سياسة

عن صابر فلحوط وبطاقتي الصحافية وتحرير الجولان عام ألفين وأشياء أخرى!/ حسان شمس

في مقابلة للدكتور مراد آغا، مع أحد المواقع الإلكترونية، قبل نحو خمسة عشر عاماً، ذكر أنه قبل ذلك التاريخ بربع قرن كان له حديث مع أحد الحزبيين القدامى حول إمكانية تحرير الجولان، فوضع محدّثه يديه على شواربه قائلاً: «بحلق شواربي إذا ما حرّرنا الجولان بستة أشهر»! أضاف آغا وقتها، أنه لم يطلب من ذلك «الصنديد» حلق شواربه أدباً، رغم انقضاء كل ذلك الوقت على قَسَمه ذاك.

الاعتقالات السياسية

بعدها بقليل، كان لصابر فلحوط، عضو «مجلس الشعب السوري» ونائب رئيس اتحاد الصحافيين العرب، آنذاك، حديث إلى موقع «سيريا نيوز» قال فيه جواباً على الاعتقالات السياسية التي طالت أعضاء المجلس الوطني لإعلان دمشق: «لا يوجد بلد على وجه هذا الكوكب لا يوجد فيه معتقلون، سواء سياسيين، أو مجرمين أو جانحين، وسوريا ليس فيها معتقلون لا يقَدّمون إلى القضاء خلال ثماني وأربعين ساعة، وأن القاضي يقرر إبقاءهم في السجن أو إطلاق سراحهم».

ما ورد على لسان فلحوط وقبله آغا، أعاد كاتب هذه السطور بالذاكرة إلى الحادثة الطريفة التالية:

ككلّ خرّيجي كليات الإعلام المغفّلين؛ أول ما يسعى إليه الصحافي الغرّ هو الحصول على بطاقة صحافية. فهي كنزه الثمين، الذي سيمكّنه مِن فلق البحار واقتحام كل مجهول ودخول المناطق المحظورة وانتشال الزير مِن البئر؛ إضافة لما لها مِن فوائد جانبية، كتخفيضات في الفنادق والمطاعم وعلى الخطوط الجويّة، وما إلى ذلك! هكذا قيل لنا وقتها. قصدت اتحاد الصحافيين في دمشق، وما كان مِن الدكتور صابر فلحوط، لحظة معرفته أني من أبناء الهضبة السورية المحتلة، إلا أنْ أخذني بالأحضان، مختاراً لنفسه، في لفتة متواضعة، الجلوس على كرسي جانبي، هذا عدا القهوة المرة التي قدّمها بيديه.

استصدر لي الرجل بطاقة صحافية محدّدة التاريخ. كان ذلك نهاية عام سبعة وتسعين. ولكوني لا أستطيع العودة إلى الشام بعد انتهاء الدراسة الجامعية وعودتي إلى بلدتي المحتلة، طلبتُ مِن مضيفي إبقاء أجل البطاقة غير مُحدَّد، على اعتبار أن الزيارة المقبلة لدمشق تبقى في علم الله.

لم أكمل طلبي ذاك، حتى انتفض الدكتور فلحوط، في حركة ملؤها الاستغراب والدهشة واليقين، قائلاً: «وَلَوّ يا حسان؛ هل عندك شك أنّ الجولان لن يتحرّر قبل الألفين؟».

سحبت كلامي على الفور معتذراً: «معاذ الله يا دكتور؛ أرجو ألا تؤاخذني على سذاجتي وتهوّري»! رفض الرجل، رغم عتبه الشديد عليّ وعلى عزيمتي الواهنة، أنْ أدفع أي رسم مالي لقاء البطاقة، قائلاً: «إن مجلس الاتحاد أصدر قراراً مكتوباً بإعفائك كونك مِن أبناء أرضنا المحتلة الحبيبة».

في طريق العودة، كدت أخرج مِن جلدي لشدّة لومي نفسي على تلك «الهفوة» التي ارتكبتها في «حضرة» رئيس الاتحاد؛ فهو بدا واثقاً مِن إمكانية التحرير بشكل لا يحتمل الشك أو التأويل؛ ليس لسانه مَن تحدَث بذلك وحسب، وإنما لغة جسده أيضاً! قلت في نفسي، «ما أدراك يا ولد؟»؛ فرئيس الاتحاد يجلس على بحر لا قرار له مِن المعلومات والأخبار؛ كما أنه منذ عشرات السنين يحرّر فلسطين، صباح مساء، مِن البحر إلى النهر، عبر أثير إذاعة دمشق!

فصابر فلحوط، هو صاحب الصوت الجَهوَري، وقائل وصلة الرَبط الشهيرة، التي كانت تسبق البرنامج المُوَجّه إلى الأرض المحتلة، والتي يصدح فيها: «إلى عَرب النكبة عدّة الثورة، إلى الزاحفين غداً على بطاح الجليل وكثبان النَقَب، إلى رافعي العَلم العربي في سماء يافا وقمّة الكرمل؛ إليكم صوت فلسطين مِن دمشق».

مرَّ عام الألفين، والجولان لم يتحرّر، وأجلُ بطاقتي الحزينة انتهى! فتطوَّع أحد قاصدي دمشق، وقتها، إلى تجديدها. فما كان مِن مجلس الاتحاد إلا تغريمي عن الفترة السابقة التي صدر فيها قرار مكتوب بإعفائي؛ إضافة إلى رسم التجديد!

والآن، مع استئناف قطار التطبيع مع إسرائيل جولاته والسؤال إذا ما كان سيحط ترحالهُ في دمشق، بصرف النظر إذا ما كان ذلك لقاء الخدمة التي قدّمها لئام العالم، مِن إسرائيل حتى أمريكا، لنظامها الوظيفي لبقائه في الحكم، أو أنها استحقاقات موجِبة الدفع عليها لقاء خدمات سابقة قدّمها لها الأخير، أم هي سلفة على الحساب إلى أنْ يحين موعد الدفع؟

أسئلة لا تجد موسماً لطرحها أنسب مِن هذا الوقت الذي نحن فيه، حيث يكثر الحديث عن إمكانية استحصال نظام الأسد على صفقة رخيصة وهزيلة مِن إسرائيل، تكون بمثابة «سَدَّة جَوْعَة» تعيد له الأخيرة بموجبها القرى الأربع الآهلة بسكانها في الجولان (عدا الغجر) التي فلقَ سكانها الخمسة وعشرون ألفاً الأرض وشقّوا عباب السماء بأصواتهم أنهم عربٌ سوريون.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا ويطرحه كثيرون على أنفسهم ويطرحه الغير عليهم، إذا ما سارت الأمور على هذا النحو الكوميدي الأسود، كم عدد الذين سيبقى يربطهم في هذه القرى «الأبية الصامدة» في حال تحقق كابوس العودة إلى حضن «سوريا الأسد» الذي لم يبرع طيلة نصف قرن بأكثر مِن اغتصاب أهله والتنكيل بهم، أكثر مِن نعال أحذيتهم!؟

العصور الحجرية

في مطلق الأحوال، واهِمٌ كل مَن يعتقد أنّ أي تسوية للصراع السوري-الإسرائيلي، في ظل هذي الأجواء التي أعاد فيها بشار الأسد الدولة إلى ما قبل العصور الحجرية، يمكن أن تحصل فيها سوريا على أكثر مِن هذه القرى الأربع التي يتركّز سكانها على مساحة لا تتجاوز اثنين في المئة مِن المساحة التي تحتلها إسرائيل في الجولان والمقدّرة بـ 1250 كم2. الجولان الذي كان يسكنه نحو 160 ألف سوري، وتم تهجيرهم عام سبعة وستين إلى الداخل السوري، بقوة السلاح، ويناهز تعدادهم راهناً مليون نسمة، لن يكونوا ضمن أي صفقة بين نظام الأسد وإسرائيل.

والسلام الذي كان يتبجح حافظ الأسد أنه غير مستعد للتوقيع عليه ما لم يستطع السباحة في بحيرة طبريا، سيوقّع وريثه عليه دون حتى أنْ يتمكن مِن السباحة في بركة مسعدة أو حتى نهر «أبو دجاجة» القريب منها.

ذكرتُ في مرّات عديدة سابقة، أنّ ما يميّز وجودنا، نحن أهالي الجولان المحتل، أننا نستطيع رفض الاندماج في «السيستم» الإسرائيلي والبقاء أحياء متمتعين بكرامتنا وقادرين على المحافظة على مستوى عيشنا، بخلاف وطننا المحكوم مِن قِبَل عصابة إرهابية عميلة، كانت ستخيّرنا بين القبور والمعتقلات والمنافي لو ارتأينا ممارسة حقّنا ولو في حدّ أدنى مِن الاختلاف معها. لكن مع ذلك لا أفضلية للاحتلال في هذا السياق، والظلم الأكبر الذي يجسدّه نظام الأسد لا يبرِّر ظلماً أخف منه ضراوة تمثّله سلطة الاحتلال في تعاملها مع الجولانيين.

فالمسألة في جوهرها صراع إنساني ما بين حق منزوع الأنياب يمثله مواطنون مدنيون أصليون عُزَّل وباطل مدعوم بالقوة تمثله سلطة احتلال فرضت نفسها بالعنف والسلاح، وكذلك قضية حفاظ على الهوية مِن الطراز الرفيع في دولة قالت قبل عامين بالفم الملآن إنها ديمقراطية لشعبها اليهودي حصراً عبر «قانون يهودية الدولة».

لن أكون إسرائيلياً؛ ونقطة ليس على السطر وحسب إنما على آخر سطر في هذا الكتاب الدرامي الأسود اللعين الذي نحيا!

هذه دولة، فوق أنها سلطة احتلال وأمر واقع؛ مُدانة أنّ لها الفضل الراجح، ضمن مجرمين وعابثين آخرين على المسرح السوري، في تثبيت حكم نظام الأسد وإعادة تدويره، رغم كل الفظائع والأهوال التي ارتكبها بحق السوريين ولا يزال.

لا قيمة تشرّفني أو تَرِكَة أضعها بيدَي مَن يأتي بعدي، أثمن مِن هذه القناعة. لكني، بالقطع لن أقبل أنْ أكون سورياً على مقاس نظامٍ مجرم حرب وعدو للإنسانية، في مكبات النفايات النووية يعجز البشر عن العثور عمّن أقذر وأخسّ وأرذل منه.

أنا على يقين، رغم شحّة العدل وسيادة الظلم على هذي الأرض، أنَّ الحياة أرحب مِن أن تضيق لتحصر مَن يعيش في هذه الهضبة المحتلة أمام هكذا خيارين واحِدهما أقمأ مِن الآخر؛ لكن إنْ فعلت يصبح عندها وطن الواحد منا وقبطانه مجرد حذاء! الفقرة التي أنهيتُ فيها مقالي هذا، كانت جوابي على عشرات الرسائل التي تلقيتها في الأيام الأخيرة للاسترشاد برأيي في مسألة حدوث صفقة بين نظام الأسد وإسرائيل.

 كاتب صحافي مِن مجدل شمس السورية المحتلة

 القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى