وفائي ليلا: لا شيء أبديا كما نعرف
تغطية وحوار: هدى أشكناني
قدّم ملتقى الثلاثاء الثقافي، أمسية شعرية للشاعر وفائي ليلا، وسط حضور باهر لعدد من المثقفين والشعراء في جمعية الخريجين بالكويت .
قدمت عريفة الحفل الشاعر بمقطع له يصف نفسه قائلا:
«أنا وفائي ليلا
لا مطالب كبيرة لي
بعض الذكريات
ورصيف، وعائلة
صور بالأبيض والأسود
مدينة كبيرة تصلح كملجأ
أو مصح نقاهة عقلي
لا يكفي كل هذا الجنون»
مستطردة بقولها: «يكتب بقلبه نصوصا شعرية تختزل الوحدة، الألم، الذكرى بكل أشكالها، مقتربة من خلوتنا الأولى التي لا يمكن صرف النظر عنها مهما أشغلتنا الحياة».
ثم تعرّفه قائلة: الشاعر الإنسان وفائي ليلا، من مواليد دمشق، له أربع مجموعات شعرية ومجموعة قيد الطبع.
من جهته، افتتح الشاعر وفائي ليلا الأمسية بنص «المدلّك» في مقطع موجع يقول فيه:
علمني أين أضع القطن
وأشار بإصبعه إلى انفي وفمي
واستدرك: «ولكن، عادة ما تكون الجثة مستلقية
قالها وهو يبتعد برأسه
كمن يتنهد حسرة، وتابع:
«هذه أول مرة أقوم بعملي
والجثة واقفة
مفتوحة اليدين».
قرأ ليلا أيضا مجموعة من نصوص جديدة، بعضها يحمل عنوانا وبعضها الآخر بلا عنوان، جاءت النصوص مختلفة بأطوالها، ترسم الأحزان بعيون طفل، ما زال يبحث عن مخرج من كوابيس تحاول الفتك به.
في نص «ادفنوني» كمية الوجع لا يمكن أن تهدأ يقول فيه:
« ادفنوني معه
لا تتركوني وحيداً
قد يصحو فجأة
قد يطلب ماء
ادفنوني معه –
قد أهدهد خوفه إن صحا
وقال يا أبتاه.. إني أختنق
هذا التراب الذي قرأته في النشيد ثقيل علي
هذا الوطن الذي قلت كم هو واسع».
أشعر أني لا أحبني كفاية في الماضي!
وجودي في العالم أحياناً زائد لأن كل المقاعد احتلها الآخرون.
أحاول المخاطرة أكثر في حك قشور التكلس بأظافر السخرية.
بعد حصة من الشعر والألم المفتوح، استرقت «الطليعة» لقاء خاطفا مع الشاعر وفائي ليلا، للحديث حول الشعر والنصوص والعالم:
● الملاحظ في نصوصك مخاطبتك لـ «رب السماوات»، فكيف هي علاقتك به؟
– لربما شدة الوحشة واللايقين بالواقع أو السيطرة عليه أو فهمه هو الذي يستدعي ويستحضر الماورائي في هذه المسألة كخيار أخير، من يقف على جرف الكون ويرمق الهاوية وليس من خلاص أو يد لتنشل أو تنقذ، وكإنسان بدائي أول، نخترع حبال خلاص كي ننجو، فيما تضيع صرختنا في قاع السقوط من دون أي رد.
● العائلة.. إلى أي مدى تأثير وجودها في نصوصك؟
– شدة غياب العائلة في حياتي هي سبب حضورها في نصوصي، لقد كانت موجودة بحدها الأسوأ التي نعرف، ووصاياها التي كانت مرتبطة بالإرهاب الجسدي والنفسي، والتي تعكس بدورها هرمية بنية المجتمع العربي القائم على التسلط والاستبداد عموما، فهناك الأب الهائل والأم المنكسرة والأولاد الصدى المهزومون، بهكذا تربية لا تفسح للكائن أن يكون، ولا تحميه ما يكفي، ولا تمنع عنه العسف، أو ترفع عنه ظلما. العائلة أو الأمة التي تنتج عبيدا ممتثلين، والطاعة هي عنوانهم ومبتغاهم.
أنا كشفية
● تقول: «أنا موجود هنا، أنا وفائي ليلا، أنا هناك، أنا الذي هو.. الخ».. استنطاق الأنا في نصوصك إلى ماذا يرمز؟
– إنه استحضار للفردية المغيبة في مجتمعاتنا عبر دمج الكائن في الرهط والقبيلة والعشيرة والطائفة.. الخ من هذه البنى الماحية لخصوصية الكائن وتمايزه عنها وعن آرائها وما تفضله وما تتحرج منه. ويرمز أيضا إلى التأكد من الذات عبر وصفها كمن يلمس أعضاءه بعد زلزال هائل، ليتأكد أنه موجود، ومازال حياً وفاعلاً. وأيضاً كي تكون المرايا أقرب، كي لا تسنح للذات أن تتماهى أو تتسلل إلى أدوار سواها. هي ليست «أنا مُرضية» بقدر ما هي «أنا كشفية»- إذا صح التعبير… «أنا» تبحث عن ملامح صاحبها، تريد أن تقبض من خلالها على الحقيقة أو محاولة ذلك.
● ما الأمور العالقة التي لم تتمها للآن؟
– كل يوم أشعر أني لم أبدأ بعد، كأني لم آلف هذا العالم بما يكفي، مازلت حذراً منه ومتحفظاً وأنظر إليه بكثير من الريبة والتوجس.. أعكس السؤال هنا لأقول «ما هي الأمور أتممتها؟»، والجواب هو أني مازلت أفكك الأشياء، ومازال الطريق غائما وغير واضح أو مرئي.
خوف وقلق
● تكررت فكرة الخوف/ القلق في عدة نصوص، فلماذا الخوف؟ أهو وسيلة أخرى للهرب؟
– الهرب هو نتيجة للخوف أو أحد مظاهره هذا أولاً، أما لماذا تكرر الخوف، فهو ببساطة لأنه حاضر طوال الوقت، من الصعب أن تقنعي طفلا خدشت ذاكرته بكل ذاك الرعب الذي صدرته القيم والمواعظ التي لا تقبل الشك، والتي وعدته بالجحيم مضاعفاً أن يمر كل ذلك بسلام، الخوف من كل شيء والحذر أو التأثيم نحن أولاد الخطيئة وأولاد الذنوب التي لا تموت. الخوف من الجسد وتماهياته ومطالبه والحاجز الأخلاقي الذي وضعه القانون للتخطي، نحن كائنات ممحوة الأعضاء، ولا تعترف بالجسد مثلاً، ولا بتجاربه ولا بالمس في طهرانيته، كلنا «غشاء بكارات» يجب ألا تثقب، لأنها تهدد المكانة والسمعة، وتجري بعيداً عن أمرة الكهنوت الديني والمجتمعي.
أما القلق، فهو من كل شيء، حيث في مجتمعات مؤقتة وغير مستقرة وببنى مهترئة وفشل مرير على كل الأصعدة، كل ذلك ليس من الممكن أن يمر بسهولة، وسينعكس حتما قلقا وعصابا وسواه. يأتي الخوف أيضا من عدم التأكد من الاشياء، من المجهول، من عدم وجود الثقة بالذات لمرة وبالآخرين لمرات.
● كيف تصف وجودك بالعالم؟
نقطة..!
– هي أول ما يتبادر لي وأقاوم أن تمحى بسهولة، وهي قلقة وتكاد تهوي عن حافة السطر .
وجودي في العالم أحياناً زائد، لأن كل المقاعد احتلها الآخرون، وأنا مازلت أحمل حقائب بكل ما لا يلزم للرحلة التي يجب.
أعتقد أني في ورطة، لم تساعدني الصدفة، ولم اعتد دوري جيدا.
هبات زائلة
● هل تعتقد بأن الأمنيات التي نأمل بها يوماً يمكننا الإمساك بها؟
– لا أعرف أن أجيب عن الآخرين، لذلك سأجيب عن نفسي.. يحدث أن الحياة تهبنا بين الحين والآخر بعض مفاجآتها غير المتوقعة، والتي تغمرنا بحنان مباغت وخاطف نكون بأمسّ الحاجة إليه، الحب، الصداقة، الجمال، وكثير من الهبات الصغيرة الأخرى.. يحدث ذلك ويتحقق وإن كان نادراً رغم كل شيء.
ولكن لا شيء أبديا كما نعرف.. ولربما حسبه أن يكون كذلك كما كل شيء.
● ما المختلف الذي تسعى لتقديمه في نصوصك الجديدة؟
– ربما اقترابها أكثر مني من دون تكلف ولا انتباه مشدود.. وتوزيع أناي على أكثر من دور، وربما محاولة المخاطرة أكثر في حك قشور التكلس بأظافر السخرية.. لا أعرف كيف نتغير، ولكني أشعر أني لا أحبني كفاية في الماضي.
الفيس بوك