وجها لوجه

حوارين مع ريم يسّوف

ريم يسّوف: الفنان السوري ضحية تهديد العنف كأي مواطن

عماد الدين موسى

تؤكد الفنانة التشكيليّة السوريّة ريم يسّوف في هذا الحوار الخاص أهميّة المعارض الجماعيّة، كونها “تغني تجربة الفنان فيما يتعلق بالتواصل مع الآخر”، عدا عن أنها “تفكيك لحالة العزلة التي يعيشها مع العمل الفني داخل المرسم لفترات طويلة”.

ريم يسّوف، المولودة في دمشق سنة 1979، تخرجت من كلية الفنون الجميلة قسم التصوير بجامعة دمشق سنة 2000. ومنذ ذلك الحين أقامت العديد من المعارض الفردية والجماعية في كلٍّ من سورية، الأردن، لبنان، لندن، فرنسا، إيطاليا، هولندا، ألمانيا، قطر، دبي، الكويت، واشنطن، ولندن.

تم اختيار لوحاتها من قبل العديد من المجلات الثقافية والأدبية والكتب الشعرية والأدبية كمجلة the wolf لندن 2013، واليونيسكو كغلاف لكتاب المدرسة الصيفية للأطفال 2014، ومجلة مركز الأبحاث في العلوم الإنسانية والاجتماعية في فرنسا IISMM 2017

تفكيك حالة العزلة

تقول ريم يسوف إن مبدأ عرض العمل، إن كان فردياً، أو مشتركاً، هو فعل تشاركي مع الآخر. فالعرض الفردي هو نتيجة العمل على المضمون الفكري، أو التقني، نتيجة لتجربة مرحلة عمل معيّنة يمر فيها الفنان، ويحدّدها بنفسه، وباستقلالية كاملة، بطريقة تقديم هذه التجربة. بينما المعارض أو المشاريع المشتركة هي داعمة أيضاً لتجربة الفنان والعمل الفني، من خلال مجموعة من الفنانين، تحت عنوان واحد، وضمن مشروع موحّد، بالرغم من أن هذا لا يمنع استقلاليته الفكرية بتقديم ما ينتجه. ولكنها أيضاً تغني تجربة الفنان بمعالجة التواصل المشترك مع الآخر، وإمكانية تحقيق هدف المشروع القائم باختلاف وتنوع آلية طرح العمل لدى كل منهم ومواجهة جمهور واسع في آن واحد، وهي أحد وجوه تفكيك حالة العزلة التي يعيشها الفنان مع العمل الفني داخل المرسم لفترات طويلة وتعزيز المشاركة الفكرية. كذلك تمنح نوعاً آخر من التواصل مع اختلاف المتلقي فكرياً وتنوّع أكبر للثقافة البصرية.

تسمية العمل الفنّي

نسأل ريم عن أهمية تسمية اللوحة على غرار النصوص الأدبيّة، فتقول “أنا مع تسمية المعرض كعنوان لمشروع فني خلال تجربة الفنان مع عمله المستمر وأرشفته، ويمكن أن نعتبر التسمية مفتاحاً مبدئياً لقراءة الأعمال فكرياً من وجهة نظر الفنان نفسه أولاً. وهذا ليس مبنياً على قاعدةٍ للحكم على أي عمل لتقييم مستوى العمل بحد ذاته كقيمة فنية. وبشكل شخصي لا أميل إلى تسمية كل عمل على حدة، وإنما تقديمه تحت اسم مجموعة ينتمي لها تتبع لتجربة أو مرحلة أعمل على بحثها فقط، باستثناء بعض الأعمال التي أنتجها بشكل مستقل، إما لمعرض معين أو مشروع مشترك مع فنانين آخرين ربما أو لسبب معين ينشأ تحت التجربة بالعمل نفسه وبسببه. وبخروج العمل الفني من مرسم الفنان يصبح أمام تلقي شريحة واسعة لتحكيمه وتقييمه فيترك العمل لعنونة نفسه حراً أيضاً”.

العنوان، بحسب ريم، هو أحد أدوات وصف المشروع أو وضعه تحت توصيف يتيح للفنان طرح فكرة تقديمية كمفتاح بسيط لقراءته من الناحية السببية؛ ولكن هذا لا يجعل من العمل أكثر أو أقل أهمية على المستوى الفني والتقني بالعموم.

استحضار صور دمشق القديمة

تقول يسوف انه لا يمكن إنكار تأثير المكان على الفنان، أولاً من الناحية النفسية والبصرية ثم من ناحية انعكاسه على العمل الفني. ويبدأ من فكرة المساحة التي تعطي حرية العمل والتجربة في حالة الاستقرار النفسي والمادي للفنان مروراً بالمدينة (المكان) والضوء والطقس وانطباع حالة الشارع على وجوه المارة. وهناك أمثله شخصية خلال التاريخ في مذكرات وأعمال معظم الفنانين في العالم، وهو ما ينطبق أيضاً على الفنان السوري إن كان في الداخل أو ممن أجبرته الظروف الراهنة على الهجرة وتغيير الكثير من البلاد. ولكل مكان طابعه الثقافي والاجتماعي والبصري أيضاً الذي يصنع تأثيره على وضع بحث الفنان، وهذا لا يمكن إنكار تأثيره بشكل مباشر أو غير مباشر على فكره وعمله.

وحول أثر المكان على عملها، تقول يسّوف: “كان للمكان تأثيره الجليّ على عملي في بعض الأحيان، حيثُ البحث عن حل للاستمرار فقط تحت أي ظرف من الظروف كي لا تكون عقبة على عملي الفني والتحريض على استمرارية البحث والتجربة، مع تأثير الحدث اليومي عليّ أولاً والوضع العام كاستخدام المواد المتاحة بمكان تواجدت فيه، وعشت تجربة مختلفة معه. وأحد الأمثلة البسيطة لتأثير المدينة التي أعيش بها الآن على عملي، كان في بداية حياتي في فرنسا ولوضع سكني الأول داخل مركز المدينة القديمة الفرنسية، في شقة تطل على تفاصيل هذه المدينة من نافذة صغيرة كنت أترقب منها شعور دفء هذه المدينة وبرودة وحدتها بنفس الوقت التي تفرضه لياليها الباردة في الطرقات وطقسها المختلف تماما عن بلاد الشرق. فكان العمل الأول الذي نفذته عبارة عن استرجاع ذاكرة أطفال من سورية فقدوا مفهوم منزل العائلة تحت حضور العنف اليومي والفقد في تفاصيل حياتهم، هذا من ناحية التحريض الفكري كذاكرة والتحريض البصري اليومي الذي ظهر كسبب لأول عمل فني كان في بداية حياتي الفرنسية، ولاستحضار الشكل المعماري لهذه المدينة تطابقا لذاكرتي بالشكل المعماري لمدينة دمشق القديمة بخطوطها واتكاء جدرانها، وكان هناك تأثير واضح على بناء تكوين العمل من ناحية هندسية وخطوط متقاطعة، وهو أحد أوجه بناء علاقة أولية مألوفة مع هذه المدينة الهادئة والبعيدة عن أي ألم لدى مثيلتها دمشق وباقي المدن السورية”.

الانفتاح والحريّة الفكريّة

ترى يسّوف أن تجارب التشكيليات السوريات غنية جداً على المستوى الفكري والتقني ولا يمكن فصل الفنانات عن الحركة الفنية التي تؤرشف حالة ثقافية عامة. وكان هذا خلال تاريخ الفن السوري بالعموم، لكن أيضاً خلال ما نمرّ به حالياً وخصوصاً حراك الفن السوري الحالي بكل اضطراباته ومحاولة استمراريته والتطوير بآلية التعبير وتحديداً بعد الثورة، حيث أثبتت الكثير من الفنانات أنهنّ يملكن الحرية الفكرية وأنهن منفتحات على تجارب فنية حرة ومنفتحة على مستوى الفكرة والمادة، وبذا أثبتن دوراً وحضوراً لا يمكن إنكاره.

وتضيف: لا يمكن وصف تجربة كاملة بأنها الأقرب إليّ ولها الأثر الأكبر، ولكن يمكن وصف

أفضلية تجربة فنان بمرحلة معينة على فنان آخر، وهذا أيضا يعود لتأثير اكتشافي أو اطلاعي على فنان والتعمق بتجربته، بسبب تجربتي في كل مرحلة مررت بها منذ دراسة الفن وحتى الآن، ولكن هذا لا ينكر أن هناك أعمالاً لفنانين خلال تاريخ الفن، إن كان تاريخ الفن العربي أو العالمي، كان لها الأثر في تحريضي على البحث وبداية تأسيس مفهوم العمل الفني لديّ فكرياً وتقنياً، لكن كانت مشكلة التواصل مع الفن محدودة من خلال بعض الكتب المتاحة فقط أو بعض المعارض المتاحة والقليلة للفنانين السوريين الموجودين داخل دائرة معينة محدودة وتحت ظروف مشروطة، وعدم تواجد تنوع لمتاحف الفن كمنصة لاستضافة تجارب فنية، وكتبادلٍ ثقافي مع متاحف أخرى في العالم، وكتحريض للفنان على المعرفة والبحث بمفهوم العمل كوجهات نظر مختلفة ومتنوعة، تعتمد على متابعة تاريخ المدارس الفنية المعاصرة خارج دائرتنا الضيقة. ولكن بعد انتهاء دراستي ومن ثمّ السفر، كان لموضوع التأثر بالنسبة لي مفهوم آخر مما كنا نعاني منه كحالة عامة عند معظم الفنانين، وكان مفهوم البحث والتجربة أكثر حرية ومغامرة مع المادة ومع الذات أيضاً.

الفنانون الروّاد

من جهةٍ أخرى ترى يسوف أنّ تجارب الفنانين الرواد من أمثال فاتح المدرس والياس زيات ونذير نبعة ومروان قصاب باشي وغيرهم العديد خلال تاريخ الفن السوري ومسيرة الفنانين منذ البداية وحتى الآن، أثرت على حضور الفن السوري بمفهوم العمل والتجربة ونوع من محاولة طبع هوية الفنان السوري ابن هذه المنطقة خلال مراحل مختلفة، من خلال العمل الفني ومن خلال تأثير تاريخ المنطقة أو الثقافة الاجتماعية وغيرها من التأثيرات اليومية على أبناء

المرحلة وانعكاسها على مواضيعهم المطروحة، وما زال لبعضها حضور واضح حتى يومنا هذا. كما أن تأثيرها واضح على بعض التجارب الفنية الشابة كبداية لمرحلة اكتشاف الذات قبل الانتقال لمرحلة فردية خاصة وهوية بصرية لكل منهم داخل حركة الفن السوري أولاً وتمييزهم ضمن الحراك الفني خارج الخريطة. وهناك بعض التجارب لفنانين شباب بدأوا محاولة التحرر من مرجعيات ثقافية معينة، نظراً لسهولة التواصل مع العالم والتجارب العالمية من خلال عالم النت أولاً ومحاولة ترجمتها كبدايات جدية، رغم أنها ظلّت خجولة نظراً لضعف القاعدة الأساسية لدعمها، ولكن ظهرت ذروتها ما بعد الثورة (سنة 2011) بشكل عام وظهرت حالة العطش لاكتشاف الذات والآخر من خلال الفن لمعظم الفنانين الشباب وخاصة لمن اضطرته الظروف للهجرة والانخراط بثقافات أخرى، رغم كل الصعوبات النفسية والمعيشية التي تواجه معظمهم. وقد أصبح الفن السوري والفنان السوري تحديداً تحت تأثير تغييرات، إجبارية كانت أو اختيارية، لانفتاحه وتحريضه على التعامل مع العمل الفني بإيجاد طرق مختلفة للتعبير والبحث بأكثر حرية مع المادة في بعض الأحيان أيضاً. ولا يمكن تحديد نتيجة نهائية لهذه المراحل بالوقت الحالي ولكن هناك إمكانية مراقبتها بشكل جدي واستنتاج الفنانين بمختلف مستوياتهم وأجيالهم مع الوقت لتصنيف تأثيرهم على مفهوم العمل وتطوير حركة الفن السوري في المستقبل.

تأثير الصدمة

“إلى أي درجة ترجمت لوحات الفنانين السوريين الواقع المأساوي وما يجري على الأرض؟”؛ نسأل ضيفتنا، فتجيب: “إن ما يؤلم هو أن الواقع السوري الموجع لم يتوقف حتى هذه اللحظة، وبرأيي الشخصي كان الفنان السوري أحد ضحايا تهديد العنف كأي مواطن سوري، وهو شاهد حيّ على ما يحدث من مجريات في الواقع السوري اليومي، إن كان في الداخل أو الخارج، وحاولت الغالبية منهم التعبير عن صوتها الخاص بالرفض، وكذلك التعبير عن الذات وإيصال صوتها بطريقة ما، وكان لبعض التجارب طرحها الواضح والمباشر تحت تأثير الصدمة،

والبعض اختار طرقاً أخرى للتعبير”.

“وهل من الممكن أن يؤدي ذلك إلى تشكيل ثقافتين سوريتين، واحدة في الداخل وواحدة في المهجر؟”؛ حول ذلك تقول ضيفتنا: “أعتقد أن الثقافة التي يمكن وصفها بالداخلية هي نتيجة خليط ما مر به المجتمع والمنطقة من أحداث خلال تاريخهما سابقاً وحتى اليوم، من يوميات وتفاصيل، وما طرأ من تغيرات وتعديلات بحسب الظروف السياسية والاجتماعية. ومن في الخارج هو أيضاً يحمل مما سبق في ذاكرته، إضافة إلى تأثره بثقافات مختلفة ومختلطة تحت تأثير مجريات تاريخيّة لهذه البلاد من حروب وظروف سياسية واجتماعية حالية أيضاً. وقد تكون صادمة للبعض، بينما محرضة للبحث والمعرفة للبعض الآخر. ما أتمناه هو أن تكون الحالتان، الداخلية والخارجية حسب الوصف العام، منقذتين لبعضهما ومكملتين وليس فقط لتصنيفهما وعزلهما، في كل ما يتعلق بمقاومة ذاك الشرخ الكبير والخلل لمفهوم الثقافة وحمايتها، لأنها أحد ركائز أحلامنا لتحقق سورية حريتها الكاملة”.

ضفة ثالثة

ريم يسّوف: مع بداية الثورة أصبح لمنجزي البصري علاقة مباشرة بالواقع

تؤكد التشكيلية السورية ريم يسّوف، أنّ الأعمال الفنّية، هي نوع من مقاومة عنف تشبث بذاكرتنا اليومية. وهي ترى أن الفن هو “فكر أولا وثقافة شعب”.

ريم (1979)، خريجة كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق سنة 2000، وهي تقيم في فرنسا حالياً، ومنذ بداياتها في عالم اللون وهي ترسم كما لو أنها تحلم، إذ يتداخل الواقع والخيال في لحظة هي ذروة الانهماك والحوار بين الفّنانة وقماش اللوحة الأبيض. وفي الحوارية بين أبجدية الألوان والقماش والفرشاة المشحونة بالعاطفة تتخلق لوحاتها بين يديها. ومنذ انطلاق ثورة شعبها في آذار/ مارس 2011 من أجل الحريّة والعدالة والكرامة، بدأت ريم مرحلة جديدة في تجربتها، إذ تبلور أسلوبها، فصارت الألوان أكثر شفافية، كما لو أنها تقول إنها تواجه بالرسم وتلك الألوان الشفيفة آلة الدمار والظلام والموت التي تفتك بالسوريين.

أجرينا معها هذا اللقاء حول معرضها الأخير الذي أقيم في عمّان مؤخرًا.

«حكاية قبلَ النوم»، هو عنوان معرضك الأخير في “غاليري المشرق” في عمّان 2016، ما هي فكرته وهواجس اشتغالك عليه؟

معرض «حكاية قبل النوم»، هو استمرارية لمشروعي الفنّي، ولكن برؤية مختلفة نتيجة لاختلاف مفهوم تفاصيل حياتنا اليومية وانعكاساتها على تجربتي.

اختلفت رؤيتي للتجربة الحالية، انعكاسًا لموقعي الجغرافي الأكثر بعدًا عن وطني، والعودة والانطواء لتفاصيل الذاكرة أكثر ومحاكاتها من خلال اللوحة، وهو نوع من الاستهزاء من محاولة تحويل حكاياتنا المؤلمة إلى حكايات يتناقلها العالم، لمواد توثيقية وتعدادية لما يحصل لنا من تشويه للذاكرة والمستقبل.

حمل معرضك الشخصيّ الأول بعمّان في 2013 عنوان «حوار»، ليحمل الثاني في العام التالي عنوان «رسالة طفل» في بيروت، وحمل الثالث في باريس عنوان «نسائم باردة» نهاية 2014، فيما جاء معرضك الأخير بعنوان «حكاية قبلَ النوم»، سؤالي: كيف تختارين عناوين معارضك؟

بعيدًا عن الحديث عن عملي من الناحيّة الفنّية بالمفهوم التقني والتجربة التي من خلالها يتم عنونة المعرض كمشروع، بحيث هو تاريخ أو توثيق لمرحلة مرت بها لوحتي. فإني أشير إلى أنه مع بداية الثورة أصبح لمنجزي البصري علاقة مباشرة بالواقع الذي نعيشه، إحساسي كسورية جزء من الشارع السوري، يدعوني لترجمة صوتي أولاً، وما لذلك من أثر على إنتاجي كفنانة ثانياً.

المعرض الأول في عمّان «حوار» 2013 هو استمرارية من البحث بعالم الأبيض وتقنياته، فكان المعرض نتيجة مرحلة ردة الفعل في وجه الموت لحياة الكثير من الأطفال نتيجة العنف، ونوع من الثورة الذاتية في عالمهم الخاص ومحاولة البحث عن صوت يسمع لأبعد ما يمكن.

أما معرض «رسالة طفل» 2014 في بيروت، فكان سبب تسميته هو إضافة “تقنية الكولاج” إلى اللوحة خلال مرحلة تطورها بأنواع مختلفة من الورق وتدرجاته البيضاء، والتي كانت نتيجتها تجربة أضفتها لعالم اللوحة تقنياً، واختيار أحد رموز لوحاتي المتكررة بالكثير من أعمالي، وهي طائرة الورق وتصنيعها من الورق المستخدم داخل اللوحات ذاتها إلى طائرات ورقية، وقد اتخذتُ من إحدى صالات الغاليري فضاءًا لتركيب عمل “إنستليشن” بسيط بفراغ الغرفة، يعتمد إلى دخول الزوار إلى القاعة وتفاعلهم مع العمل بتسجيل رسائل وتعليقها على الطائرات الورقية المعلقة، فكانت النتيجة وجود عدد كبير من الرسائل، وهذا مذهل وقد فاجأني جدًا.

أما معرض «نسائم باردة» في باريس في نهاية العام 2014، فقد اشتغلت عليه في وقت كانت الطبيعة تمتاز بنسائم باردة جدًا وأنا أعمل على لوحاته بشكل متواصل، مع تتبعي الألم السوري والقلق والخوف من الخذلان، كل هذا مصطحبًا بصعوبات إجراءات السفر لمواطن سوري يحمل أعماله الفنّية لعرضها في بلد آخر.

وقد جاءت تسمية المعرض كاقتراح من الصديق والشاعر حازم العظمة بعد نقاش دار بيني وبينه بخصوص المعرض، فكانت تسمية المعرض بـ«نسائم باردة»، وصولًا إلى «حكاية قبل النوم» 2016 في عمّان مجددًا، ولكن هذه المرة دون أن أتمكن من حضوره.

ما الذي تغيير في هذه المعارض خلال السنوات الثلاث الماضية، من حيث المضمون والأسلوب والتقنيات؟

بالشكل العام بدأ اهتمامي واشتغالي المستمر منذ سنوات الدراسة بالجسد كحركة وأداة تعبير مع الإطار الخارجي، وبحثي بالتعبير عن المتحرك داخل الشكل الساكن، هذا على صعيد لعبة التكوين ومرورًا بتجارب عديدة للتقنية.

أما في العام 2011 مع النظر لدراسة اللون الأبيض كمفهوم وتقنية وتحويله للون أساسي يتنفس، وتخليصه من وجوده كلون مساعد لإظهار وتثبيت الأشكال والألوان ضمن فراغ العمل، وتخلصه أيضاً من صفة الساكن، كمن يحيي ميت داخل العمل، كان ذلك بالنسبة لي مقاومًا ومرافقًا مراحل الموت والألم اليومي.

الثورة، الحرب، الحصار، الموت جوعًا، التهجير القسري، الهجرة عبر قوارب الموت، اللجوء، المنفى، كيف انعكس كل هذا على إنتاجك الفنّي؟

بالتأكيد كان لكل ما ذكرت الأثر والتأثير الكبير، كان له أولًا تأثير على حياتي الشخصية، تُرجم بتحول همي الشخصي إلى هم عام، تلبية لاستدعاءٍ من الشارع ومن وصول الحراك إلى داخل مراسمي، وانعكاس ذلك على تفاصيل يومياتنا وأعمالنا، كرفع الصوت والكلمة من خلال أداة كل منا، وهذا أخذ بالتطور يومًا بعد يوم لنصل إلى ما حدث لنا الآن.

هذه الأحداث كانت في لحظات كثيرة سببًا لانعزالي لفترات والتوحد مع تفاصيل لوحتي والحوار، فأصبحت في أحيان كثيرة لوحاتي هي دائي بمراحل بنائها ودوائي عند نهايتها.

هل اضطرتك الثورة السورية إلى إعادة النظر في حياتك كفنانة؟

نعم، ويمكنني القول باختصار: أصبحت متعلقة أكثر بحريّة التعبير والمطالبة باحترامها المتبادل، وأؤمن أننا سنصل يومًا للعدالة، وأننا لن نموت بسبب مطالبتنا بالحريّة، ولكن المؤلم أن التاريخ يتكرر بعد كل مرحلة، والموت يتكرر ولكن الولادة أيضًا تتكرر..

تستلهمين أعمالك من الواقع العنيف، لتعبري بلغة فنية ذات شفافية، بجملة لونية تتكون من طيف الرمادي، أي دلالات فنية وشخصية لهذا الاختيار؟

بكل بساطة إنه التأثر وردة الفعل، أكثر منه التعبير عن الإلهام ، ولكن استخدامي للجسد بالتعبير داخل أعمالي خلال السنوات الطويلة، فقد كانت أهم أدواتي ولكنه تحول إلى جسد طفل، كسبب ونوع  من الثورة على الموت بحد ذاته، والبقاء في عالم الحريّة الحقيقي، الذي لا يفارق ذاكرة كل منّا بتفاصيلها ورموزها، ولكل منّا له خصوصيته بالتعبير.

ما هي أسباب اختيارك أن تكون مرجعيات موضوعات لوحاتك من عالم الطفولة ووداعته، للتعبير عن احتجاجك وغضبك على المقتلة السورية المستمرة منذ نحو ست سنوات؟

عالم الطفل هو الضحية الأولى والأخيرة، وقتل الأطفال أداة لترهيب نفوسنا، وقد عشنا فصول هذا الرعب منذ البداية وحتى اليوم، والصفعة الأقوى التي جعلت حياتي في منعطف آخر أمام مفهوم الإنسانية عندما تغول القتلة في الفتك بأرواح الجيل القادم، هذا الجيل الذي هو مستقبل سورية. فأعلنت كإنسانة وتشكيلية بمنجزي الفنّي رفضي لهذه المقتلة، وازداد شعوري بالغضب والخذلان بعد استخدام ضحايانا خاصَّة الأطفال منهم كأداة إعلامية، للمتاجرة بشعب عاش الموت خلال ست سنوات، ولازال في كل يوم هناك حكاية مؤلمة وخذلان جديد.

لم تعد اللوحة كبحث فني فقط بالنسبة لي على المستوى الشخصي طبعًا، إنما نمط حياة وصوت وأداة لرفض الموت والعنف والقتل الذي سكن نفوسنا جميعًا، كأحياء، ولكننّا أموات.

في معرضك هذا يلاحظ أن الطفولة -بعوالمها المختلفة- ليست موضوعًا للوحاتك وحسب، بل هي أسلوب في الرسم والتلوين، تبرز من خلال الأشكال والألوان والحركات الطفولية، ما هو تعليقك؟ 

كان البحث عن عالم السهل الممتنع بالمادة واللون والخط ولكن الأكثر تعبيرًا، بعد العديد من التجارب التي اقتربت فيها من النحت شكلًا والأحبار تقنيًا، فتوصلت من خلال التجربة، بمحاولة البحث عن المتلقي الطفل داخلنا لقراءة العمل الفنّي بالمفهوم العام من خلال الشكل والمضمون كجملة متواصلة، رغم خلوها من ألوان الطيف والألوان المركبة.

وماذا عن رأيك فيما ذهب إليه النقاد من أنّ “الفضاءً التشكيليّ لريم يسّوف غارق في ما يشبه الكوابيس والأحلام والأمل”؟

لم أكن يومًا أؤمن بتسمية عناوين لكل عمل فني لتحديد الرؤية، ولكن تسمية تجربة كاملة أو مرحلة أعيشها مع اللوحة منذ بداية عملي وتجربتي، وهذا يسعدني ويغنيني بتلقي جميع القراءات المختلفة والمتناقضة. فكما أؤمن بحريّة الفنّ أؤمن أيضًا بحريّة التلقي وقراءة العمل.

مرّت تجربتك الفنّية بمراحل ومحطّات، بدءًا من رموزها وعلاماتها، وصولًا إلى مضامينها الأساسية. حدثينا عن أبرز هذه المراحل – المحطّات.

منذ بداية دراستي للفنّ في جامعة دمشق لم أعمل على شكل واحد بمفهوم اللوحة الخاص من خلال المادة والتقنية، ولكن كان الجسد هو شغلي الشاغل للتعبير بالشكل والمضمون وبعلاقته مع ما حوله، وكل محاولاتي خلال تجاربي العديدة إن كانت باللوحة أو غيرها، فقد كانت تعطشاً ذاتياً ومحاولة لإغناء تجربتي الشخصية، قبل أي اهتمام بمرحلة الوصول لأي نتيجة ومن ثم عرضها، وكان لدوراني الدائم مركز هو اللوحة والعمل الفنّي.

في عام 2011 خلال وجودي في سورية، لم تعد اهتماماتي تركز على ما أملكه من أدوات ومواد ومكان، وإنما التركيز على تعبير العمل خلال اللحظة المتاحة، أما بابتعادي وخروجي من سورية، فقد تحولت جميع رموزي وموادي إلى مكان أعيشه وأعود به إلى الوطن مع من أحب، حتى برائحة تفاصيل الأماكن وأشخاصها، وازداد توحدي مع ازدياد انغماسي بتفاصيل عملي مع الوقت، إن كان بالذاكرة أو بالخبر أو بانتظار الغد.

لنتوقف عند تجربتك الفنّية مع الشعر، برأيك ما مدى استفادة الفنّ التشكيليّ من الفنون الأخرى اللغويّة والسمعيّة والبصريّة؟

بالتأكيد منذ محاولتي الأولى عام 2010 استمرت علاقتي مع الكلمة والشعر، بالذات في عملي الفنّي أكثر تفاعلًا وتواصلًا بإغناء التجربة، كالخروج من حالة تبادل الأفكار الذاتيّة في دائرة واحدة إلى عالم الحوار الممتع بلغاته، وهذا ينطبق بالعلاقة مع جميع الفنون، وهذا ما أثبتته العديد من التجارب الفنّية خلال التاريخ بأهميتها وقوة توثيقها أيضًا، لمرحلة يمر بها تاريخ الفنّ وتطوره وثقافة المجتمع بعلاقته بالفنون.

ما الذي تبقى في ذاكرتك عن دمشق؟ وعن مرسمك الذي تركته هناك؟

من أكثر الأسئلة المؤلمة التي لا يمكنني طرحها مع نفسي في الوقت الحالي، ولكن يمكن لعملي مع الوقت واستمراريته أن يتكلم.

هل أنت راضية عن إنتاجك الفنّي حتى الآن؟

لا أفضل التفكير بدرجة الرضى لدي لأنها تستدعي تجميداً للوقت والاستسلام له، فبكل بساطة أعتبر أن تجربتي وعملي على تطوير أدواتي أو الخوض في تجارب جديدة لا تنتهي بالنسبة لي، لأنني أترك للعمل القوة لتحديد اتجاهي، وأعتقد أيضاً أن لا أحد يملك نقطة النهاية ليتوقف عندها.

لو قيّض لكِ البدء من جديد، أي مسار كنت ستختارين؟

أعتقد أن إجابتي ستتعلق بشخصي الآن كريم يسّوف ، سأكرر بالتأكيد خياري لعالم الفنّ وبتجارب وأدوات أخرى أيضًا.

أخيرًا، ما الذي يشغلك هذه الأيام؟ وما هو مشروعك القادم؟

إلى جانب عملي المستمر مع اللوحة بالتأكيد، أعمل على محاولة جديدة لتطوير أدواتي من خلال المادة ومفهوم اللوحة كسطح إلى عالم أقرب للفراغ، ولكن سيكون فيها حضور النص أكثر وضوحًا وإبرازًا في اللوحة وبالتواصل مع المتلقي ضمن الفراغ، طبعًا أحتاج إلى المزيد من الوقت لإظهار النتائج والحديث عنها كعنوان.

رمان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى