منوعات

ارتبطت بالكرامات والخوارق: المِسْبَحَة/ محمد يسري

لم يعرف العرب القدامى المِسْبَحَة أو السُبْحَة، وإن مارسوا التسبيح كواحد من الطقوس التعبّديّة الدينيّة التي تتشابك مع الدعاء والصلاة.

تتفق المعاجم اللغويّة العربيّة على أن لفظ السُبْحَة هو لفظ مُسْتَحْدَث، وقد عرّفها الزبيدي في “تاج العروس”، على أنها “خرزات تنظم في خيط للتسبيح…”، وعلى الرغم من كونها أمراً طارئاً جديداً على المسلمين، إلا أنها قد دخلت في تركيبتهم الدينيّة والثقافيّة، وصارت رمزاً مهمّاً ذا دلالة قويّة وحاضرة في مختلف ميادين الشعر والتصوّف.

من البراهمة الهندوس إلى الرهبان المسيحيّين: تاريخ المِسْبَحَة قبل الإسلام

من غير المعروف على وجه التحديد، التوقيت الذي ظهرت فيه المِسْبَحَة للمرّة الأولى على مسرح الحضارة الإنسانيّة، وبحسب ما يذكر الباحث محمد سامي أبو غوش في كتابه “الأحجار الكريمة” إن فكرة المِسْبَحَة هي “تطوّر طبيعي وحتمي من فكرة القلادة، إلا أنه من الصعب التحديد الدقيق الزمني من تحوّل استخدام القلادة كسبحة للأغراض الدينيّة، بيد أنه يمكن القول والافتراض أن فكرة السُبْحَة بدأت عند السومريين قبل 5000 سنة.”.

وقد نُسب إلى الرسول بعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، والتي تُذكر فيها كلمة مِسْبَحَة بشكل صريح ومباشر، ومن ذلك ما أورده أبو شجاع شيرويه الديلمي في كتابه “الفردوس بمأثور الخطاب” “نعم المذكر المِسْبَحَة”، وهو الحديث الذي حكم ناصر الدين الألباني بضعفه في سلسلة الأحاديث الضعيفة، حيث تساءل مستنكراً “كيف يحضّ الرسولُ أصحابَه على أمر لا يعرفونه؟”.

وبحسب ما يذكر صلاح الراوي في كتابه “مقدّمة في دراسة التراث الشعبي”، فإن السُبْحَة عند الشعوب القديمة كانت رمزاً لتعويذة لطرد الأرواح الشريرة، وحماية الإنسان من الشرور غير المرئيّة، وإبعاد الحسد عنه، وكان هناك اعتقاد بأن غسل السُبْحَة بالماء وشربه بعدها، من شأنه أن يكون دواء لبعض الأمراض المستعصية والمزمنة.

بحسب ما ورد في كتاب “مساهمة الهند” لأحمد الحسيني، فأن استخدام المِسْبَحَة في السياق الديني، قد وقع للمرّة الأولى في الهند وجنوب شرق آسيا، وذلك على يد الكهنة البراهمة الهندوس، الذين استخدموها في طقوس الأدعية، وسموها “جَبَ مَالاَ” والتي تعني عقد الذكر باللغة السنسكريتيّة، وكان عدد حبّات المِسْبَحَة البراهميّة، يتناسب ويتوافق، مع عدد الأبراج والنجوم والكواكب التي يؤمن بها الهندوس، ويقدّسونها في مذاهبهم المختلفة.

الكهنة البوذيّون، تابعوا البراهمة في استخدام المِسْبَحَة، وتسبّبوا في نشرها في العديد من الأقاليم في آسيا وحول شطآن البحر المتوسط، ويُحتمل أنهم تحديداً من تسببوا في نقلها إلى اليهود.

السُبْحَة اليهوديّة التقليديّة تكونت من 17 أو 21 حبّة، ونالت حظوة كبيرة في طقوس الكابالا التي تمتزج فيها الشعائر الروحيّة بالسحر، وكانت تُعرف باسم “ماه بركوت”، والتي تعني المائة بركة، وذلك لأن اليهود كانوا يستخدمونها في التسبيح لمائة مرّة على نحو متتابع.

أهمية المِسْبَحَة زادت بشكل كبير في الديانة المسيحيّة على وجه الخصوص، فبحسب ما يذكر الأب جان حنا توما، أن المسيحيين في عصور الاضطهاد كانوا يعرفون بعضهم البعض بها، كما أن شكلها كان له رمزيّته الخاصة، حيث كان يعبّر عن بعض العقائد والأفكار المسيحيّة، ذلك أن عدد حبّاتها الثلاث والثلاثين، يرمز لعمر المسيح في الأرض، كما أن الأقسام الثلاثة المتساوية التي تتألّف منها المِسْبَحَة، ترمز للإله الواحد المتجسّد في الأقانيم الثلاثة.

