سياسة

البحث عن ضائع…في التاريخ السياسي ـ الدستوري لسوريا..ملف الدستور/ ماجد كيالي

يعتبر الدستور أحد ثمار العمران البشري، في الانتقال من الغيبيات إلى العقلانية، وهو نتاج تطور النظم السياسية، وظهور ما يعرف بالمجتمع المدني، وهو بمثابة عقد اجتماعي، يحدد طبيعة النظام السياسي، في بلد معين، وشكل العلاقة بين السلطات (التنفيذية والقضائية والتشريعية) وطريقة تداول السلطة فيه، ويعتبر المرجع للقوانين في البلد المعني، لذا فهو القانون الأعلى أو الأسمى. أيضا، فإن الدستور هو الذي يحدد طبيعة العلاقة بين الدولة ومواطنيها، ويوضّح حقوقهم وواجباتهم، كما يحدد العلاقة فيما بين المواطنين الذين يشكلون المجتمع، كأفراد أحرار ومتساوين إزاء القانون وإزاء الدولة.

وبشكل عام فإن الدول المتطورة هي تلك التي تحرص على صوغ دساتير لها، تعزز من استقرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وترسخ تعاضد مواطنيها فيما بينهم، وفيما بينهم وبين دولتهم. أما الدول التي لا توجد فيها دساتير، أو التي تحتكم إلى دساتير ناقصة، أو شكلية، فهي على الأغلب دول غير ناضجة، لا على الصعيد الدولتي ولا على الصعيد المجتمعي، وهذا النوع من الدول يفتقر للدولة بما هي دولة مؤسسات وقانون، ويغلب عليه غياب حقوق المواطنة، والميل للدكتاتورية والاستبداد. وطبعا، ثمة دساتير تعضد حقوق المواطنة، وترتكز على قواعد الديمقراطية الليبرالية (كمذهب في الحرية)، كما ثمة دساتير، تعضد النظم الديكتاتورية، بكل مستوياتها، بحيث تصادر حقوق مواطنيها، وهي تتألف من النظم اللاديمقراطية، بكل أنواعها، ومستوياتها.

وفي نظرة تاريخية، فإن أول وثيقة دستورية وضعت في بريطانيا (1215)، وهي الماجنا كارتا، لتقييد سلطات الملك، في حين كان أول إعلان لـ “حقوق الإنسان والمواطن” وضعته “الجمعية التأسيسية” المتشكلة إبان الثورة الفرنسية 1789، إلا أن أول دستور، بمعنى الكلمة، هو دستور الولايات المتحدة الأمريكية، وأول جملة فيه هي: “نحن شعب الولايات المتحدة الأمريكية” (1)، وقد وضع في العام 1787، وتم تضمينه وثيقة الحقوق الأساسية في العام 1791.

الدستور كعقد اجتماعي

وكانت التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية أدت إلى تطوير المفاهيم المتعلقة بأنظمة الحكم، سيما بعد انتهاء زمن الإمبراطوريات وأنظمة الحكم المطلق في أوروبا، التي كانت تستمد سلطتها من السماء، أو من بابا روما، بحيث باتت تظهر مفاهيم المواطن والمجتمع المدني والجمهورية والسيادة، والعقد الاجتماعي. لذا، ففي هذا الخصوص، فإن الفكر السياسي الحديث يفترض أن المواطن هو شخص ذو مكانة حقوقية، وقانونية فهذا بالضبط ما يميز الفرد/المواطن في الدولة الحديثة، أو في النظام الجمهوري، عن الفرد من “الرعية” في أنظمة الحكم المطلق، أو أنظمة العصور الوسطى وما قبلها، المستندة أساسا لفكرة التفويض الإلهي، أو الغلبة، وهذا ما أقرته المواثيق الدولية وضمنها الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) فيما بعد، وأول جملة فيه: “يولد الناس أحرارا، ومتساوين في الحقوق” (2).

لذا فليس اعتباطا أن المواطنة تتألف من ذوات أفراد يتمتعون، 1) بالحرية، في التفكير والإرادة. 2) بالمساواة إزاء القانون. 3) بالاستقلالية عن أية انتماءات قبلية (أثنية أو طائفية أو مناطقية أو عائلية)؛ في حين أن الثاني (الرعية) مفهوم جمعي لأشخاص لا ذوات خاصة لهم ولا مكانة حقوقية ولا إرادة حرة ولا استقلالية.

ويعد توماس هوبز وجون لوك الإنكليزيان، وجان جاك روسو الفرنسي، وإيمانويل كانط الألماني (القرنين السابع والثامن عشر)، كآباء لنظرية العقد الاجتماعي، على تفاوت نظرتهم إلى ذلك العقد، أو إلى مكانة الحكام والمحكومين، سيما بين هوبز الذي بدا أنه مساند للحكم المطلق، لضبط الطبيعة البشرية الذئبية عنده، وتحقيق الأمان والسلام، بإحالة الحقوق الفردية للحاكم (الحرية مقابل الأمن كأنها قديمة)، وبين لوك وروسو وكانط رأوا غير ذلك، باعتبارهم أن الأفراد يتنازلون عن حريتهم طواعية، من أجل منفعة أكبر لهم، أو أنهم يتنازلون فيها للمجتمع، أو للشعب، وليس لحاكم فرد. ورأى روسو أن الشعب، المتشكل من مجموع المواطنين الأفراد، الأحرار والمتساوين، هو الذي يؤلف الإرادة العامة. وأكد لوك على أن السلام يفترض وجود أساس حكم مدني، والفصل بين السلطات. بل إن لوك وروسو يتوافقان على أن شرعية أية سلطة مشروطة بالتزام الحاكم بصيانة الحقوق والحريات الفردية وإلا فللناس حق الثورة عليه، وهي ذاتها الأفكار التي أسست لظهور فكرة الجمهورية، كنقيض للملكية، حيث الحكم المطلق، والمجتمع المدني كمواز للدولة كجهاز حكم، وكرقيب عليها. (3) بل إن روسو حمل الحكام مسؤولية أي انتهاك للحقوق، وبرر للمواطنين مقاومة حكامهم عند ظهور بوادر انحراف واضطهاد. وعنده، أيضا، فإن الإرادة العامة للشعب هي فوق أي إرادة فردية، وأن “السيادة هي جمع أصوات المواطنين كافة.. إذ لا وجود للشعب خارج الأفراد الذين يتكون منهم”. أما بالنسبة لكانط فقد ركز، من جهته، على مكانة الدستور المدني، الذي يتأسس على ثلاثة مبادئ: “حرية أعضاء المجتمع، ومبدأ خضوعهم جميعا لقانون وحيد مشترك، ومبدأ المساواة بين الجميع، وعلى قاعدة الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.(4) بيد أنه في خضم هذا الجدل لا يجوز اختزال توماس هوبز، بمساندة الحكم المطلق، إذ إن فلسفته كانت تنطلق من نزع القداسة عن ذلك الحكم، وهو ما يحسب له، وتحويلها إلى شأن دنيوي، أي تحويل القانون الطبيعي إلى قانون وضعي، يقوم على التعاقد، بحيث يتنازل الناس عن بعض حقوقهم، باعتبار الطبيعة الذئبية، أو الفطرة البشرية، عنده، لصالح الدولة التي تؤمن حمايتهم.

معضلتان في العالم العربي

أما في العالم العربي فثمة هنا ملاحظتان، الأولى، تتعلق بتغييب الدولة بما هي دولة مؤسسات وقانون حقا، وتغييب المواطنة، بمكانتها القانونية والحقوقية، ولنلاحظ مثلا ندرة الكتابات التي تتحدث عن ذلك صراحة. ومثلا، فإن تقارير “التنمية الإنسانية العربية” (5)، التي كانت صدرت بشكل دوري كل سنة، في مطلع الألفية الجديدة، رصدت أربعة نواقص يعاني منها العالم العربي، هي نقص الحرية، ونقص المعرفة، ونقص تمكين المرأة، ونقص التنمية، في حين أنها تجاهلت، أو سكتت، عن النقص في إقامة الدولة، كدولة مؤسسات وقانون، إذ في هذه المنطقة لدينا سلطة أكثر مما لدينا دولة، كما عن نقص المواطنة، أي المكانة الحقوقية للمواطن. ولنلاحظ أن هذا الأمر، أي النسيان، شمل الأحزاب والتيارات الأيدلوجية الكبرى في العالم العربي (اليسارية والقومية والإسلامية)، التي تجاهلت تأخر إقامة دولة المؤسسات والقانون، وتغييب مكانة المواطن، بما في ذلك الافتقاد للحريات الأساسية. وربما في هذا المجال يحضرنا، كاستثناء الحديث عن كتابين: الدولة التسلّطية في المشرق العربي المعاصر، لخلدون النقيب (6)، وكتاب: “الدولة ضد الأمة” لبرهان غليون (7).

أما الملاحظة الثانية، فهي تتعلق بضعف الحمولات الليبرالية، كمذهب في الحرية الفردية، علما أن الحرية هي معطى فردي، ومن غير الجائز تحميلها على معطى جماعي، كالقول بحرية الشعب، إذ لا يمكن لشعب أن يكون حرا، إن كان أفراده لا يتمتعون بالحرية. والمعنى أن هذا الكلام مزيف، أو ديماغوجي، وينطوي على التورية والتلاعب. والمسألة هنا برأيي تتعلق بأن الأيدولوجيات الكبرى، التي تحكمت بالفكر السياسي العربي المعاصر بكل مشاربها (اليسارية والقومية والإسلامية) افتقدت لفكرة الحرية، وبالتالي فكرة المواطنة، لمواطنين أفراد ومستقلين ومتساوين. إذ لا يمكن الحديث عن ديمقراطية مثلا من دون المرور بهذه الفكرة، وهضمها في الثقافة السياسية، لأننا حين ذاك نكون أمام ديمقراطية مزيفة، أو ناقصة، وهو ما يعرف بديمقراطية الانتخابات، أو الاستفتاءات، أو كديمقراطية توافقية لجماعات، طائفية أو أثنية، وهي كلها تصادر مكانة الفرد، الحر والمستقل.

ومعلوم أن الحديث عن الديمقراطية في الغرب يقترن بتمثل الليبرالية، التي تتمثل فكرة المواطن الفرد، وحقه في الحرية والاستقلالية، ، ذلك أن التحقيب للأفكار الثقافية والسياسية في أوروبا، عبر تاريخها، من عصر الأنوار إلى الحداثة، مكنها من ذلك. ومعلوم أن أوروبا عاشت مرحلة الإصلاح الديني والنزعة العلمانية أولاً (بدءا من القرن السادس عشر)، ثم عاشت حقبة العقلانية متلازمة مع حقبة الليبرالية مع ديكارت وكانط وهيغل ولوك وروسو وستيوارت مل (بين القرن السابع عشر والتاسع عشر)، ثم حقبة الدولة الديمقراطية الليبرالية منذ أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين. ويفيد كل ذلك بأن الديمقراطية الليبرالية لم تأت إلى أوروبا دفعة واحدة، وإنما أتت بطريقة تدريجية، كما أتت كنتاج للثورات في مجال الفكر والثقافة، وكانعكاس للثورات الحاصلة في مجال العلوم والتكنولوجيا وللتحولات المجتمعية والسياسية الدولتية.

والمشكلة أن أيا من تلك التطورات أو التحولات (الثقافية والاقتصادية والسياسية والدولتية) لم تحصل في البلدان العربية، ما يفسّر ضعف توطّن النزعة الليبرالية (الخاصة بحريات الفرد والمجتمع) في الثقافة والمجتمع؛ وتالياً تعثر الديمقراطية، حتى في تلك البلدان التي “تنعم” بالانتخابات وتزخر بالأحزاب (لبنان مثلا، وحتى في إيران).

يستنتج من ذلك أنه لا يمكن تأسيس الديمقراطية من دون حامل ليبرالي، وهذه أيضاً مسألة لم تطرح في التجربة الديمقراطية الأوروبية، لأنها مسألة ناجزة، كونها أسبق من الديمقراطية (كما شهدنا في الماجنا كارتا وفي إعلان حقوق الإنسان والمواطن وفي دستور الولايات المتحدة)، فالديمقراطية ينبغي أن تتأسس أصلا على الحرية والعقلانية والدولة الدستورية، وعلى فصل السلطات، والمساواة أمام القانون، وتداول السلطة، واحترام حقوق الإنسان والجماعات؛ والتي تختزل مسألتي العلمانية والليبرالية.

التاريخ السياسي المضطرب لسوريا

كانت تلك المقدمة بمثابة مدخل ضروري للتعريف بالدستور، ولإدراك مكامن الضعف أو الخلل في تعاطي البلدان العربية مع مسائل الدولة والمواطنة والدستور والمجتمع المدني، وهو ما يمكن ملاحظته بشكل أوضح في استعراض التاريخ الدستوري لسوريا، والذي يعكس تاريخها السياسي، والتطورات التي حدثت فيها، على الصعيدين الدولتي والمجتمعي.

وفي الواقع أن سوريا عرفت الدستور في مرحلة مبكرة، أي منذ قيامها ككيان دولتي مستقل، بعد الخروج من الإمبراطورية العثمانية. بيد إن العلاقة مع الدستور لم تكن هي ذاتها في كل المراحل السياسية التي مرت بها سوريا، على اختلافها، وتباين نظم الحكم فيها، علما أنه منذ ذلك التاريخ، أي منذ خروجها من ربقة الإمبراطورية العثمانية (1918) عرف السوريون 220 حكومة (8)، ضمنها 70 حكومة منذ الاستقلال (1946)، 37 حكومة في المرحلة البعثية ـ الأسدية (1963ـ2019).

أيضا، ومنذ عهد الاستقلال (1946)، تناوب على رئاسة سوريا 16 رئيسا هم: 1ـ شكري القوتلي (17 أغسطس 1943 – 30 مارس 1949). 2 ـ حسني الزعيم (30 مارس – 14 أغسطس 1949). 3 – هاشم الأتاسي (15 أغسطس 1949 – 2 ديسمبر 1951). 4 – فوزي سلو (3 ديسمبر 1951 – 11 يوليو 1953). 5 ـ أديب الشيشكلي (11 يوليو 1953 – 25 فبراير 1954). 6- هاشم الأتاسي (28 فبراير 1954 – 6 سبتمبر 1955). 7 – شكري القوتلي (6 سبتمبر 1955 – 22 فبراير 1958). فترة الوحدة مع مصر (22 فبراير 1958 – 29 سبتمبر 1961). 8- مأمون الكزبري (29 سبتمبر – 20 نوفمبر 1961). 9 ـ عزت النص (20 نوفمبر – 14 ديسمبر 1961). 10 – ناظم القدسي (14 ديسمبر 1961 – 8 مارس 1963).11 – لؤي الأتاسي (9 مارس – 27 يوليو 1963). 12 – أمين الحافظ (27 يوليو 1963 – 23 فبراير 1966). 13 – نور الدين الأتاسي (25 فبراير 1966 – 18 نوفمبر 1970). 14 – أحمد الخطيب (18 نوفمبر 1970 – 22 فبراير 1971). 15 – حافظ الأسد (22 فبراير 1971 – 10 يونيو 2000). 16 – بشار الأسد (17 يوليو 2000…). (9)

هكذا عايش السوريون عشرة رؤساء في 13 عاما (1946ـ1963)، كنتاج لحال الاضطرابات السياسية والانقلابات العسكرية الستة (قبل انقلاب البعث 1963)، السياسية، وستة رؤساء بعد حكم البعث، منهم أربعة في سبعة أعوام (1963 ـ 1970)، واثنان منهم في ظل حكم الأسد وابنه في قرابة نصف قرن، حكما سوريا خلالها بالحديد والنار، بالفساد والاستبداد، وحولا الجمهورية إلى نظام وراثي، وفقا لشعار: “سوريا الأسد إلى الأبد”، وبقية القصة معروفة.

البحث عن الدستور في سوريا (10)

على ذلك، فمن الناحية الدستورية، يمكن تحديد سمات كل مرحلة في الآتي:

أولا، مرحلة العهد الفيصلي (1918ـ1920)

وقد شهد هذا العهد (11) ست حكومات في غضون عامين، أي أنه استمر لفترة قصيرة جدا، من انتهاء الحقبة العثمانية إلى وقوع سوريا تحت الانتداب الفرنسي، وفي تلك الفترة تم صوغ دستور (1920)، من قبل 20 من الشخصيات من مختلف المناطق، برئاسة هاشم الأتاسي، لكن هذا الدستور، الذي تحدث في بنوده عن مملكة سورية عربية، وعن حكومة ملكية نيابية، وعن حرية المعتقدات والديانات، وحرية الطباعة، وعدم جواز محاكمة أحد إلا في حالات يعينها القانون، لم يكتب له الحياة، بسبب خضوع سوريا للانتداب الفرنسي.

ثانيا، مرحلة الانتداب الفرنسي (1920ـ1946)

في تلك المرحلة تم تشكيل 27 حكومة في 26 عاما. وفيها تمت صياغة دستور (1928) من خلال جمعية تأسيسية انبثق عنها لجنة ضمت 27 شخصية برئاسة إبراهيم هنانو، حيث اضطلع فوزي الغزي بالدور الأكبر في صياغته. وقد نص ذلك الدستور على اعتبار سوريا جمهورية نيابية، وعلى حماية الحقوق والحريات، وأن الأمة مصدر كل سلطة، وأن السلطة التشريعية منوطة بمجلس النواب. إلا أن سلطات الانتداب حاولت تعطيله، أو تعطيل بعض بنوده التي تنص على استقلال سوريا وسيادتها، ناهيك عن عدم التعامل مع سوريا كوحدة واحدة، ولم يتم العمل في ذلك الدستور إلا في العام 1943، أي بعد الحرب العالمية الثانية، وقبيل الاستقلال، إلى أن حدث الانقلاب العسكري الأول (1949)، بقيادة حسني الزعيم، حيث انتقلت سوريا إلى طور أخر في تاريخها السياسي.

ثالثا، مرحلة ما بعد الاستقلال والانقلابات العسكرية (1946ـ1963)

تم تشكيل 33 حكومة في غضون 17 عاما، في هذه المرحلة المضطربة، بمعدل حكومتين في كل سنة. وكان الانقلاب الأول قاده حسني الزعيم (1949)، الذي عطل دستور (1928)، ونظم أول عملية استفتاء على منصب رئيس الجمهورية، ومنحه حق صوغ دستور جديد. وآنذاك شكل الزعيم لجنة من سبعة أشخاص لصياغة دستور، تضمن الأخذ بالنظام البرلماني، مع إعطاء صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية.

إلا أن لعبة الانقلاب دارت على الزعيم، مع الانقلاب العسكري الثاني بقيادة سامي الحناوي (أواخر 1949)، حيث تم انتخاب جمعية تأسيسية أصدرت أحكاماً دستورية مؤقتة. وبعد ذلك بأسبوع حصل الانقلاب العسكري الثالث الذي قاده أديب الشيشكلي (مع هاشم الأتاسي) (كانون أول 1949)، حيث استمرت الجمعية التأسيسية بعملها في إعداد الدستور، برئاسة ناظم القدسي (في ظل حكومة خالد العظم)، من 166 مادة، وتم إقراره في 5 أيلول/سبتمبر (1950)

وقد تضمن دستور (1950) اعتبار أن سورية جمهورية عربية ديمقراطية نيابية ذات سيادة تامة. وأن السيادة للشعب، لا يجوز لفرد أو جماعة ادعاؤها، وهي تقوم على مبدأ حكم الشعب بالشعب وللشعب. وأن دين رئيس الجمهورية الإسلام. والفقه هو المصدر الرئيسي للتشريع. وأن حرية الاعتقاد مصونة. والدولة تحترم جميع الأديان السماوية. وأن الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية. وتأكيد أن الدولة تكفل حرية الرأي ولكل سوري أن يعرب بحرية عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير، وأن الصحافة والطباعة حرتان ضمن حدود القانون. وأنه للسوريين حق تأليف أحزاب سياسية على أن تكون غاياتها مشروعة ووسائلها سلمية وذات نظم ديمقراطية. وحدد انتخاب رئيس الجمهورية من قبل مجلس النواب بالتصويت السري، وأن يفوز بأكثرية ثلثي مجموع النواب، ومتماً الأربعين من عمره. وأن مدة رئاسة الجمهورية خمس سنوات كاملة تبدأ منذ انتخاب الرئيس. ولا يجوز تجديدها إلا بعد مرور خمس سنوات كاملة على انتهاء رئاسته. وأن القضاء سلطة مستقلة، فقضاة الحكم مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون. كذلك استحدث الدستور المحكمة الدستورية العليا التي يختارها مجلس النواب، بواقع 7 أعضاء من أصل 14 يرشحهم رئيس الجمهورية وأعضاء المحكمة العليا يقسمون اليمين أمام مجلس النواب، ورئيس المحكمة العليا يرأس مجلس القضاء الأعلى.

إلا أن الشيشكلي نفذ انقلابا هو الثاني له (أواخر 1951)، نصب فيه نفسه رئيسا للدولة (أواخر 1952)، ووضع وقتها دستورا يحدد النظام في سوريا، كنظام رئاسي (صيف 1953)، وانتخاب الرئيس من قبل الشعب، بدل البرلمان، لكن الشيشكلي تنازل عن الحكم نتيجة تزايد المعارضة (1954)

الانقلاب الرابع، (1954) أعاد هاشم الأتاسي إلى الحكم، ما أدى إلى عودة سوريا، إلى دستور 1950، وتلك هي الحقبة الليبرالية حقا، حيث الانتخابات والحياة النيابية، في سوريا (1954ـ1958).

وفي عهد مع الوحدة مع مصر تم تعليق العمل بدستور 1950، بإعلان الرئيس جمال عبد الناصر الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة، والمؤلف من 73 مادة، ما اعتبر نهاية النظام البرلماني في سورية، وإقامة نظام رئاسي يمنح الرئيس سلطات تشريعية وتنفيذية كبيرة، من دون الخضوع لأي سلطة، ناهيك أنه منع تعدد الأحزاب، والحد من الحريات الفردية.

في 28\9\1961 وقع الانقلاب العسكري الخامس في سورية بقيادة عبد الكريم النحلاوي ما أدى إلى الانفصال عن مصر، وتم تكليف حكومة مدنية قامت بوضع دستور مؤقت وافق عليه الشعب السوري بالاستفتاء، الذي جرى في 1 و2 كانون الأول/ديسمبر 1961، ثم تم انتخاب المجلس التأسيسي والنيابي، ومهمته الأولى وضع دستور دائم. إلا إنه بعد انتخاب ناظم القدسي رئيساً للجمهورية، أقر إعادة العمل بدستور 1950 مع بعض التعديلات؛ وأهمها: تخويل رئيس الجمهورية بحق حل المجلس النيابي، ومنح السلطة التنفيذية، ممثلة بمجلس الوزراء المنعقد برئاسة رئيس الجمهورية، صلاحيات إصدار مراسيم تشريعية. وبعد ذلك قام النحلاوي بانقلاب أخر في أذار/مارس 1962 28 حل فيه البرلمان، الأمر الذي مهد للانقلاب البعثي، وضمنه لزمن الحكم الأسدي، بعد أن أنهك الجيش بتلك الانقلابات المتوالية، التي استنزفته، وأخرجت كثر من قادته، وهو ما قطفت ثماره المجموعة العسكرية التي كانت تشتغل مع حافظ الأسد في اللجنة العسكرية، باسم حزب البعث.

رابعا، الدساتير في مرحلة البعث

لم يأت حزب البعث إلى السلطة في سوريا، نتيجة عمل حزبي، أو شعبي، ولا نتيجة ثورة شعبية، وإنما جاء بواسطة انقلاب عسكري هو السادس من نوعه، بتنظيم مما عرف فيما بعد بـ “اللجنة العسكرية”، التي تغطت بحزب البعث، وقبل المرحلة الأسدية تناوب على سوريا ثلاثة رؤساء هم، لؤي الأتاسي، لفترة قصيرة، ثم أمين الحافظ، حتى العام 1966، ثم نور الدين الأتاسي حتى العام 1970، والاثنان الأخيران أطيحا بانقلاب عسكري (السابع والثامن من نوعه) لعب فيهما حافظ الأسد الدور الرئيس، طبعا كان يمكن أن تكون سوريا على موعد انقلاب تاسع، كان يزمع على تدبيره رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد في العام 1984، إلا أن الظروف لم تسنح له، بسبب طريقة حافظ الأسد، بإنشاء وحدات وفرق عسكرية خاصة، وأجهزة أمنية واستخباراتية، كلها مرتبطة به، وتقف في مواجهة بعضها، ما جعل من المتعذر تشكل مركز قوة مستقل، وما جعل الأسد الأب في منأى عن أي محاولة انقلابية.

المهم أنه في المرحلة البعثية الأولى (قبل الأسد) تم فرض دستور مؤقت لسوريا، نص على مبدأ قيادة الحزب الواحد، وإعطاء صلاحيات كبيرة للرئيس، وباتت القيادة القطرية بمثابة المشرع الوحيد، وحتى إنها هي التي تقرر من يترشح لمنصب الرئاسة، وفي ظل ذلك تمت مصادرة حقوق المواطنين، لاسيما بفرض قانون الطوارئ (12).

بيد أن أول دستور في العهد البعثي، حصل في الطور الثاني، أي في ظل حكم حافظ الأسد (دستور 1973)، ولم يوضع من قبل جمعية تأسيسية أو من قبل لجنة مختصة وإنما وضع من قبل نظام الحكم وقدم لمجلس الشعب ليصادق عليه. ومن أهم مواده (13): النص على أن القطر العربي السوري جزء من الوطن العربي. وأن الشعب في القطر العربي السوري جزء من الأمة العربية. وأن السيادة للشعب ويمارسها على الوجه المبين في الدستور. كما نص على أن دين رئيس الجمهورية الإسلام. ونص في مادته الثامنة الشهيرة على أن “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية.” كما نص في مادته الحادية عشرة على أن “القوات المسلحة ومنظمات الدفاع الأخرى مسؤولة عن سلامة أرض الوطن وحماية أهداف الثورة في الوحدة والحرية والاشتراكية.”، أي أنه ادخل الجيش في السياسة، وفي مواجهة الشعب، وفق نص دستوري. ونص هذا الدستور في مادته (101) على أن رئيس الجمهورية يعلن “حالة الطوارئ ويلغيها على الوجه المبين في القانون”. وانه بحسب المادة (103) هو “القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، ويصدر جميع القرارات والأوامر اللازمة لممارسة هذه السلطة، وله حق التفويض ببعض هذه السلطات.” وفي المادة (107) أن “لرئيس الجمهورية أن يحل مجلس الشعب بقرار معلل يصدر عنه، وتجري الانتخابات خلال تسعين يوماً من تاريخ الحل.” ونصت المادة (110) أنه “يعد مشاريع القوانين ويحيلها إلى مجلس الشعب للنظر في إقرارها.”

بعد الثورة السورية، وبضغط منها ومن المجتمع الدولي، قام نظام الأسد (الابن) بتشكيل لجنة من 29 شخصا، لإعادة كتابة الدستور، برئاسة المحامي مظهر العنبري، المساهم الرئيس في وضع دستور 1973، وهو ما بات يعرف بـ دستور 2012. ومن اهم ما جاء في هذا الدستور (14) إلغاء المادة الثامنة، من الدستور السابق، والنص في الدستور الجديد على التعددية السياسية وعلى ممارسة السلطة ديمقراطيا عبر الاقتراع (ديمقراطية انتخابات)، كما نص على تشكيل الأحزاب السياسية، وأعيد العمل بسن الرئيس بحيث يكون الحد الأدنى 40 عاما، وهو ما جرى تغييره على قياس بشار الأسد، الذي كان عمره 34 عاما عندما توفي والده، وتم حينها تغيير الدستور بطريقة مهينة ببضعة دقائق، وسط تصفيق أعضاء مجلس الشعب.

ملاحظات ختامية:

يتضح من العرض السابق أن الشعب السوري لم يحظ ولا مرة في حياته، باستثناء تلك الحقبة الليبرالية القصيرة، بدستور ملائم، وعصري، وأن النظام الأسدي، الذي حكم سوريا لنصف قرن، هو المسؤول الأساسي عن مصادرة حقوق السوريين، وافتقارهم للمشاركة السياسية.

على ذلك فإن السوريين في بحثهم عن دستور ينظم حياتهم السياسية، ويكفل حقهم في الحرية والكرامة، ويضمن حقوقهم الفردية والجمعية، ويعزز اجماعاتهم السياسية، معنيون بتأكيد المسائل التالية في أي نص دستوري:

أولا، ضمان حقوق المواطنة، ولا سيما الحق في الحرية والكرامة والعيش الكريم، كمواطنين أحرار ومتساوين.

ثانيا، ضمان مدنية السلطة، وعدم تدخل الجيش والأجهزة الأمنية في الحياة السياسية.

ثالثا، للمواطن الحق في الاستقلال بمجاله الخاص، بيته أو مكتبه، أو مكان عمله، وعدم تدخل أية جهة حكومية في هذا المجال إلا وفق القانون.

رابعا، إيجاد حل عادل للمسألة الكردية في سوريا، فمع الحقوق الفردية للأكراد السوريين، كمواطنين على قدم المساواة مع غيرهم من السوريين، فثمة حقهم الجمعي، كشعب، وكجزء من شعب، في اللغة والأعياد والثقافة القومية والتجمعات الحزبية.

خامسا، تعزيز الديمقراطية الليبرالية، أي التي تتأسس على حرية المواطنين، وحقهم في التعبير والمشاركة السياسية، وتأسيس الأحزاب وإنشاء الصحف.

سادسا، اعتماد اللامركزية، أو النظام الفدرالي، على أسس جغرافية، وليس على أسس طائفية أو أثنية، باعتبار أن ذلك يعزز من عدالة توزيع الموارد، والمشاركة في القرار، وباعتبار ذلك يسهم بعدم إعادة إنتاج المركزية التي تفضي إلى الظلم في التوزيع، وربما إلى إعادة انتتاج الاستبداد.

سابعا، ضمان الفصل بين السلطات، وعدم طغيان سلطة على أخرى.

ثامنا، اعتماد قيم فوق دستورية، تؤكد الاجماعات الوطنية للشعب السوري، وفي المقدمة منها، الحقوق والحريات المتساوية لجميع المواطنين، من دون أي تمييز، لأي سبب كان، وضمان استقلالية المجال الخاص للمواطنين، والفصل بين السلطات، وضمان حق ابداء الرأي وحرية التعبير، والمشاركة السياسية، باعتبارها قيم لا يمكن تغييرها او المس بها.

هكذا، فطوال السنوات الماضية حرم السوريين من دستور ينظم حياتهم السياسية والاجتماعية، ويحترم حقوقهم، ويعزز اجماعاتهم، والأمل أن يتمكن السوريون من تغيير هذا الواقع في المستقبل القريب.

المراجع:

1 ـ دستور الولايات المتحدة الأمريكية hrlibrary.umn.edu/arabic/us-con.html

2 ـ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، الأمم المتحدة، www.un.org/ar/universal-declaration-human-rights/index.html

3 ـ العقد الاجتماعي: لوك، هيوم، روسو، إصدار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2019.

4 ـ إيمانويل كانط، “نحو السلام الدائم”، دار صادر، بيروت، 1985

5 ـ تقرير التنمية الإنسانية العربية، وهي أربعة من نوعها، صدرت عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، للأعوام: 2002 ـ 2005

6 ـ خلدون النقيب: “الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر”، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1996.

7 ـ برهان غليون: “المحنة العربية: الدولة ضد الأمة”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2015.

8 ـ رؤساء حكومات سوريا، موقع رئاسة مجلس الوزراء،

www.pministry.gov.sy/home?search_module_id=117&mode=1

9 ـ رؤساء سوريا https://syrmh.com/2019/02/02/%D8%B1%D8%A4%D8%B3%D8%A7%D8%A1-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9/

10 ـ الدساتير المتعاقبة في سوريا،

11 ــ محمد فاروق إمام: “الحياة السياسية في سورية: العهد الفيصلي، 1918-1920″، دار المنار، الأردن – 2008. أيضا، ورقتي عبد الله حنا، وعلى محافظة: الحكومة العربية في دمشق 1918ـ1920)، في “المؤتمر السنوي السادس للدراسات التاريخية في بيروت (أبريل 2019)

12 ـ نص قانون الطوارئ  www.shrc.org/?p=15541

13 ـ دستور الجمهورية العربية السورية الصادر في 13 آذار 1973: موقع اللجنة السورية لحقوق الإنسان، الرابط:  goo.gl/eBFv6D

14 ـ دستور 2012 في الرابط: https://www.wipo.int/edocs/lexdocs/laws/ar/sy/sy014ar.pdf

بروكار برس

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى