سياسة

في صعوبة تصنيف النظام السوري/ موفق نيربية

كان ذلك سهلاً في ذلك الزمن، فهو نظام “اشتراكي” أو “وطني تقدمي”، أو “حركة تحرر وطني”، أو غير ذلك من المساخر.. أو التي أدركنا فيما بعد أنها مساخر. حالياً، تضاعفت صعوبة التوصيف الجامع المانع على المشتغلين في مجال الاجتماع السياسي شرقاً وغرباً، فاستسهلوا إطلاق أية صفة عَرَضية لا يقف عندها القارئ، إلا لماماً.

وباختصار، فإن نظام الأسد نظام طاغية وطغياني، وهو استبدادي، وديكتاتوري، وأوليغارشي، وأوتوقراطي، وسلطوي، وشمولي، وفاشي، وطائفي. وما إلى ذلك، مما يصحّ ولا يصحّ دائماً. ومن ذلك أيضاً، وفي النسق عينه، أنه “قومي” و”علماني” و”معادٍ للإمبريالية والصهيونية”، ومنه أيضاً ما هو عكس ذلك على طول الخط.

هو نظام طغيان من حيث كونه حكماً قاسياً وظالماً متجبراً متعسفاً، يستمر ويجدّد حياته من خلال التهديد المستمر بالجزاء والعقوبات القاسية، يرأسه طاغية كامل الأوصاف. كان وصف “المعلم” كما في الإرث اللغوي الإغريقي (حيث الطاغية هو المعلم) سائداً في كل خلايا السيطرة الأمنية وغير الأمنية، مع بقاء الصفة عند التجريد حكراً على شخص واحد هو “المستبد”. ذلك هو الاستبداد. وقد كانت تلك الصفة “حميدة” حين استُخدمت أيام الفراعنة والبيزنطيين، لكنها أصبحت ذميمة مذ أطلقها معارضو “الملك الشمس” عليه، ومنذ دخل تعبير”الاستبداد الشرقي” علم الاجتماع بعد ذلك. صِفتا “المستبد” و”الطاغية” صحيحتان إلى حدٍّ كبير، ولو أنهما تبدوان فضفاضتين قليلاً على الابن في نظام الأسد. ومثل هذه الشبهة في دقة التسمية تنسحب أيضاً على صفة “الديكتاتور”، مع أنها قد تقنع المستعجل أو المَلول.

الديكتاتور صفة أُطلقت على سولا في التاريخ الروماني، ثم على يوليوس قيصر مثلاً، وكانت نظيرةً لفرض حالة الطوارئ والأحكام الفردية وتسليم سلطة القرار لشخص واحد “يُملي” الأوامر اللازمة مع تعليق القانون أو الدستور، ورفض الأول تمديدها، في حين قام الثاني بتمديدها لذاته كسلطة “أبدية”، فتمّ اغتياله بشكل جماعي ( ولا أشير لأي احتمال أو نصيحة هنا!).

أطلق اللقب حديثاً على هتلر وفرانكو وسالازار وعلى العديد من حكام العالم الثالث. ولكن أطلق اللقب في القرنين السابقين، بمضمون إيجابي غالباً،في بولونيا، وفي هنغاريا ١٨٤٨ وعلى غاريبالدي١٨٦٠. لذلك، وبقدر ما هو صحيح هذا اللقب، وخصوصاً حين يستدعي ذلك مفهوم حالة الطوارئ “الأبدية”، هو فضفاض أيضاً على الأسد ونظامه، للأسباب المشار إليها.

ذلك النظام “أوليغارشي” بالطبع، لأن هنالك قلة محدودة تتحكم في كل شيء وكل إنسان، تتألف من الرئيس وعائلته وكبار ضباط الأمن والاقتصاد الأسدي. ولكنه أيضاً نظام “أوتوقراطي”، لأن شخصاً واحداً يتحكم بالجميع في نهاية الأمر. ذلك تناقض في المنطق؟ نعم، ولا مشكلة!

وفي بعض المفاهيم الأكثر حداثة ومعاصرة، هنالك التباس شبيه بما ورد أعلاه. ويتبدى أهم تلك المفاهيم بالقول إنه “نظام شمولي”، في اشتقاق لما كان قائماً في “الأنظمة الاشتراكية” أو في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، حيث كان “كل شيء في إطار الدولة، ولا شيء خارجها”، كما كان يردد الدوتشي موسوليني. وفي سوريا، كان كل شيء متداخلاً مع النظام، من طريق حزب البعث الذي وصل تعداده إلى مليون ونصف، إلى اتحادات الشبيبة والطلائع والنساء والنقابات الممسوكة رسمياً، مع هامش محدود ومدروس لغرف التجارة والصناعة. بل إن تعبيرات شتى عن “تعاونية” موسوليني ما بين تلك النقابات وهذه الغرف، كانت تتأمّن عن طريق “القلة” المشار إليها أعلاه، بتصميم ومتابعة عند اللزوم من الفرد القائد بذاته. مع ذلك، لم تكن شمولية نظام الأسد بذات الدرجة من “الصدق” الإيديولوجي التي كانت تميّز جميع الأمثلة المذكورة إلى هذا الحد أو ذاك، وبدرجات متفاوتة. وحين كنت أسمع منذ عقو،د في زنزانتي، تحقيقاً مع عضوٍ عامل في حزب البعث كان يستجير بانتمائه هذا إلى النظام، كانوا يشتمونه و”حزبه” بشكل مباشر، مع ضرب السياط وطلب الأجوبة على الأسئلة الواردة من وادٍ آخر.

ربما كان أقرب تلك التوصيفات في حالتنا  هو النظام “التسلطي” أو السلطوي، لا فرق. وهو النظام الذي يفرض الطاعة العمياء، ولا يحسب للحريات الأساسية أو الفردية حساباً. بمعنى آخر، هو نظام لا يبالي بما يريده أو بما يرغب به الناس، ويعلي من قيمة “النظام” و أجهزته، ويمحو الحدود بينه وبين “الدولة”، من حيث جانبها الحيادي في الشأن العام، أو من حيث حكم القانون عموماً. وغالباً ما يكون على رأس الحكم التسلطي، ديكتاتور، أو من في حكمه. وقد وُجد بعض الكتاب، ومنهم كاتب هذه السطور، ممن كانوا يلجؤون إلى اعتبار النظام “شمولياً” من حيث الشكل، تسلطياً من حيث الواقع والمضامين.

أما الصفة التي تكاد تشفي الغليل، ولو بشكل مؤقت، فهي “الفاشية” و”النظام الفاشي”، وهي صفة، سبحان الله، لها وقعها وطعمها تحت اللسان، تذوب تحته، ومرجعيتها التاريخية إيطالية أيضا. وقد كانت حصة ذلك البلد من حديثنا قديماً وحديثاً كبيرة، حيث كانت موجودة في اسم حزب بنيتو موسوليني. انطلق من أقرب ترجمة لها وهي “العصبة” التي اعتمد عليها لوصف شكل تراصف الجماعة وتجمع أعضائها. وقد ترجمها القوميون العرب المشرقيون بشكل صحيح عند تشكيلهم “عصبة العمل القومي” التي تناسل منها “حزب البعث” و”القوميون العرب” وغيرهم. وأدى ذلك الاحتكار للتعبير إلى عدم اعتماده من قبل بنُى وتنظيمات أخرى نشأت بين الحرب الكونيتين في سوريا، وفي غيرها كذلك الأمر غالباً، من مثل ما فعله.

هناك أيضاً “الزعيم” على سبيل المثال، والكلمة هنا ربما كانت ترجمة بالعربية للفوهرر والدوتشي، والتي اشتق منها زعماء آخرون أيضاً ألقابهم. وكلمة “المرشد الأعلى” بالمناسبة هي الترجمة الأعمق لكلمة “الفوهرر”، ولو استطردنا قليلاً، كان تعبير “المستبد العادل” يحظى بشعبية موصوفة في ذلك الزمن، ومنذ القرن التاسع عشر.

هناك الكثير من التوصيفات التي لا يٌستحسن التمادي في ذكرها، ولكن أحدها ضروري على الأقل، وهو أن في سوريا نظاماً طائفياً. والطائفية ببساطة هى الارتباط الزائد بالطائفة أو الجماعة، والمقصود هنا بالخصوص هو المضمون السياسي لهذا الارتباط وليس الديني أو المذهبي مهما كان تأثيره. ونظام الأسد لم يخدم أية طائفة بالتخصيص، والطائفة العلوية هي المعنية بالطبع. بل إن الأسدين كانا معنيين دائماً بعدم تطوير المناطق المعنية التي تملك إمكانيات استثمار هامة، حتى تبقى مصدر توريد للعاملين في الجيش وأجهزة الأمن وما في حكمهما. وليس عدم التطوير وحده، بل أيضاً تعميم رسائل الترهيب والعقاب المضاعف في حالة العصيان والتمرد. ويؤكد سوريون منذ زمن للتأكيد أن النظام يستخدم الطائفة والطائفية أكثر من كونها طائفة، لأنه حكماً ليس مخلصاً إلا لنفسه ولدوام سيطرته.

ما الذي ينطبق إذن على هذا النظام، غير القول ببربريته وهمجيته ووحشيته، وضرره غير المحدود على شعبه أولاً ثم منطقته فالعالم؟! وما الذي يمكن فعله غير الدعوة والعمل من أجل الإسراع بالانتهاء منه، وتقديم رموز طغيانه وجرائمه إلى المحاكمات، وتحرير هذا الشعب الذي طال صبره، وغدا مكشوفاً أمام كل احتمالات الخراب والتشرد، بعد القتل والإفقار؟!

لقد تناهى هذا النظام حالياً، وعلى أية حال، إلى وضع يصعب فيه التقاط صورة ثابتة واضحة المعالم له، وغدت هذه المسألة بحثاً في التاريخ. حتى الاعتدال، والمرونة، وتلمّس الحلول السياسية والآمنة، وحثّ العالم على التدخل الإيجابي، والمطالبة بتطوير وتطبيق متطلبات القانون الدولي الإنساني، هي جميعها ليست إلا تعبيراً عن إيقاع هادئ، لصرخة تصمّ الآذان!

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى