سياسة

تطورات الموقف الروسي من الأزمة السورية -مقالات مختارة-

روسيا إذ تقلم أظافر الايرانيين/ مهند الحاج علي

لم يكن التحدي الروسي لإيران وحلفائها الصغار في “الممانعة”، في تسليم رفات جندي اسرائيلي مفقود عام 1982، سحابة صيف عابرة، بل جاءت ضمن سياق من الأحداث المتتالية، يقود الى الاشتباكات بين القوى الموالية لهما في شرق سوريا وشمالها خلال الأسبوع الماضي. وهذا السياق للتنافس الحاد والمواجهة، يبدأ من المنافسة على الموارد السورية الشحيحة مثل الفوسفات والموانئ (طرطوس للروس فيما يُحاول الإيرانيون انتزاع اللاذقية) وبعض الرفات الاسرائيلية من زمن غابر، وينتهي بالسيطرة على الأرض والمواقع الاستراتيجية، كما بدا في اشتباكات متفرقة تشهدها الأراضي السورية.

صحيح أن كثيراً من المعلومات غير مؤكدة، لكن الواضح والمؤكد حتى الآن أن روسيا بالتعاون مع النظام السوري، أو بعضه، سلّمت دون مقابل ملموس، الإسرائيليين جثة جندي مفقود منذ عام 1982. كما نشرت الشرطة العسكرية الروسية قواتٍ لها على الحدود اللبنانية-السورية، واستنفرت ضد مجموعات من “حزب الله” على مقربة منها. والواضح أيضاً أن هناك خطاً ساخناً بين الجيشين الروسي والاسرائيلي، للتنسيق حيال الغارات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية وضد الميليشيات الموالية لها. وهذا مُهين للإيرانيين وحلفائهم. نظرياً، من الممكن والمرجح أن يُلقي جندي روسي التحية على “زميل” إيراني، ثم يبتعد عنه قليلاً كي تقتله غارة اسرائيلية. الجندي الروسي على علم مسبق بالغارة، وربما ساعد الإسرائيليين في تحديد أهدافهم، على طريقة “يقتل القتيل ويمشي في جنازته”. وربما المجاز الأقرب للواقع هنا هو لُعبة الصَنَم الرائجة بين شبان الثمانينات في المشرق حيث يدخل شاب داخل دائرة من الأصدقاء، ويتلقى ضربات رفاقه شرط ألا يراهم. الفارق في اللُعبة أن الإيراني لا يُغادر الدائرة ويتلقى الضربة تلو الآخر من الروسي والإسرائيلي والأميركي وحتى السوري. لا يُبارح مكان المتلقي، لكن لا يستسلم.

تردد الأسبوع الماضي أكثر من خبر حيال التنافس الروسي-الإيراني، بما يرقى الى مستوى جديد من التوتر بين الحليفين السابقين على الأرض السورية.

أولاً، بعد تسليم الروس جثة الجندي الإسرائيلي زخاريا باومل إلى الإستخبارات الإسرائيلية، راج في تقارير عديدة أن رُفات الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين ستُنقل الى إسرائيل قريباً (آخر التقارير يتحدث عن أيار موعداً للتسليم). وهذه من القضايا الأساسية العالقة بين البلدين، ومن المفترض مناقشتها مع حل شامل للنزاع السوري-الاسرائيلي يتضمن انسحاباً من الجولان. وهذا الأمر ينسحب على رفات باومل. ماذا تعني إعادة رفات باومل من دون خوض في هذه القضايا الأساسية، أو حتى دون استشارة الإيرانيين وحلفائهم؟ الاستنتاج الأول أن روسيا هي المُمسك الأول بالقرار السوري، لا الإيرانيين ولا ميليشياتهم.

هذه الرسالة الأولى من التبادل. الرسالة الثانية تتمثل في أن الأولويات الروسية مختلفة عن الإيرانية بشكل جذري. أولوية الروس اليوم هي إعادة إعمار سوريا وتعويم النظام مجدداً في المجتمع الدولي من بوابة حل قضية اللاجئين وربما لو تطلب الأمر، عملية سياسية جديدة قد تشمل ربما تنحي الرئيس السوري بشار الأسد موقتاً حتى موعد الانتخابات المقبلة. هناك من يربط بين الاحتمال الأخير، وبين مشاركة ضمنية لروسيا في رفع وتيرة الأزمة الاقتصادية السورية لزيادة الضغوط على النظام للقبول بالشروط الدولية. 

المسار الثاني للتوتر الروسي-الإيراني هو الأمني. تضبط روسيا على الأراضي السورية، الإيقاع الإقليمي مع طرفين تتمتع معهما بعلاقة ممتازة: تركيا وإسرائيل. تركيا تُواجه الولايات المتحدة والعالم الغربي، نتيجة تقاربها مع الروس وشرائها صواريخ “أس 400”. وكذلك لإسرائيل علاقات ممتازة مع الروس، تشمل التبادل التجاري العالي، وأيضاً الجانبين الثقافي والشخصي. لذا فإن الأنباء المتواترة عن اشتباكات بين القوى الموالية لإيران وروسيا، غير بعيدة عن هذا الواقع. مصادر النظام في بيروت بدأت بالفعل تتحدث في جلساتها الخاصة عن تراجع النفوذ الإيراني في سوريا لمصلحة روسيا.

وهذا ما يحدث أيضاً على مستوى القيادات العسكرية والأمنية في ظل التبديلات الروسية، وآخرها الأنباء عن تعيين العماد سليم حربا، المعروف بقربه من الروس، رئيساً لهيئة الأركان الجيش السوري. وهناك تغييرات أوسع نطاقاً تجري بعيداً عن الإعلام مثل ما تردد مثلاً عن إقصاء رئيس الحرس الجمهوري طلال مخلوف لمصلحة مالك عليا.

لن تتحول هذه المناوشات الى مواجهة شاملة، لأن المصلحة الإيرانية، سياسياً واقتصادياً مع روسيا، تقتضي ذلك. لكن السؤال الذي تطرحه هذه التغيرات هو هل بات احتواء الوجود الإيراني وضبطه أولوية لروسيا؟

الأسابيع المقبلة كفيلة بتوضيح ذلك.

المدن

من يمسك بجيش النظام السوري؟/ عروة خليفة

نشرت القيادة العامة لجيش النظام بياناً يوم السبت الماضي العشرين من نيسان/إبريل، قالت فيه إن الأخبار التي تتحدث عن «اشتباكات بين القوات الروسية والإيرانية في دير الزور وحلب» لا أساس لها من الصحة. وعلى الرغم من أن تقارير إعلامية عديدة كانت قد ذكرت وقوع اشتباكات مماثلة في مناطق عدة خلال الأشهر الماضية، إلا أنها المرة الأولى التي يتطرق فيها مصدر عسكري رسمي تابع للنظام السوري إلى هذه المسألة. ويأتي هذا بالتزامن مع أنباء عن تصاعد الخلاف بين موسكو وطهران في ملف إعادة هيكلة جيش النظام، وهو ما يعني أن البيان ربما يكون محاولة من النظام لاحتواء انقسام بدأ بالتصاعد داخل مؤسسته العسكرية.

وكانت تقارير صحفية قد أفادت خلال الأيام الماضية بأن النظام السوري قام بترفيع اللواء سليم حربا إلى رتبة عماد، وتعيينه رئيساً لهيئة الأركان، بعد أن كان هذا المنصب شاغراً لأكثر من عام، وهو الخبر الذي يعني، في حال صحته، تعزيزاً لنفوذ موسكو في مؤسسة النظام العسكرية على حساب طهران.

وكان سليم حربا يحمل رتبة لواء في الجيش، وقد استلم عدة مناصب هامة منها قيادة لواء في الفرقة الرابعة، ورئاسة كلية الحرب العليا في الأكاديمية العسكرية في دمشق، إلا أنه بدأ خلال سنوات الثورة السورية بالظهور باللباس المدني على القنوات الفضائية كمحلل استراتيجي، وهو ما يمكن اعتباره إبعاداً للرجل عن المواقع القيادية التي كان حاصلاً عليها قبل ذلك. ويقول مصدر مطلع على التحركات الأخيرة في جيش النظام للجمهورية: «كان الإيرانيون ينظرون إلى حربا بوصفه ضابطاً يعمل لصالح موسكو، وهو ما يفسر إبعاده عن قيادة القوات العسكرية التي تحركت لمحاربة وقمع الثورة السورية في سنواتها الأولى». إلا أن التدخل الروسي سمح لحربا بالعودة مجدداً إلى مواقع قيادية، فقد أصبح بعد هذا التدخل مشرفاً على عمل ميليشيات صقور الصحراء المقربة من موسكو، كما أنه أشرف على قوات سهيل الحسن، ثم تم تعيينه العام الماضي في منصب نائب رئيس الأركان، ورئيساً للجنة الأمنية في حلب، بدعم من موسكو.

ويمكن وصف الصراع على رئاسة الأركان بأنه رأس جبل الجليد الذي يشكله الصراع الروسي-الإيراني على المناصب الحيوية في جيش النظام، وقد كانت الإطاحة برئيس شعبة الأمن العسكري اللواء محمد محلّا منذ نحو شهر أحد فصول هذا الصراع. واللواء محلّا هو شخصية مقرّبة من موسكو، وكانت عدة تقارير إعلامية قد أشارت إلى انخراطه مؤخراً في إنشاء فصيل عسكري يجمع قوات المعارضة التي دخلت التسويات مع النظام السوري في الجنوب، بهدف مواجهة النفوذ الإيراني. وقد جاءت إقالته بعد فترة قصيرة من لقاء بشار الأسد مع المرشد الإيراني علي خامنئي في طهران، الأمر الذي يمكن ربطه بسهولة بطلبات إيرانية من النظام، مقابل مساعدة طهران له في مواجهة أزماته الاقتصادية المتتالية.

ويمكن اعتبار الخلافات في ملف الجنوب السوري أحد أهم انعكاسات التنافس بين موسكو وطهران، إذ يتنافس فرع الأمن العسكري في السويداء بقيادة العميد لؤي العلي المقرّب من روسيا، مع الفرقة الرابعة الأقرب إلى إيران، على ضم عناصر التسويات إلى صفوف كل منهما، كما أن المنطقة شهدت اغتيالات عديدة لقادة تسويات وشخصيات أمنية، يُعتقد أن بعضها كان نتيجة هذه الخلافات.

وفي السياق نفسه، بدأت عدد من التقارير الصحفية والتحليلات بالقول إن الانقسام وصل إلى الحلقة الضيقة في النظام، أي بين بشار الأسد الأقرب لموسكو، وماهر الأسد الأقرب إلى طهران، إلا أن مناورات بشار الأسد بين كل من طهران وموسكو لا تؤيد هذه التحليلات، فعلى سبيل المثال، يأتي إعلان تسلم شركات إيرانية إدارة ميناء اللاذقية، ومن ثم الإعلان عن تأجير ميناء طرطوس لروسيا، بمثابة استمرار لمحاولة بشار الأسد إرضاء كل من حليفيه واللعب على التوازن بينهما.

يقول الخبير العسكري محمود إبراهيم للجمهورية: «إن المراهنة على خلاف بين ماهر الأسد وبشار الأسد هي مراهنة خاطئة، فالرجلان قد يناوران مع حليفيهما، إلا أن قرارهما مشترك، وليس هناك مؤشرات حقيقية على صراع بينهما. وتقول الوقائع الأخيرة إن موقع كل منهما قد أصبح ضعيفاً جداً أمام نفوذ روسيا وإيران، وهو ما قد يدفعهما إلى تصرفات توحي بأن أحدهما محسوب على هذا الطرف أو ذاك».

وبينما تُظهر المؤشرات الأخيرة أن موسكو باتت أكثر تحكماً بالمفاصل الحيوية في جيش النظام، فإن طهران لا تزال تمسك بورقة هامة، هي ورقة الميليشيات التابعة لها في محيط العاصمة دمشق، الأمر الذي يعني قدرتها على تهديد العاصمة في أي لحظة، إذا ما أرادت موسكو الانقلاب عليها وعلى نفوذها، خاصة بعد سيطرة الأخيرة على هيئة الأركان في الجيش، بالإضافة إلى استمرار نفوذها في مواقع مهمة منها الأمن العسكري، إذ أن اللواء كفاح ملحم، الذي خلف اللواء محمد محلّا في رئاسة شعبة المخابرات العسكرية، آتٍ من الخلفية ذاتها ويحمل التوجهات نفسها، حسب ما قال مصدر مطلع للجمهورية، وإن كان ميلُ ملحم إلى موسكو أقل علانيةً من سابقه، الذي تحوّل من التحالف مع الإيرانيين إلى موقع رجل موسكو الأول في شعبة المخابرات العسكرية، التي تضمن السيطرة عليها تحكمّاً واسعاً بجيش النظام.

يمكن القول إن الصراع المتنامي داخل هيكلية المؤسسة العسكرية للنظام بين كل من روسيا وإيران، أكثر خطورة وأهمية من الصراع الذي دخلت فيه ميليشيات تابعة لكل من الطرفين خلال الفترة الماضية، لأنه يعني قدرة الطرف المنتصر على ترتيب أوضاع النظام في سياق إعادة تأهيله مستقبلاً، وهو أمر يبدو أن موسكو أقرب إليه، في حين ما زالت طهران تمتلك قوةً تستطيع من خلالها منع تفرد حليفتها في صناعة مستقبل النظام، الذي يبدو اليوم في أضعف أحواله، وقد أصبح أقرب ما يكون إلى هياكل يحركها كل من بوتين وخامنئي لتمكين نفوذهما، الذي يعني الاستيلاء على سوريا ومواردها مستقبلاً.

موقع الجمهورية

بأيادٍ روسية.. هل اقتربت نهاية حكم الأسد؟!/ عبد الحليم عباس

على الرغم من استعصاء الحل السياسي على المدى القريب، والغموض الذي يكتنف سبل الخروج من جحيم الأزمة السورية، فإن دلائل و مؤشرات بدأت بالظهور وخاصة بعيد إحكام النظام سيطرته على جل الجغرافيا السورية، تنبئ عن توجه روسي للتخلي عن الأسد ونظامه. فمع كل الدعم الذي قدمته من دفاعها المستميت عن النظام في المحافل الدولية، واستخدامها حق النقض لمنع إدانة جرائمه المروعة التي ارتكبها، ناهيك عن دعمه عسكرياً ولوجستياً في مواجهته المعارضة المسلحة، فإن روسيا أظهرت لاحقاً تباعداً ملحوظاً عن الأسد ومن معه على الرغم من انتصارهم المزعوم في صراعهم الوجودي من أجل البقاء في السلطة، وتقارباً متزايداً من مواقف الدول الفاعلة ومصالحها في تسوية الأزمة السورية.

ففي نهاية عام ٢٠١٨، وبينما كان النظام يبسط سيطرته على معاقل المعارضة الكبرى، صدر تصريحان لافتان عن شخصيتين مقربتين من دوائر صنع القرار في موسكو. إذ صرح الدبلوماسي السابق في الخارحية الروسية فيتشسلاف ماتوزوف لأحد القنوات العربية قائلاً: “إن أكثر شخص في العالم يدرك إستحالة أن يحكم الأسد سوريا.. هو الأسد نفسه” بينما قال المحلل السياسي المقرب من الكرملين يفغيني سيدروف لصحيفة نوفيتشي الروسية: “لقد أحدثت الحرب في سوريا شرخاً مجتمعياً يصعب معه تخيل أن يعود شكل الحكم إلى ما كان عليه قبلاً.. لم تتدخل روسيا لمنع سقوط الأسد، بل لضبط ذلك السقوط.. فالفرق شاسع بين هبوط المظلة الهادئ، وسقوط النيزك المدمر، مع أنه سقوط في كلتا الحالتين”. وبغض النظر عن مدى أهمية هذين التصريحين ودرجة ارتباطهما بوجهة النظر الروسية الرسمية، إلا أن دلائل عديدة سأوردها تباعاً تظهر إنسجامهما بشكل لافت مع طريقة تعامل موسكو مع النظام السوري ورئيسه.

انتفاء المصلحة الروسية من بقاء نظام الأسد

كانت أولى دلائل التقرب من السنة هو اعتراف روسيا بالمعارضة السياسية والعسكرية ودخولها في مفاوضات معها، وهي ذات المعارضة التي دأب الأسد على وصفها بالإرهابية

فيما وصف بأنه تسليم لسوريا من أجل سلطته، قدم الأسد لروسيا منذ تدخلها للحيلولة دون سقوطه كل ما تحتاجه لتأسيس وجود راسخ لها في البحر الأبيض المتوسط في مواجهة الناتو. وسلمها مفاتيح الجيش والأمن التي طالما كانت مصدر قوة الأسد ونظامه، ناهيك عن إعطائها حق حصري في إدارة الأزمة والإستئثار بالقرار السياسي. فماذا يمكن أن يقدم رأس النظام لروسيا أكثر من ذلك؟ حقيقة الأمر أن الأسد قد استنفذ أوراقه وسبل إقناعه للروس بارتباط مصالحهم بإستمرار حكمه. وبدا واضحاً أن بقاء الأسد ونظامه سيعرقل جهود روسيا الرامية إلى فرض حل مستدام بسوريا يضمن عودة ملايين اللاجئين إلى وطنهم تزامناً مع إنتخابات حرة تفضي إلى حكومة ذات مصداقية. وهو الشرط الأساسي الذي وضعته دول الإتحاد الأوروبي لتمويل إعادة الإعمار الذي تريد منه روسيا تحسين صورتها وغسل معالم جرائمها وتحقيق تقارب مع أوروبا يقيها تبعات العقوبات الاقتصادية الأمريكية.

تغيير تركيبة الجيش والمنظومة الأمنية

مع تراجع وتيرة العمليات العسكرية، عملت روسيا على إعادة هيكلة الجيش السوري، لا على صعيد ترميمه أو تسليحه، بل على صعيد تركيبته وولائه. فمنذ الإطاحة بوزير الدفاع السابق العماد فهد جاسم الفريج، واستبداله بالعماد علي أيوب، عمدت القوات الروسية إلى حجب منصب رئاسة الأركان لمدة ١٥ شهراً، وذلك في سابقة لم يعرف لها مثيل في تاريخ المؤسسة العسكرية السورية منذ تأسيسها عام ١٩٤٦، وكان السبب وراء ذلك هو أن أياً المرشحين لشغل هذا المنصب لم ينل موافقة روسيا التي كانت تنفذ خطة شاملة لإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية السورية، وتعزيز شبكة الضباط الموالين لها. حيث أحكمت قبضتها على القطاعات والأسلحة المختلفة، وعلى رأسها: سلاح الجو، والدفاع الجوي، والفيالق: الثاني والرابع والخامس، بالتزامن مع حل الميلشيات التابعة للنظام وفي مقدمتها مليشيا الدفاع الوطني المدعومة من الحرس الثوري الإيراني والتي كان لها دوراً بارزاً في قمع السوريين. وفيما ظهر أنه تحجيم للفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، تم تشكيل الفرقة الخامسة وتقوية نفوذها بتسليح وتمويل روسي صرف ومن ضباط سوريين كانوا قد خضعوا لدورات تدريبية في موسكو. وفي ذات السياق، شهدت أجهزة الأمن والمخابرات -ذراع الأسد الضاربة- تغييرات كبرى أطاحت بكبار الضباط الموالين للأسد ليحل محلهم آخرين أكثر ولاءاً لروسيا.

مغازلة الأكثرية السنية

عملت روسيا وما زالت على استمالة سنة سوريا الذين ثاروا على الأسد ونظامه وكانوا الفئة الأكثر تضرراً من جرائم النظام وكذلك من تدخلها الذي قلب موازين المعارك لصالح الأسد. كانت أولى دلائل التقرب من السنة هو اعتراف روسيا بالمعارضة السياسية والعسكرية ودخولها في مفاوضات معها، وهي ذات المعارضة التي دأب الأسد على وصفها بالإرهابية. وفيما ظهر أنه طمأنة للسنة، اعتمدت روسيا على كتائب من شرطتها العسكرية الشيشانية المسلمة “السنية” لضمان الأمن في المناطق التي انسحبت منها المعارضة كبديل للمليشيات الشيعية ذات السمعة السيئة والحقد الأيديولوجي. كما جاء المقترح الروسي لدستور سوريا الجديد محابياً للأكثرية السنية على حد وصف مقربين من النظام، لا سيما في مادته التي تشير إلى ضرورة أن يكون الحكم معبراً عن نسب التوزيع الطائفي في المجتمع السوري. وهو أمر يعطي السنة دوراً سياسياً وازناً في أية حكومة مستقبلية.

تقويض النفوذ الإيراني

كان التناحر واختلاف الإستراتيجيات هي أبرز الصفات التي طبعت علاقة الروس مع الإيرانيين على الأرض السورية. وبدا أن التحالف بينهما ضد معارضي الأسد لا يعدو عن كونه تكتيكياً. فمع انتهاء العمليات العسكرية الكبرى وانتفاء حاجتها لقوات إيران ومليشياتها التي حاربت على الأرض، سمحت روسيا لإسرائيل باستهداف مراكز إيران ونقاط تمركزها، ولعبت دوراً محورياً في إبعادها عن حدود الدولة العبرية لعمق يقارب المائة كيلومتر. كما قامت القوات الروسية في شهر مارس/ آذار الماضي بتطهير منطقة السيدة زينب والريف الجنوبي لدمشق حتى مطار دمشق الدولي، وتفكيك عشرات الثكنات ومراكز التدريب والحواجز العسكرية التي أقامها الإيرانيون تحت إشراف ماهر الأسد، وتسليمها إلى الفيلق الخامس. كان ذلك يتزامن مع انسحاب حزب الله -حليف إيران القوي- من معظم مناطق سيطرته صوب الجانب اللبناني من الحدود.

الحصار الاقتصادي والموقف الروسي منه

يرى كثير من المراقبين في الحصار الاقتصادي الذي سيفرض على النظام السوري، أنه المسمار الأخير في نعشه. وخاصة أنه يطال حليفته إيران التي دفعت خلال ثمان سنوات ما يزيد عن ثمانين مليار دولار من أجل الحفاظ على الأسد ونظامه. بدأت بوادر الحصار -الذي لم يعلن عن سريانه بعد- تظهر في الأزمة التي تضرب الاقتصاد السوري وانعكاساتها المؤلمة على الشعب فيما يخص الانخفاض الحاد في إمدادات الطاقة من نفط وغاز وما تبعها من انخفاض قيمة الليرة وغلاء الأسعار ونقص متوقع في الخبز والدواء. ومع توقع الخبراء استحالة صمود الاقتصاد السوري المتداعي أصلاً، تقف روسيا الغنية بنفطها وغازها موقف المتفرج على معاناة الشعب وارتباك النظام دون إبداء أية نية على تقديم أي شكل من أشكال الدعم أو المساعدة. بل إن وسائل الإعلام الروسية نفسها، قد بدأت تسلط الضوء على تردي الأوضاع الاقتصادية والحالة المعيشية للسوريين موجهة إنتقادات لاذعة لأداء الحكومة في تناغم مع ما أبدته الفئة المؤيدة للأسد من تململ ونفاذ صبر.

تستكمل روسيا إذاً بموقفها الصامت من الحصار الاقتصادي على النظام ما بدأت به منذ تدخلها في سوريا من إضعاف الأسد وتقييد سلطته. ويبدو أن الروس يريدون أن يجمعوا السوريون مؤيدين ومعارضين على هم الجوع وصعوبة العيش بعد أن فرقتهم السياسة. الأمر الذي يصبح معه غياب الأسد أو تغييبه مطلب شعبي لا سياسي، وإجماع وطني لا طائفي ولا فئوي، بين من كان يقف يوماً إلى جانبه، ومن كان يقف ضده. لم يعد للنظام من سلطته شيئاً، هذا ما أرادته روسيا، تحقيقاً لمصالحها ورغبة منها في طي صفحة حرب سوداء كانت شريكاً فاعلاً فيها. فهل تطوى صفحة الأسد قريباً؟

إنكار الأسد والمفاجآت/ وليد شقير

لا يكاد المسرح السوري يدخل معادلة تمنح نظام بشار الأسد بعض الاطمئنان حتى تنقلب الآية ويعود القلق يقض مضجع رأسه وكل من يحيط به ومن يسانده ويراهن على «انتصاره» المزعوم.

فهذا النوع من الأنظمة قلق حتى في حال «الاستقرار» الموهوم، واستتباب مقاليد الأمور لمصلحته أمنيا وسياسيا واجتماعيا وخارجيا، وهو لذلك يبقي على أجهزته الأمنية والعسكرية مستنفرة تراقب مواطنيه 24 ساعة على 24 حتى يضمن ألا يفكر أي مرء بمعارضته، فيمارس القمع المسبق ضد من يمكن أن يشتبه بأن تسول له نفسه التفكير بمعارضته. فكيف في حالته الراهنة التي مضت عليها نيف و8 سنوات، مر خلالها بمراحل تسللت فيها أمثلة عن انشقاق عنه من قبل موالين له، وعن تجرؤ بعض المقربين منه على التفكير بخلعه لحفظ النظام؟ وكيف الحال الآن ووهم «الانتصار» أقرب إلى السراب، فيما ينازعه الإيرانيون على المناطق التي يدعي السيطرة عليها، ويتنازع الروس مع الإيرانيين على المواقع التي يمسك «الحرس الثوري» وميليشياته بها، فيما يخضع بعض هذه المواقع للضربات الإسرائيلية المجازة من الروس والأميركيين، ويزداد المقسم تقسيما بين الميليشيات الموالية له وبين شبيحة النظام نهبا وخطفا من أجل الخوات والفدية المالية؟

حال الإنكار التي رافقت سلوك النظام السوري منذ عام 2011 تجعل أزمته تتعاظم على رغم إنقاذه من السقوط بسبب المعادلة الإقليمية الدولية التي جعلت سورية في قلب الصراع على النفوذ في المنطقة، وفي أوروبا، بين واشنطن وموسكو، وبفعل الضعف العربي في مواجهة التوسع الإيراني في العقد الماضي. بل أن حال الإنكار لوجود معارضة ضد استبداده تعاظمت نتيجة تلاقي عوامل أقوى من قدرة الشعب السوري على التغيير. بات ينسب لنفسه قوة الدول التي استخدمته في صراعاتها الجيو سياسية، في وقت أخذ الإمعان في تدخلها لتحقيق مصالحها، يُخضع سلطته الهشة لإمرتها، أو للصراعات بينها، وساحته لتناحرها، من أجل أهداف لا علاقة لها بسورية نفسها.

حال الإنكار التي ألبسها نظام الأسد عباءة محاربة الإرهاب بعد أن ساهم في صنعه، وأوهم نفسه بأنه حقق انتصارا عليه، جعلته يتفاجأ بأنه غير قادر على تأمين الوقود في دمشق، وعاجز عن ضمان وصول المواد الغذائية والكهرباء إلى مناطق سيطرته، نتيجة القطيعة الدولية معه والعقوبات.

مقابل الوهم بأن الدول ستتسابق من أجل استعادة العلاقة معه، والاستثمار في إعادة الإعمار، فوجئ أركان الأسد، بموازاة أضرار الحصار عليه وعلى إيران، بأن الدول التي كان ينوي «معاقبتها» بعدم إشراكها في عقود الإعمار أخذت تتهيأ لمحاكمته بجرائم الحرب التي ارتكبها لأن بعضها يجمع الأدلة الجدية على تلك الجرائم، بموازاة سعي الأمم المتحدة إلى تفعيل الجهود من أجل الحل السياسي وفق قرار مجلس الأمن الرقم 2254 وفي صلبه تحقيق الانتقال السياسي. ومع مكابرته حيال الدول العربية بأن عليها أن تتوسل إليه من أجل عودته إلى الجامعة العربية، باتت هذه الدول تضع الشروط القاسية عليه قبل البحث في استعادة مقعده إلى جانبها.

ومقابل إنكار جميل حليفه الروسي عليه، وانحيازه إلى إيران في لعبة تقاسم النفوذ، فوجئ بأن موسكو باتت تنظر بازدراء إلى غرق حكام دمشق في وهم القدرة على حكم سورية كما لو أن ما مرت به منذ عام 2011 لم يحصل. فالمسؤولون الروس انضموا إلى القناعة بأنه يستحيل إدارة سورية كما كانت تدار قبل اندلاع الحرب فيها، وأن على نظامها أن يتغير، هذا فضلا عن أنهم لم يعودوا يستسيغون أن تقاسمهم طهران النفوذ في الميدان السوري، كما كانت الأمور أثناء المراحل السابقة للحرب. بل أن الدب الروسي عقد العزم على منع طهران من الإفادة من التسهيلات التي يمنحها إياها النظام، بدءا من غضه النظر عن توسيع انتشارها في جنوب سورية (الذي ينتظر أن تسعى موسكو إلى «تشذيبه» من الوجود الإيراني في المرحلة المقبلة مع أخذ مصالح إسرائيل في الحسبان) مرورا بمنعها من الحصول على منفذ إلى البحر الأبيض المتوسط عبر إدارة مرفأ اللاذقية… وصولا إلى مواجهة هيمنتها على الفرقة الرابعة في الجيش مقابل النفوذ الروسي على الفرقة الخامسة، التي تزداد عددا وعتادا.

وعلى رغم قول وزير الخارجية سيرغي لافروف أول من أمس أن «مسار أستانة أنسب آلية عمل لحل الأزمة السورية»، فإن لقاءات العاصمة الكازاخية لم تعد صالحة إلا لتنظيم تزاحم النفوذ بين موسكو وطهران وأنقرة، بدلا من السعي إلى الحل السياسي. إيران تسعى لإفادة منه في العلاقة مع تركيا من أجل ضمان وصول نفطها إلى سورية لكسر الحصار. وتركيا تعمل على استثماره بموازاة تنسيقها مع واشنطن، من أجل إجازة سيطرتها على الشمال السوري وشرق الفرات. أما نظام دمشق فإنه لا يسمع ولا يرى.

الحياة

خلفيات البحث الروسي عن «مسألة أقليات»/ بهاء أبو كروم

بعد انتهاء الحملة الأميركية على «داعش» في شرق سورية، تصاعَدَ الحديث عن مصير الأقليات وأهمية تحالفاتها وتثبيت حماياتها في المنطقة. وفي مقابل استراتيجيا الحوار والتفاهمات العميقة التي يتّبعها كل من الكرسي الرسولي والأزهر الشريف، سعياً منهما إلى تثبيت ركائز العلاقة بين الأديان على أسس من شأنها مواجهة أشكال التطرف بشقيها الإسلامي والمسيحي، يتضح أن مساراً مُختلفاً من حيث المُنطلق والأداء أخذ يتمدّد على قاعدة إشكالية الأقليات التي تسعى روسيا من خلالها إلى تقوية حضورها المجتمعي والثقافي في المنطقة. ويسعى أصحاب هذه النظرية إلى انخراط روسي أكثر فاعلية لجهة تأمين الرعاية والحماية في سبيل إعادة إنتاج المسألة المشرقية.

وإذ تُعيد المقاربة الروسية وملحقاتها أسباب التطرف إلى روافد وجذور تتعلّق بثقافة الغالبية، وتنظر إليها كتهديد يُحدق بالطوائف الصغيرة وبالمسيحيين، من زاوية الطغيان الأكثري الإسلامي، فإن من شأن الاشتغال على ذلك أن يَخلق موضوعاً قومياً دسماً في الداخل الروسي تتحلّق حوله مبررات السياسة الخارجية وتُغطّيه الكنيسة.

طبعاً، لا تختلف هذه الفذلكة مع الأسس التي قامت عليها نظرية صراع الحضارات، حتى لو تمايَزَ الروس في قراءة أسباب التنافر بين الحضارات، وأعادوا بعضها إلى حملة جورج بوش الإبن على أفغانستان ومن ثم العراق، وما حملته تداعيات وصف تلك الحروب بأنها بمثابة «حملة صليبية».

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت الأرضية تتسع لعقائد بديلة حاولت ملء الفراغ الناجم عن سقوط الشيوعية والتعامل مع انتصار النموذج الليبرالي في العالم. وظهرت معالم بديل إسلامي يحاول إعادة إنتاج معادلة شرق – غرب. لكن روسيا ذاتها، التي انتقدت صراع الحضارات، عادت وارتكبت نفس الخطيئة عندما وصفت كنيستها الحملة العسكرية على سورية بأنها «حرب مقدسة»، على الرغم من أن هذا المصطلح، بالنسبة إلى الروس، لا يحمل كل تلك المعاني التي تختزن الصراع العقائدي على امتداد العالم، أو تُقسّمه إلى فسطاطين. إذ سبق لهم أن أطلقوا صفة «الحرب المقدسة « على صراعهم مع النازية خلال الحرب العالمية الثانية. لكن روسيا تحرص في الوقت ذاته، على تقديم نفسها حامية لطوائف وأقليات في منطقة تطغى عليها «أكثريات» أخذت تتصادم مع حلفاء موسكو في عام 2011.

إن تطوّر المسوغات التي قامت على تبرير التدخل الروسي في سورية، جرتّ الكنيسة الأرثوذكسية إلى استلحاق السقف السياسي لحملة الرئيس بوتين، خاصة مع بدايات هذا التدخل، حين ظلّ يتكتّم حول الأهداف الحقيقية لحملته العسكرية وألبسها ثوب محاربة الإرهاب.

واليوم، ترسم الكنيسة الروسية مساراً يقوم على التمايز الاستراتيجي مع الكنيسة الغربية التي قادت البابا فرنسيس إلى التوقيع على وثيقة «الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك» مع شيخ الأزهر الشريف في دولة الإمارات. وتكمن أهمية هذه الوثيقة في كونها تجاوزت موضوع الأقليات، وأعادت تعبيراتها إلى نمط ماضوي يحول دون تكريس الشراكة والأخوة واحترام المواطنة والمساواة. ودعت إلى التخلِّي عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح «الأقليات» الذي يحمل في طيَاته الإحساس بالعزلة والدونيّة.

في خلفية أداء السياسة الخارجية الروسية، يلعب الإرث الأرثوذكسي دوراً مُحفّزاً لمقولة «حماية حقوق الأقليات» في استنساخ للدور الذي لعبته الشيوعية في تأمين المُبرّر العقائدي للسياسات الإمبراطورية في الخارج. علماً أن روسيا أسّست لهذا الدور تقليدياً منذ قيام الدولة العثمانية ودخول محمد الفاتح إلى القسطنطينية حيث كان الأرثوذكس أول طائفة يجري تنظيمها في إطار نظام الملة العثماني، وصولاً إلى إبرام معاهدة «كينارجة الصغرى» مع روسيا في عام 1774.

قبل ثلاث سنوات من دخوله إلى سورية، وَصَفَ الرئيس بوتين تحولات ما يسمى «الربيع العربي»، في مقال له نشر في عام 2012، بأنها «تطوَّرَ في سيناريو غير مُتحضّر. فبدلاً من حماية حقوق الأقليات، يتم استبدال هيمنة قوة واحدة بقوة أكثر عدوانية منها». ويكشف هذا التوصيف حقيقة فهم الروس للتحولات المُتحضّرة في المنطقة بأنها تقتصر على تلك التي تدّعي حماية حقوق الأقليات فحسب!

واليوم ،تقف روسيا أمام تحدٍ جديد يتعلّق بتعقب حركة الخارجين من شرق سورية من بقايا «داعش» والوجهة التي يذهبون إليها. خاصة مع عودة آلاف المقاتلين إلى بلدان آسيا الوسطى بالتزامن مع تقوية وجود «داعش» في شمال أفغانستان. وسبق لموسكو أن برّرت خروجها إلى سورية لتوفر على نفسها عناء محاربة الإرهابيين في روسيا أو الجمهوريات المحاذية.

إلا أن سياقاً خطيراً بدأ يتّضح بعد نجاح بوتين في تكريس نفسه كحلقة الوصل الضامنة لمشروع حلف الأقليات الذي يجمع نتانياهو ببشار الأسد ومن خلفهما إيران، طبعاً مع بعض المُلحقات اللبنانية التي تعتاش على هذه النظرية وتبحث عن تحالف مشرقي يجمع الأقليات ويُورّط المسيحيين بنظريات لا تؤمّن لهم حضوراً مستقراً في إطار التعددية مع سكان المنطقة. ذلك أن التجارب التي قامت على الحمايات الخارجية غالباً ما استندت إلى معطيات غير مُستدامة.

الخلاصة السياسية لهذا الحلف الجهنمي، كشفتها الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى موسكو وتسلّمه رفات الجندي الإسرائيلي الذي قتل خلال اجتياح لبنان في عام 1982 وإعلان الخارجية الروسية، أثناء الزيارة، بأن رحيل الأسد «صفحة طواها الجميع».

وفي موازاة المسار السياسي، رسم البُعد الاقتصادي لنفسه إطاراً موازياً. إذ أن لروسيا مزايا تستطيع من خلالها النفاذ إلى النقاط الاقتصادية الرئيسية في المنطقة. بدءاً من النفط والغاز في سورية ولبنان وإعادة إعمار سورية، وصولاً إلى النزاعات النفطية في البحر المتوسط.

أن إمساك بوتين بعلاقات مميزة مع مثلث تركيا – إسرائيل – إيران، يمكن أن يخلق مساراً اقتصادياً قوياً في ظل انشغال الولايات المتحدة في التصعيد ضد إيران، وحاجتها إلى حياد روسي مدفوع الثمن في حقول النفط والغاز شرق المتوسط، عدا عن النظر إلى دورٍ وازنٍ لملء الفراغات التي قد تنشأ نتيجة تراجع إيران في المنطقة.

* كاتب لبناني.

الحياة

الكُرد وروسيا:تاريخ من الخيبات/ إياد الجعفري

كمٌ كبيرٌ من التنديد واللوم الموجه لروسيا، ملأ بيانات مسؤولين كُرد بشمال شرق سوريا، خلال الأيام القليلة الفائتة، بصورة توحي بأن القادة الكُرد راهنوا حقاً على أن روسيا قد تضغط بشكل جدّي على نظام الأسد، وتُعرّض مصالحها مع تركيا وإيران للخطر، كُرمى للحلم الكُردي في الحكم الذاتي.

فالبيانات الصادرة عن “الإدارة الذاتية الكردية” مؤخراً، تشعرك وكأن مسؤوليها لم يقرأوا تاريخهم القريب جداً، الذي يعود فقط إلى خريف العام 1998 حينما وصل رمزهم، عبد الله أوجلان، إلى موسكو بأوراق سفر مزورة، ليطلب اللجوء في بلدٍ ربطته به علاقات تاريخية وطيدة، ناهيك عن المُشترك الآيديولوجي الذي جمع أوجلان بقادة روس كبار، من بينهم، يفغيني بريماكوف، الشيوعي السابق، ورئيس الوزراء الروسي حينها. لكن كل ما سبق لم يكن كافياً كي يقبل بريماكوف بتعريض العلاقات الروسية – التركية للخطر. وخلال 20 يوماً فقط، طُلب من أوجلان المغادرة، رغم تصويت غالبية 299 نائباً من أصل 300 نائب في مجلس الدوما، لصالح قبول طلب لجوء أوجلان. وغادر أوجلان موسكو، في رحلة تشرد كانت نهايتها في كينيا، حيث اعتُقل على يد المخابرات التركية، ليقبع في السجن حتى اليوم.

قِيل حينها أن بريماكوف كان يراهن على عقد غاز مُغرٍ مع تركيا. يومها كانت استراتيجية الشراكة في تصدير ونقل الغاز عبر تركيا، ما تزال مجرد فكرة وليدة. وكان أوجلان أقل قيمة في نظر الروس من تلك الفكرة. أما اليوم، فتشكل استراتيجية الشراكة مع تركيا في نقل وتصدير الغاز، واحدة من أولويات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وبالتالي، نستطيع أن نتخيل، بالمقارنة مع ما حدث عام 1998، الفرق بين وزن العلاقة مع الكُرد، ووزن العلاقة مع تركيا، في حسابات فلاديمير بوتين.

لكن، إذا تعمقنا أكثر في تاريخ العلاقة بين روسيا والكُرد في المنطقة، سنكتشف أن القضية ليست قضية غاز فقط، بل هي نظرة ثابتة ومستقرة، ترى فيها روسيا أي تعاون لها مع الكُرد، تعاوناً ظرفياً، لأهداف تكتيكية، ومؤقتة. ففي كل منعطف تاريخي، كان على روسيا المفاضلة فيه بين علاقتها مع تركيا أو إيران، وبين علاقتها مع الكُرد، كانت تفضل الأولى. ولم يحصل العكس أبداً، إلا في حدود استخدام الكُرد لمضايقة تركيا وإيران، بصورة مؤقتة وظرفية.

لم تذهب روسيا أبداً حتى النهاية في علاقاتها مع الكُرد، بصورة تهدد علاقاتها مع الإيرانيين والأتراك. وهذه قاعدة تنسحب على مدة زمنية ترجع إلى بدايات القرن التاسع عشر، باستثناءات محدودة تثبت القاعدة بدلاً من أن تنفيها.

فحتى خلال فترة الحروب الروسية – التركية، في العهد القيصري (القرن التاسع عشر)، حينما استخدم الروس مقاتلين أكراد ضد الأتراك، لم تذهب الإدارة القيصرية إلى حدود دعم الحلم الكُردي بالاستقلال عن الدولة العثمانية. بل على العكس، خيبت روسيا القيصرية آمال قادة كرد حيالها، رغم مغازلتهم المتكررة لها، ورهانهم عليها، والذي امتد عقدين من الزمن.

وحتى خلال الحرب العالمية الأولى، لم تدعم روسيا القيصرية مساعي الكُرد للاستقلال عن الدولة العثمانية. وبعد الثورة البلشفية، بقيت استراتيجية بناء علاقات وطيدة مع تركيا، مُقدمةً في نظر قادة روسيا الشيوعية، على دعم حركات انفصالية كردية.

ورغم أن مؤرخين يصفون الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، بأنها الفترة الذهبية للعلاقة السوفيتية – الكردية، حينما دعمت موسكو لفترة وجيزة، الملا مصطفى البرزاني، بالسلاح والخبرة القتالية، إلا أن ذلك كان أقصر من أن يُلحظ في تاريخ السياسة الروسية الممتدة لقرنين، تجاه المسألة الكردية. وكان هدف الدعم السوفييتي للكُرد حينها، الضغط على حكومة نوري السعيد في بغداد، الموالي للغرب. إذ سرعان ما رجحت كفة العلاقة مع العاصمة بغداد، في ميزان المصالح السوفييتية، على العلاقة مع حركة البرزاني الانفصالية، بعد انقلاب عبد الكريم قاسم، عام 1958. وبقيت هذه المعادلة هي السائدة، خلال فترة حكم صدام حسين، رغم الدور السوفييتي في التوسط مع بغداد لإنشاء حكم ذاتي للكرد في شمال العراق عام 1974. وحتى بعد الغزو الأمريكي للعراق، وازدياد استقلالية إقليم كردستان العراق، ودخول شركات نفط روسية على خط الاستثمار فيه، بقيت الكفة ترجح لصالح العاصمة بغداد، ولصالح العلاقات مع إيران وتركيا، في وجهة النظر الروسية حيال المسألة الكردية. وظهر ذلك جلياً في الموقف الروسي عشية استفتاء الاستقلال في كردستان العراق في خريف عام 2017.

أما في التجربة الكردية السورية، فيكفي أن نذكر الضوء الأخضر الروسي الذي سمح بدخول تركيا إلى عفرين، بوصفه أكبر دليل على صعوبة تخيل رجحان كفة العلاقة مع الكرد على كفة العلاقة مع تركيا في ميزان الحسابات الروسية.

بعد الاستعراض السابق، تُصاب بالصدمة حينما تقرأ في بيانات مسؤولين كُرد في الإدارة الذاتية بشمال شرق سوريا، أن روسيا خيّبت آمالهم، وأنها فضّلت مصالحها مع تركيا على علاقاتها معهم! لكن، هل فعل الروس بهذا الصدد شيئاً لم يفعله الأمريكيون؟ فقط للتذكير فإن واشنطن لم تدعم استقلال إقليم كردستان العراق، قبل أقل من سنتين فقط، رغم حلفها الاستراتيجي الوثيق مع أربيل، مراعاةً لمواقف وأوزان كل من إيران وتركيا، في المنطقة. فهل ينتظر قادة كُرد من روسيا، ما لم تفعله أمريكا؟!

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى