سنان أنطون: النص الإبداعي مكان الالتقاء مع جمهوري
أسامة إسبر
في رواياته كما في حياته يتنقل الروائي العراقي سنان أنطون بين عالمين ثقافيين مختلفين لا ينظران إلى بعضهما إلا عبر لغة ضدية وأحياناً ذات طبيعة إلغائية، فالآخر في عين الاتجاه السائد الأميركي مؤطر في صور معينة، كما أن أميركا في العين العامة العربية شرٌّ ليبرالي واستعماري وبؤرة للفساد. لكن سنان أنطون يتحرك خارج هذه النظرة المقولبة بأداة هي السرد، ورواية قادرة على التغلغل إلى طبقات أعمق عبر قراءة عمودية، فالإنسان في النهاية قادر على أن يتجاوز الحدود اللغوية والثقافية، والكتابة في لغة لا يعني أنك أسيرها أو أسير نظرة الآخر إلى منتجها الإبداعي والثقافي، بل يعني أنك تتوهج في هذه اللغة إبداعياً ثم يأتي دور المترجم كي ينقل هذا التوهج إلى القارئ، في أي لغة أو مكان، فما يهم في النهاية هو النص والإضافة الإبداعية التي تميزه فنياً. وإذا كانت النظرة إلى أدب الآخر اختزالية أو تحوله إلى وثيقة أنثروبولوجية فإن النص الأدبي الإبداعي يفلت من هذا التأطير لأنه يحمل في طياته ما يجعله يتجاوز هذه القراءة الضيقة نحو قراءات منفتحة على الفني والجمالي، وهذا ما أثبتته رواية سنان أنطون “فهرس” في حلتها الجديدة باللغة الإنكليزية بعد أن صدرت بترجمة لجوناثان رايت مؤخراً عن مطبعة جامعة ييل الأميركية ضمن سلسلة الأدب العالمي، ولقيت إقبالاً واهتماماً من قبل القراء الأميركيين الذين يبحثون عن روايات تقدم لهم شيئاً جديداً وتساعدهم على تذوق الجمال الأدبي المتولد من التعبير عن واقع مختلف. ونجحت رواية سنان أنطون في أن تكون رواية فنية قبل أي شيء آخر، وهنا سر نجاحها وحضورها عربياً وفي اللغة الإنكليزية.
بمناسبة صدور الترجمة الإنكليزية لهذه الرواية أجريتُ هذا الحوار مع الروائي العراقي المقيم في أميركا سنان أنطون. وأنطون من مواليد بغداد (1967). هاجر إلي أميركا في 1991، ويعمل محاضراً في جامعة نيويورك. وهو شاعر وروائي وصدرت له عدة أعمال روائية منها “إعجام”، “وحدها شجرة الرمان” و”يا مريم”. كما صدر له ديوانان شعريان هما “موشور مبلل بالحروب” عن دار ميريت القاهرة (2004) و”ليل واحد في كل المدن”، دار الجمل (2010).
أنطون هو أيضاً من مؤسسي ومحرري موقع “جدلية” و”مجلة الوضع الصوتية” و”تدوين للنشر” ومن كتاب المقالة التي تعكس اهتمامه بالقضايا والأحداث التي تدور على الساحة العربية.
(*) صدرت رواية “فهرس” في ترجمة باللغة الإنكليزية عن سلسلة الأدب العالمي في دار نشر جامعة ييل وبترجمة لجوناثان رايت، بعنوان “كتاب الخسائر الثانوية”، لماذا اختار المترجم هذا العنوان، وما صلته بالعنوان الأصلي بالعربية؟
– كنت آمل وأفضّل الإبقاء على «فهرس» عنواناً، وأن يُكتب بأحرف إنكليزيةFihris بدون ترجمة، لأن مدلولات المفردة الغنية وسلالتها وإحالاتها في العربية لا يمكن أن تجد مقابلاً مناسباً بالإنكليزية تُبلوره مفردة واحدة. وهذا ما طلبته من دار النشر، لكنهم رفضوا. موضوع عناوين الكتب المترجمة شائك ومزعج. فالعنوان دائماً موضع جدال وصراع بين المترجمين وبين الناشرين والمحرّرين لأسباب عديدة. ومعظمهم يصرّ على خياراته المبنية على اعتبارات تجاريّة، أو تحفّظات وتخوّفات لأن سوق الأدب المترجم ضيّقة في الولايات المتحدة. وبما أنّنا لم ننجح في إبقاء «فهرس» كما هي، فقد اقترحتُ أنا شخصياً، The Book of Collateral Damage وأفضل ترجمة له هي «كتاب الخسائر الثانوية». فهو يعبّر عن مشروع ودود (المستحيل) ومخطوطته التي يريد أن يكتب فيها تاريخ الحرب، دقيقة بدقيقة، ويحرص على أن تكون موسوعة للخراب وسجلاً للخسارات، لا من منظار البشر، بل من منظار الشجر والحجر والحيوان.
(*) هل ينظر القراء في أميركا بعامة إلى الأدب العربي المترجم كأدب إبداعي؟ هل ستتحرر روايتك من النظرة المرتبطة بطبيعة العلاقة الأميركية مع العراق ويُنظر إليها كفن روائي قائم بذاته؟
– هناك، بالطبع، شرائح مختلفة من القرّاء، وبخلفيات وتوجهّات وأذواق متنوّعة. هناك من يحرص على قراءة الأدب المترجم، لأنه أدب أولاً، بغض النظر عن العواصف السياسية والمناخ السائد. وهناك من يملك حسّاً نقدياً وخبرة وتجربة تساعده/ا في التخلّص أو التملّص من الإطار الاستشراقي الذي ما زال يهيمن، عموماً، على منظومة استقبال وتفسير ما يكتبه هذا «الآخر» أو ما يُكتب عنه. تحدثت في أكثر من موضع ومناسبة عن إشكالية النظر إلى النصوص الأدبية المترجمة عن العربية وكأنها دراسات علم إنسان أو علم اجتماع، أي مصادر معلومات عن هذه المجتمعات (الغريبة)، لا كأعمال فنيّة تستحق وقفة لتأمل جمالياتها وأسلوبها وأدواتها. تفاقم هذا الأمر بالطبع بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر والحروب الكارثية وعودة خطاب صدام الحضارات بقوة من جديد.
هناك استثناءات، بالطبع، في دور النشر الصغيرة، هنا وهناك، وفي بعض المواقع والدوريات. أمّا الأدب العراقي المترجم فتتم غربلته هو الآخر بحسب الخطاب الثقافي السائد حول العراق في الولايات المتحدة. ويتراوح هذا الخطاب بين سرديات النسيان والإنكار، أو اختزال كارثة الغزو إلى خطأ، أو التركيز على معاناة الجنود الأميركان الذين يحتلّون مسرح الذاكرة كضحايا، فيختفي المدنيون العراقيون. وهذا جنس أدبي سائد منذ سنوات. وإذا ظهر العراقيون في نصوص مترجمة فيفضّل هذا الخطاب النصوص التي تصور العراق على أنه مجتمع بلا تاريخ منطقي، يحكمه عنف متأصّل. «فهرس»، كما ذكرتْ المراجعات التي صدرت بعد الترجمة، تسير في الاتجاه المعاكس. لست معنياً بتحرير القراء من أساطيرهم القوميّة. لقد ذكرت أكثر من مرة بأنني سعيد، بالطبع بالترجمات، لكن ما ومن يهمني، في المقام الأول، هم القراء في العراق والمنطقة. فهم جمهور الصف الأول بالنسبة لي.
(*) في أحد المقالات التي كتبت عن الرواية بالإنكليزية يقول المراجع إن الرواية تمتح من سيرة المؤلف وحياته، إلى أي درجة نمير هو سنان أنطون؟ وهل توافق على قراءة الكاتب الأميركي ويل بريستون أن “فهرس” هي رواية سيرية إلى حد ما؟
– نمير البغدادي هو شخصيّة متخيّلة. هناك أوجه شبه في بعض التفاصيل بيننا. لكن هذا لا يكفي لأن تكون الرواية سيريّة. التشابه بين السارد وبين الكاتب لعبة أدبية معروفة ومقصودة. وهناك تفاصيل قد يفترض القارئ (أو الناقد) أنها سيريّة، لكنها ليست كذلك البتة. فشل نمير في كتابة رواية عن «المغسلچي» وظلت مسودة، بينما نشرتُ أنا رواية «وحدها شجرة الرمّان». وهناك أمثلة أخرى. يبدو أن الطريق الأقصر والأسهل للناقد أو المراجع هو أن يركز علي هذا التفصيل بدلاً من الالتفات إلى أمور أهم بكثير في النص.
(*) أنت تعيش حياة مزدوجة، فحياتك العملية تدور في فلك اللغة الإنكليزية، بينما حياتك الإبداعية تدور في فلك اللغة العربية، كيف تؤثر هذه الحياة في تجربتك ككاتب، وهل تشعر داخلياً أنك تعيش حالة المنفى بعيداً عن سياق اللغة الأم؟
– حين هاجرت من العراق إلى الولايات المتحدة عام 1991 افتقدت اللغة العربية كثيراً. كان ذلك قبل عصر الإنترنت والفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي التي تختزل الأبعاد والمحيطات. وكنت أشعر باغتراب لغوي شديد، بالرغم من تمكنّي من الإنكليزية. كان عليّ أن أسافر لساعة كي أصل إلى مكتبة تبيع جرائد عربيّة.
تغيّر العالم مذّاك. لحسن حظي أتحدث اللغة العربية بشكل يومي في البيت، مع زوجتي، وهي روائية عربية. كما أن من محاسن التكنولوجيا الحديثة أنها تسمح للإنسان أن يعيش بشكل افتراضي في مكانين وفي سياقين. لكن اللغة الإنكليزية تظل لغة العمل الأكاديمي والتعامل اليومي خارج البيت. في زيارتي الأخيرة إلى بغداد في كانون الثاني/يناير فرحت أيمّا فرح لأن المحكيّة العراقية كانت حولي في كل مكان. الابتعاد عن محيط اللغة الأم قد يجعلك أكثر حساسية لجماليات اللغة وخصوصياتها. أنا بعيد عن جمهوري جغرافياً، لكن النص الإبداعي هو المكان الذي نلتقي فيه.
*صحافي سوري مقيم في أميركا
ضفة ثالثة