سياسة

حان الوقت لاستقالة دي ميستورا/ وائل السواح

 

 

التقيت مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، أربع مرّات. كانت الأولى بصفتي مديرا تنفيذيا لمنظمة اليوم التالي، حيث دعانا، الدبلوماسي السابق والأستاذ الجامعي مرهف جويجاتي وأنا، للقائه في جنيف. وصلنا في الموعد، ولكنه وصل متأخرا نحو ربع ساعة، واعتذر بقوله: “كنت أتحدث مع مديري”، في إشارة إلى الأمين العام السابق للأمم المتّحدة، بان كي مون، “لذلك، جئت أستقبلكما في البهو للتعبير عن أسفي”، قبل أن يصحبنا إلى قاعة الاجتماع، حيث كان نائبه المصري، رمزي عزّ الدين رمزي، ونحو عشرة أعضاء آخرين في فريقه.

استمع دي ميستورا إلينا مطوّلا، ونحن نعرض له ولفريقه وجهة نظرنا في الأزمة السورية، ثمّ راح يُمطرنا بأسئلة دقيقة بشأن دور المجتمع المدني في العملية التفاوضية في جنيف، وإمكانية السوريين التعايش مع فكرة بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، وموقفنا من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة. وكان جوابنا واضحا ومحدّدا: نحن مع مشاركة المجتمع المدني مراقبا وضامنا للاتفاق، وضدّ فكرة بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، ومع استئصال التنظيمات الراديكالية الإسلامية، مع ضرورة تمييزها عن محيطها المدني.

التقيت به ثانية في جنيف أيضا مع وفد من ممثلي منظمات المجتمع المدني، ثم حدث أن

جمعني لقاءان آخران به في مناسبتين، إحداهما العام الماضي في نيويورك. وفي كلّ مرة بدا لي دي ميستورا مثقفا وذكيا وشديد التهذيب. وأسجّل له سعة صدره ورغبته في إشراك المجتمع المدني في العملية التفاوضية، وتأسيسه مجموعة النساء الاستشارية الخاصة في مكتبه. بيد أن ذكاءه وتهذيبه لم يُخفيا، منذ اللقاء الأول، أنه لا يقف في الوسط تماما من أطراف النزاع في سورية.

اليوم وبشكل خاص، يثير دي ميستورا إشكالا سياسيا وأخلاقيا بتصريحاته المثيرة للجدل بشأن إدلب. ففي وقت يتحدث فيه نظام بشار الأسد، ومن ورائه روسيا وإيران، عن اقتحام إدلب، وقد مهّدتا لذلك بالبدء بضربات جوية وصاروخية وببراميل متفجرة، يدلي دي ميستورا بتصريحات غريبة، بدت وكأنها تبرّر تحضيرات الأسد – بوتين بشأن ضرب إدلب.

وقبل أيام، أعادت القوّات الروسية مشاركتها المباشرة بضرب المدينة، مباشرة بعد خروجها من القاعة التي جمعت رئيسها بوتين مع الرئيسين التركي أردوغان والإيراني حسن روحاني في طهران، لمناقشة الوضع في إدلب، حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن أربع مقاتلات تابعة لها وجهت ضرباتٍ “عالية الدقة” إلى مواقع لتنظيم جبهة النصرة في محافظة إدلب، مستخدمةً ذخيرة فائقة الدقة.

وتبجّح بشار الجعفري، ممثل بشار الأسد في الأمم المتحدة، بأن دمشق عازمة على “استعادة جميع الأراضي السورية وتحريرها من الإرهاب والاحتلال الأجنبي”، وشدّد على أن أي تحرّك تقوم به حكومته في إدلب “حق سيادي مشروع تكفله مبادئ القانون الدولي وأحكام الميثاق وقرارات مجلس الأمن الخاصة بمكافحة الإرهاب وتفاهمات أستانة”.

في هذا الوقت بالضبط، اختار دي ميستورا أن يدلي بتصريحاتٍ عن إدلب، ورد فيها إن المدينة تضمّ عددا كبيرا جدّا من مقاتلي جبهة النصرة، نحو عشرة آلاف، مضيفا أن الحق في مقاتلة المتطرفين لا خلاف حوله، قبل أن يستدرك أن ذلك لا يبرّر طبعا استهداف 2.9 مليون سوري هناك. ثمّ سارع إلى عرض خدماته في تأمين خروج آمن للمدنيين في المحافظة، وقال إنه مستعد للسفر شخصيا إلى إدلب للمساعدة في ضمان خروج المدنيين عبر ممر إنساني. بيد أنه لم يقل إلى أين سيَخرُج هؤلاء المدنيون، ولا كيف سيعيشون، وماذا سيحل ببيوتهم وأرزاقهم حين خروجهم. كما أنه لم يقل كيف سيعمل على إخراجهم، وكيف سيقنع جبهة النصرة وأخواتها على ترك المدنيين يخرجون من دون أن يستخدموهم دروعا بشرية، كما فعل جيش الإسلام وفيلق الرحمن في الغوطة الشرقية. كان المهجّرون جميعا يجدون ملاذا في إدلب. ومن القصير والوعر والمعضمية وداريا ودوما، حمل المهجّرون أسمالهم وأطفالهم ورحلوا إلى إدلب، فإلى أي مكانٍ يستطيع دي ميستورا أخذهم الآن؟

لم يكتفِ المبعوث الأممي بذلك، بل ساوى بين نظام الأسد الذي استخدم الأسلحة الكيميائية ضدّ شعبه مرات ومرات وجبهة النصرة، في ترويج الرواية الروسية البائسة عن استعداد الأخيرة للقيام بمسرحية هجوم كيميائي، واتهام النظام بذلك.

معظم السوريين مع القضاء على جبهة النصرة وتنظيم داعش وكل التنظيمات الإرهابية السورية، فأفكار هذه التنظيمات وعقيدتها غريبة عن السوريين، المعروفين باعتدالهم ووسطيتهم في معظم الأمور، بما في ذلك القضايا الدينية. وقد سبّبت جبهة النصرة، ومعها “أحرار الشام” و”جيش الإسلام” وسواها كوارث للمدنيين السوريين ولسورية، ما يجعل السوريين سعيدين بإنهاء هذه الظاهرة الشاذّة. ولكن هذا شيء واستخدام جبهة النصرة ذريعة لاحتلال إدلب،

والتنكيل بالمدنيين السوريين، وهو ما سيحدث قطعا في حال دخول مليشيا بشار إلى هناك، شيء آخر. ستكون معركة إدلب أسوأ كارثةٍ تتعرّض لها سورية على الإطلاق. ويتوقع أن يشكل انطلاق عملية عسكرية كبرى هناك كابوساً على الصعيد الإنساني، حيث لم تعد هناك مناطق قريبة خاضعة للمعارضة في سورية يمكن إجلاء السكان إليها.

وإذا استمعنا إلى طبيب سوري من إدلب، منذر الخليل، وهو يعمل جرّاح عظم ويترأس مديرية الصحة في المنطقة التي تسيطر عليها المعارضة في إدلب، فإن المحافظة سوف تشهد “كارثة قد تكون الأكبر”. وقال في مقابلة أجرتها معه وكالة “فرانس برس” في جنيف: “أخشى من أن نكون على وشك أن نشهد الأزمة الأكثر كارثية في حربنا”.

يتوقّع السوريون من الأمم المتحدة وأمينها العام ومندوبه الخاص أن يلعبوا دور المثبّط للهجوم الوشيك، ولذلك فإن تصريحات صبّ الزيت على النار التي أوردها دي ميستورا كانت صاعقة لهم. اليوم، لم يعد أمام السوريين من أمل سوى انتظار الطائرات والدبابات والبراميل لتنهي أحلامهم ببيت وعائلة وخبز يومي، فلا الأمم المتحدة المشلولة، ولا الولايات المتحدة المبتلاة برئيس تلاحقه الفضائح والمحققون في كلّ مكان، ولا أوروبا العاجزة، ولا المعارضة الفاسدة، قادرة على إنقاذهم من هذا المصير.

يتسع يوما بعد يوم رفض قطاع كبير من السوريين لوساطة دي ميستورا، وقد فقد الرجل بريقه ومصداقيته، بفعل استخفاف الروس به وبدوره. وسبق دي ميستورا رجلان كبيران، هما الأمين العام السابق للأمم المتحدة (الراحل حديثا) كوفي عنان، والدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي، وقد أدركا أن النظام السوري ليس شريكا نزيها في الحوار، فآثر كل منهما استقالة مشرّفة على وساطة ملوّثة. وأحسب أن الأوان قد آن لكي يحذو دي ميستورا حذوهما، ويفكّر، وهو يدخل في عامه الثاني والسبعين، في تقاعدٍ مشرّفٍ له ولنا.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى