال إلا بتغيير مجمل النظم العربية. من أجل تحرير فلسطين نريد إسقاط هذه الأنظمة»، كانت كلمات كيلة في واحدة من مقابلاته العام الفائت، التي تبرز التصاقه وروابطه الوثيقة بالقضية الفلسطينية على وجه الخصوص، والقضايا العربية بشكل عام، وأيضاً الهموم الإنسانية بشكلها ومداها الأوسع.
وقد عبر مثقفون فلسطينيون وسوريون عن أساهم بسماع نبأ رحيل المثقف المناضل سلامة كيلة في عمان بعد صراع مع المرض عن عمر ناهز الـ 63 عاما وقالوا لـ «القدس العربي» إن مورثه الزاخر ربما يقدم بعض العزاء. واعتبر الأديب يحيى يخلف رحيل المفكر الفلسطيني سلامة كيلو خبرا صادما. واستذكر يحيى يخلف بعض سيرة ومسيرة الراحل بالقول إنه مفكر فلسطيني وناشط سياسي في تيارات اليسار العربي والنضال الفلسطيني. غادر الأراضي الفلسطينية إلى عمان في السبعينيات ومنعته السلطات الإسرائيلية من العودة بسبب نشاطه السياسي. وأصدر كيلة ما يقارب 30 كتاباً في السياسة والاقتصاد والنظرية الماركسية بينها «مشكلات الماركسية في الوطن العربي» و«الإمبريالية ونهب العالم». وقال الأمين العام الاسبق لحزب التجمع الوطني الديمقراطي داخل أراضي 48 عوض عبد الفتاح إن صداقة شخصية ربطته بالراحل سلامة وإنه لا يصدق ان قلبه الكبير الذي اتسع لهموم كل الناس لم يستطع ان يحمله وتوقف عن النبض. وتابع عبد الفتاح «احاول ان لا اصدق انني لن التقيك بعد الان ولن امضي اليك وانا احمل شغفي واسابق نفسي للوصول اليك، اعذرني لاني مصاب برهبة غيابك الطارئ الى اللا عودة وتعز علي الكلمات في مقامك المهيب هذا». كما قال إن منذ الآن يغالب نفسه المرهقة بوزر موت سلامة الموجع ويتذكر حين التقاه للمرة الاولى في عمان امام مكتبة الشروق وكان بطلته البهية يعاتبه بلطف على تخلفه عن موعد سابق قد الغاه. ويضيف «ما لا تعرفه يا سلامة ولن تعرفه اني الغيت اول موعد لاني شعرت بجزع من لقاء مفكر بقامتك الممشوقه وحين التقينا وذهبنا الى بيتك وتحدثنا ساعات طويله كنت اتحسس بنظري تفاصيل بيتك العادية واقول من هنا تخرج النبوءة للعالم، وبعدها التقينا عدة مرات وتحدثنا طويلا وتواصلنا كثيرا، اخ يا صديقي الذي اثقل قلبي الحزن على رحيله المباغت: رايتك منصوبه والذهب ميزانك». وقال المحاضر في جامعة حيفا البروفيسور أسعد غان إن نبأ رحيل سلامة قد أصابه بصدمة معتبرا أن بعض العزاء يكمن في موروثه الغني وفي ذخيرته الفكرية الكبيرة للأجيال. ومضى يقول «عاش حرا، متمسكا ببوصلة اخلاقية، ومات وقوفا كالأشجار. المجد للأحرار. ورحمة الله عليه».

سنوات النضال والتنظير الفكري

عُرف عن كيلة، ومنذ سنوات شبابه الأولى ومن ثم تخرجه في كلية العلوم السياسية في جامعة بغداد عام 1979، نشاطه الفكري ومؤلفاته في مجال السياسة والاقتصاد والنظريات اليسارية والماركسية، وأيضاً مناهضته للاحتلال الإسرائيلي ونشاطه في المقاومة الفلسطينية واليسار العربي. عاش كيلة في فلسطين حتى خروجه إلى العراق للدراسة، وحينها شارك في الثورة الفلسطينية، وكان منتمياً لحركة فتح. حين حاول العودة إلى فلسطين أثناء سنوات الدراسة، لم يتمكن من ذلك، إذ كان قد اسمه قد أدرج ضمن قوائم المطلوبين للسلطات الإسرائيلية نتيجة انتمائه للحركة. وبذلك أنهى دراسته وقرر الانتقال للحياة في دمشق منذ عام 1981، وتابع منها نضاله وأعماله.
من أهم المحاور الفكرية لأعمال سلامة كيلة في تلك الفترة نقد تجارب الأنظمة العربية بشكل عام، التي يعتقد بأنها استطاعت تقديم بعض الإنجازات داخل بلدانها وعلى الصعيد المحلي، أدت لسنوات من الاستقرار، وعدم بروز حالات من العداء بين الشعوب وأنظمتها الحاكمة، حيث اقتصرت معاداة السلطات الحاكمة على النخب فقط. لكن تلك الأنظمة، وعلى التوازي، حاولت الهيمنة على المجتمع والتأسيس لعقود من السيطرة وأيضاً لنهب مجتمعي دفع لتحول معظم المجتمعات العربية إلى مجتمعات فقيرة وعلى حافة الانفجار، وهو ما حصل فعلاً منذ نهاية عام 2010.
من المحاور الأخرى في فكر وأعمال سلامة كيلة التنظير لتجربة اليسار العربي، وأيضاً نقدها. وصل هذا النقد حد مطالبة كيلة الأحزاب الشيوعية العربية عام 2010 بدفن تجاربها السابقة وبناء تجارب جديدة، مرجعاً دورها المتواضع في الحياة السياسية العربية إلى نبذها مبدأ التغيير وإحلال استراتيجية الحفاظ على البقاء محله، وافتقادها للشجاعة الضرورية لكي تكون قائدة للتغيير في بلدانها.
مواقف أدت خلال فترة حياته في دمشق إلى اعتقاله عام 1992 وإصدار حكم عليه بالسجن ثماني سنوات بتهمة مناهضة أهداف ثورة حزب البعث العربي الاشتراكي والعمل مع أحد الأحزاب الشيوعية. ورغم ذلك خرج كيلة من السجن وتابع أعماله وكتاباته من العاصمة السورية.

بعد الربيع العربي

منذ انطلاق الربيع العربي وحتى اللحظات الأخيرة، وقف سلامة كيلة إلى جانب ثورات الشعوب التي نادت بالحرية والكرامة، وسعت لإسقاط أنظمتها المستبدة، وأشار في أكثر من مناسبة لأحقية هذه الثورات، التي اندلعت لأسباب عديدة منها، الفوارق الطبقية الهائلة التي باتت تسود المجتمعات العربية، والانهيارات المتتالية التي أصابت المناطق الريفية، وظهور طبقات من رجال الأعمال المتحكمين في اقتصاد تلك البلاد مقارنة مع أغلبية ساحقة تعيش بأدنى الأجور وأقل مقومات الحياة. هي جميعها كانت بالنسبة لكيلة مؤشرات لا خلاف عليها على دخول البلدان العربية عصر الثورات. وجاء ارتباطه بثورات الربيع العربي بشكل عام والثورة في سوريا بشكل خاص نتيجة إيمانه بأن فلسطين لا يمكن أن تتحرر إلا بتغيير مجمل الأنظمة العربية، وعلى رأسها النظام السوري، الذي ساهم بآلته العسكرية في تدمير العديد من المخيمات الفلسطينية في سوريا، وأكبرها مخيم اليرموك في العاصمة دمشق وكذلك مخيمات درعا واللاذقية وحمص وهو ما شكل في رأي كيلة «خدمة لإسرائيل». ونتيجة هذا الإيمان رفع كيلة منذ الأشهر الأولى للثورة في سوريا شعار «من أجل تحرير فلسطين من الكيان الصهيوني نريد إسقاط النظام».
واستمر انتقاد كيلة لليسار العربي بعد عام 2011 وازدادت حدته، حيث رأى أن هذا اليسار بات بمثابة «التراجيديا التي تسكن العالم»، وهي تراجيديا مركبة المستويات، فاليسار الذي يدافع عن التحرر وعن الإنسان، الذي هو بتعبير ماركس «أثمن رأس مال»، يقف داعماً لسلطة النظام السوري التي تمارس كماً كبيراً من الأعمال الوحشية، حيث يتخيل هذا اليسار أنه بذلك يدافع عن انتهاكات حقوق الإنسان ويحارب الإمبريالية، وهو بذلك يجعل من شعار «معاداة الإمبريالية» غطاء سميكاً، يحول دون رؤية حال سلطة تعيد إنتاج التخلف وتمارس مختلف أنواع القتل والتدمير ضد الشعب السوري، وليس ضد قوى الإمبريالية أو قوى الاحتلال.
مواقفه الداعمة للثورات العربية والمناهضة لنظام الحكم في سوريا ورفعه لهذا الشعار تسببت في اعتقاله مرة ثانية في دمشق عام 2012، ومن ثم إجباره على مغادرة سوريا بشكل نهائي، فتوجه منها إلى الأردن وقضى سنواته الأخيرة متنقلاً بين الأردن ومصر. وقد وصف كيلة رحيله عن دمشق في واحدة من المقابلات بأنه «خسارة كبيرة لا تقدر بثمن»، لكنه أصرّ رغم هذه الخسارة على الاستمرار في الصراع «سعياً لتغيير الأوضاع وللوصول إلى وطن مختلف هو الوطن الذي نحلم به».

شهادات حية

«القدس العربي» تحدثت إلى عدد من أصدقاء المفكر الراحل، فكانت لهم شهادات تبرز مكانته الكبيرة في العالم العربي، والخسارة الفادحة التي سيشكلها غيابه.
وائل السواح وهو رئيس تحرير موقع The Syrian Observer وصف كيلة بأنه «مناضل ومفكر فلسطيني سوري من النوع العنيد، وكان من القلة الذين ربطوا الفكر بالنضال». وأشار إلى أن كيلة كان يعطي الأولوية للسياسة في كل مناحي حياته، ويبدي على الدوام تفاعلاً حياً مع المضطهدين مهما كانت انتماءاتهم. وأضاف: «لم يفتّ السجن ولا الملاحقة من عضده، ورغم مرضه كان قوياً وعنيداً ومتفائلاً كعادته. حين التقيته قبل نحو سنة في إسطنبول كان يشدّ من عزيمتي أكثر مما كنت أشد من عزيمته».
وكشخص عرفه عن قرب، تحدث عمر سوركلي الذي التقى سلامة كيلة في سوريا عام 2011 واصفاً إياه بالأب الحقيقي الذي كان يمضي الساعات في نقاش الشباب السوريين المنخرطين في الحراك، وذلك من خلال جلسات فكرية وثقافية وسياسية اعتادوا عقدها قبل اعتقال كيلة عام 2011. واستمرت معرفة سوركلي بكيلة حتى بعد الخروج من سوريا، حيث استقر الشاب في مصر وتتالت اللقاءات في منزل كيلة هناك، والذي كان منزلاً متواضعاً مليئاً بالكتب، حيث كان يستقبل عشرات الشباب السوريين، وأيضاً المصريين للحديث حول مختلف القضايا الراهنة. «لم يكن يتدخل بآرائنا لكنه كان ينصحنا ويناقشنا على الدوام. كان بمثابة الأب الروحي لنا بروحه الشابة التي تحملتنا وتعلمنا منها الكثير».
الكاتب والصحافي السوري فرحان مطر تحدث عن جوهر شخصية سلامة كيلة، التي تعرف إليها عن كثب خلال لقاءات متتالية في الأعوام الفائتة، فوصفه بأنه «إنسان غاية في البساطة والتواضع والذوق الجم في تعامله مع الآخرين، لا يمكن لأحد أن يلمس لديه غرور بعض المثقفين الذين يظنون أنهم يملكون أسرار الكون. يتمتع بقدرة مدهشة على الإصغاء بدون مقاطعة لمن يحدثه، وعندما يأخذ دوره بالرد فقد كان صاحب قدرة على إيصال أفكاره بلغة شديدة الوضوح وبمنتهى البساطة بعد إعادة القضايا إلى أساسياتها المعرفية التي لا بد من ذكرها، وبدون الحاجة إلى استعراض عضلاته المعرفية».
أما على الصعيد الفكري، يقول مطر بأن كيلة «هو الكاتب والباحث العميق المعرفة والاطلاع، والماركسي الأصيل بدون جمود، الذي يعنى بتشريح الواقع بناء على خصوصيته وليس نقلاً عن عالم الكتب الافتراضي، وقد ظل أميناً لهذا الفكر حتى آخر لحظة في حياته. وفي الوقت ذاته هو الشجاع الذي لا يخشى أي عواقب محتملة لمواقفه. كان كيلة يحب بصدق ويضحك من القلب كطفل. هو من الحالات التي لا تتكرر كل يوم».

 

 

ذوو وأصدقاء المفكر الراحل سلامة كيلة يستذكرون مناقبه/ رولا عثمان
“عاشت فلسطين في قلبه دائماً، على الرغم من أنه كان يعتبر نفسه عربيّاً يحمل هموم الوطن العربي كله”.
تحدثت الأخت الصغرى لسلامة كيلة، ماري، عن رغبته الشديدة في زيارة منزل والديه في قرية “بير زيت” بفلسطين أخيراً، وأنها قامت بتجهيز المنزل بعد تلقيه دعوة لحضور معرض الكتاب في مدينة رام الله، إلا أنه لم يتمكن من ذلك بسبب رفض الاحتلال إعطاءه تصريح الدخول، مبينةً أنها لم تكن المرّة الأولى.
رحل الكاتب الفلسطيني سلامة كيلة في الثاني من هذا الشهر بمدينة عمّان دون أن يتمكن من زيارة قريته بفلسطين، أو أن يعود لمنزله في دمشق الذي عاش فيه لسنوات طويلة قبل اعتقاله من قبل النظام السوري وإبعاده عنه قسراً.
وعن مرضه في الفترة الأخيرة، بيّن صديقه فادي عميره، أنه من الأشخاص الذين قاوموا السرطان بقوّة جعلته يتغلب على المرض ثلاث مرّات سابقاً، ويضيف فادي: ” لم يدع نفسه يظهر كعجوز متهالك يوماً، بل كان شاباً مثلنا تماماً، تجاهل المرض ولم يعره اهتماماً وكان كل ما يعنيه في أن يبقي على صحته هو الحفاظ على تركيزه من أجل القراءة والكتابة”.
كما وصفه فادي بأنه من أكثر الأشخاص تفاؤلاً بالتغيير وثباتاً على النضال بالرغم من صعوبته وطول طريقه، ويرى أن سلامة ترك خلفه جيلاً مقاوماً وواعياً من الشباب الذين تأثروا بفكره.
وعن أحلام سلامة وأمنياته، تحدّث صديقه الروائي السوري خيري الذهبي “الحق أني لم أعرف لهذا الرجل أمنيات خاصة، لكنه دائماً ما تمنى أن يعيش إلى اليوم الذي يرى فيه فلسطين وقد تحررت، والوحدة العربية وقد تحققت، وأن تعمّ العدالة في المنطقة، وأن يعود للفقير الحق في أن يكون سعيداً”.

 

 

 

سلامة كيلة.. الماركسي النبيل/ معن البياري
تُصيبك خيبةٌ عظيمةٌ إذا أردتَ البحثَ بين المثقفين الماركسيين العرب، والذين يعتنقون الاشتراكية خيارا فكريا، على من انحازوا للثورات العربية التي نشبت في العام 2011، ولم يروْها مؤامرةً، ومن انتصروا لقيم الثورة السورية، وأنصفوها، واصطفّوا مع ناسِها وشهدائها، ونشطوا في تعرية جرائم حرب الإبادة التي ردّ بها النظام في دمشق على هتافات الثائرين بالحرية والانعتاق من الجوْر والفساد والاستبداد. ستُبادر فورا إلى إشهار اسم سلامة كيلة، ثم تتعب وقتا غير قليل، وأنت تفتّشُ عن أسماء مثقفين عربٍ آخرين من هذا السّمت النادر. وهذه مواقع التواصل الاجتماعي ضجّت، منذ رحيل هذا الماركسي النبيل، بحسب واحدةٍ من شمائله، ظهيرة أول من أمس الثلاثاء، بتعبيرات الأسى وفداحة الخسران على غيابه، أزجاها قراؤه قبل أصدقائه ومعارفه، إلا أنّ كتّابا وناشطين ماركسيين، وشيوعيين، من أهل اليسار العربي إيّاه، ضنّوا على الرجل بكلمة ودّ، ولو أمام جلال الموت، ما يعني نقصان الأخلاق لدى هؤلاء، وما يعني أيضا أنها شاسعةٌ مقاديرُ التباعد التي جعلت اليساري المحترم، والراديكالي حقا، في ضفّةٍ غير التي يقيم فيها هؤلاء، في ضفّة الدفاعِ عن الاستبداد، والتعميةِ على جرائم التمويت، والإزورار عن آلام الشعب السوري، والمطمئنّين لأوهامهم إيّاها عن الإرهاب، والإسلاميين، والثابتين على السذاجة الفلكلورية عن مؤامرة الربيع العربي، وما يُشابه هذه الأزعومة من رطاناتٍ، كان مفزِعا أن تردّدها أسماءٌ كانت لامعةً في إنتاجاتها وحضورها، وتنتصر لقوى الاستبداد والنظم العسكرية.
كانت مدهشةً في الكاتب الفلسطيني، السوري الروح، الأردني الموطن، العراقي المزاج، المصري الهوى، مواظبته على اشتراكيّته الجذرية، إلى الحدّ الذي جعلنا، بعض أصدقائه، نرميه بماركسيةٍ أرثوذكسية، من دون حقٍّ ربما، بل إنه انخرط في تأليف كتبٍ (كرّاساتٍ) في النظرية الماركسية (اللينينية)، صدورا عن قناعته بأن الأحزاب اليسارية العربية جاهلةٌ تماما بها، وأضرّت بها وبأهدافها. نشط بهمّةٍ، تبعث على إعجابٍ كثير، في إيضاح مضامين العدالة الاجتماعية مقرونةً بالحرية ومناهضة الاستبداد، باعتبار ذلك كله (وغيره) من القيم التي ينهض بها اليسار، وفي الطليعة منه اليسار ذو النزوع الاشتراكي، بل وذو المنطلقات الماركسية، متحرّرا من كل المقولات الكلاسيكية الرائجة عن تناقض الديمقراطية مع الماركسية. وفيما لم يوفّر جهدا في كشف السوْءات الثقيلة للإمبريالية الأميركية، فإنه أنفق جهدا موازيا في التأشير إلى “الإمبريالية الروسية” الراهنة، بتعبيره، في غير مقالةٍ وكتاب، ومنها كتابه “ثورة حقيقية.. منظور ماركسي للثورة السورية” (دار نون، راس الخيمة، 2014)، وفي مقدّمته أن روسيا أصبحت إمبريالية، وتتعامل مع العالم من منظور إمبريالي.
ومن مظاهر إعجابٍ كثيرة يستحقّها الصديق الراحل أنه، في إحدى زوايا النظر إلى نشاطه الخاص، بدا كأنه يزاول الكتابة بوصفها مهمّةً كفاحيةً، يؤدّيها عن قناعةٍ بمنظور وطني وخيار سياسي وانحياز فكري، وهذا ما يفسّر غزارة إنتاجه (نحو 30 كتابا)، في قضايا السياسة والفكر معا، على أرضيةٍ ماركسيةٍ لم يتخفّف منها يوما، يدلّ عليها عنوانا كتابيه “عودة إلى ماركس.. من أجل تخطّي الماركسيات الرائجة” (2017)، وقبله “فوضى الأفكار.. الماركسية وخيارات التطور” (2001)، وغيرهما. ولم يعمل سلامة في أي مهنةٍ أخرى، فكانت الكتابة في الصحافة، وإنجاز المؤلفات، مورد عيشِه، من دون أي تنازلٍ لاستحقاقاتٍ قد يتطلّبها هذا المنبر أو ذاك، ومن دون اعتبارٍ لحساباتٍ سوق النشر. وفي الأثناء، ظل ناشطا ميدانيا في تكتلاتٍ وتجمّعاتٍ ثقافيةٍ وفكريةٍ وميدانيةٍ (بعد تجربةٍ حزبيةٍ عتيقة)، فلسطينية وسورية. وأقام على تواصلٍ مستمرٍّ مع شبابٍ كثيرين، أردنيين وفلسطينيين وسوريين و…، من حساسيّاتٍ متنوعة.
لا يُغْفَل عن أن الكاتب الراحل احتمل عذاب المرض الثقيل سنواتٍ، والذي كان من أسبابه التعذيبُ القاسي في سجون الأسد الأب والإبن، (وهو الأردني الجنسية الفلسطيني الأرومة)، إبّان إقامته سنواتٍ في دمشق. واحتمل ظروفا صعبة، وعيشا متقشّفا، فبدا أشبهَ بالنسّاك والزاهدين، فيما لم تفتُر عزيمتُه، مثقفا صاحب موقفٍ معلنٍ ضد كل تسلطٍ واستبدادٍ وإرهابٍ وفسادٍ وإفساد. وبذلك كله وغيره، تشتمل تجربة سلامة كيلة، إنسانا وكاتبا ومناضلا، على معانٍ غزيرة.
العربي الجديد

 

 

رحل سلامة كيله.. وشحّت عقولنا النقدية/ هشام أصلان
في زمن قريب، كان يمكن لعدد السنوات التي قضاها سلامة كيله، مسجونًا سياسيًا، أن يصدمني. المفكر اليساري، الفلسطيني السوري، ليس وحده الذي تعرّض لذلك، هذا مؤكد، غير أني لا أتصوره حدث لكثيرين ممن نعرفهم في الأجيال السابقة. ثماني سنوات، من 1992 إلى 2000، ليس رقمًا هينًا. غير أننا نعيش زمناً، باتت فيه أرقام كهذه قريبة من الانتشار بين مساجين الرأي السياسي.
هذه السنوات الكثيرة كانت اعتقاله الأول، تنقّل خلالها داخل سجون سورية عُرفت عن بعضها وفرة القسوة. خرج منها يقاوم السرطان، واستطاع الانتصار عليه انتصارًا مؤقتًا، قبل أن يعاوده مرة أخرى بشراسة، متزامنًا مع سجن سوري جديد في العام 2012، ومستوى من التعذيب لعل أبلغ تعبير عنها، صور نشرها أصدقاؤه في “فايسبوك” لأنحاء جسده الستيني الذي شوهته جروح وعلامات غائرة.
بصراحة، ورغم ملامحه المميزة، كثيرًا ما رأيت سلامة كيله في شوارع وسط القاهرة ومقاهيه، من دون أن أربط بين الشكل والاسم. لذا، فوجئت بصوره الفوتوغرافية، عندما انتشرت بكثافة وخلال دقائق، مصحوبة بخبر الرحيل، أينما ذهبت العين داخل الموقع الأزرق. غير أن الدهشة الأكبر، كانت بسبب مساحة القُرب الشخصي التي وجدتها في منشورات عدد كبير من أصدقاء شباب، تفصلهم عن الراحل سنوات كثيرة في العمر.
في اتصال هاتفي مع الصديق والكاتب المصري وائل جمال، وهو أحد القريبين من الراحل، أرجَع هذه العلاقة اللافتة، بين كيله وشباب العمل العام، إلى كونه كان ودودًا متواضعًا. وفهمت كيف أن هذه الصداقات تكونت نتيجة سعي متبادل. ذلك أن الرجل، وعلى قيمته الفكرية والسياسية الكبيرة، لم يكن فقط يستجيب لالتفافهم حوله، بل كان بدوره يسعى إلى الشباب بإيمان كبير في أن هؤلاء الأصغر عمرًا يملكون المعلومة الحقيقية والإلهام.
عاش كيله ومات يساريًا، تأطرت قناعاته وأفكاره بغلاف يوحي بالمرونة، بينما يدعو داخله إلى راديكالية في التعامل مع ما فسد فوق طاولة اليسار: “لا بد من الفرز، فرز مُدَّعي اليسار عن اليسار الحقيقي. هذا ما يجب أن يكون مهمة اليوم. يكفي تجاهلاً، أو طبطبة، أو تداخلاً، أو علاقة… منذ سنوات كتبت: علينا أن ندفن موتانا، وأتت الثورات في البلاد العربية لتضع حجر الشاهد على قبر هذا اليسار الذي ما زال يمسك بتلابيب الحي. لهذا لا بدّ من القطع معه لكي يرقد بسلام… لا بدّ من الفرز بلا تردد، ولا تأخير، وبجرأة شديدة”.
وبينما كان اندلاع الثورة السورية، تحديدًا وكما عبَّر كتابة، مفصلاً أساسياً لتوضيح وجهة نظره حول الموقف من الحركات اليسارية وآراء بعضها، فقد كان موقفه بالتوازي من الثورة نفسها خلافيًا. فهو من ناحية يقف، قلبًا وقالبًا، في قلب المعارضة الحادة لنظام الأسد، لكنه من ناحية أخرى لا يتعاطف مع التطور الذي آلت إليه المعارضة بعدما ابتعدت عن القاعدة الجماهيرية، بالأحرى الشعبية، وتحولت إلى طرف في معركة براغماتية بالأساس بين قوتين ليست بينهما القوة الشعبية. ربما هو نفسه المعنى الذي صاغته الشاعرة السورية المقيمة في القاهرة، رشا عمران، في سطر بسيط: “كان الأكثر جذرية في موقفه المؤيد للثورات العربية ضد الطغاة، وضد الإسلام السياسي الراديكالي في الوقت نفسه”.
خرج كيله من سجنه، العام 2012، غير مسموح له بالإقامة في الأراضي السورية، واستقر في القاهرة سنوات أثار فيها الدهشة بقدرته على غزارة إنتاج لم يعطلها المرض والآثار الصعبة للتعذيب داخل السجن، لم يعطلها حتى كونه مثقفاً عضوياً يوفر وقتًا وجهدًا للمشاركة في ما يحدث خارج الغرف المغلقة وبعيدًا من المكاتب. ظل هكذا حتى شحّت الفعاليات، خوفًا من تبعات أمنية لا قبل لنا بها، إلى أن اضطر للذهاب، مؤخرًا، إلى عمّان للعلاج حيث تتوافر له إمكانية التأمين الصحي، قبل أن يريح رأسه مرة أخيرة في أحد مراكز علاج الأورام في العاصمة الأردنية، بينما تقول تقارير صحافية إن أسرته تسعى إلى إعادة جثمانه إلى فلسطين لدفنه في مدينة بيرزيت مسقط رأسه.
برحيل سلامة كيله قد تكتمل صورة سيئة كوّنتها السنوات الماضية، حينما تجلى غياب العقل النقدي في استجابة لإغلاق المجال العام على المستويات كافة، إلى جانب تجريف غير مسبوق للساحة الفكرية من الكفاءات داخل نخبة صارت بالونية.
واليوم، لأربع ساعات تبدأ في الخامسة مساءً، يتلقى أصدقاء سلامة كيله وحبوه، العزاء فيه، في أحد المساجد البسيطة في شارع صبري أبوعلم، الذي شهدت أرصفته، بتعبير الناشر محمد هاشم، بداية المواجهات “وتلقي الحصة الوطنية من غاز الداخلية يوم جمعة الغضب”.
المدن

 

 

 

من ملامح سلامة كيلة/ محمد ديبو
ثلاثةٌ من بين ملامح كثيرة اتصف بها الراحل سلامة كيلة قد تختزل (وفي كل اختزال ظلم، خصوصا لمن هم مثل سلامة) سيرة الرجل الذي تجادل وتلاحم في شخصه العام والخاص، حتى بالكاد تقدر على الفصل بينهما، فالصداقة الشخصية مع سلامة لا تنفصل عن الهم العام، فهي امتدادٌ له، حتى لتحار وأنت تتأمل الأمر بعد رحيله: أيهما كان الأسبق في الصداقة، العلاقة الإنسانية أم الفكرية؟ وعلى الرغم من أن الجواب البديهي هو الإنسانية، فإن التأمل أعمق، يثير أسئلةً كثيرةً عن علاقة الفكر مع الواقع والإنسان المنتج للمعرفة، أليس ما أنتجه من فكر ومعرفة كان طريقك إليه، وأليس شخصه ولطفه وطفولته ورقّته التي تماهت مع فكره هي من تجعلك تمتنّ لتلك الصداقة؟
أول تلك الملامح أن سلامة، بفكره وحياته، كان أبرز من يمثّل التجلي الأخير لأرفع أنواع المثقف. كون أنّ المفاهيم كائنات حيّة، تنمو وتتطور وتتغيّر، وقد تنكص وتموت، وتتخذ أشكالا متعدّدة، فإن مفهوم المثقف واحد من تلك المفاهيم الذي لا يزال يطرح أسئلة كثيرة على الفكر، ويثير إشكالات كثيرة حول معناه وتعريفه ووظيفته ودوره، وهو مفهومٌ تغيّر معناه وتعريفه وتطوّر مذ ولد في تربة الثقافة العربية. وقد كانت الثورات العربية امتحانا حقيقيا لمعنى ومفهوم المثقف من جهة، وللمثقف نفسه من جهة، وللمشتغلين في الحقل الثقافي من جهة ثالثة، إذ ارتدّ “مثقفون” كثيرون عن المعنى الحقيقي لهذا المفهوم، فيما ارتقى فيه آخرون نحو آفاقٍ جديدة.
وبينما كان مثقفون ومفكرون عديدون يصيغون وعيا وفهما جديدا للمثقف على ضوء الثورات
“سلامة يساري متمسّك بفكره ويساريته في زمن تراجع وهج اليسار”
العربية، كان سلامة يبتكر هذا المعنى، ويصوغه ويوسعه ويفتح أمداءه على أرض الواقع، لا في النظرية أو الكتابة فحسب، فهو المثقف الذي لم يتردد لحظةً في الانضمام للمظاهرات، ولم يتوقف عن تشكيل التكتلات الثورية والسياسية ذات الطابع اليساري، منتقلا من المظاهرة إلى بيتٍ تعقد فيه جلسة سرية عن تنظيم سياسي جديد، ليتابع بعدها إلى لقاء نشطاء شباب في بيتٍ ثالثٍ، ثم يعود إلى منزله ليكتب مقاله أو دراساته التي تكثفت بعد الثورة، ثم يُعتقل ويعذّب، ثم يُعاقب بالنفي، وهي العقوبة التي اعتبرها الأقسى. وهكذا كان سلامة كيلة التجسيد الحيّ للمعنى الجديد للمثقف، المعنى المعجون بوجع الناس وآمالهم بالحرية والعيش الكريم والطالع من رائحة الشوارع التي أثخنها الاستبداد، وهي تتوق للتخلص منه.
كان هذا المعنى الجديد الذي كرّسته حياة سلامة كيلة، من جهة أخرى، إدانةً لـ”مثقفين” آخرين، كان ينتظر منهم أدوارا أخرى، لكنهم اتخذوا طرقا أخرى، مغايرةً لما سبق أن تحدّثوا عنه، ولما كان يتوقع منهم، وهكذا كان سلامة المثال الذي يبيّن ضحالة هؤلاء، وتهافت مواقفهم، لأن سيرته ونضاله وسنوات سجنه ويساريته الراديكالية كانت تكفي لتبيان الفارق بين مثقف و”مثقف”.
ثاني تلك الملامح أنّ سلامة فلسطيني بقدر ما هو سوري، وسوري بقدر ما هو فلسطيني، إذ كان الهمّان السوري والفلسطيني حاضريْن بقوة بارزة في مؤلفاته وحياته، لا فصل هنا بين معركة الحرية والتحرير، ولا أولوية لواحدةٍ على الأخرى، فالمعركتان متزامنتان. وهنا أيضا تحول سلامة إلى “إدانةٍ” لفيلق الممانعة وكتّابه ومرتزقته الذين يجدون أن طريق القدس يمر من دمشق وغيرها، فكان المقاوم الحقيقي والممانع الحقيقي في وجه ممانعةٍ مزيفةٍ، كما كان المثقف الحقيقي في وجه مثقف كاذب مخادع.
ثالث هذه الملامح أن سلامة يساري متمسّك بفكره ويساريته في زمن تراجع وهج اليسار، وتحوله إلى “مسبّة” بعد نكوص عديد من تيارات اليسار، عربيا وعالميا، جرّاء مواقفهم المخزية واللاأخلاقية من الثورات العربية، فكان مثالا ليسارٍ مغاير، يسار سعى وعمل على إنتاجه وولادته (تنظيرا وكتابة وممارسة)، أملا في أن يحمل وعدا وأملا للناس. وهنا لا يستقيم الحديث عن اليسار، من دون التعريج على تأكيد سلامة على أهمية المسألة الاجتماعية والاقتصادية في الثورة، وفي عملية التغيير، فأي تغيير سياسي يبقى ناقصا ما لم يقترن بحصول الشعب على العيش الكريم والمساواة والعدالة الاجتماعية والتعليم الجيد والطبابة. ولهذا كان يرى أن الثورات لم تنته بعد، فطالما أن مطالب الجماهير الشعبية لم تتحقق هنا، فإن الحرية وحدها لا تكفي.
هكذا إذن، في ملامحه الثلاثة التي لا تختزل إليها فحسب، كان سلامة قامة فكرية ونضالية تسمو وتسمو، وكلّما سمت عاليا، ظهر الفارق الكبير بينه وبين المرتدّين والتائبين والملتحقين بالسلطات والاستبداد والمبرّرين لجرائمهم والخائفين من الثورات والمتعربشين على قضية فلسطين واليسار، وغيرهم.
العربي الجديد

 

 

كما لو أنه سوري/ رشا عمران
أكثر ما كان يلفتني في شخصيته قدرتُه على التسامح، واستعادة التواصل مع من سبّب له الأذى، أو قاطعه لخلافٍ في الرأي السياسي. كان هؤلاء يتجنّبون السلام عليه ومقابلته، إذا ما صادفوه في مكانٍ ما، فكان يذهب بنفسه إليهم، ويلقي عليهم التحية، وكأن الخلاف الذي حدث صار في طي النسيان، أو كأنه لم يحدُث إطلاقاً، قال لي مرة ردا على سؤالي له عن هذا الأمر: “ليس أن الخلاف لا يفسد للود قضية فقط، بل إن لم نختلف مع الآخرين حول أفكارٍ كثيرة، خصوصا بعد الثورات العربية، فهذا يعني أن رغبتنا بالتغيير ليست جذرية، مجرد ادّعاء أو موجة نركبها”..
هذه الروح الفاعلة والمنفعلة لدى سلامة كيلة جعلت منه أحد القلّة الذين ظلوا محافظين على تفاؤلهم بحدوث تغييرٍ عميق في بلادنا، وبانتصار أهداف الثورات العربية، على الرغم من كل ما حدث ويحدث من كوارث في بلاد الثورات، كان سلامة يرى، بحسّه الماركسي العميق، أن الشعوب لا تموت أبدا، ومتى بدأت بالحركة نحو التغيير ستستمر مهما مر عليها من زمن، ومهما طاولَها من الأذيّة، ومهما بلغت ارتكاساتُها من الخطورة والتّشعب.
من يعرف سلامة كيلة، أو يتابع ما يكتبه في الصحافة العربية، أو قرأ بعض كتبه التي تجاوزت الثلاثين، سينتبه إلى أنه من فلسطينيين قلة، جعلت منهم عدالة القضية الفلسطينية، وما لاقته من هزائم ونكسات ونكبات وخيبات، يطلبون العدالة لجميع الشعوب المسحوقة. لم يُصب سلامة بشوفينيةٍ قُطريةٍ أو قوميةٍ يوما، ولا بمظلوميةٍ فلسطينية، أصابت غالبية القوميين العرب، والفلسطينين منهم خصوصا. كان مؤمنا بأن قضية فلسطين لن تحلّ طالما هناك أنظمة استبدادية تحكم بلاد العرب. كان مؤمنا بأن وجود إسرائيل مرتبط عضويا بوجود هذه الأنظمة، وأن البوصلة الحقيقية هي بتغيير كامل المنظومة السياسية العربية، بشقّيها، العسكري الأمني والإجتماعي الديني، فبالنسبة له، على عكس كثير من اليسار العربي الحالي، كان يؤمن بأن ما يقال عن تخلف الشعوب العربية، الذي يقف عائقا أمام إنجاز تغيير حقيقي، سبُبه أنظمة الاستبداد، وأن الحل هو ثوراتٌ سلميةٌ شعبيةٌ تطاول عمق هذه الأنظمة، وهو ما جعله مختلفا عن غالبية اليسار العربي الذي تم اختباره في السنوات الثماني الأخيرة، ولا سيما بما يخصّ الثورة السورية، وهي تعرّي جميع الإيديولوجيات من أوراق التوت الواهية التي كانت تغطّيها.
تعرّفت إلى سلامة، بشكل شخصي، في دمشق قبل سنوات طويلة، في قهوة الروضة. التقينا في السنة الأولى للثورة كثيرا، حين كنّا في دمشق جميعا، كنت أدهش دائما من طاقته المذهلة على التفكير بصوابيةٍ عالية، وعلى الحديث والنقاش، على الرغم من مرضه الطويل. لم أسمعه يوما يتاجر بسنين اعتقاله الثماني في معتقلات النظام السوري، وكأن الاعتقال الطويل مصير طبيعي لمن هو مثله. وبعد ترحيله من سورية عقب اعتقاله في أثناء الثورة، استقرّ في عمّان ثم القاهرة، حيث اخترت أن أعيش أنا أيضا. سألته يوما لماذا لا يعيش في عمّان، فجنسيته أردنية، قال لي: القاهرة أكثر حيوية على الصعيد العام، وتتناسب مع دخلي القليل.. كانت لي الأسباب نفسها لوجودي في القاهرة، غير أنه كان أكثر حريةً منا جميعا، نحن أصدقاءه السوريين والمصريين والعرب، بالحركة من مصر وإليها، إذ يمنحه جواز سفره الأردني هذه الحرية، لكن هذا الجواز لم يمنع عنه يوما أن يُعتقل في سورية، ويعذّب في المعتقلات كأي سوريٍّ معارض، ولم يتح له الحصول على تصريح إسرائيلي لزيارة مسقط رأسه ( بير زيت) في فلسطين التي طالما تحدّث عنها بغصّة الحرمان الطويل، قبل أن تُضاف دمشق إلى لائحة الغصّات المتلاحقة.
رحل سلامة كيلة قبل أيام في عمّان، حيث كان يقيم في منزله هناك، وفي رحلة علاج، تاركا بيته في القاهرة في منطقة المنيرة، كما هو، بكتبه وأدويته وملابسه وأوراقه، وبطبخة المجدرة الشهيرة التي كان يطهوها لأصدقائه الذين يتوافدون إليه، باحثين عن مساحةٍ من التفاؤل في وسط هذا الظلام، قليلون جدا من كانوا يملكونها، كما يملكها ويوزعها علينا نحن أصدقاءه، كلما شعر بيأسنا وفقداننا أي أمل ممكن.. في آخر مكالمة بيني وبينه قبل أسبوع من رحيله، قال لي “سنعود قريبا إلى دمشق، بعد معرض الكتاب في القاهرة، ربما نعود، نحن والأصدقاء القادمون من دمشق، (خليكي متفائلة)”!
لا أعرف إن كانت روحه الآن تحلق بشفافيةٍ تشبهه بين بير زيت ودمشق، لكنني متأكّدةٌ أن مكابرته على وجع الحنين عجّلت برحيله. سلامٌ لك، يا سلامة، وسلامٌ عليك.
العربي الجديد

 

 

 

 

سلامة كيلة الذي انتصر للفكر والثورات/ عمار ديوب
عرفته لمّا خرج من معتقله الأول عام 2000، وظلَّ الأمر كذلك إلى أن طُرد من سورية بعد اعتقاله الثاني 2012 ثلاثة أسابيع. بعد المنفى الإجباري، تراجع التواصل، وهي حالة أغلبية الناس، وهذا أسوأ ما حدث لأهل الداخل والخارج. سلامة كان كثير المشاريع، وبالتأكيد ترك مسوّدات كثيرة لم تنشر بعد، ومتخصّصة بشؤون اليسار السوري والفلسطيني والعربي ومنذ نشأتها، وكثيراً ما تجده منشغلاً بكتابة نصوص نقدية، تعالج مشكلات ذلك اليسار، لعلَّ وعسى أن يصبح يساراً! اليسار الذي أرهقه وكَفَّرَه، وبالنهاية شيطنه وجعله مُلحقاً بدولة قطر وبالمفكر عزمي بشارة بالتحديد؛ والخفّة هنا لا حدود لها.
بدأ منذ الثمانينيات مشروعه النقدي؛ فلم يكن عضواً في حزب، بل باحثاً في كيفية النهوض باليسار العربي، وتأسيس مشروع ماركسي عربي، يجمع بين الماركسية والقومية، في إطار نهج ماركسي عربي بدأه رئيف خوري، ولم ينته بإلياس مرقص وياسين الحافظ، وعشرات الباحثين والمفكرين الماركسيين العرب. لم تكن قضية فلسطين وحدها الهدف، بل النهوض بالعالم العربي بأكمله، وباعتبار فلسطين محتلة، فإن تحريرها يقع على هذا العالم. ومن هنا، لم يتوقف عن التنظير للتغيير العربي، بقصد الانتقال الديمقراطي، ولصالح الطبقيات الشعبية، ومن أجل تحرير فلسطين، وتشكيل الدولة الفلسطينية الواحدة، ورفضَ التمرحل وحل الدولتين وأوسلو، وكل مشروع السلطة على جزءٍ من أراضي 1967.
لم يقترب سلامة من الجبهات اليسارية الفلسطينية (الشعبية والديموقراطية والحزب الشيوعي)،
وكانت تتهمه بأنّه سوري. وهذا كان مصدر فخر لديه، فقضية بحجم فلسطين لا يمكن لمنظمات كتلك أن تتصدى لها؛ كان يجب أن تحلّ نفسها بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان 1982، وكذلك بعد “أوسلو”، حيث أصبحت عبئا على قضية فلسطين واستعادتها. كما لم يكن من أنصار هذه الجبهات، وكذلك لم يكن من أنصار القوى اليسارية السورية الملتزمة بالجبهة الوطنية التقدّمية. كان موقع سلامة في سورية في إطار استنهاض اليسار السوري، بكل تنويعاته، ولم ينخرط بأيٍّ من تشكيلاته (المكتب السياسي، أو حزب العمل، وسواها). وقد سُجن، وهو يحاول إيجاد صلاتٍ بين قوى ذلك اليسار المتحاربة، وكذلك كان يسعى إلى تشكيل “تنظيمه اليساري السوري”. نقدية سلامة هي ما تميز مؤلفاته وتفكيره، وما أحدث مشكلة حقيقية معه هي قوميته بالتحديد، وهي التي ظلّت أقرب إلى التهمة له من اليسار “السوفيتي” أكثر مما هي صفة تميّز مؤلفاته وتحليلاته.
سلامة الذي وثِقَ بالطبقات الشعبية لاستنهاض عالمنا العربي، حيث لا مشروع للطبقات البرجوازية التابعة، رأى أن اليسار “القومي” وحده القادر على القيام بذلك الدور. شكّلت قوة الأحزاب الشيوعية، في السبعينيات وقبلها وبعدها وحتى التسعينيات، سبباً وفرصةً، ليحاول التغيير من خلالها. ولهذا كانت كتبه الأولى لمواجهة المشكلة التنظيمية، والتخلص من عقلية القرون الوسطى التي كانت تدار بها تلك الأحزاب، ولتشكيل كتلةٍ ثوريةٍ واعيةٍ بشروط مجتمعها، وقادرة على إنجاح ثورة اشتراكية، كما حال الصين وفيتنام وروسيا وسواها؛ فكتب في الشأن التنظيمي”نقد الحزب” و”الثورة ومشكلات التنظيم، وكذلك “نقد التجربة التنظيمية الراهنة”، وكتب كثيراً عن “الماركسية والعرب”. وحينما اعتقل، عاد إلى الشغل على موضوع المنهج بشكل خاص، فأنتج كتابين ضخمين، “من هيغل إلى ماركس” و”التفسير المادي للتاريخ”، فقد كان يعمل على مواجهة الانتقال اليساري إلى الليبرالية الواسعة حينها. ولاحقاً، وبعد الإفراج عنه، تابع في الشأن المنهجي، وخَطّ عشرات الكراسات والكتب عن المنهج الماركسي. وعدا ذلك كتب مناهضاً العولمة “العولمة الراهنة”، وكان أحد مؤسّسي منظمة “ناشطو مناهضة العولمة في سورية”.
وعمل سلامة كيلة على إعادة قراءة “التراث والمستقبل” و”مقدمة عن مشكلة الأرض في الإسلام”، وأنتج عشرات الكتب عن مشكلات الماركسية والاشتراكية واليسار العربي. وبعد الثورات، لم يتأخر في الانضمام إليها، وكان من مؤسسي تنظيم “ائتلاف اليسار السوري”. وللحق هو من القائلين إن ثورات عربية قادمة قبل 2011، ومقالاته الأسبوعية في “العربي الجديد” ومنابر أخرى، تؤكد أن الثورات لن تتوقف؛ فهي حدثت لأسبابٍ تتعلق بتعميم سياسات الليبرالية الجديدة، وظهور كتلة ضخمة من المُفقرين، وبسبب فشل مشاريع التنمية، وكذلك بسبب طبيعة الأنظمة العربية الاستبدادية، فهي برأيه أنظمة نهب وفساد، وفي إطار علاقة تبعيةٍ لمصلحة الرأسمالية العالمية. إذاً، لن تتوقف الثورات العربية في العقود التالية، وأسباب تفجّرها قائمة، وستنفجر.
حَلّل الثورات العربية بعد 2011، وأنتج مؤلفات لتفكيك مشكلاتها، وكيفية تطويرها، “ثورة حقيقية: منظور ماركسي للثورة السورية” و”ثورة مصر، الصراع الطبقي المفتوح” و”وضع الثورات العربية ومصيرها” و” مصائر الشمولية – سورية في صيرورة الثورة”. وكانت مقالاته في الصحافة منذ 2011، وحتى يوم رحيله في 2 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، منشغلة بكليتها بقضية الثورات، وبتعقيدات الوضع الفلسطيني.
يعدّ راحلنا من أشدَّ المدافعين عن الماركسية، لكونها منهجية فكرية ونظرية، تسمح بفهم العالم والثورات، وقد جادل طويلاً قبل الثورة وبعدها في طبيعة المجتمعات العربية، ومشكلات سورية. كانت رؤيته للثورة السورية وسواها أنها شعبية، وهي نتائج الإفقار المنظم والناتج عن سياسات الليبرالية والخصخصة، لكنه لم يتجاهل قضية الأقليات الدينية والقومية والطائفة العلوية، لكن نقاشها لا ينطلق من رؤية قروسطية، تقول إن مجتمعاتنا لم تتبلور برجوازيا وطبقياً، وأنّها ما زالت طوائف ومناطق وأديانا وإثنيات، وهو رأي يقوله ليبراليون وطائفيون سوريون كثر. وهناك من صنّف الثورة سنيّة والنظام علويا وحامي الأقليات؛ لكن سلامة ظل يرفض منطق التطييف “القروسطي هذا” ويرفض القائلين من “العلمانيين” بأنها ليست ثورة، ويرفض القول إنها ثورة طائفة. فكل تطورات الصراع لاحقاً في سورية، وتحول الثورة إلى “مجزرة” بمصطلح سلامة، كان بهدفٍ وحيد، هو إغلاق الأفق الذي فتحته الثورات العربية نحو تغيير الأنظمة. إذاً لا ينكر كل التغييرات بعد الثورات، وصعود الاسلام السياسي والسلفية والجهادية وحدوث إشكالية طائفية كبرى في سورية، لكن ذلك تطوّر من حالة إلى حالة، عبر سنوات الثورة والحرب والتدخل الإقليمي والدولي. ويرفض سلامة هنا الانغلاق على رؤية “طوائف وأديان وإثنيات”، كما يحلّل تيار في المعارضة السورية، وهو ما يتلاقى مع رؤية النظام الأيديولوجية للثورة، ومن أجل تشويهها وتخريبها، بينما هو يوظف كل الممكنات السورية والإقليمية والعالمية المتحالفة معه من أجل إنقاذ نفسه، ولو احتُلَّت سورية، وهو ما حدث.
رفض سلامة كيلة كل رؤية تتضمن تصالحاً مع الأنظمة المعادية للثورات، وبرأيه ومهما تراجعت الثورات وهزمت، فإنّها ستتجدّد؛ فالأنظمة لن تتخلى عن برامج هيكلة الاقتصاد الليبرالية، وهي وصفة صندوق النقد الدولي، ومن أجل نهب المجتمعات العربية.
فراغٌ كبيرٌ حدثَ، قال عنه باحثون وأصدقاء كثر؛ المستقبل وحده من سيحسم كيفية الاستفادة من إرث هذا الباحث الذي عاش ناقداً، ومات وقد أغنى المكتبة العربية بنحو ثلاثين مؤلفاً.
العربي الجديد

 

 

 

 

سلامة كيلة حيال الطغيان واليسار العربي الكسيح/ موسى برهومة
لم يكتف سلامة كيلة، وهو يلوّح للحياة، بأن يعرّي المرضَ الذي نهش جسده، وأنظمةَ الاستبداد والخوف التي صادرت حريته، بل عرّى أيضاً اليسار العربيّ والأحزاب الماركسية التي ألقت بمـــظلومية البروليتاريا في سلة المهملات، وقدّمت الولاء والطاعة للهمجية في أقصى ذراها توحشاً.
وفي عهدين يتجليان كحلقتين متتابعتين في سلسلة، سُجن كيلة في عهد حافظ الأسد (1992 – 2000)، بذريعة معاداة «الثورة»، ثم عاود «الأسد» بشار سجنه عام 2012، محافظاً على تقاليد الأب والدولة السورية التي تحوّلت إلى سجن كبير لا يقوى فيه إلا مَن كان مثل سلامة كيلة أن يقول «لا»، متحدياً السجّان، ومنتصراً للمثقف الثوري الحقيقي الذي يعجن القولَ بالممارسة.
ولولا أنه شارف على الموت في زمن بشار الأسد، لما أفرج عنه، ولما أبعدته السلطة الغاشمة من سورية، كما أبعدته من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي من بلده فلسطين التي أحبّ أن يدفن فيها.
بإرادته الفولاذية وجسده النحيل، قدّم سلامة كيلة نموذجاً للمثقف الماركسي الذي يلتحم بما يؤمن به، فلا يجيد التكتيك في القضايا المصيــــرية المتـــــصـــــلة بالحرية والعدالة والحق. لذا، كان عليه، حتى يواصل اتساقه مع ذاته، أن يصمد في أشد الظروف اللاإنسانية، وفي أكثر الأحوال مهانة، كأن يُجبر على شرب بوله، كما قال كيلة لكاتب هذه السطور، من دون أن يرتجف لسانه وهو يبوح بهذا الألم البشع، ليقينه بأنّ هزيمة القيد، والتطلع إلى شمس الكرامة، يستحقان هذا العناء.
لم يكن الراحل سلامة كيلة منظّراً رومانسياً يقرأ الحياة من شرفة أناه المتغطرسة، كما تفعل غالبية المثقفين، بل مضى يشتبك مع الواقع ويعاينه ويحدّق في تفاصيله ويستلهم منه أفكاره ويطوّرها. بهذه الممارسة النزيهة، انحاز صاحب «أطروحات من أجل ماركسية مناضلة» للثورة السورية، ودافع عن مشروع البشر في الانعتاق وتقرير مصيرهم وتنسّم هواء الحرية، والخلاص من الحكم الاستبدادي الذي خنق ببوليسيّته سورية، وحطّم شموخها.
ولو لم يفعل سلامة كيلة ذلك، ولو لم يمارس النقد والنقد الذاتي الذي حوّلته الأحزاب الماركسية إلى نكتة سمجة، لما استطاع أن يطوّر النظر إلى الماركسية، ويعمل، سواء وفّق في ذلك أم لا، على «المــــؤاخاة» بين الماركســـية والـــقومــية، بالتالي يتحرّر من السلفية الأيديولوجية التي جعلت الأفكار الثورية أيقونات حجرية لا تتأثر بالظروف والمستجدات وعوامل التعرية.
تقدّمَ سلامة كيلة كمثقف «ماركسي يساري قومي» لا يساوم على الحرية، فيما تراجع سواه من قادة وأعضاء الكهنوت الماركسي الذين هاجـــموه وهو مســـجى وقبل أن يوارى الثرى، لأنهـــم رأوا فيه متآمراً ضد «الدولة الــسورية» ومتحالفاً ومستفيداً من دول البترودولار، مع أنّ الذين يعرفون الرجل جيداً، يدركون أنه عاش فقيراً ومات كذلك، لكنّ أكثر «الرفاق» الماركسيين لا يعلمون!
في حــياته ومـــماته جــسّد سلامة كيلة روح المقاومة الحقيقية وكافح المرض والاستبداد والاحتلال بسائر صوره سواء كان إسرائيلياً أم استبدادياً طائفياً سورياً، فكان درساً عميقاً للمثقفين العرب، وملهماً لمن تبقى من اليسار النظيف. لهذا، يكتسب رحيله ميزة استثنائية لكونه يتعدى فكرة الموت الذي يطوي صفحة صاحبه، هو انبثاق لحياة متجدّدة تُعدّد روافد الأمل، وتدشّن الدروب أمام مقاومة عنيدة لا تساوم ولا تصالح ولا تفاوض على قضية الإنسان وعذاباته وأشواقه.
الحياة

 

 

 

سلامة كيلة الذي فكّر وعاش ضدّ منطق الهزيمة/ محمود منير
في السابع من حزيران/ يونيو 1967، فتح سلامة كيلة (1955 – 2018) عينيه على دبابات الاحتلال الصهيوني تقتحم ما تبقى من فلسطين. كانت تلك لحظة مؤسّسة في وعي ابن بلدة بيرزيت والذي لم يتمّ عامه الثاني عشر بعد، لتأخذه أسئلته الأولى عن معنى الهزيمة وأسبابها إلى كتابة الشعر.
قرّر صاحب “التراث والمستقبل”، الذي يشيع جثمانه اليوم في عمّان، حينها أن يكون شاعراً، دوّن في دفاتره قصائد عن حبيبة متخيّلة ووطن جريح يعود إليها كلّما أصيب بانكسار أو خيبة جديدة وبقيت ملازمة له حتى منتصف الثمانينيات يضيف إليها مقطعاً ويحذف آخر، قبل أن يخبئها ويمضي إلى حيث اختار طريقه ونصّه ومعنى وجوده.
وجد نفسه منجذباً للأدب وهو لا يزال على مقاعد الدراسة مشكّلاً قراءاته الأولى، كما أسرّ في أحاديث جمعتنا قبل رحيله بأشهر، مسكوناً بهوى قومي فلم يكن قد تعرّف إلى الماركسية بعد، وستظلّ تجربة جمال عبد الناصر تشغله بالنقد والمراجعة، معترضاً أن تمثّل ثنائية الاستبداد/ الديمقراطية معياراً أساسياً لتحديد الموقف منها، إنما جملة التغيّرات في البنى الاجتماعية والاقتصادية التي قادت إلى فشل النموذج الناصري.
بين فلسطين والعراق التي انتقل إليها عام 1973 ليلتحق بـ”جامعة بغداد”، سيمرّ على عمّان في زيارات متكرّرة إلى عمّه الذي كان يعمل في التجارة، لا يتذكّر منها سوى كومة الجرائد التي كان يحضرها العم إلى مكتبه فيأتي عليها الفتى يقلّب الأخبار والتحليلات حيث الجميع ينتظرون حرباً تردّ الكرامة والأرض السليبة، ولديه حلم أكيد أنه سينشر مقالاته على صفحاتها ذات يوم.
وصل بغداد في الخريف، ويخوض هناك تجربة العمل السياسي في أحد تشكيلات “فتح” التي تأسّست على يد مجموعة من الماركسيين المدفوعين نحو إنشاء حزب شيوعي عربي. ستكون تلك المرحلة الأغنى في حياته بالنقاشات والقراءات، ما جعله يحمل إيمانه بهذا المشروع أينما حلّ وارتحل غير مكترث بتلك الحدود الوهمية بين البلدان العربية وشعوبها.
في ذلك الخريف أيضاً، عبر الجيش المصري خط بارليف لتنتهي الحرب إلى مآلات ما زلنا ندفع اليوم أثمانها، كانت تلك محطّة مفصلية في حياة سلامة كيلة الذي لم تأخذه الحماسة إلى توقّع انتصار لا تؤشر عليه الوقائع والمعطيات، ليذهب أبعد في تتبع ورصد التحوّلات التي أصابت مجتمعاتنا مع خروج المستعمر والوهم الذي أصاب النخب في أن تقود البرجوازية الوطنية التحرّرَ الوطني، في ظلّ عجز الأحزاب التي تمثّل الطبقات العاملة عن القيام بمهامها في هذا السياق، ما مهّد لاستلام الجيش الحكم في أكثر من بلد عربي، وفق طروحاته التي تضمّنتها كتبه لاحقاً.
بحلول عام 1980، سيضطر صاحب “إشكالية الحركة القومية العربية – محاولة توضيح” إلى مغادرة العراق متوجّهاً إلى سورية، والتي دخلها في فترة سادتها الاضطرابات بين البلدين الجارين وأغلقت الحدود بينهما وانهارت أحلام الوحدة التي لم يجف حبر الاتفاق حولها الذي وقّعاه بعد.
ستبدأ في تلك الفترة مراجعاته الجذرية لتجربته الحزبية، وإخفاقات التنظيمات الماركسية العربية بنسختها “السوفييتية” وسيصدر تسعة مؤلّفات قبل أن تعتقله السلطات السورية لثماني سنوات سيخرج بعدها متمسكاً أكثر من ذي قبل بقناعاته وآرائه التي تعبّر عن مثقف عضوي لا يجد مكاناً له في سوق المساومات والمعارضات الموسمية.
انحاز سلامة كيلة منذ نهاية التسعينيات إلى جيل الشباب، فتفرّغ إلى محاورتهم في بيته الدمشقي في حي مساكن برزة، وإلى مخاطبتهم من خلال كرّاساته التي واصل نشرها تباعاً يبشّر بالتغيير الآتي دون ريب، مؤمناً أن التناقض الذي يحكم علاقة المركز الرأسمالي بالأطراف سيفضي إلى انفجار قريب، وتجدّد لأشكال الصراع بين الطبقات المرتبطة بالمركز والمهيمنة على الحكم والثروات في بلدان العالم الثالث وبين الطبقات المفقرة.
قراءة تشكّل امتداداً لمقاربته الأساسية للواقع العربي، وفق كتابه “الهزيمة والطبقات المهزومة” بعد تراكم هزائم ثلاث في تاريخنا المعاصر كما يحقبها بدءاً من فشل مشروع محمد علي باشا، ومروراً بإخفاق الحركة القومية العربية التي ناضلت من أجل الاستقلال، ووصولاً إلى هزيمة الحركة القومية الحديثة التي حكمت عبر الانقلابات العسكرية عدداً من الدول العربية.
يعزو كيلة سبب الهزيمة إلى تلك الطبقات التي قادت عملية التغيير وحاولت تحقيق النهضة، نتيجة تكيفها مع النمط الرأسمالي الإمبريالي الذي كانت تتمرّد عليه، مستشرفاً قرب نهايتها عبر تحليله كافة أشكال ووجوه الفشل المحقق الذي راكمته محاولات التغيير المذكورة وفي مقدمتها الأنظمة القومية.
وإلى جوار فشل الحركات القومية التي حكمت عدداً من البلدان العربية، لم يغفل أزمة الحركة الماركسية العربية في عجزها عن تشكيل سياسة بديلة، فأُجبرت على الالتحاق بمشاريع السلطة الحاكمة.
نذر كيلة حياته لأفكاره التي انتمى إليها ودافع عنها بكلّ ما يملك، والتي كلّفته أن يُبعد قسراً عن أحبّ الأمكنة إلى قلبه؛ الشام. وربما حين أيقن أنه لن يستظلّ ثانية بياسمينة بيته هناك، حلم أن يعود إلى بيرزيت التي تهيأ لزيارتها في أواخر أيامه.
عنيداً ومقاوماً، نجا من مرض السرطان أكثر من مرّة وكان سينجو هذه المرّة بالتأكيد لولا أن غافلته جلطة في القلب، وهو الذي لم يتخلّ فيها عن عاداته وبرنامجه اليومي غير آبه بنصائح الأطباء؛ القراءة وكتابة مقاله وجلسات الأصدقاء التي تطول حتى آخر الليل والكلام، والتحضير لنشر عدد من الكتب التي كان يخطّط لإصدارها. في غمرة كلّ هذه الانشغالات، لم ينتبه إلى أن الموت يطرق بابه، مواصلاً أحاديثه في آخر ليلة عن مشاريع لم تكتمل.
كلمة أخيرة
في آخر مقالاته التي نشرها في “العربي الجديد”، يعيد كيلة تأكيد إخفاق المعارضات العربية التي رأى أنها “قد باتت من الماضي، لأن البيئة التي أنتجتها انتهت، بفعل ما حققته النظم التي تشكلت من أحزابٍ شبيهة بها”، مشيراً إلى أن هذه “النخب” بدلاً من أن تفهم أوضاع شعوبها اكتفت بـ”الردح ضد الاستبداد”؛ رؤية تحيل إلى مثقف لم يستسلم إلى مبررات تلقي اللوم على مؤامرات الخارج واستبداد الداخل هرباً من مواجهة الواقع.

 

 

 

سلامة كيلة: المثقّف الماركسيّ المختلف/ عمر شبانة
ودّعت عمّان، قبل أيام، سلامة كيلة، سلامة صاحب الفكر والموقف المعروف، والمتعدد الانتماءات الجهوية، الفلسطينية والسورية والأردنية، صاحب الانتماء الفكري الماركسي والقوميّ، والمعروف بتواصله، وليس مجرد تعاطفه، مع الثورات العربية، خصوصًا الثورة السورية، وبقراءته الخاصة لهذه الثورات.
كان وداعُه حارًّا ومؤلمًا لكلّ من حضر التشييع والدفن. حضرت الجنازة أطياف من الأردنيين والسوريين المقيمين في الأردن، ممن يغلب عليهم العداء للدكتاتوريات، وخصوصًا دكتاتورية “البراميل” التي عانى منها سلامة، سجنًا وتعذيبًا، سجن الأسد الأب (حافظ) وسجن الابن (بشّار)، متذكّرين هموم سجنه وتعذيبه، ثم سرطانه الخبيث الذي كان، بطريقة ما، نتاج ذلك السجن والتعذيب.
في الجنازة، غابت الهوية الدينية لسلامة كيلة، وللمشيّعين، فلم يعودوا يعرفون أهو مسلم أم مسيحيّ؟ حتى أن كثيرًا من المشاركين في الجنازة ضاعوا بين مقبرتين واحدة للمسلمين وأخرى للمسيحيين حسب تصنيف الحكومة. وكان الخيار الحكوميّ، عبر أمانة عمّان وقسم الدفن والموتى فيها، هو الفيصل، فهو من حدّد أن الرجل مسلم، رغم اسمه المسيحي “سلامة جورج كيلة”، ويجب دفنه في مقبرة المسلمين. وسلامة غائب عن هذه التصنيفات، ويقيم في مكان آخر. فمن هو سلامة؟
مرّت أيام دون أن أستوعب فكرة رحيله، وأيام أخرى لأستطيع الكتابة عنه. لكنه باختصار سلامة كيلة. المثقف المختلف عمّا نعرف من مثقّفي هذه الأيام في عالمنا العربي. كان مثقفًا من نوع جريء ومختلف، فهل أسمّيه “المثقّف القلق المُقلق” بحسب تصنيف الكاتب والباحث الأكاديمي الدكتور خالد الحروب؟ وأعتقد أنه تمكّن من “صناعة” نموذجه الخاص بين المثقفين العرب، حتى لا أقتصر حضوره بين المثقفين الفلسطينيين، بوصفه فلسطينيًا أولًا. لقد كان من بين من طاولهم اعتقال الطاغية السوري الأول ثم الثاني، لكنه خرج من سجونهم بجسد هزيل وروح عالية متمرّدة.
وكان من أوائل مَن أشاروا إلى “إمبريالية” روسيا الجديدة، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وانضمامها إلى منظومة الإمبريالية العالمية، وقد تأكد هذا في دخولها الصراع القائم في سورية، لصالح الدفاع عن نظام دمويّ ضدّ ثورة سلمية، وعدا ذلك تحالفها المفضوح مع الكيان الصهيونيّ، ومع دولة دينية طائفية كإيران، الأمر الذي يُخرج روسيا من دائرة ما كان يُدعى بالاشتراكية، ويُدخلها في صراع المصالح والتكالب على الحصص في المنطقة.
ماركسية سلامة هي ماركسية غير التي عرفها الشيوعيّون العرب، وربّما تذكرنا بماركسيّة مهدي عامل، خصوصًا في كتابه “نقد الفكر اليوميّ”، تلك الماركسية التي تحاول تجديد ماركس نفسه، ونقد أفكاره ومشروعه كله. وتضع الأسس الجديدة لماركسية غير تلك التي اعتنقها العرب عقودًا، إلى حد أنه لم يضع الماركسية في مواجهة الدين، ولم يجد تعارضًا بينهما. فماركسية سلامة إن جاز التعبير، هي بنت بيئتها العربية ومجتمعها، وليست تلك الماركسية التي تترفّع على المجتمع وتتعالى عليه.
وكما انتقد سلامة الماركسية الأممية، واقترح ماركسيّة عربيّة، بل أكثر من ذلك، كان موقفه واضحًا وصريحا من القوى الوطنية والقومية والدينية. ففي جلساتنا معه، كما في كتاباته، كان سلامة صاحب فكرة واضحة، وشديد الاختصار في الجدل، وبلا أية انفعالات. مطّلع على ما يجري بالتفصيل، ومن مصادر الواقع والحدث، لا يكتفي بما تقوله الصحافة والإعلام. فتكون الجلسة معه ثريةً بمعلومات وتحليل عميقين.
أعود إلى بداية علاقتي معه، في العام 1989، حين التقينا في جنازة غالب هلسا، وتشييعه من الشام إلى درعا، حيث استلم الأصدقاء جثمانه، وعدنا إلى الشام. عدتُ لأبحث عن غالب هلسا الذي كان قد غاب للتو، وكنت أنا قد خرجت من “منع السفر”، فكانت فرصة اللقاء مع سلامة كيلة، لكنها كانت فرصة قصيرة، إذ سرعان ما تمّ اعتقاله ليغيب عشر سنوات في سجون حافظ الأسد.
العربي الجديد

 

 

رحيل ماركسيّ شجاع/ مصطفى تاج الدين الموسى
رحل ابن التغريبتين، الفلسطينية والسورية.. بعد أن كان من أوائل المنتفضين مع الشعب السوري في سبيل الحرية والعدالة والكرامة. رحل بعد إسهامات فكرية ماركسية مهمة، في سبيل تطوير الفكر الماركسي ضمن الواقع العربي، و لعلّ أهمها: (أطروحات من أجل ماركسية مناضلة ـــــ مشكلات الماركسية في الوطن العربي ـــــ نقد الماركسية الرائجة ــــ من هيغل إلى ماركس: موضوعات حول الجدل ــــ التراجيديا السورية).
أبعده النظام السوري بعد أن اعتقله وعذبه في سجونه، و رفضت إسرائيل السماح لجثمانه أن يدفن في قريته الفلسطينية، وبهذا يكون الراحل المفكر سلامة كيلة قد أخافهم حياً وميتاً، معاً، النظام السوري والإحتلال الإسرائيلي.
توفي المفكر الماركسي سلامة كيلة عن عمر 63 بعد صراع طويل مع المرض، ومع الأنظمة الاستبدادية، بوصفها مرضاً لا يقل خطورة عن الأمراض المعروفة.
مثل أيّ فلسطيني ثائر، لا ينتمي فقط إلى ثورته الفلسطينية، إنما ينتمي لكلّ ثورات الشعوب، وكأنها جزءٌ من ثورته الفلسطينية الدائمة والمتجددة، كما كان الراحل سلامة كيلة فكراً وسلوكاً.
وقد ظل حتى أنفاسه الأخيرة، رغم كل ما ذاقه من آلام، وأوجاع السجون والتعذيب والهجرات والمنافي، وفياً للفلسفة الماركسية، بوصفها فلسفة إنسانية، تنحاز بمفاهيمها وتحليلها العملي للإنسان، في سبيل حياة حرة وكريمة. كان على خلاف الكثيرين من الماركسيين العرب، الذين انحازوا خلال سنوات الربيع العربي، إلى الأنظمة الاستبدادية بشكل واضح أو على خجل، طبعاً دون أن ننسى أن ثمّة ماركسي هنا أو هناك، لا يقل تشوهاً على الصعيد الفكري من ماركسيي الأنظمة، وذلك بانحيازه للفصائل التكفيرية المسلحة، وتصنيفه الغرائبي لها على أنها حركات تحرر، دون فهم علمي لطبيعة نشوئها.
بعيداً عن ماركسيي الأنظمة (على كثرتهم) وماركسيي الفصائل المتطرفة (على قلتهم) غرد سلامة كيلة مع بعض الماركسيين خارج السرب، منسجماً مع أفكاره التنويرية، وقد فهم بشكلٍ علمي خطر الضدين ظاهرياً (الأنظمة والفصائل المتطرفة).
ولم يكن للراحل في كل كتاباته ولقاءاته أيّ مزاودة فكرية متواضعة، للفصل بين هذين الضدين ولو مؤقتاً، وتفضيل أحدهما على الآخر بحكم الظروف والواقع والمصالح، على أنه الأقل خطورة لأن خطورة هذين الضدين واحدة، ولن يزول أحدهما إلا بإزالة الآخر.
يُحسب للمفكر الماركسي سلامة كيلة ذلك الانسجام الكبير بين تفكيره ونتاجه الفكري من جهة، وسلوكه على أرض الواقع من جهة أخرى. حيث لا تناقض بين تجربته النظرية وموقفه المعارض للأنظمة، خلاف بعض الماركسيين الذين أثبتوا أنهم يعيشون انفصاماً حقيقياً بين النظرية والتطبيق، ويحسب لهم أنهم قد أدخلوا الماركسية العربية في نفق مظلم خلال السنوات الأخيرة.
قراءة سلامة كيلة خلال سنوات الثورة السورية لا تقل أهمية عن قراءته قبل الثورة، وذلك في جهده الفكري العلمي في تفكيك مفهوم السلطة في سوريا وفهمها، والتمييز بين سلطة طائفية وسلطة تستغل طائفة، فالنظام السوري أذكى من أن يكون طائفياً، نظام قائم على شبكة مصالح معينة، بعيدة كل البعد عن أي انتماء، وقد عرف هذا النظام كيف تدار اللعبة بين فقراء الطوائف، منذ اغتصابه للسلطة، فاستغل طوائف وطبقات وشخصيات وأحزاب ومفاهيم وشعارات..الخ، لخدمة مصالحه وبقائه في السلطة، وهناك فرق كبير بين نظام طائفي يتبنى فلسفة طائفية أو دينية معينة، وبين نظام يستغل طائفة في سبيل مصالحه ليس إلا.
دموية هذا النظام في التعامل مع الحراك المدني الثوري في سوريا، وتراكم المجازر، وتعاظم المعاناة، أدخلت بعض الثوار في تشويش فكري، وأجبرته لضعف وعيه على الانتقال من شعار تغيير النظام في سبيل الحرية، إلى إقامة دولة إسلامية، تشويش فكري انتبه له الراحل سلامة، وكان يقف وراء هذا التشويش هذا النظام المجرم، لعله يكسب تعاطف الآخرين، وخوفهم من مثل هذه الشعارات المتطرفة.
الثورة السورية ــــ وأيّ ثورة في التاريخ ـــ سببها بالدرجة الأولى اقتصادي، سبب عابر للطوائف ـــ بحسب سلامة كيلة ــــ وتطييف وأسلمة جزء من الثورة سببه دموية النظام السوري، وهذه الأسلمة هي ردة فعل سلبية على فعل دموي للنظام، ولا يمكن التخلص من أيّ ردة فعل سلبية دون التخلص من الفعل ذاته.
في حوار مهم للراحل يصنف مصطلح (العلوية السياسية) كمفرقعة صوتية، لأنه مصطلح غير علمي، منطلقاً في هذا من تحليل علمي، لفهم بيئة النظام السوري، بعيداً عن أيّ شعارات وتسميات صاخبة، لا تفهم بنية الأشياء بشكلٍ علمي، وذلك من خلال التحليل المادي لماهية الأشياء، وللأسف.. ثمّة نخب فكرية توّرطت في هذا التشويش الفكري، بعيداً عن الواقع.
إن تعذيب النظام للإنسان بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ليس هدفه فقط قمع هذا الإنسان، وإنما تشويه فكره، ليدخل بحالة نكوص نحو معتقدات قديمة لا تخدم فكرة الثورة في إقامة دولة الحرية والمواطنة.
ومن مهمات الثورة هي فضح كلّ تفكير طائفي، أياً كان مصدره لأنه يستهدف تشويش عقل الإنسان ومصلحة الإنسان، وبالتالي أخذ الثورة عكس أهدافها الإنسانية.
لطالما وصف الراحل بأنه (عراب التفاؤل) رغم أوجاعه الشخصية، والحال غير الجيدة للثورة السورية في الآونة الخيرة، بفعل عوامل عدة، خارجية وداخلية. فقد كان واثقاً ومتفائلاً من أن الثورة السورية لا بد لها من التخلص من الرداء الطائفي، الذي أُلبس لجزءٍ منها، وذلك بإعادة إنتاج الثورة على أسس علمية تكون من واقع السوريين، ومن مصالحهم كشعب متعدد الطوائف والأديان والقوميات. ولا بد لهذا الجزء من الثورة من أن ينتقل ـــ عاجلاً أم آجلاً ــــ من المفهوم الطائفي إلى المفهوم الطبقي في الصراع، حتى تحقيق مصلحة الشعب.
عراب حقيقي للتفاؤل، عندما اعتبر أن الثورة محال أن تنتهي ولو سيطر النظام على كلّ الأراضي السورية، فالثورات تقوم على شرط، وهو في الثورة السورية: إسقاط النظام، وطالما أن التغيير لم يتم بعد في إسقاط هذا النظام، فالثورة سوف تظل مستمرة بأشكال متعددة وجديدة، حتى تحقق شرطها، والثورات من الناحية العلمية لا يمكن أن تتوقف إلا في حالة التغيير وتحقيق شرطها، مهما كان القمع شديداً وزمنه طويلاً.
أعتقد أن رحيل سلامة كيلة هو ضربة موجعة للتفكير العلمي في الثورة السورية، ضربة لا بد من تجاوزها بإعادة قراءة فكر الراحل، بما يخدم التطلعات الإنسانية للثورة السورية وللسوريين.
تلفزيون سوريا

 

 

 

 

سجن سلامة كيلة/ حازم صاغية
قبل أيّام قليلة توفّي المثقّف الفلسطينيّ – السوريّ سلامة كيلة الذي سبق أن سُجن مراراً وعُذّب في سجون الأسد. معظم الذين نعوه أو رثوه من أصدقائه السوريّين ذكّروا بالسجن الذي تعرّفوا فيه إليه، أو الزنزانة التي شاركوه إيّاها في هذه السنة أو تلك.
هذه الاستعادة كثيراً ما تحصل حين يرحل عن عالمنا مثقّفون سوريّون كما رحل سلامة.
مَن يتابع هذا النعي السوريّ، الذي يكاد يصير تقليداً، يخال أنّ السجن هو المكان الذي يتعارف فيه السوريّون. ربّما كان الجامع وحده ما يفوقه في هذا الباب. ففي السجن تتحصّل معرفة بالآخر لا تتيحها “الحياة الحرّة” خارج السجن. خارجه يُحال دون التجمّع، كما يُشتبه باللقاءات والمنتديات، بل بالزيارات إذا تكرّرت وبدت على شيء من الانتظام الدوريّ. كذلك تعلو، في ذاك الخارج، الأسوار التي تفصل سوريّي منطقة عن منطقة أخرى، وطبقة عن طبقة سواها.
من الذي، وما الذي، أعطى الحقّ لحافظ الأسد ونجله من بعده أن يحوّلا السجون إلى مدرسة وهويّة ومنتدى وملتقى للآلاف، مع كلّ التشوّه الذي يرافق هذا التحويل، وكلّ الألم والإذلال اللذين يصحبانه؟
أهل النفوذ والسطوة يمكن أن يتعارفوا في فندق شيراتون مثلاً أو أيّ من الواحات المخلوفيّة العامرة. “أبناء الشعب”، وفي عدادهم المثقّفون، يتعارفون في السجن. فيه يتصادقون ويتحاورون ويتخاصمون ويكتشفون ما يوحّد بينهم وما يفرّق. هنا، تصحّ تماماً في ما بين “الغرباء” هؤلاء قولة امرىء القيس:
“وكلُّ غريبٍ للغريب نسيب”.
يصحّ بالتالي اعتبار السجن الأسديّ نُصب الاجتماع السوريّ والاتّصال بالعالم.
لكنْ كدوره في التعارف مع الخارج، فإنّ للسجن دوراً في التعريف بالذات. المثقّفون السوريّون، بنسبة مرتفعة منهم، هم الذين يوصفون، بين صفات أخرى، بالتالي: قضى 15 سنة في السجن. قضى 16. قضى عشرين. هذا التعريف هو دليل جزئيّ إليهم.
وكالتعارف والتعريف هناك المعرفة. في كتابه “بالخلاص يا شباب”، ميّز ياسين الحاج صالح بين مثقّفي بلدان الكتلة السوفياتيّة الذين يدخلون السجون كمثقّفين، وزملائهم السوريّين الذين يغدون مثقّفين في السجون.
لكنْ من الذي، وما الذي، أعطى الحقّ لحافظ الأسد ونجله من بعده أن يحوّلا السجون إلى مدرسة وهويّة ومنتدى وملتقى للآلاف، مع كلّ التشوّه الذي يرافق هذا التحويل، وكلّ الألم والإذلال اللذين يصحبانه؟
الجواب نقع عليه في الفصل الأخير من قصّة سلامة كيلة: لدى وفاته، ظهر مَن يشتمه ممّن سبق أن شتموا ريم البنّا وميّ سكاف وسواهما من الراحلين والراحلات. كان يُفترض بسلامة، إذاً، أن يخرج من سجنه وتعذيبه سعيداً مصطهجاً، وأن يكتشف هناك فضائل النظام المتين، المعادي للإمبرياليّة، الذي بناه الأسدان.
شتّامون كهؤلاء ينكرون أن يكون السجن والتعذيب، ناهيك عن الأسباب الكثيرة الأخرى، سبباً للغضب. لكنّ أمراً كهذا ما كان ليكون ممكناً لولا تقديسهم، هم أنفسهم، للسجون. لولا انخفاض في سويّتهم الإنسانيّة يُخفونه وراء ارتفاع مزعوم في سويّتهم التاريخيّة!. فهؤلاء، مثلهم مثل حافظ وبشّار، يعرفون مصلحة الآخرين أكثر من الآخرين، وغصباً عن الآخرين، ويعرفون خصوصاً أنّ هذه المصلحة تستدعي سجن أولئك الآخرين وأحياناً قتلهم.
… بعد سجنه وتعذيبه، نفى النظام القوميّ سلامة كيلة إلى خارج سوريّا بوصفه فلسطينيّاً. المنفيّ المصاب بالسرطان، والمُصرّ على ماركسيّته – اللينينيّة، انتهى به المطاف في الأردن “الرجعيّ”، وفي مستشفى أردنيّ حيث توفّرت له فرصة التأمين الصحّيّ.
أغلب الظنّ أنّ سلامة أزعجه الاكتشاف الذي سبقه إليه أكرم الحوراني ومنيف الرزّاز، من أنّ “الرجعيّين” الذين “يعاكسون خطّ التاريخ” أرفع في سويّتهم الإنسانيّة من رفاق سابقين يضعون في جيوبهم “خطّ التاريخ الصاعد” ويهبطون.
درج

 

 

سلامة كيلة.. صوت الحق لن يموت/ حيّان جابر
ودّعنا جسد سلامة كيلة الأسبوع الماضي، بعد صراع مرير وطويل مع المرض، وترك إرثا كبيرا من الفكر والكتابات التي تنير درب الحرية في وطننا العربي، فقد عرف بتبنيّه قضايا المسحوقين والضعفاء في الدول العربية؛ من فلسطين وسورية ومصر والعراق والمغرب واليمن…، كما عرف بثقته بحتمية انتصار الغضب الشعبي والتغيير الثوري بسواعد الفقراء والمظلومين والمهمشّين، وهو ما سوف يؤسس لمرحلة جديدة، مرحلة إعادة بناء مجتمعاتنا ودولنا، وهزيمة الاستبداد والطغيان والاستعمار المباشر وغير المباشر، فدائما ما أعلن سلامة أن معركة الشعب العربي واحدة في مواجهة جميع قوى الاستبداد والطغيان المحلية وقوى الاستعمار والنهب الخارجية كذلك.
منذ لقائي الأول بسلامة كيلة قبل ثمانية عشر عاما، لمست ثقته بحتمية الثورة الشعبية، وإنْ طال الزمن، الثورة التي جهد من أجل مساعدتها على شق طريق الحرية والعدالة والمساواة، وهو ما قضى آخر أيامه من أجله أيضاً. ثقة مبنية على تحليل الواقع العربي العام والخاص وتفكيكه، الأمر الذي جعل هذا المفكر العربي من الأصوات القليلة التي تعي وتدرك جيداً الأسباب التي تعيق انفجار الثورات الشعبية، وهو ما مكّنه، وساعد كل من تواصل معه على فهم الشعوب وآليات حركتها، فالثورة، وفقاً لسلامة، عملية تراكم معرفية، تتصدّى لمسارٍ طويلٍ من الظلم والسحق، يصل إلى درجةٍ من التغول، تجعل المواطن البسيط يوقن أن ثمن مواجهة الأنظمة المستبدّة والمجرمة لن يكون أقسى وأصعب من ثمن الانصياع والخضوع لجبروتها ونهبها واستغلالها، فالموت واحدٌ في الحالتين.
وقد يختلف بعضهم أو كثيرون مع منهجية سلامة كيلة وأفكاره، وهو حق لأي شخص، ولكن يصعب لأي وطني حر أن يختلف مع مواقفه السياسية الآنية والتاريخية، بل على العكس، فقد أثبتت هذه الأيام صحّة كثير من مواقفه التاريخية المبدئية التي بقيت ثابتة، مهما كانت الظروف والأوضاع، ومنها إصراره على طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي التناحرية، على الرغم من انهيار حركة التحرر العربية والفلسطينية، وعلى الرغم من كل الأصوات التي تهجمت على رافضي البرنامج المرحلي، ورافضي “أوسلو”، أمثال سلامة الذي اعتبر تحرير فلسطين نتيجة حتمية لاستعادة الشعوب العربية حقوقها وحريتها من أنظمة الاستبداد والنهب القائمة اليوم، وبالتالي لانتصار الثورات الشعبية العربية. وفلسطين بالنسبة له هي كامل فلسطين من دون مساومات أو تنازلات. وعليه فالصراع عسكري وثقافي واقتصادي وسياسي، والهدف واضح لا بديل عنه، إقامة الدولة الفلسطينية العلمانية الواحدة على كامل التراب الفلسطيني، على أنقاض الصهيونية ومؤسساتها الثقافية والسياسية والأمنية والعسكرية، دولة تحمي جميع مواطنيها، بغض النظر عن العرق والدين، فالهدف ثابت، وإن كان مستحيلا في الأمد المنظور، لكنه واقع حتمي مستقبلا، انطلاقا من تحليل طبيعة الكيان الغاصب، ومن تحديد أهداف شعوب المنطقة وتطلعاتها ومصلحتها، لذا علينا التمسّك به، والاستعداد من أجل اقتناص لحظة تغيير الواقع المقبلة لا محالة بجهودنا وجهود جميع الأحرار والوطنيين القابضين على جمر الواقع الأليم.
ولهذا الغرض، كتب سلامة كيلة مئات الصفحات التي تنقد ثبات الواقع وتنفي هذا الثبات، منتهجاً أدوات التحليل العلمي والماركسي في تفكيك الواقع وفهمه، بهدف تغييره طبعا، فالفكر والفلسفة الماركسية الحقيقية، وفقاً لسلامة، هي التي تسعى إلى تغيير الواقع، وتعمل على الانطلاق نحو مجتمعٍ أفضل تسوده قيم العدالة والحرية، لا التي تعمل على التقولب مع الواقع والتعايش معه؛ وترسخ الظلم والاستبداد تحت عناوين كثيرة؛ مثل الواقعية السياسية التي برّرت استبداد الأنظمة العربية وإجرامها، كما برّرت استسلام أنظمة أخرى وخيانتها. ولنا في مواقفه في كل من القضيتين السورية والفلسطينية خير مثالٍ على منهجيته العلمية والماركسية، وعلى جذرية مواقفه الآنية والتاريخية وثوريتها.
حيث يعلم كل من قرأ له، أو تحدّث معه، حقيقة مواقفه من الأنظمة الاستبدادية، بما فيها التي ادعت الاشتراكية والعداء للصهيونية، وأهمها النظام السوري الذي اعتقله ثماني سنوات في عهد حافظ الأسد، وتبعها اعتقال ثان قصير نسبيا، تبعه إبعادٌ إلى الأردن، بعد الثورة التي تبنّاها، والتصق بها منذ يومها الأول في عهد الأسد الابن، الثورة التي رفعت وإياه في أكثر من موقع شعار “من أجل تحرير فلسطين نريد إسقاط النظام”. ولم ينخدع مثل كثيرين غيره بالشعارات الكاذبة التي روّجها نظام الأسد منذ السبعينيات، انطلاقا من آليات التحليل العلمية التي ينتهجها، وعمل على نشرها في كتبه وكرّاساته، الفلسفية والسياسية، فقد آمن بترابط العلوم، ما حول كتبه ومقالاته إلى مزيج من السياسة والفلسفة الماركسية، فالأخيرة هي الأداة التي يستخدمها في تحليل الواقع، وهو ما يبرزه بكل اقتدار، على أمل أن نتمكّن، نحن أيضاً، من تفكيك الواقع وتحليله بشكل علمي من بعده.
ولعل من أهم قيمه أنه لم يحتكر المعرفة التي يمتلكها، بل عمل على نشرها بكل الإمكانات الجسدية والمادية التي يمتلكها، الأمر الذي جعله من المفكرين القلائل الملتصقين بالشارع
والشباب الثائر عموما، في زمني الركود والتحولات الثورية، من سورية إلى مصر، ومن لبنان إلى تونس، ومن المغرب إلى الأردن، فحياة سلامة تشبه مسار المكوك الذي يسابق الزمن، من أجل نثر علومه ومعارفه، وتلمس معاناة الشعوب التي تصوّبه وتمنحه من علمها ومعرفتها العملية، فالتجربة والممارسة العملية هي المعلم الأهم، وفقاً له. لذا لم يكن منعزلاً في منزله يطالع الكتب والمجلات فقط، بل كان جزءا مهماً من النضال الشعبي في كل الدول العربية التي تمكّن من زيارتها. وقد دفع ثمن نضاله غاليا في سجون الاستبداد الأسدية، كما دفع ثمنه إبعاداً عن وطنه الأم فلسطين إلى الأردن. وقد أهلك هذا الثمن جسده النحيل، وكان سببا في مرضه ومعاناته الصحية. لكن وعلى الرغم من كل شيء، بقي سلامة مخلصاً لأفكاره وشديد الالتصاق بقضايا المظلومين، وجزءاً من نضالهم الدائم، بالتوازي مع صراعه الطويل والمرير مع مرض السرطان، الذي لم يتمكّن من سلامة، المفكر والمناضل الماركسي والثوري العربي، لكنه وللأسف قد تمكّن من جسده، وأرغمه على الرحيل عنا، كما أرغمته أنظمة الاستبداد والاحتلال على الرحيل عن فلسطين وسورية التي سكنته، كما سكنها.
في النهاية، تعجز الكلمات عن وصف حجم القهر والحزن الناجم عن فقدانك رفيقا وصديقا وأخا وأبا ومعلما، وعن حجم الغضب والسخط على كل الأسباب الخارجة عن إرادتي ومشيئتي التي حالت دون لقائك منذ ترحيلك من سورية، كما كانت عادتنا. لكنك ستبقى صوت المظلومين والمقهورين، صوت الحق الهادر، رغماً عن جموع الاستبداد والإجرام القائمة اليوم، بفعل كتاباتك وإرثك الفكري والمعرفي الذي نثرته أينما حللت.
العربي الجديد

 

 

 

استغلال سلامة كيلة/ إيلي عبدو
ينتمي الراحل سلامة كيلة إلى صنف من الماركسيين الأوفياء لفكرهم، إذ لم تشب تحليلاته أي نوازع مضمرة تستخدم المفاهيم الفكرية للتغطية على مخاوف وجودية تتعلق بطائفة من هنا أو جماعة من هناك. الكاتب الفلسطيني فهم الصراع في سوريا بوصفه صراعا طبقياً، بين طرف حاكم يتمتع بثراء فاحش، وآخر محكوم جرى إفقاره وإذلاله ضمن منظومة استبدادية تستمد قوتها من أجهزة الأمن.
فهو، لم يكن جزءا من الحالة الأقلوية التي اعتمدت إلى العدة الماركسية للهروب من الإقرار بأن الصراع السوري مركب، بحيث يتلابس فيه، ما هو طبقي شكلاً بما هو هوياتي مضموناً، والفقراء الذين يقاتلون عن الأغنياء يقومون بذلك ضمن تراتبية في طوائفهم، وليس ضمن صراع أصيل تفرضه أدبيات المادية التاريخية، عدا عن أن مفهوم الطبقة نفسه ليس صافياً بالمعنى الاجتماعي، بحيث يمكن اعتماده مدخلاً للتحليل.
صحيح أن كيلة خالف الجزئية التي تتعلق بالتحليل الهوياتي للحروب الواقعة في منطقتنا، لكن ذلك لم يكن بغرض توظيفات ضيقة، بل استكمالاً لمفاهيم وقناعات آمن بها، وواصل التحليل استناداً لها. والتمييز هنا ضروري جداً بين من يقرأ الصراع بأدوات ماركسية، انطلاقاً من قناعات صافية وآخر استدخل مع تلك القناعات مخاوف على طائفته، فأطلق مواقف متضاربة، تنم عن ارتباك يخفي دوافع غير تلك المعلنة، وكون كيلة فلسطينيا، أي بعيدا عن النزاعات الأهلية الباردة في المجتمع السوري، فقد يكون ذلك تفسيراً لانتفاء أي نزعة أقلوية عنده .
كتّاب مثل كيلة كانوا، من غير أن يعلموا، جزءا من آلة الاستغلال التي تريد أن تخفي الصراعات لصالح انتماءات تتلون عادة بالأيديولوجيات التي لم تتأصل في بلدانناً لأسباب كثيرة. فيمكن أن يصعد عند ماركسي أو قومي سوري أو بعثي مثلاً وعي طائفي يجري التعبير عنه بلغة أيديولوجية ما يجعل محاججته أمرا مستحيلا، إذ كيف يمكن النقاش مع وعيين، واحد معلن يجري توظيفه لصالح آخر مضمر وخفي.
وتجسير المسافة بين الوعيين عند أصحاب هذه النزعة، يجري بأفكار مثل تلك التي كان يدونها كيلة، حيث كان الأخير يمد هؤلاء بالبراهين والحجج التي تغذي وعيهم المعلن وتحصنه من أي مساءلة، هكذا، جرى تحويل الكاتب الماركسي إلى محامي دفاع عن وعي زائف يوظف بالضد مما يرمي، فكيلة أراد فضح الاستبداد عبر تفكيك ما يظنه تكويناً اقتصادياً، فإذا به يصبح مادة يدافع بها الأقلويون عن أنفسهم بدون أن يضعوا أنفسهم بموضع الأقلويين، أي بسلاح غيرهم.
وإذا كانت تحليلات كيلة المتعلقة بطبيعة الصراع السوري تصح جزئياً لناحية الزمرة التي تأسست حول النظام بفعل الفساد، فإن توظيف هذا التحليل كغطاء لدوافع طائفية، يمنع تطويره بشكل يشمل العناصر الأخرى، لاسيما الهوياتي منها، والأخير عامل لا يمكن إغفاله، تحت حجج ضرب الوطنية لأن هذه لا تتأسس إلا على قاعدة إزالة الغبن الواقع على جماعة بفعل نظام يستخدم جماعة أخرى، وربما أكثر.
كاتب سوري من أسرة “القدس العربي”
القدس العربي

 

 

سلامة كيلة: مآزق الأيديولوجيا

حنان عقيل

إشكاليات عدة يواجهها الفكر العربي منذ عصر النهضة لا تزال تطلّ برأسها وتتعمق أبعادها حتى بات الحديث عن أزمة الفكر العربي حديثًا معتادًا مكررًا اعتاد المثقفون أن يلوكوه بألسنتهم، فيما يظل الحديث عن تغيير فعلي محض أحلام، لم تنجح حتى ثورات ما أطلق عليه “الربيع العربي” في أن تدفع بالاتجاه نحوها.. أزمات تتعمق وأحلام تتهاوى وأيديولوجيات تتراجع لتحلّ محلها أخرى ربما تدفع بالأوضاع في المنطقة العربية نحو الأسوأ.

في هذا الحديث مع المفكر الفلسطيني سلامة كيلة، الذي قدَّمَ العديد من الأبحاث والمؤلفات فيما يتعلق بالفكر العربي واليسار على وجه الخصوص، نحاول الولوج إلى الأسباب الكامنة وراء تراجع أيديولوجيات كانت لها الصدارة لتحل محلها أخرى لم تكن مطلبًا ثوريًا أو فكريًا بأيّ حال، لكنها شكّلت نكوصًا نحو الماضي بعدما صار الواقع بأسئلته الملحّة عصيّا على التفسير أو الفهم.. نبحث في جذور الأزمات التي تتبدى لنا الآن أوراقها الذابلة لنرى أي سبيل يجب على الأنتلجنسيا العربية ومن ثم الجموع أن تسلكه كي تنجو من أزمات حاضرها المستعصية.

في كتابه “مشكلات الماركسية في الوطن العربي” يقول كيلة “بعد التاريخ الطويل لانتصار الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي ثم اكتساحها ما يقرب من نصف سكان المعمورة تهتز صورتها فلا تعود ذلك المثال النموذج، فيتقهقر الاندفاع العفوي بل إنه يتجه إلى اللاهوت ذاته، إلى الدين حيث أصبح يبدو المثال الممكن الوحيد، بعدما تهاوت الأمثلة وفرغت الجعبة من متاعها الحديث، لتبدو كسرة الخبز القديمة، المتلونة بعفونة القرون، هي الحل، لأنها تشبع معدة فارغة بغض النظر عما ستفعله بعد لحظات”.. وها نحن الآن نعيش تلك اللحظات التي تلت تناولنا لذلك “الخبز العفن” ونبحث عن سبل التعافي من ذلك المرض الذي بات ينهش الجسد العربي.

في حواره مع “الجديد” يوضح سلامة كيلة الأسباب التي دفعته للقول بموت اليسار والعوار الذي أصاب الماركسية “الرائجة” وكيفية تحقيق التقدم انطلاقًا من الحل الماركسي، ثم يمّم شطر التيارات الفكرية الأخرى كالقومية والعلمانية والتجديد الديني للبحث عن أوجه العلل بها، مقدّمًا رؤيته للواقع الراهن انطلاقًا من فهم تاريخ الفكر وراهنه.

النهضة المجهضة

الجديد: في كتابك “النهضة المجهضة” تؤكد على ضرورة نفي كل الاتجاهات التي تطالب بتبني أيديولوجيا معينة لأنها ستسعى لمطابقة الواقع مع الأيديولوجيا المتبناة مسبقًا وليس دراسة الواقع من أجل فهمه.. ألا يتعارض ذلك مع الدعوة السابقة بضرورة التفكير من خلال الحل الماركسي؟ وكيف يمكن التأسيس للمنهج الذي تدعو إليه من أجل تجاوز أزمات العرب الفكرية؟

سلامة كيلة: كل الأفكار المسبقة التي لم تنتج عن دراسة ظروف ومشكلات الواقع وبالتالي تقديم الحلول التي تخصه هذه هي الأيديولوجيا التي أرفضها. الماركسية تقدم لنا منهجًا يسمح بدراسة الواقع وفهم مشاكله وبالتالي البحث في طرق التطوير، وهنا نحن علينا أن نبني رؤيتنا لهذا الواقع والتي تسمح بنقله لمرحلة مختلفة، أن يحقق التطور الضروري في هذا العصر. المنهج أولاً ولا إمكانية لتحقيق التقدم عبر تطور رأسمالي، ومن ثم على الماركسية أن تبحث في حلول عن كيفية تطوير المجتمع انطلاقا من فهم مشاكله ودفعه نحو أن يكون مجتمعًا حداثيًا يسير نحو الاشتراكية.

الجديد: هل ثمة أفكار من اليسار تعتقد بضرورة التخلي عنها في الوقت الراهن انطلاقًا من رؤيتك لمشاكل الواقع وطبيعة تغيره؟

سلامة كيلة: كل الماركسية الرائجة أعتبرها خارج التاريخ، وبالتالي لم تقدم ما هو مهم وركزت على الجانب السياسي في الصراعات، وراهنت على تطور الرأسمالية وأن يتحقق التطور في ظل رأسمالية وهذا مشروع وهمي. الآن يعاد نفس الكلام الذي كان يقال منذ سنوات ويعتبر أن الديمقراطية هي التي تجلب التطور رغم أنه لا إمكانية لديمقراطية في مجتمع ريعي يهيمن عليه بنى مجتمعية لم تتطور بما يسمح بأن تمتلك مصيرها في الإطار الديمقراطي فتنتخب دومًا من يعبر عن مصالحها رغم أنها الآن تمتلك طريقها في الإطار الثوري.

لا إمكانية للأحزاب اليسارية القديمة أن تعيد بناء ذاتها لأن عقلها دوغمائي، وهي أحزاب هرمة ويهرب منها الشباب، لكننا نلمس أن الثورات فتحت أفقًا لشباب وجد أنه صنع حدثًا تاريخيًا، فبدأ يشعر أن عليه أن يلعب الدور. هذا المناخ هو الذي سينتج يسارًا أكثر عمقًا ومعرفة.

اليسار الإسلامي

الجديد: في السبعينات من القرن الماضي برز تيار أطلق على نفسه “اليسار الإسلامي” حاول الجمع بين مبادئ الإسلام وأفكار اليسار.. ما هي إشكاليات ذلك التيار برأيك؟ وإلى أي مدى تعتقد بنجاحه فيما سبق أو إمكانية نجاحه مستقبلًا؟

سلامة كيلة: كان هذا التيار ظاهرة محدودة، بعضها من منظور براغماتي أكثر منه عميقا. وعمليا انتهت كل هذه الأفكار، لأن الإسلام منظور ليس عقائديا فقط لكنه مشروع مجتمعي محدد بنص قرآني مجرد أن يتحول إلى السياسة سيلتزم بالنص القرآني لأنه لا اجتهاد لما فيه نص، وبالتالي أيّ تفسير سيسقط بالضرورة أمام فقهاء الإسلام المكرسين عملياً للدفاع عن النص والأسس القديمة، مثلا راشد الغنوشي انتهى أصوليا عندما وصل إلى السلطة مثل غيره من جماعة الإخوان المسلمين، بالتالي هي فكرة جاءت في لحظة أمام هزيمة 67 وهزيمة المقاومة الفلسطينية في الأردن، كان فيها تراجع لليسار وميل من بعض اليساريين الذين شعروا أنهم لم يفهموا التاريخ أو وعي الشعب فعادوا للتراث العربي الإسلامي كي يفهموا التاريخ وواقع الشعب مثل حسن حنفي وطيب تيزيني ومحمود إسماعيل وحسين مروة وغيرهم.

تجارب ريفية

الجديد: في حديثك عن التيارات القومية العربية، قلت إن الأهداف القومية تحولت إلى شعارات وغدت المفاهيم القومية جزءًا من مركب ذهني غير واقعي.. إلام ترجع إخفاق التيار القومي العربي؟ هل هناك قصور في منطلقاته الفكرية أم أن البيئة العربية ليست مناسبة له؟ وهل تعتقد بضرورة إحياء التيار القومي لمواجهة فكر الإسلام السياسي والمآلات المأساوية التي ترتبت عليه؟

سلامة كيلة: المسألة لا تتعلق فقط بالأفكار، تتعلق بمصالح الفئات الاجتماعية التي أسست هذا التيار. التيار القومي العربي كان له شقان: البعث وجمال عبدالناصر، البعث حزب تأسس في أربعينات القرن العشرين ومؤسسوه كانوا شيوعيين واختلفوا مع الحزب الشيوعي اللبناني في نقطتين؛ الوحدة العربية والعلاقة مع الاستعمار. من هذا المنظور تأسس تيار فكري خليط من جهة هو اشتراكي لكنه اعتبر القومية هي الأساس، هذا الفكر تغلغل لدى فئات وسطى مدنية وبالأخص ريفية وبالتالي تغلغل في الجيش عبر هذه الطبقات الريفية، وهنا مجال التشابه مع التجربة الناصرية فكان عبدالناصر ليس عضوا بالحزب لكنه يعبر عن طابع الضباط الريفي، يعبر عن أزمة الريف نفسها.

المشكلة في هذه التجارب أنّها عبّرت عن تجارب ريفية تريد نفي الماضي الإقطاعي أو شبه الإقطاعي الذي كان يتحكم بها، لكنها كانت تريد الحصول على الأرض والارتقاء الطبقي حينما وصلت إلى السلطة وبالتالي الوصول السريع إلى الثورة والتحوّل إلى فئات رأسمالية جديدة، من هذا المنظور حققت إصلاحًا زراعيًا وقطاعًا عامًا واسعًا وتعليمًا واسعًا ومركز ثروة كبيرة بيد الدولة، وبدأت فئات تنهب الثروة وهذا ما سُمّي بالفساد، الأمر الذي أدى لنشوء رأسماليات جديدة من هذه الفئات، لهذا أشرت إلى أن أزمة ذلك التيار هي أزمة الفئات الاجتماعية التي حكمت أكثر منها أزمة فكر.

على العكس من ذلك، كان الفكر يعبّر عن أزمة هذه الأحزاب التي طرحت القومية لكنها أرادت التملك الخاص، لهذا تحولت الأفكار الكبيرة إلى شعارات لأن الأولوية لديها كيف ترتقي طبقياً وتحصل على الأموال من الدولة التي تحكمها وتغطي نفسها بشعارات ونظام سياسي، هذا هو جوهر إشكالية الفكرة القومية التي كانت مرتبطة بنفي الإقطاع وتحوّلت إلى شعار يغطي ميلها لتكون فئات مالكة وليست معنية بالحرية.

أما بخصوص فكرة الإحياء في الوقت الراهن، فالمسألة القومية مسألة واقعية بالمنطقة العربية، الوطن العربي وطن مفكك ومجزّأ له تاريخ، هناك لغة واحدة، وثقافة تكونت عبر التاريخ، كل هذه العناصر جزء من تكوين الشعب العربي. لهذا عندما كان أيّ شخص يريد تقديم مشروع تقدّمي كان ذلك من خلال المشروع القومي، وهذا ما فعله محمد علي باشا في محاولة تحقيق سوق عربية. المسألة القومية هي جزء من وضع الناس وبالتالي عندما نتحدث عن التقدم والتطوير الاقتصادي بالضرورة لا بد أن تطرح المسألة القومية لأنه لا إمكانية لبناء صناعة في أيّ دولة عربية دون سوق كبيرة، يرتبط الشعور القومي بالمشروع المستقبلي المتعلق بأن تطورنا وتحقيق استقلالنا متعلق بأن تصبح هذه المنطقة مرتبطة.

في جانب آخر، وفي سياق تطور الهويات بالمنطقة بالتأكيد كانت في مرحلة الهوية الدينية هي الطاغية لأن الأيديولوجيا التي تعمّمت هي الإسلام وبالتالي أصبحت الهوية إسلامية، وكان يجب إخضاع القوميات الأخرى ليس فقط بالدين ولكن بالأيديولوجيا. أصبح الإسلام هو الإطار الموحّد كبديل عن القوميات، رغم أن شعور القومية ظل ينخر حتى المنظورات الدينية. مع الميل للنشوء الحديث أصبح واضحاً أن المنظور الديني كهوية انتهى وبالتالي أصبح المنظور القومي كهوية هو الأساس، وهذا ما حدث في أوروبا بالأساس، وقام النظام العالمي على أساس الأمة، تصبح مسألة تحديد الهوية من منظور قومي هي الأساس والدين يكون شأنا شخصيا ومن هنا تطرح مسألة العلمانية.

العقل والدين

الجديد: تكرر دعواتك لضرورة أن تكون ثقافتنا العربية الجديدة نتاجًا للتفاعل مع الغرب من خلال الاستيعاب وليس النقل، هل من إشكاليات ما قد تترتّب على استيراد العلمانية بصورتها في الغرب للمجتمعات العربية دون تغيير؟

سلامة كيلة: الفكر لا يرتبط بثقافة ما، حينما أخذ الأوروبيون ثقافة ابن رشد لم يقولوا هي خاصة بثقافة عربية لكنهم انطلقوا منها لتأسيس فلسفتهم. لا نستطيع أن نقول إن العلمانية هي اختراع أوروبي، على العكس من ذلك، حين ندرس تطور الفكر نرى أنه في نهاية الدولة العباسية دار صراع أساسي بين الإيمان والإلحاد، وردّ الفكر الأصولي الإسلامي بالحرب ضد الفلسفة، وهذا ما قام به الإمام أبو حامد الغزالي حينما حرّم الفلسفة وصارت العلوم هي علوم الدين. بعد قرنين من الزمان رد على ذلك ابن رشد معتبرًا أنه لا تعارض أو تناقض بين العقل والنقل، بين الفلسفة والدين، على العكس من ذلك هما شكلان لحقيقة واحدة. هنا ابن رشد وضع العقل في مواجهة الدين، هذه الفكرة هي التي تطوّرت في أوروبا وأسست العقلانية، لأن المدرسة الرشدية هي التي أسست هذا الفاصل والتي فرضت بالضرورة الوصول إلى العلمانية. من هذا المنظور ليس هناك علمانية يمكن أن نخترعها من تراثنا، وبالتالي علينا أن ننطلق من هذا التراكم الفكري الذي تحقق في أوروبا.

طبعا هناك تشدّد في العلمانية في بعض البلدان مثل تركيا وفرنسا، سبب التشدد هو أن الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا بالأساس كانت شرسة في مواجهة الحداثة فأصبح رد فعل الحداثة هو كيف نحجم ذيوع الدين، وأصبح هناك اقتحام حتى المجال الشخصي للناس، هنا إشكالية تخلط بين الإلحاد والعلمانية، في الواقع فصل الدين عن الدولة هو أساس ضروري في أيّ دولة حديثة.

ملحدون وعلمانيون

الجديد: ولكن هل تعتقد بأن هناك فهمًا صحيحًا للعلمانية لدى مثقفي العالم العربي؟ أليست العلمانية كما يطرحها كثير من المثقفين متصادمة مع الثقافات المحلية للشعوب العربية خصوصًا ما يتعلق بالهوية والدين؟

سلامة كيلة: في العالم العربي هناك ملحدون وليس علمانيين، للأسف عدد من يطرحون الفكرة العلمانية بشكلها الصحيح محدود، لهذا نلاحظ الفكر الإلحادي وهو ردّة فعل معاكسة للدين. الميل المتشدّد للأصولية والتيارات الإرهابية والإسلام السياسي ينتج عنهم ردّ فعل طبيعي لدى الشباب معاد للدين، وبالتالي هذا التيار يخدم التيار الديني المتشدد وليس العكس، لأن الإلحاد هو الانطلاق من فكرة الله، الدين يقول هناك إله بينما يقول الملحد ليس هناك إله، وبالتالي المعركة في هذا الجانب هي معركة وهمية لأن الإشكال في المجتمع ليس في الدين.

من هذا المنظور يحصر النقاش في فكر الدين ويجري تجاهل كل الإشكاليات، هو تيار يخدم استمرار هذا الشكل من الصراع حول فكرة الدين. المشكلة الأساسية لدينا في العالم العربي في الظروف المجتمعية الصعبة، ولم يكن الدين هو السبب الأساسي الذي تسبّب في ذيوع انتشار الإسلام السياسي كما شرحت آنفا.

نحن لازلنا في منطقة ردود الأفعال ولازلنا نفكر بمنطق القرون الوسطى، منطق أرسطو: الخير والشر، مع أو ضد، وبالتالي هناك دائما هويتان متصارعتان، هذه إشكالية العقل العربي إلى الآن فهو لا زال يعيش كما السلفيين، وكان الفكر الماركسي القديم واقعا في نفس الإشكالية في التعامل من منطق ردود الأفعال. العقل العربي محكوم بمنطق القياس، لديه فكرة يريد أن يخضع الواقع لها، إما بالدين لدى التيارات الإسلامية أو بأفكار لدى التيارات الأخرى، نحن نعيش بالفكر الذي تبلور مع نهاية الدولة العباسية، حتى الدين الذي نعرفه هو الذي تبلور في تلك الفترة وأسس لفكرة خذوا الحقائق من الألفاظ، هذا أسّس لتحول الدولة إلى دين شكلي، وجاء إلينا ابن تيمية وخيرالدين التونسي بفتاوى هائلة تحرّم كل شيء، هذا الدين الذي وصلنا هو دين الانهيار ولا زلنا نعيش في هذه المرحلة.

إشكاليات التجديد

الجديد: كيف تنظر لمشاريع التحديث الداعية لتأسيس حداثة إنسانية إنطلاقًا من مبادئ الدين الذي يقدم له قراءة جديدة معاصرة؟ هل يمكن أن تساهم تيارات الإصلاح الديني التوفيقية في الخروج من مآزق الفكر العربي؟

سلامة كيلة: المشكلة بهذا الموضوع هل يجب أن نبقى داخل إطار الفكر الإسلامي أم نعتبر أن هناك تطورًا حدث ويجب أن نتجاوز هذا الفكر؟ هذه إشكالية كلّ التيارات التجديدية، وهي أنها تبقى الفكر والمنظور المنهجي الذي حكم هذا الفكر بالأساس وتحاول أن تناور عبر التأويل، ولكن كل هذا خارج الفكر الحديث، وبالتالي نظل ندور داخل نفس الدائرة، وفي هذه الدائرة يكون أيّ أصولي هو أكثر قوة من أيّ تجديدي من هؤلاء لأنه يعود إلى النص وضرورة التقيّد به.

الفكر الإسلامي أصبح متجاوزًا بالضرورة، التجديد يعني أن نعود إلى الماضي ونبحث في الماضي وهذا أمر سيبقينا في إطار الماضي ولن يسمح لنا بأن نتطور، لا أستطيع مثلا أن ألغي منظور الدين الإسلامي للمرأة لأنه واضح في النص، ما فعله شخص مثل محمد شحرور عندما أعطى تصورا مختلفا وفهما جديدًا للدين لن يقتنع به أحد خصوصًا عندما يأتي أحدهم ويثبت عكسه بنص. لقد ضاع وقت طويل في الحديث عن التجديد باعتقادي دون فائدة.

موضة بلا مستقبل

الجديد: لكن أليس لهذه التيارات التجديدية أهمية ما فيما يتعلق بإعادة بناء وعي المجتمعات وفهمها للدين في إطار حداثي بعيدًا عن المنظور السائد الذي بات غير مناسب للواقع؟

سلامة كيلة: ممكن جزئيا في بعض المسائل أن تلعب هذه التيارات دورًا في محاولة خلخلة الوعي التقليدي، وبالتالي تفتح أفقًا عند الناس أن تفكر بمنطق مختلف سواء في إطار الدين أو غير الدين، لكن هل ذلك يستدعي أن نحصر المناقشات لأكثر من عقود في هذه النقطة وكأنها هي الحل لكل شيء فيما كانت ولا تزال تتفاقم المشاكل المجتمعية والسياسية وغيرها. المشكلة هنا أن هذا الأمر أصبح “موضة” وكل شخص يتحدث في هذا الأمر لأن الإعلام يهتم به ومن هنا نحن ندفع الناس للاهتمام بشيء ليس هو الأساس أو الأهم بالنسبة إليهم.

حلول وسط

الجديد: لماذا ظل الفكر العربي عاجزًا عن تأسيس وعي مطابق “جماهيري” على مدار تاريخه؟ وما السبيل نحو تحقيق ذلك برأيك؟

سلامة كيلة: في المنطقة العربية مع الأسف كل ما طرح مع نهاية القرن التاسع عشر لم يحمل على مصالح طبقة برجوازية هو أصلا يعبّر عنها، هذا إشكال السيطرة الاستعمارية التي فرضت أن يتحوّل تراكم الرأسمال الموجود لدى كبار ملاّك الأرض، فبدل أن يذهب إلى الصناعة ذهب إلى التجارة والخدمات، وبالتالي لم يؤسس مجتمعًا بديلًا لأن ما يؤسس ذلك المجتمع البديل هو تغيير النمط الاقتصادي كله إلى نمط صناعي حديث، ما جعل هذه البرجوازية التي حاولت الاستقلال عن الاستعمار لا تحمل هذا المشروع وتريد السلطة لتعزز مصالحها ولا تريد أن تؤسس صناعة حقيقية أو مجتمعاً حقيقياً. على العكس من ذلك كانت تدعم الميول الأصولية وتريد أن يبقى المجتمع بشكله التقليدي وأن يتقدم جزئياً في بعض الزوايا التي تحقق مصالحها. من هذا المنظور هذا الفكر تهمش، أتت الأحزاب القومية بحلّ وسط، وشكَّلت دولة مختلطة من العنصرين فيها شيء من الحداثة وفيها كثير من التقليد، أرادت تغيير الواقع لكن إلى حسابها. ومن ثم دمرت التجربة نفسها.

الميل الأصولي

الجديد: في الوقت الراهن يشكل الإرهاب الخطر الأكبر على العالم فيما يتم تعزيز أطروحات تؤكد أن التنظيمات الإرهابية هي نتاج ثقافة العنف الموجودة في الفكر العربي. هل تتفق مع تلك الأطروحات؟ أم أن هناك أبعادًا أخرى ترى أنها تسببت في تغول تلك الظاهرة؟ وما السبيل لمواجهتها فكريا وثقافيا؟

سلامة كيلة: حينما نتحدث عن الإرهاب يجب أن نرى الظاهرة كشيء مركّب، وهذه مسألة جوهرية. هل في الإسلام عناصر تشير لما يمارس من قبل هذه التيارات؟ في كل التاريخ القديم كانت هناك ميول للعنف من قبل النظم، لم يكن هناك مفهوم اسمه ديمقراطية أو حقوق إنسان أو قيم المجتمع التي تبلورت في عصر النهضة وبالتالي فبالضرورة في أيّ قانون سنلمس وجود جملة هذه العناصر في العقاب والأحكام، وبالتالي في ذلك الوقت كانت هذه هي القوانين السائدة وكان هذا الوعي المجتمعي هو المستوى الذي يصله.

حينما نبحث في الوضع الآن، يجب أن نلمس الظواهر بدقة شديدة، هناك تيارات تميل للعنف؛ تيارات فكرية مثل الوهابية التي هي أساس مجمل التيارات الإرهابية، هناك ميل لتطبيق الأحكام الدينية بشكل ميكانيكي فظ، وعودة لابن تيمية ومنظور الغزالي في تبسيط مبادئ الدين كما أشرت من قبل.

الظاهرة القائمة الآن لا تتعلق بالدين الإسلامي ذاته لأن الدين الإسلامي أيضًا كان في المجتمع موجودًا منذ قرون طويلة وكان هناك تعايش مجتمعي ولم تكن هذه الظاهرة موجودة، حتى حينما كان يشار لصراع طائفي كان البحث في الظاهرة يشير إلى أنه خلف هذا الصراع بعض المصالح الطبقية والصراعات العشائرية وبالتالي الدين كان يؤخذ كشكل ما، غطاء ما لحالة واقعية.

مع الأسف هناك العديد من الدول التي عملت على تعميم الميل الأصولي المتخلف في الدين منذ سبعينات القرن الماضي، كان تعميم الوهابية عنصرًا أساسيًا في فكر بعض الدول التي كانت تريد أن تدمّر كل الفكر القديم وكانت تريد أن تهيمن أيديولوجيا على المجتمع العربي عبر هيمنة الوهابية التي كانت تدفع باتجاه الميل العنيف للهيمنة على المجتمع.

هذا الشكل من الدين أداة لعب بأيدي أجهزة مخابرات، والجماعات الإرهابية من القاعدة إلى داعش وغيرهما هي اختراع أجهزة مخابرات لكن مع انهيار الوضع الاقتصادي المعيشي والتعليمي والتهميش في مناطق اجتماعية معينة كان من السهل أن يستقطب العديد من الشباب في حالة صنعتها أجهزة أمنية ولم تصنع من هؤلاء الناس، لم تكن الظاهرة نتاجا واقعيا مجتمعيا بالأساس، إنما كانت فعلا خارجيا استقطب قطاعات شبابية.

الآن يجب أن نبحث في هذه الظاهرة من منظور سوسيولوجي وليس من منظور ديني، لأن الشاب البسيط المهمش الذي يريد أن ينتحر من أجل الجنة، حينما نحلل الأمر نفسيا نجد أن هذا الأمر هوس جنسي لأن البيئة التي يعيش فيها هي بيئة قهر وكبت في مجتمع عالمي مفتوح، الحل لدى هذا الشخص أن يوهم نفسه أن هناك جنة يفجر نفسه من أجل الوصول إليها.

هناك أيضًا فئات مهمشة تريد أن تظهر في الصورة، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي كانت الفئات المهمشة تذهب نحو اليسار الذي كان الظاهرة البارزة الموجودة بالصورة، لهذا نجد أن الإعلام الغربي والإعلام العربي بشكل واسع ركز على هذه التنظيمات، هذا الجوّ يسمح لبعض الفئات المهمشة أن تعتقد بأن وجودها هنا يحقق لها ذاتها. من ثم المشكلة لا تتعلق بمحاربة التطرف. ينبغي عدم دعم الأصولية المتخلفة في الدين وأن يصبح هناك فعل لدمج الفئات المهمشة في الصراع الواقعي المجتمعي وهنا يأتي دور اليسار بالأساس.

صراع مجتمعي

الجديد: ماذا عن القول بأن الثقافة العربية تحمل جذور العنف بداخلها؟

سلامة كيلة: هذه إشكالية مطلوب أن نقتنع بها نحن بينما هي غير موجودة في الواقع، لو كانت هناك بنية عنيفة لكان المجتمع العربي تدمّر منذ مئات السنين. في مصر نشأت ظاهرة الصراع الطائفي والأصولي في الفترة من العشرينات إلى الخمسينات من القرن الماضي عن طريق الإخوان المسلمين بدعم من القصر والإنكليز، ورغم ذلك كان اليسار يهيمن أكثر. منذ السبعينات القرن العشرين بدأ الحشد في هذا الاتجاه، بالتالي بدأ الصراع الحقيقي في تلك الفترة، إذا كان الوعي المجتمعي في عشرينات القرن الماضي أبسط كثيرا منه في سبعيناته ولم يحدث صراع طائفي، لماذا حدث بعد ذلك؟ لأن هناك فعلًا مقصودًا، المجتمعات العربية الريفية علاقتها بالدين ليست متعصّبة، هناك تسامح كبير بالدين والمجتمع العربي كان في الغالب ريفيًا، كان هناك ميل للتشدد الديني في الفئات التجارية المدنية لكنها كانت محصورة في دائرة المدن لذا كانت هي قاعدة الإسلام السياسي. أيضًا في الإسلام توجد آيات بها تشدد وهناك آيات بها مرونة وبالتالي كيفية استخدام الآيات يتعلق بمنظور مسبق لدى الفئات التي توظّف هذه الآيات، من هذا المنظور يجب أن ننظر للمسألة من زاوية الصراع المجتمعي القائم وليس من منظور الإسلام كدين أو ثقافة.

الجديد: في ظل التحوّلات العاصفة التي تمر بها المنطقة العربية وتساهم في تحريكها قوى غربية، هل يمكن الحديث عن دور ما يمكن للمثقف أن يضطلع به في تلك الفترة؟ وكيف يمكن التأسيس لجهد ثقافي جمعي في ظل حالة الشتات والخلاف بين أفراد النخب العربية؟

سلامة كيلة: السؤال هو أي مثقف نقصد؟ كلمة مثقف عامة وفوق التيارات الفكرية أيضا لأن هناك مثقفا يدافع عن مافيا الفئات الحاكمة، ومثقفا يعتبر أن الليبرالية هي الحل الأساسي بينما هي التي دمرت مجتمعاتنا، وهناك مثقف يحاول أن يطرح مشروعًا وهميًا، فأيّ مثقف يجب أن نتحدث عنه؟

أولا: تطوير الثقافة والوعي الفكري من المسائل الضرورية المهمة وهي ناقصة في مجتمعاتنا العربية، ثانياً المثقف الذي يستطيع أن يلعب دورًا هو الذي يرتبط بواقع الناس ويستطيع أن يفهم مشكلاتهم ويطرح تصورات حقيقية لمشكلات المجتمع في مستوياته المتعددة، كل هذا من دور المثقف الذي يجب أن يعبّر عن فئات المجتمع. للأسف هذا التيار ضعيف لأن اليسار القديم لم يستطع أن يلعب دورًا لكن نأمل أن تكون الثورات العربية قد حركت فئات من الشباب لتؤسس لثقافة مختلفة ووعي مختلف، وأعتقد بأن الفترة القادمة ستشهد ذلك من خلال طرح مشروع بديل حقيقي وإقناع الناس بهذا المشروع لتحقيق تغيير حقيقي في المجتمع، ومن المفترض أن يصير هناك توحيد لتلك الجهود لأنه لا بديل عن ذلك.

قضية المعرفة

الجديد: تلك الثورات التي نعوّل عليها في خلق تيار ثقافي بديل لم تكن سببًا لتوحيد جهود الأنتلجنسيا العربية بل أثبتت فشلها في أن تقوم بدور حقيقي في عملية التغيير. كيف تنظر إلى المسألة؟

سلامة كيلة: لم تكن هناك نخب ثقافية حقيقية موجودة، النمط الثقافي الذي كان سائدًا عند المثقفين لم يكن يفهم الواقع جيداً، كان هناك استعلاء ما على الناس، هناك عيش في برج عاجي يجعل المثقف يفكّر فيما هو بعيد عن المجتمع، قلة من بقيت تحاول أن تدافع عن الناس، لكن ما أعتقد بأنه أساسي المثقف الذي يمكن أن يتبلور في المرحلة القادمة لأن هناك الآن أجيالا من الشباب بدأت في تشكيل وعيها انطلاقا من أسئلة الواقع ليس فقط من الكتب، الآن من يقرأ كتابا من الشباب يريد أن يجيب على أسئلته لا أن يعرف فقط، والفرق بين المعرفة وإنتاج الفكر مسافة كبيرة، هذه المرحلة هي التي يمكن أن تنتج فكرًا مختلفاً وتنتج نخباً من المثقفين على كافة الأصعدة، أهمّ ما حققته الثورات أنها أطلقت ميلًا شديدًا لدى الشباب للمعرفة والبحث عن إجابات لأسئلة الواقع وهذه أهم مسألة لأي إنتاج فكري.

أسلمة التحولات

الجديد: انفجارات “الربيع العربي” بدت فرصة سانحة أمام اليسار كي ينهض من كبوته. فلماذا فشل اليسار العربي في أن يتصدر المشهد فيما نجح تيار الإسلام السياسي؟

سلامة كيلة: لأمر يتعلق بالظروف التي سبقت الانتفاضات العربية، من يشاهد الوضع العربي منذ سبعينات القرن الماضي؛ التحولات التي جرت في الأنظمة التي كانت تعتبر ذاتها يسارية أو اشتراكية نحو تعميم الليبرالية، والتصالح مع العدو الصهيوني ثم بعد ذلك انهيار الاتحاد السوفييتي. كل ذلك كان يشير إلى أن الموجة التي بدأت منذ أربعينات القرن الماضي وتوسعت في الخمسينات منه والتي أظهرت أن اليسار قوة أساسية سيطرت، تلك الموجة انكسرت. والأنظمة التي ادعت اليسارية انهارت وأصبحت ليبرالية بالأساس، والأحزاب التي اعتبرت نفسها يسارية كانت قد انهارت أو ضعفت إلى حد كبير مع هذه الأنظمة. لهذا كان واضحاً منذ سبعينات القرن العشرين أن اليسار يتراجع، ثم جاء انهيار الاتحاد السوفييتي كي يضع أساسًا أكبر لتوضيح انهيار هذا اليسار وتلاشيه تقريبا وتحوّله إلى أحزاب صغيرة.

في المقابل بدأت موجة الأصولية في سبعينات القرن الماضي أيضاً عبر دعم الأنظمة، وعبر أيضاً ميل لتعميم اللبرلة قام على أساس تدمير التعليم، وبالتالي تسطيح ثقافة الأجيال الجديدة إلى حد أن الأجيال التي ظهرت في تسعينات القرن الماضي وبداية القرن الجديد كانت ضعيفة الثقافة للغاية، وأصبح هناك هروب من التعليم أصلاً، وعادت الأمية لدى قطاع كبير في المجتمعات، ارتبط ذلك بميل بعض المجموعات الإسلامية لأن تلعب دوراً سياسياً في فلسطين بالأساس؛ حركة حماس التي ظهرت كأنها البديل عن المقاومة الفلسطينية أعطت رمزية ما للإسلام السياسي بعد أن كان قد تلاشى في السنوات السابقة، ثم أتت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتظهر كأن الإسلام السياسي مناهض لأميركا، في نفس الوقت الذي بدأت تنظيمات الإسلام السياسي تلعب على وتر الديمقراطية.

في هذا الوضع كان واضحاً أن هناك قطاعًا مجتمعيًا قد تأسلم مع انهيار التعليم وانهيار الوضع الاقتصادي، وأن الإسلام السياسي بدأ يتخذ شكل اليسار القديم حيث بدأ يظهر كمعاد للإمبريالية، معاد للدولة الصهيونية ومعاد للأنظمة وأنه ديمقراطي، وأصبحت هناك صورة حول الإسلام السياسي هي بالأساس صورة لليسار، من هذا المنظور كان يتوقع أن يتصدّر الإسلام السياسي المشهد مع قيام الثورات العربية.

ومع الأسف لعبت قطاعات من اليسار دورًا أساسيًا للترويج لهذا الإسلام السياسي والتحالف معه، من هنا جاء انتصار الإسلام السياسي خصوصا أن الثورات أوضحت أن اليسار قد مات لأنه لم يتوقّع الثورات أصلا، بعضه شارك لكن بشكل شكلي جدا وبعضه وقف ضد الثورات، ومن ثم كان أمام الناس التي شاركت في الانتخابات أن الإسلام السياسي برمزيته وبشكله الذي تبلور في العقود السابقة يمكن أن يحمل لها بعض الحلول، لذلك نجح الإسلام السياسي في أحد عناصره نتيجة هذه الرمزية، رغم أن الأمور كانت أبعد من ذلك، فالنظم القديمة أيضا دعمت نجاح الإسلام السياسي لأنها كانت تريد أن تقيم صفقة بين وجودها وبين الإسلام السياسي من أجل تجديد النظام السياسي وليس من أجل تغييره.

يسار بلا رؤية

الجديد: لكن ألم يكن المناخ الذي وفّرته الانتفاضات العربية من حرية ورغبة في التغيير فرصة للمّ شتات اليسار ولو بالقدر اليسير؟

سلامة كيلة: للأسف حينما قلت إن اليسار قد مات كنت أقصد هذه الكلمة، اليسار أصبح لا يمتلك رؤية حقيقية للواقع، أصبح يعيش بأوهام ثقافوية أو سياسية تجعله بعيدًا عن حركة الشارع والصراع الواقعي، لهذا عندما ندرس وضع اليسار بعد الثورات نجد أنه كان يحكمه مساران أو خياران: خيار أول يتعلق بالتحول إلى الليبرالية أو التركيز على الديمقراطية وبالتالي اعتبار الديمقراطية هي أساس نشاطه، وهنا كان يبتعد عن الناس لأنهم كانوا يعيشون وضعًا انهياريًا على المستوى الثقافي والتعليمي ويعيشون أزمة مجتمعية بكل معنى الكلمة، بينما اليسار كان يركز على الديمقراطية والحرية وهي مبادئ تتعلق بمصالح فئة وسطى تريد أن تلعب دورًا ما في الشأن العام والسياسي، هذا الشق كان بعيدا عن واقع الصراع. الخيار الآخر كان التركيز على شعارات كبيرة كالصراع ضد الإمبريالية، وبالتالي تحوّل نشاطه إلى شعارات بعيدة عن الواقع ذاته، فركز على ما هو خارجي وبعيد دون أن يلمس المشكلات المجتمعية.

من هذا المنظور كان اليسار بشقّيه لا يعي الواقع أو مشكلات الناس ولا يعتقد بأن الناس من الممكن أن تقوم بثورة، وهذا ما كنت قد ناقشته مع تيارات اليسار في ذلك الوقت، حاول البعض أن يلملم ذاته ولكن بقي محكوماً بأحد الخيارين، وظل مقطوع الصلة مع الأزمة المجتمعية العميقة التي تتمثل بالأساس في النمط الاقتصادي المهيمن في المجتمع.

رأسمالية بلا صناعة

الجديد: في كتابك “مشكلات الماركسية في الوطن العربي” قلت إن “كل الحلول التي تبحث في الاستقلال والتقدم خارج إطار الحل الماركسي غير ممكنة ولا تعدو أن تكون وهما، والحل الماركسي هو الحل الوحيد الممكن، ولا يمكن تحقيق التقدم إلا في إطار البحث في طريق الوصول إلى الاشتراكية”.. ما الذي يجعلك تقصر عملية التغيير والتقدم في الوطن العربي على الرؤية الماركسية في ظل الأزمات التي عانتها ولا تزال تعانيها في سيرورتها التاريخية؟

سلامة كيلة: حين نبحث في مشكلات الواقع الاقتصادية، نجد أن النمط الاقتصادي العالمي فرض تشابهاً كبيراً في أوضاع المجتمعات، كيف يمكن أن نحل مشكلة مثل البطالة؟ يجب أن ننتج وسائل اقتصادية تستوعب البطالة، وبما أن الصناعة تستوعب الحجم الأكبر من العمالة ينبغي أن تكون السياسة المتّبعة توسيع بناء الصناعة، هنا يطرح السؤال: هل الرأسمالية الحاكمة معنية بتطوير الصناعة؟ ما ظهر في السنوات الماضية أن تلك الرأسمالية هي التي دمّرت الصناعة، ولا توجد فئات رأسمالية أخرى يمكن أن تحمل مشروعًا صناعيًا، وحينما فكّر بعضهم مثل طلعت حرب انتهت التجربة وهزمت، يجب أن يكون بناء الصناعة خارج إطار الاقتصاد المفتوح. مع قيام الصناعة لا بد من حلّ مشكلة الفقر وإعادة بناء المجتمع على أساس يعطي للناس حقوقهم.

الجديد: تقصد أن الجانب الاقتصادي الذي تطرحه الماركسية هو الخطوة الأولى نحو التقدم؟

سلامة كيلة: بناء الصناعة حجر أساس، لكن القصة ليست أولاً وثانياً في التطور التاريخي إلا في إطار محاولات التطور العام، إذا أصبح هناك نظام معنيّ بتطوير الصناعة وبنائها وتغيير مجتمعي لا بد أن يعمل على إعادة بناء نظام التعليم، أيضًا سيكون مطلوبًا البحث في سبل تطوير الزراعة لأننا نحتاج أن نعيش في زراعات لا أن نستورد حتى الخبز، المسألة شاملة لكن النقطة الأساسية تتمركز حول كيفية بناء قوى إنتاج تسمح بتحسّن أوضاع الناس.

مرحلة النهوض

الجديد: أنت صاحب تجربة فكرية ثرية. ولدت في فلسطين وتنقلت بين عواصم عربية عدة. ما الذي منحتك إياه النشأة في فلسطين ثم التنقل ما بين بغداد وعمّان ودمشق والقاهرة؟ أيّ عوالم جديدة اكتسبتها ثقافتك مع كل ترحال إلى بلد عربي؟

سلامة كيلة: ولدت في مدينة بير زيت في فلسطين، عشت في مرحلة نهوض تحرّري عربي، والدي كان يعتبر نفسه ناصريًا رغم أنه لم ينتم للحزب، اللحظة التي شعرت فيها أنني تحولت من طفل إلى رجل هي لحظة هزيمة 5 يونيو/ حزيران، كان عمري آنذاك 12 عامًا، عشت بداية الحرب وبداية دخول الاحتلال الصهيوني، منحتني تلك اللحظة فهم لمعنى مواجهة إسرائيل وتحرير فلسطين والعمل بالمقاومة، وكانت بيئة بيتي تجعلني أفهم الأمور من منظور عربي.

منذ تلك اللحظة أنهيت نفسي كطفل وبدأت الاهتمام بالسياسة، بعد ذلك ذهبت إلى بغداد لدراسة العلوم السياسية بعدما صارت همّي الأساسي وكنت معنيا بهذا المشروع: أن أشتغل بالفكر السياسي وتغيير هذا المجتمع، أعطتني بغداد هذه الحالة من التركيز على الثقافة، كانت مكتباتها زاخرة بكل أنواع الكتب، وكنت معنيا بالقراءة في مختلف مجالات التاريخ والسياسة والفكر، كنت معنيا ببلورة بديل مختلف عن الأحزاب القائمة.

بعد ذلك جاء استقراري في دمشق وصرت جزءًا من حركة التحرير الشعبية العربية، دمشق تعطي حياة أخرى، فقد كانت جزءًا أساسيًا من حياتي، عشت مرحلة انهيار المعارضة السورية والأحزاب العربية، كان تركيزي على المستوى الفكري في القراءة والكتابة والبحث، وبدأت أصدر أول كتبي من دمشق في العام 1983 كان كتاب “نقد الحزب” لمناقشة بنية الأحزاب الاستبدادية وكيف تكون غير استبدادية، ومن هناك بدأت حركة النشر وعشت تقريبا عشر سنوات في دمشق ثم فترة الاعتقال ثماني سنوات، ثم بعد ذلك عشت ربيع دمشق بعد عام 2000 بعد موت حافظ الأسد، ومرحلة تمرير بشار كوريث، وبدأت حالة حراك كنت جزءًا منها وعضوًا أساسيًا بمنتدى جمال الأتاسي.

منذ العام 2007 بدأت أشعر أن المنطقة العربية متجهة نحو الثورة، وبدأ عملي من دمشق على هذا الأساس؛ مدى إمكانية بلورة أفكار جديدة، وأصدرت سلسلة “كراسات ماركسية” لأنني كنت معنيًا بالشباب في الأساس. توقعت أن تنطلق الثورات العربية من مصر، وعندما قامت ثورة يناير في مصر كنت مشاركًا فيها، أيضًا شاركت فيما بعد في الثورة السورية ونشطنا في دعم لجان التنسيق بعيداً عن الأحزاب التي دخلت في متاهات، وأصدرنا جريدة “اليساري” وبعد العدد الثاني اعتقلني النظام على هذا الأساس. بعد ذلك كانت القاهرة خيارًا لي بعد عودتي من المنفى في الأردن لأنها توفر لي فرصة البقاء ضمن دائرة الصراع والتواصل مع الكتل السورية والمصرية.

تجربة السجن

الجديد: تم اعتقالك مرتين من قبل السلطات السورية، الأولى في عهد حافظ الأسد والثانية بعد الثورة السورية.. ما تأثير تلك التجربة عليك؟

سلامة كيلة: على المستوى النفسي لم يكن لتلك التجربة تأثير كبير عليّ لأنني دومًا أعدّ نفسي لدخول السجن، لست من الأشخاص الذين يعملون في السياسة ولا يعرفون عواقب ذلك، فمن يغيّر المجتمع عليه أن يتحمل نتائج ذلك. طبعا تظل تجربة الاعتقال صعبة، فقد خرجت من سجن تدمر مريضًا بالسرطان فضلًا عن التعذيب والضرب الذي لقيته في المرتين، لكن كل شخص يمكن أن يستفيد من تلك التجربة بشكل أو بآخر، خلال فترة الاعتقال قرأت كمية كبيرة من الكتب لم يكن ممكناً قراءتها خارج السجن كما كتبت العديد من الكتب.

كنت شاعرا

الجديد: ما هي أبرز الكتب التي ساهمت في تشكيل وعيك الثقافي باكرًا في شبابك؟ وهل من أدباء بعينهم تفضل القراءة لهم سواء من العرب أو غيرهم؟

سلامة كيلة: في مرحلة الشباب كنت أقرأ الشعر، وكدت أصدر ديوان شعر لكنني تراجعت عن هذا المسار، قلت إن هناك شعراء كثر في العالم العربي لكنني أميل لشيء آخر أهم، قرأت لمعظم شعراء سبعينات القرن العشرين وكبار الروائيين المصريين. في الثمانينات من القرن الماضي قرأت روايات أكثر وشعرا أقل. في السبعينات من القرن العشرين قرأت ثلاثة كتب مثّلت أهم التيارات الفكرية: كتاب “البيان الشيوعي” لماركس وأنجلز، و”الميثاق” لجمال عبدالناصر، و”معالم الحياة العربية الجديدة” لمنيف الرزاز. وبدأت أقرأ في التاريخ، وقرأت الماركسية أكثر في العراق فضلًا عن التاريخ الفلسطيني والعربي، وكنت أربط مفهوم النظري بالواقع والتاريخ، وهو ما أوصلني لكون الماركسية منهج تفكير يتجاوز منطق الشكل لمصلحة فهم كلية البنية من السياسة والاقتصاد والتاريخ.

الجديد

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى