مجتمع تحت رحمة العصابات.. هذا هو الثمن الذي دفعه الأسد لكي يتجنّب المقصلة/ لينا الخطيب
ترجمة فرح عصام
تقدمة المترجمة
بحلول عام 2015، كان 80% من السوريين يعيشون تحت خطّ الفقر، وقد اختفت الطبقة الوسطى بلا عودة، وحلّت محلها طبقة من محدَثي الثراء الذين تمكّنوا بفضل شبكة علاقات مع الإيرانيين والروس من التأسيس لواقع جديد للمجتمع السوري. والآن، يقوم النظام السوري في شكله الجديد على شبكة من العصابات الأمنية والعسكريّة التي تحكم البلدات والقرى، والتي تُقدِّم خدماتها الأمنية للناس، بواجهة حكومية، مقابل أموال أكبر من المفترض بمراحل أو بالابتزاز بأي شكل آخر.
النص
حتى اللحظة، سيكون نظام بشار الأسد قد صمد نحو تسع سنوات في الحرب الأهلية. غير أنَّ السؤال بالنسبة إلى أولئك الذين استثمروا في المستقبل السوريّ لم يعد عما إذا كان النظام سينجو من عدمه، وإنما عن كيفية سعيه لتثبيت أركان قوته قبيل إنهاء الحرب التي تجتاح البلاد. قد يكون الأسد دخل المعركة معتقدا أن النظام سيستطيع الاحتفاظ بالسلطة التي تمتّع بها قبل عام 2011، لكن المرجّح أن أهدافه اليوم أكثر تواضعا، على أنَّ محدوديّة هذه الأهداف لا تجعل من أولويّات “الأسد” الحالية أقل خطورة، ولعلّها أخطر من أي وقت مضى. فلِكي يثبت الأسد للعالم بأنَّه لا يزال يمسك بزمام السلطة، وبأن علاقات نظامه جاهزة للتطبيع، فلا شك أنه سيسعى لاستعادة الأراضي السوريّة السابقة كلّها.
بهدف الحفاظ على تماسكه الداخلي، لن يلتفت نظام الأسد لاحتياجات الشعب السوري، فطموحه منصبّ على النجاة المحضة التي يمكن أن يكفلها الحفاظ على شبكة موالاة باتت شريان الحياة للنظام على مدار الصِّراع. وإن كان الأسد سيُحقِّق هذه الأهداف المصغّرة، فلا بدّ من ثمن باهظ للنصر. حتى إن عنى ذلك جلوسَه على عرش دولة هشة بمؤسسات متهالكة، يحيطها المتربحون من الحرب من كل صوب، دولة ذليلة لقوى خارجية.
زبون للدّول المنتفعة
بدأ الأسد ينجح في هدفه المتمثّل في استعادة السيطرة على الأراضي السورية، لكنّ المشكلة الرئيسة هي الشمال، حيث يسيطر “الثوار الإسلاميّون” على الشمال الغربي مقاومين تقدُّم الأسد. أمَّا الشمال الشرقي فيقعُ تحت هيمنة أكراد “قوات سوريا الديمقراطية” (SDF) التي دحرت “تنظيم الدولة الإسلامية” خارج المنطقة عام 2018 وأسّست لنوع من الحكم الذاتي بدعم من جنود قوات الجيش الأميركي. لكن في أكتوبر/تشرين الأول 2019، قام الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” بسحب معظم هؤلاء الجنود مفسحا المجال أمام اجتياح تركيّ للمنطقة، لتضطَّر قوات سوريا الديمقراطية لعقد اتفاق مع النظام يتيح لقوات النظام السوري دخول مناطق الشمال الشرقي ومواجهة الهجوم التركي. اليوم، تدير القوات الكردية المنطقة في ظلّ وجود الجيش السوري.
يعمل النظام السوري حاليا، مع روسيا، لاستعادة الشمال بالكامل تحت سلطة دمشق، حيث تُفاوض روسيا على صفقة مع تركيا تنسحب الأخيرة بموجبها مقابل ضمانات بابتعادِ قوات سوريا الديمقراطية التي تعتبرها تركيا “تنظيما إرهابيا” عن الشريط الحدودي. كجزء من هذا الجهد يناقش النظام السوري إمكانيات التنسيق العسكري والأمني مع القوات الكردية، مع أن الأسد، على الأرجح، سيحرم الأكراد من درجة الاستقلال التي كانوا يأملون أن تكون مكافأة لهم على دورهم في مواجهة تنظيم الدولة.
في حال تمكّن النظام من تأمين المنطقة المتنازع عليها، فلا شك أنّه سيزعمُ استعادة سلطته على سوريا بأكملها مناديا بتطبيع علاقاته مع العالم. هذا التطبيع سيُضفي على نظام الأسد شرعية دولية ليمهّد لاحقا لرفع العقوبات، وهذا الأمر سيسمح لأموال إعادة الإعمار بالتدفق لسوريا. لكنّ فوزَ الأسد المُعلن قد يكون الهامش في حكاية انتصاره، حيث تمكّنت روسيا، من خلال المتاعب التي واجهها النظام، من الصّعود لتصبح أكبر الممثلين الخارجيين تأثيرا هناك، في حين ضمنت إيران تأثيرا طويل الأمد في منطقة بلاد الشام. بهذه الطريقة سيجدُ نظام الأسد نفسه زبونا لهذه الدّول أكثر من كونه شريكها الإستراتيجي، فنجاتهُ مرهونة بدعمهما.
لقد كانت سوريا سابقا تعمل على تأمين الامتيازات الاقتصادية والأمنية للروس والإيرانيين، كالعقود الحكومية في القطاع النفطي وتأمين السيطرة الروسية والإيرانيّة على القواعد البحرية، مقابل الدّعم في الصِّراع. وتمكّنت روسيا، تحديدا، من توسعة نطاق مصالحها في سوريا إلى حدٍّ كبير بالضغط على النظام لكي يمنح الشركات الروسية عقودا اقتصادية، ويمنح الموالين لروسيا رُتَبا مرتفعة في الجيش السوري. على الجانب الأميركي، فمن الواضح أن إدارة الرئيس ترمب لا تنظر إلى السيطرة الروسية على سوريا كمصدر تهديد مباشر لمصالح الولايات المتحدة، وبالتالي فما من رقيب خارجي على قدرة روسيا على فرض نفسها على نظام الأسد. لا شك أنَّ الأسد سيحكُم سوريا، لكن بالنظر إلى ثقل الدور الروسي في إعادة تأهيل النظام فسيكون الحُكم منزوع السيادة، لدولة تعتمدُ أسباب بقائها على الاتّحادية الروسيّة.
اعلان
لم تكن هذه فكرة الأسد عن ترتيبات المراحل الأخيرة للصراع، لكنَّه سيكون مجبرا على التعايش معها، لأن سيطرته على البلاد قد وصلت أدنى مستوياتها. فصحيح أنَّ المناطق التي استعادها النظام في الشمال الشرقي، مثل القامشلي، ترفع علم النظام السوري، لكنَّ ذلك يتم بضغط من دوريات المراقبة السورية، لكي تُعطي الانطباع بأنّ النظام السوري هو المسؤول على الأرض، فالسيطرة الفعليّة على المعابر هي للميليشيات الكرديّة. وقد وصل الأمر ببعض الجنود السوريين المنضمين حديثا وعديمي الخبرة في المنطقة إلى العمل في الزراعة لملاقاة احتياجاتهم الأساسية.
لا يدين الأسد بحياته السياسيّة للأطراف الخارجية فقط، فقد كان النظام على مدار الصراع يعتمد على شبكة ضخمة من الأطراف غير الدولتيّة والأطراف التَّابعة، بعضها مسلح وبعضها الآخر مدني، للالتفاف على العقوبات الدولية المفروضة على التبادلات التجارية، والمساعدة في المعارك، وتنفيذ مهام الدولة كإيصالِ الخدمات إلى المناطق التي يمتلك النظام فيها قدرات وموطئ قدم أقلّ. لقد تربَّحت هذه الأطراف من الصراع المُستدام، وباتت قوّتها وطموحها أكبر من أي وقت مضى، فقد انقلبت الأدوار الآن، وأصبح النظام يعتمد عليها لنجاته، وسرعان ما بات هؤلاء المتربّحون سلطات بحُكم الأمر الواقع تؤدي دور مؤسسات الدولة، لكن بتكلفة باهظة جدا.
يتفشّى هؤلاء المتربّحون في جسد الجهاز الأمني للأسد على المستويات كلها. واكتسبت الميليشيات ذاتها التي دعمت وكالات أمن الدّولة خلال الصراع استقلالية متزايدة، ساعية بشكل أساسي لفرض سلطتها ومصالحها الاقتصادية. في بعض الحالات تحوّلت هذه الميليشيات إلى عصابات مسلحة تروّع المواطنين في المناطق الموالية، مما جعل قدرة النظام على تلبية احتياجات أنصاره أصعب من ذي قبل، ناهيك بأن يحكم بعض هذه الميليشيات التي يفترض بأنها موالية للنظام. في حالات معينة، مثلما حدث في مسقط رأس الأسد “القرداحة”، لم تتمكَّن قوات النظام من الدخول إلى المناطق التي تسيطر عليها العصابات المسلحة، فقد سلَّمت العصابات أسلحتها الثقيلة بشرط أن يتجاهل النظام أنشطتها الاقتصادية المحظورة، حتى إنَّ الجيش السوري والمؤسسات الأمنية تحولت إلى مؤسسات تجارية بأفرع محلية تُقدِّم خدمات أمنية بهدف السعي خلف مصالحها الخاصة بدلا من مصالح الدولة.
لا يمكن للنظام السوري إشباع جشع هؤلاء المتربحين من خزائنه الحالية، لكنه أيضا لا يمكن أن يتحمل كلفة جوعهم، لأن قوته تقوم في جزء منها على دعمهم. ولهذا السبب فإن الأسد يائس من الحصول على أموال إعادة الإعمار التي يمكن له أن يحوّلها إلى شبكات الزبانة السورية، ولمنع هذه النتيجة فإن أي دعم خارجي يُمنح لمشاريع إعادة الإعمار يجب أن يكون مشروطا بضمان توزيع المال على الشعب السوري.
كان يُمكن لنظام آخر أن يُحافظ على سلطته في مرحلة ما بعد الصراع عبر دعم المواطنين والإصغاء لاحتياجاتهم، لكن نظام الأسد قام بالنقيض عبر معاقبة أولئك الذين يرى بأنهم غير موالين بما فيه الكفاية وحرمانهم من الخدمات الأساسية والأمن والحقوق. في عام 2018، سنَّ النظام السوري “قانون رقم 10” الذي يجرّد السوريين من حقوق الملكيّة ما لم يقوموا بالإبلاغ عن إثبات ملكيتهم للسلطات المحلية شخصيا، ويتمّ تنفيذ القانون بشكل رئيس في البلدات التي استولى عليها النظام من جماعات الثوار، حيث يخضع أولئك الذين يبلّغون عن ملكيّتهم لتحقيقات تؤدي في نهاية المطاف لاعتقالهم، وتنتفع شبكات الزبانة من إجراءات من هذا النوع عبر طلب الرشى مقابل الإفراج عن المعتقلين مثلا.
إذن، وعبر إسكات المعارضين وإحكام قبضته على سوريا؛ يسعى الأسد لنشر انطباع عام بأن سوريا تعود للوضع القائم قبل 2011، لكن نظامه مبني على وهم الدولة، وما تبقّى له من فُتات السيطرة هو في أيدي قوى أكبر منه.
لا ينبغي للدول الغربية تطبيع العلاقات مع النظام السوري على اعتبار أن الأسد هو الخيار الوحيد المتاح. وبدلا من ذلك يتعيّن على هذه الدول السعي لفهم الواقع السوري بنظرة فاحصة، بحيث تتمكّن من تطبيق برامجها الإغاثية على سوريا بشكل لا يُمكّن النظام من استخدامها لتغذية المتربّحين الداخليين والزَّبانة الخارجية. إنَّ المرحلة النهائية من الحرب تترك الأسد على عرش هش يقوم على آلاف القطع الآيلة للسقوط.
———————————————————————-
تتناول المادّة التالية، بقلم مديرة مركز كارنيغي في بيروت “لينا الخطيب”، ملامح مجتمع سوري جديد يتشكّل في منفى داخل الأراضي السورية وليس خارجها.
هذا التقرير مترجم عن Foreign Affairs ولا يُعبِّر بالضرورة عن موقع ميدان.