المِسْبَحَة ارتبطت في الدين المسيحي أيضاً بعدد من الصلوات والأدعية المقدّسة ذات الحظوة والمكانة، ومن ذلك الصلاة المشهورة التي تُعرف باسم “المِسْبَحَة الورديّة” والتي نظّمها القدّيس الإسباني دومينيك، مؤسّس جماعة الدومينيكان، والذي قيل إن العذراء مريم قد ظهرت له وقالت “لن تنجح ببراعة الكلام، بل بهذه المِسْبَحَة التي بيدك، فأنا معك، ومتى هديتهم، علِّمهم أن يصلوها.”.

من الملاحظ أنه في بعض الأحيان، تكون عدد حبّات المِسْبَحَة المسيحيّة 45 حبّة، على عدد أيام الصيام الصغير، وفي أحيان أخرى تصل عدد حبّاتها لـ55 على عدد أيام الصيام الكبير.

ظهور متأخّر عن زمن النبوّة: السُبْحَة عند المسلمين

نال التسبيحُ حظوةً ومكانةً في الدين الإسلامي، حيث وردت الكلمات المشتقّة من الجذر اللغوي سَبَحَ، عشرات المرات في سور القرآن الكريم، كذلك ورد الأمر النبوي بالتسبيح في الكثير من الأحاديث، ومن ذلك ما أورده الترمذي في سننه من “أن النبي كان يعقد التسبيح بيمينه”، وما أورده أبو داوود في سننه، من قول الرسول للنساء “عليكن بالتسبيح، والتهليل، والتقديس، واعقدن بالأنامل، فإنهن مسؤولات ومستنطقات، ولا تغفلن فتنسين الرحمة”.

وقد نُسب إلى الرسول بعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، والتي تُذكر فيها كلمة مِسْبَحَة بشكل صريح ومباشر، ومن ذلك ما أورده أبو شجاع شيرويه الديلمي في كتابه “الفردوس بمأثور الخطاب” “نعم المذكر المِسْبَحَة”، وهو الحديث الذي حكم ناصر الدين الألباني بضعفه في سلسلة الأحاديث الضعيفة، حيث تساءل مستنكراً “كيف يحضّ الرسولُ أصحابَه على أمر لا يعرفونه؟”.

من المرجّح أن الرعيل الأول من المسلمين لم يعرفوا الشكل الحالي للسُبْحَة، بل عُرف عن جماعة منهم، من أمثال سعد بن أبي وقاص وأبو الدرداء، التسبيح بواسطة الحصى ونوى البلح، كما أخرج أبو داوود في سننه أن أبا هريرة “كان معه كيس حصى أو نوى يسبّح بها حتى إذا أنفذ ما في الكيس ألقاه إلى جارية سوداء عنده فتعيد الحصى في الكيس فتدفعه إليه ليُعيد التسبيح به”، أما أبو نعيم الأصبهاني في كتابه “حلية الأولياء وطبقات الأصفياء”، فقد ذكر أن أبا هريرة كان له “خيط فيه ألفا عقدة، فلا ينام حتى يسبّح به”، وهو ما يمكن أن نعتبره شكلا أوليّاً من أشكال المِسْبَحَة.

ويرجّح عبد الرحمن بدوي في كتابه “التراث اليوناني في الحضارة الإسلاميّة”، أن المسلمين قد عرفوا السُبْحَة في القرن الثالث الهجري، بعدما شاهدوها في مصر على وجه الخصوص، حيث كان استخدامها شائعاً في أوساط الرهبان المسيحيين، ولكن مع ذلك فسرعان ما اصطبغت السُبْحَة العربيّة بالصبغة الإسلاميّة، حيث تألّفت من 100 حبّة، وذلك تأسيساً على ما ورد في الأحاديث النبوية التي تذكر أن الرسول قد علّم المسلمين التسبيحَ خلف كل صلاة 33 مرة، والتكبير 34 مرة، والتحميد 33 مرة.

في الشعر والتصوّف: حكايات المِسْبَحَة في الثقافة الإسلاميّة

بما أن الشعر كان ديوان العرب، فإننا نستطيع أن نعثر على أوّل إشارة للمِسْبَحَة في بدايات القرن الثالث الهجري، وذلك في القصيدة التي أرسل بها الشاعر العبّاسي الشهير أبو نواس للوزير العباسي الفضل بن الربيع في عهد الخليفة محمد الأمين، وقد جاء في تلك القصيدة، بحسب ما ينقل بكر أبو عبد الله أبو زيد في كتابه “السُبْحَة: تاريخها وحكمها”.

أنت يا ابن الربيع ألزمتني النسـ… ك وعودتنيه والخير عادة

فارعوى باطلي واقصر حبلي… وتبدلت عفة وزهادة

المسابيح في ذراعي والمصحف… في لبتي مكان القلادة

أيضاً يمكن أن نجد حضوراً كبيراً للمِسْبَحة في قصص الزهّاد والصوفيّة، فقد حُكيت الروايات التي تذكر رفض البعض لها، ومن قبيل ذلك أن إبراهيم النخعي كان “ينهى ابنته أن تعين النساء على فتل خيوط التسابيح…” بحسب ما يذكر ابن أبي شيبة في مصنّفه، بينما وردت روايات متعدّدة، يُفهم منها أن الكثير من النُسّاك والأولياء الصالحين قد أقبلوا على استخدام المِسْبَحَة، وارتبطت ببعض أشهر كراماتهم الخارقة للعادة.

يذكر الحر العاملي في كتابه “وسائل الشيعة”، أنه لمّا استشهد الحسين بن علي في عام 61هـ/ 680م، استبدل الشيعة مسابحهم، حيث اتخذوا مسابح جديدة لهم مصنوعة من التربة الحسينيّة في كربلاء

على سبيل المثال، يذكر السيوطي في كتابه “الحاوي للفتاوي”، أن الحسن البصري كان يستعمل المِسْبَحَة، فلما سأله البعض عنها، قال “هذا شيء قد استعملناه في البدايات، ما كنا لنتركه في النهايات، أنا أحب أن أذكر الله بقلبي ولساني ويدي”، أما أبو القاسم الجُنيد فقد وصف السُبْحَة بقوله “طريق به وصلت إلى ربي، لا أفارقه”.

الكثير من شيوخ الصوفيّة المشهورين، عُرفوا بوضع المِسْبَحَة في أعناقهم، من باب إظهار التواضع والبعد عن الغرور والفخر، وبرّروا ذلك بأنه لمّا كان من الجائز وضع السيف في العنق، وهو أداة الجهاد الأصغر، فإنه وبطريق القياس، يصبح من الجائز تطويق العنق بالمِسْبَحَة، وهي أداة الجهاد الأكبر، الذي يقصد به جهاد النفس، وذلك بحسب ما جاء في كتاب “تحفة أهل الفتوحات والأذواق في اتخاذ السُبْحَة وجعلها في الأعناق” لأبي الفضل فتح الله بن أبي بكر البناني.

الكرامات المرتبطة بالمسابح تكاد لا تُعدّ ولا تُحصى في المدوّنات الصوفيّة، ومن أشهرها ما ذكره عبد الوهاب الشعراني في كتابه “الطبقات الكبرى” عن بعض شيوخه، الذين كانت المسابح تدور في أعناقهم عندما تحين أوقات أورادهم اليوميّة، وفي السياق نفسه، يأتي ما أثبته ابن عساكر في كتابه “تاريخ دمشق”، عندما ذكر أن سبحة التابعي أبي مسلم الخولاني قد التفّت على ذراعه ذات يوم، وهي تقول “سبحانك يا منبت النبات، ويا دائم الثبات”.

سُبْحَة فاطمة وسُبْحَة زبيدة: أشهر المسابح

اشتهرت العديد من المسابح طوال التاريخ الإسلامي، وتنوّعت مواد صناعتها من العقيق، الأحجار البلوريّة، اللازورد، الذهب، الفضة، الكهرمان والياقوت.

من أشهر المسابح الإسلاميّة، سُبْحَة زبيدة بنت جعفر المنصور، زوجه هارون الرشيد، والتي قيل إنها اشترتها بخمسين ألف دينار، وسُبْحَة الخليفة المقتدر جعفر بن أحمد العباسي، والتي وصفها عبود الشالنجي في تحقيقه لكتاب “نشوار المحاضرة للتنوخي” بقوله “قوِّمت بمائة ألف دينار… حيث استدعى بجواهر، فاختار منها مائة حبة، ونظمها سُبحة يسبح بها، وأن هذه السُبْحَة عرضت على الجوهريين، فقوّموا كل حبّة منها بألف دينار وأكثر”.

أما عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية، فمن الشائع أن السيّدة فاطمة الزهراء كانت أول من اتخذ المسابح، فكانت سُبْحَتها “بخيوط زرق، أربعاً وثلاثين خرزة” وكانت قد اتخذت خرزاتها من طين قبر حمزة بن عبد المطلب، وكانت تسبّح بها بعد كل صلاة، وذلك بحسب ما يذكر الميرزا حسين النوري الطبرسي في كتابه “مستدرك الوسائل”.

ويذكر الحر العاملي في كتابه “وسائل الشيعة”، أنه لمّا استشهد الحسين بن علي في عام 61هـ/ 680م، استبدل الشيعة مسابحهم، حيث اتخذوا مسابح جديدة لهم مصنوعة من التربة الحسينيّة في كربلاء، وقد روى محمد باقر المجلسي في موسوعته المسمّاة “بحار الأنوار” بعض الروايات عن أئمة الشيعة، التي تظهر تشجيعهم لأتباعهم على اتخاذ سُبَحٍ من تراب كربلاء المقدّسة، ومن ذلك قول الإمام السادس جعفر الصادق “من كانت معه سُبْحَة من طين قبر الحسين عليه السلام كتب مُسبّحاً وإن لم يسبّح بها”، وأيضا قول الإمام السابع موسى الكاظم “لا يستغني شيعتنا عن أربع، لا تستغنى شيعتنا عن أربع، خمره يصلى عليها وخاتم يتختّم به وسواك يستاك به وسبحه من طين قبر أبى عبد الله عليه السلام”.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى