منوعات

الانتحار ليس سبقاً إعلامياً/ بيركو سلمو

تقول إحصائيات منظمة الصحة العالمية إن هناك شخصاً يفقد حياته بالانتحار كل أربعين ثانية، وبمناسبة اليوم العالمي لمنع الانتحار في العاشر من أيلول (سبتمبر) الماضي، أطلقت المنظمة حملة لزيادة التوعية حول خطورة الانتحار والدور الذي يمكن لكل فرد أن يلعبه في سبيل مكافحته، توجّتها بتخصيص اليوم العالمي للصحة النفسية في العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري للتركيز على هذه المسألة. وعلى الرغم من عدم وجود إحصائيات بخصوص الانتحار في صفوف السوريين، إلا الأخبار المتواترة من داخل سوريا وخارجها تشير إلى تزايده خلال السنوات القليلة الماضية، وذلك نتيجة ظروف الحرب واللجوء التي ضاعفت من سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لعموم السوريين.

يُعدّ الانتحار واحدة من تلك الأمور الملغزة التي نتقبل وجودها كظاهرة تقبّلاً سلبياً، وإن ترافق ذلك مع درجة من الصدمة والاندهاش تختلف حسب الظروف. قد يكون معظمنا سمع مرة عن أحد وضع حدّاً لحياته. «صخرة اذكريني» في دمشق كانت رمزاً لذلك؛ يُقال إن عاشقاً كتب على الصخرة كلمة «اذكريني»، ورمى بجسده للأسفل بينما أكملت روحه رحلتها عالياً.

تنظر التوجهات الليبرالية الحديثة إلى الانتحار كواحد من الحقوق الفردية التي يجب صونها، وتتبنى الطرق العلاجية الحديثة المنطلق نفسه، حيث تتوجه إلى تقدير المعاناة التي أوصلت الفرد إلى فكرة الانتحار وتكريم شجاعته في الصمود ومواجهة الحياة، وفي الوقت نفسه تعمل على تأجيل خطط الانتحار، والبحث عن حلول بديلة وتقديم وجهات نظر جديدة للمشاكل التي دفعت الشخص للتفكير بذلك.

يعيش أحمد في ألمانيا حياة منعزلة تماماً، ورغم وجود بعض المعارف والأصدقاء القدامى، يشعر بعدم الرغبة، ليس فقط في العلاقات الاجتماعية، بل عدم الرغبة في أي شيء. أصبحت الحياة عبئاً عليه. في النهار لا تغيب عن ذهنه صور منزله المهدّم في سوريا، وفي الليل تلاحقه كوابيس التعذيب في غرف التحقيق. اغتالت الحرب عدداً من أفراد عائلته، والباقون منهم ينتظرون أوراق لمّ الشمل العالقة. خلال لحظات من اليأس وسيطرة أفكار مثل: «لا يمكن تحمل هذا الألم، ولا شيء سيتغير في المستقبل»، إضافة إلى التعذيب الذي واجهه وكسر عنده حاجز الخوف من الألم الجسدي، قام بعدة محاولات انتحار في العامين الأخيرين. تعرَّضَ أحمد للعديد من المواد الإعلامية المثيرة عن الانتحار، التي احتوت تفاصيل حول حياة المنتحرين والوسائل التي لجؤوا إليها، وكان يمني نفسه خلال قراءة تلك المواد بالراحة وزوال الألم الذي كان يعاني منه. بعد اتخاذه الخطوة الجريئة للحصول على المساعدة المختصة، نصحته المعالجة بالابتعاد عن هذه المواد الإعلامية، وأصبح يدرك أن هذه المواد قد تكون ألهمته بعضاً من محاولات الانتحار التي قام بها، أو على الأقل طرحت لديه فكرة الانتحار كواحدة من الحلول الممكنة لإيقاف ألمه.

لا يتوقف دور الإعلام غير المسؤول والتغطية المثيرة والمليئة بالتفاصيل عن حالات الانتحار على المساهمة في عملية التطبيع هذه، بل يتجاوز ذلك إلى استلهام طرق أو أماكن معينة للانتحار، إضافة إلى طرحه كحلٍّ بالنسبة لشخص يفكر مسبقاً بالانتحار. قد لا يستطيع الإعلام دفع شخص لا يفكر بالانتحار إلى تنفيذه، لكن الثابت في أدبيات ودراسات علم النفس حول الانتحار أن هناك علاقة تأثير مباشرة بين التغطية الإعلامية للانتحار ونسب الانتحار في المجتمع. تُسمّى علاقة التأثير هذه «قانون فيرتر»، إشارة إلى بطل رواية آلام فيرتر ليوهان غوته (1749 ـ 1832)، التي تبعتها موجة انتحار بين الشباب عبر القارة الأوروبية في بدايات حقبة الرومانسية في القرن الثامن عشر. التغني الرومانسي بالموت وجاذبية شخصية بطل الرواية دفعت هؤلاء الشباب إلى التماهي معها، ووجدوا فيها مصيراً مشتركاً. توجد العديد من أمثلة هذا التأثير في الإعلام الحديث.

في السنوات اللاحقة لعرض مسلسل ألماني شهير، انتحرت فيه الشخصية البطولية لمراهق وتلميذ في المدرسة، ارتفعت نسبة الانتحار بين هذه الفئة بالذات. كشفت الدراسات وجود سمات مشتركة بين الأشخاص الذين انتحروا وشخصية المسلسل، ما يثبت أيضاً وجود علاقة تأثير مباشرة.

نتفق جميعاً على أنه لا الإعلام ولا الإعلاميين يتقصدون دفع أي شخص للانتحار من خلال التغطية المثيرة والعاطفية لحالات الانتحار. بالعكس تماماً، قد تكون الرغبة هي دفع الأشخاص إلى العدول عنه. ولكن النية الصالحة لا تؤدي بالضرورة إلى نتائج تتوافق مع ما يُنتوى، فالعبارات المشجعة أو المهددة، التي قد يلجأ لها الإعلام أيضاً، تُعرَف بين المختصين بأنها تحمل نوعاً من الاستهزاء والاستهانة بألم ومعاناة الأشخاص الذين يفكرون بالانتحار، بدلاً من تفهّم وتقدير هذه المعاناة وإظهار التعاطف معها.

لا يحتاج أحمد إلى سماع أخبار مثيرة عن الانتحار والمنتحرين، ولا إلى تفاصيل حول محاولات الانتحار، ولا إلى عبارات تشجيعية أو أخرى تثير عنده عذاب الضمير، وإنما يحتاج إلى التفهّم والاعتراف بيأسه ومعاناته وتقديرها، وقبل كل شيء إلى معلومات توصله إلى الجهات التي يمكن فيها الحصول على المساعدة المختصة. قد يكون الإعلام هو من دفعه لبعض محاولات الانتحار، لكنه توصَّلَ أيضاً إلى فكرة اللجوء للمساعدة بعد قراءته لمقال على الإنترنت احتوى على معلومات عن جهات الاتصال.

هناك محاور عديدة يمكن العمل عليها للتقليل من نسب الانتحار، لكن ما نتحدث عنه هنا هو دور الإعلام والحملات العامة التي تتناوله. أهم ما يمكن فعله الآن هو الامتناع عن التغطية الساخنة والمثيرة لحالات ومحاولات الانتحار، وبالأخص عدم نشر تفاصيل عن طرق الانتحار، وبالتأكيد عدم التغني به. إلى جانب هذه الإجراءات، يمكن للإعلام أن يقوم بدور إيجابي من خلال نشر معلومات علمية حول الانتحار، وحول أهمية مساعدة الأخصائيين النفسيين وطُرُق الوصول إليهم.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى