عن الوضع في مدن سورية -مقالات مختارة-
————————
شتاء دمشق القاسي: سُخام الشوارع ومندوبات مبيعات الجمال/ مناهل السهوي
سأحدثكم عن طين دمشق، حيث نقفز من فوق السخام والمياه الآسنة أو نخوض بها، عن ملمسه اللزج تحت أقدامنا، نحن الذين نسكن الأحياء العشوائية والمخيمات أو على أطراف دمشق.
لم يتوقف الرعد في تلك الليلة، أعادت نحو 6000 ضربة رعد للدمشقيين ذكريات حرب ليست ببعيدة، لماذا تحدث ظاهرة كهذه في دمشق؟ كما لو أن على الناس والأطفال أن يشعروا بالخوف على الدوام وبالغضب يهاجمهم من كلّ الجهات ليخبرهم أنه ما زال هنا.
أعلنت برك المياه صباحاً عن انتهاء ليلة طويلة، تجمعت أمام منزلي البركة الخاصة بي. تمنعك تجمعات المياه عادة من المرور بسهولة فإما أن تلتف حولها أو أن تقفز على رأسَي قدميك لتصل إلى الضفة الأخرى، اعتدتُ تسمية البركة بالبحيرة. وعلى رغم أن “ريغار” المياه قربها تماماً، إلّا أنه لا يستوعب الماء سوى بالتنقيط، فتأخذ بحيرتي أياماً لتختفي من أمام منزلي.
اشتريت كمعظم السوريين حصيرة كهربائية، على رغم مخاوفي من وضع شبكة من الأسلاك تحت سجادتي، تغلبتْ في النهاية رغبة الدفء على مخاوفي من احتراق المنزل، وتصالحت مع الحصيرة الكهربائية كواحدة من أساسيات حياتي في الشتاء، في النهاية لم تكن خطيرة كما اعتقدت. مددت الحصيرة الكهربائية تحت السجادة، انتظرت الكهرباء ووصلتها بالمأخذ واستشعرت الدفء الذي راح ينتشر شيئاً فشيئاً. تقول لنا الحكومة أن نوفر الكهرباء ولا نستخدم التدفئة الكهربائية، لكننا نبرد والشتاء لا يفكر بأصابعنا وأيدينا الباردة. والمحزن حقاً أن الكهرباء تغيب في بعض المناطق لساعات طويلة تجعل الحصيرة باردة إلى الأبد.
اكتشفتُ الحصيرة الكهربائية كما يُكتشف الكنز وبتُّ أخبر الجميع عنها، وأنصحهم بشرائها فسعرها مقبول ولا تستهلك الكثير من الكهرباء ويدوم دفئها بعد انقطاع الكهرباء وهذا أفضل ما في الأمر، باتت حصيرتي الشيء الوحيد الذي أتحدث عنه، وكلما كلمني صديق قلت له، أتعلم أنني ابتعت حصيرة كهربائية؟ لكنني أيقنت أن كثيرين سبقوني إلى شرائها، يبدو أنني الوحيدة المتأخرة عن ركب دفء الحصائر، إنما أكثرهم حماسةً وثرثرة.
تقول لنا الحكومة أن نوفر الكهرباء ولا نستخدم التدفئة الكهربائية، لكننا نبرد والشتاء لا يفكر بأصابعنا وأيدينا الباردة.
أوروبا الدافئة تغيظنا
لا أحد يدري كيف يحصل السوريون على الدفء، يتمدد كثر تحت البطانيات، ويرتدي زوجين من الناطيل ومن الجوارب والكنزات. وتلف أمهاتٌ صغارهن الذاهبين إلى المدارس بأوشحة قديمة بألوانٍ باهتة، حتى يعجز الطفل عن تحريك نفسه، لا يملك سوى عينيه يراقب بهما العالم. يتفاخر البائع العجوز بالدفء الذي يحصل عليه ابنه في السويد، يقول إن ابنه يرتدي “الشيال والشورت” حين يكلمهم عبر الفيديو، وما زال الوالدان لا يصدقان أن منزل ابنهما دافئ حقاً، ليتدثرا أكثر بأوشحة وكنزات الصوف.
وحين أنصحه باللحاق بأبنائه المنتشرين في أوروبا، يردد العجوز أنه غير راغب بذلك فالعمر مضى ولم يبقَ شيء. لو أن الرحيل متاح لرأيت السوريين يغادرون أفواجاً، لو أن باستطاعة أموالهم القليلة وفرصهم الأقل أن تمنحهم فرصة للهجرة، لفعل كثيرون ذلك، لكنهم لا يملكون سوى الانتظار والبؤس والفقر الذي يدق الأبواب باكراً.
وسط ذلك تظهر مندوبة مبيعات بمكياج رخيص وغير ملائم لوجهها وبقدمين مشتا وسط كلّ طين الشام ووصلتا أمام منزلي، مترددةً. أدركتْ أنها أيقظتني من النوم فأردفت بقليل من الثقة: “امنحيني بعض الوقت لأمنحك منتجاً خارقاً لهذا الوجه الجميل”، لم أكن في أفضل حالاتي، كان كحل الليلة الماضية يمتد تحت عيني المتعبتين، أما شعري فكان مبعثر للغاية، تابعتْ محاولاتها في إقناعي بشراء منتجاتها. بدتْ بائسة وحزينة بوقوفها وسط البحيرة أمام منزلي وحملها حقيبة سوداء كبيرة على كتفها، واختيارها هذا الحيّ المتواضع، إنّها فتاة أخرى تبحث عن عمل، عن فرصة للحياة، وهنّ كثيرات، فلا يمرّ أسبوع من دون أن تطرق إحداهن أبواب الحيّ، فتيات هذه المدينة اللواتي يتحملن كما الرجال أعباء إضافية للحياة.
لم تطل نقاشها معي، على رغم أن إغلاقي الباب شاكرةً إياها، يعني أنها خسرت فرصة بيع جديدة، لكنها تابعتْ عملها بثقة، ستردد جملها الجاهزة على كلّ أبواب الحي، ربما تبيع بعض ما لديها لنساء يصدقن أن وجوههن جميلة حين يستيقظن من النوم، لنساء يبحثن عن فرصة ليبدون أكثر تألقاً بسعر قليل، بمنتج خارق كما قالت المندوبة. سمعتها تطرق باباً حديدياً آخر مرددة: “هل يمكن أن أخذ القليل من وقتك؟”، عدتُ إلى فراشي وضحكت على أوقاتنا الثمينة التي تسرق هنا!
طين دمشق
سأحدثكم عن طين دمشق، حيث نقفز من فوق السخام والمياه الآسنة أو نخوض بها، عن ملمسه اللزج تحت أقدامنا، نحن الذين نسكن الأحياء العشوائية والمخيمات أو على أطراف دمشق. سأحدثكم عن بقع الماء السود التي لا تعكس السماء، عن دواليب سياراتٍ مسرعة ترشقنا بماء الشوارع وتمضي، نلعن السيارات وننسى الطرق وثيابنا الملوثة. طين دمشق لا يشبه غيره، يتجمع على مهل في الليالي الماطرة، يسقط من المزاريب المختنقة ويسيل في الأزقة الضيقة، لتصحو المدينة على بركٍ من المياه تقطع الشوارع، وسخامٍ ينتشر كالوباء على الأرصفة، إنه مزيج من نفايات العاصمة ودخانها الأسود وشحوارها.
يسيل المطر في الطرق حاملاً معه لون المدينة المائل إلى القبح، تعبره الأقدام، أقدام مسرعة، بطيئة وصغيرة، تكاد الأحذية القديمة تختفي في المياه، لا تتوقف، تمضي بمشقّة إلى يوم قاسٍ آخر، تشير إلي امرأة عجوز “لك هي بلد هي!”، وأعلم أنّها بلد لكن بكثير من الحفر والطرق البشعة، لكنني أجيبها: “لا والله مش بلد”.
نحتاج شتاءً واحداً من دون قسوة، ولا بأس إن تجمع السخام والمياه الآسنة في الخارج وبقيت الأرجل دافئة في الداخل، نحتاج أن نفهم لماذا هنالك شيئان من كلّ شيء، مازوت مدعوم لكن مفقود، ومازوت حرٌّ ومتوافر، إنما بسعر غالٍ، خبز مفقود بمئة ليرة وخبز يبيعه الجوالون بألف ليرة، ومن كلّ شيء هناك زوجان، من البؤس والحزن والانتظار وسفينة نوح لا تكفي لحشرنا وإنقاذنا من فيضان السخام.
لا تمنع المياه الآسنة الممزوجة بقاذورات الطرق والكمامات المرمية على الأرصفة وأعقاب سجائر دُخنت حتى النفس الأخير، السوريين من الانتظار، أراقب في طريقي المعاطف المصطفة أمام فرن خبز “باب توما” بألوانها المتشابهة، أسود، زيتي، بني، كحلي بهت لونه مع الوقت، ومن ثم مجموعة أخرى لألوانٍ معتمة. لا تلائم الألوان الفاتحة سواد هذه المدينة.
أمام مقدمات السيارات المبتلة بمطر تشرين، ينتشر السوريون، يفردون أرغفة الخبز التي حصلوا عليها لتوّهم، يكتفي البعض بفردها ريثما تبرد ثم يجمعها ويرحل تاركاً سيارة عليها رائحة خبز طازج. من الغريب أن يُفرد خبز على مقدمة سيارة مرسيدس مثلاً أو bmw، يبدو الأمر تراجيدياً، لن تفيد هذه السيارة الفارهة السوريّ سوى بتبريد 7 أرغفة من الخبز، البعض يأخذ وقتاً أطول ويقوم بفتح الأرغفة كيلا تلتصق الطبقتان ببعضهما، فبعد عناء ساعات من الانتظار لا يودُّ تناول رغيف ملتصق أو ارتصّ بسبب تكدس الأرغفة الساخنة.
أيكون سرّ طمأنينتي امتلاكي حصيرة كهربائية؟
لا أعلم ما الذي يجمعنا مع المدن البائسة، نشعر في بعض الأحيان بعطفٍ يأتينا من شريط كاسيت يصدح بموسيقى عبد الحليم حافظ، من حديث عجوز مكرر عن العودة عن المنازل التي تركناها خلفنا، فكرت خلال عودتي عند غياب الشمس بدمشق كما لم أفكر بها سابقاً، شعرت أنني حرّة من الألم لكنني أسمع نبض كلّ شيء من حولي، ألمس حزن التائهين والخائفين والوحيدين، وضحكت في سرّي، أيكون سرّ طمأنينتي امتلاكي حصيرة كهربائية؟ كان المساء آمناً، كأنّ شيئاً لم يمرّ على هذه المدينة ثم لمحت رجلاً ينتظر السرفيس واضعاً ربطتي خبز فوق رأسه، بدا كتمثال، كآلهة، إننا تماثيل لن يخطر على بال نحات أن يصور ألمها بهذه الطريقة. وكنّا أنا والسائق العجوز نشعر بذلك من دون أن نقوله، تبادلنا العطف بأن أسمع مآسيه عن النزوح والبحث الدائم عن منزل للإيجار وبأن يتردد بأخذ الأجرة قائلاً: “خليها علينا مش محرزة”، لكن الطريق يستحق وتعب العجوز يستحق وحزن دمشق المبتل بالمطر الآسن يستحق.
درج
—————————
مِحنة الطبابة في دمشق/ محي الدين عمّورة
يعيش السوريون في هذه الأيام حالةً من الضياع إزاء تأمين مُتطلبات عيشهم اليومية، وذلك في ظلّ ارتفاع الأسعار المتواصل، والذي شمل كل ما يحتاجون إليه، حيث باتت الأسعار خارج المعقول وخارج قدرتهم على تكييف مداخيلهم لمجاراتها. أجبر هذا الارتفاع معظم الناس على التخلي عن كثيرٍ من الأمور التي يحتاجونها، أو تأجيلها أو البحث عن بدائل عنها إن أمكن ذلك. لكن ثمة أمورٌ لا يمكن التحايل أو الالتفاف عليها بأيّ شكلٍ من الأشكال، وتحديداً إذا ما تعلّق الموضوع بالجانب الصحي، إذ لا يمكن تأجيل الذهاب إلى الطبيب عند الشعور بالألم، ولا تأجيل التحاليل المخبرية للتأكد من طبيعة المرض إن وجد، ولا تأجيل القيام بعملٍ جراحي إن اقتضى الأمر، ولا تأجيل تناول الدواء اللازم للتعافي. هذه المواضيع لا يمكن حتى مجرد التفكير في تأجيلها أو التغاضي عنها، مهما بلغت التكلفة ومهما كان الوضع المعيشي سيئاً.
ولأنه لا يمكن الاستغناء عن هذه الأمور أو تأجيلها في كثيرٍ من الأحيان، فإنّ الناس صاروا دائمي الحديث عن أسعارها التي فاقت المنطق؛ بدءاً من معاينة الطبيب، ومروراً بمخابر التحاليل والمستشفيات العامة والخاصة، وصولاً إلى أسعار الدواء. ولأن المواطن بلا حولٍ و قوة، خاصةً في الجانب الصحي، فهو مجبرٌ على الدفع مهما ارتفعت الأسعار ومهما بلغ به فقر الحال، حتى لو اضطُر إلى بيع أعزّ ما يملك.
معاينة لدى الطبيب قد تعادل نص راتب الموظف
يرى نقيب الأطباء لدى النظام السوري، الدكتور عبد القادر حسن، أن هناك فوضى في تسعيرة الأطباء، ويتمثّل هدف النقابة حالياً في تعديل القرار 79، الصادر في عام 2004، والخاص بالتعرفات الطبية، وذلك بغية الوصول إلى «قرارٍ متوازنٍ بين الطبيب والمواطن». وأشار النقيب، في حديثه مع صحيفة الوطن المقرّبة من النظام، إلى أنّ الأطباء السوريين «يعيشون في حالةٍ من الظلم، فأجورهم مازالت حتى اليوم قليلة، ومُعتمَدة بالقرار الصادر منذ عام 2004، ولا تتناسب أبداً مع الظروف المعيشية الصعبة التي نعيشها».
بدوره، أكّد أمين سر نقابة الأطباء، الدكتور آصف الشاهر، أنّ الأطباء ليسوا هم الذين رفعوا سعر الكشفيات مؤخراً، وإنما وزارة المالية، حيث زادت ضريبة الدخل بمقدار عشرة أضعاف، ويُلزم كل طبيب بدفع ضريبة دخلٍ تُحدَّد على أساس عدد الكشفيات، وقد تم رفع هذه الضريبة بنسبةٍ كبيرة. وأوضح الشاهر أنه، بالإضافة إلى ضريبة الدخل، فإن فواتير الكهرباء والماء في العيادات مرتفعة لأنها تجارية، وتُضاف إليها رسوم البلدية، وهذا يعني أن الكشفية «يجب أن ترتفع 15 ضعفاً»، لافتاً إلى أنّ «صعوبات الحياة وارتفاع الأسعار ينعكس أيضاً على الأطباء كباقي المواطنين». وبَيّنَ الشاهر أن تسعيرة كشفية الأطباء الرسمية باتت قديمة، حيث صدرت عام 2004، وحُدِّدت للطبيب المُمارس عند 200 ليرة، وللاختصاصي 400 ليرة، وللاختصاصي المُمارس لأكثر من 10 سنوات 700 ليرة، وهذه الأجور «غير معقولة وغير منطقية، وفيها إجحافٌ بحق الأطباء».
من خلال تصريحات نقيب الأطباء وأمين سر النقابة، يتولد انطباعٌ بحجم المعاناة التي يعيشها الأطباء بوصفهم حلقةً ضعيفةً في المجتمع، لكن هل هم جميعاً كذلك على أرض الواقع، وهل يتقيّدون جميعاً بالتسعيرات التي حددها القانون؟
نسمع اليوم في دمشق أرقاماً فلكيةً لقاء معاينات بعض الأطباء، وخاصةً «ذائعي الصيت» منهم، قد تصل في بعض الأحيان إلى نصف راتب موظفٍ حكومي، وربما أكثر، للمريض الواحد. وأصبح أجر الكشف الطبي مرهوناً باسم الطبيب ومكان تواجد عيادته، حيث وصل سعر المعاينة في عيادات بعض الأطباء في «الأحياء الراقية» إلى 20 أو 25 ألف ليرة سورية لمعاينةٍ قد تستغرق، في أقصى تقدير، نصف ساعةٍ من الزمن.
اشتكى أبو عماد، وهو رجلٌ ستيني يعمل خيّاطاً في محلٍ متواضعٍ في حي شعبي، إلى بعض زبائنه من ضعف بصره، فنصحوه بطبيب عيونٍ شهير في منطقة باب توما. يقول أبو عماد: «من باب العيادة استقبلتني الممرضة بالسؤال (أول مرة عمو؟) فأجبتها نعم أول مرة (عندك موعد؟) لا والله يا بنتي مافي (لو سمحت هويتك و8 آلاف ليرة كشفية واستنا دورك). العيادة كانت تعجّ بالمرضى من مختلف الأعمار، وبعد انتظارٍ لأكثر من ساعة و نصف دخلت إلى الطبيب (تفضّل عالكرسي) جلست، (باختصار عمو في بعيونك مي بيضا بدها عملية، وبنصحك ما تتأخر، شغلتها كتير سهلة، متل شكة الدبوس، هون عندي بالعيادة… بالليزر وما بتاخد وقت). قديه بتكلف دكتور؟ (مو كتير 500 ألف لكل عين) خير إن شاء الله (بنصحك ما تتأخر فيها). خرجتُ من العيادة وأنا غير مستوعبٍ للأرقام، هل يعقل أن أدفع مليون ليرة؟ وعلى حد قول الطبيب: متل شكة الدبوس!». قصَّ أبو عماد ما حصل معه عند الطبيب لبعض زبائنه مرةً أخرى، فأشاروا عليه بالتوجه إلى مشفى العيون الحكومي بابن النفيس. يتابع أبو عماد حديثه: «ذهبت إلى المشفى المذكور منذ الصباح الباكر، وانتظرت دوري، مثل بقية الناس، لساعاتٍ في قسم العيادات الخارجية حتى دخلتُ إلى الطبيب، فقال لي نفس كلام الطبيب الذي ذهبت إلى عيادته، وأني بحاجة إلى عمليةٍ مستعجلة، وطلب مني الذهاب إلى قسم الاستقبال لاستكمال أوراقي من أجل العملية. بعد أن أخذت الموظفة كل المعلومات اللازمة، قالت لي إن موعد العملية بعد ثلاثة أشهر وفقاً دوري، وهو أقرب موعد، ثم همست في أذني: (إذا بتعرف شي حدى واصل يحكيلك مع مدير المشفى يقرب لك دورك، يعني ممكن تعمل العملية بعد أسبوع )، فأجبتُها؛ لا والله يا بنتي ما بعرف حدا».
بات معظم الناس اليوم يكتمون ألمهم خشية الذهاب إلى الطبيب، لأنهم يعرفون مسبقاً أنْ لا قدرة لهم على تَحمُّل الأعباء المادية المترتبة على هذه الزيارة، ولكن عندما يصل الألم إلى أبنائهم، فإن الزيارة تصبح مُلحّةً وضرورية. هذا ما حدَّثنا به أحمد الراشد (اسم مستعار)، وهو موظفٌ حكوميٌّ يتقاضى راتباً شهرياً يبلغ 48 ألف ليرة ولديه ثلاثة أولاد أحدهم في الجامعة، يقول: «منذ سنوات، وبعد تسريحي من الخدمة الاحتياطية وعودتي إلى وظيفتي، أعاني من آلامٍ في الظهر، لكني لم أفكر في زيارة الطبيب. منذ أيام اشتكت ابنتي، وهي شابة صغيرة، لأمها من بعض المشاكل الصحية النسائية، فذهبنا إلى طبيب نسائية. في غرفة الانتظار جلست سيدةٌ حامل في الأشهر الأخيرة من حملها، سألناها عن قيمة المعاينة، فقالت 10 آلاف ليرة، وأنا أدفعها شهرياً ومنذ الشهر الأول لحملي. خرجنا من عند الطبيب بعد المعاينة التي استغرقت 15 دقيقة، وتوجهنا إلى المخبر القريب لإجراء التحاليل التي طلبها الطبيب، وهناك كانت الصدمة أكبر، ذلك أن تكلفة التحاليل كانت 30 ألف ليرة، وهو ما يعني في مجموعه 40 ألف ليرة بين معاينة الطبيب وكلفة التحاليل المخبرية، وهذا يساوي راتبي الشهري تقريباً».
بدورنا، سألنا أحمد الراشد عن بطاقة التأمين الصحي التي بحوزته باعتباره موظفاً، فأجابنا: «أولاً، البطاقة شخصية يستفيد منها حامل البطاقة دون باقي أفراد الأسرة. ثانياً، معظم الأطباء ما عادوا يتعاملون مع التأمين الصحي، وذلك لأنه يلزمهم بتعرفةٍ معينة، وهم لا يلتزمون بها، لذا فإنّ معظم الأطباء قد فضّوا شراكاتهم مع شركات التأمين».
بات الناس يتحدثون عن الفوضى في تعرفة المعاينات الطبية، وأن هناك أطباء في المنطقة نفسها وبالخبرة والكفاءة ذاتهما، لكنَّ كلَّ واحدٍ منهم يتقاضى تعرفةً مختلفةً عن الآخر، وذلك لعدم وجود رقابة فعلية على عملهم. ومن خلال جولةٍ قصيرةٍ قمنا بها على بعض العيادات في دمشق، تبيَّنَ لنا أن أقل معاينة لطبيب في الأحياء الشعبية تبدأ من 3 آلاف ليرة، لتصل في المناطق الثرية إلى 25 ألف ليرة.
يشتكي أبو سعيد، الموظف في شركةٍ خاصة، من قلة كفاءة بعض الأطباء الذين تابعوا علاج ابنه وزوجته، يقول: «منذ أن ولد ابني سعيد وهو يعاني من مرضٍ عجز الأطباء عن تشخيصه. لم أَدَعْ عيادة طبيب أطفال أو مشفىً حكومياً أو خاصاً إلا زُرتُه، وكل طبيبٍ كان يشخّص المرض بطريقةٍ مختلفة، حتى أن أحدهم نصحني باستئصال اللوزتين ظناً أنها السبب وراء تدهور صحة ولدي. فعلتُ ذلك، ولكن دون نتيجة. في كل مرة كنت أدفع الكثير من الأموال لقاء معايناتٍ وإقاماتٍ في المشافي وشراء أدوية. بعد ذلك مرضت زوجتي، لنكتشف أنها مصابة بالتهاب الكبد الفيروسي، ولأنّ أعراضه تأخرت في الظهور عليها، فقد تأخرنا لنتبين أنها نقلت الفيروس إلى جنينها خلال مرحلة الحمل. بحثنا كثيراً عن السبب وراء إصابتها بهذا الفيروس الذي ينتقل عبر الدم، ومن خلال مراجعة الأطباء لسجلّها المرضي قالوا إنها ربما اُصيبت به عندما كانت تتردد على عيادةٍ لطب الأسنان نتيجة عدم العناية بنظافة المعدات».
جراحات التجميل
آفةٌ أخرى ضربت القطاع الطبي الذي يعاني من نقص الأطباء، وهي تَحوُّلُ كثيرين منهم إلى عمليات التجميل التي تدرُّ أموالاً طائلةً على ممتهنيها. جريدة الأخبار اللبنانية نشرت تقريراً مطولاً حول هذا الموضوع في سوريا في الشهر الثالث من عام 2019، تحت عنوان «150 طبيباً فقط في كل سوريا مؤهّلون لممارسة المهنة، ‘طالبو الجمال’ في الشام: رحلة محفوفة بالخطر». ومن أبرز ما جاء في هذا التقرير أن تكلفة العملية الواحدة في ذلك الوقت تصل إلى 300 دولار أميركي. وجاء فيه أيضاً، نقلاً عن رئيس الرابطة السورية للجراحة التجميلية والترميمية والحروق، وائل برازي، أنّ عدد الأطباء المُسجّلين في وزارة الصحة السورية كأطباء جراحة تجميلية يبلغ 150 طبيباً في جميع أنحاء البلاد، وهم وحدهم المؤهلون لممارسة المهنة بحسب الأصول. ويقرّ مسؤول الرابطة بأنّ السعي المحموم وراء الربح المادي دفع الكثيرين من الأطباء، من اختصاصاتٍ مختلفة، إلى إجراء دوراتٍ سريعةٍ للعمل في هذا المجال، وهذا الأمر «يتم على حساب الجودة وصحة المريض». وشدّد رئيس الرابطة على أنّه «وحده طبيب الأنف والأذن والحنجرة يحق له إجراء عمل جراحي تجميلي إذا تمرّن تحت يد طبيب تجميل واكتسب خبرةً طويلة، فيما لا يحق لطبيب الأمراض الجلدية أو النسائية، مثلاً، إجراء عمل جراحي تجميلي؛ لأنه ليست لديه معرفة بالمضاعفات التي تحدث بعد العمل الجراحي… لكن، للأسف، ما يحدث هو العكس».
ورغم أن وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي تضجّ يومياً بالكثير من الأخبار عن حالات وفاة أشخاصٍ بعد خضوعهم لعمليات التجميل، إلا أنّ عمليات التجميل لا تتوقف رغم التكاليف الباهظة والأخطاء الطبية، حيث تبلغ أنّ أسعار عمليات شد البطن تبدأ بـ 250 ألف ليرة، لتصل إلى أكثر من مليون ليرة سورية، ويتبعها تفاصيلٌ كثيرةٌ مكلفةٌ جداً. أما عمليات شفط الدهون، فهي تبدأ بسعر مائة ألف وترتفع تبعاً لشهرة الطبيب والمشفى.
مخابر التحاليل الطبية؛ معاناة أخرى
لا تنتهي المعاناة لدى المريض بزيارة الطبيب، بل تمتد إلى مخابر التحاليل. يقول الأطباء إن التحاليل المخبرية باتت ضروريةً من أجل الإسراع في تحديد المرض بدقة وبدء العلاج، فيما يتناقل الناس فيما بينهم، وخاصة البسطاء وأصحاب الدخل المحدود، روايةً أخرى، وهي أن طلب الأطباء المتكرر للتحاليل المخبرية إنما يدل على عدم كفاءتهم وقدرتهم على تشخيص المرض، لذلك يلجأ الأطباء للتحاليل المخبرية هرباً من الاجتهاد الشخصي. ليس هذا الرأي دقيقاً بالطبع، وإنما ناتجٌ عن التذمر من تكاليف التحاليل المرتفعة، فلا شك أن التحاليل المخبرية هامةٌ وجزءٌ أساسيٌّ في تشخيص الأمراض، إلا أن ضيق الحال وارتفاع أسعار التحليل بشكلٍ يفوق قدرة الناس المادية يدفع بهم للشكوى في كل مرةٍ يضطرون فيها لإجراء التحاليل.
صراعٌ مستمرٌ وتضاربٌ في الآراء بين وزارة الصحة وهيئة مخابر التحاليل الطبية التابعة لها، وعلى مدى سنوات، أدّى إلى اختلافٍ في أسعار وحدات التحليل بينهما. ففي العام 2014 رفعت هيئة المخابر سعر وحدة التحليل المخبرية من 75 ليرة إلى 125 ليرة، وبعدها بعامٍ واحد رفعته إلى 150 ليرة، لكنّ وزارة الصحة رفضت الاعتراف بهذا السعر، وأبقته رسمياً عند 75 ليرة، إلا أن قرار الهيئة كان الأنسب لمخابر التحليل، فاعتمدت تسعيرة الهيئة البالغة 150 ليرة وعملت بموجبها. وفي عام 2016 تنبّهت وزارة الصحة إلى ضرورة رفع سعر الوحدة المخبرية، فأصدرت قراراً رفعت بموجبه السعر من 75 ليرة إلى 125 ليرة، فجاء الرد من الهيئة برفع السعر من 150 ليرة إلى 175 ليرة، ثم إلى 200 ليرة. وفي شهر كانون الأول (ديسمبر) 2019 أصدرت الهيئة قراراً برفع سعر الوحدة إلى 300 ليرة، ثم ما لبثت أن تراجعت عنه بعد أيامٍ قليلة، ليبقى عند 200 ليرة.
هيئة المخابر دافعت عن نفسها وعن قراراتها بالقول: «إن سبب الزيادة هو أنّ 100% من المواد المُستخدمة في التحاليل مستوردةٌ من الخارج (سرنغات، إبر، كواشف، وغيرها)، وتالياً هي تخضع لسعر صرف الدولار من قبل المصرف المركزي، والذي ارتفع من 430 ليرة إلى 700 ليرة، وصولاً اليوم إلى 1250 ليرة». وطالبت الهيئةُ وزارةَ الصحة بأن تُعامِلَ تسعيرة المخابر معاملة الدواء المستورَد، لأن كلفة التحليل مرتبطة تماماً بسعر الكاشف المستورَد، وبالتالي بسعر صرف الدولار مقابل الليرة، وإن عدم مجاراة السعر دفع بعض المخابر الخاصة، وحتى مستشفيات وزارة الصحة، للاعتماد على كواشف رديئة تصل نسبة الخطأ فيها إلى 10%، وأن رفع أجور التحاليل الطبية كان ضرورةً ملحةً بعد معاناةٍ طويلةٍ لأطباء المخابر من جراء انخفاض الأجور وارتفاع أسعار جميع المستلزمات، لا سيما الأجهزة المخبرية، والتي لها عمرٌ محددٌ وبحاجة لصيانة دائمة وبكلفٍ عالية، كما أن هنالك سنوياً أكثر من 40 تحليلاً جديداً تدخل إلى المخابر، وهي بحاجة لأجهزة جديدة تُستورد بالعملة الصعبة، كما ارتفع سعر الكواشف الطبية، والتي جميعها مستوردة.
وأشارت الهيئة إلى أن عدد المخابر العاملة انخفض بشكلٍ كبيرٍ بفعل «الأزمة»، وعددٌ منها أغلق وغادر أصحابها إلى خارج البلاد، ففي دمشق وريفها، على سبيل المثال، كان هناك 400 مخبر، انخفض عددها في العام 2015 إلى النصف، وفي «حال الاستمرار بالأسعار القديمة، فالأمر سيؤدي لمزيدٍ من الإغلاق أو تخلي المخابر عن بعض الأمور المهمة لدقة التحاليل؛ كمعايرة الأجهزة المخبرية بشكلٍ يومي أو استخدام كواشف بنوعيات رديئة تكون فيها نسبة الخطأ أكبر، وهذا أمرٌ غير مقبول على الإطلاق، ولكنّ وزارة الصحة لم تتفهم هذه الأمور، وطالبت بالاستمرار بالأسعار القديمة وتحمّل الأعباء من جانب أطباء المخابر، وهو أمرٌ مرفوضٌ تماماً إذا ما أردنا استمرار العمل في المخابر بالمستوى المطلوب».
رفعُ أسعار التحاليل الطبية من قبل الهيئة دون اعتمادها من وزارة الصحة كان له انعكاسٌ سلبيٌّ على الأشخاص المُؤمَّنين صحياً، فشركات التأمين لا تعترف إلا بتسعيرة وزارة الصحة لدى دفع التعويضات للمخابر أو الأطباء أو الصيدليات. وبحسب هيئة المخابر، فقد لجأت المخابر إلى طلب الفرق في تكلفة التحاليل من المُؤمَّنين في حال رغبتهم بإجراء التحليل، وهو أفضل من رفض القيام بالتحليل والتحجج بأسباب موجبة لذلك.
هذا الصراع بين هيئة المخابر ووزارة الصحة خلق حالةً من الفوضى في عمل المخابر وفي أسعار التحاليل المخبرية منذ العام 2011 وحتى اليوم، كما أثّر بشكلٍ مباشرٍ على الأسر الفقيرة وشريحة الموظفين من ذوي الدخل المحدود، حيث باتت تكلفة تحليل الغدة والفيتامين وفقر الدم، مثلاً، تصل إلى نحو 25 ألف ليرة، أي ما يقارب من نصف راتب الموظف. بالإضافة إلى عدم وجود رقابة على عمل المخابر، ما سمح لها بالتمادي في رفع الأسعار، فبتنا نشاهد سعرين مختلفين في مختبرين مختلفين للتحليل نفسه. وقد استفادت المخابر الخاصة بشكلٍ كبيرٍ من الضعف الحاصل في مخابر القطاع العام، وتحديداً في المشافي الحكومية التي تفتقر إلى الكثير من التحاليل الهامة والضرورية، عدا عن حالة الفوضى والعشوائية في إجراء التحاليل. وكالعادة، فإن حالة الاكتظاظ والانتظار الطويل لساعاتٍ تُضطر كثيراً من الأسر لإجراء التحاليل في المخابر الخاصة.
شهدت أسعار التحاليل الطبية المخبرية ارتفاعاً كبيراً خلال الأشهر القليلة الماضية، وبنسبٍ تراوحت ما بين ثلاثة إلى أربعة أضعاف ما كانت عليه سابقاً، حتى وصل سعر الوحدة المخبرية إلى ما بين 600-700 ليرة حالياً. ونورد لكم هنا بعض الأمثلة عن ارتفاع الأسعار، حيث ارتفع سعر تحليل فيتامين /D/ من 6400 ليرة إلى 22400 ليرة، وارتفع سعر تحليل فيتامين B12 من 4800 ليرة إلى 14400 ليرة، وتحليل الغدة الدرقية من 2800 ليرة إلى 8400 ليرة، وتحليل التعداد العام من 1400 ليرة إلى 4200 ليرة، وتحليل الواسمات الورمية من 4800 ليرة إلى 20 ألف ليرة.
المشافي العامة: الإهمال والخدمات المُتدنية
يبدو أنّ الطبابة المجانية في سوريا لم تعد كذلك، ففي عام 2012 أصدر النظام السوري قراراً حوّل بموجبه جل المشافي، ومن بينها مشفى دمشق_المجتهد الذي يعتبر أكبر مشافي العاصمة، إلى هيئاتٍ مستقلة، ليبقى مشفى عام وحيد مجاني في دمشق، وهو مشفى ابن النفيس الذي ما زال يقدم خدماته مجاناً. وتحوّلُ المشافي إلى هيئاتٍ مستقلة يعني أن هذه المشافي أصبحت تتقاضى أجوراً (يقول النظام إنها لم تزل رمزية) من المواطنين.
يوجد في دمشق أربع عشرة مشفى حكومي، ستٌّ منها تتبع لوزارة الصحة (المجتهد، ابن النفيس، الهلال الأحمر، الزهراوي، العيون، الباسل لجراحة القلب)، وخمسٌ لوزارة التعليم العالي (المواساة، الأسد الجامعي، البيروني، الأطفال، دار التوليد)، بالإضافة إلى اثنين يتبعان لوزارة الدفاع (تشرين، يوسف العظمة 601)، وواحد لوزارة الداخلية (الشرطة). جميع هذه المشافي لم تعد مجانيةً كما في السابق، وإنما تتقاضى أجوراً وفق وضعها القانوني الجديد كهيئاتٍ مُستقلة. فضلاً عن ذلك، تبقى هذه المشافي غير قادرة على استيعاب كافة المرضى المُراجعين، لا سيما أنّ قسماً منها صار مخصصاً لجرحى العمليات القتالية. والمؤكّد أنّ مشفى ابن النفيس، بوصفه المشفى الوحيد المجاني تماماً في دمشق، لن يستطيع لوحده تحمل أعداد المراجعين الكبيرة من الفقراء ومحدودي الدخل الذين لا يمكنهم بذل المال لقاء الحصول على الخدمات الصحية.
عوامل أخرى تتناقض مع الحديث عن مجانية المشافي الحكومية، وهي حاجة المرضى إلى الأدوية والتحاليل المخبرية والصور غير المتوفرة في المشافي الحكومية، ما يضطر المرضى إلى تحصيلها من خارج المشافي لقاء مبالغ مالية مرتفعة، حتى أن بعض المشافي، المجانية وتلك التي تحولت إلى هيئاتٍ مستقلة، تطلب من مرضاها شراء بعض الأدوات والأدوية اللازمة لبعض العمليات الجراحية من خارج المشفى.
بطبيعة الحال، ليس أمراً سهلاً أو في متناول الجميع إجراء عمليةٍ ما في مشفى حكومي، أو حتى الحصول على سريرٍ فيه، فلطالما لجأ البعض إلى الواسطة، ومن أعلى المستويات الحكومية والأمنية والعسكرية، لاستقبالهم في المشافي الحكومية، ولو كان ذلك على حساب مرضى آخرين أكثر اضطراراً وحاجةً منهم. إنْ حالفك الحظ بالدخول إلى المشفى الحكومي، فإنك سترى مشاهداً من تدني مستوى الخدمات المُقدم،وافتقاراً لأبسط مستويات النظافة والتعقيم، وهو ما شاهدناه من خلال زيارةٍ أثناء إعداد هذا التقرير إلى مشفيي المواساة والمجتهد، حيث كان الناس بالعشرات يفترشون أراضي الغرف والممرات والأدراج، ويتناولون الطعام والمشروبات ويدخنون السجائر، حالهم حال العاملين والممرضين وبعض الأطباء في هذه المشافي، إضافة إلى الحاجة للانتظار، وهو ما قد لا تسمح به حالة المريض الصحية في كثير من الأحيان، مروراً بتأجيل العمليات لنقص التجهيزات والكوادر البشرية، فضلاً عن الأعطال المزمنة والمستمرة في بعض الأجهزة منذ أعوام.
تكتمل الحكاية مع نقص الكوادر في بلدٍ يُخرّج سنوياً من جامعاته أكثر من 600 طبيب بحسب وزارة التعليم العالي، لكنّ كثيرين منهم يغادرون البلاد فور تخرجهم، نظراً لظروف العمل السيئة وتدني الأجور، خاصة في المشافي الحكومية، ناهيك عن رحيل نسبةٍ كبيرةٍ من الأطباء خلال سنوات الثورة، ما أدى إلى الاعتماد في معظم المشافي الحكومية على الأطباء المقيمين؛ من طلاب وأطباء جدد، وما قد ينجم عن ذلك من أخطاء في التشخيص والعلاج، خصوصاً في فترتي بعد الظهر والليل.
ذات يوم، وبعد أن صعدتُ في سيارة أجرة، لفت نظري كيسٌ بجانب السائق على المقعد، فدفعني الفضول لسؤاله عن هذا الكيس، فقال: «أعمل سائق تكسي منذ سنوات، وأجلس على هذا المقعد طيلة النهار، ذات يوم شعرت بحبةٍ ظهرت لي عند فتحة الشرج، أهملتها فترة حتى باتت تؤلمني عند الجلوس. زرت أحد الأطباء فقال لي: (شغلتها بسيطة، عملية صغيرة عشر دقايق وبتروح)، وحدد لي موعداً لإجراء العملية في مشفى الأسد الجامعي. دخلتُ إلى غرفة العمليات بينما كانت عائلتي تنتظر في الخارج. خرج الطبيب بعد أربع ساعاتٍ ليُطمئِنَ عائلتي أني بخير، وقد حدثت بعض المشاكل أثناء العملية ولكن تم تجاوزها. أما الذي حدث أثناء العملية فقد اكتشفناه فيما بعد، حيث أخطأ الطبيب باستئصال الحبة وأدى الخطأ إلى تضرر العضلات المسؤولة عن فتحة الشرج، فقام بخياطته وإغلاقه بالكامل، وحوّل مجرى الأمعاء إلى خاصرتي وفتح لي فتحةً في الخاصرة تخرج منها الفضلات إلى هذا الكيس». كان الرجل يتحدث بحرقةٍ وحسرةٍ عما حصل له، وكيف أن هذا الكيس سيرافقه طوال حياته، إضافةً إلى الأموال التي ينفقها شهرياً من أجل هذا الكيس وتوابعه من لصاقات وغيرها يحتفظ بها في سيارته. الرجل اشتكى للمعنيين ما حدث له، ولكن كان الرد يأتي بأنّ «الأطباء بشر، والأخطاء واردة».
في الحقيقة، لا يمكن ذكر جميع حالات الوفاة أو الضرر الدائم نتيجة الأخطاء الطبية، كما لا يمكن التأكد من صحتها جميعها، ولكنّ كثرة الحديث عن الأخطاء الطبية هنا في دمشق، يعكس بوضوحٍ حجمَ انعدام ثقة الناس بالمنشآت الطبية، الخاصة والحكومية منها على حدٍّ سواء.
المشافي الخاصة: الأسعار الفلكية
نتيجة تدني الخدمات وكثرة الأخطاء الطبية وقلّة العناية في المشافي العامة، يتجه قسمٌ من المرضى إلى المشافي الخاصة بحثاً عن عنايةٍ أفضل، ظناً منهم أن العناية، التي بات الناس ينعتونها بالفندقية، والتي تقدمها المشافي الخاصة ستساعد المريض على الشفاء، ويضطر البعض من أجل سداد الفواتير باهظة التكاليف إلى بيع بيوتهم أو أثاثهم أو سياراتهم أو أملاك أخرى.
قَدَّرت وزارة الصحة في حكومة النظام عدد المشافي الخاصة في سورية بنحو 394 مشفى في إحصائيةٍ لعام 2017، تضم نحو 10612 سرير في كل المحافظات السورية. هذه المشافي، وخاصةً مشافي العاصمة دمشق، تتنافس فيما بينها على تقديم «الخدمات الفندقية» وتأمين الراحة النفسية للمريض ومرافقيه، وتتنافس أيضاً في ارتفاع قيمة فواتيرها.
نظرياً، نشرت وزارة الصحة على موقعها عام 2014 قراراً يقضي بتعديل التعرفة الطبية للمشافي الخاصة، حددت فيه أجرة غرف مستشفيات الدرجة الممتازة لكل ليلة بـ 4500 ليرة، وغرف مستشفيات الدرجة الأولى عند 3150 ليرة، وغرف مستشفيات الدرجة الثانية بـ 2700 ليرة. عملياً لا شيء من هذا القرار يُطبّق على أرض الواقع، حيث وصلت كلفة إقامةٍ لليلةٍ واحدة في مشفى دار الشفاء بدمشق إلى 100 ألف ليرة في الغرفة العادية، و350 ألف ليرة في غرفة العناية المشددة.
قمنا بجولةٍ على عددٍ من المشافي الخاصة في دمشق، ورصدنا أسعار بعض العمليات الجراحية مع الإقامة والتحاليل المخبرية، ففي بعض المشافي الخاصة وصلت تكلفة عملية المرارة، وهي من العمليات البسيطة مقارنةً بغيرها، إلى 450 ألف ليرة سورية كقيمةٍ للعملية وحدها، وذلك دون إضافة قيمة إجراء التحاليل أو الصور أو كلفة المنامة لو تطلب الأمر. ووصلت تكلفة العمليات القيصرية إلى حدود المليون ليرة، وعمليات القلب المفتوح إلى 5 ملايين، يتقاضى الطبيب لوحده في بعض العمليات حوالي 3 ملايين ليرة. كما تجاوزت قيمة صورة الطبقي المحوري 50 ألف ليرة، وكل يومٍ في الحاضنة 20 ألف ليرة، وأجرة إقامة أسبوع في مشفى لطفل، بين مراقبة وتحاليل وصور، 600 ألف ليرة. نرفق لكم صوراً لفواتير عجز أصحابها عن دفعها، فاستنجدوا ببعض المتبرعين.
هذا هو حال الأسعار في المشافي الخاصة، وجلُّ الناس ليس بوسعهم تحمّل هذه التكاليف، كما أنّ هذه المشافي ترفض استقبال المرضى إلا بعد دفع سلفةٍ مالية فور الدخول إليها، وذلك بغض النظر عن حالة المريض التي قد تكون إسعافية، علماً أن كثيراً من المرضى يتم إسعافهم إلى أقرب مشفى خاص من منازلهم عند تدهور حالتهم الصحية، وهنا تكون الصدمة التي يتلقاها أهل المريض عند إبلاغهم بالمبالغ الواجب سدادها لقاء تقديم الخدمات الإسعافية وتقرير حالة المريض الصحية قبل إحالته إلى الطبيب المختص.
يلجأ كثيرٌ من أهالي المرضى إلى المشافي الخاصة في حالات المرض الصعبة، والتي تتطلب وجود الكادر الطبي المختص وتوفّر الأجهزة الطبية، إضافةً إلى جهوزية غرفة العمليات والتعقيم والتخدير وغيرها من الأدوات، وكذلك الاستعداد لأي طارئٍ قد يحدث أثناء العمل الجراحي. ورغم كل ذلك فإن الأخطاء الطبية وحالات الوفاة في المشافي الخاصة تحصل على نحوٍ متكرر، حيث تنتشر الأخبار يومياً عن مثل هذه الحالات، ومنها أنّ شخصاً توفّي بعد أن باع ذووه منزلهم من أجل تسديد تكلفة عملية لإزالة ورمٍ في الدماغ، بلغت 5 مليون ليرة. يقول ابن المتوفى في حديثه للجمهورية: «إنّ والده أُصيب المريض بالسحايا، وبقي في المشفى لعدة أيام قبل أن يطلب الأطباء من أهله نقله إلى بيته حيث توفي».
لم تتوقف تجاوزات المشافي الخاصة عند ارتفاع الأسعار والأخطاء الطبية، بل تعدتها حتى وصلت حدّ الغش في الأدوات والمستلزمات، وهو ما حدث في الشهر الثالث من عام 2018، عندما افتُضح أمر ثلاثة مشافي خاصة وربما أكثر في دمشق، حيث أكد مصدرٌ في الضابطة الجمركية لصحيفة تشرين الرسمية «ضبط شبكاتٍ دوائية وقثطرات قلبية منتهية الصلاحية في ثلاثة مشافي خاصة». وقال المصدر إن الشركات الأوروبية المُنتجة «عملت على التخلص منها ببيعها لمشافٍ خاصة في سورية بعشر دولارات لقاء القثطرة الواحدة»، فيما تبيعها المشافي بـ 800 ألف ليرة، أي بأكثر من عشرة أضعاف ثمنها في ذلك الوقت بحسب سعر الصرف. وتكمن الخطورة في ذلك أن المواطن سيدفع مبالغ طائلة لقاء عملياتٍ جراحية سرعان ما يكتشف أنه بحاجة لإعادتها من جديد لعدم استفادة جسده من تلك المواد منتهية الصلاحية، وقد يصل الأمر إلى حدّ تهديد حياته.
ويبقى السؤال: أين وزارة الصحة في حكومة النظام من كل ما سبق؟ يأتي الجواب على لسان المسؤولين بأنّ وزارة الصحة، ووفق القوانين الناظمة، تقوم بمراقبة عمل والتزام هذه المشافي بالتعقيم والنظافة وحالة الأجهزة وقسم العمليات وسجلات المشفى والعناية المشددة وجاهزية المشفى بشكل عام. وتلقي الوزارة باللوم على المواطنين لأنهم لا يشتكون على المشافي، وأنه في حال وجود أي شكوى تقوم الوزارة بمتابعتها والتأكد منها، إلا أن كل ذلك يبقى حبراً على ورق، فالجميع يعلم كيف تسير الأمور وكيف يتصرف أصحاب هذه المشافى مع أيّ مسؤولٍ أو جهةٍ رقابية، فالمال قادرٌ على تكذيب أي شكوى مهما بلغت درجتها.
وجاء انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) مؤخراً ليكشف المستور عن الصحة والطبابة في دمشق وبقية المحافظات، ويكشف عن النقص والإهمال والتسيب والفوضى واللا مسؤولية في عمل وزارة الصحة والمشافي العامة والخاصة ومخابر التحليل والأطباء وكل العاملين في القطاع الصحي. ويكفي أن نشير إلى أن المشافي العامة، ورغم كل ما تعانيه، هي الوحيدة المخولة باستقبال حالات الإصابة بهذه الجائحة، في الوقت الذي امتنعت فيه المشافي الخاصة في العاصمة دمشق عن استقبال جميع الحالات المرضية التي يشتبه بإصابة أصحابها بكورونا، حتى الساخنة منها والإسعافية كالجلطة الدماغية والاحتشاء القلبي، والحالات التي تستدعي تدخلاً جراحياً فورياً، وذلك بعد توجيهٍ، وصفته إذاعة صوت العاصمة المحلية بالسرّي، صادرٍ عن وزارة الصحة، وموجّه للمشافي الخاصة خلال فترة انتشار فيروس كورونا. وعمدت المشافي الخاصة إلى تحويل جميع الحالات الواردة إليها إلى المشافي العامة، بعد تلقيها تعميم وزارة الصحة، ما تسبب بوفاة العديد منها بسبب الانتظار لمدة طويلة وتردي الواقع الطبي فيها. وذكر أحد الأطباء في حديثٍ للجمهورية أن إجراء التحاليل الخاصة بالكشف عن فيروس كورونا محصورٌ بأطباء وزارة الصحة فقط، حيث تُرسِل الوزارة طبيباً مختصاً برفقة كادر طبي إلى المشافي الحكومية عند إبلاغ الوزارة بورود حالةٍ مشكوكٍ بإصابتها، مؤكداً أن الوزارة خصّصت طبيبين فقط لدمشق بالكامل. وأشار إلى أنّ مختصي الوزارة يعملون ضمن دوامٍ إداري من الصباح حتى أولى ساعات الظهيرة، ويمتنعون عن أخذ أي عينةٍ بعد ذلك الوقت، مهما كانت الحالة حرجة، بحجة «انتهاء الدوام».
موقع الجمهورية
————————-
“خاكي”: لون البؤس في سوريا الأسد/ وليد بركسية
“خاكي”: لون البؤس في سوريا الأسد آلاء عامر “للمدن”: الجسد هو حامل الأزياء ومُلكيتنا الوحيدة كبشر منذ الطفولة
طوال عقود ثلاثة، كانت سوريا الأسد تتحول إلى أكبر حشد بشري “عسكري”، ظُهرَ كل يوم، عند خروج التلامذة السوريين من مدارسهم بملابسهم العسكرية الموحدة، بعد تلقيهم ساعات من التعليم المؤدلج الممزوج بالتدريبات العسكرية في الاستراحات بين الحصص الدراسية اليومية. وفيما يبدو هذا التفصيل البسيط صغيراً من جهة، وغير قابل للتصديق من جهة ثانية، فإنه ليس إلا جزءاً من سياسة طبقه النظام السوري منذ سبعينيات القرن الماضي، مع وصول حافظ الأسد للسلطة في انقلاب عسكري، للسيطرة على الأفراد وتجريدهم من حقهم الطبيعي في امتلاك قرارات فردية.
ويرصد برنامج “خاكي” الذي تقدمه الإعلامية السورية آلاء عامر، عبر قناتها في “يوتيوب” هذه المظاهر وغيرها، من أجل الحديث عن الأزياء “بوصفها من أدوات الأدلجة أو القوة الناعمة التي يستخدمها النظام الدكتاتوري بشكل عام”، مع التركيز على سوريا كنموذج تسقط عليه قراءات متعددة لكتب وأبحاث حول “فلسفة الجسد”، مثلما أوضحت في حديث مع “المدن”.
يبدأ البرنامج الذي تعرض حلقاته أسبوعياً، بموسيقى قاتمة، مستمدة من إعلانات التجنيد التي يميزها كل سوري شاهد التلفزيون الرسمي ولو لمرة واحد في حياته، ومع الإضاءة الخفيفة وجو الاستوديو الخانق، يشعر المشاهد فوراً بانتقاله عبر الذاكرة إلى الأيام عندما كان اللباس الرسمي إلزامياً وتستوجب مخالفته عقاباً شديداً، يبدأ بالتوبيخ من طرف أستاذ التربية العسكرية المخيف في المدرسة، وقد ينتهي بالضرب أو عقوبات أخرى كتنظيف الحمامات المدرسية.
وبرشاقة، تقدم عامر البرنامج من استوديو صغير ليس إلا صالة البلياردو في المجمع السكني الذي تقيم فيه بمدينة اسطنبول التركية، سُمح لها باستخدامه مرة واحدة في الأسبوع. ولا يشكل حديثها مجرد تعليق جانبي أو ثرثرة عابرة مثلما هو السائد في برامج “يوتيوب” العربية، بل تقدم جهداً صحافياً وبحثياً حقيقياً، يبدأ من المراجع الكثيرة التي تُضمنها في الحلقة للإشارة إلى مصادر المعلومات التي تتحدث عنها، وصولاً إلى الصور ومقاطع الفيديو التي حصلت على معظمها من قبل سوريين شاركوها مع البرنامج، ما يعطي لمحة عن معنى الحياة في سوريا الأسد، من وجهة نظر شخصية مؤثرة.
وعلقت عامر بأن غالبية الصور والفيديوهات أتت من قبل المشاهدين، “وهي عزيزة جداً على قلبي لأن الجمهور يشاركني ذكرياته وصوراً من الطفولة، ما يعني أنهم يثقون بي ويثقون بالبرنامج”، مضيفة أنه من المهم تقديم هذه المواد لأن البرنامج هو منتج بصري في النهاية، كما أن مشاهدة هذه التفاصيل تجعل عملية تذكرها أسهل من ناحية وضعها في سياق أشمل. وأوضحت: “لا أريد ان يفكر الناس بأن الأزياء هي موضوع سخيف وسطحي يرتبط بالمظاهر فقط، لأنها أعمق من ذلك بكثير”، وفيما يبدو أن البرنامج يتوجه إلى السوريين حصراً، إلا أنه يوصل رسائله للجميع، “لأن له بعداً عميقاً يمس حياة كل الشعوب”.
ويساهم في المشروع، إلى جانب عامر، المخرج جمال داوود، والمصور والمونتير أيهم مليشو، والستايلست إيرهان أكتشاي. ويعمل الفريق بجهود شخصية من دون تمويل أو دعم مادي من أي جهة في الوقت الحالي، لدرجة أن المخرج تطوع للمشاركة من دون مقابل. ورغم هذه الصعوبات التي باتت مألوفة في ميدان الإعلام السوري المعارض تحديداً، فإن الدافع الأساسي لدى عامر لتقديم البرنامج والاستمرار في مشاريع التدوين والإعلام، هو حقيقة “أن هذا الميدان هو مجال عملي فأنا صحافية ولا أعرف القيام بشيء آخر”.
ولا يشكل ذلك مجرد عبارة بسيطة، بل تلخص تلك العبارة حالة آلاف الصحافيين حول العالم ممن يجدون أنفسهم يعيشون أزمة هوية نظراً لواقع الإعلام كصناعة مضطربة ومتراجعة. وعاشت المشاريع الإعلامية المعارضة، التي شهدت ازدهاراً واضحاً في السنوات الأولى للثورة السورية، تلك الأزمة، على صعيد مؤسساتي وفردي في آن معاً، مع تراجع التمويل ما أدى إلى إغلاق عدد من الوسائل الإعلامية البارزة بشكل متزايد منذ العام 2016. ولا تعتقد عامر أن المشاريع الإعلامية المعارضة تختفي تماماً، بل “هنالك الكثير من المشاريع القائمة مثل تلفزيون سوريا وتلفزيون أورينت على سبيل المثال، وسمعت عن إذاعة سورية جديدة ستنطلق قريباً، كما أن هنالك تلفزيوناً جديداً ينطلق قريباً باسم مسك”.
في ضوء ذلك، بدأ البرنامج بتقديم لمحة عن ارتباط الأزياء بالسياسة وتحديداً في البلدان الشمولية، كتمهيد للمشاهد قبل الحديث بالتفصيل عن سوريا الأسد، وللتأكيد على أن استغلال الأنظمة السياسية للأزياء ليس ضرباً من الخيال بل هو واقع متكرر. وركزت الحلقات التالية على حقبة حافظ الأسد ثم التغييرات التي أحدثها وريثه بشار الأسد، على أن تنتقل الحلقات التالية لمناقشة مواضيع آخرى، منها ما حصل مع السوريين بعد الثورة السورية، ممن يعيشون في الداخل السوري ضمن مناطق النظام ومناطق المعارضة أيضاً، لأن المجتمعين باتا مختلفين تماماً، على أن تتطرق حلقات أخرى للسوريين في دول اللجوء.
والحال أن اسم البرنامج يأتي من اللون الخاكي، وهو اللون المستخدم في صناعة الملابس العسكرية، وشكل عقدة نفسية للسوريين ربما لتأثيره في حياتهم في مرحلة عمرية دقيقة، هي المراهقة. وأوضحت عامر أن مرحلة المدرسة الثانوية والإعدادية من حياة المراهق السوري تكون شديدة القسوة بسبب العنف الذي يتعرض له التلامذة من طرف الجهاز الاستخباراتي الذي وظفه النظام في المدارس متمثلاً في مدرب التربية العسكرية، الذي تتلخص مهمته في كونه حارساً على اللباس وبالتالي حارساً على الأيديولوجيا. وذلك بعكس ارتباط الفترة العمرية نفسها لدى بقية الشعوب بالتجارب والمغامرات واكتشاف الأشياء الجديدة واكتشاف الجسد.
يشكل ذلك استرجاعاً لحياة أجيال في المدارس السورية منذ خمسينيات القرن الماضي عندما فرض اللباس العسكري المعروف بـ “لباس الفتوة”، “من أجل القضاء على الميوعة وتبديدها من الوجود لتحل محلها الجرأة والاقدام”، حسبما جاء في النص التشريعي الذي أدخل التربية العسكرية إلى المنهاج المدرسي. علماً أن قسوة النظام، زادت منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، بعد فترة وجيزة من الانقلاب العسكري الذي أوصل الرئيس السابق حافظ الأسد للسلطة، وحتى أيار/مايو العام 2003، في عهد بشار الأسد، الذي شهد إلغاء الملابس العسكرية واستبدالها بلباس “مدني” موحد، وإلغاء مادة التربية العسكرية والمعسكرات العسكرية من المدارس، مع الإبقاء على النظام العسكري عموماً لضبط الطلاب وتنظيمهم، ليس فقط كعقلية عامة للتعامل مع التلاميذ بل أيضاً كأسلوب لإنهاء الاستراحات والدخول إلى الصفوف عبر حركات “النظام المنظم” والإيعازات العسكرية.
وتتضمن القواعد السائدة حينها، الامتناع عن ارتداء كنزة ملونة تحت الملابس العسكرية أو ارتداء معطف ملون، فضلاً عن منع الشعر الطويل للتلامذة الذكور، وضرورة أن تربط كل تلميذة شعرها وألا تفرده وألا تضع الماكياج أو طلاء الأظافر، وصولاً إلى منع الأحذية الرياضية، وغيرها من القوانين الكفيلة بجعل تجربة الاستيقاظ يومياً والتوجه إلى المدرسة أمراً مؤلماً لكل طفل، خصوصاً أن التأخر عن تحية العلم الصباحية والنظام المنضم العسكري يشكل مخالفة تستحق عقوبة، كالضرب أو قص الشعر أو البقاء لساعات في الشمس أو المطر أو تنظيف الحمامات المدرسية.
يشكل البرنامج بواقعيته رداً حقيقياً على كثير من المشاريع المنتشرة في مواقع التواصل، والتي تنقل صورة مشوهة عن الحياة في سوريا الأسد، من زاوية النوستالجيا على الأغلب، وتحديداً في الصفحات الموالية للنظام التي تقدم فكرة “كنا عايشين” بطريقة ناعمة. ولا يتناقض ذلك مع الماضي المظلم نفسه، بل مع الحاضر الذي مازالت فيه ممارسات الأدلجة مستمرة بشكل أكثر عصرية، وهو ما يمكن تلمسه في مقاطع فيديو مسربة من المدارس السورية خلال العامين الأخيرين.
وعلقت عامر بأن الإنسان ينظر دائماً إلى الماضي بحنين وشوق مهما كان ذلك الماضي قاسياً، و”بالنسبة لنا كسوريين في الخارج تبقى تلك الحالة حية لأننا لا نمتلك إمكانية العودة لبلدنا، وتزداد تلك الحالة مع حقيقة أن تلك الحقبة لم تكن مرتبطة بالدم والقتل والتشريد ولم يكن فيها السوريون ممزقين بين لاجئين ونازحين، أي أن السوريين كانوا بشكل أو بآخر يعيشون في بلدهم. ورغم ذلك لا بد من الانتباه لما كان يجري من حولنا في تلك الفترة حتى عند الحديث عنها بحنين، ويجب أيضاً فحص تلك المرحلة وتدقيقها كي يتمكن السوريون من الانتقال نحو مستقبل أفضل”.
وفيما قد يرى البعض أن فكرة مناقشة البعد السياسي للأزياء فقط تضع تأطيراً ضيقاً للبرنامج، بدلاً من أن يكون ذلك مجرد محور واحد فقط فيه، مثل مناقشة كافة الأساليب التي استخدمها النظام السوري لخنق حريات الأفراد، على مستويات أخرى إعلامية وبصرية واقتصادية وغيرها، لا توافق عامر على ذلك “لأن الجسد هو حامل للأزياء وهو الملكية الوحيدة التي نمتلكها كبشر منذ كوننا أطفالاً، وبالتالي لا يشكل الموضوع تأطيراً ضيقاً على الإطلاق”، مضيفة أنه في حال امتداد البرنامج لجزء ثان، من الممكن تناول أبعاد أخرى للسيطرة على الأفراد عبر القوة الناعمة، لكن ذلك يبقى محكوماً بظروف المشروعه المالية.
والحال أن اعتماد النظام السوري على القوة الناعمة لتمرير رسائله وسياساته يعتبر أمراً كلاسيكياً في الأنظمة الدكتاتورية، سواء في الأزياء أو الدراما التلفزيونية أو الخطاب الإعلامي، ويؤثر ذلك بشكل خاص في الحياة اليومية وبناء الذاكرة الجمعية أيضاً، لكن هذه المواضيع تغيب عموماً عن الإعلام السوري لصالح جوانب أكثر حدثية تفرضها طبيعة العمل الإعلامي نفسها. وبحسب عامر، فإن “هنالك الكثير من البرامج والوسائل الإعلامية التي تركز على الجوانب الميدانية والسياسية أما شغفي الخاص فيرتبط بالمواضيع النفسية والاجتماعية، وأعتقد أنه يجب علينا كسوريين أن ندرك كيف كانت تدار حياتنا وكيف كانت تتم أدلجتنا منذ سن مبكرة، كي نستطيع الانتقال إلى مرحلة تالية”.
ولهذا السبب فإن الحلقات التالية لن تكون مرتبطة فقط بمرحلة الأسد الأب، بل أيضاً بحياة السوريين خارج البلاد، خصوصاً أن الاندماج في البلدان الجديدة قد يرتبط أحياناً بالأزياء نفسها ما قد يمس الهوية الفردية والثقافية، إلى حد ما.
ويجب القول أن ما يطرحه البرنامج قد يكون مألوفاً بالنسبة للسوريين لكنه قد يكون صادماً ليس فقط للأجانب بل حتى للعرب في الدول القريبة من سوريا، مثل لبنان. وربما من الجيد تقديم هذه النوعية من الأفكار بلغات أخرى كالانجليزية مثلاً لأن هنالك فجوة تجعل كثيراً من الأجانب لا يصدقون أو لا يعرفون معنى الحياة في ظل نظام شمولي، وتقديم مثل هذه المواد إلى جمهور عالمي قد تساهم ولو بشكل بسيط في تقديم معنى آخر للثورة السورية بعيداً عن سردية الإرهاب/التمرد التي باتت رائجة في الميديا العالمية في السنوات الأخيرة.
وأشارت عامر إلى حماسة أصدقائها الأتراك عندما تحدثت معهم عن فكرة برنامجها، لكونه يطرح زاوية مختلفة بالنسبة لهم عن معنى الحياة في سوريا والتي قادت بشكل أو بآخر للثورة السورية العام 2011. وفيما كانت ردود أفعال الجمهور إيجابية “ما شكل مفاجأة سعيدة بالنسبة إلي”، فإن ذلك يتناقض مع موقف عدد من زملاء عامر من الصحافيين والإعلاميين، الذين كانت ردة فعلهم سلبية ومتشائمة قبل البدء بالبرنامج، بتوقعهم أن الجمهور السوري في “يوتيوب” يريد فقط متابعة مواضيع النميمة والمشاهير أو التعليقات السريعة على الأحداث والشخصيات، أو مواضيع “العلوم الشعبية” التي باتت شائعة مؤخراً.
المدن
———————————–
الانتحار… جائحة السوريين الصامتة/ أيمن مكية
في حي الميدان الشهير حلب، استيقظت والدة دانية (20 عاماً)، لتجد ابنتها معلقة بحبل في سقف غرفتها. فما القصة؟
يوم الخميس 10 شباط/ فبراير الماضي، عند الساعة 10.30 صباحاً، دخلت أمها إلى غرفتها لإيقاظها، ولم تعتقد أنها في هذا اليوم لن تتمكن من إيقاظها إلى الأبد.
تقول والدة دانية، التي لم يفارق صوتها الرعشة والبكاء وهي تتحدث لمعد التحقيق، “لا، لن أنسى هذه اللحظة ما حييت، تحديداً منذ بداية العام، تبدل حال دانية، وأصبحت تميل إلى الإنعزال والبقاء في غرفتها لساعات وغالباً تكون نائمة، إلى أن اكتشفت لجوئها إلى الحبوب المنومة”.
وفق الوالدة “دائماً، كانت تهرب أثناء نقاشنا أنا ووالدها وأخوها الأكبر عن المصروف والسبب ضيق الحال الذي نعيشه، وعدم استطاعتنا تأمين كل ما يلزم لها من ملابس، ومصاريف .. زوجي يعمل في أحد أفران الحي، ومدخوله بالكاد يكفينا، مع عمل ابني في مهنة الحدادة”.
بعد انتحار الشابة، أخبرت إحدى صديقاتها المقربين والدتها أنها كانت تقول لصديقاتها أنها كانت تفكر بالانتحار والتخلص من الفقر وعدم امتلاك مصروف كاف أو شراء ثياب جديدة كباقي الفتيات في الجامعة، لكن صديقاتها اعتقدن انها تمزح.
مصير دانية، لم يختلف عن مصير المدرسة الثلاثينية (ميساء د) التي ضجّت وسائل الإعلام المحلية شمال سوريا، بداية شهر أيلول / سبتمبر الماضي، بحادثة انتحارها.
فقدت السيدة حياتها في أحد مخيمات أطمة في محافظة إدلب، بتنشق الغاز، والسبب خلاف أسري مع زوجها.
ومآسي دانية وميسا ليستا مآسي معزولة، إذ تتردد حكايات انتحار كثيرة في مناطق سورية مختلفة، لكن الحرب والأزمة وضعف المتابعات تجعل من تقصي حقائق وأرقام عن الظاهرة بشكل دقيق أمراً مستحيلاً.
ماذا حصل بعد الثورة؟
بعد عام 2011، وبعد انطلاق الاحتجاجات السورية وما راقبها وأعقبها من قبضة أمنية قاسية وعنيفة، حصلت تغييرات هائلة في التركيبة الاجتماعية السورية تمثلت عبر نزوح وهجرة ولجوء داخل وخارج سوريا، وتحطّم لشبكة العلاقات الاجتماعية وخاصة تلك المرتبطة بشبكات العمل. ترافقت تلك المعطيات مع ارتفاع في معدلات الانتحار، علماً أن سوريا لم تكن في مراتب متقدمة عالمياً في أعداد المنتحرين. ومع صعوبة رصد الظاهرة بشكل دقيق بسبب تعقيدات الوضع السوري، رصد معد التحقيق معطيات في دمشق وادلب.
هناك اعتقاد ان الارقام المعلنة لاتعكس حقيقة وحجم الظاهرة، كما أشار مثلاً مسؤول توثيق حالات الانتحار في دائرة الضبوط العادية في محكمة ريف دمشق (كاتب ضبط جنائي)، لمعد التحقيق، إذ أكد أن الأرقام التي يتم التصريح عنها بأنها حالات انتحار هي أقل بكثير من الموجود. ونسب الانتحار والتخلص من الحياة سجلت ارتفاعاً غير مسبوق، وفق المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا زاهر حجو، في تصريح لصحيفة الوطن في أيلول/ سبتمبر الماضي، تم تسجيل 116 حالة انتحار منذ بداية العام الجاري، بينهم 18 قاصراً. ووفقاً لـ حجو، فإن نسب المنتحرين الذكور تفوق نسب الإناث، حيث بلغ عددهم 86، في حين بلغ عدد الإناث 30، مؤكداً أن محافظة حلب تصدرت المشهد في عدد حالات الانتحار بـ 23 حالة، تلتها محافظتا ريف دمشق واللاذقية؛ إذ سجّلت كل منهما 18 حالة.
على أنّ معظم من يقومون بفعل الانتحار على امتداد سوري، تكون أعمارهم في مرحلة الشباب بين 18 – 35 عاماً، تتوزع أماكن إقامتهم بين شمال غربي البلاد والعاصمة دمشق، ودول الجوار السوري (تركيا ولبنان)، وتنوعت طرق إقدامهم على الانتحار، وفي مقدمتها استخدام الأدوية عبر الجرعات الزائدة، والبعض لجأ إلى قطع شرايين اليد، أو استخدام جرعة زائدة من المخدرات.
حتى نهاية 2010، كانت سوريا تصنف بحسب منظمة الصحة العالمية، بأنها من الدول التي تشهد أقل معدلات الانتحار، مقارنة بغيرها من الدول حيث كانت في المرتبة 172 من أصل 176 دولة على مؤشر الانتحار وفق موقع world population review المتخصص بإحصاء البيانات الديموغرافية.
موت من دون وعي !
على مستوى العالم، يخسر 800 ألف شخص حياتهم بسبب الانتحار سنويا، وفق منظمة الصحة العالمية، ومقابل كل حالة انتحار هناك الكثير من الناس يتعرضون للعنف وسوء المعاملة.و”يعد الانتحار ثالث سبب للوفاة عند الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و19 عاماً”.
الحصول على إحصائيّات دقيقة على مدار السنوات العشر الماضية، لتعداد المنتحرات والمنتحرين في عموم سوريا يعوقه تشتت مراكز السيطرة بين قوى مختلفة، مناطق المعارضة شمال البلاد والنظام والإدارة الذاتية (شمال وشرق سورية)، غير أن بعض التقارير المنشورة تعطي مؤشرات واضحة عن ازدياد حجم الظاهرة.
رصد تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان الصادر في 4 تشرين الثاني / أكتوبر حول “أبرز انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا في تشرين الأول 2020“، ارتفاعاً في معدل حوادث الانتحار في مناطق سيطرة النظام السوري، مرجعاً السبب الرئيس وراء ذلك الى تردي الأوضاع المعيشية. وحالات الإبلاغ عن منتحرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، تبيّن أن حالات انتحار كانت تتمّ من قبل فتيات قاصرات وشابات تتراوح أعمارهن ما بين 15-21 سنة، ومعظمهم قد تزوّجنَ حديثاً.
في الوقت نفسه، يتم الإبلاغ في مناطق مختلفة من البلاد عن إقدام أشخاص على الانتحار، لكن يتم إنقاذهم في اللحظة المناسبة وقبل فوات الأوان، من قبل ذويهم. هذا ما أكده المدير العام للهيئة العامة في مستشفى ابن خلدون للأمراض النفسية والعقلية في حلب، بسام حايك حيث قال انه في عام 2019 “تم إنقاذ 99 حالة انتحار من أصل 100 حالة أسبوعياً، مع وجود أطفال لا تتجاوز أعمارهم 7 سنوات يتحدثون عن الموت بشكل روتيني، ما قد يؤدي إلى الانتحار من دون وعي.”
بدوره، مجلس عدالة المرأة وقوى الأمن الداخلي العامل في المناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية شمال وشرق سوريا، كشف في تقرير له، توثيق 24 حالة انتحار في المنطقة خلال آذار/ مارس، ونيسان/ أبريل، وأيار/ مايو الماضي، وهي الفترة التي أعلن فيها الحظر المنزلي بسبب جائحة كورونا، والذي كان بيئة خصبة للعنف المنزلي، والدفع باتجاه الانتحار، حسب بيان المجلس.
فيما وثقت منظمة سارا لمناهضة العنف ضد المرأة في القامشلي 16 حالة انتحار حتى بداية أيلول/ سبتمبر الماضي، لفتيات تراوحت أعمارهم بين 18 و35 سنة.
ضجّت وسائل الإعلام المحلية، بداية شهر أيلول / سبتمبر الماضي، بحادثة انتحار المدرسة الثلاثينية (ميساء د) في أحد مخيمات أطمة في محافظة إدلب، باستخدام “حبة الغاز”، والسبب خلاف أسري مع زوجها.
تفاصيل الحالة، كما روت من المقربين من المعلمة، تعود إلى مدة طويلة، والسبب معاملة زوجها السيئة، حيث طردها من المنزل ومنعها من رؤية أطفالها.
لتنتحر من خلال تناول “حبوب غاز الفوسفين” قبل ذهابها إلى منزل عائلتها الذي توفيت فيه.
كان لميساء “المحبوبة” من قبل محيطها كما يقول المقربون منها، وجه آخر لحياتها، فهي أسيرة عنف زوجها، وهو ابن عمها في الوقت نفسه، والذي يأست من قدرتها على مواجهة ظلمه لها بطلب السند والدعم من أسرتها.
بحسب احصائيات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، والصادر في آب/ أغسطس الماضي، ارتفعت حالات الانتحار في شمال غربي سوريا منذ بداية العام الحالي بنسبة 38%، ما بين الربعين الأول والثاني من 2020.
هذه النسب المرتفعة في الحالات دقّت ناقوس الخطر عند أكثر من 20 منظمة صحية في مناطق شمال غربي سوريا، حيث عكفت جميعها ومن خلال 157 مركزاً صحياً، على الشروع بتنفيذ برامج دعم نفسي اجتماعي بمشاركة 163 طبيب، بينهم 4 مختصين بالطب النفسي.
انتحار في الملجأ!
فاطمة محمد (اسم مستعار)، (25 عاماً)، هاربة من جحيم الحرب في منطقتها في ريف حماة إلى أحد مخيمات عرسال الواقعة أقصى الشمال الشرقي من محافظة البقاع اللبنانية، أقدمت على 3 محاولات انتحار بداية عبر تناول جرعة زائدة من الأدوية لكن تم إنقاذها، ثم حاولت قطع شرايين اليد، الذي لم يكن كفيلاً بإنهاء حياتها، وأخرها أيضاً عن طريق تناول جرعات زائدة من الأدوية أيضاً.
وفق الطبيب أحمد دعبول (جراحة عام)، لا يسبب قطع شرايين اليد الموت، ولكن نزيف الدم الشديد دون انقطاع يؤدي إلى عدم انضباط ضربات القلب، وبالتالي انهيار الدورة الدموية والسكتة القلبية، ما يؤدي إلى الوفاة.
وبحسب دعبول، إجراء الاسعافات الأولية لمن يقدم على هذا الفعل، يسهم في بقائه على قيد الحياة وهذا أنقذ فاطمة.
فاطمة التي عاشت تقلبات هائلة في مسار حياتها بسبب الحرب ولاحقاً بسبب ضغوط اجتماعية فضلت عدم الخوض فيها تمكنت حالياً من استعادة بعضاً من استقرارها النفسي كما تقول، “لم يكن يسأل أحد في المستشفى عما يحصل معي، وكل ما في الأمر أنني خضعت لعلاج نفسي، والذي كان كفيلاً بإعادة التوازن لحياتي مرة أخرى”.
وبحسب الاختصاصي النفسي، صلاح الدين لكه، فإن أقوى مؤشر على التعرض لخطر الانتحار في المستقبل، هو محاولة انتحار سابقة واحدة أو أكثر.
لبنان يستضيف بحسب الأمم المتحدة حوالي مليون لاجئ سوري، نصفهم من النساء. وبحسب دراسة لصندوق الأمم المتحدة للسكان بعنوان “تركيز على الشباب المتأثر بالأزمة السورية في لبنان في السياق الإنساني“، فكّر 41 في المئة من اللاجئين السوريّين إلى لبنان في الانتحار، وذلك من خلال دراسة أجرتها في 2013، مرجعة السبب إلى الحالة النفسيّة السيئة للاجئين، الناتجة عن عدم الشعور بالأمان.
انتحار الشباب!
تقول نائب رئيس الأبحاث بالمؤسسة الأميركية لمكافحة الانتحار هاروكا في فريدمان في تصريح نقله موقع BBC باللغة العربية في 21 آذار /مارس 2019، إنّ مسألة التفاوت بين الجنسين في معدلات الانتحار لا تزال تشغل اهتمام الباحثين، إذ يسجّل الرجال النصيب الأكبر من حالات الانتحار، رغم أنّ مرض الاكتئاب أكثر شيوعاً بين النساء.
وبحسب فريدمان، “اللافت أن النساء أكثر ميلاً للتفكير في الانتحار، ومحاولات الانتحار بينهن أعلى منها بين الرجال بمرة وربع تقريباً، وربما يرجع هذا إلى أن الرجال يستخدمون وسائل انتحار أكثر فتكا قد تزيد احتمالات موتهم قبل وصول المنقذين.
فؤاد السيد، (40 عاما) اسم مستعار، سوري يعيش في دمشق طوال السنوات الماضية بكل تقلباتها ومخاطرها، وهذه الضغوط دفعته إلى إدمان المخدرات منذ 10 أشهر. يقول الشاب لمعد التحقيق، “حاولت التوقف عن الموضوع لكن لم أستطع، وفي كل مرة كنت أعود مجدداً للتعاطي”. يتابع “عندما ضاقت بي السبل لإيقاف الأمر، قررت إنهاء حياتي باستخدام المخدرات عن طريق جرعة زائد، والقرار حين اتخذته لم أكن تحت تأثير أي شيء، وكل ذلك سببه اليأس”.
يقول فؤاد، “الجرعة لم تكن كفيلة بإنهاء حياتي، والسبب هو دخول أختي إلى غرفتي وكنت غائباً عن الوعي، ليتم نقلي إلى العناية المشددة التي بقيت فيها مدة شهر كامل، واستطعت بفضل الرشوة إنهاء الموضوع دون ضبط شرطة، وبعد خروجي من المستشفى أصبح استخدامي للهاتف للضرورة كون من أدخلني في هذا الأمر يحاولون إلى الآن الاتصال بي”.
في آذار/ مارس 2018 نقل عن قاضي محكمة الجنايات ماجد الأيوبي لـ الوطن قوله أن نسبة بلوغ تعاطي المخدرات بين الشباب وصلت إلى 60% من الدعاوى المنظورة أمام القضاء.
التقى معد التحقيق بالمسؤول عن توثيق حالات الانتحار في دائرة الضبوط العادية في محكمة ريف دمشق (كاتب ضبط جنائي)، والذي اشترط عدم الكشف عن اسمه. يقول لقد تغيرت أسباب الاقدام على الانتحار بحسب ما يدون في السجلات لديه خصوصاً بعد عام 2013، فقبل هذا العام كان الانتحار في الغالب يعزى لأسباب اجتماعية لكن بعد الثورة والحرب باتت ظاهرة الانتحار مقترنة بالاكتئاب والفقر والوضع الأمني والسياسي والاقتصادي السيء.
وعن إحدى الحالات، يقول، “في العام 2015 وعند حصار الغوطة الشرقية، تم توثيق انتحار رب أسرة ولديه 3 أطفال يعمل في مجال الخياطة، ولم يكن المنتحر مسلحاً، وبسبب الخوف بقي في الغوطة”، مضيفاً أنه عند خروج العائلة في 2018 تحدثوا عن أسباب انتحاره بالقول:”عندما اشتد الحصار والجوع والفقر وعدم الحصول على عمل، والخوف من الخروج إلى مناطق سيطرة الحكومة، والحصار بين دائرة الخوف والجبن، قرر الانتحار عن طريق حزام الخصر الناسف ضمن منزله”.
يسود الشارع السوري حديث عن زيادة عدد حالات الانتحار ، وأسباب هذه الزيادة، وفق ما يراه المختص بالشأن الاجتماعي، صفوان موشلي.
سبب ارتفاع الحالات هو أن هناك حالات من عدم التأقلم الحاد التي ترفع نسب الانتحار، حيث ارتفعت من (0.6 بالمئة ألف) قبل 2011 إلى (3.08 بالمئة ألف) حسب الاحصائيات التي رصدت حالات الانتحار من منتصف 2019 وحتى حزيران/ يونيو 2020 في مناطق سيطرة النظام بزيادة تصل إلى خمس أضعاف مما كانت عليه قبل 2011.
أما في مناطق شمالي غربي وشمال وشرقي سوريا الخاضعة لسيطرة القوات الكردية والمعارضة السورية، لم تتجاوز النسبة معدل (1.4 بالمئة ألف) وذلك استنادا الى احصائيات غير رسمية تم جمعها من دراسات غير منشورة، لكن الرقم قد يكون أكبر من ذلك، إذ لا تعكس هذه النسبة المتدنية ظروف العوز الشديد وتهالك الخدمات في المخيمات وما تفرزه من فقدان للأمل وشعوراً عميقا بانسداد الأفق وانعدام الجدوى.
أما للسوريين في دول اللجوء، النسبة تقل رغم الظروف السيئة إذ لاتتجاوز الأعداد المطلقة للمنتحرين في كل من لبنان والأردن الخمس عشرة خلال 2020، وفي تركيا حيث عدد اللاجئين الرسميين يقارب 3.6 مليون، إلا أن عدد حالات الانتحار أقل من عشر حالات.
هناك فرق توصيفي بين الانتحار وبين الأفكار الانتحارية، على ما يوضح الاختصاصي النفسي صلاح الدين لكه، المقيم في غازي عنتاب جنوب تركيا.
فالأول هو القتل العمد للنفس، سواء كان متعمّداً أم نتيجة اندفاع، ويستخدم تعبير محاولة الانتحار، يعني أي سلوك انتحاري غير قاتل، أو لم يؤدي إلى الموت.
وحول تنامي هذه الظاهرة في المجتمع السوري يقول لكه، “في مسح عن الانتحار نفذ عام 2019 من قبل مجموعة عمل الصحة النفسية التقنية في شمال غربي سورية، التابعة لمنظمة الصحة العالمية، سجل 47 حالة انتحار، و 751 محاولة انتحار”. فيما أورد تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية تقديرات الانتحار في 2016 ، أن عدد حالات الموت نتيجة الانتحار في سوريا هو 357.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، هناك ضعف في إتاحة البيانات الخاصة بالانتحار والإقدام عليه ونوعية هذه البيانات.
وهذا ينعكس على الأرقام حيث تكون عادة أقل من الواقع ، ويساهم العاملون في القطاع الصحي في إظهار أو إخفاء الأرقام المتعلقة بالانتحار، من خلال تسجيل الوفيات الناجمة عن الانتحار على أنها حوادث، ويعود ذلك إلى الوصمة المجتمعية المتعلقة بالانتحار وسعيهم لعدم تعريض سمعة المتوفى وذويه لإساءة ووصمة مجتمعية ،كما يعبر العاملون الصحيون.
مع استمرار تدهور الأوضاع في سوريا وغياب أفق واضح لحلول أمنية واجتماعية واقتصادية، تبدو ظاهرة الانتحار حاضرة وتثير القلق رغم وجود محاولات من بعض منظمات المجتمع الأهلي والمدني، للاستجابة للاحتياجات الصحية ومنها النفسية، لكن لا تزال الفجوة كبيرة، من حيث إعداد الكوادر الصحية النفسية المتخصصة لتقديم الخدمات، إضافة إلى الحاجة الكبيرة إلى تحسين وتضافر الجهود المجتمعية المؤسساتية لتقليل وصمة العار المرتبطة بالانتحار.
انتهت حياة ميساء كما العشرات من أقرانها، فيما تنتظر فاطمة الخروج من خيمتها في لبنان سعياً نحو حياة أفضل توقفُ تفكيرها في هذه الحالة، وكلها تفاؤل بتحسن وضعها قريباً.
أنجز هذا التحقيق بدعم من الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج، إشراف الزميل محمد بسيكي.
درج
—————————
الرقة في ثلاث سنوات/ حسن القصاب
في شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، مرّت الذكرى السنوية الثالثة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية على مدينة الرقة، والتي كانت وقتذاك عاصمة تنظيم داعش، ومن أهم مراكز ثقله. وبعد أن سيطرت هذه القوات على مدينة الرقة، بدأت تبسط سلطتها على مدن وبلدات ريف دير الزور في منطقة الجزيرة، حتى شهد يوم الثالث والعشرين من آذار (مارس) 2018 سيطرة هذه القوات على قرية الباغوز (100 كم شرق دير الزور)، آخر معاقل التنظيم المأهولة بالسكان في سوريا.
وقد تزامنت هذه الانتصارات شرق الفرات مع خسارات وهزائم على الجانب الغربي منه، فمع ارتفاع أسهم هذه القوات شرق الفرات إثرَ هزيمتها لتنظيم داعش، كان نفوذها غرب الفرات قد بدأ بالانحسار بعد سيطرة القوات التركية وفصائل سورية تابعة لها على منطقة عفرين في الثامن عشر من آذار (مارس) 2018، والتي كانت حينها من الركائز الأساسية لحزب الاتحاد الديمقراطي وأجنحته العسكرية، وما رافق هذه السيطرة من انتهاكات جسيمة تسببت بتهجير أعداد كبيرة من أبناء عفرين. هذا وقد بقيت نقاط السيطرة العسكرية هذه ثابتةً حتى التاسع من تشرين الأول (أكتوبر) 2019، وقتها شنت فصائل المعارضة السورية وبدعم من سلاح الجو التركي هجوماً برياً على ناحيتي تل أبيض ورأس العين، انتهى بسيطرة الفصائل على هاتين الناحيتين وما بينهما من أراضٍ وقرى، وانسحاب قوات سوريا الديمقراطية منهما باتجاه الجنوب.
في السنوات الثلاث التي مضت على سيطرة هذه القوات على مدينة الرقة، مرّت المحافظة بظروفٍ معقدة، وحدثت تغيرات عدة في بُناها؛ سياسياً وعسكرياً وخدمياً. وللوقوف على واقع الحال في الرقة اليوم، تواصلت الجمهورية مع العديد من الناشطين المهتمين بالشأن العام، وأخذت آراءهم بهدف تقديم إحاطة كاملة بالوضع هناك.
ضمّت قوات سوريا الديمقراطية في بداية تأسيسها العديد من الألوية والكتائب المُشكلة من أبناء الرقة، ممّن خاضوا المعارك ضد تنظيم داعش في كانون الثاني (يناير) 2014، ورفضوا الاستسلام لتنظيم الدولة، ليكملوا ما بدأوه في مناطق أخرى مثل صرين وعين العرب (كوباني) في ريف حلب الشمالي الشرقي. ومن أشهر هذه الألوية والكتائب آنذاك: لواء ثوار الرقة ولواء العشائر (إحدى كتائب أحرار الطبقة سابقاً)، والتي شاركت في معركة السيطرة على مدينة الرقة عام 2017، وقضى العديد من منتسبيها على أيدي التنظيم. وبعد إتمام قوات سوريا الديمقراطية سيطرتها على مدينة الرقة، بدأت مطامع قيادة هذه القوات لاحتكار التمثيل والقرار العسكري في المنطقة تظهر بوضوح، كما برز بشكلٍ واضحٍ تهميش هذه القوات للقادة العسكريين العرب من أبناء الرقة، وإبعادهم عن دوائر صنع القرار، والاكتفاء بوجودهم صوريّاً كتشكيلات عسكرية عربية ضمن تحالف قوات سوريا الديمقراطية، بما يساعدهم على تسويق أنفسهم محليّاً ودوليّاً بوصفهم تحالفاً عسكرياً متعدد الأعراق والأديان.
أثارت هذه التصرفات حفيظة العديد من القادة العسكريين في الرقة، وكان في طليعتهم أحمد العلوش المُلقَب أبو عيسى، قائد لواء ثوار الرقة، الذي اعتبر هذه التصرفات بمثابة إقصاء صريح وواضح للمكون العربي الموجود ضمن هذه القوات. على إثر ذلك، حصلت مناوشات عسكريّة بين لواء ثوار الرقة ووحدات من قوات سوريا الديمقراطية في أحياء رميلة والصناعة شرقي الرقة، ساندتها وقفات احتجاجية للأهالي طالبت بتحقيق المساواة بين المكونات وعدم الإقصاء والانفراد بالقرارات. استمرّت حالة التوتر هذه قرابة الشهر، لتُحكِم بعد ذلك قوات سوريا الديمقراطية حصارها على مقرات لواء ثوّار الرقة في الرابع والعشرين من حزيران (يونيو) 2018، ولتقتحم بعد يومين من ذلك مقرات اللواء وتقتاد من كانوا فيها إلى السجون. منذ ذلك الحين، لا يزال «أبو عيسى» تحت الإقامة الجبرية، ولا يزال العشرات من عناصر اللواء في معتقلات قوات سوريا الديمقراطية.
حادثة لواء ثوّار الرقة لم تكن الأولى ولا الأخيرة في المنطقة، إذ سبقتها خلافات بين قوات سوريا الديمقراطية وقوات النخبة السوريّة قُبيل السيطرة على مدينة الرقة، انتهت بانسحاب الأخيرة من معركة الرقة. كما شهد يوم السابع عشر من أيلول (سبتمبر) الماضي اعتقال محمد حسن الجاسم المُلقب أبو ليلى، والذي يشغل منصب الرئيس المشترك للجنة الدفاع في مجلس دير الزور المدني، وذلك بسبب مطالباته المتكررة بإنهاء حالة التسلط والتفرد بالقرارات من قبل كوادر حزب العمال الكردستاني، ما يشير إلى وجود سلوك ممنهج لدى هذه الكوادر بحق أبناء المنطقة الساعين لأن يكونوا فاعلين وأصحاب سلطة في مجتمعاتهم. ومن خلال هذه الحوادث وغيرها، نستطيع القول إن قوات سوريا الديمقراطية قضت على أي تواجد عسكري محليّ لأبناء المنطقة ضمن صفوفها وتفرّدت بإدارة المنطقة عسكريّاً.
«لم يكن لقوات سوريا الديمقراطية من اسمها نصيب، فما نراه من سلوكٍ منها لا يتوافق أبداً مع تسميتها، فكيف لها أن تكون قوات وهي ما زالت فصائل متعددة مبنية على مناطقية وأيديولوجية فكرية؟ وكيف يمكن أن تكون سوريّة وصُنّاع قرارها أتراك أو إيرانيون؟ وكيف لنا أن نقتنع أن سلوكها ديمقراطي وهي تلاحق الناشطين وتكتُم الحريات وتتسلط على المجتمع»؛ هذا ما جاء على لسان أحد العاملين بالشأن العام في الرقة، فضّلَ عدم ذكر اسمه ضماناً لسلامته، وهو يصف سلوك هذه القوات بالقمعي والمتسلّط تجاه من يخالفها في وجهات النظر، كما يشير إلى وجود أجندات ومرجعيات خارجية تتحكم بهذه القوات وتهيمن على مركزية قرارها، ما يعني فشل أي مشروع تقوده هذه القوات على المستوى الوطني.
تُعَدُّ عودة النظام السوري إلى أجزاء محافظة الرقة، الواقعة حالياً تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، من أكبر المعوقات التي تحول دون مشاركة السكّان بالحياة السياسية والشأن العام. ورغم كل التطمينات الواضحة أو المبطنة التي تصدر عن الإدارة الذاتية بين الفترة والأخرى، والتي فحواها أن عودة النظام السوري إلى المنطقة أمر غير مطروح على أجندتها، وأنّ التواجد العسكري الحالي لقواته هو أمرٌ تنسيقيٌّ دوليٌّ فقط، إلا أنّ هذه المبررات لم تبدد هذا الهاجس الذي ما يزال مبعثَ قلقٍ للكثيرين، لا سيما وأن الإدارة الذاتية عقدت العديد من الحوارات مع النظام السوري والقوات الروسية الداعمة له، أشهرها كان في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 بُعَيد الانسحاب الأميركي المؤقت من شمال شرق الفرات. وقد تلا ذاك الحوار تواجد عسكري للقوات الروسية ضمن مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في الرقة، مثل تل السمن (30 كم شمال الرقة) وشويحان الطريفاوي (45 كم شمال شرق الرقة)، وتواجد لقوات النظام السوري أيضاً في مطار الطبقة العسكري (50 كم غربي الرقة) واللّواء 93 في عين عيسى (50 كم شمال غرب الرقة). كما أن اجتماع القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي مع شخصيات عشائرية من الرقة في الخامس عشر من تموز (يوليو) 2020 حمل رسالةً من القوات الروسية، مفادها عزم هذه القوات إنشاء قاعدة عسكرية روسية في مدينة الرقة، الأمر الذي قوبل بالرفض من معظم المدعوين، وفق ما أفاد به أحد الحضور للجمهورية.
وفي الحادي والثلاثين من آب (أغسطس) الماضي، وقَّعَ مجلس سوريا الديمقراطية وحزب الإرادة الشعبية الذي يرأسه قدري جميل مذكرة تفاهم برعايةٍ من حكومة موسكو، ما يشير إلى تقدم في مستوى التنسيق بين قسد ودمشق، ويزيد من احتمالية القيام باتفاقيات مستقبلية على هذا المستوى أو مستويات أعلى.
«إنّ ما يحصل في الآونة الاخيرة من مباحثات مع النظام السوري والقوات الروسية يبعث الخوف والقلق لدى الأهالي، خصوصاً أنهم مُحيَّدون عن هذه الاتفاقيات التي تتم بشكلٍ سريٍّ دون التشاور معهم»؛ هذا ما قاله أحد سكان مدينة الطبقة غربي الرقة عند سؤاله عن رأيه في المباحثات التي تجريها الإدارة الذاتية مع النظام السوري، إذ يؤكد هذا الشخص الذي فضّلَ عدم ذكر اسمه، وهو يعمل في أحد مؤسسات الإدارة الذاتية، أنّ المفاوضات تتم دون مشاورة أهالي المنطقة، ما يعني عدم إشراكهم في تقرير مصيرهم. كما يُخشى أن تؤدي هذه الاتفاقيات إلى عودة النظام السوري عبرَ مربعات أمنية كما هو الحال في مدينة الحسكة مثلاً، أو من خلال مديريات ودوائر خدمية تتبع له، فقد ارتكب النظام السوري العديد من المجازر بحق سكان المنطقة ما يعني عدم وجود قبولٍ شعبيٍّ له، فضلاً عن وجود العديد من مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية ممن كانوا ضمن فصائل المعارضة السورية وخاضوا معارك ضد النظام السوري، ما يشكل عامل رفض إضافي لهذا النوع من المباحثات.
وعلى المستوى المحلي، فقد أنشأ حزب الاتحاد الديمقراطي العديد من الإدارات المدنية لإدارة شؤون المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، وحظيت هذه الإدارات بدعمٍ دوليٍّ كبيرعلى المستويين السياسي والمالي، وأصبحت عامل جذب للمانحين بوصفها أول هيئاتٍ مدنية تُشكَّل بعد هزيمة تنظيم داعش في المنطقة. وتتألف كل إدارة مدنية من شقين أساسين: هما المجلس التشريعي والمجلس التنفيذي، وتُدار هذه المجالس عبر نظام الرئاسة المشتركة حيث يتولى كل هيئة أو مجلس شخصان؛ رجلٌ وامرأة.
تضم أغلب المجالس تمثيلاً حقيقياً من حيث نسبة المكونات فيها، لكن من المفارقات أنّ ليلى مصطفى، الرئيسة المشتركة لـ مجلس الرقة المدني (التنفيذي)، وهي من المكون الكردي، تتولى منصبها منذ تأسيس مجلس الرقة المدني في الثامن عشر من نيسان (أبريل) 2017 رغم تعاقُب أربع رؤساء مشتركين من المكون العربي حتى الآن، وهم على الترتيب من الأقدم للأحدث: محمود البورسان، حامد المهباش، مشلب الدرويش، محمد نور الحجو. وكذلك هو الحال بالنسبة لخالد بركل، الرئيس المشترك لـ مجلس الرقة التشريعي، الذي يشغل منصبه منذ العاشر من كانون الثاني (يناير) 2018 رغم تعاقب رئيستين مشتركتين من المكون العربي، هما: نادية الحمادة ورحاب النافع. يعرف الجميع في الرقة أن من يمسك زمام الأمور الإدارية في المدينة هي ليلى مصطفى، دون أي دور محوري يُذكر لأي شخصٍ من المكون العربي أيّاً كان منصبه الوظيفي أو مكانته الاجتماعية، إذ تُحصر مهام العرب في إلقاء البيانات والتواجد صوريّاً ضمن هذه الهيئات والأجسام.
وقد رسمت هذه المجالس سياستها الإدارية وفقاً لرؤية حزب الاتحاد الديمقراطي، إذ باتت كوادر قنديل تتحكم في أدق شؤونها منذ أن تسلّمت زمام المؤسسات الخدميّة وباتت المُشرّع الأساسي للقوانين فيها، ضاربةً بعرض الحائط اللوائح والأنظمة الداخلية لهذه المؤسسات. كما شكلت هذه الكوادر مصدر دخلٍ إضافيٍّ لحزب العمال الكردستاني عبر العديد من الشركات والهيئات؛ أشهرها شركة الشمال للإنشاء والتعمير في الطبقة، التي تقوم بالتنفيذ الفني لأغلب المشاريع التي تخص المجالس، ولا سيما مشاريع الطرق. كما أن هذه الشركة فكرت بالاستدامة وعدم الاعتماد على الأموال المُقدمة من الدول المانحة، فأنشأت مشاريعها الاستثمارية الخاصة؛ كمشروع الطبقة سنتر الواقع ضمن حي المقاسم الغربية في مدينة الطبقة.
نمت حركة المجتمع المدني في هذه المناطق، وتأسّست فيها العديد من المنظمات، والتي أمست فيما بعد محطّ استقطابٍ للخبرات المحليّة والمانحين الدوليين بعدما نفذت العديد من المشاريع النوعيّة خدميّاً واجتماعيّاً، كما باتت هذه المنظمات نِداً ومنافساً حقيقياً لمجالس حزب الاتحاد الديمقراطي؛ منافساً يملك من الخبرات والقاعدة الشعبية ما لا تملكه هذه المجالس. إضافةً إلى ذلك، يحظى هذا المنافس بدعمٍ وتأييدٍ دوليّ عالي المستوى، خاصةً بعد ما أبدى العديد من المانحين ارتياحهم للعمل معه، واعتماده لدى العديد من الجهات الدولية (اللجنة الدستورية – مؤتمر بروكسل) كشريك أساسي لأي عملية انتقال سياسي في سوريا، واعتباره الممثل الحقيقي والوحيد لمنطقة شمال شرق الفرات في هذه المحافل، بعد استبعاد حزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيلاته السياسية منها نتيجة الموقف التركي الحاسم بهذا الخصوص. هنا، أدركت هذه المجالس ومرجعيتها السياسية أنّ هذه المنظمات باتت تشاركها الشرعيّة والتمثيل، فشرعت تُضيّق الخناق عليها، تارةً بعرقلة تراخيصها، وأخرىً بإعاقة أعمالها وفرض القيود والتطفُّل على شؤونها الداخلية، وأخيراً نهجت الاعتقال فزجّت العديد من الناشطين في زنازين قواتها، وأوصلت رسالتها بكل وضوح مهيمنةً بذلك على الوجود المدني الرقي محليّاً ودوليّاً.
تشير التقديرات الحالية للأمم المتحدة أنّ عدد السكان في أجزاء محافظة الرقة الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية يبلغ 584843 نسمة، منهم 131951 نازح، كما يبلغ عدد سكان مدينة الرقة 158823 نسمة، منهم 13557 نازح وفق هذه التقديرات. كما يتبين أيضاً نزوح حوالي 60 ألف نسمة من سكان مدينة الرقة إلى محافظات أخرى أو إلى دول الجوار. ولعل الدمار الذي لحق بمنازل من نزحوا يُعدُّ السبب الأوجه لعدم عودة نسبةٍ كبيرةٍ منهم إلى المدنية، حيث رصدَ تقرير معهد الأمم المتحدة للبحث والتدريب لعام 2019 وجود 12781 منزل مُدَمّر فيها، منها 3326 مُدَمّر كُليّاً، في ظل غياب أي مساعٍ أو نوايا حقيقة لإعادة الإعمار أو تعويض المتضررين حتى الآن.
ولعلّ حال من بقيوا في الرقة، أو عادوا إليها بعد مرارة النزوح، ليس كما هو متوقع ولا يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ ما تحاول عدسات مجلس الرقة المدني أن تروّجه، فالأهالي يعيشون اليوم حالةً دائمةً من الخوف والقلق على أبنائهم لفظاعة ما يجري حولهم من جرائم، فلا يكاد ينقضي شهرٌ واحدٌ دون تسجيل حادثة على الأقل بحق طفل. وتتنوع هذه الحوادث بين القتل أو الخطف بداعي الحصول على المال أو التجنيد عسكريّاً ضمن صفوف قوات سوريا الديمقراطية، وسط صمتٍ تام ولا مبالاة من قبل سلطة الأمر الواقع وأجهزتها الأمنية تجاه ما يجري.
«يرافقني القلق منذ لحظة ذهاب أطفالي إلى المدرسة وحتى عودتهم، كما أني أخشى من نزولهم إلى الحي بغرض اللعب أو شراء حاجةٍ ما من المخزن، فأغلب حوادث الاختطاف تنتهي بدفع الأموال التي لا أملكها، وما أخشاه أكثر هو مصير كمصير الطفل خليل عبد الرزاق»؛ هذا ما أبلغنا إيّاه أحد الآباء في مدينة الرقة باتصالٍ هاتفي، إذ يصف هذا الأب قلقه وخوفه على أبنائه أثناء ذهابهم للمدرسة، ويستشهد بحادثة الطفل خليل عبد الرزاق الذي خُطِف لمدة عشرة أيام، ليعثر عليه ذووه بعد ذلك مقتولاً في أحد المباني المهجورة داخل مدينة الرقة، وكان جهاز الأمن الداخلي في الرقة قد أصدر بياناً توضيحياً حول هذه الحادثة توعد فيه بكشف الجُناة ومحاسبتهم، لكن دون أي نتائج ملموسة، ذلك على الأقل حتى تاريخ كتابة هذا المقال. الأمر نفسه كان قد حصل بخصوص اغتيالات وجرائم متعددة، من بينها اغتيال الشيخ بشير فيصل الهويدي والشيخ عبيد خلف الحسّان خلال العامين الماضيين.
خدميّاً، تغيب شبكة الكهرباء عما يقارب 50 بالمئة من أحياء مدينة الرقة بسبب الاختلاسات التي قامت بها لجنة الطاقة في مجلس الرقة المدني، والتي شكلت ردة فعل سلبية لدى المانحين تجاه دعم هذا القطاع الذي يعد من أكثر القطاعات الخدمية تضرراً في المدينة. كما أن مسلسل معاناة الأهالي لتأمين وقود التدفئة قد بدأ مع دخول موسم الشتاء الحالي، وتَمنُّع مجلس الرقة المدني عن توزيع مادة المازوت لمن لم يسدد الفواتيرالمتبقية بذمته لصالح مديريتي المياه والكهرباء. أما طوابير الانتظار للحصول على الخبز، فقد باتت معلماً بارزاً في هذه المحافظة التي تعد محاصيلها من أهم الغلّات الزراعية في سوريا، ناهيك عن كثرة الجسور المدمرة ريفاً ومدينة، والتي بلغ عددها أحد عشر جسراً أشهرها جسر الرشيد (الجديد) في مدينة الرقة، وجسر اليمامة (40 كم غربي الرقة)، وجسر سحل الخشب (45 كم غربي الرقة). كما أن تدني مستوى الرعاية الصحية وكثرة الوفيات بسبب الأخطاء الطبية فاقمت من تدهور الوضع، إذ لا تزال أربعة مستوصفات ضمن مدينة الرقة مدمرة بالكامل، أما ما هو مؤهّلٌ من مراكز صحية ومستشفيات فيعاني نقصاً حاداً في التجهيزات والموارد البشرية المؤهلة.
المدارس والبُنى التعليمية ليست بحالٍ أفضل، إذ يخبرنا أحد العاملين في الحقل التربوي، وقد رفض الكشف عن هويته لأسباب أمنية، أنه لا تزال 70 مدرسة مدمرة ضمن الحدود الإدارية لمجلس الرقة المدني، نصفها ضمن مدينة الرقة، فضلاً عن عشر مدارس أخرى أمست دوائر حكومية؛ منها مقرّ مجلس الرقة المدني، أو شُغِلت بالقوات؛ كحال مدرسة أبي ذر الغفاري في مدينة الرقة التي يشغلها لواء الشمال الديمقراطي، وابتدائية قرية لقطة (45 كم شمال الرقة) التي استولى مجلس الرقة العسكري عليها، وشرعَ طلابها يتابعون تعليمهم في أحد منازل القرية. كما أنّ ضعف الخبرات التعليمية والإدارية في المدارس أدت إلى عزوف العديد من الطلاب عنها واللجوء إلى الدروس الخصوصية، التي تثقل كاهل الأهالي في ظل ندرة فرص العمل وما رافقها من ارتفاعاتٍ متتاليةٍ في أسعار السلع.
تشير القرائن والأحداث المذكورة أعلاه إلى غياب أي توجّه لدى سلطة الأمر الواقع في الرقة نحو إشراك السكّان فعلياً في إدارة شؤونهم، وإلى عملها على تسخير كل ما يمكن تسخيره لخدمة حزب الاتحاد الديمقراطي وترسيخ سلطته. كما تشير نتائج المسوح والتقديرات المُقدَّمة إلى أنّ وعود إعادة الإعمار لم تتناسب مع قدر الدمار الحاصل، ولم تلبِّ تطلعات سكان المنطقة وفقاً لتدني الواقع خدميّاً واجتماعيّاً وبقاء العديد من البنى التحتية مهملةً دون أي عمليات صيانة بعد مضي ثلاث سنوات على دحر تنظيم داعش.
موقع الجمهورية
—————————-
هذي دمشق…اليوم، دمشق.. ليست المسكن
كتب زميل سوري “يعيش في دمشق” هذا النص مع سينابس
غدت صورة المدينة التي لطالما رمزت للثقافة الشاميّة الأنيقة مُنقسمة بين عَوز الفقراء والابتذال الصارخ لثراء الحرب.
تستدعي دمشق تصوّرات نمطية متنوعة في كثير من الأحيان بحيث تبدو كأنها خالية من السكان الحقيقيين. يتخيلها من هو خارجها حطام مدينة خالية من أي حياة بفعل الانتشار الكثيف لصور الحرب والدمار حولها، فيما لا يزال البعض يحتفظون بحنينهم لصورتها كمدينة تاريخية بأزقة ضيقة وعرائش ياسمين تتهدّل في بيوت عريقة راقية. ويرى آخرون منها حياة الليل المزدهرة والمطاعم الفارهة الموحية بعودة سوريا إلى الحياة الطبيعية ولو بشكل يصعب تصديقه. غير أنّ معظم السكان، وأنا منهم، لا يلقون بالاً لمثل تلك التوصيفات فهم مشغولون بإيجاد حلول للتعايش مع صدمات تغيّر مدينتهم من يومٍ لآخر.
مرّت دمشق، كإحدى أقدم المدن المأهولة، بنصيب وافر من الاضطرابات عبر القرون. إلا أنّ سكانها اليوم يرَون حجم ووتيرة ما تمر به من تغيّرات أمراً غير مسبوق، ولا رجعة عنه، ما يُرغمنا على تكيّف مستمر، متمسكين بأيّ ثوابت قد تزوّدنا بإحساس من الاستقرار. لهؤلاء منّا الذين لا يزالون مصرّين على كَون دمشق موطنهم، ما الذي يعنيه تعلّقنا بمكان لم نعد قادرين على تمييزه؟
مدينة مهاجرين
لعدة قرون، عُرفت دمشق بقابليتها على استيعاب الوافدين. تشكّلت المدينة منذ أكثر من أربعة آلاف عام كواحة تنحصر بين حدود طبيعية، تقع التلال الفاصلة بين سوريا الحالية ولبنان غربها، وتقبع بادية تمتد إلى العراق شرقها. أحاط بهذه المستعمرة القديمة أشبه ما يكون بدائرة مزدهرة الخضرة تفرّعت عن جبل قاسيون وعُرفت بالغوطة. جغرافية كهذه جعلت من دمشق محوراً للتجارة بين شرق آسيا والمتوسط وأبقتها على مَدى التاريخ راسخة كمركز حضاري بينما يتغيّر حكّامها تباعاً: من سريان ففارسيين ثم يونان، مصريين ورومان وعرب، سلاجقة ومماليك، فعثمانيين وفرنسيين.
لقد تشكّلت المدينة بفِعل موجات الوافدين ورُؤى الحكّام المتوالين عبر مئات السنين. في القرن الثاني عشر، وصلت موجات من الفلسطينيين الفارين من الحروب الصليبية لتستقر شمالي شرق دمشق، فولد حي الصالحية. خلال العهد المملوكي نما جنوب المدينة باستقرار تجار الماشية والحبوب القادمين من حوران، فنشأ حي الميدان. ومع بداية القرن السادس عشر أنشأ العثمانيون مقرّهم الإداري في ساروجة، شمال غرب المدينة القديمة، ليضيفوا مستوى جديداً للتنوع الحضاري القائم. مع الانتداب الفرنسي إثر الحرب العالمية الأولى، تأسس حي الشعلان غرب المدينة، ليؤوي النخبة الكولونيالية الجديدة. وتبعته أبنية طابقية أخرى بشرفات مستديرة خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، لينشأ حيّا المالكي وأبو رمانة الحديثان في الشمال الغربي.
غدا التنقل والهجرة من السّمات الجوهرية لهوية المكان، الأمر الذي يتضح في حالة حي “المهاجرين” حيث استقرّ اللاجئون البلقان، فارّين من الحرب التركية الروسية نهاية القرن التاسع عشر. يرتبط هذا الحي اليوم بدمشقيي الطبقة الوسطى العليا الفخورين بشدّة بحيّهم. بعض أحياء المدينة الأقدم تحمل أسماء أتت من مناطق بعيدة، كساروجة التي سُميت باسم أمير مملوكي، وسوق مدحت باشا الذي يحمل اسم والٍ عثماني، وساحة شمدين المسماة تيمّناً بأحد أعيان الأكراد.
على غِرار ذلك، تحمل عائلات مرموقة ألقاباً غير محلّية: المُفتي الرّاحل لسورية انتمى لعائلة كفتارو ذات الأصول الكردية المعروفة، ويقال إنّ لعائلة العظم العريقة أصولاً تركية. حتى المجموعات ذات الهويات المتمايزة تأثّرت بشدة بعالميّة المدينة، حيث اندمج الأرمن ممن هاجروا إلى المدينة في القرن التاسع عشر في نسيجها المتنوع جغرافياً ولغوياً، أكثر بكثير مما فعل نظراؤهم في حلب وبيروت، بينما ترك أكثر الشركس ممن وفدوا إلى المدينة في الفترة عينها لسان آبائهم رمّةً.
تسارع توسع المدينة المتتالي والعضوي هذا بصورة هائلة في النصف الثاني من القرن العشرين، حيثُ أطلقت الحكومات البعثية المتتالية حملات طموحة لبناء الدولة والإصلاح الزراعي. استولى حكام دمشق الجدد على مساحات من الأراضي الزراعية في الغوطة وأجزاء من مركز المدينة العثماني، ليُفسحوا المجال لبناء مجموعات متزايدة من القواعد العسكرية، الأبنية الإدارية والوحدات السكنية الخاصة بطبقة الموظفين متسارعة النمو. أزيلت أجزاء من عمارة المدينة العثمانية المميزة، لتستبدل بأبنية حكومية على الطراز السوفييتي، وطريق عريض سمّي بشارع الثورة. نشأ في منتصفه “سوق الحرامية” وهو سوق شعبي لبضائع مستعملة يقال بأنها مسروقة بالغالب، وكأنما ليبرز أكثر فأكثر عنف البيئة العمرانية الجديدة المتكونة في قلب المدينة.
تزامنت الإنشاءات الحكومية مع طفرة في البناء العشوائي غير المرخص في الغالب، والذي بدأ بمعظمه وافدون جُدد. شكّلت موجات من اللاجئين الفلسطينيين تجمعات سكنية فقيرة على محيط المدينة، انضمت اليها مجموعات من أهالي الجولان – الذين ما زالوا يعرفون بالنازحين حتى اليوم – المهاجرين إثر الاحتلال الاسرائيلي لأراضيهم، فيما جذب جهاز الدولة المتنامي حشوداً من العاملين ليشغلوا وظائف في القطاع الحكومي، العسكري والمخابراتي، ممن بنوا لأنفسهم منازل في الضواحي العشوائية المتزايدة حول دمشق. تضاعف عدد سكان المدينة ثلاث مرات بين الستينات والثمانينات إثر هذه الهجرات، في عملية دفعت العديد من السكان خارج أرضهم بينما جذبت عديداً آخرين إليها.
أين ذهبت البساتين؟
في التسعينيات وخلال العقد الأول من الألفية الثالثة، سرّعت الخصخصة توسع المدينة العشوائي. بدأ بعض رجال الأعمال باستيراد حافلات النقل الصغيرة، ما أدى لتسهيل التنقل بين قلب المدينة وأطرافها، وساهم بالنتيجة في إحداث طفرة عمرانية في بساتين الغوطة. هجر فقراء المدينة وأبناء طبقتها المتوسطة الدنيا أحياءهم القديمة المركزية إلى تلك الضواحي الجديدة ذات الشقق الأرخص نسبياً. وما تبقى من دمشق كواحة تحوّل تدريجياً إلى متاهة من الهياكل الإسمنتية الباهتة.
كانت النتيجة بيئة عمرانية متنافرة، بعناصر مفككة مكتظة وغير مألوفة لبعضها بعضاً. يتبدى مثال صارخ في حي المزة، وهي منطقة على الحافة الجنوبية الغربية للعاصمة، كانت الدولة قد صادرت أجزاء منها لبناء مبانٍ إدارية ومساكن للموظفين الحكوميين. بينما تحولت بمعظمها إلى منطقة تؤوي الطبقة المتوسطة العليا والبورجوازية البيروقراطية الحديثة، نشأ فيها حي المزة 86 – المسمى تيمّناً بالقاعدة العسكرية في المكان عينه سابقاً – كحي عشوائي يضم بمعظمه ضباط صف من ذوي الرتب المتدنية في الجيش والمخابرات.
تحولت دمشق أكثر فأكثر إلى مدينة مجموعات منقسمة حسب محددات طبقية وطائفية ومناطقية. استمرّت العائلات السنية التي سكن أجدادها المدينة لقرون بالافتخار بأنفسهم كدمشقيين أصيلين. ورغم اختلاط هؤلاء بالنخبة السياسية ذات الأصول الريفية، إلا أنهم استمروا بالنظر إليها بشك، إن لم يكن بازدراء. تشارك سكان الغوطة الأصليون مع مهاجري الأرياف والمدن الأخرى وأبناء مركز المدينة الأكثر فقراً الأطراف مستمرة الاتساع ببنائها المخالِف والمعروفة بالعشوائيات، بينما تناثرت على التلال المحيطة للمدينة تجمّعات سكنية من المهاجرين المُرتبطين بقوّات الجيش والاستخبارات. وقد دَرج بعض الدمشقيين على وصفها امتعاضاً بالمستوطنات.
تفجّر الفشل في إدماج عناصر العاصمة المتنوعة عام 2011 حيث تحوّلت الأحياء الطرفية التي عانت لعهود من التهميش والاستملاك إلى نقاط تظاهر مشتعلة، كما في حالة منطقة برزة. فيما لعبت جارتها عش الورور، والتي تؤوي عائلات من العاملين في الاستخبارات، دوراً معاكساً. انقلبت التظاهرات إلى قتال شوارع ثم إلى قصف أدى إلى رغبة كلّ من الطرفين في إنهاء الآخر.
اقتلاع جماعي
مع تصاعد العنف، أعيد تشكيل المدينة وقاطنيها من خلال عمليات تشريد متعددة ومتراكبة. كان الدمار نصيب الضواحي الثائرة التي تم تجويعها بالحصار ودكّها جراء القصف. أمّا الأبنية الاسمنتية التي حلّت يوماً محل البساتين الخضراء في الغوطة، فتحوّلت إلى رُكام، حتى لم يعد سكان مناطق كداريا على الطرف الجنوبي الغربي للمدينة وجوبر على شرقها قادرين على تمييزها.
في المقابل، أُعيد تشكيل المناطق المستقرة بشكل أقل درامية. بتصاعد التوتر الاجتماعي وتردّي الأحوال الاقتصادية،غادرت الطبقة الوسطى والعليا البلاد بمعظمها، فيما تبعثرت الطبقة الدنيا، بفرار من استطاع جمع الموارد اللازمة للرّحيل منها، هرباً من العنف وخشية التجنيد الإجباري أو الانخراط في الصراع المُميت.
مقابل كلّ من رَحلوا، قدِم كثيرون آخرون، ليتضخم التعداد السكاني بشكل يستنزف مساكن المدينة وبُنيتها التحتية. توافد سكّان المناطق المشتعلة في الغوطة نحو الضواحي الأكثر أمناً نسبياً كجرمانا وصحنايا، جنوب شرقي وغربي المدينة. حتى المناطق شبه المحاصرة والواقعة تحت سيطرة المعارضة كقدسيا وبرزة استقبلت نازحين من مناطق أخرى، ببساطة لأنها كانت عرضة لقصف أقل شدة من غيرها. وفيما تبعثر سكّان دمشق وريفها، توافدت مجموعات أخرى من الأطراف السورية وبخاصة الشمال الشرقي، إذ حوّلت معارك التحالف الأمريكي ضد الدولة الإسلامية الرقة ودير الزور إلى مدينتين غير صالحتين للسكن. ولئن انتمى معظم القادمين إلى الطبقة الدنيا المفقرة أكثر فأكثر، إلا أن المدينة استقبلت رجال أعمال وملاكاً استبدلوا طبقتها البورجوازية بأخرى.
وقعت دمشق في حال من التغيّر المستمر، تعصف بالمغادرين والوافدين الجدد، وما يلي هذا من اختلال اقتصادي. أصبح الاكتظاظ نَمط المدينة الدائم، يلفظ أولئك الذين ما زالوا قادرين على الفرار. استفاد أصحاب العقارات من سوق ضاغطة الطلب، يواجه فيها المهاجرون إلى المدينة أجوراً استغلالية، تصل إلى حدّ تأجير شقة في حي متواضع بدمشق منتصف 2019 بما يُعادل مئتين وخمسين دولاراً شهرياً – ما يزيد عن ثلاث أضعاف راتب الموظف – رغم عدم احتوائها على مطبخ أو نوافذ! يُطالب المؤجّرون بأجر عام أو نصف عام مقدّماً، وبالعملة الصعبة أحياناً، بينما يتكسّب أصحاب المكاتب العقارية من وضع كهذا: يرفعون الأجر ما لم يبدِ المستأجر موافقته الآنية على عرضهم.
نظام منبعث
وبينما يكافح السوريون للعيش رغم الدمار، تزيد السلطة من عدم استقرارهم: تناقض ما تنادي به من إعادة العاصمة إلى الحياة الاعتيادية، فتمنع سكاناً من العودة إلى منازلهم وتقتلع آخرين استطاعوا البقاء في أمكنتهم خلال سنوات الحرب.
غالباً ما يُشير المهجّرون إلى عدم قدرتهم على العودة لبيوتهم، بسبب أعمال النهب الهائلة التي تعرّضت لها على أيدي القوات الموالية. في مناطق كمخيم اليرموك جنوب المدينة، حوّلت السرقات المُفرطة الأبنية التي سلمت من التدمير إلى أخرى غير صالحة للسكن، كمثيلتها التي تعرّضت للقصف. شهدت دمشق أعمدة الدخان المتصاعدة من هذه المنطقة، لأشهر تلت دخول قوات النظام إليها في أيّار 2018. لم تكُن تلك الأدخنة مرتبطة بأيّ معارك، وإنّما بتذويب الأغلفة المطاطية لأسلاك تمديدات الكهرباء النحاسية، كي يُعاد بيعها كخُردة معدنية. بقيت المنطقة بمعظمها محظورة على سكانها الممنوعين من العودة، والمقتنعين أنّ هذا قد ينتهي بعد أن يتم التقاط كل حطام يمكن بيعه منها. كما قامت السلطات بتنفيذ سلسلة أخرى من التدمير بذريعة التطوير. يتبدّى مثال صارخ عن هذا في حي القابون شمال شرقي المدينة، حيث أطلق النظام “خطة تنظيمية” للمنطقة بُعيد إعادة السيطرة عليها في أيّار 2017، تطلّبت تدمير أجزاء واسعة من مبانيها التي صمدت خلال النزاع. وبحجّة أنّ تلك المناطق غير قانونية ومهددة بالسقوط، تم تهديم مبانٍ كبيرة نظامية لم يمسّها القصف وكانت صالحة للسكن. يعتقد السكان ممن انتزعت ممتلكاتهم هناك أنّ الدّافع لهذه الخطة التنظيمية ما هو إلا معاقبتهم على التمرّد ومكافأة محاسيب النظام. وهو انطباع تعزّزه منشورات إعلامية يقف فيها موالون شامتون أمام مبانٍ أزيلت حديثاً.
ويتضّح مثال أكثر إبداعاً لهذا التدمير المتعمّد والإخلاء القسري في مشروع “ماروتا سيتي”، الكتلة المُزمع إنشاؤها جنوب غربي دمشق كأكثر المشاريع العقارية رفاهاً في تاريخ المدينة. بداية العام 2014، بدأت السلطات مشروعها هذا باستملاك وهدم منازل أهالي حي المزة بساتين. يسوّق النظام المشروع على أنه مثال لإعادة الإعمار، رغم أنّ المنطقة لم تُدمّر أصلاً في الحرب، وكانت لا تزال آهلة بسكّانها الأصليين حينما مهدتها أرضاً بلدوزرات محافظة دمشق.
إعادة توزيع مجتمع
لئن صممت بعض الاستملاكات بغرض الربح، فإن غيرها تبدو استدراكاً لهشاشة استراتيجية اكتُشفت خلال الحرب. في العام 2016 على سبيل المثال، أدّى قطع تمديدات نبع عين الفيجة، خلال فترة سيطرة المعارضة عليه، إلى حرمان الأحياء الرئيسية في العاصمة من المياه لأيّام. في العام 2018 وبعد استعادة النظام للمنطقة، قام بمصادرة ممتلكات سكنية وتجارية لإقامة ما يُسمى “حرَم النّبع”، مُقصياً بذلك السكان عن الوصول إلى البلدة وإلى ضفاف النهر، ليمنع بهذه المنطقة العازلة أي تهديدات مستقبلية.
في العام نفسه ولإقامة ما يُدعى “الحزام الأخضر”، أزالت محافظة دمشق عدداً من العقارات السكنية والتجارية – بما في ذلك وبشكل مثير للجدل: مسجداً- على طول طريق المتحلق الجنوبي الذي يفصل أحياء مركزية في المدينة عن الرّيف الملاصق ويصل دمشق بمطارها الدولي وطريق دمشق حلب الحيوي. تجلّت الحساسية الكبيرة للمنطقة إثر تحوّل هذا الطريق السريع إلى خط النار بين قوّات المعارضة والنظام خلال سنوات الحرب.
طبّقت السلطات، بالإضافة إلى الاستيلاء على مناطق بأكملها، أشكالاً مركّزة من المصادرات ضد أعدائها الحقيقيين أو حتى المتوقّعين. حيث تستعمل القانون التي أصدرته لمكافحة الإرهاب بشكل جائر للاستيلاء على أُصول معارضيها وأقربائهم المباشرين. طريقة ليست بجديدة، إذ سبق أن استعمل حافظ الأسد مثيلها لمصادرة ممتلكات مناصري الإخوان المسلمين في الثمانينيات.
يواجه الأفراد الساعون لاستعادة أملاكهم المحجوزة مصيراً قاتماً، إذ غالباً ما تمتنع الجهات العسكرية عن إجابة طلبات فك الاحتباس، دون إمكانية محاسبتها قانونياً. الدخول في متاهات الفساد الإداري هو الطريقة العملية المُتاحة لاسترجاع الممتلكات، لعدم توفّر مسار قانوني متاح لاستعادتها. في مُعظم الأحيان يقوم رجال الأمن أو أولئك المرتبطون بهم بشراء الممتلكات من أصحابها بأقل من قيمتها بكثير، ثم يستعملون علاقاتهم التي تشتمل على سلسلة من الوسطاء والسماسرة لإزالة الحجز عنها، ومن ثم بيعها بالسعر الحقيقي. بالنسبة للمالكين الأصليين، تبدو هذه الطريقة هي الطريقة الوحيدة لاستعادة بعض مما كانوا يملكون.
تعتمد آخر طريقة لتطهير العاصمة من المعارضين على “الموافقات الأمنية”، وهي أُذونات رسمية مطلوبة لعدّة أمور أهمها عمليات الشراء والبيع. تزخر المرويات حولها بقصص عن الامتناع عن تزويد مجموعات محدّدة بهذه الموافقات، بُغية إخراجها من المناطق المركزية في المدينة. يُعتبر أهالي داريا المنطقة الثائرة مثالاً على ذلك، حيث رفضت طلباتهم للاستئجار في مُعظم مناطق دمشق وبشكل مُمنهج، ما يُجبرهم على الاستقرار أبعد فأبعد على أطراف المدينة، إن لم يكُن خارج سوريا كلها. قوبل أهالي دير الزور برفض مقابل لسكنهم في المدينة عام 2018، بما يُعتقد أنه بغية دفعهم للعودة إلى مناطقهم الأصلية المدمّرة.
في مُطاردة
في حين يلعب النظام دوراً منظّماً باجتثاث سكان المدينة، يعمد المواطنون أنفسهم للتأقلم مع صعوبات العيش بشكل يحرم آخرين استقرارهم. يدفع حجم اليأس كثيرين إلى منافسة مريرة على أهم سلعة في سوريا اليوم: المسكن. على سبيل المثال وفي منطقة الغوطة الشرقية المُفرغة من سكانها، عمد كثيرون ممّن فقدوا مساكنهم إلى احتلال أخرى، كثيراً ما تكون لجيرانهم. يُضاف إلى هذا احتلال يقوم به عناصر الجيش والدفاع الوطني. حينما يعود أصحاب المنازل الأصليون لبيوتهم، قد لا يستطيعون انتزاعها من محتلّيها محاسيب السلطة، بينما يمكنهم إخراج الفئات الأضعف اجتماعياً، أولئك الذين سيصبحون مهجّرين مرة أخرى.
أشكال أخرى من التعدّي على الممتلكات تكاد تتحوّل إلى صناعة قائمة بذاتها، حيث يتم تزوير أوراق ملكية البيوت الفارغة من سكانها، وإعادة بيعها لآخرين، وعادة ما يكون المشتري غير واعٍ بالصفقة، ومُفترضاً قيامه بعمل قانوني. تعتمد أعمال كهذه على سلسلة من عناصر الأمن والموظفين الحكوميين وتجار العقارات. تتبع آلاف دعوات الاحتيال العقاري سيناريوهات كهذه، عالقة في نظام قضائي فاسد قلّما يحقّق العدالة لأصحابها. تصل جرأة مزوّري صكوك الملكيات إلى إعادة بيع العقار عينه عدة مرات، رغم أنهم لا يملكونه أصلاً.
يزداد تعقيد هذا السوق العقاري الكافكاوي بفعل أنّ كثيراً من مالكي الصكوك القانونية قد فقدوها، إما بسبب ضياعها خلال الحرب أو لكونها أُجريت في دوائر عقارية تقع تحت سلطة معارضة يعتبرها النظام غير مشروعة. تتطلّب إعادة الحق بالملكية إجراء عقد جديد مع المالك السابق للعقار في محاكم الدولة السورية. في كثير من الحالات، لا يتم الوصول إلى ملاك سابقين، لأنهم قُتلوا أو تركوا البلاد. أما إذا كانوا موجودين، فهم غالباً ما يطمحون لابتزاز الملاك الجُدد مقابل تأكيد بيع ممتلكاتهم التي تمت سابقاً.
لعجلة الابتزاز هذه آثار مُهلكة على السوريين، الآخذين أكثر فأكثر في الدخول في منافسة تكرّس قلّة الثقة والأمان. تجري المعارك القانونية حول التوثيق العقاري بين أفراد العائلة أنفسهم، حيث يؤلب السعي لتأمين ملجأ أقرباء ضد بعضهم بعضاً. وفي الوقت عينه، تتقوّى بفعل هذا كله فئة من السماسرة والمحامين ممن يعتاشون على يأس الآخرين. كثيراً ما تتشكى النساء الباحثات عن منزل للإيجار من تحرّش المالكين وأصحاب المكاتب العقارية الذين يخفضون الأجرة مقابل ممارسة الجنس أحياناً مع بعضهن.
كما يسبّب الاكتظاظ السكاني أشكالاً أخرى من المنافسة. بعكس ما نتج عنه سابقاً من هروب سكان الأحياء المركزية إلى أخرى طرفية ما قبل الحرب، عاد كثيرون خلالها إلى قلب المدينة الأكثر استقراراً. رجع دمشقيون إلى بيوت عائلاتهم القديمة التي كانوا تركوها لمنازل أحدث في الضواحي، محشورين في مساكن ضيقة إلى حد غير صحي في كثير من الأحيان.
لم تؤدِّ الكثافة الحاصلة إلّا إلى ازدياد التوتر بين الأقرباء والجيران، ممن يتشاركون مساحات ضيقة في ظروف صعبة. تزيد من هذا عودة تدريجية لبعض السوريين ممّن كانوا في الخارج. النسبة الأكبر من العائدين هي من دول الخليج، مدفوعين للرّجوع إلى سوريا بتردي ظروف عملهم هناك. يبرّر بعض السوريين عدم رغبتهم بعودة أقربائهم، والسخط عليهم إن فعلوا، بانتزاعهم ملجأهم المؤقت وإعادتهم لحالة البحث السابقة.
أدّى انحشار المجموعات المهاجرة من كل أنحاء البلاد في المدينة إلى تشكيل نسيج اجتماعي متنافر وغير منسجم. يلوم فيه الدمشقيون الطبقات الأكثر ضعفاً من الوافدين على كل مشكلاتهم الاجتماعية، من الخدمات المترهلة إلى الشوارع المتسخة. كما تظهر تراتبية غير معلنة لتفرق بين القادمين الجدد، فعلى سبيل المثال، قد يحترم الدمشقيون المحلّيون المهجّرين من الأرياف المُحيطة أكثر مما يحترمون أولئك القادمين من دير الزور مثلاً، مُلحقين بهم صفات مُسيئة كالتخلف أو قلّة النظافة.
بلاد مع وقف التنفيذ
تُحاصر هذه الضغوط التي لا تكلّ سكان العاصمة وتجعلهم في حال من التقلّب الدائم. اليوم، تبدو المدينة التي استقبلت لقرون مهاجرين توّاقين للاستقرار والحياة محطّةً مؤقتة أكثر من أي وقت مضى. يركّز معظم أهلها على خلاصهم اليومي، متسائلين أي مصيبة ستحدق بهم في اليوم التالي. أما أولئك الذين يفكرون باستقرار حقيقي، فهم غالباً ما يسعون للهروب من البلاد.
تتخذ هذي الحال المؤقتة أشكالاً عدة، كالطرق التي يلجأ إليها الناس لترميم ممتلكاتهم المدمرة. كثيرون يهدفون لتحقيق الحد الأدنى من المعيشة لا أكثر، فيُصلحون غرفة واحدة كل مرة، بدلاً من محاولة إعادة بيوتهم لما كانت عليه. يجهز السكان بيوتهم بأدوات منزلية أو صحيّة من النوع الرديء والرخيص، غالباً ما تكون من أدنى النوعيات المستوردة من الصين أو إيران، أو المشتراة مُستعملة من أسواق تُباع فيها بضائع سُرقت من سوريين آخرين. هذا التقشّف لا يعكس فقط المقدرات المحدودة للسوريين اليوم، بل كذلك تخوفهم من أنّ إظهارهم لأي ارتياح مادي لن يجلب إلا السرقة أو الاستغلال.
حتى أولئك الذين يعمدون إلى شراء الممتلكات، إنما يفعلون ذلك لحسابات آنية فحسب لا تكترث بالمستقبل. السوريون الأقل مقدرة يعتبرون شراء منزلٍ طريقة للنجاة من سوق الإيجار المتوحش لا استثماراً مستقبلياً. في كثير من الأحيان يستدين المهجّرون الفقراء المال من أقربائهم في الخارج، لشراء شقق صغيرة متهالكة، عندما لا يرون أملاً في العودة لمنازلهم ولا يستطيعون تحمل عبء الإيجار الشهري. لكن اعتياد الحلول المؤقتة هذا يترُك علاماته الدائمة على النسيج العمراني للمدينة. يستجيب المالكون للاكتظاظ والطلب الواسع على المسكن بتغيير مواصفات عقاراتهم فيحوّل البعض الشقق ذات الغرف الواسعة والأسقف العالية إلى أُخرى صغيرة الحجم. فيما يقوم أصحاب المحلات بتحويلها إلى شقق صغيرة تتكيف وواقع الحال. لم تكن المساحات المتواضعة مُغرية للسوريين قبلاً لكنها اليوم مرغوبة لرخص ثمنها. للمفارقة أنه وفي الوقت الذي يغرق الاقتصاد السوري في حالة يرثى لها، فإن سوق العقارات لم يكن يوماً بحال أفضل.
مصير مدينة
بالنسبة للدمشقيين، الاستمرار والتكيف مع ما أصبحت عليه المدينة صراع نفسي أيضاً. والأسس التي ترتكز عليها هويتها اضمحلّت حتى غدت عصيّة على التمييز، مُرغمة سكانها ومن هاجروا إليها على التأقلم مع مزيد من التشريد والانعزال.
غدت صورة المدينة التي لطالما رمزت للثقافة الشاميّة الأنيقة مُنقسمة بين عَوز الفقراء والابتذال الصارخ لثراء الحرب. تنتشر المطاعم الفارهة لتختفي معالم أقدم. تترجّل النخبة الجديدة من سيارات دفع رباعي بنوافذ مُعتمة، لتنفق بتعجرف ما يفوق راتب موظف على وجبة واحدة، فيما تتكاثر على الطرف الآخر من الطيف محال الألبسة المُستعملة لتلبي حاجة أغلبيّة تُنتزع منها قدرتها الشرائية كل يوم. الحِرف التقليدية كصناعة الأخشاب تُجاهد للبقاء، فيما تستولي محلّات البضائع الرخيصة المستوردة على ما بقي من أسواق المدينة الهشّة.
تتفاقم المشكلات التي سبقت الحرب، فتتدهور الخدمات العامة أكثر وتكبُر الوصمة تجاه الفقراء وتزداد المدينة اكتظاظاً. تُلفظ الفئات الأضعف إلى أطراف أبعد فأبعد، مساهمة في تضخم عمراني عشوائي تدّعي السلطات مكافحته. فيما تتمظهر مشكلات أخرى لم تكن بنفس الانتشار، كالمخدرات والجريمة والدعارة وعمالة الأطفال.
لقد كثّفت الحرب تدهوراً بيئياً في مدينة لطالما كانت فرادتها وثيقة الصلة بتاريخها كواحة خضراء. تآكلت بساتين الغوطة التي عُرفت دوماً بكونها رئة المدينة، بسبب النهضة العمرانية في القرن العشرين. ومنذ العام 2011، واجهت المساحات الخضراء المتبقيّة اعتداءً ذا شقّين: فيما كانت قوّات النظام والروس تقصفها من الأعلى، كان الجنود الموالون والمسلّحون يسرقون أشجارها لبيعها كحطب تدفئة. هذا قبل أن يبدأ غيرهم من المتنفّعين باقتلاعها للبناء كيفما اتفق. بالإضافة للدلالة الرمزية المروّعة لهذه التحوّلات، فإن لفقدان أجزاء واسعة من الغوطة كبساتين خضراء آثاراً واقعية بعيدة، من التغيّرات الملحوظة في درجة الحرارة ونوعية الهواء، إلى انحسار الإنتاج الزراعي، والتصحّر والجفاف اللذان لربما يشكّلان التهديد الأكبر لمستقبل المدينة.
يُواجه الدمشقيون هذا الاضطراب الهائل بتمسّك أكبر بالماضي. بعضهم يتمسك بهويته بطرق لا شعورية، فيُظهرون ولعاً أكبر بفخرهم المحلّي الذي يقارب الشوفينية أحياناً. يؤكّدون على اختلافهم بإصرار أكبر من قبل: أصدقاء وأقرباء يتنافسون على أكثر الوصفات أصالة ودمشقيّة، وفي أحيان يتحدثون بلهجة محلّية أعمق. فيما تنشر صفحات الفيسبوك صوراً تحنّ إلى دمشق في فترة ما قبل البعث، وتمارس حُفنة من المبادرات نشاطات تداوم فيها على زيارة ما تبقى من بساتين ومعالم أثرية. آخرون يسترجعون تاريخ مدينتهم ويدرسونه، يراقبون تغيّرها ويحكون قصتها. بهذا، يبدون مصمّمين على حفظ الماضي، ليؤسّسوا من خلاله غداً أفضل لمدينتهم.
*- عن موقع: سينابس
——————————–
=======================