أبحاث

في سيرورة الربيع العربي/ ماجد الشيخ


ليس “الربيع العربي” مجرّد موسمٍ ينفضّ سامرُه، وينتهي إلى غير رجعة، مثل فصول الطبيعة، إلا أن طبيعة الربيع الذي نعنيه اليوم في بلادنا؛ أنه سيبقى يُراكم تحولاته إلى أن يحدث التغيير المنشود، وإنْ على مراحل، وعلى دفعاتٍ متتاليةٍ، تماما مثلما كان الربيع الأوروبي الذي بدأ في العام 1848 بداية ثورات شعوب أوروبية عديدة، وقد أخفقت في بلدانٍ عديدة، ولم تحقق أهدافها دفعة واحدة، إلى أن كان موعدُها مع انتصار ثورات شعوبها، الواحد بعد الآخر، في نهاية المطاف. ولكن، طالما استمرت أنظمة الاستبداد في تسلطها وتغولاتها القمعية، سيبقى الربيع يتسيد، بمقاومته وغلياناته الشعبية، حراكات الشارع.

منذ انفجرت ثورة الشعب التونسي، وشعار “الشعب يريد إسقاط النظام” يترجم عميقا إرادة الانتفاضات الشعبية التي انطلقت في ميادين وساحات العواصم والمدن وبعض أريافنا العربية، وإن لم تنجز كامل عملية إسقاط أنظمة استبدادية وبوليسية عديدة، ولا تحقيق شعارات الثورة الأساسية ومطالبها، في ظل تلطي مفاصل عديدة لتلك الأنظمة، واستمرارها احتياطيا في محاولة الحفاظ على سلطة النظام في غياب رأسه أو رؤوسه الأساسية، فما زال هناك في تونس ومصر وليبيا واليمن، وحتى في سورية؛ من يصر على الوقوف حجر عثرة أمام أهداف شعوبها وتطلعاتها، في سعي هذه الشعوب الدؤوب إلى التحرّر والتغيير، ويواجهها بأساليب التخريب وتكتيكاته المحسوبة ليس على النظام وبقاياه، بل وعلى قوى الثورة المضادة من تيارات “إسلام سياسي” معادية للثورة والتغيير، أصلا وفصلا، فهذه وتلك من القوى الرجعية والمتخلفة، إنما هي تسعى إلى الحفاظ على نظام استبدادي ناهب لشعبه، وإن تضعضع؛ سعت إلى استعادة أسسه وقواعده وأشباحه المعادية للتحرّر والتنمية والتغيير، فهي بالأصل لا تنحاز إلى المصالح والتطلعات الشعبية، بقدر ما بقيت وستبقى تناور وتداور للحفاظ على مصالح طبقية ونخبوية وفئوية معينة.

ولعل أخطر الشرائح الطبقية داخل سلطة الاستبداد الحاكم، إضافة إلى قوى الثورة المضادّة،

هي التي تتمثل في قيادات الجيوش والقوى الأمنية التي نجحت، في أوقاتٍ معينة، بالالتفاف على الثورة وقواها، موهمةً إياها بأنها يمكن أن تحقق مطالب القوى الثورية، إلا أنها، وعبر سيطرتها على المرحلة الانتقالية، انقلبت على ما وعدت به. وبدلا من ذلك، عملت على إعادة إنتاج النظام القديم وقواه المتخلفة، كما جرى في مصر، حيث أعادت السلطة العسكرية الحاكمة إيجاد فئات سلطوية تحت زعامتها، هيمنت من خلالها على كل مفاصل النظام، مفصلة نظاما أسوأ من سابقه.

في واحدةٍ من لحظات الثورة التونسية، اتهم زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، قوى “خفية” تقود التصدّي للثورة الشعبية وجمهورها في الميادين العامة، وفي الشوارع حيث يحتشدون. واتهم ائتلاف شباب الثورة المصرية حكومة تصريف الأعمال (قبل إقالتها) ورئيسها أحمد شفيق وأجهزة النظام، وحمّلوا المجلس العسكري مسؤولية التصدي لهم في ميدان التحرير، بعد أن لم يكد يمضي أكثر من أسبوعين على رحيل رأس النظام. كان هذا كله وغيره مؤشرا قويا على أن عناصر الثورة المضادة، ما برحت تعمل على الأرض، وفي الأجهزة ومؤسسات النظام التي لم ترحل برحيل رأسه، مهما قيل ويُقال من المتفائلين بأن الثورة قد انتصرت، أو أنجزت أهدافها، وهذا غير صحيح، إذ من الصحيح القول إن النظام الذي يُطاح بثورة شعبية ديمقراطية سلمية، لا ينبغي له أن يعاود سيطرته على أيٍّ من مجالات هيمنته السلطوية السابقة، بل ينبغي محاكمة رموزه على ارتكاباتهم الإجرامية.

هي الثورة المضادة إذا، تلك التي تقف اليوم حجر عثرة كأداء، أمام إنجاز أهدافٍ ثورةٍ شعبيةٍ لم تكتمل، واستكمالها منجزها التاريخي في إطاحة نظام استبداد سلطوي فردي، نهب ثروات شعبه، وأوقف نمو بلاده، وجعلها رهينة هيمنة قوىً خارجية معادية، وبمشاركة قوى طبقية عليا من رأسماليةٍ بيروقراطيةٍ ومن بروليتاريا رثّة، كانت من صنيعه هو، وقد تكفل بإنماء مصالحها إلى جانب إنماء مصالحه وثروته ومصالح وثروات عائلته، وبالتشارك في التربّح الفاحش، جرّاء هذه “المصالح الكبرى” التي وضعت اقتصادات بلداننا تحت هيمنة فئات وشرائح طبقية لا علاقة لها بالتشكيلات الطبقية والاجتماعية التي يمكن أن تنمو بشكل طبيعي، وما نراه اليوم من تلك التشكيلات، لا يتعدّى تلك التي أسفر عنها “التطور التبعي” للغرب الإمبريالي، جرّاء تبعية النظام وتوارثه والهيمنة عليه من قوى “استثمار دولية”، وبمشاركة قوى النظام المحلية ذاتها؛ التي أسست وتمأسست على الضد من التشكيلات الاجتماعية والطبقية لرأسماليات “الدولة” والبرجوازيات الطفيلية والبيروقراطية التي جرى تذريرها، و”حل” وجودها المحلي، ونفيها إلى الخارج؛ ومن تبقى منها في الداخل؛ إما أنه التحق بآلة النظام الاقتصادوية المعادية للتنمية، أو أنه جرى تهجيره وإفقاره، فلم يبق من الطبقات الاجتماعية إلاّ أغنياء النظام وقراباته، وفقراء الشوارع والأحياء المعدمة والعشوائيات والمقابر، وما بينهما، لا قيمة ومقدرة وقوة له على مواجهة أعباء النضال الطبقي من داخل الأحزاب الرسمية.

وبذا كانت الثورات الشعبية الديمقراطية السلمية خطوةً أولى ضرورية، نحو محاولة استعادة

التشكيلات الاجتماعية الطبقية مواقعها الفعلية، على خريطة السياسة، واندثارها في حضور الطغاة من الأنظمة الاستبدادية السلطوية البطريركية، وقد اندحرت جزئيا؛ ولكن ليس حتى مآلاتها المنطقية التي تستهدفها الثورات الشعبية؛ بإطاحتها كامل بُنى الأنظمة التي تستبقي، وهي ترحل بعض أدوات ثورة مضادة وعناصرها، تحاول من خلالها حتى إثارة فتنة طائفية، ومقارعة الوضع الجديد الناشئ الذي ينبغي تحصينه بقوى الشعب المنظمة، والدفاع عنه، وحمايته بكامل القوى الشعبية القادرة على النزول إلى ميادين التحرير والتغيير، للاستمرار بالثورة، حتى تحقيق مآلاتها النهائية.

لذا لم يكن الربيع العربي مدمرا على ما يذهب بعضٌ لصيق بالسلطات الحاكمة، لا منطلقا ولا مآلا هو كذلك، وما يمكن أن يتجدد فيه، بعد أن انتهى أو شبه انتهى هنا، ليتجدّد هناك. المسألة أعقد من تلك “الرؤى التدميرية”، أو مما نراه على السطح، إن حراكات التغيير الثورية، لا يمكنها أن تتلاشى أو تنتهي، بدون أن تترك بصماتها في الواقع، وعلى مستوى الشواهد التاريخية، فهي تنبثّ في معظم الحراكات الانتفاضية التي تنطلق لأسبابٍ سياسيةٍ وطبقيةٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ، سيما وأن أنظمة الاستبداد لا تستطيع أن تترك أي فسحة أملٍ لدى شعوبها بتغيير واقعها نحو الأفضل، طالما عمدت إلى الخشية من أي حراكٍ شعبي، أو حتى نخبوي ضدها. لذلك لم تكن ثورات الربيع العربي هي المدمّرة، على ما يذهب الرسميون والسلطويون العرب، الخائفون على مناصبهم ومواقعهم، وإنما الاستبداد السلطوي الحاكم سياسيا، والحاكم أيديولوجيا، هما من يسعى إلى تدمير ما شهدناه من ثورات الربيع العربي، خصوصا وهما يتحولان إلى قوى ثورة مضادة بامتياز، مستمسكين بالسلطة أداةً للقهر وإعادة عقارب الساعة التاريخية إلى الوراء دائما. وليس أوضح وأفصح من بعض قوى وتيارات “إسلام سياسي” في تمثل أهداف التدمير والتخريب في مجتمعاتها، وهذا ما رأيناه وعايشناه طوال الأعوام الثمانية التي مرت منذ بدء ثورات الربيع العربي، انطلاقا من تونس، ومرورا بمصر وليبيا، وليس انتهاءً بسورية والسودان أخيرا، حيث الاستقرار المنشود لا يتخارج عن الاحتفاظ بسلطات الاستبداد القاتلة لشعوبها والمدمرة لمجتمعاتها، العاملة على التواطؤ المخزي مع العدو الوطني، ومن يدعمه من قوى خارجية وداخلية، أمثال “دواعش الخلافة” وأضرابهم ممن يسعوْن إلى تدمير كل اجتماع بشري.

الثورات المضادة التي أطلقتها بعض قوى “الإسلام السياسي” وتياراته في بلادنا هي التي وقفت وستقف حجر عثرة أمام حراكات شعوبنا وتطلعها نحو التغيير، وهي التي تسعى إلى الحفاظ على روح الاستبداد وإعادة إطلاقه وتزكية رموزه، والإبقاء عليهم في السلطة. كذلك وقف أمنيون وعسكريون، وشرائح رثة من احتياط السلطة العميقة، في مواجهة الثورات

الشعبية، آملين إجهاضها والحفاظ على استبداد السلطة الحاكمة سياسيا وأيديولوجيا، كونها الضامنة لمصالحهم ومصالحها، قبل فقدانهم سلطة الإمساك بعصا القهر والغلبة، واستبداد حكام يريدون البقاء أسيادا، بل عبيدا عند أسياد اللعبة الدولية، يداورون ويناورون في لعبة إعادة إنتاج النظام نفسه، أو الأنظمة الكريهة، المفروضة على شعوبها بقوة العسكر وأيديولوجيات الإكراه والإقصاء في الداخل، وبقوة علاقات التبعية الاقليمية والدولية، والاستثمار الكولونيالي ورعاة المدد القادم من الخارج.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى