أبحاث

الصراع على سوريا "الغير مفيدة"/ د. أحمد طرقجي

برز مصطلح “سوريا المفيدة” بشكل واضح مع نهاية عام ٢٠١٤. كان المصطلح، الذي ينسب للنظام، يشير إلى محور دمشق – حلب وامتداده غرباً للساحل السوري على أنه الثقل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للدولة السورية. ورغم أن المصطلح مهين لأي وطني سوري، إلا أنه يعكس ثقافة تهميش مواطني الشمال الشرقي لسوريا التي مورست لفترات طويلة. هذا التهميش كان نابعاً من معرفة أهمية الشمال الشرقي ولكنه مورس لتسهيل السيطرة على المجموعات السكانية المتنوعة تاريخياً وعرقياً ودينياً ومنع ظهور أجندة وطنية محلية لا تتبع لأجندة “سوريا المفيدة”.

تاريخياً، كانت منطقة الشمال الشرقي جزء من بلاد النهرين وتوالى على حكمها امبراطوريات الأشوريين والأكاديين والبابليين. كانت القوة العسكرية ونظامي الزراعة والري المتطورين اللبنة الأساسية لأي دولة قامت في هذه المنطقة. عبر القرون برزت أيضاً عشائر رئيسيه عربية وكردية تجذرت في تاريخ وحضارة المنطقة. يسهل النظر للمنطقة كدائره تمتد من الموصل إلى شرق حلب مروراً بأورفه ودير الزور. بعد عدة سنوات من اتفاقية سايكس بيكو، تم الاتفاق بين أطراف سايكس-بيكو على تعديل الحدود السورية العراقية لفصل الموصل عن هذه الدائرة. أتبعها بعده سنوات اتفاقية لوزان لتعديل الحدود السورية التركية على طول سكة حديد نصيبين – راس العين – جرابلس مما فصل أورفه عن هذه الدائره وقسم بعض المدن لجزئين سوري وتركي.

عمق هذا التهميش تفتت النسيج الاجتماعي القبلي والعرقي للجزيرة السورية وأضعف قدرتها على إنتاج مفهوم جماعي للمواطنة كما أضعف قدرتها على التفاعل بشكل مباشر مع بعضها لمواجهة تحديات الحرب في سوريا

اقتصادياً، تعتبر منطقة الشمال الشرقي السوري السلة الزراعية الاستراتيجية لسوريا حيث تنتج هذه المنطقة على سبيل المثال أكثر من ٧٥٪؜ من القمح السوري وأكثر من ثلثي القطن السوري، وهما المحصولين الاستراتيجيين الأول والثاني على الترتيب حسب التقارير الاقتصادية للحكومة السورية. كما تقع معظم حقول النفط والغاز في هذه المنطقة. تشكل الزراعة ٢٥٪؜ من الدخل القومي السوري بينما ساهم قطاع النفط والغاز بحوالي ٢٠٪؜ من الدخل القومي كما تشير تقارير صندوق النقد الدولي.

لم يقم تحالف العشائر في الماضي على العامل العرقي فقد وثق الأرشيف العثماني تحالف قبائل عربية وكردية ضد السلطنة مثلما تحالفت قبائل عربية وكردية مع الدولة العثمانية. منذ عهد الوحدة مع مصر، عانى سكان هذه المنطقة من التهميش لتسهيل حكمهم حيث عمدت الأنظمة المتعاقبة على إبقاء تمثيل العشائر العربية والكردية رمزياً في البرلمانات المتتالية. واستبدلت أعراف وأنظمه التعامل العشائري بسطوة الأجهزة الأمنية مما همش الكثير من الزعامات التقليدية وأفسح المجال لزعامات تعتمد على علاقتها بالسلطة لتحقيق مكاسب مادية وللسيطرة على بعض أراضي الدولة أو أراضي عشائر منافسه.

نتج عن هذه السطوة الأمنية تدهور صيغ المواطنة والتعايش بين المكونات المختلفة للمجتمع السوري وتعميق الاصطفاف العرقي والقبلي في تلك المنطقة. ظهر سوء الإدارة الحكومية على سبيل المثال في قضايا منع الجنسية السورية على مدى نصف قرن عن الآلاف من أكراد الجزيرة، كما ظهر في قضايا تعويض بعض القبائل العربية المتضررة من بناء سد الفرات (الغمريين) بتوطينهم على أراضي قبائل كردية منافسة. في أواخر الثمانينات تزايدت هجرة السريان والأشوريين من سوريا باتجاه الدول الأوروبية بسبب شعورهم بالتضييق المستمر، واتجه الكثير من أبناء العشائر العربية والكردية لضواحي حلب ودمشق في سعيهم لمستقبل اجتماعي واقتصادي مستقر.

عمق هذا التهميش تفتت النسيج الاجتماعي القبلي والعرقي للجزيرة السورية وأضعف قدرتها على إنتاج مفهوم جماعي للمواطنة كما أضعف قدرتها على التفاعل بشكل مباشر مع بعضها لمواجهة تحديات الحرب في سوريا. فقد تُركت عشيرة الشعيطات على سبيل المثال، وهي تنتمي لواحدة من أكبر العشائر العربية، وحيدة تقريباً في مواجهة داعش عام ٢٠١٤. فأحلت داعش دماء أبنائها ممن يزيد عمرهم عن ١٤ عاماً مما نتج عنه مقتل المئات من أبنائها خلال أسبوعين وتشريد عشرات الآلاف من عائلاتهم خارج قراهم. وأرسلت مجازر داعش بحق الأيزيديين لاحقاً رسائل واضحة لمسيحيي وأكراد الجزيرة السورية.

تشكلت قوات سوريا الديمقراطية في المنطقة كأحد المجموعات لمواجهة داعش. لكن لاحقاً، سيطر الغموض والتوجس على الرؤية المستقبلية لقوات سوريا الديمقراطية: هل هو تحالف محلي كردي مع عشائر ومسيحيي الجزيرة لمواجهة داعش، أم هو مشروع قومي كردي عابر للحدود؟ ورغم أدبيات الإدارة الذاتية التي تتحدث عن مشروع حكم محلي منفتح على مكونات المجتمع إلا أنها أعادت نفس الأسلوب الإقصائي لأي مكون غير متفق معها، بما فيها بعض الأطراف الكردية. في ظل هذا الضياع، يتسابق النظام وبعض الأنظمة الإقليمية والدولية لإيجاد حلفاء محليين للاستقواء بهم للسيطرة على العشائر والتجمعات العرقية المتنافسة من جهة وللسيطرة على المكون الرئيسي للاقتصاد السوري من جهة أُخرى مقابل إعطائهم ميزات من مال وسلاح. من الواضح أن نتائج هذا التسابق ستحدد ملامح المرحلة القادمة في سوريا.

لا تختلف حالة الضياع في شمال شرق سوريا عن حالة الضياع والفراغ الحالية في شمال غرب العراق، الامتداد الطبيعي لهذه الدائرة كما أوضحنا. فقد وقع سكان المنطقة على جانبي الحدود، وهم المعروفون بروحهم القتالية، ضحية لداعش وضحية للتهميش والتهجير. ووقعوا ضحية للفقر رغم الثروات الهائلة لهذه المنطقة، وغابت المبادرات المحلية والوطنية لإعادة القيادات العشائرية والعرقية لمكانها الطبيعي في قيادة التحركات الوطنية. ولعله من المذهل أن المدينتين الرئيسيتين في هذا المحور، حلب والموصل، هما أكثر مدينتين تعرضتا للتهديم والتهجير في العقد الحالي مما يعكس وضع المنطقة ككل.

يثير تهميش هذه المنطقة مخاوف الوطنيين السوريين، فقد يصبح بناء الجسور بين جناحي سوريا صعباً للغاية مما يزيد التفكك الحالي وينذر باحتمال تغيير شكل الإقليم ككل. في العراق، أضعف الكسر والتهميش المتعمد لشمال غرب العراق الدولة فلم تقوى على التعافي رغم مرور خمسة عشر عاماً على تغيير النظام فيها. في سوريا، لن يكون الوضع مغايراً مع استمرار كسر الجناح الشمالي الشرقي لسوريا وتجييره لصالح “سوريا المفيدة”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى