سياسة

مقالات تناولت مبادرة “سوريا الاتحادية”

مبادرة “سوريا الاتحادية”.. أرض بلا شعب/ خضر الآغا

أطلق معارضون ومثقفون سوريون خلال الشهر الجاري (أيلول 2019) مبادرة تهدف إلى “تحقيق مطالب الشعب السوري المشروعة”، انطلاقًا من أن “مهمة الثورة السورية اليوم إنما هي إعادة إنتاج الدولة السورية”! هذه المهمة تدفع إلى إقامة “دولة اتحادية تتكون من أقاليم مرتبطة بالسلطة المركزية ذات السيادة”، هذه الأقاليم يمكن أن تكون: “إقليم شمالي وأوسط وجنوبي وشرقي”، وكذلك يمكن أن تكون: “إقليم شمالي وأوسط وجنوبي وشرقي وغربي وإقليم دمشق الكبرى”. المبادرة تهدف إلى “الإعلان الفوري عن قيام الجمهورية السورية الاتحادية دون انتظار السقوط الحتمي القادم للأسد”، وذلك انطلاقًا من “الإقليم الشمالي” الذي هو إدلب والذي يجب أن يخضع لسلطة مدنية تدير شؤونه كما تنص المبادرة.

انطلقت المبادرة من عدة مغالطات سياسية وفكرية وقبلها مغالطات واقعية، أبرزها الإقرار “المجهول” بأن واقع الصراع في سوريا هو صراع هوياتي: قومي: عرب/كرد (مع ذكر عابر لقوميات أخرى تعيش في سوريا منذ ما قبل الدولة الحديثة، وديني طائفي: سنة/ شعية، سنة/ علوية، وكذلك صراع طائفي طرفه الأقليات الطائفية الأخرى.. لذلك فالحل -حسب المبادرة- هو دولة اتحادية تمنح استقلالًا ذاتياً للأقاليم (المتصارعة) ضمن إشراف عام للإقليم المركزي/ للسلطة المركزية. وفي هذا تزيّف المبادرة ما يجري في سوريا والذي هو، حقيقة، صراع ضد سلطة مستبدة وفاسدة لأجل دولة ديمقراطية تعددية للجميع، مهما آل إليه تطور الصراع من توجهات ومنحنيات نتجت، ليس عن تحول في الهدف الأول للثورة، بل عن تدخلات إقليمية ودولية وظهور قوي وعنفي للثورة المضادة.

هذه من جانب، من جانب آخر فإنه لم تكن يومًا “مهمة الثورة هي إعادة إنتاج الدولة السورية”، فلم يدخل هذا المطلب ولا مرة ضمن مطالب الثورة، إضافة إلى أن ثمة خلط ينم عن جهل بين الدولة والسلطة، فتغيير شكل الدولة يكون انطلاقًا من دستور يتفق عليه الناس باستفتاء شعبي، وليس بأفكار فوقية تفرض فرضًا وكأن لا شعب في سوريا! أما تغيير شكل السلطة من مستبدة إلى ديمقراطية فهذا ما تفعله الثورة عبر إزاحة المستبد وإفساح المجال أمام حوار مجتمعي ينتج عنه ما ينتج بإرادة شعبية، وليس فرضًا كما تفعل السلطات المستبدة.

تستجيب المبادرة لأمر واقع فرضته من جهة: قوى الأمر الواقع من ميليشيات وفصائل.. ومن جهة أخرى: دول متدخلة احتلالًا، كما ترسم -المبادرة- حدودًا بين السوريين تتماشى مع الحدود المفروضة حاليًا بقوة السلاح تحت مسمى: دولة اتحادية. علمًا أن الدول الاتحادية عبر التاريخ لم تنشأ في ظروف مشابهة للظروف السورية ولا مرة. هذا الجهل الكبير بنشوء هكذا دولة يشي، إن استبعدنا الحس المؤامراتي، بنوع من “الفهلوة السياسية” التي تنشط كثيرًا في حالات مثل الحالة السورية المتروكة لمزاجيات وبهلواناتيات ولقضاء الله وقدره! فالدول الاتحادية تنشأ عبر اتفاق عدة دول قائمة وذات سيادة ومشروعية تجد مشتركات ورغبة بهكذ إطار سياسي. أو أن دولة ذات سيادة تفككت لأسباب مختلفة ثم ارتأت بعضها اتحادًا فيما بينها وهي جميعها تكون ذات سيادة ومشروعية. أما الشكل الذي تطرحه المبادرة فلا ينتمي لأي شكل تاريخي سابق، ولا ينطوي على إبداع لا سابق له، كما أنه لا واقعي: إذ من يعلن الاتحاد؟ بناء على أي نص دستوري؟ وأين الموافقة الشعبية؟ خاصة أن المبادرة لم تقل إن هدفها مستقبلي، بل قررت “الإعلان الفوري دون انتظار سقوط النظام”، وانطلاقًا من “الإقليم الشمالي”.

فوق ذلك كله فإن “الإقليم الشمالي”، الذي هو إدلب، غير مستقر أصلًا، وهو في حالة حرب، وهو ليس دولة مستقلة ذات سيادة ولا مشروعية، ولا يوجد ضمان بأنه سيبقى خارج سلطة النظام كما عرّفته المبادرة.. فحملة الإبادة التي تشنها عليه روسيا والنظام والميليشيات المتحالفة لم تزل مستمرة حتى اللحظة، وثمة احتمال، ضمن عدم تكافؤ القوى، ألا يبقى خارجًا عن سلطة النظام ، إضافة إلى وجود “جبهة النصرة” بتعدد أسمائها فيه دون حل يظهر في الأفق لوجودها الإرغامي. هذه النقطة تشير أيضًا إلى أن المبادرة تنطوي على “فهلوة سياسية” في أحسن النوايا التي يمكن أن نقرأ فيها المبادرة!

في الوثيقة الفكرية التي استندت عليها المبادرة لتبرير نفسها تم ذكر عبارة شديدة التسرع هي: “جميع عرب سوريا من مسيحيين وعلويين ودروز واسماعيليين لا يتخيلون حكمًا دينيًا إسلاميًا على أنقاض بنية السلطة السابقة”. عدا الغموض الذي يلف عبارة “حكم ديني إسلامي” وما المقصود به، فإننا نفترض أنه الحكم الذي يستند على تطبيق الشريعة الإسلامية في الدين والدنيا على غرار السعودية أو إيران، أو الحكم الذي يدعو إليه الأخوان المسلمون لربما أيضًا، فإن السؤال هو من أين استنبطت الوثيقة أن جميع من ذكرت لا يتخيلون ذلك، ما هي الإحصائية، إذ أننا نفترض أن واحدًا فقط يتخيل ذلك، فذلك يعني أن ليس الجميع. هذا الإطلاق يدل على محاولة ليّ عنق الواقع ليطابق الفكرة. ثم تستند الوثيقة على التجربة غير الناجحة التي خاضتها قوى وفصائل إسلامية في حكم بعض المدن والبلدات، على رغم أن من عانى من تلك التجربة هم السنة غالبًا وليس الأقليات الدينية والطائفية المذكورة. أضف إلى ذلك، وهذا مهم للغاية، أن نفي قبول جميع تلك الجماعات لـ “حكم ديني إسلامي” يعني بالضرورة قبول السنة بذلك الحكم، وهذا عسف كبير، مع العلم أن من عبّر بطرق عديدة  عن عدم قبولهم تجربة الفصائل الإسلامية في الحكم هم السنة غالبًا، فهم من تم حكمهم في المدن والبلدات.

هذا لو كان بالإمكان تمشية كلمة “عرب” التي تعني، أيضًا، أن غير العرب المنتمين لتلك الأقليات يمكن أن يوافقوا على “حكم ديني إسلامي”. حقيقة، هذا كلام مطلق على عواهنه.

إضافة إلى أن هذه الوثيقة أقرت أن الصراع الطائفي السوري، وكذا الصراع القومي: عرب/كرد، كان موجودًا قبل الثورة وليس عرضًا من أعراض الصراع، وهذا أيضًا ليٌّ للواقع وكسرٌ لذراعه لجعله متفقًا مع الفكرة.

المشكلة الكبيرة لهذه المبادرة ولمثيلاتها التي لو أخذناها بنوايا حسنة وقلنا إنها “بهلوانيات سياسية”، أنها تنظر إلى نفسها بوصفها القادرة والعارفة والمتحكمة دون اعتبار لحركة شعب يضحي على مدار الساعة، كما لو أن سوريا أرض بلا شعب تتم صياغتها وصياغة “الشعب المحتمل” على هوى قوى فرضت واقعًا بالقوة العسكرية إرغاميًا، وأن هذه المبادرة قبلته وارتضت به وها هي تؤسس عليه.

الترا صوت

سوريا الاتحادية دراسة قانونية (3)/ عبد الحميد عكيل العواك

(دوافع الفيدرالية)

إذا كان الدافع للفيدرالية في الماضي هو لصد عدوان أو لتوحيد المصالح الاقتصادية، فإن الدوافع في العصر الحديث تنوعت، وهذه نتيجة طبيعية لتطور الفكر الإنساني، حول مفهوم الدولة ووظيفتها، هذه المفاهيم أوجدت دوافع جديدة للفيدرالية.

الخوف دافع أصحاب مبادرة سورية الاتحادية

حددت المبادرة الدافع لقيام دولة اتحادية (والواقع الحالي يستدعي من الجميع تغليب المصلحة العامة واستنفار كافة الجهود لإعادة تثبيت مفهوم الدولة السورية ((الاتحادية)).

حددت المبادرة دافعها لقيام سوريا الاتحادية بالخوف من التقسيم والزوال، وهذا ما يدفعنا لدراسة دوافع الفيدرالية بشكل عام، ومدى صلاحيتها لتكون دافعاً لإعلان سوريا الاتحادية.

دوافع الفيدرالية متعددة ومتنوعة وتختلف من دولة لأخرى ولكن نجملها بما يلي:

دافع القوة العسكرية (العوامل الدفاعية):

يؤدي العامل العسكري إلى خلق شعور بالاتحاد لدى شعوب وجماعات مختلفة في كل شيء، فالتهديدات الخارجية

سوريا بالأصل دولة موحدة بسيطة، مستجمعة لقواها، وجيشها واحد، على العكس من ذلك الفدرالية ربما تؤثر بقوتها فتضعفها.

أو مقاومة العدوان المشترك يخلق شعوراً بالمصير المشترك لدى تلك الدول، فتتفق فيما بينها لإنشاء دولة اتحادية.

إن أهم الفيدراليات المعاصرة وأنجحها وأدومها أقيمت بدافع القوة العسكرية منها سويسرا وأمريكا وكندا.

هذا الدافع لا يصلح البتة في أن يكون سبباً لتحول دولة موحدة بسيطة إلى دولة فدرالية، هذا السبب موجود عند الدول التي كانت مفككة ونشأت الفدرالية لديها بالانضمام أو الاتحاد.

فسوريا بالأصل دولة موحدة بسيطة، مستجمعة لقواها، وجيشها واحد، على العكس من ذلك الفدرالية ربما تؤثر بقوتها فتضعفها.

العوامل الاقتصادية في قيام الفيدرالية

العامل الاقتصادي من أهم العوامل لقيام الاتحاد الفيدرالي، وذلك عندما تكون الدول المستقلة متخلفة اقتصادياً تخلفاً لا تستطيع القضاء عليه إن بقيت مستقلة، فتتحد من أجل التكامل الاقتصادي، كأن يكون بعض هذه الدول لديها ثروات طبيعية والأخرى تمتلك أيدٍ عاملةً، والثالثة دول صناعية، جميعها تتحد من أجل تحقيق التقدم والازدهار.

ففي أمريكا كانت بداية التفاوض بسبب خلاف تجاري بين ولايتين لذلك جاء الاتحاد الفيدرالي الأمريكي ليجمع بين ولايات زراعية (الولايات الجنوبية) وولايات صناعية (الولايات الشمالية) لينتج اقتصاداً قوياً استطاع السيطرة على العالم.

هذا الدافع لا يصلح أن يكون سبباً لتحول الدولة الموحدة إلى الفدرالية، بل هو دافع خاص بالدول المستقلة وتريد أن تتحد بشكل فدرالي، وسوريا دولة موحدة فلا يصلح لها العامل الاقتصادي.

العوامل الجغرافية

يقول الفقيه ويري ((يعتبر التباعد الجغرافي سبباً مهماً لقيام الفيدرالية التي نشأت في العصر الحديث بوجه خاص)

تؤدي المساحة المترامية الأطراف في بعض الدول إلى ضعف سيطرة المركز وضعف أداء الحكومة المركزية لذلك تتغلب على هذه المعضلة بأن تتحول من دولة بسيطة إلى دولة اتحادية.

من الفيدراليات التي نشأت نتيجة عوامل جغرافية البرازيل-الأرجنتين-الهند-روسيا-أندونيسا -كندا حيث كانت جميعها دولاً موحدة فتحولت لدول اتحادية نتيجة لكبر مساحتها الجغرافية.

إن مساحة الدولة السورية 185 ألف كم مربع، وهي مساحة صغيرة نسبياً، والسلطة الجادة والفاعلة قادرة على السيطرة عليها، وإيصال الخدمات والحاجات لسكانها، فإذا ترافقت هذه المساحة الصغيرة مع لا مركزية إدارية، فإن تسيير الدولة لمرافقها سيكون بالشكل المثالي.

العوامل السياسية:

تظهر العوامل السياسية عندما تكون المجتمعات مرتبطة بروابط سياسية سابقة لقيام الاتحاد الفيدرالي، كأن تكون أعضاء في اتحاد كونفدرالي سابق، مثل ألمانيا الاتحادية التي كانت مرتبطة باتحاد كونفدرالي منذ عام 1815 حتى قيام الدولة الاتحادية.

وكذلك الارتباط في العقيدة السياسية ولاسيما العقائد العابرة للحدود تؤدي إلى الاتحاد الفيدرالي بين مجموعة من الدول لا رابط بينهم سوى تلك العقيدة، مثل الاتحاد السوفيتي الذي جمع مجموعة من الدول المتنافرة التي لا يجمعها سوى إيمانهم بالشيوعية.

هذا العامل في سوريا لا وجود له تاريخياً، على العكس من ذلك فقد كانت مساحتها في بداية تكوينها أضعافاً مما هي عليه الآن، لتتقلص بفعل الاتفاقيات الدولية إلى وضعها الحالي.

على العكس إن العوامل والذاكرة السياسية تدفعها لأن تبقى كما نشأت دولة بسيطة وموحدة.

العوامل الاجتماعية والثقافية

التنوع في المجتمع يعني وجود أكثر من فئة متجانسة في أي جانب كان من حيث اللغة أو القومية أو الثقافية، وهو سمة غالبة على جميع المجتمعات ولا يوجد مجتمع متجانس عرقياً وثقافياً ولغوياً واجتماعياً.

تثور مشكلة التنوع عندما يتغلب الانتماء القومي أو الطائفي أو الديني على الانتماء الوطني (للدولة) سواء من قبل الأقلية أو الأكثرية، فيلجأ البعض إلى الاتحاد الفيدرالي، لأنه يعتبره نظاماً مثالياً للدولة الحامية لجميع حقوق المجتمع التعددي، حيث يعطي جميع الأطياف شيئاً من الاستقلالية، بحيث يمكن إشباع حاجاتها ورغباتها القومية أو الدينية، إضافة إلى التوفيق وعدم تقسيم البلد.

والحقيقة العلمية المؤكدة بأنه لا يوجد مجتمع ينتمي إلى قومية واحدة، أو دين واحد، ومتجانس في أصوله وديانته وثقافته.

والمجتمع السوري ليس استثناء من هذه القاعدة، هذا ما دفع المؤمنين بالفيدرالية، بأن يكون التنوع بهذا الشكل، سبباً رئيسياً وحيداً للمطالبة بالفدرالية.

إذا كان الدافع هو التنوع في المجتمع لقيام الفدرالية السورية، هذا يتطلب نتيجة حتمية عنه أن تقوم الفدرالية العرقية، وليست الجغرافيّة، بمعنى أن تقسم الأقاليم في الفدرالية السورية حسب العرق أو الديانة أو المذهب الذي ينتمي له سكان الإقليم كنتيجة تحقق أهداف الدافع لقيام الفدرالية.

إن أيّة دراسة للجغرافية البشرية السورية وتوزع السكان ستعطينا خريطة توضح بأنه لا يمكن إقامة فدرالية في سوريا على أساس طائفي أو عرقي، إلا بعد القيام بعمليات تطهير واسعة النطاق، ستؤدي مستقبلا لحرب أهلية تقود لتقسيم سوريا بشكل كامل.

دافع المبادرة للمناقشة

يرى أصحاب مبادرة سوريا الاتحادية، بأن سوريا في ظل الظروف الراهنة، وما نتج عن الحرب الدائرة لسنوات من تشظي للبلاد، وسلطة أمر الواقع، وفي ظل الشحن

الطائفي والعرقي لن تعود كما كانت، فالفيدرالية في ظل هذه الظروف هي الطريق الوحيد للحفاظ على سوريا موحدة، وحتى لا تذهب سوريا إلى التقسيم.

إن الفيدرالية تأتي نتيجة مطالبة مجتمعية أو حل لمشكلة داخل المجتمع من قبل فئات تجد بها حلاً لمشكلتها، ولا نجد أي دعوة بين القوى السياسية والعسكرية المسيطرة على الشمال (موطن الفيدرالية الجديد) لتقسيم أو تغيير شكل الدولة. كما إن مشكلة السوريين الأساسية نظام مستبد فهل إعلان الفيدرالية يسقط نظام دمشق؟ لا يوجد عاقل يعتقد ذلك.

كما أن الثورة السورية الآن، في مخاض للتغيير، وهي تدفع الضريبة، وتتجسد هذه الضريبة بسلطات أمر الواقع المقتسمة الأرض السورية.

هذه الضريبة لابد منها للوصول إلى سوريا كما يجب أن تكون على كافة الصعد، شاملة التغيير للمفاهيم والقوانين والعلاقات الاجتماعية، فالثورات مثل العواصف الراعدة أمر لا يمكن تجنبه، وأمر مفيد في أغلب الأحوال، مثلما تفيد العاصفة الريف الملتهب حرارة.

 أما من يعوّل على حالة التغيير الديموغرافي الحاصل بقوة السلاح في بعض المناطق، وسلطات أمر الواقع، فهي حالة غير قانونية وغير دائمة، ولن يتم قبولها والبناء عليها، لأنها جريمة ضد الإنسانية فلا يمكن أن يبنى على الجريمة تصرف قانوني.

 دكتور بالقانون الدستوري

تلفزيون سوريا

مبادرة سورية الاتحادية .. المعارضة وميتافيزيقا السياسة/ حسين عبد العزيز

أطلق مثقفون سوريون ممن يمارسون العمل السياسي، من دون أن يمتهنوه، مبادرة من أجل جمهورية سورية اتحادية، تهدف إلى الإعلان الفوري عن قيام “الجمهورية السورية الاتحادية”، من دون انتظار السقوط الحتمي القادم للأسد. وتقوم هذه الجمهورية على توزيع إداري يأخذ بالاعتبار الوقائع الجغرافية والثقافية والاقتصادية، بعيداً عن التمييز القومي والطائفي، ومراعاة خصوصية المكونات القومية. وتتكوّن الدولة الاتحادية من ستة أقاليم، الشمالي والأوسط والجنوبي والشرقي والغربي، وإقليم يضم دمشق الكبرى”.

ولم تمض أيام على إصدار المبادرة، حتى قوبلت بنقد حاد من “هيئة القانونيين السوريين” التي وجدت في المبادرة الاتحادية سبيلا إلى تقسيم سورية، وإعطاء فرصة لنظام الأسد والأحزاب والجهات الانفصالية لإنجاز مخططهم بتقطيع أوصال البلد، بحيث يكون لكل حي أو مدينة دويلة أو إمارة، وفق العرق أو اللون أو الدين والمعتقد أو الجماعة، بعيدا عن الوطنية والمواطنة. واعتبر المرصد السوري لحقوق الإنسان المبادرة الاتحادية دعوة صريحة إلى الفيدرالية السياسية من جهة، أو تقسيم سورية كونفيدراليا على أقل تقدير، في خطوةٍ غريبة ومفاجئة، لم تجرؤ على طرحها حتى “قوات سوريا الديمقراطية” التي تراجعت عن فكرة الفيدرالية، بعد فشل مشروع روج آفا والتحول إلى الإدارة الذاتية.

لن تدخل هذه المقالة في التعليق على هذا النقد الموجه للمبادرة، لأن المسألة في جوهرها لا تتعلق بإيجابيات المبادرة الاتحادية وسلبياتها، بقدر ما تتعلق بعدم قدرة شخصيات كثيرة في المعارضة، ممن جعلتهم الظروف في واجهة العمل السياسي، على إدراك حقيقة المأزق السوري ومأزق المعارضة بالتحديد. وتعكس مثل هذه المبادرات بالضرورة الأزمة الفكرية والسياسية لشخصياتٍ تنظر إلى السياسة من خلال بناء ميتافيزيقي، لا علاقة له بالواقع الممكن. ولم تدرك مثل هذه الشخصيات التي يمكن تعميمها تقريبا على كامل المعارضة السورية أن انهيار العمل السياسي والعسكري المعارض لا يعود إلى عنف النظام فقط، بل بسبب سلوك المعارضة ذاتها منذ بداية الثورة.

ثمّة ثلاثة أسباب وراء انهيار المعارضة وتراجعها، وعدم تحولها إلى قوة سياسية وعسكرية، قادرة على فرض أجندتها: عسكرة الثورة، والبعد الإسلامي الراديكالي في الثورة وغياب الآليات الديمقراطية في مؤسسات المعارضة. وبما أن العسكرة وأسلمة الثورة أصبحتا من الماضي، ولا يمكن العودة بالتاريخ إلى الوراء، فلم يبق سوى البعد الديمقراطي، وهذا هو البعد الذي كان يجب التركيز عليه، فبدلا من طرح مبادراتٍ لا إمكانية لانتقالها من القوة إلى الفعل، كان يجب طرح مبادرات ديمقراطية تعيد إنتاج الشارع والنخب الثورية، عبر عملياتٍ انتخابية تبدأ من الأسفل وتنتهي في الأعلى، من انتخاباتٍ محلية منظمة انتقالا إلى انتخابات للجسم السياسي المعارض.

ولا يختلف الشكل الحالي لائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية عن شكل حكم النظام، فكلاهما محكوم بأوليغارشية سياسية ـ اقتصادية، والانتخابات التي تجري في الائتلاف ليست سوى عملية محصورة بالقلة، تعبر عن مصالح النخبة ومصالح العواصم الإقليمية والدولية، وليس لها علاقة بمصلحة القاعدة الشعبية المعارضة. ولو كان ثمة عملية ديمقراطية لدى المعارضة منذ سنوات، لاستطاعت أن تشكل حالة سياسية متطوّرة، وجسما اجتماعيا سياسيا متماسكا، قادرا على فرض نفسه أمام المجتمع الدولي، بدلا من جسم سياسي مهمته ممارسة الدبلوماسية وفق ما ترتضيه موازين القوى الإقليمية والدولية. وقد كان غياب البنى الديمقراطية لدى المعارضة سببا رئيسا في تشرذمها وتحولها إلى معارضاتٍ مختلفة، تتوزع في عواصم مختلفة، وكان سببا في نشوء تيارين أساسيين: جنيف وأستانة، لكل منهما رؤاه وأهدافه الشخصية على حساب الأهداف العامة.

عدم اهتمام المجتمع الدولي بالمعارضة السورية راجعٌ، بالدرجة الأولى، إلى فقدانها الأساس الديمقراطي، فمؤسساتها ليست سوى إعادة إنتاج لمؤسسات النظام، إن لم يكن أسوأ، فالنظام يمارس السياسة في إطار فن الممكن، ويلعب على التناقضات المحلية والإقليمية والدولية، ويمارس سياسات حافّة الهاوية، واللعب على الوقت، أما المعارضة فقد كشفت عن رعونتها ومراهقتها السياسية والفكرية، وتحولت إلى ألعوبةٍ بيد الدول.

كان أحرى بمطلقي مبادرة سورية الاتحادية أن يطلقوا مبادرة ديمقراطية في الجسم المعارض، من أجل بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية تفرض سطوتها وأجندتها على المجتمع الدولي، فغياب هذه المبادرة إلى الآن دليل على أن الديمقراطية لم تتحوّل بعد إلى ثقافةٍ تخترق الوعي الفردي، وتخترق النسيج الاجتماعي والسياسي السوري، ودليلٌ على عدم إدراك هذه الشخصيات السبل الكفيلة في تحقيق المطالب السياسية المحقة. ومن دون أساس ديمقراطي قانوني للجسم السياسي المعارض، ستبقى المعارضة السورية خاضعةً لحسابات المصالح الدولية، لا لحسابات مصالح القاعدة الشعبية المعارضة.

العربي الجديد

يمكنك قراءة بعض المقالات الأخرى التي تناولت هده المبادرة “سوريا الاتحادية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى