أبحاث

الثامن عشر من برومير بشار الأسد/ أحدهم 36

عزيزي، أو عزيزتي…

لا أعرف عنكَ، عنكِ، عنكم، إلا شيئين: عمرك، 18؛ وأنك سوري أو سوريّة. في الواقع، ليس الأمر أنني أعرف شيئين فقط عمّن أتوجه إليه برسالة، بل إن هذه الرسالة موجّهة لأصحاب وصاحبات الصفتين أعلاه، سوريين وسوريات من مواليد انبثاق الألفيّة. أما من أنا، فليس من المهم حالياً أن أعرّف عن نفسي أكثر مما أعرّف من أتوجه إليهم: عمري نحو 36 سنة، وأنا سوري، وسوريّة، أو كلاهما معاً. واختصاراً للضمائر، لنتفق على أنني سوري تجاوز أواسط الثلاثينات بقليل، يكتب لسوريّةٍ في الثامنة عشرة من عمرها.

إذاً، عزيزتي…

أكتب إليكِ اليوم بعد أن أمعنتُ التفكير طويلاً في حالكِ وأنت ترين وتقرأين وتسمعين في هذه الأيام، حيثما ومتى ما سمحت الكورونا، أقراناً لي في العمر، أصغر أو أكبر بعض الشيء، وهم يتحدثون عن ذكرى الثورة السورية -أرجو ألا تستهجني كثيراً أننا لا نعرف إن كانت 15 أم 18 آذار… ليس تماماً أننا لا نعرف. الموضوع معقد-. وربما تسمعين تسميات أخرى، مثل «الأحداث» أو حتى «الحرب». ربما تسمعين «مؤامرة» أيضاً، لكنني لن أخوض في هذه التسميات اللاحقة، فغرضي من هذه الرسالة هو التسمية الأولى، الثورة السورية، هذا الشيء الذي بدأ وأنتِ في التاسعة من العمر تقريباً. وقد كان تفكيري خلال الأيام السابقة متمحوراً حول أقرانكِ في العمر، ومن هم أصغر أو أكبر قليلاً، يعيشون داخل البلد، في مناطق سيطرة النظام أو في مختلف المناطق الخارجة عن سيطرته مع اختلاف المسيطرين عليها؛ أو يعيشون في مختلف دول الشتات القريب والبعيد، وهم لا يفهمون أي «احتفاءٍ» هذا، وعن أي ثورة نتحدث. ماذا جلب ما حدث منذ 2011 حتى اليوم من حسنات كي يحتفل بعضنا بتلك الثورة، متمسكين برموزها ومعانيها وذكرياتها وتضحياتها. ربما تسمعين هذه الأيام معارفَ لك وهم يستذكرون حماسة المظاهرات الأولى، وأولى لحظات تلمّس الحرية واستنشاقها. كلامٌ قد يبدو لك دون معنى، أو رطانة ماضوية لا تعني شيئاً، صادرة عن أشخاص لا يرون «الحاضر» كما ترينه، ولا يفهمون الواقع كما يفهمه جيلك.

هل بدأتِ بالضجر من القراءة؟ هل اعتبرتِ أنك أمام محاولةٍ جديدة، من نوستالجي شرع يتوغل في بحر أواسط العمر، لرواية عنترياتٍ ما، لا ترين من توابعها اليوم إلا الخراب والدمار والتحطم؟ في الحقيقة، ليس هذا هو مقصدي من هذه الرسالة. لا أريد أن أقدّم خطاباً ثورياً عن ضرورة التمسّك بلحظة بداية قيامية مهما تراكم فوقها من الركام والحطام والدم -رغم إيماني التام بذلك-. أكتب هذا النص لأحكي قصةً أقدم بعض الشيء. فأنا، والأكبر مني، والبلد، وخرابه، وحتى أنتِ، لم نولد عام 2011، بل إن هذا العام، والثورة التي جاءت فيه، قد وُلِدَ وولِدَت قبل ذلك بكثير.

في مثل عمرك، ربما أصغر أو أكبر بسنة أو سنتين، كنتُ حين مات حافظ الأسد عام 2000.

*****

يتواتر القول، عند الحديث والكتابة عن موت حافظ الأسد، في أوساط المعارضة خصوصاً، إن صدمةً كبرى حدثت ساعة موته، لأنه قبل ذلك، كان الافتراض الشائع هو أن حافظ الأسد لا يموت. دعكِ من هذه المبالغة الشعرية، فالأمر لم يكن كذلك تماماً، لأن الجميع كانوا يعلمون أن حافظ الأسد سيموت ذات يوم. أما الوجه الواقعي لتلك المبالغة، فهو أن السوريين كانوا يعيشون كما لو أن حافظ الأسد من طبائع الأشياء؛ في سوريا ماء وهواء وتراب ونباتات وحيوانات وحافظ الأسد. هكذا كان الأمر بالنسبة لي على الأقلّ.

مات الأمين العام لـ «طبائع الأشياء» إذاً، وكان من طبائع الأشياء هذه أيضاً أن ينتقل الحكم إلى ابنه بشار. صدّقيني أن الأمر كان بهذه السلاسة والطبيعية، دون الحاجة إلى تصورات تراجيدية أو ملحمية أخرى. لكن خوفاً عميماً كان يسري من حولي خلال الساعات الأولى لإعلان الخبر، وجاءت بعده ثرثرة مكتومة راحت تنتشر في أوساط من هم أكبر مني، فهمتُ منها أن حافظ الأسد لم يكن من طبائع الأشياء عندما كانوا شباباً وشابات. الرؤساء يتغيرون إذن، وتغيّرهم هو الأمر الذي ينتمي إلى طبائع الأشياء. كان ذلك هو الدرس الفعلي الأول في السياسة الحقيقية، وقد لقّنتني إياه قوى الطبيعة؛ مات حافظ الأسد، وسيموت بشار الأسد ذات يوم.

حضرت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية آن ذاك، لتعزية بشار الأسد بوفاة والده، ومقابلته بروتوكولياً وكأنه الرئيس الفعلي، مع كل ما يحمل ذلك من رسائل ساطعة الوضوح. وقد تعامل جميع من حولي مع الأمر على أنه كلمة السر التي تكفل استقرار حكم بشار الأسد، وكان هذا درساً جديداً، يقول إن ما تريده أميركا سوف يحدث، وإن حكم بشار الأسد لسوريا تمت مباركته دولياً. لدي سجال طويل مع هاتين الفكرتين اليوم، لأن فيهما تبسيطاً شديداً رغم ما يبدو فيهما من وجاهة. أفكر اليوم؛ هل كان بشار الأسد يحتاج مباركة دولية فعلاً كي يحكم سوريا؟ حسناً، لو لم تكن أميركا راضية به وقتها، فما الذي كان سيحدث؟ لا شيء على الأرجح سوى بعض العقوبات الاقتصادية، لأنني أعرف اليوم أنه لم يكن هناك ثمة قوة في سوريا يمكن أن تقاومه. هذا ما أعرفه اليوم عند التفكير بأثر راجع، لكنني لم أعِ الأمر على هذا النحو وقتها.

هكذا صار رئيسنا اسمه بشار الأسد، لكن الرئيس الشاب، كما شاعت التسمية وقتها، لم يصبح من طبائع الأشياء مثل والده، أقلّه بالنسبة لي. وقد حظي رئيسنا الشاب بترحيب دولي كبير، وبدأ الحديث سريعاً عن خططه للإصلاح السياسي ومكافحة الفساد. وإلى جانب الترحيب الدولي الذي شعرنا به من خلال تقارير بعض الصحف التي كانت تأتينا من لبنان، ومن خلال القنوات الفضائية التي كانت أمراً عجائبياً جديداً بالنسبة لنا، كان هناك ترحيب محليّ واسع، ورِهان في الأحاديث اليومية على خطابه الإصلاحي ومشاريعه الحداثية.

أتذكّر حديثاً جرى أمامي، على الأرجح عام 2001، قالت فيه معارضة سابقة من أقاربي، سبق لها أن سُجنت لأسباب سياسية في الثمانينات والتسعينات، إن على المعارضين أن يمنحوا فرصة لبشار الأسد، وأن يكفّوا عن تحميله أوزار ما فعله والده. لا أتذكر مناسبة ذلك الحديث، إذ لم يكن بيننا في تلك الجلسة من يرفض أن يمنح فرصة لبشار الأسد. ربما كانت تَرُدُّ على شخصية افتراضية في ذهنها، أو على معارضين كانوا يكتبون في صحف عربية أو يظهرون على قنوات فضائية.

أميلُ اليوم إلى افتراض أنها كانت تتحدث إلى نفسها قبل أي أحد آخر، وأشعر بالرثاء لحالها. ما الذي كان يمكن أن نفعله كلّنا، جميع السوريين في ذلك الوقت، لو لم نُرِد أن نعطي بشار الأسد فرصته تلك؟ ما الذي كان سيحدث وقتها لو أن جميع أولئك الذين لم يكونوا راضين عن حكم حافظ الأسد أصرّوا على تحميل ابنه أوزار أفعاله؟ّ كانوا سيحترقون غيظاً جرّاء إهانة التوريث، أو سيذهبون إلى السجن على نحو ما سيحصل لكثيرين  بعد سنوات قليلة من إهانة التوريث. أفهم اليوم أنها كانت تقول ذلك كي لا تضطر إلى خوض مواجهتها عزلاء، مع الإهانة، أو مع السجن من جديد.

على أي حال، كان هناك اقتراحٌ آخر حول ما يمكن للسوريين فعله لو لم يريدوا منح فرصة لبشار الأسد، وهو الاقتراح الذي حمله السوريون عام 2011 حين خرجوا في ثورة. ستسمعين كثيراً خلال الفترة المقبلة عن «حرب السرديات»، وضمنها أن الخراب والدمار والموت الذي شهدتِهِ في طفولتك، وترين توابعه اليوم، هو ما جناه السوريون على أنفسهم. في الحقيقة، كل هذا الوخم الذي ترينه هو ردّ الأسدية على اقتراح السوريين لأنفسهم حياةً مختلفة عن «طبيعة الأشياء» الأسدية. عودي لأرشيف 2011، وابحثي قليلاً في تضحياتٍ كبرى قدمها آلاف وآلاف وآلاف من السوريات والسوريين، ضعي في مقابلها شعار «الأسد أو نحرق البلد»، ثم كوّني «سرديتك» بنفسك.

وبالحديث عن قريبتي، المعارضة السابقة، نسيتُ أن أخبرك عن أمر آخر كان من طبائع الأشياء عند موت حافظ الأسد، وهو أن هناك معارضين له، وأن هؤلاء يذهبون إلى السجن. سأعود إلى هذه النقطة بعد قليل.

إلى جانب الآمال الإصلاحية، كان هناك حديثٌ شائعٌ آخرُ عن الحرس القديم والحرس الجديد في السنوات التي أعقبت موت حافظ الأسد، ملخّصه أن الحرس القديم، فريق حافظ الأسد، هو الذي يعيق مسيرة الإصلاح. أتخيّلُ الأمر كالتالي؛ يريد بشار الأسد وفريقه الجديد تحسين الحياة في البلد، وإطلاق الحريات العامة، لكن بعض العجائز من أصدقاء والده كانوا يمانعون، ولم يكن يستطيع معهم شيئاً لأنهم «من رائحة المرحوم». ليس هذا مجرّد تصور كاريكاتوري، بل إن أشياء تشبهه كانت تُقال فعلاً وقتها، ولعلّ هذا بالذات ما دفعني لاحقاً للتفكير في السياسة على نحو مختلف، لا يقتصر على نقاش مقولات وتوازنات «الصراع في الشرق الأوسط»، بل يمتدّ ليشمل التفكير في مدى انحطاط نظام الحكم في بلدي، وفي أسباب هذا الانحطاط ونتائجه.

كانت الرطانة حول المستقبل العظيم الذي سيأتي به «الدكتور بشار» قد بدأت بُعيد وفاة شقيقه الأكبر والخيار الأول للوراثة، باسل، أوائل العام 1994. فابتداءً من ذلك الحين، تعرّفنا على بشار، الذي قُدِّمَ لنا على أنه الشاب المثقف المتعلم، «المتعلم في الغرب»، المؤمن بالعلم والانفتاح والتطوير؛ ترأَّسَ بشار الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية، وإليه يُنسب فضلٌ مزعومٌ برفع المنع الأولي عن لاقطات البث الفضائي، وكذلك إدخال الانترنت إلى البلد. وهو فوق ذلك ينفر، حسبما قيل مراراً حينها، من المديح والتبجيل والصور واليافطات.

لا أكتمكِ أن مراجعة البروباغندا الترويجية لبشار الأسد في النصف الثاني من التسعينات اليوم أمر مسلٍّ للغاية. يبدأ المرح حين نرى كيف أن المديح ببشار كان في الحقيقة ذمّاً -غير مقصود، وغير مُفكَّر به- لحافظ وزمنه؛ وأيضاً، كيف أن كل الصفات الإيجابية المسكوبة على بشار الأسد هي في الحقيقة متعارضة مع كل الشعارات التي رفعها الحكم الأسدي، بدءاً من اللازمة المُكرَِّرَة حتى التعب، حتى اليوم، عن أنه تلقى تعليماً في الغرب، وأن هذا إيجابي بحد ذاته. بغضّ النظر عن مدى منطقية أن يُعطى أي تعليم في الغرب، هكذا، قيمة إيجابية ما؛ كيف يمكن أن نفسّر أن النظام نفسه، البعثي جداً حينها، الذي يقدّم نفسه كمناضل عنيد ضد الغرب، هو نفسه الذي يسبغ على تعلّم رئيسه المستقبلي في الغرب قيمة إيجابية مطلقة، وأن سبينوزا زمانه قد أتى بعد أن قضى بضعة أشهر من تخصصه في بريطانيا (وهل سبينوزا مقبول لدى «الجهات المختصة» أصلاً؟)

في الحقيقة، ما ذكرته من نقاطٍ أعلاه ليست تناقضات في خطاب النظام، فالتناقضات تحتاج لتفكير وتحليل وتفكيك وتركيب كي يعيها المرء، ويتعلم التعامل معها، بل ويستفيد منها. في الواقع، الأسدية لا تفكّر كثيراً، بل بالكاد تفكّر. أعلم أنكِ، لو امتلكتِ الصبر والرغبة في الاطلاع التاريخي، وتجاوزتِ خطاب النظام عن نفسه وعُدتِ إلى أرشيف نقاشات وكتابات المعارضة السورية حينها، فسترين الكثير من الاعتراف بعبقرية ما لحافظ الأسد ونظامه، اعترافٌ هو في الحقيقة ابن العجز -لا يحب أحدٌ أن يُسحَقَ بيد أيٍّ يكن، أقلّه يجب أن يكون الساحق عبقرياً فذاً-. الأسدية لا تفكر إلا بما يخص الخطوط الحمراء الحقيقية لمن هم فوقها قوةً، وكيف تكون شديدة العنف تجاه من هم تحتها استطاعة. كلُّ ما عدا ذلك أترك شرحه لصديق لي. يحبّ صديقي هذا نكتةً عن حشّاش قصد شيخ الجامع ليسأله: «شيخي، تصير الصلاة بلا وضوء؟» ليجيب الشيخ: «لا تجوز، ولا يمكن، مستحيل»، فيجيب الحشاش: «شيخي طيب شو رأيك إني جربت أصلي بلا وضوء، وزبطت؟». يرى صديقي، وأوافقه على ذلك، أن هذه النكتة مفيدة لتفسير الأسدية: الأسدية، عدا تفكيرٍ شبه معدوم فيما عدا الحذر من الغضب الحقيقي (وليس الإعلامي) لمن هم أقوى منها، ليست إلا «صلاة بلا وضوء» تزبط وتزبط وتزبط، منذ 1970 حتى اليوم.

*****

صحيحٌ أنني كنتُ صغير السنّ عندما مات حافظ الأسد، وأنه كان من طبائع الأشياء، لكنني كنتُ أحمل ذاكرة ثقيلة عن المذبحة والاعتقال السياسي. عرفتُ من محيطي الصغير أشخاصاً قضوا سنوات من أعمارهم في السجون جرّاء معارضتهم لحافظ الأسد، لكن قلّما كان يتم الحديث بشأنهم، ويغلب في حال الحديث أن يتم وصفهم بأحد ثلاثة أمور؛ أولها وأكثرها شيوعاً هو اتهامهم بالحماقة والتهوّر، وثانيها هو اتهامهم بالطمع في السلطة، وثالثها تمجيدهم كأبطال أسطوريين. ورغم أن التعامل العام كان يميل لمزج هذه الصفات الثلاث دوماً، إلا أن الصفة الثالثة كانت قليلة الحضور على أي حال، والحديث برمته كان قليل التداول أمامنا كأطفال أصلاً. عندما كانت قريبتي التي تحدّثتُ عنها في السجن، سألتُ عن سبب اعتقالها، وقِيلَ لي أن أحدهم سرق أموالاً من الدولة وألبسها التهمة. عرفتُ بعد أن تجاوزت الثالثة عشرة أنها كانت معارِضة، وبعيداً عن كل ما كان يقال في وصفها، لقد ذهبت العائلة الكبيرة كلّها لاستقبالها بفرح غامر عندما خرجت، كما لو أنها كانت عائدةً من بطن الحوت.

زميل لي، كان معي في المدرسة الإبتدائية، قضى سنوات المدرسة وهو يحدثنا عن أبيه «المسافر إلى أميركا». في الحقيقة، كان والد صديقي هذا سجيناً سياسياً، وكان صديقي يزوره في فترات متباعدة حسب المقدرة، وحسب مزاجية مجال الزيارات، وكان هو يعرف أننا نعرف. لاحقاً، أتذكر هذا الصديق -الذي يعيش اليوم في أميركا فعلاً، ياللصدفة- وأعتقد أن التواطؤ بيننا كأطفال على أن نكذب على بعضنا بعضاً كان طبقة الأسدية الأولى التي دُهنت بها عقولنا وقلوبنا. ليست صدرية المدرسة، ليس الفولار، ليست بدلة الفتوة، ولا حتى ترديد الشعار الصباحي: أن تتعلَّمَ وأنت طفل أنَّ عليك أن تكذب، وأن تمرّر كذباً يُقال لك، كي «تسلم» ولا تثير ذعر أهلك -فرع الأمن الأول الذي تتعرض له، ولا يُلامون-. كان ذاك هو الطعنة الأسدية الأولى، أو الفيروس الأول، كي نستخدم لغة هذه الأيام.

زميل آخر في المدرسة اعتُقل والده ذات فجرٍ ضمن حملة شنّتها القِوى الأمنية على المشكوك بتعاطفهم مع بعث العراق بُعيد غزو الكويت وحرب الخليج. جاء هو وأشقاؤه باكين إلى المدرسة، إذ أن أحداً من العائلة افترض أنه من الأفضل لهؤلاء الأطفال أن يخرجوا من البيت بُعيد اعتقال والدهم، لكنهم بالكاد حضروا حصّتين قبل أن تأتي أمهم وتأخذهم وإضباراتهم وتنقلهم إلى مدرسة أخرى بعد أيامٍ قليلة، مدرسة بعيدة جداً عن مكان إقامتهم. أرادت أن توفر عليهم عناء أن يشرحوا لزملائهم، أو أن يفسروا أنفسهم لأي أحد. صُعقنا، وشَعرنا بالحزن على فراق زملائنا في الدرس وأصدقائنا في اللعب. لم نفهم كثيراً ما يحدث. سمعنا همساً أنهم أخذوا الوالد لأنه «حكى في السياسة»، فذهبَ عقلنا الساذج إلى التفكير في أنه اعتُقل لأنه قال كلمة «سياسة» أمام «الأمن»، وهذا -يبدو- أمرٌ لا يجوز. لكن أحداً منا لم يفكر في الأمر كـ «صح» أو «خطأ»، ولم يقايسه كمقياس أخلاقي، لأننا لم نجد هذا القياس لدى أهالينا، منارتنا في الطريق، فحتى لو فعلوا ذلك بين بعضهم بعضاً أو بينهم وبين أنفسهم، فإنهم لن يفعلوه أمامنا، لأنهم يخافون علينا، ويخافون أن نكرر ما سمعناه في البيت أمام الشخص الخطأ. ببساطة، رأينا الأمر كـ… سبقَ وأن تحدثتُ في وقتٍ سابق عن «طبيعة الأشياء»، أليس كذلك؟ بعض الناس أغنياء، وبعضهم فقراء، وبعضهم يعيش طويلاً، وآخرون يموتون قبل أوانهم المفترض بمرض أو حادث… وبعض الناس يُعتقلون.

لقد احتجتُ إلى وقت طويل، أن أتجاوز الثلاثين وأن أعيش ثورة، لكي أفهم أنَّ تعلُّم ضرورة وضع السؤال الأخلاقي جانباً، أو التصالح مع عدم وجوده أصلاً، في أي جانب عملاني من حياتي، بِدءاً من التساؤل عن صحة اعتقال أحدهم لسبب سياسي من عدمها، وصولاً إلى أخلاقية أن أغشّ في امتحان الثانوية العامة بدفعٍ وتشجيع من أهلي ووسطي الاجتماعي، الذين علّموني هم أنفسهم مثلاً ألّا أسرق؛ احتجتُ كل ذلك الوقت كي أفهم أن هذا كان الطبقة الثانية من الأسدية التي سُكبت فوق جيلي، ومن هم قبلي، ومن هم بعدي: ألّا أتصرَّفَ بشكل كريم، ألّا أشعر بالكرامة، وألّا أرى أن قيمتي كإنسان قائمة على احترامي لذاتي وتصالحي -قدر الإمكان- مع سلوكي العام. ألّا أكون في مجتمع، ببساطة، بل مع «قرطة عالم مجموعين». هل تعرفين زياد الرحباني؟ لا؟ أنصحكِ ألا تتعرفي…. نكبة ما -دون- أسدية سُكِبَت على جيلنا هو الآخر.

ذكرتُ أعلاه شيئاً عن ذاكرة المذبحة، تلك التي تجعل الأهل يتصرفون كفرع تحقيق كما ذكرتُ سابقاً. أتحدث عن مذبحة حماة، كما كنا «نتذكرها» حين كنتُ في مثل عمرك، وربما أصغر قليلاً. في الواقع،  كانت ذاكرة المجزرة أكثر ضبابية وغموضاً. لقد حمل الإخوان المسلمون السلاح ضد السلطة، وردّ عليهم حافظ الأسد وشقيقه رفعت بمذبحة في حماة عام 1982. ليس هذا فقط، لقد كان حملة السلاح من السنّة، وجماعة حافظ الأسد كانوا علويين. لا أستطيع اليوم أن أتذكر على وجه التحديد كيف كنتُ أعرف هذه المعلومات، لا أتذكرُ من قالها أمامي ولا كيف قالها، لكنني كنتُ أعرفها جيداً عندما مات حافظ الأسد، وأعرف بالغريزة أن هذا أمرٌ لا ينبغي الحديث عنه، بل ينبغي تجاهله كما لو أنه لم يحدث، لأنه يفتح أبواب الجحيم.

أقول هذا في رسالتي كي أشرح لكِ أن المذبحة كانت شرطاً تأسيسياً في حياة أبناء جيلي، رغم أننا لم نشهدها ولم نعش في زمنها، وقلّما جئنا على ذكرها أصلاً. كانت المذبحة المكتوبة في دمائنا، وبدمائنا، هي المسكوت عنه، الحاضر في كل وقت؛ وهي الأمر الذي كانت الثرثرة المكتومة تدور حوله بعد موت حافظ الأسد: هل سيحاول بعض السنّة الانتقام؟ وكيف سيكون الردّ إذا وقعت المحاولة؟ كان هذا ما نَجَحَت أذني بالتقاطه من نُتَف الأحاديث التي كان يقولها الكبار وقتها.

في أحد وجوهه، كان ما قمنا به عام 2011 محاولةً لتجاوز المذبحة والاعتقال السياسي كشرطين تأسيسيين في حياتنا. لقد فشلنا كما تعرفين، لكن ما أريد قوله لكِ هو أن المذبحة ليست من صنع 2011، بل كانت مكتوبة في أقدارنا، تمت كتابتها باللحم الحي والدم الحار بينما كُنّا في أرحام أمهاتنا، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.

مجدداً، لم أكن أعي الأمر على هذا النحو عندما مات حافظ الأسد، لم أكن أعي أن المذبحة مكتوبة في أقدارنا، وأستطيع اليوم أن أفهم كيف أن الرهان على إصلاحية بشار الأسد، أكان حماسةً وتصديقاً أم سباحة مع التيار أم مجرد بحث عن السلامة، كان مدفوعاً برغبة عارمة في تجاوز المذبحة. حصل التوريث دون أن نُسأل، ودون أن نمتلك القدرة على أن نفرض على السلطة أن تسألنا أصلاً. حصل كـ «طبيعة أشياء»، وبتواطؤ متحمس من العالم أجمع. ولم نمتلك حتى ترف أن نقول إنه حصل رغماً عنّا. 

*****

قبل الدخول في ختام رسالتي، أحتاج إلى شرح عنوانها بعض الشيء. لماذا اخترتُ تحريفاً لعنوان نصٍّ شهيرٍ لكارل ماركس؟ لأنني، نوعاً ما، ماركسي، لكنني من نمط «ماركسي ولكن…» أو «ماركسي رغم أن…». وهذه الأنماط هي خاصية لجيلي والجيل الأكبر مني مباشرةً من «الماركسيين»؛ وأرجو من كل قلبي أن يكون جيلك قد تخلّصَ من توابع تساؤلاتها وهواجسها وصراعاتها المشابهة، حرفياً، للزوبعة في فنجان. لكن يجب أن أوضح أنني لا أنوي، ولا أجرؤ على، مقارنةً نفسي بماركس؛ كما لست أنوي أن أقارن بشار الأسد بلويس بونابرت، ولا أن أشبّه حافظ الأسد بنابليون بونابرت. تمتد الـ «لا أنوي» خاصتي لتقول إنني لا أنوي حتى استخدام مدخل الكتاب الشهير، المقطع هيغلي المنطلق، الذي صار لاحقاً وكأنه شعار عن تكرار حدث أو شخصية تاريخية، مرة كمأساة ومرة بعدها كملهاة. قد يبدو مغرياً الحديث عن بشار الأسد كملهاة جاءت تكراراً لمأساة حافظ الأسد، لكنني لا أنوي استخدامها، ولا حتى في تأويلها الكوميدي، وذلك لأسباب واضحة: مَن من آل الأسد مأساةٌ فحسب، وأيٌّ منهم محض ملهاةٍ أصلاً؟

أما لماذا أكتب لكِ عن لحظة التوريث؟

في الحقيقة، كان يمكن أن أكتب عن العقد الأول من حكم بشار الأسد، وربما كان هذا ليكون أكثر متعةً بالنسبة لكِ، طالما أنه يمزج بداية ذكرياتك كطفلة صغيرة مع معايشات يافع/شاب آنذاك؛ ولم أكن لأكتب عن لحظة الثورة، لأنني كتبتُ ما يمكنني كتابته حتى الآن في نصّ مشترك مع رفاقي ورفيقاتي في التنسيقية؛ كذلك، لم أكتب عن سنوات ما بعد 2011 لأنني جدُّ بحاجة لأن أسمع ما لديكِ لتقوليه عن تلك السنوات، أكثر مما أنا بحاجة لأن أكتب عنها بنفسي. لقد حُرِمتُ من أمور كثيرة في سنوات يفاعتي، لكنني استطعتُ، رغم كل شيء، وبفضل هوامش كثيرة كانت موجودة نتيجة نضالات، سياسية وغير سياسية، خاضها ملايين «الجنود المجهولين» في سوريا، وأهلي منهم، أن أعيش يفاعتي ومراهقتي وشبابي الأول بشكل مقبول، بل وبـ«سعادة» نسبية أيضاً، وهو الشيء الذي حُرمتِ منه أنتِ في سنين الثورة والحرب. تجاهكِ، كما تجاه كثيرٍ من الأشخاص والأشياء، أو في الحقيقة تجاه كل الأشخاص والأشياء عدا الأسديين واعتذارييهم، أشعر بقدر هائل من الذنب.

أكتب رسالتي لكِ عن لحظة التوريث لأنك لم تكوني قد ولدتِ بعدُ وقتها، أو أنكِ كنتِ رضيعة ذات أشهر قليلة، فيما كنتُ أنا وقتها في مثل عمركِ اليوم. لقد كنتُ شاهداً على لحظة لم تشهديها، وهذا في حدّ ذاته سببٌ يدفعني كي أرسالكِ بخصوصها، لكنه ليس السبب الوحيد، بل أيضاً لأن تلك اللحظة كانت تأسيسية بالنسبة لي، ولأنني لم أكن أعرف وقتها أن تلك اللحظة ستكون القابلة التي تشرف على ولادة ظروف لا تُحتمل، نعيش كلّنا تبعاتها اليوم، ويعيش جيلكِ على وجه الخصوص بعضاً من أسوأ تبعاتها تلك؛ أن يفتح المرء عينيه على عالم يتداعى وحياة تتحطم بلا رحمة.

للمرة أولى أحظى بفرصة أن أروي وقائع شهدتها بنفسي على مسامع شخص أصغر مني لم يشهدها بنفسه؛ يعني هذا بلا شك أنني تقدّمتُ في العمر.

لكن هذه ليست وصية، ولا إعلان انسحاب…

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى