سياسة

الارتدادات الدولية للكارثة السورية/ مصطفى الفرحات

مرة أُخرى تقف المنظومة الدولية موقف العاجز حيال الأزمة الإنسانية المزمنة التي يعيشها الشعب السوري، فالعَقد الدولي القائم على جدليّة التجاذبات وحق الانتفاع من الامتيازات الممنوحة لهذا الطرف أو ذاك تستمر كأداة تعطيل لصدور القرارات في مجلس الأمن.

هذه الآلية العبثية كثيراً ما تخدم مصالح الدول الأعضاء في مجلس الأمن وتغيب عنها مصالح الشعوب والدول المستضعفة، فالقرار الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار والذي كان قد تم التفاهم عليه في أيلول/سبتمبر من العام 2019 انهار عند حق النقض «الفيتو» الذي اتخذه الروس مؤخراً في مجلس الأمن، ومع انهياره يستمر استهداف الشمال السوري بقذائف المدفعية والصواريخ وضربات الطيران، إلى أن تحوَّل الشمال السوري برمته إلى موطن للموت والدم على وقع الجريمة ثلاثية الأبعاد «دمار، دم، تشريد».

أكثر من 400 ألف إنسان أصبحوا اليوم من سكان العراء، وماكينة القتل سارية المفعول مع الفيتو الروسي رقم (13) في مواجهة حتى لو قرار إدانة لجرائم النظام السوري بحق البشر والشجر والحجر وكلها تحت ذريعة مكافحة الاٍرهاب الذي لم يُستهدف بشكل فعلي حتى الآن.

في هذا الوقت الذي دخلت فيه العملية السياسية حالة الموت السريري، وقد أبرقت لنا مؤسسات المعارضة نعي هذه العملية التي لم ترَ النور أصلاً رغم اثنتي عشرة جولة من المفاوضات التي لم تولد في جنيف ولَم تدفن في سوتشي أو الأستانة وصلنا إلى حائط مسدود.

النظام وكعادته عندما يُحشر في زاوية الاستحقاق السياسي يعمد إلى خلط الأوراق والتصعيد العسكري، الذي لم يكتفِ باستهداف البلدات والقرى والأسواق الشعبية والمشافي والمدارس بل ذهب إلى نوع جديد من التصعيد وهو حرب التجويع، فقد صدر تقرير عن الأمم المتحدة يتحدث عن أن النظام يستعمل الغذاء كسلاح حرب من خلال حرق المحاصيل الزراعية، لكن في هذه المرة أخطأ النظام التقدير ولم تنطبق معه حسابات البيدر على حسابات الحقل، فالتقدم المحدود الذي حققه في وقت سابق على جبهة ريف حماه الشمالي انبرت كل الفصائل بما فيها فصائل الشمال المقربة من تركيا لتغيير المعادلة هذه المرة مع الأعداد الكبيرة للقتلى الذين سقطوا من جيش النظام، فضلاً عن الأسرى من مختلف الرتب، هذه المواجهة على الساحة السورية التي وقودها الناس والحجارة من السوريين أنفسهم هي في الحقيقة ليست أكثر من مرتسم للمد والجزر بين اللاعبين الذين يقررون متى تكون الكرة في ملعب السلم ومتى تكون في ملعب الحرب وحتى عندما تكون على خط الوسط، والسوريون هم الأدوات لتنفيذ أجندة هؤلاء، فالرسائل بين طهران وواشنطن «وبشكل خاص الاعتداء على السفن التجارية قبالة ميناء الفجيرة في الخليج العربي، واستهداف المنشآت النفطية السعودية، وأيضاً التنافس بين موسكو – طهران، والارتدادات التي تصل إلى أنقرة» كلها نتاج الغليان الدولي الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط بشكل عام والمتجسد في حالة اللاحرب واللاسلم «تحت مواجهة شاملة وفوق مهادنة هشة».

هذه الأحداث التصعيدية والمتسارعة نبهت لها القمم الثلاث التي استضافتها المملكة العربية السعودية «القمة الخليجية والقمة العربية والقمة الإسلامية» وأعقبها الخطاب التصعيدي لأمين عام حزب الله اللبناني حسن نصر الله والذي أتاه الإيعاز بإطلاق صاروخين باتجاه الجولان السوري المحتل كرسائل إضافية لما قامت به إيران والذي استوجب الرد الإسرائيلي لمواقع إيران في سوريا والذي لم ينقطع أصلاً.

لكن الثابت أن كل هذا التجييش نحو احتمالات المواجهة المفتوحة مع إيران لا يتعدى كونه مادة شيّقة للمتابع وبشكل خاص إذا ما استعرضنا حجم القوى والوسائط التي زجت بها واشنطن في الخليج العربي والتي رغم كونها تحمل تكنولوجيا فائقة التطور إلا أنها من الناحية العسكرية ليست كافية لدخول مواجهة مفتوحة مع إيران. وكلنا يعلم كيف حشدت واشنطن خمسة أضعاف هذه القوة عندما خاضت حرب «عاصفة الصحراء» وحرب إسقاط نظام الرئيس الراحل صدام حسين في العراق، وبالتالي فإن حد المواجهة المحتمل مع ايران لن يدخل شبراً واحداً في الأراضي الإيرانية وسيبقى سقفه على المدى المنظور «استهداف الأذرع الإيرانية في البلدان العربية» هذا إنْ حصل.

لكن التطور اللافت اليوم هو الرفض التركي لتصعيد النظام ولجرائم النظام في الشمال السوري الخاضع لاتفاقيات خفض التصعيد، هذا التصعيد الذي على خلفيته تعمقت الهوة بين تركيا وروسيا، وتقدمت واشنطن خطوات كبيرة باتجاه تركيا بعد جفاء كبير. وقد أثمر هذا التقارب بين أنقرة وواشنطن ما صرح به المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا جيمس جفري في مقابلته مع صحيفة «حرييت» التركية بأن واشنطن تنسق مع تركيا من أجل تغيير النظام السوري ومن أجل إنهاء الصراع العسكري ومن أجل إنشاء لجنة دستورية عبر انتخابات حرة يشارك فيها ممثلون عن الجاليات السورية حول العالم.

ومع هذه الاستدارة التركية التي يئست من المماطلة الروسية في لجم عدوان النظام نجد أنفسنا أمام عودة التوازن إلى حلبة الصراع التي ستفرض نفسها على أي طاولة مفاوضات مقبلة.

كاتب ومحلل سياسي سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى