سياسة

النظام السوري ومفهوم المعارضة/ حسين عبد العزيز

تضفي الأنظمة الاستبدادية على مفاهيم، مثل الديمقراطية، الليبرالية، المجتمع المدني، الإصلاح، المعارضة، معنىً يختلف جذريا عن معانيها الحقيقية، وفق صيغتها الكونية. مثالا، تختزل الأنظمة غير الديمقراطية، أو الاستبدادية، الديمقراطية بأنها مجرد عملية انتخابات، ووفقا لذلك، تغدو باكستان دولة ديمقراطية كما هو حال جارتها الهند، ويغدو لبنان الطائفية السياسية دولة ديمقراطية، وتغدو إسرائيل التمييز العنصري دولة ديمقراطية ناجزة. والأهم أن بعض الدول الاستبدادية تضفي الديمقراطية على التعدّدية، بغض النظر عما إذا كانت هناك عملية انتخابية بالأصل أم لا.

هكذا، قام النظام السوري مع حافظ الأسد، باعتبار نفسه حكما تعدّديا، بسبب وجود جبهة وطنية تقدّمية تضم أحزابا متباينة الأيديولوجيات. وينظر هذا النظام إلى نفسه أيضا على أنه ليبرالي، ما دام المقصود بالليبرالية حرية التصرف الاجتماعي والاقتصادي، وحتى السياسي المضبوط وفق سقوف الانتظام السلطوي ومتطلباته.

وقد يغدو مفهوم المعارضة لدى النظام من أكثر المفاهيم التي تستحق المعاينة المعرفية والتاريخية، لأن المعارضة، وفق منطوق النظام، ومن يطلقون على أنفسهم معارضة، وعيا وممارسة، تعكس حالة تردّي السلوك الإنساني، وحالة الرعاع السياسية لكلا الطرفين، النظام وما تسمى المعارضة. ومثل باقي الأنظمة الاستبدادية، يقبل النظام السوري بثلاثة أنواع من المعارضة:

المعارضة السلبية: تستكين في حيزها الخاص الضيق جدا، فتصبح آنوية داخلية محضة، لا تظهر تجلياتها في الحيز العام. بعبارة أخرى، إنها تجل لفكرة العناد واللامبالاة، نوعا من تعويض النقص في التعبير عن الذات والكينونة السياسية، فيجد الفرد في الانطواء والابتعاد نوعا من تمثل الوجود، وتصبح حياة الفرد مختزلةً في عالمه الخاص، وما الفضاء الاجتماعي إلا مجال تداولي للعلاقات الاجتماعية الاقتصادية ليس إلا، وأفرغت السياسة من محتواها لدى هذا الفرد المنعزل والوحيد، والذي أصبح رعية لا مواطنا. ولا يتساءل الأفراد غالبا ما إذا كان نظام الحكم شرعيا أم لا، لأن قواعد التفكير التي يُقيمون الحالة السياسية من خلالها تعود إلى تراتبية قيم مبهمة، وغير ناضجة. وثمة نوع ثان من المعارضة السلبية، لكنه أرقى وأكثر تنوعا، فتغدو الأعمال الفنية والأدبية والفكرية، الخاصة والعامة، نوعا من المبادرة التي تعطي الذات هامشا ضيقا من الحرية، للتعبير عن مكنوناتها السياسية، من دون أن تتحول هذه المكنونات إلى فعل ملموس في ساحة الحيز العام. بمعنى آخر، استقلالية الفرد التي تأخذ شكلا انعزاليا كليا أو جزئيا، هي أحد الشروط الرئيسية التي تجعل الأنظمة الاستبدادية تغضّ الطرف عنه. ولمّا كان تفكير هذا النوع من الذوات يخضع لبنية منطقية تاريخية، فإنها، أي الذات التي تتمتع بحرية سلبية، سرعان ما تصطدم بعدمية الواقع، فترتد عنه عبر إضفاء نوعٍ من المعنى والهدف، لحفظها حرة في قفصها الداخلي.

المعارضة الهزلية: تسمح الأنظمة الاستبدادية لبعض الشخصيات المؤثرة في الرأي العام، أو التي لديها قبول لدى الجمهور، بممارسة نوع من النقد للسلطة، وغالبا ما يحمل هذا النقد طابعا كوميديا، نوعا من التنفيس أولا، ودليلا على ليبرالية النظام السلطوي ثانيا، وفرصة لكشف مكنونات البشر ثالثا. ولكن هذا النقد يبقى من صنيعة النظام، فهو نوع من السخرية المتضمنّة لنقد مغلف بمديح استهزائي. وليس مصادفة أن يكون الممثلون الذين وجهوا نقدا للواقع السياسي والاقتصادي في سورية سنوات طويلة هم أول من حمل راية الدفاع عن النظام السوري مع انطلاق الثورة، فلم يكن النقد السياسي بشكله الفني تعبيرا عن وعي الفنان بدوره ورسالته. وربما كلمات نيتشه أفضل تعبيراً عن هذه الحالة: لا يقدر البشر أن يعيشوا من غير تزوير مستمر للعالم.

المعارضة المصنّعة: تقبل الأنظمة الاستبدادية عادة معارضة جبانة، أو لا تحمل أية قيم سياسية حقيقية، فهي مجرّد واجهة أو ديكور يضفي على النظام المستبد نوعا من القبول بالآخر. وعادة ما يتعلق الأمر بشبه معارضةٍ تخدم مصلحة النظام القائم، وتعتبر شرعية بنظره، وهذا أمر حدث كثيرا في عدة دول (آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية)، ويحدث الآن في سورية، فعلى سبيل المثال، في سورية الآن تحت حكم النظام نحو عشرة أحزاب، تعتبر نفسها معارضة له، وجميعها صنيعة المؤسسة الأمنية. ويُسمح لهذه المعارضة أن تعترض على أي شيء، باستثناء معارضة الوضع السياسي، أو طبيعة الحكم القائم، أو التعرّض لشخوص سياسية ما فوق وطنية. مسموح لها أن تعارض أي تدخل عسكري في سورية، وأن تعارض المؤامرات الخارجية، وأن تعارض ترهل الإعلام السوري، وأن تعارض الغلاء في المعيشة.. إلخ، ولأنها أداة بيد النظام، سرعان ما تحولت بوقا تستخدمها الأذرع الأمنية لحسابات داخلية ضيقة. .. هكذا وجدنا “فنانين” يطالبون الأسد بالتدخل لحل المشكلات الاقتصادية، ووجدنا “فنانا” آخر يتمثل البكاء، ردا على الذين تجرأوا وطلبوا من الرئيس التدخل.

وإذا كان في الوسع وصف مرحلة النظام السوري قبيل الثورة بأنها مرحلة السيطرة على مختلف مقدّرات الحياة، فإن مرحلة ما بعد الثورة يمكن وصفها بالاستلاب أو الاستيلاء، فقد استولى النظام على ذوات البشر في الداخل، وتحوّل الشعب معه ليس إلى رعية طوعية فحسب، بل إلى دهماء ورعاع وسوقة غير مهيئين لدخول عالم السياسة.. طبيعتهم جعلتهم مهيئين للامتثال فقط، وهذا هو الدور الذي تقوم به شخصيات مبتذلة، رضيت أن تطلق على نفسها اسم المعارضة.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى