مقالات تناولت واقع الاقتصاد السوري
========================
————————–
“الاقتصاد السياسي” في سوريا : ترسيخ توجهات ما قبل الحرب/ جوزيف ضاهر
تُواصِل السلطات السوريّة منذ عام 2011 وضع سياسات اقتصاديّة ترمي إلى توطيد سلطتها وتعزيز شبكات محسوبيّتها العديدة، يتزامن ذلك مع إتاحة أشكال جديدة من تراكم رأس المال. بدأت هذه العمليّة بالفعل في مطلع الألفيّة الجديدة من خلال تحرير وخصخصة الاقتصاد السوريّ. ومنذ ذلك الحين، أخذَت هيمنة التجار ورجال الأعمال الجدد التابعين للنظام على الاقتصاد السوريّ في الازدياد والتعمّق بدرجة هائلة، خاصّة خلال السنوات الأخيرة؛ إذْ استمرّت سياسات الحكومة السوريّة بعد عام 2011 في نفس الاتّجاه.
نظرة عامة لبعض الأجنحة في معرض “إعادة إعمار سورية” على أرض مدينة المعارض في دمشق في سوريا 17 أيلول/سبتمبر 2019.اشتركت حوالي 390 شركة من بلدان عربية وأجنبية في معرض “إعادة إعمار سورية” بدورته الخامسة برعاية مؤسسة الباشق للمعارض وبالتعاون مع وزارة الأشغال العامة والإسكان.
مقدّمة
يسيطر نظام الأسد على 70% تقريباً من الأراضي السوريّة بعد أكثر من 9 سنوات على الحرب، وذلك بفضل المساعدات السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة المقدَّمة من حليفَيه: روسيا وإيران. لكنْ على الرغم من كلِّ هذا الدعم، ما تزال التحدّيات والمشاكل الاقتصاديّة-الاجتماعيّة التي تواجه دمشق تستعصي على الحلّ. فقد تراجع الناتج المحلّيّ الإجماليّ للبلاد من 60.2 مليار دولار أميركيّ في 2010 إلى 21.6 مليار دولار أميركيّ في 2019، بَينما تُقدَّر تكاليف إعادة الإعمار بنحو 500 مليار دولار أميركي. وقد فاقمت الأزمة الماليّة التي يشهدها لبنان منذ عام 2019 ووباء كورونا مشاكلَ البلاد الاجتماعيّة والاقتصاديّة بشدّة، مع تخطّي مستويات الفقر حاجز 85% حتّى قبل تفشّي فيروس كورونا في سوريا، وَفقاً للتقديرات.
في ظلّ هذا الوضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ المتردّي، وضعت السلطات السوريّة سياسات اقتصاديّة ترمي إلى توطيد سلطتها وتعزيز شبكات محسوبيّتها العديدة، بالتزامُن مع إتاحة أشكال جديدة من تراكم رأس المال. كان أحد العناصر الرئيسيّة في هذه الاستراتيجيّة هو الترويج لنموذج من التنمية الاقتصاديّة يعتمد على الشراكة بين القطاعَين العامّ والخاصّ وخصخصة المنافع والخدمات العامّة بوصفه حجرَ الأساس لإعادة إعمار البلاد والسبيلَ لإنعاش اقتصادها.
غالباً ما يُقدِّم نموذج “اقتصاد الحرب” -الذي طرحه كثيرٌ من المحلّلين لوصف الوضع الحاليّ في سوريا- باعتباره شكلاً جديداً يُفترض أنْ يُمثّل انفصالاً وانحرافاً عن الديناميّات الاقتصاديّة التي كانت قائمة في سوريا قبل عام 2011. لكنّ الواقع هو أنّ الصراع الحاليّ ساهم في تفاقُم تلك الديناميّات الاقتصاديّة الموجودة سلفاً. فقد أدّى الصراع إلى تعاظُم السياسات والتوجّهات النيوليبراليّة التي كانت تنتهجها الحكومة السوريّة في فترة ما قبل الحرب وعزّز جوانب النظام الاستبداديّة الموروثة. كلّ ما حدث هو تغيُّر في شبكات الجهات الفاعلة المحلّيّة والأجنبيّة التي كانت تدعم النظام وتستفيد منه. فقبل انتفاضة 2011، كانت السعوديّة ومعها قطر وتركيا من أبرز الجهات الفاعلة المستفيدة من الانفتاح الاقتصاديّ في سوريا، بَينما الآن صارت روسيا في المقام الأوّل ثمّ إيران، لكنْ بدرجة أقلّ، هما المستفيدتَين الرئيسيّتَين.
استراتيجيّة الحكومة السوريّة لإنعاش الاقتصاد و”إعادة الإعمار”
في شباط/فبراير من عام 2016، أعلنت الحكومة السوريّة عن خطّة “التشاركيّة الوطنيّة”، بوصفها استراتيجيّتها الجديدة للاقتصاد السياسيّ التي حلّت محلّ نموذج “اقتصاد السوق الاجتماعيّ” المُطوَّر في 2005، الذي كان بالفعل قد أعطى الأولويّة للتحرّر الاقتصاديّ وتراكم رأس المال الخاصّ. يتمثّل أحد الجوانب المحوريّة للاستراتيجيّة الجديدة في إصدار قانون حول “التشاركيّة بين القطاعَين العامّ والخاصّ” في كانون الثاني/يناير من عام 2016، بعد ستّ سنوات من صياغته. وقد سمح هذا القانون للقطاع الخاصّ بإدارة وتطوير الأصول الحكوميّة في جميع قطاعات الاقتصاد بوصفه الشريك أو المالك الرئيسيّ، باستثناء قطاع استخراج النفط. وقد صرّح همّام الجزائريّ، وزير الاقتصاد والتجارة الخارجيّة السابق، أنّ القانون يُشكّل “إطاراً تشريعيّاً ينظّم العلاقات بين القطاعَين العامّ والخاصّ، ويلبّي الاحتياجات الاقتصاديّة والاجتماعيّة المتنامية التي تشهدها سوريا، وخاصّة في ترميم وإعادة تأهيل وتطوير وتوسيع البِنَى التحتيّة والمشاريع الحيويّة”، بَينما يتيح الفرصة أيضاً أمام القطاع الخاصّ من أجل “الإسهام في عمليّة التنمية الاقتصاديّة بوصفه شريكاً أساسيّاً وفاعلاً في عمليّة الإعمار والتنمية، ويهدف أيضاً إلى تعزيز تطوير القطاع العامّ من خلال التشاركيّة مع القطاع الخاصّ، التي ستأخذ شكلَ علاقة تعاقديّة مدّةً زمنيّة محدَّدة متّفق عليها بين الجهتين”، مضيفاً أنّ “من أهمّ متطلّبات التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي يحقّقها هذا القانون، هو زيادة التمويل المقدَّم من القطاع الخاصّ بما يتكامل مع الاستثمارات الحكوميّة”.
لكنْ من المرجّح أنْ يواصل قانون التشاركيّة الجديد بين القطاعَين العامّ والخاصّ إحكام سيطرة شبكات المحسوبيّة الرأسماليّة على الأصول العامّة، دون مراعاة المصالح العامّة والحكوميّة. في الإطار نفسه، وفي اجتماع مع ممثّلي قطاع الأعمال المشاركين في معرض دمشق الدوليّ الذي انعقد في أيلول/سبتمبر 2018، أعلن عماد خميس، رئيس الوزراء السوريّ السابق، أنّ الحكومة قد تطرح 50 مشروعاً للبنية التحتيّة أمام المستثمرين من القطاع الخاصّ على هيئة مشاريع تشاركيّة بين القطاعَين العامّ والخاصّ. إضافةً إلى ذلك، وخلال جلسة برلمانيّة في تشرين الأوّل/أكتوبر عام 2018، دعا فارس شهابي، البرلمانيّ السابق ورئيس اتّحاد غرفة صناعة حلب، إلى طرح مزيدٍ من المشاريع التشاركيّة في قطاع الصناعات العامّة بهدف زيادة الفرص أمام استثمارات القطاع الخاصّ. قد يمهِّد هذا الطريق لإنشاء سوق استثماريّة جديدة تسمح لرجال الأعمال بالاستثمار في قطاعات عامّة صناعيّة ربحيّة، مع تخلّي الدولة تدريجيّاً عن الصناعات الحكوميّة التي تعاني العجز. علاوةً على ذلك، سعت الحكومة السوريّة إلى عقد صفقات مع مستثمرين من القطاع الخاصّ تتعلّق بشركات إنتاج غذائيّ مملوكة للدولة، في إطار مشروعات التشييد والتشغيل ونقل الملكيّة (Build-Operate-Transfer, BOT)، أو من خلال قانون التشاركيّة.
يجب أيضاً فهم قانون التشاركيّة هذا في سياق تنامي الديناميّة النيوليبراليّة على المستويَين الإقليميّ والعالميّ، التي بموجبها أصبحت القطاعات الاقتصاديّة التي كانت تديرها الدولة فقطّ في السابق منفتحةً على احتماليّة تراكم رأس المال فيها من قِبَل الجهات الفاعلة الخاصّة. في الوقت نفسه، اعتمدت بلدان مختلفة من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قوانينَ شراكة بين القطاعَين العامّ والخاصّ لمضاعفة جهودها الرامية إلى إتمام عمليّات خصخصة الخدمات العامّة والبنية التحتيّة الحضريّة التابعة للدولة.1
والآن تُعرض فرص هائلة أمام حلفاء سوريا الأجانب، خاصّة روسيا وإيران، إلى جانب رجال الأعمال التابعين للنظام، للاستثمار في الأصول العامّة وتحقيق أرباح طائلة من ورائها.
يُعَدّ العقد المُوقَّع في 2019 مع شركة “ستروي ترانس غاز” الروسيّة لإدارة وتشغيل ميناء طرطوس مدّةَ 49 عاماً مثالاً صارخاً على هذه العمليّة. وقد أوضح وزير النقل السوريّ أنّ شركة “ستروي ترانس غاز” ستستثمر خلال الفترة المنصوص عليها في العقد مبلغاً يقدَّر بنحو 500 مليون دولار أميركيّ، لا سِيَّما من أجل تطوير وتوسيع الميناء وذلك للسماح بدخول ورسوّ سفن ذات حجم وحمولات أكبر. سبَق أنْ وقّعت الشركة الروسيّة عقدَين مماثلَين في سوريا خلال السنوات الأخيرة:
عقد تطوير مناجم فوسفات خنيفيس في ريف حماة.
وعقد إدارة معامل إنتاج الأسمدة الواقعة قرب حمص وتشغيل الشركة العامّة للأسمدة.
ستُتيح هذه العقود الآن لشركة “ستروي ترانس غاز” إمكانيّة الإشراف على عمليّة إنتاج الفوسفات بالكامل، إلى جانب سلسلة النقل والتصدير من المناجم إلى الميناء.
وقد وقّعت وزارة النفط والثروة المعدنيّة السوريّة، في أيلول/سبتمبر من عام 2019، ثلاثة عقود أيضاً مع الشركات الروسيّة في مجال المسح والتنقيب والإنتاج بقطاعَي النفط والغاز في المناطق الوسطى والشرقيّة من سوريا.
في المقابل، وعلى الرغم من المساعدة الهائلة التي تقدِّمها للنظام السوريّ،2 لم تمنح الحكومةُ السوريّة الجمهوريّةَ الإيرانيّة عقوداً ضخمة؛ إذْ لم يتمكّن الإيرانيّون من توسيع نفوذهم الجيوسياسيّ والعسكريّ المتزايد باستمرار ليشمل اقتصاد البلاد، خاصّة مع استحواذ الاستثمارات الروسيّة الخاصّة على هذا المجال. ترتبط معظم العقود التي حصلت عليها طهران بالخطّ الائتمانيّ الإيرانيّ الممنوح لسوريا، مثل العقد المبرَم مع “مجموعة مابنا” الإيرانيّة لبناء محطّة توليد كهرباء في مدينة اللاذقيّة الساحليّة بتكلفة 400 مليون يورو (أيْ ما يعادل 460 مليون دولار أميركيّ).
تستفيد أيضاً الجهات الفاعلة الخاصّة السوريّة المقربة من النظام من تلك الديناميّات. ففي كانون الثاني/يناير عام 2020، صدَّق بشار الأسد على قوانين تمنح ثلاثة عقود لـ”مجموعة قاطرجي”،3 الأمر الذي يمنحهم دوراً استراتيجيّاً في قطاع توزيع النفط في سوريا. وقد حصلت “مجموعة قاطرجي” على حقّ إنشاء مصفاتَي نفط، وتطوير وتوسيع مصب النفط في ميناء طرطوس. ظلّ قطاع التكرير حكراً على الدولة حتّى ذلك الحين، على الرغم من أنّ الحكومة كانت تسعى قبل عام 2011 إلى اجتذاب الاستثمارات الخاصّة إلى هذا القطاع. فيما مضى، استفاد رجل الأعمال وسيم القطّان، الذي كان يمثّل على الأرجح واجهةً لماهر الأسد، من عقود حكوميّة متعدّدة للاستثمار في الفنادق والمجمّعات التجاريّة ومراكز التسوق.4
على نحو مماثل، وفي ضوء عمليّة إعادة الإعمار، وافقت الحكومة في تمّوز/يوليو عام 2015 على قانون يسمح للمجالس البلديّة وغيرها من الوحدات الإداريّة المحلّيّة بإنشاء الشركات القابضة من أجل إدارة الأصول والخدمات العامّة. وفي خريف عام 2016، أُنشِئت “شركة دمشق الشام القابضة” برأس مال قدره 60 مليار ليرة سوريّة، أو ما يقرب من 120 مليون دولار أميركيّ آنذاك (وَفقاً لسعر الصرف عام 2016) وكانت محافظة دمشق تمتلكها بالكامل. وهذه الشركة هي المسؤولة عن تنفيذ إعادة إعمار مشروع “ماروتا سيتي” لتطوير العقارات الفاخرة، فضلاً عن أنّها تُسند العقود وَفقاً لاستثمارات الجهات الفاعلة التابعة للقطاع الخاصّ.
لا يسعى النظام إلى الاستفادة من عمليّة إعادة الإعمار على الصعيدَين السياسيّ والاقتصاديّ فحسب، بل يسعى أيضاً إلى ترسيخ أمنه المفترض. فمنذ عام 2011، سنّ نظام الأسد ما يقرب من خمسين قانوناً تتعلّق بمسائل “الإسكان والأراضي والممتلكات”، الأمر الذي سمح للدولة في نهاية المطاف بهدم المناطق التي خضعت لسيطرة المعارضة في السابق. وقد وضعت الدولة أيضاً قوانين ومراسيم لمصادرة الممتلكات، ومن ثَمّ الاستفادة من تنمية وتطوير العقارات. ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد “المرسوم التشريعيّ رقم 66” الذي دخل حيّز النفاذ في أيلول/سبتمبر عام 2012.
سمح هذا المرسوم لمحافظة دمشق بطرد السكان من منطقتين كبيرتين في العاصمة، هما بساتين الرازي في المنطقة العقاريّة المزّة وكفر سوسة، من أجل تطوير مشروع عقاريّ فاخر يُسمى “ماروتا سيتي”.5 يتمثّل أحد العناصر الرئيسيّة للمرسوم رقم 66 في نهج التمويل، الذي يعتمد على قيام السلطات المحلّيّة بتأسيس شركات استثمار بين القطاعَين العامّ والخاصّ. وقد استند المرسوم على بعض جوانب “الخطّة الرئيسيّة للتخطيط العمرانيّ والإسكان في دمشق لعام 2007” التي لم تُنفّذ بسبب اندلاع انتفاضة عام 2011. وفي نيسان/أبريل 2018، أصدرت الحكومة السوريّة المرسوم رقم 10، الذي وضع على غرار المرسوم رقم 66، ووسّع نطاق تنفيذ هذه السياسات على المستوى الوطنيّ.
علاوةً على ذلك، أصدرت الحكومة عام 2012 المرسوم رقم 63، الذي يخوِّل وزارة الماليّة بمصادرة الأصول والممتلكات من الأشخاص الذين يخضعون للقانون رقم 19، وهو قانون لمكافحة الإرهاب صدر في العام نفسه. وقد سُلِّط الضوء على تأثير هذا القانون في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2018، عندما وثّقت وزارة الماليّة ما يزيد على 30 ألف عمليّة مصادرة للممتلكات عام 2016 نتيجة لاتهامات تتضمن ارتكاب أعمال إرهابيّة مزعومة، و40 ألف عمليّة مصادرة عام 2017. فضلاً عن ذلك، منح القانون رقم 3 لعام 2018 الحكومة مجالاً كبيراً لتحديد ما ينبغي تعريفه بوصفه مباني متضرّرة. وقد سمح هذا القانون بإغلاق الأحياء السكنيّة وهدمها، الأمر الذي منع المدنيّين من العودة.
العقبات التي تحول دون انتعاش الاقتصاد
تعيَّن على النظام السوريّ أنْ يتعامل مع التحدّيات الماليّة والاقتصاديّة المتزايدة باضطراد والتي تسبّبت في إبطاء الجهود الرامية إلى التعافي.
لم يُنفَّذ حتّى الآن عدد كبير من المشروعات القائمة على الشراكة بين القطاعَين العامّ والخاصّ وبناء أو إعادة إعمار مشروعات العقارات الفاخرة في سوريا بواسطة الجهات الفاعلة الخاصّة السوريّة أو تعديلها وإعادة تقييمها. فقد ظلّت أغلب هذه المشروعات حتّى الآن مجرّد تصريحات، الأمر الذي أظهر قدرة الحكومة المحدودة على تنفيذ هذه المخطّطات والقيود المتأصّلة في خططها الرامية إلى إعادة التنمية الاقتصاديّة. على سبيل المثال، فشلت الشركات القابضة التي أنشأتها محافظات حمص (2018) وحلب (2019) ودمشق (2019) في بدء تنفيذ أيّ عمليّة إعادة إعمار منذ تأسيسها.
يُعزَى السبب الرئيسيّ وراء الفشل في إطلاق هذه المشاريع إلى نقص التمويل سواء العامّ أو الخاصّ. ففي نهاية عام 2019، بلغ إجماليّ الودائع لدى البنوك الخاصّة 1.134 مليار ليرة سوريّة فقط (حوالي 2.6 مليار دولار أميركيّ، وَفقاً لسعر الصرف الرسميّ في مصرف سوريا المركزيّ في كانون الأوّل/ديسمبر 2019 (434 ليرة لكل دولار). وعلى سبيل المقارنة، بلغت هذه القيمة عام 2010، 13.8 مليار دولار أمريكيّ. في حين تمتلك المصارف الحكوميّة، وخاصّة “المصرف التجاريّ السوريّ”، احتياطيّات أكبر بكثير، قُدِّرت قيمتها في 2019 بنحو 3.207 مليار ليرة سوريّة (ما يقرب من 7.4 مليار دولار أميركيّ)، على الرغم من أنّ لديها أيضاً حوافظ ديون معدومة كبيرة.
علاوةً على ذلك، تواجه الحكومة تحدّيات متزايدة في التمويل ترتبط بالنقص في احتياطيّات النقد الأجنبيّ والانخفاض المستمرّ في قيمة الليرة السوريّة. فمنذ مطلع عام 2020، واجهت الدولة السوريّة، على سبيل المثال، مشاكل عند استيراد سلع غذائيّة معيّنة. وقد أدّى ذلك إلى عدم توفّر العديد من السلع الغذائيّة المدعومة في منافذ بيع “المؤسّسة السوريّة للتجارة”، على الرغم من أنّ بعض هذه المنتجات ما تزال موجودة في السوق من خلال مستوردين من القطاع الخاصّ، يبيعونها مقابل أسعاراً أعلى.
في نفس الوقت، اتّبعت الحكومة تدابير تقشّفيّة من خلال خفض الدعم على بعض المنتجات الأساسيّة. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2020، ضاعفت الحكومة السوريّة سعر زيت الوقود وزادت سعر البنزين بنسبة 80%. فقد ارتفع سعر زيت الوقود غير المدعوم الذي يُباع للمؤسّسات التجاريّة على سبيل المثال إلى 650 ليرة سوريّة بعد أنْ كان 450 ليرة للتر الواحد، بَينما وصل سعر زيت الوقود المدعوم إلى 450 ليرة سوريّة، مقارنةً بما كان عليه في السابق، 250 ليرة سوريّة. من شأن هذا القرار أنْ يزيد الأسعار بشكل كبير في مختلف قطاعات الاقتصاد وأنْ يقلّل من القدرة التنافسيّة للمصنِّعين السوريّين والقوة الشرائيّة للسكان.
يتمثّل التحدّي الثاني في عدم الاستقرار والانخفاض المستمرّ في قيمة العملة الوطنيّة، وخاصّة منذ كانون الثاني/يناير عام 2020، ممّا أدّى إلى إعاقة الاستثمار في البلاد. الواقع أنّ عجز الحكومة السوريّة ومصرف سوريا المركزيّ عن تحقيق الاستقرار في سعر الليرة السوريّة، على الرغم من الوعود المتكرّرة بالقيام بذلك، يُثير المخاوف بين المستثمرين الأجانب بشأن احتمال تكبُّد خسائر في سعر الصرف بسبب انخفاض قيمة العملة.
في نفس الوقت، تحوم شكوك كبيرة حول إمكانيّة تنفيذ المشروعات الاقتصاديّة بين سوريا وحلفائها بنجاح، لا سِيَّما فيما يتعلّق ببعض خطط إعادة الإعمار المحددة في مذكرات التفاهم المختلفة التي تمّ الاتّفاق عليها بين الحلفاء في السنوات الأخيرة. على سبيل المثال، فشلت الحكومة السوريّة في تأمين الأموال اللازمة لإسهامها في اتّفاقيّات التعاون في قطاع الكهرباء مع إيران وروسيا، الأمر الذي دفعهما إلى الانسحاب.
ما تزال المخطّطات الرامية إلى تمويل مشروعات إعادة الإعمار أو غيرها من الاستثمارات في البنية التحتيّة، عن طريق رأس المال الأجنبيّ غير واضحة وغير كافية، خاصّةً في ظلّ مواجهة روسيا وإيران لمشاكلهما الاقتصاديّة العميقة بَينما يواصلان في نفس الوقت تقديم الدعم الماليّ والمادّيّ للنظام السوريّ على أعلى المستويات.
إضافةً إلى هذا، تشكّل العقوبات الأميركيّة والأوروبّيّة على سوريا عقبةً تصدّ الشركات والمستثمرين الأجانب عن الساحة السوريّة.6 فالمخاوف من السقوط تحت طائلة العقوبات الأميركيّة تصرِف أيضاً الشركات متعدّدة الجنسيّات، وخاصّة مع إعلان الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب مؤخّراً عن “قانون قيصر لحماية المدنيّين السوريّين”.7 وقد وضعت الضغوط الأميركيّة حدّاً لمزيد من التقارُب بين بعض الأنظمة العربيّة وسوريا؛ فمع أنّ العلاقات الإماراتيّة-السوريّة قد استُؤنِفت، لم تضخّ أيّة استثمارات في سوريا إلى الآن.
شبكات رجال الأعمال الجديدة: تعميق السياسات الاقتصاديّة التي سبقت عام 2011
أتاح الصراع ظهور فاعلين اقتصاديّين جُدد، عادةً ما يرتبطون بالأجهزة الأمنيّة وينخرطون في القطاعات المختلفة لاقتصاد الحرب، ويسعون بشكلٍ متزايد إلى تحقيق عائدات سريعة ومرتفعة لاستثماراتهم. فهم يعملون كمهرِّبين ووسطاء تجاريّين لاستيراد بضائع معيّنة تحتاج إليها البلاد، أو يعملون كواجهة للشخصيّات المؤثّرة في النظام السوريّ. وفي نهاية المطاف يستثمر رجال الأعمال هؤلاء في الاقتصاد الرسميّ، وبعضهم يعزّز نفوذه وسطوته من خلال شَغْل المناصب الرسميّة في مؤسّسات الدولة، كالبرلمان والغرف الاقتصاديّة المختلِفة ومنها غرف التجارة.
عادةً ما تتعارض المصالح الاقتصاديّة والتجاريّة لهؤلاء اللاعبين الجُدد مع إمكانيّة تنشيط القطاعات الإنتاجيّة في الاقتصاد السوريّ، وتحديداً قطاعَي الزراعة والتصنيع اللذين عانَيا بشدّة من آثار الحروب والدمار. أمّا قطاع التجارة -وخصوصاً الوارِدات- فقد أصبح مصدراً رئيسيّاً للأعمال التجاريّة المربِحة في البلاد، بسبب الإنتاج الاقتصاديّ المنخفض للغاية وافتقار النظام إلى الاستثمارات والحوافز الاستثماريّة في القطاعات الإنتاجيّة، وبسبب الحاجة إلى منتجات معيّنة كالموادّ الغذائيّة والأدوية والمشتقّات البتروليّة. وقد شكَّل التجّار التابعون للنظام شبكات احتكار لبعض المنتَجات من تجارة الاستيراد، فيما قاموا أيضاً بتطوير أسواق للتهريب.
يأتي هذا على الرغم من أنّه منذ بدء الانتفاضة الشعبيّة في آذار/مارس 2011 والحكومات السوريّة المتعاقِبة تُعلِن عن العديد من التدابير لتقليص الوارِدات من منتجات معيّنة ولإعادة تركيز جهودها على الإنتاج المحلّيّ. غير أنّ تلك السياسات أثارت الانتقادات في أوساط فئات من التجّار الذين رأوا في تقليص الوارِدات تهديداً لهم، ولم يرغبوا في أنْ تتراجَع مصالحهم ومنافعهم. في نهاية المطاف تغلّبت مصالح التجّار، ولم تفعل الحكومة سوى القليل. وبالفعل في العام 2012 سرعان ما أُلغِيَ قرار حظر جميع الوارِدات التي لها معدّل تعريفة جمركيّة يزيد عن 5%، وذلك إثر ضجّة وسط مجتمع الأعمال المحلّيّ. في آذار/مارس 2019، وبدعمٍ من مجموعة كبيرة من التجّار ورجال الأعمال، استطاع محمّد حمشو إقناعَ رئيس الوزراء بإلغاء مرسوم حكوميّ يحتّم على المستورِدين دفعَ رسوم قنصليّة لوزارة الخارجيّة والمغتربين بدلاً من وكلاء الجمارك التابعين لوزارة الماليّة. وكانت وزارة الخارجيّة حينها ستُطالِب المستورِدين بتقديم وثائق دفع الرسوم القنصليّة، أيْ فاتورة وشهادة مَنشأ مصدَّقة من السفارة السوريّة في البلد المصدِّر للمنتجات. كان هذا الإجراء يمثّل مشكلة لمعظم التجّار، نظراً لأنّ الغالبيّة العظمى منهم يستورِدون بضائعهم إلى سوريا من مصادر غير معروفة أو من بلد ليست هي بلد المَنشأ لتلك السلع والمنتجَات، وإنّما عبر لبنان وبلدان عربيّة أخرى.
تسارعَت وتيرة الدور الصاعد لتلك الجهات الفاعلة الجديدة بفضل قرار الحكومة السوريّة القيام بالمزيد من أجل تخفيف القيود على الوارِدات، الأمر الذي أدّى إلى زيادة إسناد مسؤوليّة الاستيراد إلى القطاع الخاصّ. وفي آذار/مارس 2020، قامت الحكومة بالمزيد من تخفيف القيود على استيراد الغاز الطبيعيّ للسماح للمزيد من الجهات الفاعلة في القطاع الخاصّ باستيراد الوقود والديزل مدَّةَ ثلاثة أشهر، فيما سمحت في الوقت ذاته لجميع المستورِدين -بما فيهم الشركات الخاصّة- باستيراد الدقيق، بغضّ النظر عن بلد المَنشأ. ومع ذلك، فإنّ هذه التدابير لم تُلَبِّ النقص في احتياجات البلاد من القمح والوقود، لعدّة أسباب منها العقوبات والفساد وأعمال الاحتكار التي يقوم بها التجّار.
أثارت هذه التدابير مشاعر الإحباط والخَيبة في أوساط المصنِّعين الذين كانوا ينادون بسياسات تدعم الإنتاج الوطنيّ. على سبيل المثال، في أيلول/سبتمبر 2020، قدّمَت غرفة صناعة حلب قائمة مطالبها إلى الحكومة، بهدف الحفاظ على قطاع التصنيع الوطنيّ ودعم الإنتاج. كان أحد أبرز المطالب إيقاف دعم جميع الوارِدات (وتركيزه بدلاً من ذلك على المنتجات الضروريّة فقطّ)؛ الذي يُعتبر إجراءً يُفاقِم كلّاً من الفساد واستغلال فرق الأسعار وتهريب الأموال. في حين صرحت غرفة صناعة حلب أيضاً أنّ عمليّات تمويل الوارِدات لم تُؤدِّ إلى خفض الأسعار في الأسواق. وهكذا أكّدت هذه المطالب بصورة عامّة على المطالبَ السابقة التي عبَّر عنها كبار المصنِّعين للحكومات السوريّة المتعاقبة.
بدأ هذا التوجّه السياسيّ -في تفضيل الاستهلاك على الاستثمار في الإنتاج- بالفعل في بدايات العِقد الأوّل من الألفيّة، مع عمليّة تحرير وخصخصة الاقتصاد السوريّ؛ ولكنّ التجّارَ ورجالَ الأعمال الجُدد التابعين للنظام قد ضاعَفوا بشكلٍ كبير هيمنتَهم على الاقتصاد السوريّ في السنوات الأخيرة وعمّقوها. بالتالي، لا يجدُر بنا اعتبار التدابير السياسيّة المختلفة التي نفّذتها الحكومات السوريّة المتعاقبة ضروريّةً و”تكنوقراطيّة” كما تزعم دمشق، وإنّما وسائل لتغيير الظروف العامّة لتراكُم رأس المال وتمكين الشبكات الاقتصاديّة المرتبطة بالنظام. غالباً ما استغلّت الدول في جميع أنحاء العالم الأزماتِ باعتبارها فرصةً لإعادة الهيكلة وتعزيز التغييرات بطرقٍ لم تكن في السابق متصوَّرة، من أجل توسيع نطاق وصول السوق في مجموعة واسعة من القطاعات الاقتصاديّة التي كانت في السابق تهيمن عليها الدولة إلى حدٍّ كبير.
خاتمة
ترتبط السياسة الاقتصاديّة للحكومة السوريّة بالطبيعة الميراثيّة للنظام السوريّ، ولتلك السياسة عواقب واضحة على البِنَى الاقتصاديّة-الاجتماعيّة والمجتمعيّة في البلاد. ففي السنوات الأخيرة عزّز هذا النهج من زيادة تطوير التجارة والقطاع الخدميّ، وغذّى أشكالاً مختلفة من الاستثمار القائم على المضارَبة، وخصوصاً في قطاع العقارات، مصحوباً بالفساد وإدارة ريعيّة للموارِد (بما فيها الموارد غير الطبيعيّة). حدث كلّ هذا مع مزيدٍ من إضعاف القطاعات الإنتاجيّة وتقليصها، الأمر الذي يؤدّي إلى زيادة إفقار قطاعات واسعة من المجتمع ويقود إلى معدّلات ضخمة من البطالة ونقص العمالة، مصحوبةً بمعدّلات عالية للغاية من هجرة شباب الخرّيجين.
أدّى هذا إلى زيادة مشاعر الإحباط والخيبة في أوساط الشعب السوريّ، وهي التي ظهرت من خلال الانتقادات التي تمّ التعبير عنها على وسائل التواصل الاجتماعيّ وفي صورة احتجاجات صغيرة ضدّ التدهور المتواصل في اقتصاد البلاد وسياسات الحكومة.
مع ذلك، لا تتحوّل تلك الانتقادات والمؤشّرات على وجود معارضة تلقائيّاً إلى فرص سياسيّة، وخاصّة بعد أكثر من تسع سنوات من الحرب الوحشيّة الدائرة في البلاد. إضافةً إلى ذلك، تظلّ محصورةً في مناطق محلّيّة محدودة، دون أدنى روابط أو صلات فيما بينها. وذلك لأنّ غياب معارض سوريّة منظّمة ومستقلّة وديمقراطيّة وشاملة، بإمكانها جذب الطبقات الشعبيّة من المجتمع، يُصعّب عمليّة توحيد قطاعات متنوّعة من الشعب لتحدّي النظام من جديد على نطاق وطنيّ.
ختاماً، بَينما ضمِن النظام إلى حدٍّ ما بقاءه، نتيجة دعم حلفائه الأجانب بشكلٍ أساسيّ، لم يضمن الحفاظ على شكل من الهيمنة المستترة على قطاعات كبيرة من الشعب. وقد أدّى هذا إلى إثارة حالة من عدم الاستقرار المتواصل، وهي الحالة التي من المحتمل أنْ تستمرّ في المستقبل القريب.
↑1 في المملكة العربيّة السعوديّة على سبيل المثال، أصبحت الشراكة بين القطاعَين العامّ والخاصّ عنصراً أساسيّاً في الاستراتيجيّة الاقتصاديّة والسياسيّة لرؤية السعوديّة 2030 التي يروّج لها الأمير محمّد بن سلمان. ويشرح برنامج التحوّل الوطنيّ 2020 -الذي طُرح بعد رؤية السعوديّة 2030- السياسات الاقتصاديّة للقيادة السعوديّة الجديدة بالتفصيل، ويضع رأس المال الخاصّ في صميم الاقتصاد السعوديّ المستقبليّ. وأعلنت الحكومة السعوديّة أيضاً عن خططها إبرامَ شراكات بين القطاعَين العامّ والخاصّ في كثير من الخدمات الحكوميّة، ويشتمل ذلك على قطاعات اجتماعيّة تقليديّة للغاية، كالتعليم والإسكان والصحّة. وقد وصفت صحيفة “ذي فاينانشال تايمز” الخطط بأنّها “نهج تاتشريّ سعوديّ” (Saudi Thatcherism). علاوة على ذلك، ذكر “البنك الأوروبّيّ لإعادة الإعمار والتنمية”، الذي بدأ أنشطته في المنطقة العربيّة بعد اندلاع الانتفاضات الشعبيّة عام 2011، بوضوحٍ أنّ أحد أهدافه الرئيسيّة هو التشجيع على الشراكات بين القطاعَين العامّ والخاصّ في مشاريع البنية التحتيّة.
↑2 على سبيل المثال، كان من المتوقّع أنْ تُمنح طهران رخصة شركة اتّصالات خلويّة وحقّ تشغيل وإدارة محطّة الحاويات في ميناء اللاذقيّة وبعض الأسهم في مناجم الفوسفات. لكنّ طهران لم تتمكّن من الحصول على أيٍّ من هذا.
↑3 كان حسام قاطرجي تاجراً مغموراً قبل عام 2011. وأثناء الحرب، عمل وسيطاً لتجارة النفط والحبوب بين النظام من جهة، و”تنظيم الدولة الإسلاميّة -داعش” وقوات سوريا الديمقراطيّة “قسد” من جهة أخرى. ومنذ ذلك الحين، أصبح أحدَ أهم رجال الأعمال في البلاد وعضواً في البرلمان منذ عام 2016 عن محافظة حلب. ثمّ أعيد انتخابه عام 2020.
↑4 في مستهلّ الأمر، كانت إحدى مصادر ثروة القطان مرتبطةً بأنشطة تجاريّة غير مشروعة تمت أثناء حصار الغوطة الشرقيّة قبل عودة هيمنة النظام السوريّ عليها.
↑5 ينصّ المرسوم رقم 66 على تعويض الشاغلين الأصليّين: إذ يحقّ لهم الحصول على مساكن جديدة مبنيّة في مواقع أخرى غير محددة، ويُمنَح مستحقّي السكن البديل ما يعادل تعويض بدل إيجار سنويّ إلى حين تسليمهم السكن البديل يصرف سنويّاً من صندوق خاصّ أنشأته محافظة دمشق. أمّا هؤلاء الشاغلين غير المستحقّين للسكن البديل، سيتمّ منحهم ما يعادل تعويض بدل إيجار لمدّة سنتين يصرف من صندوق المنطقة خلال مدّة لا تتجاوز شهراً من تاريخ تبليغ إنذار الإخلاء. غير أنّ المرسوم رقم 66 لا يحدد الشروط التي يُعتبر بموجبها الشاغلين مستحقّين لهذه المساكن الجديدة. والواقع أنّ العديد من المقيمين في المنطقة اشتكوا على مر السنين من نقص المساكن البديلة، فضلاً عن حقيقة أنّهم لا يستطيعون ببساطة أنْ يجدوا أماكن إقامة في مناطق أخرى. بالإضافة إلى ذلك، لم يتمّ بعد بناء مساكن بديلة للشاغلين الأصليّين. وفي 22 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020، أعلنت المؤسّسة العامّة للإسكان عن مناقصة لتنفيذ أعمال الهيكل والإكساء لأوّل برجين من مشروع السكن البديل لسكان ماروتا سيتي، بقيمة تصل إلى 20 مليار ليرة سوريّة (ما يقرب من 8 مليون دولار أميركيّ، بسعر صرف 2500 ليرة سوريّة للدولار).
↑6 ليست هناك عقوبات من الأمم المتّحدة على سوريا نفسها، نظراً لأنّ حقّ النقض الروسيّ والصينيّ حالَ دون ذلك. إنّما العقوبات مفروضة بصورة أحاديّة من قِبَل عدّة دول مُعارضة للنظام السوريّ، ومنها الولايات المتّحدة و28 دولةً من أعضاء الاتّحاد الأوروبّيّ، إضافةً إلى اليابان وكندا وأستراليا وسويسرا والنرويج وتركيا. كذلك فرض أعضاء جامعة الدول العربيّة، وهم 21 دولة، عقوباتٍ على سوريا.
↑7 يُتيح قانون قيصر للرئيس الأميركيّ معاقبة أيّ جهة حكوميّة أو خاصّة يُفترَض أنّها تساعد الحكومة السوريّة والجماعات والجهات المرتبطة بالحكومة، أو يُفترَض أنّها تساعد في إعادة إعمار سوريا، إضافة إلى أيّ مساعدات تقدَّم إلى الحكومتَين الروسيّة والإيرانيّة في داخل سوريا. بإمكان الرئيس الأميركيّ أيضاً فرض عقوبات على أيّ شركة دوليّة أو أيّ فرد يستثمر في قطاعات الطاقة والطيران والإنشاءات والقطاع الهندسيّ في سوريا، إضافةً إلى أيّ شخص يُقرِض الحكومة السوريّة (القسم 102 من القانون). بدأ تنفيذ قانون قيصر في 17 حزيران/يونيو 2020.
ينشر هذا النص بالتعاون مع “مبادرة الإصلاح العربي”
النص المنشور في موقع “درج“
“الاقتصاد السياسي” في سوريا : ترسيخ توجهات ما قبل الحرب
جوزيف ضاهر – استاذ وباحث
نوفمبر 17, 2020
لا يسعى النظام إلى الاستفادة من عمليّة إعادة الإعمار على الصعيدَين السياسيّ والاقتصاديّ فحسب، بل يسعى أيضاً إلى ترسيخ أمنه المفترض.
غالباً ما يُقدَّم نموذج “اقتصاد الحرب” -الذي طرحه محللون كثر لوصف الوضع الحاليّ في سوريا- باعتباره شكلاً جديداً يُفترض أنْ يُمثّل انفصالاً وانحرافاً عن الديناميّات الاقتصاديّة التي كانت قائمة في سوريا قبل عام 2011. لكنّ الواقع هو أنّ الصراع الحاليّ ساهم في تفاقُم تلك الديناميّات الاقتصاديّة الموجودة سلفاً. فقد أدّى الصراع إلى تعاظُم السياسات والتوجّهات النيوليبراليّة التي كانت تنتهجها الحكومة السوريّة في فترة ما قبل الحرب وعزّز جوانب النظام الاستبداديّة الموروثة. كلّ ما حدث هو تغيُّر في شبكات الجهات الفاعلة المحلّيّة والأجنبيّة التي كانت تدعم النظام وتستفيد منه. فقبل عام 2011، كانت السعوديّة ومعها قطر وتركيا من أبرز الجهات الفاعلة المستفيدة من الانفتاح الاقتصاديّ في سوريا، بَينما الآن صارت روسيا في المقام الأوّل ثمّ إيران، لكنْ بدرجة أقلّ، هما المستفيدتَان الرئيسيّتان.
سيطر نظام الأسد على 70 في المئة تقريباً من الأراضي السوريّة بعد أكثر من 9 سنوات على الحرب، وذلك بفضل المساعدات السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة المقدَّمة من حليفَيه: روسيا وإيران. لكنْ على رغم هذا الدعم، لا تزال التحدّيات والمشكلات الاقتصاديّة- الاجتماعيّة التي تواجه دمشق تستعصي على الحلّ. فقد تراجع الناتج المحلّيّ الإجماليّ للبلاد من 60.2 مليار دولار أميركيّ عام 2010 إلى 21.6 مليار دولار أميركيّ عام 2019، بَينما تُقدَّر تكاليف إعادة الإعمار بنحو500 مليار دولار أميركيّ. وقد فاقمت الأزمة الماليّة التي يشهدها لبنان منذ عام 2019 ثم تفشّي “كورونا” مشكلات البلاد الاجتماعيّة والاقتصاديّة بشدّة، مع تخطّي مستويات الفقر حاجز 85 غي المئة حتّى قبل تفشّي الوباء في سوريا، وَفقاً للتقديرات.
في ظلّ هذا الوضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ المتردّي، وضعت السلطات السوريّة سياسات اقتصاديّة ترمي إلى توطيد سلطتها وتعزيز شبكات محسوبيّتها الكثيرة، بالتزامُن مع إتاحة أشكال جديدة من تراكم رأس المال. كان أحد العناصر الرئيسيّة في هذه الاستراتيجيّة هو الترويج لنموذج من التنمية الاقتصاديّة يعتمد على الشراكة بين القطاعَين العامّ والخاصّ وخصخصة المنافع والخدمات العامّة بوصفها حجر الأساس لإعادة إعمار البلاد والسبيلَ لإنعاش اقتصادها.
في شباط/ فبراير 2016، أعلنت الحكومة السوريّة عن خطّة “التشاركيّة الوطنيّة”، بوصفها استراتيجيّتها الجديدة للاقتصاد السياسيّ التي حلّت محلّ نموذج “اقتصاد السوق الاجتماعيّ” المُطوَّر في 2005، الذي كان بالفعل أعطى الأولويّة للتحرّر الاقتصاديّ وتراكم رأس المال الخاصّ. يتمثّل أحد الجوانب المحوريّة للاستراتيجيّة الجديدة في إصدار قانون حول “التشاركيّة بين القطاعَين العامّ والخاصّ” في كانون الثاني/ يناير 2016، بعد 6 سنوات من صوغه. وقد سمح هذا القانون للقطاع الخاصّ بإدارة الأصول الحكوميّة وتطويرها في جميع قطاعات الاقتصاد بوصفه الشريك أو المالك الرئيس، باستثناء قطاع استخراج النفط.
معرض دمشق الدولي
في الإطار نفسه، وفي اجتماع مع ممثّلي قطاع الأعمال المشاركين في معرض دمشق الدوليّ الذي انعقد في أيلول/سبتمبر 2018، أعلن عماد خميس، رئيس الوزراء السوريّ السابق، أنّ الحكومة قد تطرح 50 مشروعاً للبنية التحتيّة أمام المستثمرين من القطاع الخاصّ على هيئة مشاريع تشاركيّة بين القطاعَين العامّ والخاصّ. إضافةً إلى ذلك، وخلال جلسة برلمانيّة في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2018، دعا فارس شهابي، البرلمانيّ السابق ورئيس “اتّحاد غرفة صناعة حلب”، إلى طرح مزيدٍ من المشاريع التشاركيّة في قطاع الصناعات العامّة بهدف زيادة الفرص أمام استثمارات القطاع الخاصّ. قد يمهِّد هذا الطريق لإنشاء سوق استثماريّة جديدة تسمح لرجال الأعمال بالاستثمار في قطاعات عامّة صناعيّة ربحيّة، مع تخلّي الدولة تدريجياً عن الصناعات الحكوميّة التي تعاني العجز. والآن تُعرض فرص هائلة أمام حلفاء سوريا الأجانب، خصوصاً روسيا وإيران، إلى جانب رجال أعمال تابعين للنظام، للاستثمار في الأصول العامّة وتحقيق أرباح طائلة من ورائها.
تراجع الناتج المحلّيّ الإجماليّ للبلاد من 60.2 مليار دولار أميركيّ عام 2010 إلى 21.6 مليار دولار أميركيّ عام 2019، بَينما تُقدَّر تكاليف إعادة الإعمار بنحو 500 مليار دولار أمريكي
يُعَدّ العقد المُوقَّع عام 2019 مع شركة “ستروي ترانس غاز” الروسيّة لإدارة ميناء طرطوس وتشغيله مدّةَ 49 عاماً، مثالاً صارخاً على هذه العمليّة. وقد أوضح وزير النقل السوريّ أنّ شركة “ستروي ترانس غاز” ستستثمر خلال الفترة المنصوص عليها في العقد مبلغاً يقدَّر بنحو 500 مليون دولار أميركيّ، لا سِيَّما من أجل تطوير الميناء وتوسيعه وذلك للسماح بدخول سفن ذات حجم وحمولات أكبر، ورسوّها. سبَق أنْ وقّعت الشركة الروسيّة عقدَين مماثلَين في سوريا خلال السنوات الأخيرة لتشغيل معامل الفوسفات وإدارة معامل إنتاج الأسمدة، وقد وقّعت وزارة النفط والثروة المعدنيّة السوريّة، في أيلول/ سبتمبر 2019، ثلاثة عقود أيضاً مع الشركات الروسيّة في مجال المسح والتنقيب والإنتاج في قطاعَي النفط والغاز في المناطق الوسطى والشرقيّة من سوريا.
في المقابل، وعلى رغم المساعدة الهائلة التي تقدِّمها للنظام السوريّ، لم تمنح الحكومةُ السوريّة الجمهوريّةَ الإيرانيّة عقوداً ضخمة، إذْ لم يتمكّن الإيرانيّون من توسيع نفوذهم الجيوسياسيّ والعسكريّ المتزايد باستمرار ليشمل اقتصاد البلاد، خصوصاً مع استحواذ الاستثمارات الروسيّة الخاصّة على هذا المجال.
تستفيد أيضاً الجهات الفاعلة الخاصّة السوريّة المقربة من النظام من تلك الديناميّات. ففي كانون الثاني 2020، صدَّق بشار الأسد قوانين تمنح ثلاثة عقود لـ”مجموعة قاطرجي”، الأمر الذي يمنحها دوراً استراتيجيّاً في قطاع توزيع النفط في سوريا. وقد حصلت “مجموعة قاطرجي” على حقّ إنشاء مصفاتَي نفط، وتطوير مصب النفط في ميناء طرطوس وتوسيعه. ظلّ قطاع التكرير حكراً على الدولة حتّى ذلك الحين، على رغم أنّ الحكومة كانت تسعى قبل عام 2011 إلى اجتذاب الاستثمارات الخاصّة إلى هذا القطاع. فيما مضى، استفاد رجل الأعمال وسيم القطّان، الذي كان يمثّل على الأرجح واجهةً لماهر الأسد، من عقود حكوميّة متعدّدة للاستثمار في الفنادق والمجمّعات التجاريّة ومراكز التسوق.
لا يسعى النظام إلى الاستفادة من عمليّة إعادة الإعمار على الصعيدَين السياسيّ والاقتصاديّ فحسب، بل يسعى أيضاً إلى ترسيخ أمنه المفترض. فمنذ عام 2011، سنّ نظام الأسد نحو 50 خمسين قانوناً حول “الإسكان والأراضي والممتلكات”، الأمر الذي سمح للدولة في نهاية المطاف بهدم المناطق التي خضعت لسيطرة المعارضة في السابق. وقد وضعت الدولة أيضاً قوانين ومراسيم لمصادرة الممتلكات، ومن ثَمّ الاستفادة من تنمية وتطوير العقارات والاستثمار فيها.
لم يُنفَّذ حتّى الآن عدد كبير من المشروعات القائمة على الشراكة بين القطاعَين العامّ والخاصّ وبناء أو إعادة إعمار مشروعات العقارات الفاخرة في سوريا بواسطة الجهات الفاعلة الخاصّة السوريّة أو تعديلها وإعادة تقييمها. فقد ظلّت معظم هذه المشروعات حتّى الآن مجرّد تصريحات، الأمر الذي أظهر قدرة الحكومة المحدودة على تنفيذ هذه المخطّطات والقيود المتأصّلة في خططها الرامية إلى إعادة التنمية الاقتصاديّة. على سبيل المثال، فشلت الشركات القابضة التي أنشأتها محافظات حمص (2018) وحلب (2019) ودمشق (2019) في بدء تنفيذ أيّ عمليّة إعادة إعمار منذ تأسيسها.
يُعزَى السبب الرئيس وراء الفشل في إطلاق هذه المشاريع إلى نقص التمويل العام والخاص، اذ تواجه الحكومة تحدّيات متزايدة في التمويل ترتبط بالنقص في احتياطيّات النقد الأجنبيّ والانخفاض المستمرّ في قيمة الليرة السوريّة.
لا يسعى النظام إلى الاستفادة من عمليّة إعادة الإعمار على الصعيدَين السياسيّ والاقتصاديّ فحسب، بل يسعى أيضاً إلى ترسيخ أمنه المفترض
في الوقت نفسه، اتّبعت الحكومة تدابير تقشّفيّة من خلال خفض الدعم على بعض المنتجات الأساسيّة. ففي تشرين الأول 2020، ضاعفت الحكومة السوريّة سعر زيت الوقود وزادت سعر البنزين بنسبة 80 في المئة. وهو ما من شأنه رفع الأسعار بشكل كبير في مختلف قطاعات الاقتصاد وتقليل القدرة التنافسيّة للمصنِّعين السوريّين والقوة الشرائيّة للسكان.
يتمثّل التحدّي الثاني في عدم الاستقرار والانخفاض المستمرّ في قيمة العملة الوطنيّة، وبخاصّة منذ كانون الثاني/ يناير 2020، ما أدّى إلى إعاقة الاستثمار في البلاد. الواقع أنّ عجز الحكومة السوريّة ومصرف سوريا المركزيّ عن تحقيق الاستقرار في سعر الليرة السوريّة، على رغم الوعود المتكرّرة بالقيام بذلك، يُثير المخاوف بين المستثمرين الأجانب بشأن احتمال تكبُّد خسائر بسبب انخفاض قيمة العملة. لا تزال المخطّطات الرامية إلى تمويل مشروعات إعادة الإعمار أو غيرها من الاستثمارات في البنية التحتيّة، من طريق رأس المال الأجنبيّ غير واضحة وغير كافية، بخاصّةً في ظلّ مواجهة روسيا وإيران مشكلاتهما الاقتصاديّة العميقة بَينما يواصلان تقديم الدعم الماليّ والماديّ للنظام السوري على أعلى المستويات.
أتاح الصراع ظهور فاعلين اقتصاديّين جُددا، عادةً ما يرتبطون بالأجهزة الأمنيّة وينخرطون في القطاعات المختلفة لاقتصاد الحرب، ويسعون بشكلٍ متزايد إلى تحقيق عائدات سريعة ومرتفعة لاستثماراتهم. فهم يعملون كمهرِّبين ووسطاء تجاريّين لاستيراد بضائع معيّنة تحتاج إليها البلاد، أو يعملون كواجهة للشخصيّات المؤثّرة في النظام السوريّ. وفي نهاية المطاف، يستثمر رجال الأعمال هؤلاء في الاقتصاد الرسميّ، وبعضهم يعزّز نفوذه وسطوته من خلال شَغْل المناصب الرسميّة في مؤسّسات الدولة، كالبرلمان والغرف الاقتصاديّة المختلِفة ومنها غرف التجارة.
عادةً ما تتعارض المصالح الاقتصاديّة والتجاريّة لهؤلاء اللاعبين الجُدد مع إمكان تنشيط القطاعات الإنتاجيّة في الاقتصاد السوريّ، وبخاصة قطاعا الزراعة والتصنيع اللذان عانَيا بشدّة من آثار الحروب والدمار. أمّا قطاع التجارة -وخصوصاً الوارِدات- فقد أصبح مصدراً رئيساً للأعمال التجاريّة المربِحة في البلاد، بسبب الإنتاج الاقتصاديّ المنخفض للغاية وافتقار النظام إلى الاستثمارات والحوافز الاستثماريّة في القطاعات الإنتاجيّة، وبسبب الحاجة إلى منتجات معيّنة كالمواد الغذائيّة والأدوية والمشتقّات البتروليّة. وقد شكَّل التجّار التابعون للنظام شبكات احتكار لبعض المنتَجات، فيما قاموا أيضاً بتطوير أسواق للتهريب.
في تشرين الأول 2020، ضاعفت الحكومة السوريّة سعر زيت الوقود وزادت سعر البنزين بنسبة 80 في المئة
تسارعَت وتيرة الدور الصاعد لتلك الجهات الفاعلة الجديدة بفضل قرار الحكومة السورية القيام بالمزيد لتخفيف القيود على الوارِدات، ما أدّى إلى زيادة إسناد مسؤوليّة الاستيراد إلى القطاع الخاصّ. وفي آذار/ مارس 2020، قامت الحكومة بالمزيد من تخفيف القيود على استيراد الغاز الطبيعيّ للسماح للمزيد من الجهات الفاعلة في القطاع الخاصّ باستيراد الوقود والديزل لمدةَ ثلاثة أشهر، فيما سمحت في الوقت ذاته لجميع المستورِدين -بما فيهم الشركات الخاصّة- باستيراد الدقيق، بغضّ النظر عن بلد المَنشأ. ومع ذلك، فإنّ هذه التدابير لم تُلَبِّ النقص في احتياجات البلاد من القمح والوقود، لأسباب عدّة،منها العقوبات والفساد والاحتكار الذي يمارسه التجّار.
بدأ هذا التوجّه السياسيّ -في تفضيل الاستهلاك على الاستثمار في الإنتاج- بالفعل في بدايات العِقد الأوّل من الألفيّة، مع عمليّة تحرير الاقتصاد السوريّ وخصخصته، ولكنّ التجّارَ ورجالَ الأعمال الجُدد التابعين للنظام ضاعَفوا بشكلٍ كبير هيمنتَهم على الاقتصاد السوريّ في السنوات الأخيرة وعمّقوها.
درج
————————–
اقتصاد المقايضة السوري/ مهند الحاج علي
خلال الأسابيع الماضية، أعلنت السلطات السورية، خوضها محادثات تجارية مع مسؤولين وشركات روسية وايرانية، بهدف مقايضة البضائع بين سوريا وهذين البلدين “الحليفين” لتجاوز العقوبات والقيود المالية التي تحول دون الاستيراد، سيما في ظل الانهيار المتواصل لليرة السورية.
بداية، اتفق وفد إيراني مع وزارة التجارة الداخلية السورية، على مقايضة العدس وزيت الزيتون السوريين، من جهة، بزيت عباد الشمس الإيراني، من جهة ثانية. وفي التفاصيل، ستُصدّر المؤسسة السورية للتجارة ألفي طن من زيت الزيتون وألف طن من العدس إلى إيران، لقاء استيراد كميات من زيت عبّاد الشمس تعادل ثمن الكميات المصدّرة من زيت الزيتون والعدس.
اللافت أن الوزارة السورية لم تُحدد كمية الزيت الإيرانية، بل تحدثت عن معادلة الأثمان، دون ذكر ماهية الجهة المخوّلة بذلك. هل يُحدد الجانب الإيراني ثمن بضاعته، وكذلك يفعل السوري، لمصالحة الأثمان، أم أن هناك جهة مستقلة تتولى ذلك؟ (طبعاً، غياب الآلية هنا مؤشر الى التحكم الإيراني بالاتفاق، نظراً الى تفوق طهران في المجال الصناعي بعدما حطمت الحرب الاقتصاد السوري).
من المتوقع أن تبدأ عمليات المقايضة الشهر المقبل، على أن تليها صفقات مماثلة بأصناف أخرى، دون تحديد ماهيتها. بعد أسبوعين على إعلان هذه الصفقة هذا الشهر، زار وفد روسي دمشق وأبدى استعداداً لعمليات المقايضة هذه، بما أن الاستيراد بات مستحيلاً في ظل العقوبات والقيود المالية.
على هامش هذه الخطوة الحكومية السورية، تبرز ملاحظتان من الضروري التدقيق فيهما.
أولاً، لا تجارة دائمة في نظام المقايضة، سيما أننا لا نتحدث عن اقتصادات متكاملة في الإنتاج. من النادر مقايضة البضائع المطلوبة سورياً بتلك المطلوبة ايرانياً. وهذا يُفسر ربما مقايضة نوعين من الزيت، بدلاً من الحصول على مواد أكثر أهمية وحيوية. والحقيقة أن سوريا لا تملك القدرة التصديرية الهائلة التي تُمكنها من الاستمرار بعملية المقايضة، سيما مع دولة منتجة للمواد الغذائية ولديها صناعات مماثلة لتلك القائمة في سوريا، ولكن على نطاق أوسع. حتى مع الحلفاء، من الصعب الاعتماد على المقايضة كبديل عن العملات الصعبة التي يتفقدها النظام ويُحاول بشتى الطرق الاستحواذ عليها.
ذاك أن النظام السوري حاول مرات مقايضة الحمضيات في روسيا مع منتجات أخرى، من دون نتيجة تُذكر.
الفارق هنا أن إيران باتت اليوم في موقع يتيح لها فرض شروط سياسية وحتى اقتصادية غير مواتية للنظام، لقاء عمليات المقايضة، بما أنها شريك وحيد، إلى جانب بعض التبادل الخجول مع روسيا.
ثانياً، ليست المقايضة تكتيكاً لدمشق، بل بات خياراً وشكل نظام، نتيجة خروج سوريا (غير الموقت) من النظام المالي الدولي، وهو واقع غير آيل للتغيير، بل بات من الثوابت. هل يتوقع عاقل خروج سوريا من دائرة العقوبات والحصار المالي خلال ولاية الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن وحلفائه في الاتحاد الأوروبي؟
الأرجح أن خروج ايران من دائرة العقوبات، سيكون مساراً أسرع من سوريا التي يشترط المجتمع الدولي منها عملية سياسية تُشارك فيها المعارضة. ويُضاف الى كل ذلك، أن في دول غربية محاكمات لمسؤولين سوريين لا بد أن تُقيد أي محاولة لعودة النظام الى الساحة الدولية.
لهذا السبب، فإن الحديث عن نظام مقايضة في تجارة سوريا مع العالم الخارجي، هو نهج وليس حلاً موقتاً لأزمة. ذلك أن النظام يُحوّل سوريا التي اكتُشفت فيها قطع النقود المعدنية (المملكة الليدية في القرن السابع قبل الميلاد) للمرة الأولى في التاريخ البشري، إلى دولة بلا نقود، تُقايض منتجاتها القليلة، بحاجات أساسية تُوفرها ايران وربما روسيا بشروط غير متوازنة.
المدن
————————-
الحمضيات السورية إلى روسيا..الطريق طويل والدفع ليس نقداً/ مصطفى محمد
قلّل اقتصاديون سوريون من أهمية العقود التجارية التي وقعها وفد تجاري روسي مع غرفة تجارة وصناعة طرطوس، حول تصدير الحمضيات والخضروات السورية إلى الأسواق الروسية.
وترجّح التوقعات أن الاتفاقية التي تنص على تصدير حوالي 700 حاوية من الحمضيات والخضار والفواكه إلى سوريا، وفق ما أعلن رئيس غرفة تجارة طرطوس مازن حماد، لن تُنفذ، نظراً للتجارب السابقة التي انتهت إلى الفشل، بسبب عدم ملائمة الحمضيات مع المعايير الروسية، إلى جانب طول طريق الشحن.
ولطالما حاول النظام السوري فتح السوق الروسية أمام الحمضيات التي تُنتج محلياً في الساحل السوري، لكن اعتماد التجار الروس على السوق التركية الأقرب أعاق هذه المحاولات.
وقال أستاذ إدارة الأعمال في جامعة ماردين التركية الدكتور عبد الناصر الجاسم إن نتائج التجارب السابقة لتصدير الحمضيات السورية إلى السوق الروسية لا زالت ماثلة في الأذهان، حيث تعرضت شحنة حمضيات سورية تم شحنها إلى روسيا بحراً قبل نحو عامين إلى التلف نتيجة الطريق الطويل. وأضاف ل”المدن”، “حتى إن سلمنا بأن الصفقة ستتم، فقيمتها لا تشكل قيمة مضافة لاقتصاد النظام المتهالك”.
وأوضح أن الجانب السياسي يطغى على الصفقة، “فبعد ارتفاع الأصوات المنتقدة لاستحواذ روسيا على ثروات ومقدرات البلاد، جاء هذا الإعلان خدمة للمزاعم بوجود علاقات اقتصادية وتبادل تجاري تحكم علاقة روسيا بالنظام”.
ومثل الجاسم، قلّل رئيس مجموعة عمل اقتصاد سوريا أسامة القاضي من أهمية الإعلان عن الصفقة، قائلاً ل”المدن”: “تشكل قيمة هذه الصفقة والصفقات السابقة إلى شبه جزيرة القرم، رقماً متواضعاً للغاية، ولا يمكن أن تسدّ هذه الأرقام حاجة سوريا من الطحين لأكثر من يومين”.
وأضاف أن النظام يعتقد أن الإعلان عن هذه الصفقات على تواضعها مفيد من الناحية الإعلامية، لكن من الناحية العملية فهذه الصفقات مضرة كثيراً لشعبنا في الداخل، لأن تصدير أي مادة سيؤدي إلى ارتفاع سعرها أولاً، وثانياً لأن الروس لن يدفعوا ثمن هذه المواد، فعلى أحسن تقدير سيتم السداد بالعملة المحلية “الروبل”، هذا إن لم تقم روسيا باقتطاع الثمن مقابل جزء يسير من ديونها المستحقة على نظام الأسد.
مقايضة مع الروس أيضاً؟
في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، أعلن النظام السوري عن تفعيل نظام المقايضة التجارية مع إيران، بحيث يتم تصدير زيت الزيتون والعدس إلى إيران، مقابل استيراد كميات من زيت عبّاد الشمس.
توجه النظام إلى المقايضة يبدو مبرراً، نظراً لشح العملات الأجنبية في خزينته، فهل تدخل هذه الصفقة مع روسيا في النظام ذاته؟ يجيب الباحث الاقتصادي أدهم قضيماتي قائلاً: “حاول النظام تفعيل نظام المقايضة مع الروس سابقاً، ولم يتم تنفيذ أي اتفاق للآن”. وأضاف ل”المدن”، “غالباً، الهدف من الإعلان عن هذه الاتفاقية، يأتي في إطار امتصاص غضب أهالي الساحل السوري الذين تضرروا من الحرائق الأخيرة، التي طالت مساحات واسعة”.
وتابع قضيماتي أن الحرائق أدت إلى حالة احتقان وغضب واسع نتيجة لعدم استجابة النظام لإطفاء الحرائق، وكذلك لقلة التعويضات مقارنة بالخسائر، ولذلك التقت مصالح النظام وروسيا التي يعنيها أمر الساحل كثيراً، على امتصاص هذا الغضب من خلال الإعلان عن صفقة الحمضيات.
المدن
—————————
التجارةُ السّوريةُ المُباركةُ أبداً ../ عبير نصر
يبدو أنّ أوركسترا الرّعب لن تنتهي قريباً في سورية، وجمهورها يمتلك تذاكرَ مجانية لدخولِ مسرحِ الخوف الأكثر شهرةً في العالم، هو المفطومُ على حليبِ المنظومةِ الاستبداديةِ الحاكمةِ والمحترفةِ في فنونِ الترهيبِ والترغيب، وكأنها الوحيدةُ التي تعرفُ مفتاحَ تشغيلِ البلاد ومفتاحَ إغلاقها، وعبر عقودٍ طويلةٍ تداوى السوريون بالصمتِ والنسيانِ، هرباً من آفةِ الخوفِ التي دفعوا ثمنَها غالياً، وكأنّ شيئاً لم يكنْ قط. وفي الحقيقةِ لم تكُن ثقافةُ الرعبِ وليدةَ مصادفةٍ اعتباطيةٍ على الإطلاق، بل هي نتاج الرؤية السياسيةِ للأسد الأب، الذي حكم البلادَ المضطربةَ أساساً انطلاقاً من مبدأ “إن سمِنَتِ الشعوبُ أكلتْ حكامها، وإن قوِيتْ سحقتهم”. ومن المهم ألا نغفلَ أهميةَ البطشِ العسكري الذي ساعد، إلى حدٍّ كبيرٍ، في تعزيز وجودها تجارةً لا تكسد، بدايةً بتدخلِ الجيشِ في الحكمِ خلال الانقلابات العسكرية بين 1949 – 1954، ومروراً بتأسيسِ الجمهورية العربية السورية على أثرِ انقلابِ حزبِ البعث عام 1963، واستيلائه على القيادةِ المدنية، وليس نهاية بالطبع بإقرارِ دستور عام 1973 الذي ينصّ على نظامِ الحزب الواحد، وإلغاءِ التعدّدية السياسية والاقتصادية، كلّ هذا بشّر بنظامٍ رئاسيّ مُطلق الصلاحيات، تأسس على أرضٍ صلبةٍ أساسها الاضطرابات والتقسيم، وفردانية الحاكم المُقدَّس الذي لا يُردُّ له طلب أو يُعصى له أمر.
وخلال فترةِ حكمه، نشر النظامُ السوري، عبر أجهزته التي زرعها في كلّ مكانٍ، ثقافةَ الشكّ والريبة بين المواطنين، من خلال آلياتِ القمعِ والإرهابِ والسجونِ والتنكيل، والفصلِ من الدوائر الحكومية، وغيرها من الوسائل التي كانت تحاربُ المواطنَ اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، ولن يأتي بالتأكيد تصرّفُ السوريّ بصورةٍ عفويةٍ طبيعية، وإنما انطلاقاً من فوبيا السياسةِ الأمنية التي في جوهرها ليست إلاّ منظومة ضغطٍ سيكولوجية، متكاملة الأركان ومحكمة الإتقان ومديدة التأثير، لتتمخّضَ بالضرورةِ عن أزمةِ ثقةٍ وطنيةٍ عامة، وحتى مَنْ كانوا يشتغلون بالسياسةِ أو الثقافة كانوا يخبئون الكتبَ والمناشير المضادّة للنظام في منازلهم في حفرٍ تحت التراب، كي لا يكتشفها عناصرُ الأمن عند عملياتِ الاقتحام. ولم تتوقف فوبيا الرعبِ هنا، فمواطنون كثيرون باتوا يعلّقون صورَ الرئيس الأب، ولاحقاً الابن، على جدرانِ منازلهم ومحلاتهم التجارية، بغرضِ الانتهازيةِ والتملّق لحمايةِ مصالحهم، وبالتأكيد أرواحهم. وكان السوريون (وما زالوا) مسكونين بلعنةِ الهمسِ إذا ما تحدّثوا بالسياسة، “للجدرانِ آذانٌ وعيونٌ” عبارةٌ كانت تتردّد على ألسنتهم، منهية حديثاً عابراً عن شخصِ الرئيس، أو فسادِ أحد أفراد أسرته، أو أفرادِ منظومته القمعية الذين غدوا بدورهم تجّار حربٍ بعد عام 2011، يشكّلون أقليةً حاكمة تميزتْ بالديناميكيةِ والسيولةِ اللازمة والتخطيط، وتوزيعِ العنف على كلّ الأرض السورية، من أجل توليدِ فائض قيمةٍ من الدّم السوريّ، وحصدِ أرباحٍ خرافية مقابل فقرٍ مطلقٍ وموتٍ لا ينتهي.
ومع أنّ الانتفاضةَ السورية هزّتْ، إلى حدّ كبيرٍ، الصورةَ المقدّسة للآلةِ الأمنيةِ المستشرسة، إلا أنّ الخوفَ لم يغادر البلاد، وهذا طبيعيّ بعدما نجح النظامُ العابرُ للطوائف، والذي لا يمثّل سوى نفسه، بتركيبته البراغماتية الديكتاتورية المعقّدة، نجح في استغلالِ جميعِ الطوائف، وخصوصا طائفته التي ينتمي إليها ظاهرياً، وحوّلها إلى جدارِ صدٍّ لحمايةِ مزرعته الأمنيةِ المافيوية، فحرصَ على تجهيلها وإفقارها، ودفعها إلى الانخراطِ في الجيشِ السوري، وتخويفها المستمر من خطرِ الاضطهاد الذي ينتظرها عند زواله. كما قام بعد عام 2000 بتحديثِ الدولةِ البوليسية، واستندتْ صورةُ “حامل الأمل” إلى سوء فهمٍ، حتى لو كان مظهره لا يشبه مظهرَ ديكتاتور فجّ، فقد افترضَ سوريون وسياسيون غربيون كثيرون أيضاً أن أيّ شخص مهتم بالحواسيب والإنترنت وتلقى تعليمه في إنكلترا سيصلحُ البلادَ، وفي الحقيقةِ لم تكنْ صورتُه الذاتية سوى صورة محدِّثة لأبيه، هو الذي عاش في دولةٍ بوليسية عمرها خمسون عاماً. واتضح ذلك عندما طالب السوريون، في ما عُرف بالربيع الدمشقي، بمزيدٍ من الديمقراطية، فأشيعَ عنه قوله: “إذا منحتهم إصبعاً فسيطلبون اليدَ كلها”. وكانتْ قوته وثقته تنبعان من درايته الكافيةِ بالحصانةِ التي ورثها عن الوالد الذي أنشأ شبكةً من الأجهزةِ السريةِ المختلفة، والتي تتنافس فيما بينها، وبالتالي تُبقي بعضها بعضا في وضعٍ حرجٍ وضعيف، حيث لا يوجد رئيسُ استخبارات قويّ بما يكفي للانقلاب أو الاغتيال.
واليوم لا يترنح السوريون من الجوعِ، بقدر ما يترنحون من الرعبِ الجاثمِ على الصدورِ كشيطانٍ أليف، فترى طوابيرَ الخوفِ في كلّ مكان، أمام المؤسساتِ الاستهلاكية وأفرانِ الخبز وكازياتِ الوقود. تراه في الصمتِ المُستكين داخل العيونِ البائسة عند مواجهةِ الغلاءِ والعطشِ والحرائق والقهرِ والذلّ واليأسِ وتصريحاتِ الحكومةِ المنفصلةِ عن الواقعِ المأزوم .. إلخ، والخوفُ بات سمةَ البلاد الحزينة التي تعالجُ هزائمها بالنومِ البهيج، وتغلقُ عينيها لتختلسَ النظرَ إلى عالمٍ جميلٍ بعيد. وأكثر ما يدمي القلبَ أنّ هناك مرضاً جديداً بات يُعرف باسم “رُهاب سورية”، وهو المصطلح الذي يستخدم بكثرةٍ بين الشبابِ عبر شبكةِ الإنترنت. وتشمل الأعراضُ العامة الخوفَ من عدمِ القدرةِ على مغادرةِ سورية، أو بدء حياةٍ أفضل في مكانٍ آخر خارج سورية. كما تشملُ رعبَ السوريين في الخارج من إجبارهم على العودةِ إلى بلادهم المنكوبةِ، وهذا طبيعي بحكم الخوفَ الذي تماهى مع همومِ المواطنِ المغلوبِ على أمره، بشكلٍ معقّدٍ يصعبُ تحليله، وربما فهمه، رافضاً الانجرار وراء الانقلابات الفردية على غيلان الاستبداد، واعتبارها ترفاً غير مقبول في حياةٍ محصورةٍ داخل جدرانِ الهلعِ والعزلة، بينما يتوفر الصمتُ بلسماً شافياً ومجانياً لمتلازمةِ الرعب القهريّ.
كلّ هذا جعلَ المجلةَ البريطانية “إكونوميست إنتلجنس يونيت”، ووفقاً لتصنيفها السنوي، تختارُ دمشقَ أسوأ مدنِ العالم الصالحةِ للحياة، وكان الأجدى بها أن تختارَ سورية أكثر بلادِ العالم “رعباً”، بعدما أثبتتِ التجربةُ السورية أنّ سياسةَ الخوف من أشرسِ الوسائل المستخدمة في الصراعاتِ البشرية، وأكثرها فاعليةً في تمريرِ المصالح والسياساتِ المرحلية. ولا شكّ أنّ تعميمَ ثقافة الرعبِ كان جزءًا من إستراتيجيةِ النظام الذي نجح، وبقدرةٍ عجيبةٍ ومُدهشة، في إحكام السيطرة على بلادٍ تمرّدت عبر التاريخ. لذا لم يعرف المجتمعُ السوري، منذ وقتٍ طويل، ما يمكن وصفه بالسلامِ الطائفي، وكذلك السلام الأمني. ويعني ذلك، من الناحيةِ العمليةِ، أنّ الخطواتِ الجادّةَ الأولى في هذا الاتجاه يجب أن تتضمّنَ اتخاذ ما يكفي من المواقف والإجراءاتِ لإعادةِ الثقةِ المفتقدة بين الطبقةِ الحاكمة والشعب، والوصول بها إلى مستوىً يمكن معه لسائرِ القوى والاتجاهات أنْ تجدَ طريقها من جديدٍ إلى حوارٍ وطنيّ مبشّر. والدليلُ على خصوصيةِ هذا البلد المتفرّد في تركيبته وردودِ أفعاله الصادمةِ، حتّى في قمّةِ خنوعهِ، قولُ الرئيس السوريّ شكري القوتلي للرئيس المصري، جمال عبد الناصر بعد توقيعِ ميثاقِ الجمهوريةِ العربية المتحدة، وذلك وفقاً لمحمد حسنين هيكل: “أنتَ لا تعرفُ ماذا أخذتَ يا سيادة الرئيس؟ أنت أخذتَ شعباً يعتقدُ كلّ من فيه أنّه سياسيٌّ ، ويعتقدُ خمسون في المائة من ناسه أنّهم زعماء، ويعتقدُ خمسة وعشرون في المائة منهم أنّهم أنبياء، بينما يعتقدُ عشرة في المائة على الأقل أنّهم آلهة”. وبالفعل انتهتْ هذه الوحدة بانقلابٍ عسكريّ في دمشق يوم 28 سبتمبر/ أيلول 1961، قادهُ العقيدُ السوريّ عبد الكريم النحلاوي.
المدن
—————————–
نهب الجيوب الفارغة: اقتصاد الحوالات المالية في سوريا
إن الاقتصاد السوري مُتماسك بفضل السوريين أنفسهم وذلك من خلال شبكة عالمية من الحوالات المالية التي تلبّي احتياجات الناس بطرق لا يمكن لآليات الدعم من أعلى إلى أسفل أن تلبيها، غير أن طوق النجاة هذا يتلاشى في الوقت الذيتغدو البلاد بأمسّ الحاجة إليه بسبب التضخم المُتسارع وتفاقُم الفقر. للحوالات النقدية دور بالغ الأهميةفيالتخفيف من الأزمة التي تعصف بالبلاد، غير أنه غالبا تطغى الجدالات السياسية الصِرفة حول العقوبات الغربية التي تستهدفالنظامعندمناقشتها.
حتى وقت قريب، كان اقتصاد الحوالات في سوريا يتّسم بالكفاءة والمرونة وبتوجيه بالغ الدقّة، إذ كان يسمح للدعم بالذهاب مباشرة إلى محتاجيه ليستخدموه على النحو الذي يرونه مناسباً، كما أنه وفّر نفعاً على مستويين، إذ مكّن السوريين في المغترَب من البقاء على اتصال بأقربائهم داخل البلد، وبفضله استطاع المستقبلون للحوالات في سوريا من التقليل من اعتمادهم على الدولة وقطاع المساعدات. يشملُ هذا النظام حتى الآن شريحة واسعة من المجتمع، بما في ذلك السوريين المغتربين ممن يعيشون ظروف اقتصادية سيئة. أوضح صحفي سوري يعيش في إسطنبول ذلك بقوله: “حتى السوريون الذين يجنون بضع مئات من الدولارات شهرياً يرسلون الأموال إلى سوريا. إنهم يعيشون على الحد الأدنى لكي يتمكنوا من الاستمرار في دعم ذويهم في الداخل.”
كما أن فوائد الحوالات تتجاوز عامة السوريين، فهي تقلل من الاحتياجات الإنسانية وبالتالي تخفف من العبء الذي يتحمله قطّاع المساعدات، وتزوّد الحكومة السورية بمصدر من العملات الأجنبية هي أحوج ماتكون إليه، ما يُساعد على مواجهة انخفاض قيمة العملة. جزء كبير منهذا التدفق النقدي يمرّ عبر لبنان، ما يولّد عمولات على كل حوالة، كما أن لدى الحكومات الغربية مصلحة راسخة في الحوالات، فاللاجئون السوريون يرسلون أموالهم إلى الوطن للمساعدة في إعادة بناء المساكن والبنية التحتية، الأمر الذي يمكن أن يسهّل عودتهم يوماً ما.
غير أنّ هؤلاء الفاعلين أنفسهم يعرقلون اقتصاد الحوالات في سوريا بطرقٍ ستثبت الأيام ضررها، إذ يشتكي السوريون في أوروبا من تقييد الدول المضيفة لقدرتهم على إرسال الأموال إلى الوطن أثناء تلقي المساعدة الحكومية. صحيح أنّ هذه السياسة لا تردع السوريين كلياً، لكنها تدفعهم إلى اللجوء إلى حلول السوق السوداء. كما أنّ الدول المجاورة لسوريا وضعت مجموعة من العقبات أمام إرسال الحوالات، إذ تجبر بعض البنوك التركية المتلقين السوريين على فتح حسابات تجارية مرتفعة التكلفة بدلاً من الحسابات الشخصية. أمّا في لبنان، فيعاني السوريون من الانهيار المالي المستمر ومن حقيقة أن البنوك اللبنانية تجعل من المستحيل تقريباً على السوريين العاديين فتح حسابات مصرفية.
ولكنّ الحكومة السورية في الآونة الأخيرة راحت تلعب الدور الأكثر عدوانية في تقويض تدفق الحوالات، فمنذ كانون الثاني / يناير 2020، يحاول النظام تحقيق استقرارٍ في سعر الليرة السورية والاستئثار بالأموال الأجنبية الواردة عن طريق منع الحوالات غير الرسمية التي يفضّلها السوريون منذ فترة طويلة على مكاتب التحويل المرخّصة التي تتعامل بسعر صرف ثابت وقوي بشكل مصطنع يخصم نسبة كبيرة من كلّ حوالة، كما أنّ إرسال الحوالات من خلال هذه المكاتب يتطلب الكثير من الإجراءات الروتينية التي تثير قلق العديد من العملاء. على النقيض من ذلك، تسمح السوق السوداء للسوريين بإخفاء هويتهم وتقدم لهم سعر صرف أفضل من السعر الرسمي.
منذ بداية العام الحالي أغلقت الأجهزة الأمنية مكاتب التحويل غير المرخصة بناءً على وشايات من مجهولين، وحتى أنها غرّمت واعتقلت سوريين عاديين لحيازتهم عملات أجنبية. قالت ناشطة في دمشق في شباط / فبراير: “يخشى الناس حتى من التحدث عن الدولار، وينصحني أصدقائي بأن أحذف من هاتفي كل نصّ يحتوي على كلمة دولارات.” في حزيران / يونيو، شملت حملة الاعتقالات أصحاب مكاتب التحويل الرسمية ممن ضُبطوا في حالة تعاملٍ مع السوق السوداء.
كما دفعت عملياتُ إغلاق الحدود بسبب فيروس كورونا، بدءاً من آذار / مارس، اقتصادَ الحوالات إلى أيدي النظام أكثر فأكثر. قبل الإغلاق، كان أفضل خيار لإدخال الأموال إلى سوريا هو إرسالها بواسطة الأقارب أو سائقي سيارات الأجرة الموثوقين أو المسافرين الآخرين القادمين من لبنان، غير أن عمليات الإغلاق قضت على تلك السُّبل، تاركة الحوالات عن بُعد الخيار الوحيد. يجد السوريون اليوم أنفسهم مضطرين إما لقبول تكبُّد خسائر فادحة جراء النظام الذي تفرضه الدولة أو مواجهة مخاطر متزايدة إن هم لجأوا للسوق السوداء.
مما زاد الطين بلّة أنّ الأموال التي تشغّل هذا الاقتصاد آخذة في التناقص في سياق الركود الاقتصادي العالمي، ركودٌ أضحت آثاره تُلمَس فوراً في المناطق التي تعتمد اعتماداً كبيراً على الحوالات. وَصَفَ أحد الصرافين غير الرسميين في درعا في أيار/ مايو ذلك بقوله: “يغطي معظم الناس هنا نفقاتهم الشهرية بأموال يرسلها لهم أقاربهم في المغترَب، وقد خسر هؤلاء الأقارب عملهم بسبب فيروس كورونا، ما أدى إلى شلل الاقتصاد المحلّي بأكمله.”
استجاب السوريون في المغترَب لهذه العقبات من خلال الحيل المالية، فراحوا يبذلون جهوداً جبّارة لجلب الأموال إلى محتاجيها، فتراهم يقتصدون في إنفاقهم الشهري أكثر فأكثر، ويستدينون من الأصدقاء والمعارف، ويعلّقون الآمال على العودة إلى “الوضع الطبيعي” حالما تُفتح حدود سوريا من جديد. هذه الالتواءات نفسية أيضاً، إذا يجد السوريون أنفسهم مجبرين على الاختيار بين مستويات من الابتزاز والمخاطرة التي لا بدّ أن يجرّوها على أنفسهم. لخّص شاب سوري في لبنان ما يجول في ذهنه قائلاً: “لن أرسل المال أبداً إن كان النظام سيأخذ أكثر من نصفه، وسيتعيّن على والديَّ إيجاد طرق أخرى لسدّ رمقهم.” فيما وضع آخرون اعتباراتٍ مختلفةً، فتراهم مثلاً يرسلون الأموال عبر القنوات الرسمية من أجل الحالات الطبية الطارئة فقط، لا كنفقات شهرية.
حتى مع إعادة فتح الحدود، من المرجح أن تظلّ المشكلة شديدةالوطأة،إذ يحرُص كلا النظامين السوري واللبناني على تحويل الدولارات من خلال قنوات خاضعة لسيطرتهما لكي يعوضا نقص احتياطيّيهما من العملات الأجنبية وليكبحا جماح تدهور قيمة العملة. يمكن القول أنّ لهذه السياسات آثاراً عكسية في تقليلها كمية السيولة في السوق وخلقها حلقة مفرغة. لن يتطلب الأمر الكثير للتوقف عن اتباع هذا المنطق وتيسير دور عامة السوريين الكبيرِ – بدلاً من تقويضه – في إبقاء اقتصادهم واقفاً على قدميه. هذا السبيل واعد في السياق الجيوسياسي الحاليّ أكثر بكثير من أيّ نقاش حول تخفيف العقوبات، نقاشٌ سرعان ما يتحول إلى جدل سياسيّ معقد وعسير. ستخفف الحوالات بين السوريين الضغط على جميع الأطراف المعنية، فكلّما زادت كمية المال الذي يرسله السوريون إلى الوطن كان ذلك أفضل للجميع، وكلّ ما يحتاجونه في المقابل هو عراقيل أقلّ.
٨ تموز ٢٠٢٠
هيلي شولر- مكوين
قام بترجمة هذا المقال للعربية حسان حساني
—————————————-
========================