وجها لوجه

سفيتلانا أليكسييفيتش: تجميع شذرات الحقيقة ليس بالأمر السهل

سيرجي شابران

(ترجمة : سارة حبيب)

لطالما كنت شغوفة بالميتافيزيقي واللامعقول

(*) شابران: بعد فوزكِ بجائزة نوبل للآداب عام 2015، قلتِ في مناسبات عديدة إنه من الصعب الاعتياد على الحالة التي تأتي بها الجائزة. هل ما زلتِ تشعرين على ذلك النحو؟

ـ أليكسييفيتش: لا أستطيع القول بأني غير مبالية أو منفصلة عن حقيقة أني ربحت نوبل، لكني أشعر بمسؤولية أكبر تجاه الكلمات التي أستخدمها. أحاول أن أبقى صادقة مع نفسي ونزيهة إزاء آرائي وقناعاتي. لقد حافظتُ على إيماني بالناس، على وجه العموم، على الرغم من أن عزيمتي وهنت في بعض الأحيان، لكن لا بدّ أن ذلك هو حال الجميع.

(*) شابران: في خطاب حصوله على نوبل، تحدث الشاعر جوزيف برودسكي عن الإحراج والإرباك اللذين شعر بهما جرّاء وقوفه على المنبر الذي لم يتسنّ لشخصيات أدبية مثل أوسيب ماندلشتام، مارينا تسفيتايفا، روبرت فروست، آنا أخماتوفا، وويستن هيو أودين، أن تقف عليه. “هذه الأطياف تنغّص عليّ باستمرار؛ إنها تنغّص عليّ اليوم أيضًا”، قال برودسكي. “إنهم لا يحفزون بلاغتي، على أية حال. وفي أفضل حالاتي، أعتبر نفسي حصيلة مجموعهم، على الرغم من أني حتمًا أدنى منزلة من كل واحد منهم على حدة”. في مؤتمركِ الصحافي الأول بعد سماعكِ نبأ تلقيكِ الجائزة، أشرتِ إلى شاعرين روسيين نالا جائزة نوبل في الماضي: إيفان بونين وبوريس باسترناك. هل نغّصت عليكِ “أطياف” أسلافك، وفق تعبير برودسكي، بينما كنتِ تلقين خطاب حصولك على نوبل؟

ـ أليكسييفيتش: أول من تبادر إلى ذهني يومها كان الكتّاب الحائزون على نوبل ممن كانوا يكتبون بالروسية؛ إنهم جميعًا من عمالقة الأدب. وكنت حزينة أن الجائزة لم تُمنح لـِ أليس أداموفيتش أو فاسيل بيكاو، فقد كانا أيضًا يستحقان التقدير.  مع هذا، من المهم، على حد سواء، أن تعطينا أطياف العظماء شعورًا بالحرية، لا أن تجعلنا نشعر بالقنوط. حريّ بهم أن يلهمونا ويحفزونا على الاستمرار، تجربة أشياء جديدة، وإيجاد رؤى مختلفة بدلًا من التخبط في دوائر الروتين المكرور. ثمة كتابان على وجه التحديد أريد كتابتهما: واحد عن الحب، وآخر عن الموت. لطالما كنت شغوفة بالميتافيزيقي واللامعقول، وكل ما يتجاوز حدود فهمنا. كيف يفكر معاصرونا في هذين الموضوعين؟ ما الذي يحرّك تأملاتهم؟ ما هي أكبر مخاوفهم؟ أيّ خرافات ينكفئون إليها بنتيجة تلك المخاوف؟ في كل مرة كنت أقرأ فيها عن سقوط روما القديمة أو الكومنولث البولندي الليتواني، كنت أشعر بحاجتنا إلى كتبٍ تتناول كيفية شعور البشر الذين يتداعى عالمهم. كيف يُنقذون حياتهم؟ وبم يتشبثون؟ لأن الشيء الأكثر أهمية هو ما يحدث لكل واحد منّا كفرد؛ بالتالي، الحب والموت.

(*) شابران: قلتِ مرارًا إنك تكتبين ببطء، لكن لا بدّ أن كتابك “أيل المطاردة الأبدية العجيب” حطم رقمًا قياسيًا! فقد عملتِ عليه لأكثر من عشرين عامًا؛ على الرغم من أن غوته استغرق ستين عامًا في كتابة “فاوست”، كما هو معروف ؟

ـ أليكسييفيتش: تجميع شذرات الحقيقة ليس بالأمر السهل. كنت أفكر بهذا الكتاب لوقت طويل. لكن، عندما نكتب عن تجربة خالدة كالحب، يغدو من الصعب جدًا الخروج عن المكرّس المعتمد وتقديم قراءة جديدة حول الموضوع. وما يزيد من صعوبة الأمر أن الاشخاص الذين أتناولهم ليسوا شخصيات أدبية متخيَّلة بل جيراني في الشقة المجاورة. وقد تغيروا إلى حد كبير خلال العشرين سنة المنصرمة. اليوم، أصبحت الحياة الشخصية – التي كنا نعاملها بكثير من الازدراء في عهد الشيوعية- أكثر أهمية بكثير. لم يعد البشر اليوم يختبئون خلف أيديولوجيا أو فكرة ما. بل أصبحوا يحاولون فهم حيواتهم الخاصة والإجابة عن أسئلة من قبيل: ما الذي يعنيه كون المرء سعيدًا؟ ما الذي نأخذه معنا عندما نغادر هذا العالم؟ ما الذي سوف نستحضره في اللحظات الأخيرة من حياتنا؟ ذات مرة، خضت حديثًا حول هذا السؤال بالذات مع سائق تاكسي، وقد قال لي يومها: “أتعرفين ما الذي سوف أتذكره في اللحظات الأخيرة قبل أن أموت؟ ارتشافُ النبيذ من حذاء امرأة!”. الشيء الوحيد الأكيد أننا جميعًا سوف نستحضر أشياء شخصية للغاية.

(*) شابران: قلتِ ذات مرة إنك عندما كنتِ تخططين لكتابة روايتك “ليس للحرب وجه أنثوي”، جمعتِ أولّ تسع قصص ولم تعرفي ما تفعلينه بها بعد ذلك. استغرق الأمر سنة من القراءة لكي تتمكني من تشكيل رأيك حول ماهية الحرب الفعلية. كاتبٌ آخر كان لينشر القصص مباشرة؟

ـ أليكسييفيتش: لا تستهويني تلك الطريقة. إذ يمكن للعمل المجزّأ الذي لا يندمجُ مع شيء أكبر أن يستمرّ إلى ما لانهاية. في الحقيقة، أخبروني أنني يمكن أن أستمر بإضافة أجزاء إلى “ليس للحرب وجه أنثوي” إلى أن تموت آخر محاربة. أفترض أن تفاصيل جديدة كانت قد تطرأ لو فعلت ذلك، لكن ليس رؤية جديدة حول الموضوع. إنه عمل يستهلك الكثير من الوقت ويستدعي تفكيرًا موّسعًا ومكثفًّا.

(*) شابران: هل تشعرين أن على الكتاب أن يظهر في وقت محدد، لا قبلَ ذلك ولا بعده؟

ـ أليكسييفيتش: لا. لا يجب أن يكون الكتاب محدّدًا زمنيًا، على الرغم من أن دوام كتابٍ إلى الأبد هو أمر مستبعد بالطبع.

(*) شابران: وصفتْ مترجمتكِ السويدية، كايسا أوبيرج ليندستين، العمل معك بأنه “صعب إنما مذهل إلى حد بعيد”. ففي حين كانت تنتظر استلام الجزء التالي من الكتاب الذي تترجمه لك، كان يصلها بدلًا عن ذلك جزءٌ سبق أن ترجمته، بعد أن قمتِ بإعادة صياغته. واستمر الحال هكذا لثلاث سنوات.

ـ أليكسييفيتش: عندما تكون منخرطًا في حوار مكثف مع شخص، لا تستطيع أن تضع حدًا للمحادثة. العملية لا نهائية، لأنهم يستطيعون دومًا إعادة رواية القصة بمزيد من التفاصيل. قد يفكرون بها مليًا بعد أن تكون قد ذهبت، يتناولون الحكاية باسترخاء أكبر، ويستخرجون مزيدًا من “المادة” لأجل المرة القادمة التي تلتقيهم بها. إنه إجراء دقيق ومعقد.

استمعتُ مؤخرًا، بكثير من الاهتمام، إلى محاضرة ألقاها الكاتب الروسي ديمتري بيكوف، الذي أكنّ له بالغ الاحترام. كان للمحاضرة عنوان غريب: “هل يُضعف نثر سفيتلانا أليكسييفيتش التوثيقي الروابط الروحية الروسية؟” كنت قد تخيلت أن تكون الجدالات حول اسمي قد سُوّيت في روسيا بحلول هذا الوقت، لكني كنت مخطئة. الخلاصة التي توصّل لها بيكوف كانت ملتبسة: ربما نعم، ربما لا. قد أكون كاتبة، أو قد أكون صحافية. إلا أن أكثر ما أثار دهشتي كان فشله في استيعاب ما تدور حوله كتبي. لم يدرك بيكوف أنني كتبت تاريخ الحياة في “اليوتوبيا” الشيوعية. لقد رأى الأمر بوصفه عملًا صحافيًا. في الواقع، يعتقد بعض الناس أن ما أقوم به بسيط للغاية: الاستماع إلى حديث شخص ما، تدوينه، وضع اللمسات الأخيرة، وهذا كل ما في الأمر.

(*) شابران: المترجم السويدي البيلاروسي ديمتري بلاكس، الذي قام ببناء مسرحية على كتابك “زمن مستعمل”، قال: “عندما بدأتُ العمل على النص، لاحظت أنها أعادت صياغة كل شيء من البداية إلى النهاية. لغتها مستحدثة بالكامل، إنه تأليف صرف. إذا حاولنا تقسيم النص إلى حوار درامي، سندرك أن الناس لا يتحدثون أبدًا بتلك الطريقة. لكننّا نتبيّنه فقط عندما ننظر بإمعان إلى الصياغة. لقد تم إنجازها ببراعة. يمكن منح أليكسييفيتش جائزة نوبل حتى لو لأجل ذلك وحده”.

ـ أليكسييفيتش: من الواضح أن الناس في الحياة العادية لا يستخدمون اللغة بتلك الطريقة. في العادة، يتحدث الناس بعبارات مبتذلة. لكن الأشخاص الذين أجريت مقابلات معهم مؤخرًا كانوا إما على حافة الموت أو واقعين في الحب. وفي مثل هذه الحالات المحتدمة، يعبّر البشر عن أنفسهم غالبًا بطرق استثنائية؛ إنهم ينمون. يبدو الأمر كما لو أنهم يقفون على رؤوس أصابعهم، ينتزعون هذه الخيوط البديعة من مكان ما في أعماق قلوبهم. لكن بعد ذلك، على الألياف أن تُنسج إلى قماش من كل الكلمات التي قالوها.

(*) شابران: هل اختبرتِ أنت نفسك “الإلهام الفني”؟

ـ أليكسييفيتش: بالطبع. فقط حاول أن تكتب شيئًا من دون صياغة الفكرة التي حفّزتك في المقام الأول بشكل واضح. إذا احتجت لاحقًا أن تفك رموز ما كتبت، لن تكون قادرًا على الوصول إلى المعنى: ستكون الشحنة الكهربائية قد ولّت. هذا هو الإلهام.

القرية ربّتني

(*) شابران: تحدّث مرشدكِ، أليس أداموفيتش، عن مفهوم “السوبر أدب”. في واحدة من مقالاته، يشير أداموفيتش إلى إعدام فيودور دوستويفسكي الوشيك في ساحة سيمينوفسكي في سانت بطرسبرغ عام 1849. اقتيد دوستويفسكي يومها أمام فرقة إعدام، ليتم إيقاف تنفيذ الحكم في اللحظات الأخيرة. وفقًا لأداموفيتش، تنويعات على تلك التجربة – تجربة الشعور بأن الحياة على وشك أن تُنتزع- تعاود الظهور مرة بعد أخرى في روايات دوستويفسكي. يسمّي أداموفيتش ذلك “المراجعة المؤلمة للذات عند رجل محكوم عليه بالموت”. دوستويفسكي، يتابع أداموفيتش، يلتزم بقصة استثنائية واحدة على امتداد كتاب. كتبكِ، بالمقابل، تحتوي عدة حكايات من هذا النوع. هل تكوّن هذه الحكايات “السوبر أدب” الذي يناقشه أداموفيتش؟

ـ أليكسييفيتش: أميل أكثر إلى أن أدعوها روايات مجمّعة من عدة أصوات بشرية. وهي ذات الطريقة التي يلتقط بها المؤلف الموسيقي الأصوات من الفوضى المحيطة به. لا أعتبر ما أقوم به “سوبر أدب”. إنه فقط شكل كتابة غير مألوف يحاول نقل التجارب التي لا يمكن روايتها باستخدام شكل السرد التقليدي. لهذا السبب، يجب علينا أن نبدأ من لبّ الأشياء؛ من إنسان ستكون كلماته موضع ثقة. وهكذا نبدأ بشاهد مباشر. فنحن لم نعد نصّدق بعض الأفكار أو الأشخاص الذين يروّجون لها لأننا، في كثير من الأحيان، خُدعنا وخُيّبت آمالنا. لكننا نثق بشاهد أو، على وجه الخصوص، بشهود عديدين. إذ يمكن لشخص واحد أن يروي سلسلة من الأكاذيب، لكن في حال وجود أشخاص عديدين يدلون بشهاداتهم، يغدو من الممكن تجميع صورة موثوقة عن الأزمنة والأحداث التي يصفونها. مع هذا، يجب أن نكون حذرين لأن الناس يمكن أن يكونوا مبتكرين عندما يقومون برواية قصصهم. وسيقدم كل شخص نسخته من الحكاية. على الكاتب أن يكون يقظًا جدًا وأن يمتلك بصيرة هائلة. يجب أن نلتقط أي إشارة تدلّ على وجود تلفيق. صحيح أنّي ولدت في المدينة، لكني أمضيت سنيّ مراهقتي في الريف، مما منحني رؤية صافية للحياة. القرية ربّتني وامتلكتُ بفضلها مهارة تمييز الزائف أو الكاذب.  أتذكر كل القصص التي سمعتُها. وأعرف كيف يتحدث الناس الذين خُرِّبت حيواتهم. لقد كانوا أحياء كأفراد لكن، بوصفهم جيلًا، كانوا ضائعين.

(*) شابران: ما الذي سيبقى من أزمنتنا؟ أجيال اليوم الشابة لن تترك، على الأرجح، أيّ إرث أدبي؛ لا ذكريات، ولا حتى أسلوب في الكتابة. إنه عصر الإنترنت.

ـ أليكسييفيتش: هذا زمن تومض فيه الأفكار ثم تتلاشى. كل شيء مؤقت وسريع الزوال. سابقًا كان الناس يعيشون ويعملون وفق فهمٍ مختلف جدًا للزمان والمكان. حتى أنا أجد صعوبة في محاولة استعادة بقايا وتيرة عملي السابقة. ويزداد الأمر صعوبة مع الوقت. أنا متعبة جدًا من الكاتبة التي كنتُها. كنت لأفضّل أن أفكر بأشياء أخرى، أقوم بأشياء أخرى، لكن يبدو أني لا أستطيع الإفلات. يتم جرّي باستمرار إلى حياتي السابقة!

خطاب نوبل

(*) شابران: لا بدّ أن ذلك هو الثمن الواجب دفعه لقاء الحصول على نوبل!

ـ أليكسييفيتش: لقاءَ نوبل أو شكل الحياة الذي تأتي به. نحتاج فعلًا حياة هادئة منعزلة للتفكير بالأمور مليًا، لكننا بدلًا عن ذلك نجد أنفسنا عالقين في الدوامة!

(*) شابران: في حفل جوائز نوبل في ستوكهولم، كسرتِ كل القواعد. ما ارتديتِ ثوبَ سهرة مسائيًّا، ولم تشكري اللجنة في خطابك كما هو معتاد. بل تحدثتِ، بدلًا من ذلك، عن “الإمبراطورية الحمراء” وبطلكِ المفضل “الإنسان الصغير”؛ ضحية التجربة الماركسية المخفقة في خلق مستقبل مشرق للجميع.

ـ أليكسييفيتش: رد الفعل السويدي على الخطاب كان إيجابيًا للغاية، فللصدق طريقته في إذهال الناس. أما بالنسبة إلى اللباس، فعندما أخبروني أن الثوب يجب أن يكون كاشفًا للصدر (ديكولتيه) أجبتهم: أي نوع من الرسائل سأقوم بإيصالها إذا وقفتُ هناك وتحدثتُ عن تشرنوبل مرتدية فستانًا مكشوفًا وقلادةً ذهبية؟ أي جدوى من ذلك؟ لو ظهرتُ في حفل توزيع جوائز نوبل بذلك النوع من اللباس، ما كنت لأكون أنا!

(*) شابران: كانت هنالك جميع أنواع التكهنات حول ما ستتحدثين به في ستوكهولم. وقد قلتِ مرارًا إنك تقومين مقام “الأذن البشرية”. في خريف 2015، هل سمحت لنفسك بالاهتمام بالجدالات التي يثيرها أيّ ذكرٍ لاسمك؟

ـ أليكسييفيتش: كلا، على الرغم من أني سمعتها بالطبع. أمضيت وقتًا أطول وأنا أتساءل حول كيفية إيجاد طريقة للتحدث بالبيلاروسية في تلك القاعة الضخمة؛ كان هذا بالغ الأهمية بالنسبة إليّ. عندها تذكرتُ امرأة عجوز ضئيلة الحجم كانت تقلّني في عربتها خارج قريتي. كانت متعة حقيقية أن أشعر بأن كلماتها مسّت قلوب الناس وتركتْ العديد منهم في حالة تأثر.

(*) شابران: كانت كلماتها بمثابة حكاية رمزية حوّلت نصًا عاديًا إلى قطعة أدبية.

ـ أليكسييفيتش: أحب أن أساعد قرائي على سماع صوت الشعر في الحياة واللغة اليوميتين. هذا هو عملي.

(*) شابران: هل تتابعين ما يُكتب عنكِ؟

ـ أليكسييفيتش: منذ حصولي على جائزة نوبل، تناقصت الهجمات ضدّي. لكن قبل ذلك، كنت أنال أربعمئة إلى خمسمئة مراجعة نقدية ينعتونني فيها بكل الصفات الممكنة! أقرأ مثل هذه الأشياء بسبب فضولي حول “الوعي الجماهيري”. أحب أن أفهم المزاج العام. بعد منحي الجائزة، انقضّ عليّ عدد من الكتّاب الروس؛ كنت أقرأ حوالي عشرين مقالة بكثير من الاهتمام. لاحقًا، تابعتُ ما كتبوه عن بونين عندما مُنح جائزة نوبل، وفكرت: حسنٌ، على الأقل لم يصنفوني كـَ “كلب مسعور”- ليس بعد، على الأقل! وانظر أيضًا إلى ما كتبوه عن برودسكي! إذا أراد المرء أن يحتفظ بنزاهته ويكون ما هو عليه، فالثمن غالٍ جدًا. يجب أن نتعلم أخذ الأمور ببساطة.

(*) شابران: في بيلاروسيا، أطلقوا على فاسيل بيكاو ألقابًا مثل “العميل” و”يهوذا الخائن”.

ـ أليكسييفيتش: أطلقوا عليه شتى الصفات! في أيام دراستي، اخترتُ هرودنا لأجل تدريبي الداخلي على الصحافة فقط لكي أتمكن من رؤيته. لقد كنا، كجيل شاب، مهتمين جدًا بكتب بيكاو. لكنه، للأسف، أخذ كل ما قيل ضده على محمل الجد. أمّا أنا فقد ركزت اهتمامي على البحث في موضوع الوعي الجماهيري والتفكير الجمعي طوال حياتي المهنية. تعاملت مع ذلك كمفهوم فكري وبتّ قادرة على أن أعزل نفسي عن السلبية، وهو ما لم يستطع بيكاو فعله قط. لماذا يجب أن تزعجني مثل تلك الأشياء؟ إذا كان قد سُمِح لمعاصري سولجنيتسين بنقد وتحرير روايته “أرخبيل غولاغ”، فما الذي سيبقى من الأصليّ؟ يجب علينا أن نقوم بعملنا بهدوء، بالطريقة التي نشعر أنه ينبغي أن يتم بها.

(*) شابران: في بيلاروسيا، عملك الأكثر رواجًا هو “زمن مستعمل”، فهو ما يزال الأعلى مبيعًا. أيّ كتبك يقرؤها بقية العالم؟

ـ أليكسييفيتش: “زمن مستعمل” يجتذب القدر الأكبر من الاهتمام، لكن “صلاة تشرنوبل” رائج أيضًا. منذ بضع سنوات، طُبعت أكثر من ثلاثمئة ألف نسخة منه في فرنسا وحدها. لكن أكثر ما يثير الدهشة هو أن رواية “ليس للحرب وجه أنثوي” أبلت بلاءً حسنًا في أميركا، المملكة المتحدة، وأماكن أخرى. وقد تكون عدة عوامل ساهمت في نجاحها. في آخر الأمر، قدّمت هذه الرواية الكثير فيما يخص إظهار طريقة فهم النساء للحرب وقيمة حياتنا، بالإضافة إلى إظهارها قدرة الناس على إنكار الذات. سنكون نحن آخر جيل قابلَ وعرف أناسًا قادرين على هذه الدرجة من التضحية الشخصية. البشر اليوم أقلّ استعدادًا بكثير للتخلي عن حيواتهم.

(*) شابران: منذ بعض الوقت، ظهرت محاولات في بيلاروسيا لتعزيز شعار: “لا تسأل ماذا يمكن لبلدك أن يفعل من أجلك، اسأل ما الذي تستطيع أنت فعله لبلدك”. لكن المبادرة خبت سريعًا جدًا.

ـ أليكسييفيتش: يفكر الناس بطريقة مختلفة اليوم، ويثمّنون حياتهم عاليًا. فاجأني أن يكون الكثير من الروس مستعدين للمشاركة في القتل في أوكرانيا. ربما يكون السبب أنهم فقدوا أعمالهم، ولم يتبقّ لديهم أي مبادئ أو تصورات عن القيم الأخلاقية، أو أي تمييز بين الخير والشر. يتحدث الناس في روسيا عن الدين، لكن لا يبدو أن ثمة أي ترابط بين ما يجاهرون به من معتقدات وما يفعلونه. في إحدى المرات، شاهدتهم يودعون من يسمّون بـِــ “المتطوعين الوطنيين” بأوركسترا آلات نفخية وحضور كاهن أرثوذكسي. يصعب عليّ تخيل حدوث مثل هذا النوع من الأشياء في بيلاروسيا.

(*) شابران: حدّثني رائد الأعمال البيلاروسي المتخصص بالتكنولوجيا فيكتور بروكوبينيا عن التجارب التي عاشها أثناء اعتقاله من قبل السلطات البيلاروسية عام 2015. أحد شركائه في الزنزانة كان يجد صعوبة في التأقلم مع ظروف السجن. “لماذا تنتحب؟”، قال له أحد السجّانين. “في زمن مضى، كان من الممكن أن تُقتل. عام 1937، كان جدي يعدم مئات الأشخاص مثلك في يوم واحد!” لم يكن السجّان خجلًا من كون جده قاتلًا جماعيًا، كان فخورًا بذلك.

ـ أليكسييفيتش: حسنٌ. ليس هذا مفاجئًا، بما أن السلطات لا تكفّ عن إخبار ضباط الأمن أن ارتباطهم بالاستخبارات السوفيتية (KGB) ليس أمرًا يدعو للخجل. خذ على سبيل المثال واقعة ارتداء وزير الداخلية إيغور شونيفيتش بزّة المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية (NKVD) لحضور استعراض عسكري إحياءً لذكرى الحرب العالمية الثانية! هل يمكنك أن تتخيّل سياسيًا في ألمانيا يرتدي بزّة وحدات الحماية النازية (SS)؟

(*) شابران: ما رأيك بالتطهير؟

ـ أليكسييفيتش: أعتقد أنه كان يجب أن يحدث، لكن الأوان فات الآن. لقد أضعنا فرصتنا. إنها مسألة معقدة لأن المجتمع البيلاروسي كان منغمسًا في الفكرة الشيوعية. والدي، الذي كان مدير مدرسة حينها، انضم للحزب الشيوعي أثناء معركة ستالينغراد. وكان سيغدو عرضة للتطهير، بالتأكيد. لكن هل ذلك سيكون عادلًا؟ ينطبق الأمر كذلك على أصدقائه. لقد كانوا أشخاصًا أذكياء وجديرين بالاحترام، وقد آمنوا بالشيوعية إيمانًا صادقًا. اعتقد والدي أن الفكرة وراء الشيوعية كانت عظيمة، لكن ستالين خرّبها. أتذكر جدالي معه بعد عودتي من أفغانستان. “لا تصدقْ كل ما يخبرونك به يا أبي”، قلتُ له. “نحن نقتل الناس هناك”. ولأول مرة في حياته، لم يجب والدي بشيء. بكى فقط. كانت صدمة كبيرة بالنسبة إليه. مع هذا، احتفظ ببطاقة عضويته في الحزب حتى يوم وفاته. بعد أن شاهدتُه يبكي، تخليتُ عن فكرة مناقشته. شعرتُ بالأسف نحوه. وأدركت أن الشيء الأكثر أهمية كان المحافظة على علاقة ودية معه. في كل مرة أقابل فيها بطلاتي – النساء اللاتي أجري مقابلات معهنّ- نأخذ بالحديث عن الأحفاد، الطبخ، وصفات الطعام، أي شيء. لكننا لا نتطرق أبدًا إلى السياسة. سأتذكر على الدوام شيئًا قالته واحدة ممن قابلتهن: “يجب أن تكون للحياة والحب الذي نكنّه واحدنا للآخر الأولوية فوق كل شيء”.

(*) شابران: في القرية التي نشأتُ فيها، كان هنالك جار طاعن في السن ندعوه العم بيتيا. كلما رجعتُ إلى القرية، كنت أتجادل معه حول الرئيس ألكسندر لوكاشينكو. فإذا احتدم النقاش، كان العم بيتيا ينهي المحادثة بالقول: “لن يمزق واحدنا الآخر بسببهم، أليس كذلك؟ هم بعيدون هناك ونحن هنا”. ربما لو أن التطهير كان قد حدث…

ـ أليكسييفيتش: … ما كان التاريخ ليعيد نفسه. لكن لو أنه حدث في ذلك الوقت بالذات، لكان حقق ذروة نجاحه. كان الأمر ليكون صدمة هائلة بالنسبة إلى مجتمعنا، بالتأكيد. من المدهش حقًا كيف ترك خمسة عشر مليون شيوعي السلطة بهدوء، من دون إراقة دماء. على الرغم من أنه، كما يتضح اليوم، ليس تمامًا من دون دماء. لقد اكتملت الدائرة. ما نراه اليوم لا يمكن أن يدعى “شيوعية”- لكن شيئًا منها يحصل من حين لآخر وهو، في رأيي، قابلٌ للمقارنة بما كان يحدث.

(*) شابران: في التسعينيات، صرّح العديد من الكتّاب أن الاستخبارات السوفييتية حاولت تجنيدهم لديها. وقد جرت عدة محاولات لتطويع أشخاص من دائرة فاسيل بيكاو المقرّبة عندما كان يعيش في هرودنا. هل حاولوا تجنيدكِ لديهم؟

ـ أليكسييفيتش: وقعت حادثة واحدة من هذا القبيل. كنت أخطط للسفر إلى بلجيكا في رحلة متعلقة ببحثي، وتلقيت اتصالًا من رجل قال إنه أراد لقائي. كانت أختي حينها مريضة للغاية في مرحلة متقدمة من السرطان، وأجبتُه أن لا وقت لديّ مطلقًا.  لكنه أصرّ قائلًا إن الأمر ضروري جدًا. حتى أنه أخبرني بمكان عمله. والتقينا في حديقة عامة. “سنقوم بتزكيتك للذهاب في رحلة إلى بلجيكا على الرغم من سيرتكِ الملتبسة”، قال لي. “رغم أنك فزت بأول جائزة لعموم الاتحاد وكان من المقرر أن تقومي بجولة على المعالم اللينينية، إلا أن عميد كلية الصحافة في جامعة بيلاروسيا الحكومية، غريغوري بولاتسكي، أظهر اعتراضه. لكن لدينا طلب واحد. عندما تعودين عليكِ أن تخبرينا بما حدث هناك في بلجيكا”. رفضتُ، وهكذا ذهب كلٌّ منّا في طريقه. “سنلتقي مرة أخرى”، قال لي. حدث هذا في الثمانينيات، قبل مرحلة البيريسترويكا (إعادة البناء). ولأن الأشياء في حينها كانت تتجه نحو التغيير، لم يتابعوا إتمام الأمر. لم يكن هنالك أي جدوى، لا سيما بعد أن بدأت مرحلة البيريسترويكا. في آخر الأمر، لم أذهب إلى بلجيكا يومها لأنه كان عليّ أن أعتني بأختي. ولا أستطيع حتى أن أتذكر إن كانوا قد طلبوا مني التوقيع على أي شيء.

(*) شابران: فيما يلي مقتطفات من دفاتر ملاحظات أداموفيتش: “أثناء واحد من الاجتماعات العاصفة لاتحاد الكتاب بين عامي 1956-1957، طالب أحد أعضاء المنظمة، وهو شخص ذو مزاج حاد، أن يُفصل من الاتحاد، على الأقل، المخبرون والمخترِقون المكشوفون بوضوح. لكن، في نهاية المطاف، لم يتخلصوا حتى من الأعضاء الأقل شأنًا. تولّى “أصحاب الثقل” حمايتهم. هل كان ذلك حتى لا يفتحوا الباب على مزيد من الإجراءات؟” في موضع آخر، يبدو أداموفيتش توفيقيًّا أكثر. “كان يجب أن نتروى أكثر، لكن في ذلك الوقت كنا نشعر بالغضب فقط”، كتب أداموفيتش. “كان يجب أن نتساءل لماذا كان الضحايا الحقيقيون، هؤلاء الذين تعرضوا للنفي، أكثر تسامحًا وتعاطفًا منّا تجاه الرفاق الذين خانوهم. هؤلاء الذين كانوا تابعين للمفوضية الشعبية للشؤون الداخلية (NKVD) تعلموا أشياء عن الآخرين وعن أنفسهم. لقد عرفوا ما يقدر البشر عليه، وما هي حدودهم. في حين أنّنا، بينما كنا ننتظر تغيّر الأزمان، لم نكن نفهم أيًّا من هذا”.

ـ أليكسييفيتش: في شبابي، كنتُ أدعم التطهير، لكن اليوم، مع اكتسابي المزيد من الخبرة، أستطيع أن أدرك كم كان صعبًا على الناس أن يقوموا بالاختيار. في روايتي “زمن مستعمل” قصة صادمة تعود إلى الثلاثينيات. تدور القصة حول رجل كان مقربًا للغاية من جارة له كان يدعوها الخالة أوليا. بعد عقود، عندما بدأت مرحلة البيريسترويكا وفُتحت ملفات الاستخبارات، قالت له أمه: “أستطيع الآن أن أخبركَ أن الخالة أوليا التي كنت مولعًا جدًا بها خانت أخاها. وقد مات في معسكرات كوليما”. كان الابن مذهولًا للغاية. بعد عدة سنوات، تلقى رسالة من أمه تخبره فيها أن الخالة أوليا تحتضر، فسافر إلى موطنه ليطرح عليها سؤاله. “لماذا فعلت ذلك، خالة أوليا؟”، سألها. “لم يكن ممكنًا العثور على أي شخص محترم في تلك الأيام”، جاءه الرد. “ما الذي تتذكرينه من عام 1937 بالعموم؟”، ألحّ في السؤال. ابتسمتْ الخالة أوليا. “لقد كنتُ سعيدة! كنت محبوبة. ووقعت في الحب”، قالت له. ما من شيء اسمه “شرٌّ صرف”. في هذا العالم، ثمة ستالين، ثمة بيريا، وثمة الخالات أوليا.

(*) شابران: عندما أنهيتِ كتابك الأول، علّق أداموفيتش قائلًا: “استغرقكِ الأمر ثلاثين سنة لتحققي ذاتك. ما كان الأمر ليتحقق أبكر من ذلك”.

ـ أليكسييفيتش: أتذكر أيضًا أنني عندما أحضرتُ له المسودة الأخيرة قال لي: “من الجيد أنني لم أقم بهذا العمل بنفسي! ما كان ليخطر لي السؤال عن الكثير من الأشياء الواردة هنا. فأنا، كرجل، ما كنت حتى أظن بوجود مثل هذه الأشياء. سعيدٌ حقًا أنك أنتِ من قام بالأمر”. كلماته هذه عنت لي الكثير في ذلك الوقت، ولا تزال تفعل. في بادئ الأمر، كان أداموفيتش قد أراد أن يكتب الكتاب بنفسه. كان فكرته هو؛ كان يفكر بعدة كتب. لكني الآن، تمامًا مثلما كان أداموفيتش غير مدرك للكيفية التي تختبر بها النساء للحرب، أجد من الصعب أن أتعامل مع القصص التي يرويها الرجال الذين أجري مقابلات معهم حول موضوع الحب. إنها عقلية مختلفة تمامًا. وكثيرًا ما أشعر أني لا أعرف عمّ يجب أن أسأل! إنها مشكلة عويصة ولم أجد حتى الآن طريقة لحلّها. ثمة حلقة مفقودة. ببساطة، ليس بمقدوري إدراك موقع الحب في الوعي الذكوري.

(*) شابران: يحب فاسيل بيكاو استخدام عبارة: “افعل ما يتحتم عليك فعله، وليكن ما يكون”. يُنسب هذا القول غالبًا إلى ليو تولستوي، على الرغم من أنه قد لا يكون ابتدأ معه. هل لي أن أسألك عن “مبدئك الشخصي”؟

ـ أليكسييفيتش: أفضّل قولًا مأثورًا آخر يُنسب أيضًا إلى تولستوي: “إذا كنتَ تعبر نهرًا سريع الجريان، حرّك قاربك عكس التيار، بعيدًا عن وجهتك، وإلا سيجرفك حتمًا”. كان هذا شعاري لسنوات. لكني هذه الأيام أفضّل قولًا آخر قاله إيفان بونين: “مهما بلغ مقدار الحزن في هذا العالم الغامض، يبقى مكانًا رائعًا”. أو ثمة ذلك السطر المختزل الذي كتبته الشاعرة أولغا سيداكوفا: “العيش يؤذي”. لكلّ من هذه الأقوال وقع مختلف، لكنها قريبة جدًا من قلبي.

الستالينية افترست جيلًا

(*) شابران: عندما سُئلتْ مطربة الأوبرا لاريسا ألكساندرويسكايا عن الشيء الأكثر رعبًا الذي حدث لها أثناء الحرب، ابتسمتْ وقالت إنه حدث بعد انتهاء الحرب. وصفت ألكساندرويسكايا المرة التي كان عليها فيها أن تلقي خطابًا في الكرملين أثناء اجتماع يحضره ستالين. تقول ألكساندرويسكايا إن ستالين الذي كان على ما يبدو رائق المزاج يومها، سأل خلال الخطاب: “لماذا تقدم ممثلة الشعب البيلاروسي خطابها باللغة الروسية؟ ينبغي أن تتحدث بالبيلاروسية. وسوف نفهم ما تقوله”. لذلك راحت ألكساندرويسكايا تترجم كلماتها باضطراب. وبعد أن انتهت، عادت إلى مقعدها. أتت بعد ذلك التربيتة على كتفها، وأخذوها إلى غرفة مستقلة حيث طُلبَ منها أن تنتظر. انتظرتْ لخمس دقائق، عشر، ثم عشرين، ولم يأتِ أحد. طوال ذلك الوقت كانت فكرة واحدة فقط تدور في رأسها: “لا بدّ أني على وشك أن أقتاد إلى السجن”. بعد حوالي ساعة سمحوا لها بالذهاب. وعندها فقط أدركت أنه بينما كانت تفكر في اعتقالها الوشيك، كانت نسخة من خطابها تُترجم مرة أخرى إلى الروسية.

ـ أليكسييفيتش: الستالينية افترست جيل ألكساندرويسكايا. أستطيع تخيل حجم المعاناة التي مرّت بها وهي تترقب اعتقالها. لا يمكن مقارنة ذلك بأي من الأمور التي قد يختبرها المرء اليوم، على الرغم من أنه لا يمكن التيّقن مما يخبئه المستقبل. بالنسبة إليّ، الأشياء الأكثر فظاعة التي شهدتُها لها طابع شخصيّ أكثر. واحد منها، على سبيل المثال، أني كنت خارج البلاد عندما توفيت أمي. أو إصابة أبي المديدة بالألزهايمر. تصل إلى البلاد وتكتشف أن الشخص الذي كنتَ تعرفه يومًا لم يعد موجودًا. إنّها تجارب عنيفة أكثر حميمية وذاتية في طبيعتها.

(*) شابران: عندما كنتُ أعمل على إنجاز كتابي الذي يضم محادثاتي ومقابلاتي معكِ “بحثًا عن المعنى” (2018)، تفاجأتُ بأنك لا تبدين متشددة ضد السلطات كما كنتِ منذ عشرين عامًا.

ـ أليكسييفيتش: منذ عشرين عامًا، كنا نعتقد أن كل شيء سينتهي في غضون أيام.

(*) شابران: واتضح أن كل شيء كان لا يزال أمامنا. الناس اليوم متعبون من الانتظار. وكما قلتِ بنفسك: “الماضي لمّا يأتِ بعد”.

ـ أليكسييفيتش: صحيح أن علامات التعب بدأت بالظهور علينا، لكن الناس تغيّروا أيضًا. تطلعاتهم باتت مختلفة. وأصبحوا أكثر قلقًا إزاء حياتهم الشخصية. عندما يسألونني لماذا لم أدع نفسي أصبح رمزًا من رموز المقاومة السياسية، أو لماذا لا يطلق اتحاد الكتاب دعوات لتغيير الوضع الراهن، أجيب دائمًا: فلننظر إلى المكونات الثقافية والعقلية للمسألة. يبدو لي أن على المعارضة أن تأخذ شكلًا مختلفًا. لا أقترح أي تسوية بالطبع، لأن ذلك يطرح دائمًا مسألة الحد المقبول به. يتوقف الكثير على ما يفعله الأفراد، لا سيما عندما يمتلكون قدرًا من السلطة. قد يشتري قارئٌ كتبي ولا يشتريها آخر، لكن في الحالتين ليس بوسع رئيس البلاد (لوكاشينكو) مراقبة مثل هذا النوع من الأشياء. صحيح أني لست معجبة به، لكن، لنكن منصفين، المسألة لا تتعلق به وحده.

(*) شابران: ذات مرة، سُئلت إيرينا أنتونوفا، مديرة متحف بوشكين في موسكو، عن السؤال الذي ستطرحه على الله إذا وجدت نفسها قبالته. وكان هذا جوابها: كنت سأسأله “لماذا؟”، وسوف يعرف ما الذي أعنيه. أيّ سؤال ستطرحينه على الله، إذا سنحت لكِ الفرصة يومًا؟

ـ أليكسييفيتش: كنت سأسأله: لماذا حيواتنا قصيرة إلى هذا الحد؟ لا نستطيع أن نفعل إلا القليل في الوقت المحدود الذي مُنح لنا. بالتأكيد، نستطيع أن نتحمّل عيش بضع سنوات إضافية. على الأقل، ما كنّا لنصل إلى بوابة السماء خالييّ الوفاض.

سيرجي شابران صحافي بيلاروسي، عالم لغوي وباحث أدبي. له العديد من المنشورات في الدوريات البيلاروسية. بحثَ في حياة وأعمال كتّاب من بيلاروسيا مثل فاسيل بيكاو، هينادز بوراوكين، ريهور بارادولين، وآخرين. يعيش اليوم في العاصمة مينسك.

هذه المقابلة مع الروائية الحائزة على جائزة نوبل للأدب عام 2015 سفيتلانا أليكسييفيتش أجراها شابران مندوبًا عن صحيفة Dziejaslou البيلاروسية، وتمحورت حول موروثات الماضي السوفييتي، الحرية الأدبية، ودور الثقافة في الكفاح الديمقراطي للبلدان.

رابط النص الأصلي:

https://www.eurozine.com/shards-of-truth

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى