حين يتحدث “الشيخ بشار الأسد” -مقالات تناولت لقاء بشار الأسد في جامع العثمان في دمشق
لماذا نستهجن مشيخة الأسد؟/ عمر قدور
كما هو متوقع ومعتاد استُقبلت كلمة بشار الأسد، في جامع العثمان قبل خمسة أيام، بالسخرية أو الاستهجان أو الاثنين معاً. ذلك في جبهة الخصوم، بينما من المتوقع أن تكون قد استُقبلت بامتعاض مكتوم ضمن شرائح من جبهة مؤيديه، وهو بنفسه استبق ردود الأفعال بأن خاطب “عالمات وزارة الأوقاف وعلمائها” بأنهم يكونون في جهة الصواب عندما يُهاجمون من خصومه، بينما أشاد بهم كرديف لقواته، فضلاً عن أدوار أخرى، من أجل طمأنة مواليه بأن مؤسسة الأوقاف تحت السيطرة، بل هي مؤسسة ضرورية لبقاء الأسدية على منوال المؤسسة العسكرية ونظيرتها المخابراتية.
كالمعتاد، لا يبخل بشار بمادة تصلح للتفكّه والسخرية، أو بتناقضات تكشف عن سطحية فكرية، وحتى بجمل مبهمة تكشف عن الخواء. لكنه لا يخرج متحدثاً بقصد إمتاعنا بما سبق، لذا لا بأس بقليل من التوقف الجاد عند حديثه، وليكن بعد قليل من المرح الذي يمنحنا إياه بابتكاره تعاريف جديدة للعلمانية، أو للفرق بين الإنسان والحيوان. فيما عدا تلك الفواصل الترفيهية، تحدّثَ كتاجر في الدين، وهذه التجارة من السبل المعروفة تاريخياً للمشيخة، فلماذا ننكر عليه تجارته؟ حقاً، لماذا نستهجن مشيخة الأسد ولا نستهجن مشيخة الجولاني أو البغدادي؟ أو قائد جيش الإسلام القتيل زهران علوش؟ أو أمراء فصائل أخرى تحكم بموجب الشرع كما تفهمه؟
في الحديث عن الاستثمار في الدين نفترض ألا تعيق التساؤلاتِ السابقة أفكارٌ متداولة من قبيل وصف بشار بالعلماني المتستر بالدين، أو الطائفي أو الأقلوي الذي يحابي مشاعر الأكثرية. على الضد من ذلك، كانت الأسدية طوال تاريخها شديدة التمسك بالسيطرة على المؤسسة الدينية، وكانت دائماً أبعد ما تكون عن العلمانية التي تعني في جانب منها، وفي منطقتنا تحديداً، تحريرَ الدين من سيطرة الدولة. فإمساك سلطات المنطقة بالمؤسسات الدينية هو استئناف للمفهوم السلطاني للحكم، وإفلات المؤسسة الدينية مصدره ليس بالضرورة خوف من انقلابها على السلطة؛ الإمساك بها كما نعلم سابق زمنياً على نشأة الإسلام السياسي المعاصر وعلى نشأة الحركات الجهادية.
استهل بشار حديثه من نقطة نموذجية جداً، فهو بدأ بالحديث عن “الدين الصحيح”، والدين الصحيح “الفرقة الناجية” يتعين برؤيته وبفهم عالماته وعلمائه. ما هو نموذجي يُستأنف بقوله أن “أول عدو لأية عقيدة لا يأتي من الخارج… دائماً الخطر من أبناء الدين ومن أتباع الدين”. كما نرى تستدعي المقدمة الأولى نتيجتها الحتمية، “الدين الصحيح” يقتضي رؤية المختلفين ضمنه كأعداء، يقتضي تكفيرهم. أي أن بشار الأسد لا يقول سوى ما دأب مشايخ وأمراء جماعات إسلامية على قوله، من حيث امتلاكهم الفهم الصحيح للدين، ومن ثم تكفيرهم نظراءهم. أن لا يكون بشار عالماً في الدين، هذا تفصيل ليس بالمركزي بما أن المعرفة العميقة لأولئك العلماء قادتهم في المسار نفسه؛ إنه بالأحرى يقطف بسهولة وتبسيط وسطحية ثمارَ ما أنتجوه بجهود ومماحكات فقهية مضنية.
لم يقل بشار أن “الديموقراطية شرك”، على غرار لافتات رفعها أمراء جماعات إسلامية في أماكن سيطرتها، ومن المرجح أنه يتمنى في قرارة نفسه لو يستطيع الجهر بها. إلا أنه اختار التصويب على الغرب “الديموقراطي” من زاوية ما سماه “الليبرالية الحديثة”، والتي يختصرها بمقولات أو قوانين مثل زواج المثليين، وحق الأطفال في ألا يُفرض عليهم دين الأبوين، مستخدما التسفيه والسطحية معاً كما في فهمه مسألة الاختيار اللاحق للجنس الذي ينضح منه جهله بالمفاهيم التي قامت عليها نقاشات “الجنس الاجتماعي” والجندر، وهي كما نعلم في حدها الأدنى تميز بين الهوية الجنسية الفيزيائية ونظيرتها الاجتماعية وأيضاً نظيرتها النفسية.
المدخل السهل والنمطي للانقضاض على قيم الليبرالية كما قال تماماً، عندما اختصرها بأنها “تسويق الانحلال الأخلاقي”. هكذا يتوالى التشابه، فتغرف مشيخة بشار من مقولات مشيخات نظرائه عن الغرب الكافر المنحل المتآمر، الذي “على نحو خاص” يستهدف مجتمعاتنا المسلمة بتلك القيم، ومن ذلك الاعتبار الذي يحظى به الفرد في الغرب لكونه الوحدة الأساسية في المجتمع، بينما ينبغي أن تكون الأسرة هي الوحدة الأساسية، أي أن أي فكر محمول على تغليب حقوق الفرد “وفق بشار ونظرائه من المشايخ” هو ضرب للمجتمع المسلم من خلال وحدته الأساسية “الأسرة وتراتبيتها المعروفة”.
كي لا نتعامى عن الواقع، وكي لا يفعل ذلك غيرنا من مواقع أخرى، كنا شهدنا قبل سنوات على سبيل المثال حملة على “رئيس أركان الجيش الحر”، لأنه خرج آنذاك بتصريح تلفزيوني يقبل بنتائج صندوق الاقتراع في انتخابات حرة. نستطيع حتى الآن العثور في يوتيوب على خطب لمشايخ وقادة جهاديين تهاجم ذلك التصريح، وبعض منهم صرّح بأنه لو كان الهدف إحلال الديموقراطية لكان من الأولى البقاء إلى جانب الزوجات ومسامرتهم! بينما لم يخفِ البعض أن معركته الأساسية ضد الغرب، الغرب الذي تآمر على قولنا “أشهد ألا إله إلا الله”، على الرغم من أن الغرب في تلك الأيام كان يعلن أفضل مواقفه لصالح الثورة. التطابق في العداء للغرب، بين بشار والإسلاميين، ليس مصادفة.
ما يميز الإنسان عن الحيوان “بحسب بشار” هي العقيدة، وهذه وفق ما يقول أيضاً يرثها من آبائه. إذاً، ليس الإنسان بحيوان ناطق أو عاقل “مفكّر” كما يقترح الفلاسفة، ولا هو بحيوان اجتماعي كما يقترح علماء الاجتماع، ولا بحيوان سياسي كما يقترح علم الاجتماع السياسي، إنه حيوان متدين، ونقطة على السطر. في الاستنتاج الأخير أيضاً لا تفترق المشيخة التي يظهرها بشار عما نعرفه عند إسلاميين يرون الإنسان بوصفه حيواناً متديناً، ومنهم من يرفض حتى الاكتفاء بأن يكون حيواناً مؤمناً، عطفاً على كون الإيمان مسلكاً فردياً بينما يغلب على التدين طابعه الجماعي.
ولئن كان بشار قد هاجم العرب والعروبة في مستهل الثورة، وأذِن لشبيحته الإعلاميين بشتمهما والتحدث عن سوريا فينيقية أتى البدوي المسلم لاحتلالها والقضاء على حضارتها، فإن زمن ذلك الهجوم وأسبابه قد انقضيا ليعود إلى التأكيد على عروبة سوريا، بل ليقول أن التشكيك بعروبة الرسول وعروبة القرآن لا ينفصلان عن التشكيك بعروبة سوريا، التي كانت عربية وستبقى. كما نعلم لا تستوي مشيخة الأسد من دون العروبة، ووضع حد لذاك الشطط “الفينيقي” الطارئ، وحتى إذا أمكن تأويل التأكيد المستجد على العروبة موجهاً ضد الأكراد فهذا لا ينفي الضرورة المستدامة للعروبة في الاستثمار الأسدي. رأينا من قبل كيف ركّز حافظ الأسد على الإسلام والعروبة في معركته مع الإخوان وإثر انتصاره عليهم، وظهر فاقعاً ذلك الاهتمام الشخصي والإعلامي باللغة العربية بالتوازي مع افتتاح “معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم”.
بالعودة إلى التطابق بين بشار والإسلاميين في العداء للغرب، هذا ما يختزل أسباب التطابق بين الطرفين في الكثير من التفاصيل. لافتة من نوع “الديموقراطية شرك” تختزل عداء واضحاً من إسلاميين وعداء مخبّأً لا يقل جذرية من المشيخة الأسدية، أي أن مفاضلةً متروية بينهما لن تنتقص من إخلاص بشار لذلك العداء واستثماره الإسلام على النحو ذاته. ثم إن الطرفين يشتركان في اختراع الحرب وتضخيمها، إذ يصوّران الغرب وكأن شغله الشاغل تحطيم المجتمعات “العربية الإسلامية” والانقضاض على قيمها، بينما في الجهة الأخرى يظهر مؤخراً قادة في الغرب “على درجة من السفاهة” همّهم بناء جدران أمام الخطر الأصولي الداهم. يعرف الغرب أن عداء بشار لقيم الحرية والديموقراطية، وهذا هو سبب عدائه للغرب، لا يقل عن عداء الإسلاميين، ويتوجب علينا الإقلاع “ولو جزئياً” عن استغباء الغرب والظن أنه ضحية صورة بشار العلماني الحداثي. في المفاضلة تفوز مشيخة الأسد برضا الغرب لأنها مشيخة سلطوية محدودة، لا امبريالية كما تبالغ الحركات الجهادية في طرح نفسها. لنتذكّرْ أن الغرب لم يهاجم طالبان إلا بعد هجمات الحادي عشر من أيلول، وتغاضى بدايةً عن تمدد داعش. الغرب أيضاً، أكثر من أي وقت مضى، لا يضيره النظر إلى شعوب المنطقة بوصفها حيوانات متدينة لا تستحق الحرية والديموقراطية، بشرط بقائها في أقفاصها.
المدن
——————————-
حين يتحدّث الأسد “الخليفة”/ ريما فليحان
لم يصدمني كثيراً خطاب الأسد في جامع العثمان مع وزارة الأوقاف، بل ريما أضحكني قليلاً لأنّه كان مليئاً بالمفارقات والمغالطات الفكرية والتاريخية والاجتماعية والعلمية، لم أفاجأ لأنّني أصلاً أعلم أنّ بشار الأسد ونظامه أساساً ضد الليبرالية وضد العلمانية وضد حقوق الإنسان، وإلا لم يكن ليكون في مكانه حتى اللحظة، ولم تكن سوريا لتكون في هذه الكارثة، ولم يكن ليرتكب كل هذه المجازر والانتهاكات لحقوق الإنسان منذ بدَأ الحراك الشعبي في سوريا وحتى اللحظة، لو لم يكن فكره كما عبّر عنه في تلك الخطبة العصماء.. ولكنني أعتقد أنّ هذا الخطاب يجب الإضاءة عليه من أجل الشارع المخدوع فيه حتى اللحظة من جهة، ومن أجل من يفكر في إعادة تدويره عالمياً، ظناَ منهم أنّه قد يكون حماية للأقليات، وأنّه قريب للعلمانية التي هي منه براء، وهي البربوغندا التي تعمل عليها ماكينته الإعلامية. الخليفة
بشار الأسد في خطابه هذا اتّهم الليبرالية بأنّها تهدف لخراب المجتمعات والانحلال الأخلاقي، وهي كانت سبب الحرب على سوريا، وهي تهدف لهدم الأديان والعقائد، وصرّح من خلال تعليقاته عليها عن مواقفه الحقيقية ضد عدد من حقوق الإنسان، فهو مثلاً ضدّ تعزيز القيم الفردية التي تهدف الليبرالية إليها، هو مع القيم الجمعية فقط، بل مع الفكر القبلي، ومن المعروف أنّ المجتمعات لا تتطوّر إلا بنمو الأفراد وتعزيز قيم المدنية والمواطنة والحريات الفردية، أما العصبية القبلية فهي حالة تتناقض مع الهوية الإنسانية الأوسع من جهة، ومع الهوية الفردية وذاتية الإنسان التي تمكّنه من النضوج العقلي والإنساني والمعرفي.
بل إنّها تتناقض حتى مع فكرة المواطنة، الأسد اعتبر الليبرالية عدواً للمجتمع وضرب أمثلة على ذلك: الليبرالية ترى أنّ الطفل يحق له أن يختار دينه الذي يرغب به حين يكبر، ولكن ما يجب أن يكون وفقاً لما قاله الأسد إنه يجب أن يتبع دين عائلته وقبيلته حتماً، وهو يتناقض بشكل كامل مع مبدأ حرية الاعتقاد في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان ، الأسد يرى أنّ العلمانية تعني حرية الأديان فقط، وبالتالي هي لا تعني فصل الدين عن الدولة، بل إنّه على العكس قال إنّ المؤسسة الدينية في سوريا هي رديف الجيش وجزء من الدولة. الخليفة
هو أيضاً اتّهم الليبرالية أنّها السبب في الانحلال الأخلاقي بالعالم، وذكر مثالاً على ذلك أنّها السبب في ترويج المخدرات وشرعنتها وإقرار زواج المثليين، وهذا يعني أنّه ضد حقوق المثليين من جهة، ويعتبر هويتهم جزءاً من الانحلال الأخلاقي الذي تحدّث عنه، وربط شرحه عنه بإقرار زواج المثليين، وهذا أيضاً انتهاك لحقوق الإنسان، كما أنّه يخلط بين فكرة جنس المولود بالمعنى الفيزيولوجي، وبين فكرة الهوية الجندرية التي ترتبط بالبعد النفسي والاجتماعي لإحساس الأفراد بذواتهم، الأسد أيضاً تكلم عن عروبة سوريا، وأنّها فكرة غير قابلة للنقاش، وربط العروبة بالإسلام باللغة في جزء من الحديث، ثم عاد ليناقض مع ما قاله في موقع آخر من الخطبة العصماء، ليقول إنّ اللغة والهوية شيئان مختلفان، خاصة حين أراد أن يهاجم فكرة سريانية سوريا القديمة قبل الإسلام، قال السريان كانوا يتكلمون السريانية لكنهم كانوا عرباً، وقد انتقد تلك الفكرة بشكل لاذع، كما أنّه رفض وجود أي حضارة في سوريا سوى الحضارة العربية، ضارباً بعرض الحائط حقيقة وجود قوميات أخرى غير عربية، لديها لغاتها الخاصة وحضاراتها ونظامها السياسي، ووجدت بالمنطقة تاريخياً وتمازجت فيما بعد، أو أنّها كانت مرتبطة بأصل مشترك “السامية” لكثير من الشعوب التاريخية التي سكنت في المنطقة العربية وبلاد الشام، بما فيها الآراميون والعرب وغيرهم، الأسد قلل من حقيقة وجود وكيان كل القوميات الموجودة في هذه البقعة من العالم، وهذا يعني وفقاً ما قاله أنّ السريانيين عرب، والآشوريين عرب وكل الناس في سوريا عرب، حتى لو تكلموا وكتبوا لغات أخرى، وحتى لو قال التاريخ غير ذلك,
بشار الأسد في خطبته تلك أقرّ من حيث لا يدري بأنّ من خرج من الجوامع في بداية الثورة لم يكن إسلامياً بالضرورة، فقد قال حرفياً بأنّ الكثير ممن خرجوا من الجوامع كانوا ملحدين، وأزيد عليه بل كانوا من كل الأديان والطوائفـ، لأنّ الحراك في البداية كان شعبياً شاملاً لكل مكونات الشعب السورية، ولم يكن هناك فرصة للتجمع إلا بالجوامع، وقد فشلت كل المحاولات للتجمع خارجها بسبب القمع الأمني لأي تجمع منذ بدايته، واعتقال كل من فيه، وهي تجارب شهدتها بنفسي في دمشق على الاقل، ولمن نسي بشار الأسد في تلك المرحلة كان يروًج أنّ الحراك منذ البدايات كان إسلامياً متطرفاً، فهل يتذكر هؤلاء الذين غسل النظام ادمغتهم في تلك الفترة ما قاله حينها وما قاله اليوم؟
الأسد في خطابه الأخير أوضح هوية نظامه بشكل لا يدع أي مجال للشك بأنّ هذا النظام غير علماني ديكتاتوري قائم على فكرة المركزية والشوفينية، ولا يحترم حقوق الإنسان ولا حقوق الأفراد، بل يحرّض ضد أي خارج عن الفكر الجمعي، وهو لا يحترم الثقافات المتنوعة في المجتمع السوري، وهو بخطابه هذا حرض على الليبراليين والملحدين والعلمانيين والمثليين وعلى مبدأ حرية الاعتقاد، وهو ما يوضح أن لا نية له حتى الآن بأن يقوم بتغيير أي من تلك الثوابت التي قام عليها هذا النظام القمعي منذ تأسيسه، فهو نظام لا يحترم هوية المكونات السورية غير العربية، ولا يحترم الحقوق الفردية للناس، ولا يحترم العلمانية ولا الليبرالية، بل إنًه يحرّض عليها الشارع الإسلامي، بوضعها وبوضع مفكريها ومن يتبعها في مكان العدو الذي يهدف لنسف الدين والعقائد وتكريس الانحلال الأخلاقي، وهو ما قاله حرفياً. الخليفة
هو ذات النظام الذي كان يسهل الإتجار بالبشر، عبر استغلال القاصرات في الملاهي الليلية التي يملكها أتباعه في ضواحي دمشق وغيرها، هو ذات النظام الذي عذّب واغتصب الكثير من النساء اللواتي تعرضن للاعتقال، هو ذات النظام الذي أفقر الناس وجوعهم وقتلهم، هو ذات النظام الذي استباح الناس وملكياتهم، ويأتي رئيسه ليتحدّث عن مكارم الأخلاق والعقائد والقيم، وها هو يتهم الليبرالية بالترويح للمخدرات في خطبته العصماء، ويعرف القاصي والداني أنّه ما يقوم به النظام داخل سوريا وخارجها، وهو تماماً يلتقي بهذا الخطاب مع خطاب التنظيمات المتطرّفة التي تقول عن الليبرالية نفس الكلام وتقف ضد الحريات الفردية وحقوق الإنسان والديموقراطية والعلمانية وترفض فكرة فصل الدين عن الدولة. الخليفة
ليفانت – ريما فليحان
————————–
مؤتمر تحالف المستبدين.. الأسد سفسطائي مذعور/ مصلح مصلح
في كل مرة يبادر فيها الأسد إلى إلقاء خطبة في رهط من أنصاره أو مريديه، يصرّ على أن يقدم لنا نفسه بمظهر الشخص الموسوعي العارف بكل شيء، فمن تمظهره بمظهر رجل السياسية العارف بخبايا الرجال وطموحاتهم السلطوية، إلى تمظهره بمظهرعالم الأناسة العارف بأثر الثقافة على سلوك البشر ومعتقداتهم. كل ذلك دون أن يفوته الظهور بمظهر المتفلسف، صاحب المخيلة العجائبية القادر على أشكلة قضايا الوجود البشري، على نحو يجعل منها قضايا قابلة للحل أو للفهم على نحو خلاق لم يسبقه إليها أحد.
في مشاركته مشايخ مؤسسته الدينية لقاءهم الدوري، الذي دأبت وزارة الأوقاف على إقامته سنويًا في جامع العثمان بدمشق، عاد الأسد إلى سيرته الأولى، منظرًا دينيًا يستميت على إقامة الحد الفاصل بين المؤمن الحق والمؤمن الزائف استنادًا على قاعدتي البراء والولاء الفقهيتين، ثم كمنظر لغوي يستميت على حصر الفرق الجوهري بين الإنسان والحيوان استنادًا لموقفه من العقائد الدينية وتبنيه لها.
يعذب الأسد مستمعيه إذ يتفلسف، ذلك أنه لا يؤشكل القضايا (لا يهتدي إلى حلها) على النحو الذي يلجأ إليه الفيلسوف في حله لمشكلة التنوع إزاء الواحد (وجود عدد كبير من الأحصنة المختلفة ضمن عالم الأحصنة) عبر ردها إلى المثال (الصفات المشتركة بين جميع الأحصنة) كما في نظرية المثل الأفلاطونية. ولا بإزالة التعارض الحدي بين ضدي ظاهرة ما، عبر نفي إحدى طرفي التناقض وتثبيت الآخر، على النحو الذي نراه في فلسفة هيراقليطيس التي تصر على إدخال عامل الزمن عند المباشرة بدراسة أو معاينة أي ظاهرة إجتماعية، عبر مسارعتها على نفي مفهوم الثبات، وإحلالها لمفهوم التغيير كمفهوم وحيد في الفهم أو التفسير.
في تفلسف الرجل لحل مشكلة التعارض القائم بين أفكار المنادين بتدريس مادة التربية الأخلاقية باستقلالية عن مادة التربية الاسلامية، الذين يصرون على اعتبار أن الأخلاق الإسلامية هي مصدر كل إرهاب وتطرف، وأفكارالمنادين بتدريسها عبر التربية الإسلامية دون غيرها من المواد الأخرى، ذلك أن الإسلام برأيهم هو الضامن الوحيد لكل محبة وسلم أهليين، كما أنه الضامن الروحي لردع أي مؤمن من التمرد على ولي أمره، عبر تذكيره الدائم بضرورة الأخذ بقاعدة “الولاء للمتغلب” الفقهية.
لم ينحز الأسد لفكرة أصحاب المذهب المديني للأخلاق، ولا لفكرة أصحاب المذهب الديني لها، بقدر ما سعى لاظهار الجانب الإلغائي في مسعى منه لإظهار قدرته التحليلة في التفكيك والتركيب العقليين، كل ذلك دون أن يخرج علينا بتركيب هيغلي جديد من كليهما، ذلك أنه ظل عاجزًا على ما يبدو عن فهم علاقة الأخلاق بأختها الحرية. فعندما تكون الحرية الشخصية هي الضامن للسلوك الأخلاقي، فكل ممارسة أخلاقية يقوم بها الآخرون تصبح عندها مفهومة ومعقلنة، حتى لو لم نكن طرفًا فيها أو كان لنا موقف مغاير منها، فحرية المثلية الجنسية هي سلوك أخلاقي مقبول ما دامت ممارسته المثلية لا تلحق بي أي أذى ممكن.
إضافة لعجزه عن فهم علاقة الأخلاق بالحرية، فقد كشف الرجل على عاجز مقيم عن فهمه للعلاقة الجدلية القائمة بين الأخلاق وطبيعة النظام السياسي. فكيف له أن يطالب رجالات مؤسسته الدينية بالنزاهة والصدق، وعدم التهرب الضريبي والامتناع عن قبول الرشوة كما الانخراط في الفساد العام، ونظام السياسي يشجعهم على تبني تلك القيم، كما يحثهم بالعمل على تبريرها وتعميمها اجتماعيًا عند الناس، لا لكونها تسهل على المنتفعين داخله، عملية الحصول على الغنائم اللصوصية عبر آلية الجهاز الحكومي وحسب، بل لكونها تصب في خدمة التوجه الأمني القائم على إفساد أخلاق الناس، إلى الدرجة التي تمنع عليهم التفكير حتى بتغيير هذا النظام الفاسد.
يتقن الأسد لغة المفاهيم على نحو كبير، فهو أقرب للسفسطائي الذي يتعامل مع الحقائق من زواية فهمه الذاتي الخاص، لا من زواية الطبيعة الموضوعية للحقيقة كما يبرهن عليها أو يقرها العقل. ففي معاقرته للممارسة الفكرية، لا يقيم الرجل كبير قيمة للأفكار بحد ذاتها من حيث هي صادقة أو كاذبة، على النهج الذي يسير عليه المثقفون والفلاسفة والمنظرون الجذريون، ذلك أن صحة الأفكار أو فعاليتها لا تأتي عنده من منطقها الداخلي بل من مدى قربها أو بعدها في تحقيق مصالحه الشخصية المتأتية من الهيمنة السياسية. فالمؤمن لديه ليس ذلك الكائن العقائدي الذي يستميت في قرن القول والفعل، كما لو كانت ممارسة تعبدية، بل ذلك الشخص الذي يزواج من غير وجه حق بين طاعته الإلهية لربه وطاعته الدنيوية لولي نعمته، على النحو الذي يسهل عليه القبول والتسليم بامتهان كرامته الشخصية، دون أن تبدر منه أية شكوى أو تظلم أو احتجاج على ذلك. أما المؤمن الذي يطالب بحقوقه السياسية، الراغب بعلاقة تشاركية مع حاكم لا يقيم اعتبارًا لا لشراكة ولا لقسمة عادلة، فهو بنظره ليس أكثر من مؤمن آبق، غارق في أوحال الطائفية والسلفية الوهابية، ومن ثم الأخوانية، الذي لا يمكن التعامل معه إلا بلغة التطهير القائمة على المحو؛ محو أفكاره وجسده معًا.
من نافل القول أن يتفهم المرء أكاذيب الأسد السياسية، من شاكلة إصراره على تحويل أزمة نظامه السياسي إلى أزمة أخلاقية عند معارضيه، أو في تحويل مطالب الناس المحقة بالتغيير إلى مؤامرة كونية، ذلك أنه يدرك في قرارة نفسه مسبقًا الطابع التلفيقي لذلك الفعل، الذي يتوسل من خلاله البحث عن إيجاد تبرير نفسي لمعاقبة كل فرد قرر التمرد على سلطته، وذلك قبل السماح له بالعودة إلى بيت الطاعة. أما أن يركن المرء بالاستماع إلى أكاذيبه الفكرية التي لا تقوم على حجة أو منطق فذلك ما لا طاقة له به ولا تحمل. فكيف يمكن لإنسان عاقل أن يتساوق مع فكرته عن الفرق بين الإنسان والحيوان، في إدعائه بامتلاك كلا الكائنين اللغة، مع معرفته البديهية بأن النظام اللغوي التواصلي، ما هو إلا نظام خاص بالكائن البشري وحده؟ وكيف له أن يطيق فكرة امتلاك الحيوان عقلًا مساويًا لعقل الإنسان في الفهم والخلق، إلى الدرجة التي تجعله يتخيل تنافس كل من فرس النهر والإنسان بالصعود إلى جبال الهمالايا، عبر استخدام فرس النهر لنفس حبال التسلق ذاتها المستخدمة من قبل الإنسان. فهل وصلت الوقاحة بالأسد حد جعل الفرق بين الإنسان والحيوان مقتصرًا على تفرد الكائن البشري على تبني العقائد الدينية، بقصد رفع رجال مشيخة الأوقاف إلى مستوى وجودي روحي لا يقدر عليه إنسان آخر غيرهم؟
سبق للأسد أن التقى برجال عبد الستار في مرات كثيرة، غلب على معظمها الطابع الاحتقاري لهم ولسلطتهم الروحية التي يفاخرون بها، ذلك أنه ظل يتعامل معهم كما يتعامل مع المرضى النفسانيين منه للرجال الروحانيين القادرين على ضبط الجانب الغرائزي في سلوكهم. إلا أن لهجته هذ المرة معهم جد مختلفة، فهو لم يكتف بالثناء عليهم لخروجهم بتفسيرهم القرآني المعجز من قبل عبد ستارهم، بل بلغ به الأمر حد الثناء على تدينهم الحق، الذي لولاه لعمت الفتنة والطائفية البلد وما قامت لنظامة قائمة تذكر. فما السر وراء هذا التغير المفاجئ يا هل ترى لخطاب السلطة الأسدية هذا؟ أيكمن الأمر في هذ الدفق الروحي الذي لمسه في أعينهم، أم يكمن السر في الدور المستقبلي الذي قرر انطاته بهم؟
لم يأت الاسد إلى مؤتمر مشايخ الأوقاف ليقف على مخاوفهم من فصل الدين عن الدولة، الذي ادعى فيها ظلمًا وبهتانًا أنها مساوية لفصل الدين عن المجتمع، كما أنه لم يأت ليهدئ مخاوفهم من تلزيم مادة التربية الأخلاقية لأناس من شاكلة النبيلين اللادينيين؛ نبيل صالح ونبيل فياض. فهل جاء حقًا إذًا ليدلهم على معسكر الأعداء المتمثل بالليبرالية الجديدة؟ أم جاء بغرض مخالف تمامًا، ألا وهو تجديد تحالفه القديم معهم، تحالف المستبدين ذلك؟ ذلك أنه اليوم يعيش ويحيا في وقت عصيب لا يحسد عليه، فناهيك عن عزلته السياسية كمجرم حرب، فإن نظامه السياسي يعاني من ضائقة اقتصادية وصل به الأمر حد تقنين كل شيء من وقود الطهي إلى الخبز، وإنه ليخاف أن تنفجر في وجهه تلك الأفواه الجائعة في أية لحظة، الأمر الذي يجعله يبادر لحشد كل طاقات حلفائه المجربين، ليكونوا له عونًا في وأد أي معارضة أو احتجاج قد يتبادر لذهن أي مريد من مريدهم، سواء عبر تذكيرهم له بحرمة هذا العمل الشائن أو فداحة الثمن الذي سوف يدفعه جراء ذلك.
الترا صوت
———————————
متى سيعفو بشار الأسد لحيته ويحفُّ الشارب؟/ أحمد عمر
فوجئنا بمفتي بشار الأسد، أحمد حسون، وقد حفَّ شاربه، وذلك قبل سنة أو أزيد، ومن جدَّ وجد ومن سار هذه الأيام على درب السلفية المدخلية وصل، فهي إحدى الفرق الحزبية السياسية الفائزة بالوصول.
لم يكن شيوخ السنّة ممن يكترثون بحفِّ الشارب ذلك الحفَّ الصفري، وشيوخ الأزهر لا يلتحون في الأعمّ الأغلب، تاركين هذه الفضيلة للسلفيين، فغدت مثل الرتبة الدينية الطبيعية، وكانت لحية البوطي وكذلك عبد الستار السيد، خفيفة.
لابد للحاكم من علامات دينية، قد تكون مؤقتة تظهر في المناسبات وقد تكون دائمة.
سلك هذا الدرب المعبّد من الزعماء الغربيين ترامب الذي قصد كنيسة القديس جون المجاورة للبيت الأبيض واتخذ صورة تذكارية علّه يقتبس منها قبساً، وهو يرفع الكتاب المقدس.
أمّا الزعماء العرب، فالاحتماء بالدين شبه محتوم، ونذكر أمثلة، أولها مثال الرفيق القائد البعثي صدام حسين الذي نزعَ في أواخر أيامه إلى الدين بعد أن سلّم أسلحته الاستراتيجية للغرب فدمّرها تدميراً، وخاصم صدام الإخوة جميعاً، فلم يبقَ له منجى سوى الله، فلجأ إليه، وكان قد أمر بكتابة عبارة “الله أكبر” على العلم العراقي إبّان اجتياح العراق الكويت، ولم يجرؤ أحد على محوها بعده.
ونذكر جعفر النميري الذي حذف مادة الدين من الدستور سنة 1973، فثارت عليه الأحزاب الإسلامية والطرق الصوفية، ثم أعلن تطبيق الحدود الإسلامية بعد موجة التضخم والفساد قبل سنتين من انتهاء حكمه الذي طال 16 سنة، وسبحان من جمع الشتيتين. اقتصر إسلام النميري على الحدود، وذلك يشبه أن يقتصر التدين على اللحية والشارب، أمّا أنَّ مراكز بحث واستشارة تنصح حكامنا الأفاضل بالتمسّح بالدين، وأمّا أنهم لا يجدون مظلة غيرها بالغريزة والفطنة وحسن الختام. فتكون وبالاً على صورة الإسلام أيضا.
ويمكن أن نذكر عمر البشير، الضابط الذي تحالف مع جبهة الميثاق الإسلامي بزعامة حسن الترابي. قال البشير لصحيفة اليوم السابع في لقاء: إنه كفّ عن شرب المنكر، وخطب الجمعة خمس مرات، وتصنفه أدبيات الصحافة العربية من الإخوان المسلمين!
سيَرُ الزعماء العرب تدل على أنهم يبدؤون بالدين للترغيب أو ينتهون به للتطريب، وذلك لشدة تعلق العرب بدينهم.
وجد حافظ الأسد نفسه أوائل حكمه مضطراً إلى إثبات إسلامه المشكوك به. عند ظهور مأزق الدستور سنة 1973 وثار عليه السوريون، ما دفعه إلى الإقرار بمادة دين الدولة في الدستور، أعلن وقتها ثمانية من شيوخ العلويين أنهم فرقة من الشيعة، وكتابهم القرآن، وصدّق عليه رئيس المجلس التشريعي في لبنان موسى الصدر. اعتذر الأسد مرة واحدة في حياته السياسية عن إساءة الوحدات الخاصة لحجاب المسلمات الذي انتُزع من فوق رؤوسهن في الشوارع، وكان الأسد يحضر أيام الاحتفالات الدينية في ليلة القدر والمولد النبوي والعيدين.
لابد من الدين. إن لم يكن كله فبعضه أو بعضُ بعضِ بعضه.
لقّب القذافي نفسه بأمير المؤمنين، وكان يصلي إماماً، واضعاً يده اليسرى على اليمنى! وبدأ جمال عبد الناصر المولود في حارة اليهود، مع جماعة الإخوان المسلمين، وحجَّ، ومشهور قوله لأنيس منصور وهو يطوف:
إيه لعب العيال اللي احنا بنهببو ده!
ولقّب السادات نفسه بالرئيس المؤمن، وكان حسني مبارك أقلَّ الزعماء تقرباً من المسلمين، لأنه لم يضطر إلى خوض معارك مثل السادات مع أحزاب المجتمع المصري، فلم يدخل في مغامرات سافرة مثل سلفيه، وقد يكون أشدّ المجاهرين بعداوته للإسلام الزعيم التونسي بورقيبة الذي أفطر علناً في رمضان حتى يزيد الإنتاج، فنقص إلى أن رأينا البوعزيزي يحرق نفسه احتجاجاً على الظلم، وغضباً لكرامته في عهد خلفه زين العابدين الذي طبع مصحفاً عليه صورته، مثل شقيق الأسد جميل الأسد.
الوريث الجمهوري بشار “الأسد”، ليس محاصراً مثل صدام حسين، فله أصدقاء كثيرون، بعضهم في الجهر وأصدقاء السرِّ أكثر، فمن أصدقائه دولة نووية هي روسيا، ودولة إقليمية كبيرة هي إيران، كما أنَّ الفاتيكان تمحضه ودّها، ولها سفارة في دمشق، وكذلك الإمارات العربية، لكنه محاصر بعد حرب طويلة أكلت الزرع والضرع، ويُدرك أنَّ حلفاءه الإيرانيين خطرون عليه، ويضايقونه، ويسرقون دولته، وملكه، وأنَّ التشيع سيعود عليه بالوبال. وشاع قبل أيام أن الأسد ظهرت عليه بوادر ممانعة في التشيع، لأنَّ ولاء الشيعة للفقيه الوليّ وليس لرئيس الدولة وإنه يصعب التحكم بالشيعة من غير آية الله.
ويدركُ أيضاً أنَّ الدين ضرورة للحكم، فلا بد لكل دولة من عقيدة، وأنَّ حكم السنّة أيسر من حكم الشيعة غالباً، وأنَّ عقيدة شعبه السنيّة أصيلة، وإن اضطربت كثيراً في عهده وعهده أبيه، لكن جذوتها لا تزال متّقدة في النفوس، وأنَّ حزب البعث قد ضعف خطابه القومي وهزل، وكان ينتفع بالقومية العربية، وقد هزلت كثيراً بسبب مقاطعة الدول العربية، ومصادقة إيران وروسيا، فأفرد الأسد للعروبة المخذولة في خطابه في جامع عثمان بعض الحديث بالانتقاص من السريانية، وهما لهجتان أختان، وكالعادة تباهى الأسد بثقافته وسعة اطلاعه، فهاجم الليبرالية الحديثة، وطالب بكتم الغضب حول الرسوم الكارتونية الفرنسية وتحويلها إلى عمل.
يشكُّ أن تصلح الليبرالية التي طفرت في خطب الأسد عدوّاً، فقد تجنب ذكر اسم أميركا، ولم يذكر إسرائيل أيضاً، وتحدّث عن الرموز، يقصد الأنبياء، والرموز مصطلح ليبرالي وحداثي وغير إسلامي، وقال للشيوخ والحاضرين ونصفهم هذه المرة من النساء القبيسيات، وقد كثرت النساء في سوريا بعد أن قلَّ الرجال: إنه لا يمكن للبشري أن ينتصر على الإلهي، ناسياً قوله تعالى: إن تنصروا الله ينصركم…، وذكّر بتقوية المؤسسة الدينية، والدين الصحيح وهو دين المؤسسة الدينية الوقفية التي أصدرت قانون الأحوال الشخصية، وهو قانون لبيع أيتام الحرب.
ذكر شيخ جامع المريجة الحمصي أنس سويد الذي قابل الأسد مرتين، أنَّ الأسد أخبره أن عبد الستار السيد وزير الأوقاف أهم عنده من أكبر رئيس فرع أمن في سوريا.
استغرب المراقبون أن يخرج الثعلب في ثياب الواعظينا، وقد استاء الموالون يوماً من عبارات وعظية وذكْرية على السيارات، وارتعبوا، فسنّ الثعلب قانوناً يجرّم الكتابة عليها. وإنْ فحص المراقبون الحالَ سيجدون أن المجتمع متجانس وثلاثة أرباعه من النساء والأطفال، والبقية من الشبيحة، وأنَّ قليلاً من الدين ضرورة لا تضرّ وكثيرٌ منها لا ينفع.
قد يكون عبد العزيز آل سعود مؤسس السعودية الثالثة أذكى زعيم عربي ركب الدين واستتر به، بمعونة المخابرات البريطانية. والمقطوع به أن جميع هؤلاء الزعماء يمشون في ظل عربة الإسلام، أحياناً أمامها وأحياناً خلفها وأحيانا تعلقا بها من جهل بطريقة قيادتها، ثم نجدهم تحت أقدام العربة أو تحت سنابك الغزاة.
تلفزيون سوريا
—————————–
الشيخ بشار الأسد!/ وليد بركسية
طوال عشر سنوات، تحجج بعض السوريين، ومن بينهم شخصيات عامة كالشاعر أدونيس، بأن الثورة السورية خرجت من المساجد، في معرض تبرير وقوفهم إلى جانب النظام الأسدي. وإن كان التبرير نفسه واهياً لأن حقيقة ارتباط النظام السوري بالخطاب الإسلامي المحافظ، ورعايته الممنهجة للإرهاب الإسلامي ليست سراً خفياً، فإن الموقف ككل يسقط اليوم مع الخطاب الذي ألقاه رئيس النظام بشار الأسد في الاجتماع الدوري الموسع الذي تعقده وزارة الأوقاف في جامع العثمان بدمشق، متحدثاً عن إسلامية الدولة السورية، ونافياً كل صفات العلمانية “الشريرة” عنها.
وطوال ساعة وربع الساعة تقريباً، قدم الأسد كافة المتناقضات التي يمكن تصورها في حديثه، وتحديداً عند “مساهمته القيمة” في الفلسفة المعاصرة بحديثه عن معنى العلمانية بأنها لا تعني فصل الدين عن الدولة مثلما تروج “الليبرالية الحديثة”، بل بأنها احترام الأديان مثلما ينص الإسلام، ما يجعل الدولة السورية المسلمة علمانية وفق هذا الطرح الأعوج، الذي كان لسنوات حاضراً في التحليلات الإعلامية والفكرية التي ناقشت هوية الدولة الأسدية، كنظام شمولي يجمع الفاشية البعثية مع الخطاب الديني المحافظ والقوة العسكرية الموجهة نحو الداخل، لخلق دولة أقلوية ينص دستورها “العلماني” على أن القرآن هو مصدر للتشريع وأن رئيسها يجب أن يكون مسلماً، بجانب تخصيص قانون مخجل لقانون الأحوال الشخصية، يفرق بين المواطنين على أساس أديانهم.
هذه الهوية لم تكن حاضرة أبداً في الخطاب الرسمي مثلما هي اليوم في التصريحات الفجة للأسد، بل كانت دائماً تجري في الكواليس وتأتي في سياق تعليقات على أحداث ذات صلة مثل استقبال الأسد وفداً من “كبار العلماء” ومنهن رجل الدين الراحل محمد سعيد رمضان البوطي العام 2011 بعد أشهر قليلة من انطلاقة الثورة الشعبية في البلاد، ولقاءات أخرى مع داعيات دمشق العام 2014. وهي تحركات كان النظام فيها يحاول ضبط الطائفة الأكبر في البلاد، عبر التحكم بمفاصلها الأساسية، دينياً واقتصادياً.
وبدا للحظة أن الخطاب كُتب من قبل أشخاص كثر، ناقض بعضهم بعضاً. ويجب التساؤل إن كان للمستشار الجديد في وزارة الإعلام، مضر إبراهيم، الذي التقى الأسد قبل أسابيع، دور في صياغة مصطلحات الأسد الجديدة، وتحديداً مصطلح “الليبرالية الحديثة” التي يغرم إبراهيم بالحديث عنها بمناسبة أو من دون مناسبة عبر صفحته الشخصية في “فايسبوك”، لدرجة أنها كانت النقطة الوحيدة التي ركز عليها في قراءته للخطاب بالتوازي مع بثه.
وبغض النظر عن ذلك، من الطبيعي أن يثير الخطاب استياء واسعاً في مواقع التواصل ضمن البيئة الموالية، وتحديداً بين “الأقليات” التي وقفت إلى جانب النظام باعتباره حامياً لها، وإن كان ذلك الاستياء مكرراً منذ العام 2018 مع مشروع القانون رقم 16 الذي أعطى صلاحيات واسعة لوزارة الأوقاف لم تحجم فقط من منصب مفتي الجمهورية لصالح وزير الأوقاف، بل أعطت الوزارة الحق في التحكم بمؤسسات مالية وتربوية، وبالإنتاج الفني والثقافي وتأميم النشاط الديني، فضلاً عن تأسيس جماعة دينية تحت مسمى “الفريق الديني الشبابي” خلافاً لما ينص عليه الدستور السوري الذي يوضح صراحة منع تشكيل المجموعات الدينية في البلاد.
والحال أن حديث الأسد عن العقد الاجتماعي الذي يربط الدولة الأسدية بمجتمع السوريين، مستفز لدرجة أنه يلخص كل الأسباب الفكرية التي تجعل الثورة على النظام مبررة وردّ فعل طبيعياً ومنطقياً، فالدولة الأسدية تجاهر هنا بأنها دولة مسلمة محافظة تحمي المجتمع والأسرة من قيم “الليبرالية الحديثة”، أي الحريات الفردية بوصفها مشروعاً غربياً للسيطرة على المجتمعات وتفكيكها، بدلاً من حقيقتها كتطور طبيعي ضمن حقوق الإنسان. ويصبح الشخص الخارج عن العقيدة الجمعية السائدة “حيواناً”، وخائناً. أما من ينتقد تلك السياسة ويطالب بالإصلاح السياسي، فهو إما ساذج وجاهل وبحاجة إلى النصيحة، أو خائن وعميل وبحاجة للملاحقة والعقاب.
هذه الازدواجية تشرعن العنف الذي يقوم به النظام من جهة ضد النصف الأول من شعبه، وسياسة الوصاية التي تمارسها “القيادة الحكيمة” على النصف الثاني من جهة أخرى. وتصبح الدولة الأسدية بمجملها هنا في تواز تام مع الخطاب الروسي الذي تشف عنه تصريحات وزير الخارجية سيرغي لافروف في مؤتمر ميونيخ للأمن العام 2017، حول “التشارك بين روسيا والصين” والعودة بالعالم قروناً إلى الوراء من أجل استعادة النظام السياسي “الرجعي” الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر.
والأسد هنا، يضع نفسه ضمن محور عالمي مقاوم للحريات الفردية بوصفها خطراً، ويصبح دوره القائم على حماية المجتمع من “الأعداء الداخليين” المتمثلين بأفراد يختلفون عن السائد “الصالح”، مصدراً لشرعيته أمام الجمهور المحافظ الذي يقوم برعايته والحفاظ على وجوده عبر طبقة رجال الدين، ضمن حلقة مفرغة. ويتحدث الأسد هنا عن حقوق المثلييين وحقوق الأطفال وحرية التدين واختيار الهوية الجنسية والجندرية وغيرها من القيم الحديثة التي يجب الدفاع عنها عند الحديث عن حقوق الإنسان بالمطلق، والتي في الواقع تثير الرعب لدى الجمهور المحافظ لأنها تلعب على الخوف من الاختلاف بوصفه تهديداً للهوية الشخصية، مهما كانت درجة الهزلية التي يتحدث بها الأسد، عالية وكأنها نص هزلي في صحيفة ساخرة.
وبالطبع فإن الدولة البعثية/الأسدية فشلت طوال عقود في توليد هوية قومية، وأثبتت الحرب السورية طوال عشر سنوات أن فكرة وجود هوية سورية جامعة ليست سوى وهم رومانسي بأفضل الأحوال، حيث كرست سياسات النظام هويات طائفية يخشى بعضها بعضاً. كما أن الدين نفسه في المنطقة العربية عموماً يبقى المصدر الأول للهوية الفردية، بتخطيه المعنى الروحاني للكلمة إلى المعنى السياسية وبالتالي المعنى الوجودي. وتغذي هذه الديناميكة، وتتغذى من، سياسات دول المنطقة ككل ومن بينها سوريا التي باتت تجاهر بذلك من دون “الحياء” القديم الآتي أساساً من مخاوف بشأن الأقليات واستياء المجتمع الدولي، وهو أمر لم يعد مهماً اليوم مع سياسة العداء الرسمية التي تنتهجها الدولة السورية ضد القيم الإنسانية من جذورها، وليس فقط الشرائع القانونية الدولية أو الأعراف الدبلوماسية.
وحتى مع هذا الطرح، يبقي الأسد الباب موارباً لمغازلة الدول الغربية، بطرح نفسه كقائد إسلامي منفتح قادر على التحكم بجموع المسلمين الغاضبين عبر نسخته من “الإسلام الدمشقي الكول”، خصوصاً في فترة زمنية شهدت احتكاكات عنيفة بسبب الإسلام المتطرف في أوروبا، وتحديداً ما جرى في فرنسا خلال الأشهر الماضية عطفاً على الرسوم الكاريكاتورية الخاصة بالنبي محمد. ولا يعتبر ذلك جديداً، فالأسد قدم دعاية معاكسة عندما دعمت دمشق الهجمات على سفارات الدول الاسكندنافية في دمشق خلال المظاهرات العنيفة التي جرت احتجاجاً على الرسوم الكاريكاتورية حينها، حسبما نقلت وكالة “فرانس برس” العام 2010. وعبر اللعب على هذين التناقضين بوصفهما وجهين لعملة واحدة، يذكر الأسد بما كان قادراً على فعله وبما يستطيع منعه، في حال كان هنالك تعاون معه وفق الشروط الروسية للحل السياسي المزعوم في البلاد.
وفي المحصلة، يبدو المشهد كأنه دورة كاملة بدأت بالمساجد وانتهت بها، بالنسبة لجمهور الموالين للنظام على الأقل، لكن الفارق الوحيد أن الثورة السورية التي كانت مصدراً للخوف تبقى في صورتها المثالية حركة طالبت بالحرية والديموقراطية والكرامة وبمستقبل أفضل لجميع السوريين، أما نظام الأسد فهو مصدر لكل الظلام والشر والقيم الرجعية التي تعاكس تطور الحضارة البشرية، ويبدو فائض القوة الذي يقدمه اليوم مخيفاً، لتبشيره بقبضة حديدية لحكم السوريين وتلقيمهم طريقة التفكير الصحيح شاؤوا أم أبوا، بطريقة مشابهة ربما للثمانينيات والتسعينيات عندما كان النظام يتدخل في كل التفاصيل الفردية لخلق مجتمع متجانس، حتى من الناحية البصرية، عبر فرض الأزياء والملابس اليومية.
المدن
——————————-
========================