لينا هويان الحسن: المجتمعات تُعرف من وضع النساء/ أنور محمد
الحلمُ بالقوَّة، أو حلمُ القوَّة، هو شاغل الروائية السورية لينا هويان الحسن. فالإنسان يصير فريسةً ينهشه الجهل والفقر، كما الحروب؛ ولينا هويان الحسن تكتب رواياتها، وتحكي حكاياتها، فتشرقُ الأرواح عندها بالأمل، فلا قفرَ ولا يباب. عمقٌ ونفيٌ للعمق، حتى لا تتلاشى الأرواح التي تملأ رواياتها، فتراها من حسٍّ وشعورٍ وفعل، رهينة مبادئها أكثر ممَّا هي رهينة آلامها. مرَّةً قاسية، ومرَّةً ليِّنة، مُتجهِّمة ومُشرقة، مقوَّسة وحادَّة حادَّة، كما في هذا الحوار معها:
(*) انحازت أعمالك للحالة الإبداعية بعيداً عن “النسوية” المعتادة. لعلَّ “نازك خانم” المتمرِّدة إلى حدِّ الرفض، والمستفزّة، كما رآها بعض النقاد، تُلخِّص جوهر رؤيتك الإبداعية للحرية.
ـ الإبداع لا هوية له سوى الإبداع. تاريخ القهر مشترك بين الرجل والمرأة. المجتمعات تُعرف من وضع النساء. وعلامة الحضارة هي حالة المرأة كيف تكون. الأمر لم يتغيَّر، فكما أعلنتْ ذات يوم فرجينيا وولف، إضافة للموهبة تحتاج المرأة (مورداً للعيش، وفسحةً من الوقت وغرفةً خاصة).
أومن بالفردية، نعم “امرأة، أنثى”، بالمقاييس الكاملة للحرية الفردية دون نقصان أو مواربة، أو مجاملة، لا وقت نملكه في عصر سريع، بينما مجتمعاتنا بطيئة تخاف التغيير، ومعظم ما مُنِحَ من حقوق للمرأة، شكلي، وبعيدٌ تماماً عن الحقوق المدنية الواقعية والمعاصرة للمرأة، ربَّما يمكننا استثناء تونس في هذا المجال. لهذا على الأدب أن يقول كلمته ويشمِّر عن ذراعيه ويواجه، وكانت شخصية نازك هي الدريئة التي تلقَّت سهام الحنق بذريعة النقد.
(*) في رأيك، إلى أيِّ حدٍّ أنصفت المؤسَّساتُ الثقافية العربية حضور المرأة، من خلال نشاطاتها الثقافية، وجوائزها الإبداعية؟!
ـ مؤسَّسة الإبداع العربية هي بيد الرجال، أي أنَّ نتاجاتنا في متناولهم على نحو مباشر. فلنبدأ من سوق الكتاب، فمجالات النشر والتوزيع، ولجان التحكيم والنقد، والمقاعد الأكاديمية، الفاعلة، معظمها من حصَّة الرجال.
للأسف، الذهنية الذكورية العربية التقليدية تتوارى وراء قناع الثقافة، غالباً ما تتمُّ تواطؤاتٌ فجَّةٌ ضدَّ الأقلام الأنثوية الحرَّة، التي تتبنى رؤية حقيقية، لكَ أن تتوقَّع كلَّ أشكال المكائد الأدبية التي تُحاك بذريعة النقد، أو التحكيم في لجان الجوائز. هذا ليس سرّاً، والدليل الفضائح المتوالية عن لجان لا تقرأ النصوص، وتخضع لأمزجة كيدية، وتتمُّ تصفية الحسابات الشخصية على الملأ، وعلى نحو مكشوف. أيضاً، هنالك جوائز تشبه المنحة المالية، توزَّع حصصها سلفاً وفق اعتبارات مناطقية، وتوجهات سياسية وغيرها، أي بعيدة تماماً عن قيمة المنجز الإبداعي.
(*) كيف تمَّ تلقي نصوصك الأدبية من قبل المرأة المثقَّفة من موقعها، سواءً كانت ناقدة، أم كاتبة، أم صحافية؟! نعلم أنَّ روايتك “ألماس ونساء” انْتُقدَتْ بشدَّة من قبل المثقَّفات، وأتذكَّر أنَّ عنوان أحد المقالات جاء: خمسون سيدة ضدَّ كتاب.
ـ الكاتبة في أعين هذه المجتمعات التعيسة امرأةٌ قبل كل شيء. والكارثة الحقيقية هي نظرة المرأة الدونية إلى نفسها، وهذا مطبٌّ حقيقي تقع فيه معظم من يُصنَّفنَ على أنَّهنَّ كاتبات ومثقَّفات. اختبرتُ بنفسي مدى زيف وادِّعاء “النسوية العربية بالعموم”، وخضتُ حرباً شعواء مع زميلات الكلمة. تعرَّضت لحربٍ نقدية انتقامية مرات من قبلهن. تكفي جردة صغيرة لما كُتب ضدَّ رواية “ألماس ونساء”، بحبر العَفَن النسائي التاريخي.
(*) كأنَّك تتفردين عن غيرك من الروائيات في محاولة الخروج من عباءة ما يُسمى بالأدب النسائي.
ـ مصطلح الأدب النسائي الذي ظهر في مطلع القرن الماضي، وكان يُقصد به التحقير، صانته النسويات العربية بامتياز، لربَّما دون قصد، لكن الأكيد بسبب رؤية عاطفية انتقامية بعيدة عن الذكاء الإبداعي. معظم المشاريع النسوية وُلِدت دون رؤية موضوعية. احترمُ بشدَّة تجربة نوال السعدواي، حتى لو اختلفتُ معها في بعض النقاط، لكنَّها رائدة حقيقية وحرَّة حتى النخاع.
(*) أين ترين نفسك، ولا تنسي أنَّك تكتبين من موقع الشراكة الإنسانية مع الذكورة؟
ـ أرى نفسي ضمن ما صار يُسمى بـ”كتابة الأنوثة”. لأنّني تحرَّرتُ من موقع الدفاع عن النفس، وإدانة الذكورة العربية للأسباب التقليدية، ولم أكرِّس كتاباتي لاجترار قضايا الطلاق والخيبات العاطفية، فهذه مشاكل اجتماعية تُعالج بلغة الطب النفسي، ولها اختصاصات اجتماعية تدرسها، الأدب شيءٌ آخر، الأدب منصَّة الهجوم، أنْ تخوضَ غمار الأدب أي أنَّك تخوض حرباً مفتوحة، دون بنادق، أو عسكر، الأدب استراتيجية، ولكل كاتبٍ خصوصيته هنا، وأصالة ما نكتب هي هذه الخصوصية بالتحديد.
(*) هنا أسألك: هل أثَّرت الفلسفة على نتاجك الروائي من حيث أنَّك درست الفلسفة في جامعة دمشق!؟
ـ رغم أنَّ أفلاطون استبعد الأدباء بشكل عام، والشعراء تحديداً، من جمهوريته، لكنَّ الفلسفةَ هي التي علَّمت الأدب أن يمتشق معول الهدم، والتقويض، وتحرير البشر من الأوهام. بدأت حرب الفلسفة التنويرية منذ أيام سقراط، وحده الفكر الفلسفي يمكنه تخليصنا من الإرث الفكري القمعي المبني على يقينيات وثوابت رسَّخت تخلف المجتمعات العربية لقرون طويلة. الفلسفة تمسك بيد “الشك”، وتُحرِّرنا من هيمنة الأوهام البالية.
ولعلَّ نيتشه، كما أعلن ميشيل فوكو، هو من أنقذنا من “سباتنا الجدي والأنثروبولوجي”. أثق بمطرقة الفلسفة، فهل تعتقد أنَّ شكسبير كان بنى مجده الأدبي لولا الرؤى الفلسفية العميقة والجريئة التي امتلكها ومرَّرها؟! ثمَّ كيف لهاملت أن يقول:” أكونْ، أو لا أكونْ، هذا هو السؤال”، لولا نعمة “الشكّْ” عند مبدعه؟! جوهر ما أكتبه يتركَّز على “الشخصانية” رغم أني وجوديةُ الهوى، لكنني أحيا وأعيش وفق فلسفة الشخصانية، أَي الإيمان بالكرامة الشخصية التي لا تنفصل عن السلوك الأخلاقي المرتبط باحترامك لنفسك، ولغيرك، دون التفريط بذاتيتك، أَيْ وعيكَ باستقلالك، وفرديتك. فالتشابه هو وباءُ العصر، والاختلاف صعبٌ وله ثمنه، شعاري: الاختلاف.
(*) تكونين، وهذا ما كان، من خلال حضورك المتميِّز روائية مختلفة، فتعرَّضتِ للنقد، هل أضاف هذا النقد لوعيك الفلسفي ما أثَّر على كتاباتك؟
ـ تمَّ تناول معظم أعمالي أكاديمياً عبر رسائل الدكتوراة والماجستير، وكتبتْ أقلامٌ مُهمَّة عن تجربتي، مثل الناقد د. صلاح فضل. وانهالت المقالات الانطباعية الخالية من المضمون النقدي السليم، بسبب مواقف شخصية من قبل الكاتبات والصحافيات، وهذه حالة صحية رغم سلبية المضمون، لكن لا بدَّ لمسيرة أيِّ إبداعٍ أن تعيش مثل هذه الحالات. الآن، نتعامل مع القارئ الرقمي، فمع الدخول في عصر العولمة والمعلومة والشبكة، وُلِدَ الإنسان الرقمي، الذي أصبح هو نفسه ينتجُ معرفة، وتلك هي حصيلة الانتقال من (مجتمع العضلة إلى مجتمع المعرفة) على حدِّ تعبير ميشيل فوكو.
واكبتُ هذا التغيير بصدر رحب وانخرطت في لعبة السوشيال ميديا، لأني أدركت أنَّ المقالات النقدية غدت هامشية؛ بل عديمة التأثير على القارئ، أي ذاك الذي يتحرَّك ويذهب إلى معرض الكتاب ويطلب أعمالك، غالباً لا يقرأ مقالات نقدية تمدح أو تذم، هنالك مواقع للقرَّاء، وهذه المواقع هي المسؤولة عن عدوى الإقبال على أعمال بعينها.
(*) روايتك الأخيرة “ليست رصاصة طائشة تلك التي قتلت بيلا” تُعد أوَّل عمل يدوِّن تاريخ حلب. هل تندرج الرواية، في رأيكِ، ضمن تصنيف الرواية التاريخية؟!
ـ أستذكر عبارة صنع الله إبراهيم “المؤرِّخ الجيِّد هو الروائي”. من يكتب رواية تستلهم التاريخ يعلم سلفاً أنَّ مهمته صعبة، وثمَّة وقت سيصرفه لأجل التحضير لها مادياً وروحياً، فيكون صاحب ملاحظة دقيقة، وحَذِراً في التقاط المنسي، والمغيَّب، لمنح نصِّه الشرعية اللازمة. ولعلَّ سيرة عنترة، والتغريبة الهلالية، وغيرهما ممَّا يندرجُ تحت تصنيف “التراثي” يحملُ بذرة النص التاريخي، من خلال تبني الذاكرة السردية الشعبية. جاءت الرواية بصيغتها الحديثة، وبينها “التاريخية” ليُتاح للكاتب الإمساك بالمتواري، واستنطاق الجانب الصامت من التاريخ.
(*) أعلنتِ على صفحتكِ في موقع التواصل الاجتماعي أنَّكِ لن تقومي بترشيح أعمالك مستقبلاً لجائزة البوكر.
ـ لَنْ أُرشِّح أيَّ عملٍ أدبي لي لأيِّ جائزة عربية، وهذا ليس قراراً عاطفياً، أو تكتيكياً، إنَّما هو قرارٌ استراتيجي. على الأقل، أرتاح من سموم الزملاء والزميلات. لأني أقدِّسُ الاختلاف والحرية، ولا أريد لنصي أَنْ يرضخ لأيَّة مساومة.
كيف نترك نصوصنا تحت رحمة مَنْ لا يملكون وعياً نقدياً بقيمة الجمال كما القباحة، وأثرهما في تقوية الأمل عند الإنسان، ماذا يعني أن يكون روائياً مغموراً قليل الخبرة عضواً في لجنة تحكيم!؟ كيف سيميِّز بين نصٍّ يدعو للحياة وآخرَ يُشيعُ اليأس والخراب والموت.
هل تعلم أنَّ مُحَكِّماً سابقاً قال لي: “يا لينا أنتِ ما زلت شابة، ولا تنقصك الشهرة، طوِّلي بالك..”. الموضوع، إذاً، لا علاقة له بجودة ما تكتبه، إنَّما هناك حساباتٌ أخرى، وسأكتفي بهذا القدر.
(*) ألا ترين أنَّ على الكاتب المُبدع، وهو يذهب إلى نهايته المحتومة، أن يكتبَ ويذهبَ إليها بكل شجاعة؟ لماذا لا أحد يتشجَّع، روايات أغلبها مُسالمة، مُهادنة، مُلفَّقة. كأنَّ الكاتب عدوٌّ للحريَّة؟
ـ بسبب المؤسَّسات (الجوائزية)، أو الجنائزية، وعذراً لاستخدامي هذا المصطلح، التي انفردت برعاية الأدب، فقد تمَّ تدجين وتهجين النص الروائي العربي، وتنميطه، ليتماشى مع شروط الجوائز الأدبية، التي أغلبها تتنكَّر وتتزيَّن بثوب الحرية الإبداعية، لكنَّها في الواقع هي أداةٌ لرسم حدود الإبداع، وتعيين بيادقه وفق رؤى تخدم أيديولوجية، أو أوهام معتقدية، أو قناعات مجتمعية يُبتغى الحفاظ عليها خوفاً من التغيير.
إنَّ الأدب الذي يحمل مرتكزات فكرية تُرَسِّخُ الحريات المدنية للفرد ما زال حلماً عربياً بعيد المنال في ظلِّ الحالة الثقافية الحالية، وطبعاً هذا لا ينفي تجارب فذَّة وفردية مميَّزة، سَيُنصِفُها التاريخ.
*ناقد سوري.
# لقاء مع الروائية السورية لينا هويان الحسن في تلفزيون العربي:
ضفة ثالثة