لم يرَ السيّد فاتح جاموس بأسا في المشاركة في مهزلة انتخابات مجلس التهريج السوري والترويج لها، فطلب من بضعة العشر عضوا في تياره “طريق التغيير السلمي” أن يرشّحوا أنفسهم لعضوية المجلس، ودعا “قوى المعارضة الوطنية الداخلية الجادة” للمشاركة في انتخابات مجلس الشعب.
وفي بيان نشره باسم التيار، دعا جاموس “مجموعة الفعاليات والقوى والشخصيات المحسوبة، أو التي ترى بنفسها أنها من صف قوى المعارضة الوطنية الداخلية الجادة” إلى أن تبلور نفسها في صفّ واحد ويكون لها “برنامج واحد ومسمى واحد هو المعارضة الوطنية الداخلية”. واقترح البيان أن يجري “حوار ديمقراطي وتشاركي” على تحديد البرنامج وصياغته.
عادة ما تكون الخطوة الأولى في الانحدار السياسي والأخلاقي صعبة، ثم يبدأ المرء بالاستسهال، قبل أن يتحوّل الأمر إلى عادة، ووقتها لن تجد للانحدار قعرا، فكلما اعتقدت أن خطوة ما هي أدنى مستوى ممكن، يفاجئك البعض بمستويات أكثر انحطاطا.
عرَفْتُ فاتح جاموس منذ أواسط السبعينات، حيث كان لنا شرف المساهمة في قيادة رابطة العمل الشيوعي. كان رجلا يتقّد حيوية وحماسا، ولديه بعض من الخبث وقدرة على الحركة والتعاطف. انحدر فاتح إلى دمشق من قرية بُسنادا السريانية الممتدّة على سفح تلة بجوار مدينة اللاذقية، بطبيعة فاتنة وتاريخ يعود خمسة آلاف سنة إلى الوراء. فاتح مهندس الكهرباء الممتلئ حيوية ونشاطا سيلعب دورا محوريا مع رفيقه السابق وخصمه الحالي أصلان عبد الكريم في قيادة رابطة العمل الشيوعي. ويوما، سمّيتُ فاتح قلب رابطة العمل وأصلان عقلها المفكر. ولكنّ فاتح هو من لعب الدور الأهم في تحوّل الحلقات الماركسية إلى تنظيم سياسي. لا يتمتّع فاتح بعمق نظري كرفيقيه أحمد جمّول وأصلان عبد الكريم، ولكنه يفوقهما جميعا قدرة على الحركة والإقناع والتشبيك والانتقال بين الأفكار والمواقع والخيوط. وسواء أحببنا الرجل أم لا، فقد كان “الدينامو” وراء الاجتماعات الموسّعة الثلاثة التي عقدها ممثلون عن الحلقات الماركسية، ليس بدون بعض التحايل وبعض المراوغة، حيث لم يتمّ تمثيل الحلقات وفق وزنها الحقيقي وعدد أعضائها. سيعتقل فاتح خمس عشرة سنة، مثل كل رفاقه في تلك المرحلة، وسيخرج دون أن تفتر له همّة أو يقرّ له قرار. كنّا نسمّي فاتح “أبو علي”، وكان يحبّ ذلك، ويعتبره، كما قال لي ذات مرّة تعبيرا عن مشاغبته ومرجلته. أوّل مرة التقيته كانت في حديقة عامة في باب توما. جاء بقامته الضئيلة وعينيه البراقتين الذكيتين وابتسامته الخجولة ولكن المطمئنة. أحببت صوته الدافئ وحذره الأمني، وأحسست بألفة كبيرة معه منذ اللحظة الأولى. ولا تزال كلماته كلما ودّعته بعد لقاء قصير في شارع أو حديقة أو موقف باص: “دير بالك على حالك!” وكنت وما زلت أعتقد أنه كان يعني ذلك جيّدا. كان يمتلك عاطفة ودودة لكلّ الرفاق، ولو كان متدينا لصلّى كل يوم ليحمي الله رفاقه.
ولكنه لعب بعد الثورة السورية دورا سلبيا برأي الكثير من رفاقه في الثورة السورية، حيث وقف في موقع أقرب إلى بشّار الأسد منه إلى السوريين. ووجد نفسه لذلك خارج الحزب الذي ساهم في تأسيسه، وقد خرج – ويا للأسف – بدون أن يحظى بأي قدر من الاحترام أو التكريم لتاريخه النضالي.
لم يكن فاتح الوحيد الذي وجد نفسه خارج الحزب. شريكه ومنافسه أصلان عبد الكريم أيضا ترك صفوف الحزب، ولكنه لا يزال يحظى باحترام معظم أعضاء الحزب الراهنين والسابقين. اعتقدَ أصلان أن مهمة حزب العمل التاريخية قد انتهت، وأن أولوية النضال السياسي الحالي ينبغي أن يكون في سبيل الديمقراطية، التي ينبغي أن تكون فاتحة للمسائل الأخرى. وأسهم أصلان في تأسيس تيّار مواطنة، الذي كان جزءا من إعلان دمشق.
كيف تغيّر فاتح بعد ثورة 2011، وهو الثوري مذ وُلِد؟ سيظلّ ذلك أمرا عصيّا على الفهم بالنسبة لي ولكثيرين من رفاقه. أيعود ذلك إلى الطائفية؟ ففاتح ولد لأسرة علوية فقيرة في ريف اللاذقية، ولكن طائفته لم تمنعه من معارضة حافظ الأسد وخسارة خمس عشرة سنة من عمره في سجون الأسد. أيعود ذلك إلى الخوف من الإسلاميين؟ ولكنّ الثورة بدأت مدنية، سلمية، ديمقراطية، والرجل لم يدعمها حتى آنذاك. أيكون انتهازية صرفا، بعد عمر طويل لم يجنِ منه شيئا؟
ومع ذلك، لنتأمل في بيانه الانتخابي. يريد فاتح من “المعارضة الوطنية الداخلية” إطلاق مقاومة شعبية ضدّ الاحتلالات الخارجية” ويحدّد تلك الاحتلالات بثلاثة فقط: أمريكي وتركي وصهيوني، ولكنه يصمت عن تواجد القوات الروسية والإيرانية، التي قتلت من السوريين أضعاف ما قتلت القوات الأمريكية والروسية والإسرائيلية مجتمعة. وهو في ذلك يتبنّى جملة وتفصيلا وجهة نظر النظام السوري، فلم إذن يتعب نفسه بمعارضة النظام؟ ولم لا يعمل من داخل صفوف حزب البعث أو الحزب الشيوعي مثلا؟
إلى ذلك، يريد السيد فاتح تشكيل “جبهة واسعة … داعمة للجيش العربي السوري، وتحافظ على الوطن السوري والدولة السورية”. ألا يستحق السوريون الذين قتلهم الجيش “العربي السوري” لفتة من الرجل؟ ألا يستحق الجيش بعض التقريع على الأقل.
ثم يطالب فاتح الحلف الجديد بـ “مقاومة الأصولية الفاشية وحلفائها، ومتابعة هزيمتها”، دون أن يبيّن الفرق بين الأصوليين الإسلاميين ومئات ألوف الأطفال والنساء والرجال المدنيين الذين قضوا قصفا وقتلا وتعذيبا، وليس بينهم وبين الأصولية الإسلامية أي صلة.
ولكي يرشّ فوق الكعكة بعض السكر، يطالب السيد فاتح بما يسميه “التغيير الديموقراطي الجذري والشامل،” ولكنه يسارع إلى وصف ذلك التغيير “الجذري” بأنه سيمرّ من خلال “عملية سلمية تدريجية آمنة، وحوار وطني بين أطراف الانقسام الوطني الداخلي.. سلطة وموالاة.”
أتذكّر الآن أن فاتح جاموس كان أكثرنا تطرّفا ضدّ نظام الأسد الأب، وكان يرفض أي مساومة أو حوار معه. فما الذي تغيّر في نظام الأسد الابن، سوى أنه بات أكثر وحشية ودموية وفاشية؟
ببساطة، لقد باع فاتح جاموس روحه للشيطان، لا أدري في مقابل أي شيء، وهو لن يقنعنا برشّة السكر الديمقراطية الأخيرة في بيانه، ولن يجعلنا نغفل عن أن كلّ حرف في البيان إنما هو متناسق مع توجيهات الأجهزة السورية، إن لم يكن بإيحاء منها.
تلفزيون سوريا