نصوص من ذاكرة الثورة السورية
مدينة تطفو على الجثث/ عزيز العلي
بعد ذلك اليوم تحول كل شيء، لقد خسرت البرود الذي كان يدمغني به كل من عرفني، لقد خسرته ولكني لم أكتسب عكسه أو أي صفة أخرى، باختصار أشعر بأنني تحولت لشبح مرئي يمشي دون كلام ودون أي رد فعل على أي شيء، لقد فقدت السيطرة على انفعالاتي وعلى جملتي العصبية بردود أفعالها كلها..
الجثث المتراصة قرب بعضها البعض، تطفو في مخيلتي كل صباح، كتلك الجثث التي كانت تطفو على النهر في ذلك اليوم الشتوي.
لم يكن قد مضى على استئجاري لهذا المنزل سوى سنة واحدة حينما اندلعت الاحتجاجات المعارضة لنظام الحكم في سوريا وللأمانة فقد كنت حياديا بطريقة أو أخرى تجاه هذه الاحتجاجات المتصاعدة.
كنت أسمع من أصدقائي الغاضبين من طريقة إدارة البلاد حججهم وأعجب باندفاعهم وبأحلامهم ولكن لشيء ما لم أكن أمتلك التفاؤل الذي كانوا يعيشون فيه، في الحقيقة ربما كانت التربية العائلية الصارمة التي كان والداي يمارسانها داخل المنزل هي السبب في ذلك، وفي الوقت نفسه كنت أسمع حجج أعمامي المعارضين لهذا الحراك من بدايته ولم أكن أقتنع به.
كان أحد أعمامي يحتج دائما بالتطور الحضاري الذي وصلته سوريا والذي لم تصل إليه أي من الدول العربية المجاورة حتى أنه قد وصل الأمر به في أحد النقاشات الصاخبة بالقول بأن معظم البلدان الأوروبية تطمح للوصول لمستوى الأمان الاجتماعي الذي نعيش فيه.
عمي هذا كان مختار إحدى القرى الملاصقة لمدينة دير الزور حيث كانت تسكن عائلتي كان يرفض فكرة أن الجسر المعلق في المدينة مبني قبل عصر الحركة التصحيحية، ولكن كل هذا النقاش كان يجري بعيدا عني.
في الحقيقة، باستثناء الاهتمام بعصافير الكناري التي كان يضمها منزلنا في حي الحويقة والتي جلبت معي زوج منها إلى حلب حيث بدأت بدراسة الهندسة لم يكن يشغل اهتمامي أي شيء آخر.
كان بيتي المستأجر قبل سنة في بناء مرتفع يقع في حي الأنصاري المجاور لبستان القصر مكونا من غرفة كبيرة تطل على الشارع حيث تظهر من بعيد مئذنة مسجد قباء، ذلك المسجد الذي كانت تبدأ قربه المظاهرات التي أعلنت عن وجه آخر ارتدته هذه المدينة، وجه تلون بالحزن حتى الأبد.
في ذلك اليوم خرجت مبكرا نحو الجامعة، كان الامتحان الأخير في ذلك الفصل الدراسي، دخلت قاعة الامتحانات دون الحديث مع أي من أصدقائي وخرجت أفكر في الأجوبة التي كتبتها.
لم أنتبه لما كان يدور حولي من همهمات، وحين حاولت الاستفسار من صديقي سعيد الساكن في حي بستان القصر عن إجاباته في الامتحان، صرخ بوجهي شاتما الجامعة والامتحانات ولا مبالاتي.
لقد كان يخفي دموعا لكنها غالبته ليحاول أصدقاء آخرون إبعاده داخل الحمامات، ومن ثم علمت بالأخبار التي تقول بحصول شيء يخص جثثا تطفو في نهر قويق الذي يمر من بستان القصر، عاد سعيد من الحمام والماء يقطر من جبهته وكان صوته أكثر ثباتا وهدوءا هذه المرة.
سأعود للبيت، لا معنى لبقائي هنا قال سعيد وهو يبتعد خارجا.
لحقته صامتا وبقي هو صامتا لم يسألني شيئا ولم أطلب منه شيئا.
كان الطريق للوصول إلى هناك ساعة تقريبا من المشي على الأقدام، لم نتكلم أي شيء خلال الطريق، كان يمشي بسرعة أكثر مني أحيانا وكنت أسبق أحيانا، لم أفكر بأي شيء تركت لنفسي حرية الخيال عن معنى وجود جثث تطفو على نهر في مدينة وادعة تسمى مدينة حلب.
وادعة لدرجة أن والدي كان مطمئنا أن الحالة الأمنية هناك ستظل الأهدأ مقارنة ببقية المدن السورية.
خطر ببالي في هذه اللحظة الاتصال بأبي شامتا، تذكرت عصافيري في البيت حيث كنت أفكر بوضعهم لدى سعيد عند عودتي لدير الزور حتى بداية الفصل الدراسي الجديد.
في الحقيقة كنت أحاول الهروب من تخيل ما سأراه بعد قليل والذي سيلازمني كابوسا لم أدر وقتها ما سيصنع بي.
وصلت للشارع المقابل للملعب البلدي عندما اكتشفت أنني لم أجد سعيد أمامي أو خلفي، لقد ضعنا عن بعض في زحمة الأفكار هذه.
لم آبه وتابعت طريقي نحو بستان القصر ودخلته من حاجز المشارقة الذي لم يكن مزدحما على غير عادته، أو ربما كان مزدحما لكن العناصر الأمنية المتواجدة عليه لم تكن تعيق حركة الداخلين والخارجين هذه المرة !
كان البشر جميعا يتوجهون هناك نحو جسر السنديانة كما كان يطلق عليه.
كان منسوب الماء مرتفعا على غير عادته، كان عقلي يرفض فكرة أنني سوف أرى جثثا للمرة الأولى في حياتي.
جثثا وليست جثة واحدة !
عقلي حتى الآن يرفض التصديق، حتما هناك خطأ ما، اقتربت من الماء أكثر متجاوزا البشر المتجمعين هناك، لم أبحث عن سعيد، كنت أحاول الابتعاد عن الناس كي لا يروا ملامح الخوف التي تقول أمي أنها تظهر على وجهي بطريقة غير رجولية.
كان النهر هادئا و من بعيد هناك بشر يمدون قصبا نحو الماء، وبعضهم الآخر يخوض في الماء حتى وسطه، كانوا يخرجون الجثث من النهر ويضعونها بالقرب من بعضها على ضفة النهر فيما بعضهم كان يحصي ويصرخ:
لك صارو تلاتين ….. صاروا خمسين… لك يا الله ما لنا غيرك يا الله…
حاول آخرون الوصول أبعد في النهر لانتشال جثث تطفو من بعيد، لكن رصاص القناص المتمركز في مبنى الإذاعة كان يحاول قنص الأحياء وربما كان يتسلى بقنص الجثث السابحة في مجرى النهر.
لقد كان الهواء بطعم الموت في ذلك اليوم.
شاحنات صغيرة بثلاثة عجلات مع عربات الخضار تكفلت بنقل الجثث من ضفة النهر نحو مدرسة اليرموك القريبة من المكان.
وهناك في باحة المدرسة حيث أخذتني قدماي دون إرادة مني كانت الجثث مكدسة قرب بعضها، معظمها مكبلة اليدين نحو الخلف بحزام بلاستيكي وآثار رصاصة حفرت عميقا في الرأس، معظم الجثث كانت لرجال أعمارهم تتراوح بين العشرين والخمسين مع جثث لبعض النساء والأطفال.
لم يطل الأمر طويلا حتى بدأت الأهالي تصل المكان بحثا عن أبنائها.
كانت امرأة عمرها يناهز الستين عاما مغطاة الوجه تماما وقد رفعت غطاء وجهها وهي تسير بين الجثث بخطى ثابتة، تميل نحو الأرض كل قليل وتتأمل جثة.
لقد كانت تبحث عن ابنها بين الجثث لكنها لم تجده.
في الوقت نفسه كان رجل يبكي وهو يضم جثة يحملها ويضعها قرب جثة أخرى ثم يضمهما معا، لقد كان يبكي ولديه الاثنين الذين اختفيا على حاجز المشارقة قبل أسبوع.
كان هناك بشر كثيرون يقلبون جثثا مشوهة المعالم بحثا عن أخ أو ابن أو صديق.
كان الحقد يملأ قلبي بطريقة لم أعرفها من قبل، شيء ما تغير فيّ للأبد.
————————————
عصر اثنين أحمر/ أبو الخلود
دخل التلفاز لأول مرة غرفة الأطباء المقيمين في مشفى الكُلْية الجراحي في الثلاثين من آذار عام 2011. وكان الحدث جللا، وكان دافعه أجلّ: فالسيد الرئيس سيلقي كلمة يطمئن بها الشعب، ويجلي له حقيقة التطورات الحديثة. وكانت التطورات الحديثة تعني بطبيعة الحال شغباً أثاره بدايةً مندسون في درعا والحريقة والحميدية وأمام السفارة الليبية، ثم توجوه بجمعة عزة في الخامس والعشرين من الشهر ذاته. شغب جعلَنا نحن المواطنين الصالحين نسأل أنفسنا ذاك السؤال المحرَّم: أهي الثورة؟
الغرفة الصغيرة البائسة التي لا يصلح حجمها لسجين سياسي يريد بعض الخصوصية أثناء تبرّزه، اكتظت بكل من يرتدي ثوبا أبيض. لأول مرة أشعر، وأنا الطبيب المقيم عامذاك، باتحاد حقيقي يجمعني مع المتخصصين والممرضات وفنّيّي التخدير. توقفت الحياة، وتُرك المرضى كالعِشار المعطَّلة، فصحّة البلد مقدمة على صحة قاطنيها، وإظهار ولائك أهم من إبراز كفايتك. وكانت البهجة عارمة: ها أخيرا من سيضع النقاط على الحروف، ويُحْكم المتشابه، ويرد التأويل.
وكان الخطاب ــ كعادته ــ بديعا، تستطيع تلمس ذلك من الروحانية التي استولت على المستمعين كما لو كانوا في جلسة ذكر صوفية. وكان الخطاب ــ كعادته ــ واضحا وقاطعا: “ما يحدث فتنة يجب وأدها، والفتنة أشد من القتل كما أخبرنا القرآن الكريم، ووأدها هذا واجب وطني وأخلاقي وشرعي، وكل من يستطيع أن يسهم في وأدها ولا يفعل فهو جزء منها، لا مكان لمن يقف في الوسط”. وكان الخطاب ــ كعادته ــ فعالا: صرنا ننظر في وجوه بعضنا، بحثا عن كل خائن لوطنه لا أخلاق له ولا دين، وعن كل من يعرف مشاركا في المظاهرات ولا يكتب فيه تقريرا. ثم أتى نيسان ربيعيا بحق، فكان اعتصام “ساحة الساعة” في حمص، وكانت “الجمعة العظيمة”، واندلعت مظاهرات حاشدة في دمشق ودوما وبانياس وحماة ودير الزور وإدلب. كان دخول التلفاز إذن أول إنجازات الثورة، لكنه لم يكن آخرها. اختلى بي صديق طبيب آنذاك وأسمعني تسجيلا للشيخ محمد سعيد رمضان البوطي يرجع إلى مختتم عام 2010. يقطع الشيخ درسا كان يفترض أن يتحدث فيه عن قضية معاصرة تتعلق بالاضطهاد الذي مارسه الخليفة المأمون ــ ومن خلفه المعتزلة ــ على الحنابلة وأهل السنة في مسألة خلق القرآن. ثم يقول إنه استخار الله بشأن الحديث عن نازلة ألمّتْ بنا في ذلك العام، ويقصد بالنازلة شح الأمطار ــ وهل عندنا نوازل سواها؟ ــ كان الشيخ غاضبا وهو يتحدث عن أسباب هذه العقوبة الإلهية، ويضع ثلاثة شروط لا بد منها إن أردنا أن يُستجاب لصلاة استسقائنا. وإلا فإن الأمر لن يقتصر على شح المطر، والآتي أدهى وأمرّ، ثم إن “رؤيا” أكدتْ له ذلك.
ما كان عندي وأنا أصغي لصوته أدنى شك في شدة غضبه وألمه، لكن أهذان هما ــ وفق مصطلحات الطب ــ التشخيص والعلاج؟ ثم آه لو أن النظام استجاب مبكرا لطلبات العلامة البوطي! فأغلق كازينو دمشق، واستتاب مخرج وممثلي مسلسل “ما ملكت أيمانكم”، ودعا إلى صلاة استسقاء وفق “المأثور عن المصطفى”، وأعاد المعلمات المنقَّبات إلى مدارسهن، لكان جنّب أرض الأمويين الخراب الذي سيحل بها، ولكان “الرخاء قد عاد”. وللإنصاف، قام النظام بعد أشهر بكثير من هذه التغييرات الراديكالية، بالضبط في نيسان الربيعي حين كنت أسمع التسجيل، لكن الأوان كان قد فات، ولم يعد الرخاء.
في تلك الشهور كانت عندي عادة غريبة في العودة من المشفى الواقع في حي ركن الدين سيرا على الأقدام متوجها صوب مخيم اليرموك، وحين وصولي مستهل شارع الثلاثين أتسلح بعبوة من مشروب طاقة، ثم أتابع سيرا لا تنغصه مفاجآت. لكن السادس من حزيران من العام نفسه، عام 2011، كان مختلفا. الوقت عصر، أعود من مناوبة الاثنتين والثلاثين ساعة، وأستطيع سماع إطلاق نار ورؤيةَ دخان آتيين من نهاية شارع الثلاثين حيث ينعطف ليصب في نهره الأم، شارع اليرموك. في منتصف ذلك المنعطف الجغرافي، يقع “مبنى الخالصة” التابع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ــ القيادة العامة، أو “جماعة جبريل” في اسمٍ أوجز وأدق.
سأعرف لاحقا ما حدث، ففي اليوم السابق توجه آلاف الشبان الفلسطينيين والسوريين إلى خط الفصل في هضبة الجولان، أو خط وقف إطلاق النار، لإحياء الذكرى الرابعة والأربعين للنكسة، مسيرة العودة كما أسموها.
كيف جرؤوا على فعل ذلك؟ الجواب بسيط: فقد سبق لهم أن فعلوه، في ذكرى النكبة من العام ذاته. وتم ذلك وقتها برعاية كريمة من النظام وفصائله الفلسطينية. أحدهم كان يريد صرف الأنظار عن بطش النظام الممانع بمواطنيه الثائرين. لكن الشبان نزعوا الشريط الشائك، وتوغلوا في الأرض المحتلة. ولدهشتهم، اكتشفوا أنه لا حقول ألغام، ولا بطاريات صواريخ، ولا أنهار من تماسيح وحمض مركز، ولا عاهرات يهوديات مزنرات بقنابل نووية، ولا شيء مما بخشوا مؤخراتنا به على مدى عقود يحول دون تقدم جنودنا البواسل، شريط شائك فحسب كالذي تسيج به حديقة منزلك، يا من ليس لديك منزل ولا حديقة.
الأرض المحتلة فعلا على مرمى حجر، ولا يحتاج الأمر جيوشا تستعبدنا وتستنزفنا بحجة الاستعداد للمعركة ومتطلبات التحرير. يومها قُتل أربعة شبان برصاص الاحتلال. في ذكرى النكسة كان “جيش الدفاع” أو “تسفا هاجاناه ليسرائيل” قد تعلم من المفاجأة واستعد لها جيدا: كان هناك أربعة وعشرون قتيلا، وأصيب العشرات. الشهداء فلسطينيون وسوريون، وأكثرهم من مخيمَي اليرموك وخان الشيح. في السادس من حزيران إذن، كان أهل اليرموك يدفنون قتلاهم في المقبرة الجديدة. موكب من سيارات فارهة لحق بهم. كان فيه فيمن كان القيادي ماهر الطاهر، وهو واحد من “جماعة جبريل” تخال إذا سمعته أنه كان من بين البلاشفة الذين فجروا “ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى”. كل ما أراده المسكين هو إلقاء كلمة، فهذا ما يجيدونه حين يجيدون فعل شيء. وُوجِه هذا بالرفض من المشيعين الذين اتهموه واتهموا فصيله بالعمالة والمتاجرة بدماء الناس. كان الوعي قائما منذ مسيرة ذكرى النكبة أن هناك استغلالا من النظام والفصائل الفلسطينية الحليفة التابعة له لهذه المسيرات بهدف التغطية على الأحداث في سوريا. أرادوا خروجه من المقبرة، رفض، أطلق حارسه الرصاص في الهواء لإبعاد المشيعين المحتجين، وهُبْ! بدأت الحفلة، وأكثر حفلاتنا دامية.
توجه المشيعون إلى مبنى الخالصة. كان موجوداً فيه آنذاك الأمين العام، أحمد جبريل ما غيره، ونائبه، وسواهم. تعرض المتظاهرون للرصاص الذي أوقع عدداً من القتلى والجرحى، فأحرقوا المبنى وسيارات كثيرة تابعة “لجماعة جبريل” يعرفها ذوو الشأن من أرقامها، وفرّ الأمين العام وسائر القادة في سيارات الإسعاف. كذا كان الوضع حين عدت عصر ذلك اليوم من مشفى الكلية الجراحي. بعد تعريجة قصيرة على المنزل ذهبت إلى مشفى فلسطين. لم أكن أعمل فيه، كان فيه في تلك الأيام من الكادر الطبي من يكفي جائحة. أردت رؤية الوضع، وكان كارثيا، وكانوا بحاجة لأي متطوع في قسم الإسعاف، فالجرّاحون كلهم في غرف العمليات. بقينا في مشفى فلسطين حتى ساعات الليل المتأخرة نستقبل المصابين. كنتُ غض العود بعض الشيء حينها، فلم يبد لي أن للأمر نهاية. لكن المطمئن في الموضوع هو أن معظم ما سبق كان يتم على مرأى من “قوات حفظ النظام” التي هرعت إلى المخيم، لكنها آثرت عدم التدخل في إشكال فلسطيني- فلسطيني!
ومثل كل مجتمع ديمقراطي شعبي كمجتمعنا، يتلو كلَ حادث مفاجئ حفلةٌ من التهريج الرديء. منذ اليوم الأول تحدثت إذاعة “القدس إف إم”، وهي نسخة القيادة العامة من جريدة البعث، عن مسلحين ومندسين. منذ اليوم الثاني تكشّف لدى المتحدث باسم القيادة العامة أنور رجا أن “المجموعات التي قامت بمثل هذا العمل لا تمت للمشهد السياسي الفلسطيني بأية صلة، وقد ثبت أن عددا منهم له علاقات مشبوهة بالداخل”، وهذا الداخل هو مرة سلطة عباس، ومرة محمد دحلان. منذ اليوم الثالث هرع أحمد جبريل وقادة حماس والجهاد وجبهة النضال الشعبي (نعم! عندنا فصيل بهذا الاسم) إلى نوبة إبداعية من الكذب والهذيان. والكذب والهذيان عَرَضان يشيعان عند الخوف. جبريل كان دقيقا: تحدث عن تتبعهم خط أموال من السعودية إلى اليرموك عبر رام الله، ووعد بكشف التفاصيل، ولست أدري إن فعل. بل إنه تبرأ من مسيرة ذكرى النكسة واتهم رئيس «حركة فلسطين حرة» ياسر قشلق ــ وهو بالمناسبة من أذناب النظام ــ بجلب الحافلات وأخذ الناس إلى الحدود.
كنتُ محظوظاً أن وقع بين يدي الكتاب الطريف /المخزي/ المؤلم الذي أصدرته جماعة جبريل بعد ذلك لتشرح فيه أحداث الخالصة. فهذا الكتاب يشكل في مجاله تحفة فنية بكل المقاييس تُبين ما تمارسه الأنظمة الشمولية المستبدة وتوابعها من تشويه للوعي، وتحريف للحقائق، وصناعة للتاريخ الزائف.
مشكلة كثيرٍ من الفلسطينيين تجاه جماعة جبريل مزدوجة: فهم أولا جماعة جبريل، وثانيا فصيل فلسطيني.
ولأن التاجر إذا أفلس فتح دفاتره القديمة، ولأن الفصائل الفلسطينية أفلست، تراها تعود إلى إستراتيجيتها البقريّة المفضلة المتمثلة باجترار إنجازاتها. فصائل لا تعتمد في مواردها على شعبها، ولا تأخذ في انحيازاتها السياسية واصطفافاتها الإقليمية مصالحَه. فصائل تتحدد مكانتها على الخريطة الفلسطينية بحجم أموالها وبقدرتها العسكرية ودعمها الخارجي، لا على حجمها التمثيلي عند الشعب الفلسطيني. هي أنظمة عربية مصغرة، ليس في معجمها السياسي المعاصر غير “إما معي أو ضدي”، يترعرع فيها الفساد وتنتشي الزبائنية، لا تُسأل عما تفعل، لا هي تبني وطنا، ولا هي تحارب عدوا، ولا هي تشهر أعضاءها التناسلية إلا في وجه شعبها. يعرف كل شعب عربي معنى أن يحكمك نظام عربي، فكيف بك بشعب يحكمه أربعة عشر نظاما عربيا معا، زائد خمسة؟
مشكلة كثير من الفلسطينيين أنهم لا يقرؤون تاريخهم، مع أنه أقرب إليهم من يومهم الذي يعيشونه.
موقع سرد
—————————
فرانشيسكو: دمشق – عنتاب/ آدم الشامي
“سأطلب لك على ذوقي!”.. في تلك السنوات العجاف التي كنت لا أملك فيها في أكثر أيام الرخاء ما يزيد عن 50 ليرة سورية؛ يجب أن أصرفها على يومين في المواصلات! أجلس مع شابين يعمل والداهما في مجال النفط، ويدرسان الهندسة النفطية في إحدى الجامعات الخاصة! وكنت أشعر بالجوع ولم أخبرهما أني كذلك، ولا حتى أني لا أملك شيئا لأطلب طعاما في ذاك المطعم الفاخر، في أفخم تجمعات دمشق السكانية الطبقية، الطائفية، الأمنية.
يومها سألني أصغرهما وهو يصغرني بعشر سنوات تقريبا! إن كنت سأطلب أي طعام، وأثناء سؤاله كنت أخاطب نفسي بأني بقيت نصف ساعة أسير حتى عثرت على هذا المطعم “المشهور” على حد تعبيرهما.. وأن عددا يصل إلى عشرة أشخاص يقطنون في ذات المكان لم يسمعوا به قبلا.. يبدو أن حالهم كان كحالي!
كان لقاء لهدف نشاط سياسي ثقافي قبل الثورة بثلاث سنوات تقريبا؛ حيث كنا في عنفوان شبابنا وكنا لا نهاب الأمن وسطوته رغم كل ما نسمعه.. وكان اختيارهما لهذا المطعم من باب التكريم لي، ومن باب أنه لن يكون مثار شبهات أمنية.. يومها رفضت الطلب بحجة أني شبعان وأكلت قبل أن آتي.. فأصرا على الدعوة وقال لي أصغرنا: “سأطلب لك فرانشيسكو! هذا المطعم أطيب من أعدها في دمشق” في الواقع دُق الاسم في رأسي كما المسمار، وأحسست أني أسمع الاسم لأول مرة رغم كل من حملوا هذا الاسم من الدكتاتور الشهير فرانكو إلى كل لاعبي كرة القدم وغيرهم.. لقد كان لسيل اللعاب أثر جعلني أبلع رياقي تكرارا وبدا بعضه على حواف فمي، وصارت معدتي تصدر أصواتا عجيبة.. وكانت فعلا من أشهى ما تناولته! وبقيت لسنوات أقنع نفسي بذلك، حتى أن هذا الطبق ارتبط عندي بالفخامة والرخاء والجلسات المخملية!.. المفارقة أني كنت أتناول هذا الطبق لأول مرة في حياتي؛ ولذا لم أكن أعلم إن كان فعلا أطيب من أعده في دمشق، أم أنه أسوأها! وكنت بحالة يرثى لها من الجوع والحرمان وأريد أن آكل فقط وبالتالي كان أي شيء أتناوله سيكون غاية في اللذة والطيابة!
وتطوي السنون أحداث الثورات العربية – السورية، ويبدو المشهد من غازي عنتاب – تركيا بعد اثني عشر عاما مقلوبا.. أجلس في كافتيريا فخمة لا يزورها إلا الرواد الأجانب لذا نسمع فيها من يرطن بكل اللغات.. ويخامرني الجوع؛ ولعلمي وأنا في وسط عملي على بحث علمي أن لا طعام في هذه الكافتيريا الفخمة؛ قصدت الخارج أسعى وراء أي مطعم سوري لأتناول غدائي.. ووفقت بواحد قريب وشبه مخفي في مكان كأنه يقول “لا أريد أن أكون متاحا لكل الناس.. أريد أن أكون مخصصا لبعضهم”. وقفت أنظر إلى قائمة الطعام وكلها أطباق غربية؛ وفجأة لمعت في رأسي تلك الذكرى؛ ربما لأني لم أجد اسم تلك الوجبة في القائمة؛ فقررت أن أطلبها! وربما لأني مللت من التكرارات في حياتي وذات الطعام في كل مطعم.. فقال لي الشيف: “لا توجد، لكن دُلني عليها لأحضرها لك!” وأخبرته بمكوناتها فقام من فوره لتحضيرها.
جلست وبعد عشر دقائق أحضر لي ما طلبت؛ وبتلك الشهية التي انتابتني في دمشق كنت في عنتاب أتناول ذات الطبق الذي حضره عامل مطعم سمع باسمه توا! وكان بذات المستوى من الطيابة. في القضمة الأولى عادت إلي الذكرى قبل اثنتي عشرة سنة وكأنني في دمشق.. بقيت ألوكها وأغبط نفسي على هذا الهناء الذي حظيت به وكنت أفتقده منذ سنوات.. لقد أشبعت هذه القضمة فيني جوع حرمان الشباب الذي تجدد مع الثورة وصار وحشا يلتهم كل ما حلمت به، أو ما كنت أستمتع به حتى الذكريات.. في القضمة الثانية بدأت أتحسس بلساني الطعمات المتجانسة والتي تمتزج كما الألوان في لوحة زيتية لتصنع تحفة إبداعية ما؛ وفي تلك اللحظة التي كنت أتأمل فيها التفاصيل كنت أفسد متعتي دون أن أدري.
بدأ الأمر مع الدجاج، صدور الدجاج ذات طعمة فاهية دون أن تعني شيئا لمتناولها، ولولا هذه البهارات التي تضاف إليها لما كانت بهذا الطعم؛ البهارات التي كانت موضوع نقاش غبي مع طالب دكتوراه في العلوم الاجتماعية تركي متعصب، ويسخر من السوريين ويسيئ إلى عاداتهم لأنهم يستخدمون البهارات في الطعام بكثرة! كان جوابي يومها حاسما ومباشرا ومهددا بمكانته العلمية أمامي، البهارات التي رسمت الكثير من ملامح العصر الحالي إن لم تكن أهم العوامل التي ساهمت بذلك. طريق الحرير، واحتلال الهند واكتشاف رأس الرجاء الصالح، واكتشاف أمريكا نفسها وحتى حفر قناة السويس.. كلها كانت للوصول إلى مصدر التوابل والبهارات في الهند. وكل هذه الأحداث كانت عوامل حاسمة في خارطة السياسة الحالية. كيف لطالب دكتوراه أن ينكر فضل التوابل على العلوم الاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية؛ وكيف له أن لا يتفهم أن التنوع في الطعام دليل على قيمة حضارية عالية للشعوب! لم يكن يعلم أن هذه النقاط يعلمها أي طالب في الثانوية الأدبية في سوريا! تبا لدولة لا تعتني بطلابها وخصوصا إن كانوا من الجنس البشري العبقري الذي نسميه السوريين.
القضمة التالية تذكرت أن صدر الدجاج يحتوي على أكبر كمية من البروتين يحتاجها الجسم ويتناولها الرياضيون بكثرة، رونالدو لا يتناول إلا الدجاج على الغداء والعشاء؛ هكذا سمعت! حتى يحافظ على جسم مشدود وعضلات منحوتة؛ تذكرت أن أهلي لا يستطيعون أن يبتاعوا نصف صدر دجاج ليعينهم على رياضتهم في الصعود والنزول على درج البناء ذي الأربعة طوابق وهم المسنون! ابنة أختي ذات الستة عشر ربيعا هاتفتني منذ أيام: “خالي لا يمكننا التفكير بالمستقبل، بل لا يمكننا التفكير بالغد.. كل ما نفكر الآن به هو تأمين طعامنا كل يوم بيومه!.. لا يوجد طعام هنا!”
الذرة؛ حين اجتزت الحدود السورية باتجاه تركيا سرت لساعة ونصف في حقل من الذرة! لم أتخيل في حياتي أن حقلا بهذا الحجم موجود في العالم! وليس أي مكان على الحدود مباشرة مع سورية؛ تنتقل من الصحراء لتجد غابة من الذرة في الأرض التركية التي كانت بالأساس سورية.. بلادنا تصبح جنة في أيدي الأعداء!..
الخبز؛ قالت لي أختي: “بقينا ثلاثة أيام حتى حصلنا على ربطة خبز واحدة! نمنا ليلتين دون طعام..” في أرض كانت تحمل القمح للعالم بات أهلها جياعا.. الجبنة؛ تذكرت أن والدي لم يتناولها منذ سنوات.. الفطر طبق مميز كانت تعده لنا والدتي ربما نسيت كيف تعده بعد طول انقطاع. حين انغمست بالتفاصيل اكتشف أن شريحتي مخلل كانتا في نهاية الوجبة ولا أظن أنه يوجد غيرهما!، لكنهما كانتا الشماعة التي رميت عليها مشاعر الأفكار التي عكرت صفوي! “سامحك الله.. مخلل مع طبق غربي؟!” وكدت أغص عند ابتلاع آخر لقمة.
يبدو أننا سنبقى غير هانئين في الطعام حتى تفرج على أهلنا في الداخل؛ في لحظة من الانفعال امتلكت كل كياني وأظهرتني بمظهر المستاء، سألني العامل وأنا أهم بمحاسبته: “كيف كانت؟” أجبته – وملامحي تقول عكس ذلك، وأظنه أحسني أتملقه! لأنه تبرم من ملامحي المتجهمة؛ رغم أني كنت صادقا بكل حرف – قلت وبوجه كما القناع دون مشاعر: “لم أتناول طعاما بهذه الطيابة منذ أعوام!”.
موقع سرد
———————————
مَن مِنّا كان مُخطِئاً؟!!/ مدى الخطيب
أعوام خمسة مرّت على سفر محمود إلى أوروبا بقصد اللجوء، أتذكر تلك السنوات بحُرقة شديدة وأنا أسترجع اللحظات عندما جاء إليّ مبتسماً وفرحاً بأنه توصل إلى قرار “قررت سافر ولا تسأليني لماذا، خلص قررت”. تعود لي هذه الذكريات التي تدفئني من الداخل فمحمود أصبح بأمان، لكنها تمزقني أشلاء أيضاً، تجرني من عنقي مرغمة إياي على تذكر تفاصيل وأحداث كانت لا تعنيني في وقتها، أو أنها كانت خارج حساباتي، فلم أكن أراها بوضوح، كان الضوء غير كاف، والظلام دامس في الخارج وفي داخلي.
محمود، ابن خالتي، يبلغ من العمر الأربعين عاماً، موظف ولديه ثلاثة أبناء، وزوجته أيضاً موظفة في إحدى مؤسسات الدولة، منذ صغرنا وأنا على خلاف معه في الآراء، أي كان الحديث الدائر بيننا يؤدي في النهاية إلى احتفاظ كل منا برأيه بعيداً عن الأخر، لتأتي الأحداث التي بدأت في سورية في آذار عام 2011، وتعمق الهوة بيننا، كلما كنت أقول له: “وأخيراً بدأت الثورة ضد الظلم والطغيان والديكتاتورية”، كان يرد علي منزعجاً، “بل هي المؤامرة الكونية على نظام ممانع ويقف وحيداً ضد إسرائيل وأمريكا”.
ازدادت خلافاتنا أكثر بعد أن خرجت بثينة شعبان في نهاية شهر آذار 2011، وهي تتحدث عن أهمية زيادة الراتب والوضع المعيشي للمواطن، فكان سعيداً هو وزوجته بهذه الزيادة ويرددان على مسامعي، “هل هذا النظام الذي نعيش في كنفه تقومون بالثورة للإطاحة به، وهو الذي يقدم لنا امتيازات، كالراتب والطبابة والتعليم المجاني والقروض الميسرة للموظفين”.
لم يستوعبوا يومها كلامي بأنها ليست امتيازات ولا مكرمة، بل هي حقوق أي مواطن يجب أن يعيش في الحد الأدنى من مُواطَنَته، هي حقوق لكل فرد في كل دولة تحترم شعبها، لكننا دائماً كنا نختلف، ويعلو صوتنا، وفي كثير من الأحيان يصل الزعل إلى حدّ القطيعة لفترة زمنية..
إلى أن جاءني في العام 2015، وقال: لقد قررت السفر، ولا تسأليني لماذا خلص قررت. كان يعرف أنني سأفاجأ بقراره هذا، وهو الذي كان لا يستطيع العيش بغير سوريا لما فيها من امتيازات ومنح، ليغير رأيه ويقرر السفر إلى أوروبا عن طريق البحر، فسألته مستغربة: وكيف ستسافر، وبأي طريقة؟ قال سوف أسافر عبر تركيا، تهريب، في البحر، كما يسافر معظم السوريين في البلم. لم أعد أستطيع الاستمرار هنا لقد ضاقت علينا البلد من جميع الاتجاهات، طاقتي نفذت.
يصمت قليلاً، ثم تخرج منه الكلمات مترددة قائلاً: أريد أن أوصيكِ بوالدتي وعائلتي إذا حدث معي شيء ما، أو متّ، أنا أعرف أنكِ تستطيعين تحمل المسؤولية، ورغم خلافي الدائم معكِ، لكن أنا أثق بكِ وبرأيكِ.
كيف ستسافر يا مجنون فالبحر التهم الكثير من السوريين، ولمن ستترك البلد في مواجهة المؤامرة الكونية، عائلتك ووالدتك كيف سيعيشون، فهل هذا هو الموقف الوطني والأخلاقي لك؟
فردّ باسماً ساخراً، بالنسبة للبلد سأتركها لك، كي تبقي على صراع دائم مع النظام، الذي هو أسوأ من كل التصورات، أما عائلتي، فإن وصلت حيّاً، سوف أقدّم لهم طلبات اللجوء لأضمن لهم مستقبلهم، ووالدتي، فلها الله، وهذا قَدَرنا وقَدَرها، أما أنت، فتعالي وسافري وبلا (زعبراتك) الوطنية وحب الأرض، فهي لا تغنيكِ عن الأكل والجوع. فعاد الخلاف مجدداً بيننا، واتهمته بعبارات قاسية، بأنه انهزامي، واستغلالي، وهارب من تحمل المسؤولية.
كان إحساسه يومها مضاعف بالخواء وفوضى ضاربة أطنابها داخل عقله وخارجه، لم يعد يملك أي خيار يجعله متمسكاً بالبقاء في سوريا، استنفذ جميع الوسائل التي من الممكن أن تجعله متمسكاً بالبلد.
سافر محمود، وقطع الحدود كما كل السوريين المهاجرين المغامرين، واضِعاً حياته في مهبّ الريح، وقد يغرق بالبحر كما غرق الكثيرون، أو قد يموت عطشاً أو جوعاً في البراري كما مات الكثيرون ضحية استغلال المهربين لهم.
لكنه وصل أخيراً واستقرّ في هولندا، ووُضِع في مقرات جماعية كما كل اللاجئين، وأصبح يتقاضى راتب اللجوء، ويتعلم اللغة الصعبة عليه، وكان يُرسل لأسرته مبلغاً شهرياً يعيشون منه في غيابه، كما أنه كان يُخصص مبلغاً لوالدته التي لم يستطع تقديم أي مبلغ مادي لها في الماضي نظراً لظروفه الصعبة، فكان راتبه مع زوجته لا يسدُّ معيشتهم.
وبعد عام أرسل خلف عائلته، وحصلوا على موافقات لمّ الشمل وسافروا، ووُضِع الأولاد في مدارس لهم، كما التحقت زوجته في معهد لتعلم اللغة، وغدا لكل فرد منهم راتباً.
لكنه لم ينسَ والدته فكان يخصص لها مبلغاً شهرياً لم تحلم به من قبل، وكان يقول لي في رسائله عبر الانترنت، بأنه يستطيع مساعدتي مادياً، وكان يطلب مني ألا أتردد في طلب المساعدة، فهو مرتاح مادياً مع عائلته.
في حواراتنا عبر الرسائل من خلال التواصل الاجتماعي، كان يقول لي، بأنني دائماً كنت على حق في رأيي وموقفي من النظام، فهو كان يعلم ذلك، لكنه كموظف ومراقب أكثر كان الخوف يسيطر عليه، وكان يقول لي لا يوجد موظف يرضى عن عيشته، ولكن لا توجد بدائل.
قال، نعم كنا جبناء، ولكننا ككل السوريين مُحاربون في لقمة عيشنا، وعليك أن تغادري البلد، فلا شيء يمكن أن تفعليه وأنت في الداخل..
كنت أختلف معه مجدداً، لمن سنترك البلد، فهل نتركها للغرباء الذين جاؤوا من كل أصقاع العالم ليطردوا السوريين؟!
فكان يجيبني، هل تذكر قصيدة محمود درويش هي هجرة أخرى؟ لقد كان يتحدث عنا نحن السوريين، فنحن الذين كُتب علينا الرحيل والهجرة.. فلا تبقي وحدكِ.
بعد خمس سنوات على سفره مع عائلته، أصبح يتمتع بحقوقٍ لم يحلم بها من قبل، حصل على أوراق الإقامة ما قبل الجنسية، التي تُؤهله السفر إلى كل دول العالم باستثناء سورية، أصبح انساناً في دولة غريبة عنه وعن عادات مجتمعه، وأصبحا في بلدنا غرباء..
فمَن مِنا كان مُخطئاً في قراره وخياره، هل هو الذي سافر وترك العواطف والحنين، أم أنا التي بقيت غريبة في وطني؟
هي معاناتنا الجماعية، والتي تحولت إلى خلاصٍ فردي، لا أملك حالياً إلا الدعاء له بالتوفيق، والدعاء على مَن أوصلنا إلى هذه الحالة، مؤلمٌ أن تصل إلى قناعة أنك المخطئ في البقاء، في وقت لا تستطيع فيه المغادرة إن قررت الرحيل!!
———————————-
ساعة انهدم الجدار/ سلامة الريان
«الأرض ترتجّ، كأن زلزالاً يموج، الصراخ والأنين يعلو بين الحارات والأزقة.. سيارات “السوزوكي” هي سيارات الإسعاف، وفريقها من شباب البلدة المتطوعين لإغاثة أهاليهم وجيرانهم.. ومنهم من قدم روحه فداءً لإنقاذ الآخرين.. مع كل قذيفة دبابة أو مدفعية أو صاروخ جويّ أو برميل متفجّر، تنهار بناية، أو يودّع بيتٌ ساكنيه».
دموع “عُلا” تتسابق كقطرات المطر تروي خدودها، وهي تروي لي مأساتها ومأساة بلدتها “كفر بطنا”، البلدة الريفية في “ريف دمشق” الشرقي، حين اجتاحتها جحافل “حماة الديار” مطلع آذار عام 2018.
“علا”، جارتي الجديدة التي نزحت من بيتها، هاربة من جحيم النار والبارود، حطّت بها الرحال في السويداء مع أخيها وخالها وعائلته.. روت لي ما بدا أكذوبة لا يصدّقها العقل، غير أنّ من رأى ليس كمن سمع…
«كنت قد انقطعت عن متابعة الدراسة في الجامعة، بسبب إغلاق المنطقة وحصارها، واعتبارها خارجة على النظام، أو مستقلة عنه. كنا نعيش حصاراً وظروفاً صعبة للغاية، امتدت لسنوات، ونعتمد في معيشتنا على خيرات الأرض، وما يصلنا بين الحين والحين من مساعدات إنسانية خارجية بشكلٍ أو بآخر. تعمّد النظام قطع الكهرباء والماء والمدد التمويني، وكل ما يمكّن البلدة من الصمود، بهدف دفع الأهالي للاستسلام، غير أن البلدة صمدت بشيبها وشبابها ونسائها وأطفالها، رغم وجود الكثيرين من أصحاب النفوس الضعيفة، الذين يحتكرون المساعدات والمدد، ويتحكّمون بالموارد التموينية والمحروقات، ويبتزون من بقي لديه مالاً، حتى الماء عزّ وجوده وأصبح مصدر استرزاق.
تأقلمنا مع الواقع المفروض وأملنا كان ألا يطول الحصار. كنا نتابع أخبار المعارك على مختلف الجبهات، ورغم التراجع الكبير للثورة في معظم مناطق القطر، كنا قد عقدنا العزم ألا نستسلم ونسلّم أرواحنا للجلّاد، على أمل ضئيل بأن تهبّ باقي المناطق، وتنقلب معادلة الثورة.
حين وصلتنا الأنباء عن هجوم كبير يحضّره جيش النظام مدعوماً بالطيران الروسي والميليشيات الإيرانية واللبنانية والعراقية والأفغانية وووو، قررت قيادات الثوار والتنظيمات المسلحة في منطقتنا، أن تخوض الحرب حتى آخر طلقة، وقرروا التفاوض مع النظام على إخراج النساء والأطفال والشيوخ، لعلمهم أن المنطقة ستكون مسرحاً للقصف المدفعيّ، وتحت رحمة الدبابات وراجمات الصواريخ، والقصف الجوي من طيران النظام والطيران الروسي الذي يجرّب أحدث أسلحته فينا.
أعطى النظام مهلة 48 ساعة لخروج المدنيين من البلدة، وابتدأت حركة النزوح المذلّة. لكنّ القصف ابتدأ منذ صبيحة يوم الهدنة، وضاعف الطيران هجماته في اليوم الثاني، رغم كثافة حركة النزوح.
وتفاوتت الأرقام المعلنة بشأن أعداد المدنيين الخارجين من الغوطة الشرقية، بين ساعة وأخرى، تعلن الأمم المتحدة أن ما بين 12 و16 ألف شخص غادروا الغوطة الشرقية في اليومين الماضيين، في حين أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان بمغادرة حوالي 20 ألف مدني يوم الخميس أول أيام الهدنة، معظمهم من بلدتي “سقبا” و”كفر بطنا”. ورغم أن المرصد أشار إلى أن “غارات روسية كثيفة” استهدفت بلدتي “كفر بطنا” و”سقبا”، وتسببت بمقتل 80 مدنياً على الأقل، بينهم 13 طفلاً قتلوا وأصيب عشرات آخرون، إلا أن الحقيقة كانت أفظع من ذلك بكثير.. عائلات بأكملها دُفنت تحت ركام بيوتها، وكانت الأشلاء تملأ طرقات البلدة، والإصابات بالآلاف.
لكن أعلن فيما بعد، أن الهجمات على الغوطة الشرقية انتهت إلى مقتل 1350 مدنياً بينهم 270 طفلاً، ناهيك عن آلاف الإصابات.
المضحك المبكي يا صديقتي، أن وكالة أنباء النظام “سانا” كتبت: لقد لعب الأهالي في بلدة “كفر بطنا”، دوراً مهماً بتحرير بلدتهم، حيث قاموا بمساندة الجيش العربي السوري عبر طرد الإرهابيين منها الذين اتخذوهم دروعاً بشرية، ليقوم الجيش على الفور بتأمينهم داخل منازلهم، حيث ما يزال يقطن في البلدة ما يزيد على 12 ألف مواطن.
والمفارقة العجيبة أن تعداد سكان “كفر بطنا” وحدها كان ينوف عن 140 ألفاً.
كذلك قرى وبلدات “حزة” و”سقبا” و”حمورية” و”جسرين” و”عين ترما” و”زملكا”، طالها الدمار الكبير كالأضرار التي لحقت ببلدة “كفر بطنا”، وهُجّر معظم سكانها، عدا عمّن قضى تحت أنقاض البيوت المدمّرة».
– لكن أين هم أهلك؟ لم أرَ سوى أخيكِ المصاب برجله؟
– «لم نكن نعلم أن الأمور ستسير بهذه السرعة. لم يكن لدينا خيار سوى الهرب. أبي كان يمشي على عكاز، لأنه أصيب برجله قبل عام ونصف، حين كان يساعد على انتشال أفراد عائلة، دكَّ الطيرانُ بيتهم، وأمي كانت مريضة بالربو منذ سنوات.
كانت الفوضى تعم البلدة، والأصوات المختلطة من الصراخ والنواح والاستغاثة لا نستطيع تحديد مكان لها.
سقطت قذيفة بجوار بيتنا ونحن في الطابق الثاني، وهدمت منزل جيراننا على من فيه. شظيّة كبيرة اخترقت النافذة، وأصابت رجل أخي ذي السنوات العشرة وحطمتها. حملته على كتفي ونزلت به مسرعة، لأسبق به أبي وأمي وأختي، لنسقط معاً عند مدخل البيت، وقد صمّت آذاننا القذيفة التالية التي أصابت طابقنا العلوي. لملمت نفسي بعد الصدمة رغم بعض الجروح الطفيفة، ناسية أخي المصاب.
صعدت الدرج ذاهلة. كانت القذيفة قد أصابت جدار غرفة النوم- تتسابق دموع “علا” على خدودها وتقلّدها دموعي- تداعى الجدار مع جزء من السقف على أبي وأمي وأختي الصغيرة ذات الأعوام الخمسة، كأنه الكابوس، رأيت دماءهم تسيل باتجاه العتبة ولا نأمة لهم، والنار أخذت تلتهم الستائر على الجدار الواقف.
أيقظني من كابوسي صراخ أخي في الأسفل، وصوت الطائرة الزاعق فوقي، والانفجارات المتتالية حولنا. لا أدري كيف نزلت، وحملت أخي المصاب وجريتُ به.. جريت أكثر من ثلاثة كيلومترات، ولم أعد أنتبه إلى الدمار والنار وتطاير الركام من حولي، بل لم أعد أشعر بشيء، كأنني أسير في حلم كابوسيّ على غير هدى. حين صحوتُ كنت في مشفى المجتهد، وخالي إلى جانبي، طمأنني عن أخي في الغرفة الثانية، ثم اصطحبنا في اليوم التالي معه إلى هنا».
أهالي الغوطة الشرقية المهجرون من منازلهم، وزعهم جيش النظام على أكثر من عشرة مراكز إيواء متباعدة، في أطراف “دمشق”، ومنع عليهم الخروج أو التحرك خارج حدود المخيمات، حيث تمت مصادرة هوياتهم ووثائقهم الثبوتية منذ وصولهم إليها، تحت مسمى تصحيح الأوضاع، فيما بدأت الأمراض المعدية بالانتشار نتيجة الكثافة المرتفعة وقدوم فصل الصيف، حيث لا تزال الخدمات الطبية قاصرة عن تأمين احتياجاتهم، ولا سيما مع ارتفاع معدل المواليد الجدد.
بالإضافة إلى العنصرية المقيتة التي عانى منها نازحو الغوطة الشرقية من مؤيدي النظام، حيث يمتنعون عن التعامل معهم، ويمنعون وصول أي مركبات تحمل مواد غذائية أو دوائية لهم… فرضوا حصارا إضافياً فرضته المليشيات المؤيدة للنظام، الذين حرّضوا على إبادة كل من تبقى من أهالي الغوطة، باعتبارهم كانوا حاضنة شعبية للثوار والمعارضة على مدى سبع سنوات.
أما الآلاف من سكان الغوطة العالقون داخلها، ورغم تحريرها المزعوم من الإرهاب، وعودة الأمن والأمان إليها، وانتشار الشرطة العسكرية الروسية وقوات جيش النظام… فقد مُنعوا من مغادرتها أو حتى مغادرة حدود بلداتهم إلى بلدات مجاورة، في الوقت الذي كانت فيه المليشيات الداعمة للنظام تقوم بعمليات سرقة وتعفيش لمنازل المدنيين ومحلاتهم التجارية، كما تقوم بتجريف بساتينهم وحقولهم وتدمير ما تبقى من مزارعهم.
– هل تفكرين بالعودة إلى بيتكم؟
– «كيف لي أن أعود يا صديقتي؟ ممنوع علينا حتى الآن دخول بلدتنا.
حظرُ التجول طوال الليل ولأشهرٍ طويلة، كان شبحاً على أهالي بلدات “كفر بطنا” و”حمورية” و”عربين” و”جسرين” و”زملكا”، بالإضافة إلى “دوما”… وبشارة وفرحاً على عائلات موالية، نزحت من “إدلب” و”حلب”، تم إسكانها تحت جنح الظلام، في منازل تم تهجير أصحابها وحالتها جيدة.
فرع المخابرات الجوية في مدينة “حرستا”، أخذ استراحة من القتال، فتسلّى بحملة مداهمات للمنازل السكنية في “سقبا” و”كفر بطنا”، واعتقل من طالته أيديهم بمن فيهم كبار في السن، “أبو فراس المصري” 56 عاماً و”أبو محمد البشاش” 62 عاماً، وغيرهما الكثيرين، رغم أنهم غير مطلوبين، وأجروا تسوية عقب سيطرة النظام على الغوطة… وأغلق معظم الطرق الفرعية بسواتر ترابية عالية، وأجرى التفييش الأمني لجميع المارة، للبحث عن مطلوبين على قوائمه، كأن اتفاق تسوية أوضاع سكان الغوطة الشرقية لم يكن.
قدمنا- خالي وأنا- طلباً وراء طلب لفرع الأمن، للسماح لنا بالعودة، ولم يأت الرد على أيٍّ منها بعد».
موقع سرد
————————-
ليلة من ألف قتيل وقتيلة/ أبو الخلود
تقع حانة “إيجل” قرب مختبر “كافندش” في كامبردج، إليها طار “فرانسس كريك”، أحد مكتشفَي بنية جزيء ال DNAليعلن أمام زملائه بانتصار: “لقد اكتشفنا سر الحياة: إنها كيمياء!” هذا ما رواه شريكه في الاكتشاف “جيمس واطسن”. كريك نفسه لما روى القصة استعان برواية واطسن، فهو لا يذكر شيئا من هذا القبيل! لكن ذلك صار اقتباسا دخل التاريخ: “الحياة كيمياء”، ولا بأس بقليل من الدراما الأمريكية.
وإلى كونها كيمياء، فكثيرا ما تشبه الحياة كابوسا ألّفه “فرانتس كافكا” وهو في أسوأ حالاته: صباح رمادي تنعق فيه الغربان، مناخ مقيت لا ينتمي لواحد من الفصول المعروفة، مخبرون في كل زاوية وناصية، قرفٌ تكثّفَ حتى صار قرميدا، وكل ما يحدث يكون خارج أفق التوقع. وتكتمل سطوة السادية باختلال في النواقل العصبية كفيل بجعل “جريجور سامسا” مثلا يكتشف أنه صرصور. وفي ذروة الأحداث، سواء كان اسم القصة “المحاكمة” أو “الجُحر” أو “في مستعمرة العقوبات”، تأتي النهاية شئزة: كأن المؤلف سئم الكتابة فجأة فألقى قلمه، أو مات على حين غفلة من القارئ، تاركا إياه محدقا في الفراغ، متأكدا من شيء واحد فقط: لا شيء له معنى.
هكذا يمكن أن تستيقظ صباحا، لتجد المعدودَ ــ كان ــ جهازَك التنفسي مفعما بالسارين.
ثم… هدوء.
والسارين كيمياء هو الآخر. وهو ــ لمن يرغب بشرائه ــ سائل عديم اللون والرائحة، طيّار، يتبخر بأسرع مما يمكن لقوّاد أن يصبح زعيما سياسيا. فور أن تستنشقه، ستدمع عيناك، وتتقبض حدقتاك، ويعتريك غثيان يجعلك راغبا بتقيؤ حياتك المدهشة، ثم ستبول في ثيابك، وتتغوط فيها، فجسمك بدأ يفقد السيطرة على وظائفه. تتشنج قصباتك الهوائية: إنه الاختناق، بل هو أوّله. تختلج عضلاتك كما لو أنك مصاب بالصرع، ستركل، تضرب، ريثما يتأكد لك أن عضلات التنفس ما عادت تطاوعك. وإن كنت محظوظا، لن تطول القصة بأكملها أكثر من عشر دقائق.
“ولي في غوطتيك هوى قديم…” كانت مجزرة الغوطتين بعد عام ويوم بالضبط من تصريح أوباما الشهير عن الخط الأحمر:
“يمكنك حشر آلاف المعتقلين وتركهم فريسة تعذيب يمارسه مختلون تسميهم أجهزتك الأمنية، حتى يهلكوا عن آخرهم. يمكنك حصار ما شئت من مناطق ليفنى ساكنوها تجويعا. يمكنك دك المدن بالصواريخ والبراميل وقذائف المدفعية والدبابات. يمكنك أن تقتل كل يوم مئة، مئتين، ألفا، عشرة آلاف، لكن لا تقتل واحدا بسلاح كيميائي. عند ذاك، وعند ذاك فقط، قد تجبرني على إعادة التفكير وتغيير حساباتي”.
يبدو أن الأمر يتعلق بكون السلاح كيميائيا أو نوويا أو بيولوجيا، لا بكونه دمارا شاملا. إذن ما يجعل شيئا ما دمارا شاملا هو السلاح المتسبب وليس الكارثة التي نتجت؟ أحسنت! ثابر إلى الأمام!
كان صيفا، كان آب
كان العام الثالث عشر بعد ألفين من ميلاد ابن مريم
كانت الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل
ماذا يفعل الناس عادة في هذا الوقت؟
ما عدت أذكر، فالزمن عندي مختل منذ زمن بعيد. كانوا في الغالب نياما، أو على وشك نوم. لكنهم حتما لم يكونوا يتوقعون سقوط عشرين صاروخا محملة بالسارين.
قبل ذلك، سبق أن وُجهت للنظام اتهامات باستخدام السلاح الكيميائي في أربع مناسبات على الأقل (مناسبة كما في: “مجزرة”، لا كما في: “حفل”). مرة رد رأس النظام بأن هذه الاتهامات تقف ضد أبسط مبادئ المنطق، فليس لدى سوريا أسلحة كيميائية: “ها ها ها ليس لدينا لنستخدمها!” وهذا منطق حصيف يعجز عنه أرسطوطاليس. ومرة تراجع قليلا وقال إن لديه سلاحا كيميائيا، لكنه سيُستخدم فقط ضد العدوان الخارجي. بعد مجزرة الغوطة هرع النظام لتلبية “عرض” أمريكي بني على “مقترح” روسي يتخلص بموجبه من كل شقفة من أسلحته الكيميائية، وبذلك يضمن بقاءه ويَفرُغ للإجهاز على شعبه، وأعلن نيته الانضمام إلى اتفاقية حظر هذه الأسلحة التي يرفض التوقيع عليها منذ عام 1997.
كنت أود أن أنشد مادحا الأمريكيين:
أتاني نصرهمْ وهُمُ بعيد … بلادهمُ بلادُ الخيزران
لكن أيُّ عربي ذاك الذي يثق بقصب لا ينبت في بلاد العرب؟
كنت أود أن أصبح خائنا، أن أرش الجنود الفاتحين بالرز والورود. كان عندك رز حينها؟ لا! لكن كانت عندي قصيدة كتبها أبو تمام في المعتصم. هل أفهم منك أن أوباما لم يعد تفكيره ويغير حساباته؟ هذا رهن بتعريفك لإعادة التفكير وتغيير الحسابات، ثم كثيرا ما يلتبس الأمر بين الخط الأحمر والضوء الأخضر حتى لو لم تكن مصابا بعمى ألوان.
كان صيفا، كان آب
كان الإنكار الثالث قبل صياح الديك
” أتنكرني دمشق وكان عهدي … بها ألا تُلوّح بالسراب؟”
ثم انهمر الإعلام المقاوم يتحدث عن كون المسألة مفبركة، واستغرب كثيرون قوله هذا وكأن الأمر مقتصر على الهجوم الكيميائي، وجودنا كله فبركة: ثورتنا مفبركة، موتنا مفبرك، آلامنا مفبركة، حلمنا مفبرك، تنهداتنا حين نبلغ الرعشة مفبركة، والواقع الوحيد هو الجحيم. ثم ما هذه المفردة؟ أليس في معجماتنا ما يغنينا عن تعريب لفظ أجنبي نحن اخترعنا واقعه؟
لمن كنتم تجمعون هذه الأسلحة؟ يسألني إبليس. للعدو طبعا. لكن كيف أقولها؟ نعم! أسلحتنا “تحيض بأيدي القوم وهي ذكور”. أليست هذه نظرة ذكورية؟ لا! فلا أزال أرى أن لدى النساء من الصوارم والقنا ما هو أفتك من كل أسلحة الدمار الشامل، وأسلحتهن هذه بيولوجية بالمناسبة.
هل فكرتَ يوما في دراسة الكيمياء ؟
يحوز المرء لقب كيميائي أو كيماوي في ظروف متعددة. يمكنك أن تخترع أول بطارية ليثيوم آمنة فتحوز نوبل في الكيمياء لعام 2019؛ أو أن تكون “حاييم وايزمن” يكتشف تفاعلا مهمّاً يسهم في المجهود الحربي لبريطانيا في الحرب العالمية الأولى، فترد بريطانيا الجميل لشعبك؛ أو أن تكون علي حسن المجيد “علي الكيماوي”، فتبيد الآلاف من أبناء شعبك في حلبجة؛ أو أن تكون زوجة مستبد رومانيا “نيكولاي تشاوشيسكو”، فتحصل على عضوية الأكاديمية البريطانية للعلوم وأنت لا تعرف صيغة جزيء الماء.
– أهذا ممكن؟ تقول له
– بل هو ما حصل. يجيبها
– يبدو أمرا غير منطقي.
– أتعرفين ما أفدح مغالطة منطقية في تاريخ الفلسفة؟
– أخبرْني!
– هي أننا لسنا الآن في غرفة نومنا.
كانت الحكاية تسكن أعلى الشجرة، وكنتُ أقصر مني الآن، والشجرة طويلة حتى انقطاع النظر:
– لماذا تريد الوصول إليها؟
– لأقصها عليك.
– لا داعي لذلك، اخترع واحدة.
– وماذا أسميها؟
– وهل العنوان ضروري فيها؟
– مثلما أنتِ ماء.
– طيب، فليكن: الإبحار في الهواء.
– وتريدينها صيفية أم شتائية؟
– بل محشوة بالتمر مثل كعك العيد.
– والقوام؟
– مُهلبيّة.
– ولمن دور البطولة؟
– لي وأنا أستمع لكَ بكل ما أوتيت من طفولة.
– وأين تقع أحداثها؟
– في الثلاجة.
– وأنا أقود بكِ الدراجة؟
– لا! فأنا أشعر بدوار البحر.
– سأعالجه بقليل من الزنجبيل والسحر.
– ولا تنس أن التدخين ممنوع.
– وماذا لو أني شعرت بالجوع؟
– سأتسلق الشجرة، وأقطف لكَ منها أكبر بقرة.
– وتنزلين بسرعة؟
– كما لو أنني انزلقت بقشرة موز.
– وأكمل لكِ القصة خالية من الأنين.
– ثم نضحك قبل أن يخطفنا هذا السارين.
أيّاً ما كانت مصداقية القصة التي رواها لنا واطسن، فقد كان محقا في شيء واحد على الأقل: الحياة كيمياء. لكنْ فاتَهُ أن الموت في سوريا الأسد هو أيضا كيمياء. وقليل من الدراما الأمريكية لا يضر.
——————–
قناص الإذاعة/ عزيز العلي
يهرول أبو فؤاد خافضا رأسه، عابرا شارعا أقيم في نهايته ساتر ترابي، يحني هامته قدر ما استطاع محاولا إبقاء جسده المربوع دون ارتفاع الساتر.
لكنه طويل القامة وهذه في الحرب تكون نقطة ضعف قد يدفع الإنسان ثمنها حياته، ومحاولته لن تكون مثالية للتخلص من قناص يكمن في بناية عالية وبعيدة، لكنه في النهاية لا بد أن يحاول، فذلك هو طريقه اليومي من بيته في حي المشارقة نحو مخبزه في الطرف الثاني من الشارع على أطراف حي بستان القصر، ولن يسجنه خوفه من القناص في بيته على كل حال، فالناس لا تحتمل إغلاق الفرن وهو لا يتحمل عناء ضجيج الأطفال في البيت.
“يامو على الله” بلهجته الحلبية كان يفتتح حواره الصباحي عن رحلة الموت التي يخوضها كل صباح معلنا انتصاره في النهاية في اجتياز ما يسميه “باب جهنم” والذي أصبح قدرا لكل من يقيم في هذا الجزء المثير من العالم.
“من جنب أذني مرت”
“صفرت صفر”
“يا يوم! لو شعرة كانوا تيتموا الاولاد”
عبارات كان يخاطب بها نفسه وهو يلتقط الخبز العابق بالبخار الخارج للتو من بيت النار، يجمع كل خمسة أرغفة سوية بيدٍ واحدة ويضربها على الميزان بحركة سريعة، يدس كيسا من النايلون بين الأرغفة ثم يناولها للزبون بيديه الاثنتين
“خو خاي” الله يحميك من شر الغفلة
كانت الزبائن تحصل على دعاء مجاني من أبو فؤاد مع كل ربطة خبز كان يناولهم إياها.
لقد أصبح شائعا أن تجد أمامك على مداخل الطرقات لوحات كتبت كيفما اتفق بخط غير مقروء أحيانا تحذرك من إكمال الطريق، فالموت يتربص بالطريق المرصود من عدسة قناص مختبئ في مكان ما وحتى لو لم تجد لافتة التحذير هذه فستجد في أماكن كثيرة من قطعة الجحيم هذه المسماة بحلب ساترا ترابيا يحميك أو بقايا باص أو مركبتين فوق بعض على مدخل أحد الشوارع كدليل على وجود قناص في الطرف الآخر.
لقد بات القناصون عنوان الموت الأشهر في المقتلة السورية – سيتفوق عليه فيما بعد ذلك الاختراع البدائي المسمى “بالبرميل” – وعادة ما يتمركز القناصون على الأماكن المرتفعة في حلب وأصبحت شهرتهم تفوق المعالم العامة في مدينة تاريخية مثل حلب، فلا يخلو حوار بين اثنين عن ذكرهم.
قناص القصر البلدي قاعد فوق تلاتين طابق، قناص القلعة، قناص الإذاعة ….
القاتل المجهول المعلوم الذي ينتظر الهدف للوصول إلى نقطة تقاطع الخطين في عدسته ثم:
بضغطة بسيطة من أصبعه على الزناد يضع حدا لحياة إنسان ما ببساطة
لم يطل الأمر كثيرا حتى تسللت القناصات نحو الجهة الثانية من المتاريس، لقد أصبحت لعبة الموت متبادلة، البارحة أعلنت صفحات الألوية العسكرية عن نشر قناصات معارضة في وجه قناصات النظام.
أخذت أفكر!
ماذا تفعل القناصات في مناطق مدنية؟
القناصون لا يرون بعضهم، القناص إنسان يقتل وهو مختبئ،
حسنا لا بأس،
قانون العين بالعين في لغة الدم الأزلية،
في الأمس صادفت أبا فؤاد في طريق عودتي من الجامعة عصر البارحة، كان يمشي مع أولاده بسرعة:
_روح على بيتك بسرعة يا عمي
_ شو في ؟!
_”لك روح لك خاي لا تسأل” بلهجته الحلبية المرحة الحازمة ومضى في طريقه بلا تردد.
في المساء علمت بأن قناص الإذاعة قد استطاع استهداف مدير معبر كراج الحجز أبو غياث وقتله وقد احتشدت الفصائل المسلحة تجهيزا لشيء ما وتم إغلاق الحاجز، لم يطل الانتظار فقد دارت اشتباكات عنيفة بين الثوار وقوات النظام ظهر اليوم التالي واستمرت يومين ولم تخل من قصف الدبابات المتمركزة على جبل الإذاعة فيما أعلن “جيش المجاهدين” عن تمكنه من قتل القناص المتمركز في منطقة الإذاعة برشاش ثقيل من طراز 14,5.
للمرة الأولى أخذت أتخيل كيف تمزق جسد القناص بهذا السلاح المخصص لاقتناص الطائرات، شعرت بشيء من العدل ومن خيبة الأمل غير المفهومة.
في الحرب تصبح المشاعر كلها غير مفهومة ليس هذا الشعور وحده.
بقي معبر بستان القصر مغلقا لمدة أسبوعين بعد هذه الحادثة حتى نفذ صبر الأهالي وأنا منهم فمنذ ثلاثة أيام كانت أمعائي تتلوى لسبب ما و لم أستطع الخروج من المنزل وفي الليلة التي أعلن فيها عن إعادة فتح المعبر تماماً كان الألم على أشده ولم أستطع أن أنم من شدته، سأذهب في الغد لعيادة أحد أقربائي لأمي في حي السبيل.
استيقظتُ باكراً، غادرتُ المنزل حوالي الساعة السابعة صباحا. سرتُ في طريق الملعب البلدي إلى أن وصلت المعبر؛ كانت أول مرة أرى فيها هذا المعبر مملوءا بهذا العدد غير المنتهي من البشر.
عبرت عدة شوارع وأحياء حتى وصلت لساحة كبيرة، مرصودة من عدسات لأكثر من قناص، لقد كان هناك بشر كثيرون يمشون، بعضهم يحمل حقائب على كتفيه وبعضهم يحمل أطفاله على كتفيه، آخرون يسحبون عربات تقل العجائز والمصابين.
بدأ الألم بالازدياد في أمعائي لدرجة كانت قدماي تهتزان بقوة، حتى أني لم أعد أقوى على الوقوف، شعرتُ بغثيانٍ من معدتي نحو رأسي الذي أصبح عبئاً على كتفيّ!
انتحيت إلى جانب الطريق مقعياً على نفسي أحاول الاستفراغ.
فجأة:
إطلاق رصاص متتال نحو هذا الحشد البشري ولم يتأخر الرصاص من الطرف المقابل عن الإعلان عن وجوده وجاهزيته والمدنيون عالقون في المنتصف، لم يستوعب عقلي المشهد للوهلة الأولى، بقيت جاثما على نفسي على طرف الطريق، لقد كانوا أربعة قناصين على الأقل من اتجاهات مختلفة:
من جهة القلعة، وواحد من جهة البساتين، والقناص المتمركز فوق مبنى الإذاعة، ومن الجهة الأخرى قناص للجيش الحر، كانوا جميعهم يطلقون النار.
صاح أحدهم:
انبطحوا …
تكورت على الرصيف دون أن أميز خوفا من القناص أم من شدة الألم، كان أمامي في منتصف الطريق رجل ستيني مربوع الجسد يصرخ والدم ينزف منه ووراءه كانت امرأة تنزف دون حراك.
لم يهدأ صوت الرصاص.
واستمر الرجل يتلوى من الألم، لقد كان الدم ينزف من رقبته، حاول البعض الاقتراب منه، لكن القناص كان جاهزا لقتل من يظهر على عدسة سلاحه.
في النهاية استطاع بعض الشباب سحب الرجل بقضيب معدني رغم ضخامة جسده، كانوا يسحبونه وهم يصيحون تشهد يا عم تشهد، استطعت أن أرى إصبع ذلك الرجل المغطى بالدماء تتحرك كما لو كان يرد على ندائهم.
استطاعوا سحبه نحوهم رويدا رويدا، بقي القليل ليستطيعوا إمساكه من معطفه السميك، لكن طلقة القناص عاجلتهم نحو رأسه.
وصل الجسد إلى الرصيف مشوه الوجه جثة هامدة.
أمعائي كانت تتمزق من الألم، اختلط الدمع بالملح بالغبار في عيني وأنا أحاول إعانتهم على سحب الجثة.
لقد كان جثة الفران أبو فؤاد.
————————-
مهمة صحفية/ هوازن المسالمة
سألني والدي إن كنت أود العودة إلى دمشق لأكمل دراستي، أنا الآن في السنة الرابعة، كنت بحاجة لإنهاء فصل أخير لأحصل على الإجازة في الإعلام، لكن ما الفائدة كما قال أخي الصغير، لقد بدأت بالعمل كصحفية منذ الآن دون شهادة، كانت أمي تغضب عندما تسمعه يكرر هذه العبارة، كانت مصممة على ضرورة أن أعود لدمشق و أتقدم للامتحانات، أمي لا تقتنع إلا بالأمور المحسوسة:
التعليم يعني شهادة معلقة على الحائط، الاستقرار للبنت يعني زوج يعمل ويعود إلى المنزل محملا بالطعام لزوجته و أبنائه، الحرية تعني الحياة الهادئة، لم تكن تهمها الأفكار ولا النظريات ولم تكن مهتمة بالسياسة ولا تحبها أصلا وتعتبر الكل يكذب على الجميع و أنا متأكدة لولا أنه كان من أقاربها أحد هؤلاء الأطفال الذين تم اعتقالهم في درعا قبل عامين و كانوا الشرارة التي فجرت الثورة لكانت أمي على الجهة الأخرى تماما.
“لا أستطيع العودة للجامعة، هناك الكثير من الأشخاص الذين يكتبون التقارير للأمن” هكذا قلت لأمي مبررة عدم قدرتي على العودة لدمشق
_ ليه إنت شو دخلك، شو عاملة!! تقول أمي وهي تعلم أنها تكذب على نفسها
أمي مثل ملايين السوريات، تعتقد أن الحيطان تمتلك آذان و أن أجهزة المخابرات تستطيع حتى سماع كلام الهمس داخل البيوت , ” مو عاملة شي وما دخلني لكن فيك تقنعي المخابرات إني ما دخلني”
نطقت جملتي الأخيرة وخرجت للصالون لم أعد أستطيع الاستمرار في هذا الحديث اليومي، كان والدي يتابع الأخبار و كنت أتهيأ للخروج
_وين رايحة اليوم؟
_على صيدا بدي أعمل تقرير عن المدارس البديلة هناك
_ وكيف رايحة؟
_في باص بيطلع الساعة واحدة لهناك
عاد والدي لمتابعة الأخبار في موافقة ضمنية على ما أقوم به، لكنني كنت أعلم في داخلي أنه يود لو أنني أخرج من كل هذا المكان، ليس فقط من درعا بل من سوريا كلها لكنه كان لا يجرؤ على البوح بذلك
خرجت من المنزل في طريقي نحو صيدا
كان يتوجب علي المشي ثلاثين دقيقة للوصول إلى حي السد حيث يتواجد الباص الذي سينقلنا نحو قرية صيدا، و هناك سأستقل الباص لأكثر من ساعة، كان مجرد التفكير بأن مروان الذي يسكن في ذات البناء و يعمل في نفس فريق التوثيق لا يحتاج لأكثر من عشرين دقيقة للوصول على دراجته النارية يكفي ليشعرني بالغيظ والغضب، في الأمس طلبت منه أن يأخذني معه لكنه رفض بشكل قاطع خوفا من عائلتي كما قال و خوفا من المجتمع كله كما أظن
في المرة السابقة احتاج مروان لأن يتركني و ينزل من الباص في منتصف الطريق لأن شقيق خطيبته صعد معنا في نفس الباص وشاهدنا نجلس سوية واعتذر في ما بعد بأن خطيبته من النوع الذي يغار جدا
حتى الثورة لم تستطع أن تغير هذه التقاليد الموروثة في مجتمعاتنا، ناشطو الثورة بمعظمهم يشبهون مجتمعاتهم في نظرتهم نحو النساء حتى وإن ادعوا عكس ذلك
كان الباص يمشي ببطء مخترقا أحياء درعا المدمرة، حي السد مدمر عن بكرة أبيه، البيوت تلفظ أحشائها نحو الخارج، كانت دهشتي تظهر على وجهي طازجة وكأنني أرى الدمار لأول مرة كما سألتني أحدى الراكبات من الخلف، استدرت لأجيبها لأكتشف أن الباص كان مليئا بمعظمه بالنساء، لم انتبه لذلك للوهلة الأولى، تفحصت الركاب كانوا جميعا من النساء عدا رجلان اثنان يجلسان قرب السائق
_ أنا ساكنة بدرعا المحطة و دائما بمر من هون بس هي أول مرة بحس الدمار كتير هيك
_ الدمار وين ما كان، انت شامية؟!
_ لا بس بدرس بالشام،
_ الله ما يوفقهم خربوها للبلد، أخذت المرأة تتمتم وكأنها تكلم نفسها
أعجبت بعفويتها و استدركت لأفتح حوارا ما
_ مين اللي خربها؟
لم تجب المرأة، اكتفت بالدعاء على من كان السبب، كان لدي رغبة لفتح حديث مع أي أحد، تمعنت أكثر بالنساء الراكبات، كن بمعظمهم يشبهن أمي
وربما كانوا سيهمسون إن أرادوا التعبير عن أي موقف سياسي
هناك شيء ما في قلوبنا يحتاج للتغير ربما الخوف، ربما الرغبة بالهدوء، هل حقا الشعوب بطبيعتها لا تؤمن بالثورة كما قال أحد مدرسينا في الجامعة قبل أربع سنوات
ابتعد الباص عن المنطقة السكنية خارج المدينة و أخذ يسير ببطء على الطريق الترابي في البساتين المحيطة بالمدينة، خارج المدينة لا يوجد أي أثر للدمار، للحظة تنسى أنك خارج من مدينة شبه مدمرة و كان النساء اللواتي يردن النزول في قرية النعيمة المجاورة يتجهزن للنزول، تضع الواحدة منهن أغراضها أمامها و تعيد ترتيب هندامها ” في الحقيقة كن يتأكدن من وجود حجاباتهن على رؤوسهن فقط” ومن ثم تدفع الواحدة أطفالها أمامها وتحمل سلة أغراضها وتتوجه لمقدمة الباص
صوت طيران حربي يأتي من بعيد
الله أكبر يصيح السائق
تبدأ النساء بالهمهمة:
“قصف” “وين!” “يا رب” “لا اله الا الله” “الله يستر” و”ين” “شو في” “قصف”
في البداية لم يثر صوت الطائرة شيئا بداخلي، أنا أسمعه بشكل شبه يومي فوق سماء درعا، لكن لماذا الناس هنا ارتعبت لذلك الحد
(سأدرك في ما بعد بأن الطيران كان يحلق فوق المدن لإخافة سكانها بشكل أساسي ولقصفها أيضا) في حين أنه لم يكن يحلق فوق القرى سوى ليدمرها) حتى في التدمير كان النظام يميز في البداية بين الريف والمدينة
تجمعت النساء حول بعضهن في مقدمة الباص الذي أخذ يسرع المشي للوصول لقرية النعيمة، وكان صوت الطائرة يعوي أكثر، لماذا كان السائق يريد الوصول إلى القرية و كأنها ستكون أكثر أمناً من البساتين، ربما الخوف من أن الباص هو هدف مكشوف لطائرة تريد فقط أن تقتل أي شيء في طريقها !
ربما هو الرغبة بالموت بين الأهل
لم تكتمل هذه الفكرة في عقلي حتى هدر صوت اهتز له الباص و من ثم أعقب هذا الهدير صوت “بوووووووم”
كأن الطائرة ذاتها ارتطمت بالأرض، بدا الأطفال يصرخون ويبكون و ارتفعت أصوات التكبير من النساء، كنا على مشارف قرية النعيمة ومن ثم ظهر هدير الطائرة من جديد ورأيناها و هي تبتعد عن المكان
توقف السائق لدقائق قليلة، كان ركاب الباص جميعهم صامتين في البداية ثم قالت إحدى الواقفات اللواتي ينتظرن النزول
الله يستر يا رب يحمي الناس وين القصف؟
غالبا في صيدا أجاب السائق
وبدأت النساء الجالسات المتوجهات لقرية صيدا بالعويل والبكاء
لسبب ما لم أشعر بحاجتي لالتقاط أي صورة ولا الحديث عن أي شيء،
توقف الباص في قرية النعيمة ونزلت نساء القرية من الباص، طلب منا السائق الانتظار قليلا لمعرفة مكان القصف في حين كانت بقية النساء تصرخ تريد الوصول لقريتها
حصل شجار بين السائق الخائف من معاودة القصف وبين النساء اللواتي يردن الذهاب نحوه
قد تكون النساء أكثر شجاعة وقت الخطر
لم يطل الأمر حتى بدأت السيارات تمر مسرعة على الطريق الترابي حاملة الجرحى نحو درعا البلد، لقد كان القصف في محيط مسجد المصاروة في قرية صيدا غير بعيد عن المكان الذي كنت متوجهة إليه و من بعيد كان مروان يقود دراجته النارية ببطء على الطريق الترابي ذاته
سألته
_ شو صار؟
_قصف، ما شفت الطيارة؟
ما بدنا نروح نكمل شغلنا؟
لم يجب مروان أبدا، كانت ملابسه مغبرة ووجه مغبر وعلى يديه لطخات من الدم
هل مات أحد ؟سألته
لم يجب، سحب جذعه نحو الأمام تاركا مساحة كبيرة على الدراجة النارية:
ما بقي شي ينعمل عنه أي تقرير، اطلعي وراي، رح اوصلك على اول درعا، مش رح أقدر اكتر من هيك
لم نتحدث بأي شيء في الطريق
—————————–
لما تخرا عالحاجز/ أبو الخلود
وكان هناك فيلسوفان إغريقيان تأملا الكون كما لم يفعل أحد من قبل، ثم كان أن عاينا مسألة الحمق البشري عن قرب. أما ديمقريطس فضحك، وصار يدعى الفيلسوف الضاحك. وأما هرقليطس فبكى، وصار يدعى الفيلسوف الباكي. وفي سبيل الوصول إلى حل وسط، من قبيل الجمع بين رأيي الحكيمين، قررتُ: ما دام المريض يبول فهو بخير. لكن ذلك كان في مرحلة لاحقة، فقد سبقها: ما دام المريض يتبرز ويخرج الغازات فهو بخير. ولم تكن تلك القواعد وليدة نظرة اختزالية للإنسان تُماهيه بأجهزته الإطراحية، فأكثر الأطباء الذين عرفتهم يقرون بأن الإنسان أكثر من مجرد كليتين أو مستقيم، وإن كان للسياسيين رأي آخر. المسألة ببساطة هي أنك تحتاج إلى قواعد عامة تعينك على تلمس خطاك وسط غابة المرضى والأمراض والأعراض: أيّهم/أيّها يتطلب منك تدخلا فوريا؟ وأيّهم/أيها بوسعك أن تنتظر حتى تشرق الشمس وتغرب عليه/عليها؟ ويمكنك أن تتخيل أن لكل طبيب، وفق ما يمليه عليه تخصصه، قاعدته المفضلة: ما دام المريض يتنفس… ما دام يخفق قلبه… ما دام يرى… ما دام لا يعاني من حكة وهرش فهو بخير.
وانسجاما مع ما سبق، كان انسداد الأمعاء الحاد حالة إسعافية. وإن كنت تظن أن سببه التخمة، فسيأخذ العجب منك كل مأخذ حين أحدثك عن حالات وقعت في مكان يتضور أبناؤه جوعا. وما عساه يكون إذن؟ الأورام، الالتصاقات، الانفتال، الانغلاف، الفتوق، الأجسام الأجنبية المبتلعة… وهذه وسواها تسبب ما يدعونه: الانسداد الميكانيكي. وفوق مستوى الانسداد، تتراكم السوائل التي يفرزها جهازك الهضمي والهواء الذي تبتلعه بحثا عما يمسك الرمق، ويصبح لك بطن حبلى في الثلث الثاني من حملها. ستشعر بالغثيان، وستقيء طعاما ربع مهضوم ثم حمضا ثم صفراء ثم برازا (وهذا رهن بمكان الانسداد وبآخر وجبة جوفاء التهمتها). وفي محاولة من أمعائك للتغلب على هذا الانسداد الميكانيكي، فهي لا تيأس مثلك بسرعة، ستشتد تمعجاتها مشعرة إياك بألمِ مَن أجاءها المخاض إلى زريبة من القوادين.
ولكن فيزيولوجيا الهضم ليست درسا في ميكانيك الصرف الصحي. فأعراض الانسداد هذه قد تنجم عن شلل أو شبهه يصيب حركة الأمعاء نسميه خَزَلا، والخزلُ لغةً “مِشية فيها تثاقل وتراجع” كأنه إقبال الدنيا إليك وإدبار الكوابيس عنك، وله أسباب كثيرة ليس من بينها أن هيئة الأمم المتحدة قالت لك: Good luck . والتمييز بين ذاك الانسداد الميكانيكي وهذا “الانسداد” الخزلي ضروري للطبيب إن لم يكن من أهدافه إضافة سبب آخر يعجل في وفاة مريضه.
لم تكن حال مريضنا تسمح له بالقدوم إلى عيادتي في المجمع الطبي الخيري، فجاء بعض جيرانه ليصطحبوني إليه. ويخطر في بالي أن اسمه كان أبو حازم. لم يكن من داع أن أنظر نظرة في النجوم لأدرك أنه سقيم، وأن سبب سقمه انسداد خزلي في الأمعاء، فبعض الفحوص السريرية تفي بالغرض، وأجرام السماء لا تبالي بما يحدث على أرضنا.
كانت الغرفة شحيحة الضوء والهواء، وكان ينزوي على سريره الجاثم في إحدى زوايا الغرفة. في مثل هذا الوقت من النهار تكون قناة “ناشيونال جيوجرافيك” العربية تبث وثائقيات عن أمريكيين يستجمون في تايلند حيث يدهنون القوارب مع المحليين، أو يترَوْحنون في الهند مع المنبوذين، أو يتَبَرْنزون تحت شمس ماما أفريكا. وهذا المسكين قابع في مخيم اللعنة يحلم بضرطة تريح بطنه بعض الراحة، ولن يبالي أن يدفع مقابلها ملك هارون الرشيد: ربطة من الخبز أو نصف كيلو من الرز. وهو لا يعرف أنه خلال دقائق سيصبح كائنا فضائيا تخرج من جسمه وتدخل إليه وتتدلى مجسات وأنابيب وأكياس. فالحكمة التقليدية تقتضي إدخال أنبوب إلى معدته عبر أنفه، وآخر من فوهة شرجه إلى مستقيمه، وثالثا في إحليله ليستقر في مثانته، ورابعا في وريد من أوردته ليمده بالسوائل. ولا أظنني بحاجة إلى كشف المنطق الذي يستتر وراء مبدأ “القثاطر الأربعة” هذا، ثم إن التجفاف واضطراب الشوارد اللذين يصاحبان الانسداد المعوي لهما مضاعفات عصبية وقلبية وكلوية لا تُحمد، ومنع حدوثها أسهل بكثير من تدبير أمرها إن حدثت، سيما في تلك الظروف البديعة.
في سنوات التخصص، تعاملنا مع كثير من حالات الانسداد المعوي بكل أشكاله وأنواعه وأسبابه. وكان هذا المشهد يتكرر كثيرا: أحد مرافقي المريض يأتيك هاشّا باشّا، وقد ارتدّت الدموية إلى وجهه وهو يخبرك أن مريضه أخرج غازات أو تغوط. ولا أزال أذكر أباً أتاني وعيناه تفيضان من الدمع وهو يحمل في صحن زجاجي بعضا من البراز الذي جادت به أمعاء طفله الوحيد. وكان لي في تلك السنوات صديق يكبرني سنا وعلما أكد لي أن الطبيب الذي يعالج مريض انسداد معوي يجد لفساء مريضه ريحا تفوق ريح المسك عبقا وشذا. وكنت أجد في قوله هذا مزيجا من المبالغة والشذوذ ورفعة الأخلاق الطبية والفخر بروعة الإنجاز. وهو فخر له، وللحق، ما يبرره.
لم تكن صورة “أبو حازم” بهذه الوردية. أزعم أنه تحسن واستقرت حالته مبدئيا، لكنه لم يُشفَ، ولم أصل إلى سبب آفته، ولم أرضَ بالنتيجة. ولم يكن في حوزتي من الاستقصاءات الشعاعية والمخبرية ما يُعينني. ولو أن طب القرن الحادي والعشرين سمع بقصتي مع هذا المريض أو سواه، لظنني شاماناً في قبيلة لاكتابية يستعين بالكهانة والسحر لعلاج أبناء قبيلته. أيُّ انسداد هذا الذي لا نجري فيه ــ على أقل تقدير ــ صورة شعاعية للبطن بوضعية الوقوف؟ لكن يعلم الله أنني لم أكن ساحرا أو كاهنا، كان لي في ابن سينا والرازي ووليم أوسلر ودومينيك كوريجان أسوة حسنة، وكان للمرضى في النبي أيوب أسوتهم.
عُدتُه في منزله مرتين أو ثلاثا بعدها، أتابع حالته، وأزوده من ترسانتي للعلاجات غير المعتادة. يذكرني أخي أنني كنت أعطي مريضنا الديكسبانتينول، وهذه الحقن الفيتامينية يحبذها من لديهم مشاكل في البشرة والشعر. لكن لها بعض التأثيرات الجانبية، كتسببها بالإسهال مثلا، والطب بارع في تحويل الأثر الجانبي لدواء ما إلى أثر علاجي. ثم كان أن أخبرت أهله بضرورة إخراجه من المخيم لمتابعة علاجه، وتمكنوا من فعلها عبر حاجز القدم. أذكر أن ابنه لم يأتني هاشّاً باشّاً يزف لي بشرى نجاة والده من غيابة المخيم، بل جاءني يقهقه، وأخبرني أن والده “خِري عالحاجز”. وخرئ الإنسان يخرأ خِراء وخِراءة فهو خارئ: أي طرح جهازه الهضمي فضلات طعامه. وما يطرحه من فضلات هو الخُرْء وجمعه خُروء. وجاء صاحب لسان العرب بمثال بليغ ليعلّم قرّاءه كيفية نطق تينك الكلمتين فكتب: مثل جند وجنود. ثم أنشد: “كأن خروء الطير فوق رؤوسهم”. والعين في قوله “عالحاجز” مخففة من على، وهي هنا لا تفيد الاستعلاء بل تعني الظرفية، أي كأنه قال: عند الحاجز. فالذي خِلتُه مجازا بادئ الأمر كان حقيقة. وأوضح لي ابنه أن الرعب الذي شعر به والده لحظة بلوغه الحاجز وتسليمه أوراقه للضباط كان كفيلا بجعله يخرأ كما لو كان رضيعا أتخمته أثداء المرضعات، وامتزج رعبه آنذاك بسعادة غامرة حتى إنه فكر بالتراجع عن مغادرة المخيم باعتبار أنه “خري ومشي الحال”، وهذا غاية المراد. ولك أن تتخيل في بلد كان يصيبنا فيه الرعب من دخول مركز سجل مدني لإخراج قيد نفوس; أو مؤسسة لدفع فاتورة المياه; أو شعبة تجنيد لتأجل خدمة العلم ذي العينين الخضراوين، فتعتل طباعنا وتختل أخلاطنا وتعتكر أمزجتنا وتكاد مِصَرّاتنا تفقد قدرتها على استمساك البول والبراز… أقول: لك أن تتخيل ما سيصيبك عند حاجز يتربص جنوده بك الدوائر، ولا يرقبون فيك إلّاً ولا ذمة. وقد نجا أبو حازم من سكَرات الحاجز وما يحدث عنده من لطائف القدرة وعجائب السلطة، ووصل إلى أحد مشافي دمشق تحمله ملائكة الرحمة.
ومن يدري؟ ربما تُدرج هذه الوسيلة قريبا في بروتوكولات الكُلّية الملكية الأسدية لتدبير انسدادات الأمعاء المُعنِّدة. ولا بد في هذا السياق من الإشادة بتفهم ضباط الحاجز. ففي فلم “الحدود” يسأل أحد الحرس المواطنَ “غوّار” عن سبب قضائه حاجته في مكان بعينه فيجيبه: “كنت بدي إعملا عالحدود، خفت تتفسر”. فكل فعل من أفعالنا في بلادنا الجميلة له تأويل، وكل قول له ظاهر وباطن، ولم يكن خِراؤك على الحاجز ليمر مرور الكرام لولا تعمق أبناء جيشنا الباسل في طب الجسد وفقه اللغة.
——————————-
ثورةٌ ما بين جندري ووطني
“أدرك بقسوة وبهجة أن أي ثورة بدأت بذاك الجمال ولاقت ما لاقت من قمع شنيع، لم ولن تموت. يوماً ما سأشارك عائلتي من الكويريين والطنطات النشاط والأمل. ومن غير خوف، سنستعيد ثورتنا أيضاً”.
في أواخر أشهر 2010، قبل بداية ثورة جميلة ومفجعة، كنت أصارع بعض الأمور: شَعري، البكالوريا السورية، والتصالح مع أنني كويري. شعري كان مُجعدا ومشعّثا، لم يناسب معايير الأناقة والرتابة لدى جدتي المُحبّة، فكانت تقول لي كلمات مثل “شو هالكباش هاد” أو “ليش متخانق مع الحلاق” ما جعلني أقتصر وأبقيه قصيراً. شعرتُ بكويريتي واختلافي لمدّة، وكي يخف التنّمر، أجبرت ذاتي على تعلّم بعض الأمور التي ستجعلني أبدو ك “رجل”. أشياء بسيطة كطريقة مشيي ونبرة صوتي أو حتى اختياري لكلمات معينة. وما بين هذا وانجذابات مشوّشة، كان آنذاك التقبّل القليل الذي طورته لنفسي ثوريا.
لم أدرك آنذاك ما التسميات التي تناسبني، أنجذب للرجال بشدّة، ولكن أقع بحب الجميع. لم أشعر بأنني رجل ولا امرأة. كرهت أي شيء ذكوري بحت، ولم يكن عندي اهتمام بأي شيء أنثوي بحت. أحببت الرمادية بكل شيء. وبعد سنين من تنمّر وتعنيف من عدّة نواحي، كصراخ شباب الحارة “أجى الطنطة” في وجهي كلما احتجت المرور أمامهم، أو نشر إشاعات عني في المدرسة، أو حتى اعتراض عائلتي على الفروع التي رغبت دراستها لأنها أنثوية! اكتشفت أنني لن أستطيع تحقيق ذاتي في مدينتي. لم يكن لدي فرصة تقبّل نفسي، فأنا لم أجدها بعد. انطويت أكثر وأكثر، والتجأت لكتبي وقلمي وبعض الأصدقاء.
في يوم دمشقي خريفي، ركبت الحافلة للذهاب إلى درس الرياضيات وأنا مختبأ داخل سماعات رأسي. المقعد الخالي الوحيد داخل الحافلة كان بجانب شاب وسيم، يظهر أنه أكبر مني بسنوات قليلة. كان من الواضح اختلاف خلفياتنا، ومع أننا لم نُكلِّم بعضنا على متن الحافلة، كان هناك توتر جنسي بيننا لا يمكن نكرانه. نهضنا سوياً عند نفس المحطة، وبعدما بدأت المشي أوقفني الشاب الوسيم، والذي اكتشفت في تلك اللحظة أنّ اسمه الحقيقي وسيم، وطلب أن نتبادل الأرقام! هل هذا يحصل حقا أو أراد أن يفضحني؟ أعطيته رقمي الحقيقي واسم زائف وأنا في قمة التشوّش، ما بين إثارة وقلق. تكلّمنا هاتفياً لمدّة، وبعدما تطورت ثقتي به، التقيت به لمرات قليلة فقط بسبب قسوة البكالوريا، قبل أو بعد دروسي، وفي مناطق أعرف أني لن أصدف فيها أهلي. عقّدنا أيدينا في حدائق دمشق بالليل وسَرقنا قِبَلا مُكهربة في مصاعد بعض البنايات القريبة.
وبعد عدّة أشهر، دعاني وسيم لمنزله. عائلته سافرت وهو بقي في دمشق بسبب التزامات عمل. كذبت على أهلي بأنني أدرس مع أصدقائي وذهبت إلى منزل وسيم. لم أكن أعرفه جيداً، لكن شعرت بالأمان معه، فهو رغبني كلّي مع أنوثتي المتنمّرة، وأعطاني فرصة شعوري كذاتي، أعطاني مساحة استطعت من خلالها أن أتعرّف على جسدي ورغباتي من دون أقنعة. كل لمسة أخذتني لعالم آخر، عالم استطعت أن أوجد بحرية به.
كل قبلة حرّرتني بطرق لم أعرف وجودها من قبل. لمسات لحيته على وجهي الناعم كانت كالعودة لمنزل دافئ بعد سنين شاقة. توقف الوقت ذاك المساء ولم يكن لشيء، غير ملمس شفتاه على جسمي، أية أهمية: لا غرفته، ولا الرموز الدينية العديدة فيها، ولا حتى دمشق وكل قسوتها. كنّا أحرارا كما ولدتنا أمهاتنا، نتحدى معا كل المعاير المحلية. آذان المغرب نبّهني إلى أنني يجب أن أعود إلى منزلي. أوصلني وسيم إلى شارعين بعيداً عن منزلي كي لا يرانا أحد من أهلي أو الجيران. بقي التواصل مع وسيم لفترة، ثم جذبتني دراستي وجامعتي لاحقاً، وبعدها اشتد الوضع السياسي في البلد فتلاشى تواصلنا ببطء. لكن حافظت على ما وجدت في سرير وسيم من قوة وحرية.
أُفكِّر: لم أفهم مشاعري المتخبّطة عند اندلاع الثورة. تربيت على أنّ الأسد تابو لا يجب ولا يمكن التكلّم عنه إلا في المنزل. راقبت أهلي وأجدادي وهم يتداولون بهمس قصصا غير منتهية عن فظائع النظام. كاختفاء أحد من أعمامي منذ الثمانينيات بسبب كلمة قالها لبائع البطيخ عن حافظ الأسد. كنت أتطلع لهذا النوع من الحراك الشعبي بكل بساطة، لأن سورية تريد أن تكون حرّة وشعبها يستحق الحرية. كمية الطغيان والدكتاتورية كانت واضحة بشتى الطرق منذ طفولتي، وهي ما سبّبت خوفا كبيرا في بداية الثورة، خصوصا في دمشق. لم يكن أحد يعلم كيف سيكون الرد. ومع زيادة الغضب والحراك ومراقبتي اليومية للأخبار، اكتشفت أنّ تخبّطي في الحقيقة هو مزيج من الخوف والأمل، أمل بأن يوما ما، أستطيع الوجود على أرضي بكل حرية، كشخص سوري وكويري. ففي أول مظاهرة عفوية لي صرخنا “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”. وما بين دموع وضحكات، خطر وسيم على بالي، وأردت أن ينمو سِحر ليلتنا في وطني.
قابلت الكثير من السوريين الكويريين في السنوات الأولى من الثورة من شتى الأطياف الجنسانية والجندرية. هذا غير أنّ معظم أصدقائي في المدارس تبيّن أنهم كويريين أيضا، صراعاتنا متشابهة ودوائرنا حميمية. خارج دوائرنا، نعود إلى عائلاتنا وديموغرافياتهم الدينية والطبقية. لم أكن أظن أن التقبّل للكويرية سيهطل على الشعب السوري بشكل مفاجئ بعد نجاح الثورة، ولكني آمنت بأن الدولة التي سنبنيها بعد الثورة ستحمينا وتحمي حرية الجميع، أي أننا سنستطيع على الأقل الوجود من غير أقنعة، وبالتالي سيبدأ النشاط المحلي، إن كان توعية أو وجود منظمات لدعم الكويريين، أو حتى ببساطة، إن حرية الصحافة والفن ستكون بداية جيدة ومساعدة لوضع الكويريين على الخريطة السورية. لكن، وللأسف، لم يكن الشعب السوري واحد واتخذت الثورة طابعا محافظا وذكوريا قبيحا.
راقبت تحوّل إثارتنا لخوف، حيث أنّ محاولات تنظيم المظاهرات تحوّلت للبحث عن أصدقائنا في المعتقلات. وبعد سماع بعض من القصص عمّا يحدث هناك واجهت واقعية أنّ دخول طنط مثلي يعني الموت حتما. فابتعدت عن الشارع وحاولت أن أبقي نشاطي آمنا. لكن سرعان ما تحوّل أي نشاط إلى تعزية، ومحاولة تفادي القذائف، ومن ثم مساعدة بعضنا البعض بطلبات تأشيرات السفر والطرق الممكنة للهروب. خلال سنتين، تلاشى الأمل وحلّ محله غضب وشجن. وفي النهاية، وبعدما خَطَرْ بقائي وصل باب داري، استطعت بأعجوبة تأمين منفى يبعد آلاف الكيلومترات من جذوري.
لم أطلق على منفاي اسمه الحقيقي في البداية، لكن بعد صعوبات، وإدراكي القاسي بأنه لم يكن لدي أي خيار آخر، أحتفل اليوم بتواضع براحة عثوري على التعبير الملائم. فاتت عدّة سنوات منذ أن لزمنا منازلنا بدمشق خوفا من الآتي، وها أنا أجد نفسي في الحجر مرّة أخرى. أفكر ملياً بالسنين الطائرة وأتكلم مع أصدقائي السوريين. هم من اعتدت أن يكونوا على بعد اتصال من أركيلة سوياً، أصبحت علاقاتنا عبارة عن اتصالات هاتفية. فها نحن مبعثرون في شتى البلدان والقارات، صراعاتنا مجدّدا متشابهة: نواجه العنصرية والفقر والطبقية. وحدانية قاتلة، تعقيدات قانونية غير منتهية وسلوان أهالينا في الوطن. نجد راحة عند اعترافنا بهذه الآلام لبعضنا البعض، وفي معظم الأحيان لا نتكلم عنها خارج اتصالاتنا خجلاً مما يواجهه أحبائنا في الوطن يومياً.
أجد حنينا عميقا وشوقا معقدا عند كل سوري أتكلّم معه. أحيانا يكون الحنين لذكريات معينة، وأحيانا ببساطة لسماع كلمة “نعيما”. حنيني شخصياً ليس لدمشق وياسمينها، أو لوسيم وغيره، شوقي هو لما كان أن يكون، ولشبابنا المسروق. أرغب برحلات إلى شواطئ وجبال سورية مع أصدقائي، أريد الوقوع في الحب بلغتي الأم، نتغازل بلكناتنا ونتضاجع على وقع أغاني اسمهان ووردة. أحلم بدمشق وشوارعها يوميا مع أنني مدرك أنها ليست المدينة التي عرفتها من قبل. أريد أن أرى خالاتي بالصدفة وأن أزور جدتي كلما رغبت. أريد لأشياء غير الصعوبات والمعاناة أن تجمعني بأحبائي السوريين. هناك خلل حقيقي بين موقع جسدي وعقلي في معظم الأيام، والحالة ذاتها عند معظم من أعرف.
عبر السنين، تعلّمت ببطء استعادة ما خسرت. استعدت شعري، فهو الآن طويل، مجعد وشرقي للغاية. بنفس الوقت استعدت كل الأنوثة التي خسرتها بسبب التنمر، كإعادة استخدام تعابير “أنثوية” (ك يبعتلي حما، أو يؤبشني) ومفردات عديدة ك “طنط” لأفرغها من عنفها المجتمعي ولأحتفي بالأنوثة التي تحاول أن تقمعها. قدّست جسدي بإدراكي أنه ليس جسد رجل، ولمفاجأتي، اكتشفت أن استعادة أنوثتي ساعدتني على أن أستعيد بعض الصفات الذكورية التي هي بالفعل كانت لي، لكن لطالما ظننت أنها أقنعة حماية. ومن خلال كل هذا، استعدت جندري بعدما وجدته غير ما عُيِّنَ لي عند الولادة. أنا قليلٌ من كل جندر وغير جندري بنفس الوقت. أكحل عيناي وأحب أن أرتدي بناطيل ذكورية وقمصان أنثوية. لن أنسى سعادتي في أول مرّة اشتريت كنزة من محل خاص بالنساء. سألتني الموظفة عند الحساب “من السيدة المحظوظة؟” ضحكت وقلت “أنا”. لم أجد اسم جندري بلغتي بعد، ولا تهمني التسمية للغاية. أنا أعرف أن جسدي لي وأنه لا ينتمي الى هذا المنفى.
أيضا، استعدت سوريتي، الهوية التي تسبّب معظم آلامي. بعد سنين عديدة من الأقنعة والهروب من الهوية التي لم أرى فيها مساحة لشخص مثلي، أنا الآن أخلق هذه المساحة لاستعادة ما سلب مني. أقرأ وأكتب باللغة العربية، أبقى مطلعاً على الفن والأعمال السورية وأُقضي ساعات في المطبخ أتعلم أطباق وحلويات سورية تعيدني لشفاه وسيم. أهم ما فعلتهُ هو تعلّم كيفية التخلص من كل سموم العنصرية والطبقية والطائفية والذكورية التي مازالت مزروعة في أرضنا كالتين والزيتون. لا زِلتُ أتعلّم، فهو عمل شاق ويومي وغير مريح أبدا. عشر سنوات بعد أول سرير لي مع الخليل الذي رآني كما أنا، وجدتُ واستعدتُ نفسي.
عزائي السوري اليومي يتضمّن متابعة سوريين كويريين وتَقدُّميين آخرين. أقرأ كل ما ننشر، أتابع كل ما أستطيع من فن يُصنع، وأحاول أن أحافظ على معرفتي بمواقع وأحوال أصدقائي. آمل وأتخيل اليوم الذي سنعيد فيه أعمالنا السورية. أنا ببطء أستعيد وطني، عمل لن يتحقق بسياسة تجاهل المشكلة حتى النسيان أو التعايش. أستخدم عدة طرق، منها المحادثات الصعبة مع أفراد من العائلة والأصدقاء، كمحادثات عن طائفيتنا وطبقيتنا. بعض الأحيان عن طريق النشاط الثقافي والسياسي الرقمي أو إظهار أطيافنا الكويرية بشتى الطرق، وأحيانا ببساطة عن طريق التأكد من أن الرفاق الكويريين في سورية بخير على قدر استطاعتي. نحن الآن في كل مكان ولكن كُنّا يوماً ما في سورية، بكل ألواننا وأطيافنا. كثيراً من أمثالنا كانوا قبلنا والكثير بعدنا. سورية وطننا ونحن نستحق استعادته.
علاقتي بالأمل كمعظم السوريين معقدة، فنحن بحالة مستمرة نتوقع الأسوأ دائما. أقضي أيامي القاسية عندما يغلبني الشوق لدرجة عدم النهوض من سريري مشاهداً بعض الفيديوهات من المظاهرات المبكرة من الثورة. أرى ابتسامات وأمل على وجوه جميلة غالباً لا توجد معنا اليوم. أشاهد مقاومة مدن سورية عديدة. أتذكر تلك الأيام عندما تكون المظاهرة مليئة، أو “مكتدسة” وفق تعبيرنا السوري، وأصواتنا تصدح في أحيائنا البسيطة. الفيديوهات تدهشني وكأنها من زمن آخر لم أكن داخله يوما! أدرك بقسوة وبهجة أن أي ثورة بدأت بذاك الجمال ولاقت ما لاقت من قمع شنيع، لم ولن تموت. يوماً ما سأشارك عائلتي من الكويريين والطنطات النشاط والأمل. ومن غير خوف، سنستعيد ثورتنا أيضاً.
حكاية ما انحكت
——————-
لماذا أصبحتُ لاجئاً؟/ حذيفة فتحي
«لا بدّ أنّكَ أتيتَ إلى فرنسا للاستفادة من الرعاية الصحيّة المجّانية. أليس كذلك؟». كان هذا التساؤل الأصعب ربّما، والأكثر استفزازاً، مُذ أصبحتُ لاجئاً في الوثائق الرسميّة الفرنسية، قبل حوالي ثلاثة أعوام.
كان وجه فاسيلينا يجمع بين الغباء والجمود وهي تترقّب الإجابة على التساؤل الذي طَرَحَته أثناء العمل. فاسيلينا، التي تبلغ من العمر خمسةً وعشرين عاماً، تهتمّ بالموسيقى والرّسم. تعزف بإتقانٍ على البيانو والغيتار، وتُسجِّل بين الحين والآخر بعض الفيديوهات الغنائية بصوتها.
قبل ذلك بيومين فقط، كانت والدتي قد أرسلتْ لي تسجيلاً مُصوّراً يتجاوز الدقيقة بقليل. أرفقَته بشيءٍ من الغموض: «هل تستطيع التعرّف عليه؟ هذا ما تبقّى منه». كان مُصوِّرُ التسجيل يُمسِك برأسي بدل هاتفه المحمول. يَشدّه بحركاتٍ فجائيّةٍ نحو اليمين تارةً، وأخرى نحو اليسار. يرفعه عالياً ويهوي به دون سابق إنذار. يدور حول نفسه وتدور ذكرياتي معه فأتوقّف عن المُشاهَدة. يتغلّب الفضول، أو شيءٌ لا أعرفه، أخيراً على قسوة الخراب. أُعيد المُشاهدة مرّةَ أخرى، وأخرى بعدها. كانت والدتي ما تزال في الانتظار، في انتظار أن أُرسِل لها شيئاً ما بعيداً عن الغموض ربّما. «هذا بيتُنا، أو ما تبقّى منه على الأقل». كتبتُ ذلك بتردّد، بأصابع مرتعشة. انتظرتُ بدوري ردّاً آخر منها، لكنّها اكتفتْ بما دار بيننا، وفضّلتْ الصّمت حينها. تفحّصتُ التسجيل مُجدّداً. هذه المرّة لديّ الوقت الكافي: الحطام في كلّ مكان، السواد يُغلّف الجدران، النيران شبعت حدّ التّخمة هناك. في أيّة غرفةٍ تسير هذه الخطوات؟ إلى أين يقود هذا الممرّ؟ كان من الصعب في البدء معرفة هذه التفاصيل. تملّكني الشكّ والغضب. هل هذا بيتنا بالفعل؟ هو بذاته. هذه حديقة البيت الداخلية، كان فيها شجرتا ليمونٍ وأربع أشجار برتقال. جميعها كانت مُثمِرة. كان والدي يُراقبها ويقوم على رعايتها باستمرار؛ يسقيها كلّ يوم جمعة، يمدّها بالسّماد مرّةً كلّ عام، يُقلِّمُها بإتقان. على امتداد السُّور الذي يَحدُّها ويرتفع عن سطح التراب قليلاً، تتجاور نباتاتٌ منزليةٌ صغيرة وأنواعٌ مختلفة من الورود. الأحمر والأصفر والزهري والأبيض. ألوانٌ ساحرة تكيّفتْ مع لهيب شمسٍ صحراوية، كما تكيّفنا نحن منذ زمنٍ طويل. كنتُ بعيداً عن الاهتمام بأمور البَستنة، لكن تلك الحديقة الجميلة كانت تبعث الطمأنينة في داخلي. كثيراً ما كنتُ ألجأ إليها وحيداً، أُراقب النجوم وأُدخّن السجائر وسط الظلام. الآن، صرتُ خبيراً في تفاصيل الزراعة وقِطاف الثمار، وفي أسرار البيوت البلاستيكية حتّى، لكن ما الفائدة؟ الموت مرّ من هناك وحوّل حديقتنا الصغيرة إلى صحراء قاحلة.
تدور الكاميرا من جديد. تصبح الحديقة البائسة في الخلف. على اليسار، يوجد المطبخ. في الوسط، هناك غرفة الجلوس. اختارَ المُصوِّرُ، الذي لا أعرفه، النقطة الأقرب إليه على ما يبدو لبدء جولته، غرفة والداي، في أقصى اليمين. لا أبواب ولا نوافذ مُتبقّية. الجدران تبدو متشابهةً بندوبها. في الزاوية البعيدة هناك، كثيراً ما جلستُ وحيداً، مُتمرِّداً. كان ذلك قبل نحو أربعةٍ وعشرين عاماً، كنتُ حينها أخالف أوامر حاكم البيت؛ أتسلّل بهدوء، وأُشعِل التلفاز الصغير. أجلسُ بخِفّة طائر وأُشاهِد حلقةً جديدة من لويس وكلارك: مغامرات سوبر مان (كانت تُعرَض على القناة الأرضية الثانية مساء كلّ ثلاثاء، حسب ما أذكر). كنتُ أكتفي بقراءة الترجمة ومتابعة الأحداث (المُشوِّقة)، أما الصوت، فلا مشكلة بإلغائه خوفاً من افتضاح أمري. كان ذلك يحدث خلال فترة الامتحانات المدرسيّة. يُنقَل التلفاز، ويُمنَع الجميع من متعة مشاهدة القناتين الأرضيّتين، الخيار الوحيد المُتاح آنذاك. بعدها بسنواتٍ عديدة، صرتُ أتسلّل إلى الغرفة ذاتها، لكن بحذرٍ أكبر. أُفتّش في جيوب قمصان والدي. أسرق القليل من النقود وأذهب لشراء السجائر.
تَظهَرُ أقدام المُصوِّر فجأةً. يشقّ طريقَه خلال الممرّ وبين الرُّكام. ينتقي بعنايةٍ موضعَ قدمه وكأنه يسير في حقل ألغام. يختصر ذكريات سنواتٍ مُتراكِمة بخطوة. يجتاز الغرفة وسط البيت سريعاً. لا يعلم ذلك الفضولي أنّنا اجتمعنا هنا للمرّة الأخيرة. تلك المكتبة الممتدّة على اتّساع الجدار كانت تشعر بالدفء حين تداعبها الأيادي. تزدهر جمالاً أمام نظرات العابرين أيضاً. كانت أشبه ما تكون بصندوقٍ أسود يطوي الزمن في صفحاتٍ وصور، بكتْ كثيراً حين سَرَت النيران في عروق خشبها العتيق، استسلمتْ في الآخر لتصبح رماداً تدوسه أقدام المليشيات وصائدي المنازل.
بدا الفضوليُّ حائراً هذه المرّة. توقّف للحظاتٍ وفقدَ بوصلته. صرتُ أناديه: نحو اليسار يا غبي! إلى اليسار! لا أعلم لماذا أصبحتُ حاقداً عليه. تقدّم خطوتين نحو اليمين، عاد بعدها وأدخل الكاميرا عبر نافذةٍ مُنصهرة. آآآه… ما كلّ هذا؟! ليته لم يَعُد أدراجه. ظهرتْ غرفتِي الصغيرة وكأنّها مطليّةٌ بالأسود. حتّى الأرض فيها سوداء كالفحم. السرير المريح أسفل النافذة. صورة البورتريه الكبيرة المرسومة بقلم الرّصاص حين كان عمري عاماً واحداً. مكتب الكمبيوتر بجوار الباب. الخزانة بلونها البنّي الداكن. أمام تلك الخزانة، كان يجلس والدي ويُخرِج ثيابي بهدوء. يُعيد ترتيبها ويبكي فجر كلّ يوم. حين رجعتُ من عالم ما وراء القضبان، أخبرتني والدتي بذلك. أبدتْ دهشتها من بكاء والدي الذي لم يذرف دمعةً واحدةً حين مات والداه. والدي الآن يبلغ واحداً وثمانين عاماً. نازحٌ منذ ثماني سنوات. لم يعد يُطالِب بالعودة إلى المنزل كما اعتاد في سنوات النزوح الأولى. قَهَرَ الزمنُ إرادتَه وأصبح يَعُدّ الأيّام فقط. أرسلتُ لوالدتي: «غرفتي هي الأكثر احتراقاً، هل لاحظتِ ذلك؟». أجابت على الفور: «شاهدتُ ذلك. المهم أنّكم بخير يا ولدي».
منتصف شهر حزيران/يونيو لعام 2012، كان الموعد قد حان لإلقاء نظرةٍ أخيرة وتوديع المنزل الذي عَهِدناه طويلاً. الظلام حالكٌ في الخارج. جدران الغرفة البيضاء وسط المنزل، باتت رماديّة اللون ومسرحاً لوجوهٍ شاحبة تجمّعت حول ضوء مصباحٍ خافت. فَرَضَ الصمت هيبته، وهبط الخوف ثقيلاً. كانت جولةٌ جديدةٌ من القصف غير المسبوق قد انتهت للتوّ. تساقطت القذائف كالمطر على منازل الحي وحاراته العريضة. استقرّت إحداها في سطح منزلٍ في الجوار. تطايرت الشظايا وانطلقت كالسّهام. أصابت الأبواب والنوافذ المُغلَقة وأعمدة الإنارة والسيّارات وخزّانات المياه. صَدَحَت مآذن الجامع القريب بالتكبيرات. ارتعشت الأرض من تحتنا وألقى السقف بحمولته من الغبار. تعالت الصرخات. خرج البعض بعد هدوء العاصفة لمعاينة الأضرار. ساعات الليل بدت طويلةً وكأنّها الدّهر. في انتظار حلول الفجر، حُزِمَت بعض الأمتعة على عجل لرحلةٍ مجهولة. سنعود عمّا قريب. سنعود عمّا قريب، ربّما.
«يبدو أنّكَ كنتَ جُنديّاً في سوريا؟ هل كنتَ مُقاتِلاً في صفوف جماعةٍ إسلاميّة؟ كيف وصلتَ إلى هنا؟ هل صحيح أنّ بعض الإرهابيين فرّوا من سوريا وتسلّلوا إلى أوروبا بين جموع اللاجئين؟ ما الذي يجري هناك في بلدك (سوريا)؟ لماذا اخترتَ القدوم إلى فرنسا؟». أسئلةٌ كثيرة كانت لي بالمرصاد بين الحين والآخر. نظراتٌ ثاقبة تحاول اختراقي وتتفحّصني بعناية. «لاجئٌ من سوريا»، كان لهذه الجملة تأثيرٌ سحري! في دروس تعلّم اللغة الفرنسية، في الدورات التدريبية، في العمل المؤقّت هنا وهناك، في لقاءات التعارف القليلة، كنتُ أحاول الحفاظ على هدوئي والإيحاء بأنني غير مكترثٍ بهذه الأسئلة. الأسئلة التي تُولِّد في داخلي مزيجاً غريباً من السّخرية والانفجار. أُفكّر في إجاباتِ غيري مِن الذين هربوا من جحيم الحرب. كيف سيشرح هؤلاء ويلات ما عاشوه قبل وصولهم إلى «برّ الأمان»؟. كأسماكٍ ألقاها البحر على شاطئٍ صخري، غادروا «بلادهم» التي لفظتهم بين ليلةٍ وضحاها. أصبحوا حاقدين عليها الآن، لكنّ قلوبهم وذاكرتهم بقيت هناك. تتخبّط عقولهم في حلّ هذه المعادلة الصعبة. يفتقدون بساطة العيش واللقاءات العائلية. يستذكرون روائح حاراتهم وشكل منازل جيرانهم. لم يعد هناك حارات؛ دُمِّرَت. والروائح؛ ما تزال نتنة.
بابتسامةٍ عريضة من وراء زجاج مكتبٍ صغير، رحّب بي ذلك الموظّف في المطار. سألني قبل أن يضع ختم دخول الأراضي الفرنسية: «أتيتَ إلى فرنسا للدراسة؟ هل أنتَ طالب؟». كانت الساعة تُشير إلى الثانية بعد منتصف الليل. أجبته بثقة: لا، أنا لاجئ. قبل ذلك بساعاتٍ قليلة، كنتُ أُوقّع أوراق منع دخولي الأراضي التركية. لم أكترث حينها بفترة الحرمان، ولم يخطر في بالي حتّى سؤال ذلك الشرطي متجهّم الوجه. محاولتان فاشلتان في مطار «أتاتورك»، والثالثة كانت ناجحةً في مطار «صبيحة». كانت بحوزتي الوثائق اللازمة لصعود الطائرة بهدوء والالتحاق بموسم الهجرة إلى الشمال، لكنّ كلمة «سوري» على ما يبدو، عكّرت مزاج ذلك الموظّف اللعين. استرسل حينها في طرح الأسئلة وامتلأت نظراته بالتحدّي: كيف دخلتَ إلى تركيا؟ بشكلٍ غير شرعي! أنتَ خارجٌ عن القانون. ولا تمتلكُ بطاقة الحماية المؤقّتة (كيملك)؟ لن تستطيع المغادرة إذن! وجواز السفر هذا مُزوَّر، والفيزا بداخله مُزوّرةٌ أيضاً.
lفي الثامن من شهر آب/أغسطس لعام 2014، كان كلّ ما يهمّني في ذلك اليوم هو الوصول إلى الحدود التركية. كان سواد تنظيم داعش قد امتدّ سريعاً وأصبح خانقاً لكلّ شيء. نقاط التفتيش وحواجز التنظيم كان لها وقعٌ مُخيف في نفوس المُسافِرين. عند مدخل مدينة الرقّة، فُتِحَ على عجلٍ بابُ الحافلة الصغيرة وتهاطلت الأسئلة كالمطر: مسافرٌ إلى أين؟ ولماذا تغادر أراضي الخلافة؟ هل أتيتَ من مناطق الشعيطات المُرتدّين؟ ولماذا لم تجلب أهلكَ من أراضي الكافرين! عند منطقة تادف بريف حلب الشرقي، فُتِح الباب مرّةً أخرى. كان عنصراً وحيداً هذه المرّة. أمعنتُ النظر فيه وهو يُقلّب البطاقات الشخصية لأشخاصٍ خائفين، هاربين، مُتذمّرين. كان رثَّ الهيئة، سيّء الخلق، ثيابه الأفغانية ذات القطعتين قذرة للغاية، شعره المُجعّد مُتّصلٌ بلحيته المليئة بالأوساخ. أعاد البطاقات بعد أن اكتفى بالنظر إلى صور الأشخاص فيها. لا يُجيد القراءة، لكنه مُتعطّشٌ للدماء كما بدا واضحاً من عُدَّته القتاليّة وحزامه الناسف حول خصره. على جانب الطريق، كانت تتدلّى جثّةٌ من على عارضةٍ خشبيّة. بدا أنها مشنوقةٌ حديثاً. حبلٌ سميك حول رقبة صاحبها، وطيورٌ جارحة تحوم في السماء فوقها. هكذا تحوّلت بلادي إلى عالم «Westworld». «اجمعوا هواتفكم… ومَن يمتلك هاتفين ويعمل على إخفاء أحدهما سأقوم بإعدامه!». حذّرَ ذلك العنصر الجميعَ بلهجةٍ ليبيّةٍ أعادت إلى أذهاننا القذّافي. كنتُ أراقبه حين بدأ بتفحّص هاتفي. بدا تائهاً وهو يُلوِّحُ بإصبعه على الشاشة نحو اليمين ونحو اليسار. رَفع رأسه وتساءل عن صاحب الهاتف. أجبته بالإيجاب بعد أن استبدّ الخوف بي. اندفع نحوي وأشار بالهاتف إليّ: «اِفتح على الصور الخاصّة!». رددتُ وراءه بصورةٍ لا إراديّة وبصيغةٍ استفهاميّة مع القليل من الاستنكار: «الصور الخاصّة؟». زَجرني وعدّل بندقيّته من فوق كتفه الأيمن: «أي.. الصور الخاصّة.. ما تسمع!». هززتُ رأسي ومنحته ما يُريد. أعاد الهاتف بعد أن كحّل عيونه -المُكحّلة أصلاً- برؤية «الصور الخاصّة». أُغلِق الباب وعادت العجلات للدوران. بعد عشرات الأمتار، نَظَر السّائق في المرآة فوق رأسه وأخبرنا بأنّ ذلك الحاجز كان آخر نقاط التنظيم. تنفّس الجميع الصّعداء. كانت عيناه تراقبان وجوه الآخرين وردود أفعالهم. لم يهتمّ أحدٌ بذلك. خرجت بعض الهواتف المُخبّأة، حالها كحال السجائر التي اشتعلت على الفور. سادت أجواء السعادة في الحافلة وامتزجت بالأحاديث العابرة. الطريق نحو الحدود صار نُزهةً الآن.
في مثل هذه الأيّام من العام الفائت، ومع اقتراب أعياد رأس السنة، كنتُ أبحث عن هديّةٍ مُناسبةٍ لصديقي جوناثان. أردتها أن تكون شيئاً يَحمل رائحة عالمنا العربيّ الحزين، أن تتحدّث عن أولئك البؤساء المُحاصَرِين فيه، أن تروي قسوة العيش هناك ومعنى أن تُولَد في تلك المنطقة الملعونة. لم أُفكّر في هديّةٍ تقليديةٍ تجلب السّعادة، ربّما كما جرت العادة في مناسبات كهذه. احترتُ بين فرانكشتاين في بغداد لـ أحمد سعداوي، ومعرض الجثث لـ حسن بلاسم.
اخترتُ في الآخر فرانكشتاين في بغداد على اعتبار أنّها رواية. طلبتُ النسخة الإنكليزية منها وغلّفتها بعناية حين وَصَلَتْ. أسابيع قليلة بعد ذلك، وصلتني رسالة من جوناثان: «I just finished the book. A good story, although a bit depressing». «مُحبِطة بعض الشيء!».. الإحباط، ربّما تكون الكلمة مناسبة لوصف ذلك الشرق الحزين. هل تعلم يا صديقي أننا نادراً ما كُنّا نفرح ونضحك هناك من أعماقنا. الوجوه هناك رماديّة. الشّمس رماديّة. والتراب رماديّ أيضاً. في اللقاءات العائليّة، حين تتعالى أصوات الضحكات، كانت ترتسم على الوجوه في ذات الوقت إشارات التوجّس والخوف ممّا هو قادم. كان آباؤنا يستدركون الأمر بالقول: «الله يكفينا شرّ هالضحك»!
قبل أيّامٍ قليلةٍ من اختياري لـ «فرانكشتاين في بغداد»، كان جوناثان قد أخبرني أنه نال مُؤخّراً الجنسيّة الفرنسيّة، وهو الذي يحمل سابقاً الجنسيتين البريطانية والأميركية. راح يسرد قصّةً مُتخيَّلة. سألني بجديّة: «إذا كنتُ مُسافِراً في طائرة، وظهر فيها إرهابيٌّ فجأةً، هل من الأفضل لي أن أُظهِر جواز السفر البريطاني أم الأميركي أم الفرنسي؟». صمتُّ للحظات. نظرتُ نحوه بتركيزٍ شديد، وانفجرتُ ضاحكاً. ضحكَ هو الآخر، وبدا أنه ينتظر إجابةً ما.
حين أصبحت فاسيلينا على مقربةٍ منّي، كان وجهها بلا تعابير وكأنّه جدار. أجبتُها ببرود: خرجتُ من سوريا بسبب الحرب.
موقع الجمهورية
—————————-
قصة “طبيب النظام السوري” الذي عذّب قريبي/ محمد فارس
كان يُمنع على أحد أن يقترب من غرفته باستثناء الحراس والمحققين وطبيب يعاينه لعشر دقائق صباحاً. أما الحراس الآتون من “الخطيب” ومن إدارة المخابرات الجوية، فكان “صفعهم إياي أمراً طبيعياً لهم”.
“لا نفاضل بين مصابين من أي طرف. افترض أنه إسرائيلي. بالطبع سنعالجه! ربما لديه معلومة”.
كلمات تذكرتها حين علمت بوفاة د. أديب محمود في أيلول/ سبتمبر الماضي. سألته حين كان مديراً لمستشفى دمشق (المجتهد) الحكومي عن علاج جرحى المصابين في تظاهرات عام 2011 المناهضة للرئيس بشار الأسد، فأجابني بتلك العبارة.
التقيته في كانون الثاني/ يناير 2012 حيث كنتُ أعد تقريراً عن الخدمات الصحية. وكنت أبحث سراً عن قريب لي أطلق الجيش الحكومي النار عليه في تظاهرة في ريف دمشق. وبأعجوبة نجا قريبي، الذي أتحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية، لكن السلطات أخفت مكانه. ثم علمت أنه استقر في “المجتهد” قبل أن يغيب في فروع المخابرات.
وأفادت حينها تقارير دولية بأن السلطات السورية حولت المستشفيات والكوادر الطبية لأدوات لسحق التظاهرات، وهو ما حاولت أن أعاينه بنفسي.
الجـرّاح والـتـاريخ والمـؤامـرة
وصلت في ذلك الأربعاء إلى مكتب د. أديب في المجتهد في حي الميدان الدمشقي. نالت من أعصابي برودة الطقس الجاف وزحمة ساعة الذروة. كنت قلقاً من أن أقابل قريبي الجريح. فهل سأتظاهر بأنني لا أعرفه إن رأيته، أم سأعانقه وأبكي؟
استرخيت قليلاً في البهو الداخلي للمبنى. وحين دخلت مكتب د. أديب، كان ينظر إلى شاشة على الجدار “البيج”. وقف وصافحني بقوة في منتصف الغرفة الواسعة وهو ينقّل نظره بيني وبين التلفاز.
قامة طويلة بمنكبين عريضين، وشعر رمادي قصير، وحاجبان أسودان. بشرة سمراء حنطية وملامح باردة ونظرات غريبة تتوه أحياناً؛ على رغم أن عينيه السوداوين تنمّان عن أعصاب حديدية. ذقن وشارب حليقان، وربطة عنق سوداء أنيقة ومعطف أبيض لطبيب يتابع عمله اليومي.
جلسنا نتابع خطاباً لبشار الأسد منقولاً من أمام مكتبة الأسد. وأحسست أن د. أديب، المستمع بإنصات، يفضّل السياسة على الطب، كما الرئيس طبيب العيون. كانت عيناه مسمّرتين على التلفاز من دون انفعال على وجهه أو جسده.
قال بشار: “عندما قلت… إن سوريا الله حاميها فلم أقصد أننا شعب الله المختار؛ أو أن الله ميز سوريا عن غيرها، ولكن عندما يحب الله أرضاً، يمنحها شعباً طيباً واعياً صامداً قوياً وفياً كهذا الشعب العظيم”. وتابع: “المتآمرون علينا… في مرحلتهم الأخيرة من المؤامرة ونحن سنجعل هذه المرحلة النهاية لهم”.
وردد تجمع مؤيديه: “الشعب يريد بشار الأسد!”
أنهى بشار خطابه، فسألني د. أديب بود: “شو تشرب؟”.
“متل ما بتشرب..” قلت مازحاً.
نادى أحدهم وقال: “اتنين زهورات”.
جلسنا متقاربين إلى طاولة مستديرة. وقبل أن أستأذنه بتشغيل آلة التسجيل، مازحته مجدداً بقولي:
“إطلالة مهمة للرئيس..”.
“طبعاً! خطاب تاريخي..” قال.
كذلك وصف د. أديب زيارة الرئيس بشار إلى “المجتهد” عام 2005 بـ”التاريخية” في كلمته على الموقع الإلكتروني للمستشفى. وأيقنت أنه يعتبر كل ما يقوله الرئيس “تاريخياً”. وربما تتدرج على ذلك منذ المرحلة الثانوية حين أنهى إحدى دورات القفز المظلي التي أطلقها في ثمانينات القرن المنصرم قائد سرايا الدفاع، رفعت الأسد، عم الرئيس بشار، ورعتها الوحدة (569) في الجيش النظامي. أولئك الذين اجتازوا إحدى تلك الدورات كوفئوا بإضافة 45 درجة إلى محصلة درجاتهم في الشهادة الثانوية من أصل مجموع 240 درجة. وذلك أهّل المظليين بسهولة لدراسة اختصاصات جامعية عليا، كالطب، بغض النظر عن تدني مستوياتهم الدراسية.
شغلت المسجل وأومأت برأسي إيذاناً ببدء المقابلة. قال د. أديب: “العقوبات الغربية والعربية أضرت بالقطاع الصحي”. وأشار إلى أن مزاعم كالتي نشرتها منظمات دولية عن التعذيب في المستشفيات السورية “جزء من المؤامرة على سوريا”.
ولفت إلى أنه في صباح 6 كانون الثاني/ يناير 2012، استقبل “المجتهد” مصابي انفجار حي الميدان من عناصر أمن ومتظاهرين، و”تلقوا رعاية صحية متساوية وبلا مفاضلة بينهم”. وأكد أن الزائر “سيجد مثلاً سريرين متجاورين على أحدهما جريح من الأمن وعلى الآخر مصاب من المتظاهرين”. لكنه استدرك بالقول: “إن الكادر الطبي، خصوصاً في الإسعاف، لا يتمكن من معرفة هوية الشخص المصاب قبل علاجه”. وخلف الانفجار حينها 25 قتيلاً من مدنيين وقوات أمن وتبنته “جبهة النصرة”. ووقع التفجير قبل موعد صلاة الجمعة أمام “جامع الحسن” الذي كانت تخرج منه تظاهرات بعد صلاة الجمعة.
تكلم د. أديب بصوت عميق منخفض، يليق بجرّاح ومدير رصين. جسده ثابت ونادراً ما حرك يديه. وكرر نفيه بإصرار تدخل قوات الأمن أو أي مؤسسة أخرى في عمل المستشفى. وقال: “نحن هيئة محايدة. مهمتنا تقديم الخدمة الطبية. هناك هيئات رسمية أخرى مسؤولة عن التأكد من هويات المذنبين ومحاسبتهم”.
خلف طاولة مكتبه الخشبية البنية صورة على الجدار لبشار الأسد. وإلى اليمين من كرسيه العلم السوري الرسمي على حامل معدني ضخم. وعلى ذلك الكرسي جلس سابقاً نقيب أطباء الأسنان السوريين، إبراهيم نعامة (1938 – 1977)، والذي تبنّى اغتياله تنظيم “الطليعة المقاتلة”، الجناح العسكري لجماعة “الإخوان المسلمين” في سوريا. باغتياله انتقمت “الطليعة” لمقتل زعيمها مروان حديد (1934 – 1976) الذي قضى في سجن المزة العسكري. ولحظة اغتياله، كان إبراهيم، قريب الرئيس حافظ الأسد، مديراً لمستشفى “المجتهد” وقيادياً بعثياً رفيعاً، ورئيساً لجمعية الصداقة السورية-السوفيتية.
جرائم قديمة كتلك سببت هجمات تحريضية ضد المتظاهرين شاملة من يعالجهم. وإحدى تلك الهجمات ما ذكره موقع “سيرياستيبس”، الموالي الخاص، عام 2011 عن أن “مستشفى الحوراني (الخاص في حماة) هو وكر لتخزين السلاح وتوزيعه على المسلحين وحمايتهم وتمويلهم ولقتل الجيش والأمن”، وأن مستشفى البر بحمص “وكر لعلاج المسلحين”، بينما مستشفى الحكمة “المملوك لامتثال غليون أخت عميل الصهيونية، برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري المعارض، سجن للمخطوفين من أبناء حمص الشرفاء وللتمثيل بالجثث”.
لكن أديب تابع: “لا مبرر لخوف المتظاهرين من مراجعة مشافينا” وشدد على أنه لا مكان لديه للمفاضلة بين الجرحى وأن “المستشفيات السورية تقدم الرعاية الصحية للجميع، بغض النظر عن طريقة إصابة المريض أو مكان وجوده”. لكنني لم أجرؤ على سؤاله عن سبب وجود مفرزة أمنية عند مدخل كل مستشفى حكومي في سوريا حتى قبل عام 2011؟
“نحن هيئة محايدة. مهمتنا تقديم الخدمة الطبية. هناك هيئات رسمية أخرى مسؤولة عن التأكد من هويات المذنبين ومحاسبتهم”
ومنتصف العقد الماضي، اتهمت قناة “الدنيا”، الموالية الخاصة، مستشفى المجتهد بتجارة الأعضاء. كما اتهمت وسائل إعلام معارضة أديب عام 2013 بسرقة أعضاء بشرية لعناصر في القوات الحكومية ومعارضين، وبيعها في روسيا وإيران. كما صرح الناشط مروان العش بأن أديب “فتح قبو المستشفى كمعتقل ومفرزة أمنية لجثث المعتقلين المقتولين تحت التعذيب وأصدر شهادات وفاة مزورة لهم”. لكن تلك الاتهامات بقيت بلا أدلة تثبتها. كما زاد الأمر تعقيداً إصدار النظام شهادات وفاة لآلاف المعتقلين في سجونه، أو ممن تم إعدامهم بقرارات محاكم عسكرية.
اتفقت مع أديب على أن أقابل جرحى من الأمن والمتظاهرين. لكنه أجّل المقابلة ليوم آخر.
مقابلة لم تتم
صباح السبت 14 كانون الثاني 2012، كان الأمل يحدوني بأن أقابل قريبي المصاب. كان عليّ، أنا المطلوب للسلطات لتأدية الخدمة العسكرية، تجاوز حواجز أمنية- عسكرية للوصول إلى دمشق. كان بهو المستشفى مكتظاً بعناصر الشرطة والأمن. وتجمهر صحافيون بكاميرات ومعدات إضاءة كأنهم يصورون فيلماً سينمائياً. واكتشفت أن المستشفى يزوره مراقبون عرب أرسلتهم الجامعة العربية قبل ذلك بشهر لمراقبة الوضع الإنساني في سوريا.
بعد دقائق، ترجل أديب من سيارة “بي إم دبليو” حديثة كحلية ودخل مسرعاً غرفة الانتظار ثم خرج يتبعه ثلاثة مراقبين بستراتهم البرتقالية وقبعاتهم البيض. اقترب مني معتذراً وقال: “الوقت ليس مناسباً للمقابلات”.
“هل أنتظر؟” سألته، فأجاب: “إن شئت، ولكنني لا أعدك بشيء اليوم”.
انتظرت أمام مكتبه وإلى جانبي رجلان بسترات من الجلد الأسود ويحمل أحدهما “كاميرا” صغيرة. سألتهما إن كانا يعملان في المستشفى، فقال أحدهما مبتسماً: “نحن من أرشيف وزارة الداخلية”. قلت في نفسي: “في بلادنا لا بد من أرشفة كل شيء!”.
بعد ساعة، خرج طبيب شاب بمعطف أبيض من مكتب أديب وخاطب الجميع بقوله: “إن الاجتماع [بالمراقبين] سيستغرق وقتاً طويلاً”. وحين سألته عمّا إذا كان المراقبون سيزورون الجرحى، من دون أن أحدد إن كانوا من الأمن أو من المتظاهرين، أجاب الطبيب مبتسماً: “ليس لدينا جرحى اليوم”.
حينها قطعت الأمل من رؤية قريبي الجريج. فأنا آت في يوم عطلة وبموعد رسمي لأقابل جرحى ومصابين من المتظاهرين والأمن، ثم يُقال لي لا جرحى لدينا؟! لماذا إذاً كل هؤلاء العسكريين المسلحين في مستشفى مدني؟!
أمام المستشفى التقيت صديقاً يعمل طبيباً هناك. ودعاني إلى تناول الإفطار في مطعم قريب. وحين سألته عن قريبي الجريح، شَحُب وجهه ثم اعتذر وغادر المكان.
ضغوط
كانت الضغوط على الكوادر الطبية هائلة. فبعد أشهر داهمت المخابرات العامة مستشفى المجتهد واعتقلت د. حيان محمود الذي لا يزال مصيره مجهولاً. وفي تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وأمام المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز الألمانية، قال حسان محمود إن شقيقه، حيان، اختلف في “المجتهد” مع زميله (إ.ش) الذي شدد على “ضرورة قتل كل المتظاهرين السلميين وإبادتهم”. وأضاف حسان أن أطباء في المستشفى قالوا إن (إ.ش) أخبر مدير المستشفى بطبيعة الخلاف، الأمر الذي أدّى لاعتقال د. حيان بعد يومين.
وعمل أديب مديراً لمستشفى المجتهد بين عامي 2011 و2016. ونقل معارضون عنه قوله للمخابرات الذين حضروا إلى “المجتهد” لفض اعتصام لأطباء استنكروا اعتقال زملائهم: “لا أريد أطباء معتقلين، أريد أطباء في البرادات!”.
منذ آذار/ مارس 2011 وحتى وفاة أديب، قُتل 857 من الكوادر الطبية واعتُقل واختفى 3353 آخرون
وخوفاً من الاعتقال والتعذيب والقتل، تجنب جرحى المتظاهرين المستشفيات الحكومية واعتمدوا على “مستشفيات ميدانية” سرية، وهي وحدات طبية بدائية تتنقل خشية استهداف قوات النظام. وبموجب القانون السوري، على المستشفيات والنقاط الطبية إبلاغ السلطات عن أي مراجع يردهم مصاباً بعيار ناري أو يعاني من إصابة خطرة. ولم يحرج السلطات إعلانها اقتحام أو الاستيلاء على مستشفى أو عيادة ميدانية أو اعتقال أطباء لأنهم عالجوا متظاهرين.
كتبت مقالتي وحاولت أن أنشرها. لكن ما أسميه “رقيب المؤسسة الداخلي”، الذي يزرعه النظام في كل مؤسسة، حذف تصريح أديب عن أنه “يمكن أن يعالج إسرائيلياً لأنه يمكن أن يكون لديه معلومة”.
بعد أيام، علمت أن قريبي في الطابق الثالث في “المجتهد”. فقد مرر رقم هاتفي إلى سيدة كانت ترافق أخاها المصاب إلى دورات المياه هناك.
قصدت المستشفى، ومن غير أن يشعر الحراس، لمحت قريبي نائماً على سرير في غرفة خلفية مطلة على كراج لتصليح السيارات. وعلى السرير المقابل جلس حارسان بلباس مدني وبندقيتي كلاشنيكوف. لم أجرؤ على التقدم، وقررت أن أؤجل الزيارة.
وفي اليوم التالي، مررت ببطء أمام باب الغرفة مسترقاً النظر، فاستوقفني أحد الحراس وأخذ بطاقتي الشخصية ثم احتجزني في مطبخ وهددني بالاعتقال إن لم أتكلم عن سبب وجودي هناك. وحين أخبرته، غاب وعاد بعد ساعة ليُطلِق سراحي. ولما سألته يائساً عن حال قريبي، قال: “ليس لدينا شخص بهذا الاسم!” وعلمت لاحقاً أنه حين تركني في المطبخ، ذهب ليحقق مع قريبي بضربه وتعذيبه بغرز إبر في يديه.
المفاضلة الأخيرة
كان د. أديب يشق طريقه للصعود السياسي. في أيار/ مايو 2013، كرمته نقابة أطباء دمشق لدوره “في علاج الجرحى والمصابين منذ بداية الأزمة التي يتعرض لها وطننا بفعل الجماعات الإرهابية”. كما خضع لتدريبات قتالية عسكرية وحصل على وسام من مركز الإمام المهدي الثقافي في السيدة زينب جنوب دمشق “تكريماً لجهوده الاجتماعية والفكرية”.
فاجأني خبر وفاته في أيلول الماضي، حيث قرأت أنه “لم يفرح بابنه وبناته” الثلاث اللواتي عملن مع أسماء الأسد، عقيلة الرئيس، في الأمانة السورية للتنمية، ومؤسسات “البعث” كاتحاد شبيبة الثورة.
“لا أريد أطباء معتقلين، أريد أطباء في البرادات!”
والسبب المعلن لوفاة أديب “نوبة قلبية حادة” من دون تحديد مكان وقوع الحادثة. فبالقرب من منزله في حي الروضة في دمشق مستشفيات متخصصة. ويقع منزله مقابل منزل وزير الدفاع الأسبق الراحل مصطفى طلاس. لذلك فالواقعة أقرب أن تكون قد حدثت في مسقط رأسه قرية حورات عمورين الفقيرة في ريف حماة حيث لا بنية تحتية ولا خدمات. فلا أدل على واقعها الخدمي المزري من شكوى أهلها في شباط/ فبراير الماضي من طرقها المحفورة على أمل مد شبكة صرف صحي.
بينما أشارت مصادر إلى أن أديب توفي على إثر فشله في مرحلة “الاستئناس الحزبي” أو استشارات المفاضلة بين مرشحي “حزب البعث” لمجلس الشعب، في حزيران/ يونيو الماضي. وفي السابق كانت قيادة “البعث” تعيّن ممثلي الحزب في المجلس من دون الرجوع للقواعد.
ويبدو أن أسهم د. أديب لم ترتفع عند “القيادة” على رغم مشاركته فروع “البعث” في تكريم جرحى ومصابي الجيش والشرطة والأمن، وزياراته المتكررة لهم برفقة زوجته العقيدة الطبيبة، هالة بلال، المقربة من أسماء الأسد، وعضو لجنة المصابين بوزارة الداخلية. كذلك لم تنفع في شيء زياراته السفارة الروسية في دمشق. ولم تجد نفعاً استضافته في المستشفى لحملة “كلنا بشار” في الانتخابات الرئاسية عام 2014 وتصويته بالبصمة بدمه لصالح بشار تعبيراً عن الانتماء والولاء “للقائد”.
مصادر أخرى قالت إنه حزن لفشله في الحصول على دعم من عم زوجته، رئيس مكتب التعليم العالي، د. محسن بلال، عضو القيادة القطرية لحزب البعث.
د. أديب محمود يبصم بالدم للتعبير عن الولاء لبشار الأسد في الانتخابات الرئاسية عام 2014
وتضيف المصادر، التي رفضت الكشف عن هويتها لأسباب أمنية، أن دعم عائلة بلال ذهب لمصلحة شقيق الزوجة الوحيد، عضو مجلس الشعب لدورة 2016 – 2020 المحامي، أيمن بلال، والذي جدد عضويته في البرلمان.
ومن غير المستبعد أن يكون فيروس كورونا هو الذي أنهى حياة الرجل الحاصل على درجة دكتوراه في جراحة الصدر. إذ توفي في الفترة ذاتها عدد كبير من الكوادر الطبية جراء إصابتهم بالفيروس. وقد أكد في محاضرة عام 2019 أن “لا إصابات بالفايروس (…) على رغم ظهور حالات عدة في دول الجوار”.
ومنذ آذار/ مارس 2011 وحتى وفاة أديب، قُتل 857 من الكوادر الطبية واعتُقل واختفى 3353 آخرون؛ قرابة 85 في المئة منهم استهدفهم النظام السوري، إضافة إلى استهداف 862 مركزاً طبياً، 88 في المئة منها استهدفها النظام السوري وحليفاه روسيا وإيران، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، المنظمة الحقوقية التي تتخذ لندن مقراً لها.
فيما أكد وزير الصحة السوري، د. حسن محمد غباش، على بذل الحكومة كل الجهود للمحافظة على الكوادر الطبية، وتشجيعها على عدم مغادرة البلاد.
أما قريبي فقد أطلقت سراحه السلطات بعد سنة تقريباً من التنقل بين شعب المخابرات والمستشفيات فخرج بعدها ظِلّ إنسان.
وحدثني كيف عذبه أفراد المخابرات في “المجتهد” التي بقي فيها ثلاثة أسابيع مكبلاً إلى سريره. ووصف لي كيف طرد عناصر “فرع الخطيب” (الفرع 251 التابع لإدارة المخابرات العامة) طبيبة جاءت لتعالجه بعد أن أخرجت الحراس من غرفته.
كان يمنع على أحد أن يقترب من غرفته باستثناء الحراس والمحققين وطبيب يعاينه لعشر دقائق صباحاً. أما الحراس الآتون من “الخطيب” ومن إدارة المخابرات الجوية، فكان “صفعهم إياي أمراً طبيعياً لهم”.
يتذكر قريبي وجوه الحراس الذين عذبوه والكادر الطبي والمحققين، كما يتذكر وجه د. أديب. ويقول إنه لن يسامحه إن كان يعلم أو كان بمقدوره أن يمنع عنه التعذيب وسوء المعاملة التي تعرض لها في “المجتهد” ولم يفعل.
درج
—————————–
=====================