الطائفية في الشرق، أزمة نخب أم أزمة شعوب؟/ محمد علي باشا
تعتبر الطائفية والعنصرية والتفرقة الاثنية آفات اجتماعية عانى منها الشرق منذ مئات السنين ودفعت شعوبه ثمنها من قتل و تهجير وتغيير ديمغرافي وتشريد رغم أنها شعوب نجحت بالتواجد المُشترك لمراحل زمنية طويلة وبمختلف الظروف وتغنت بثقافات وعادات اجتماعية مشتركة الى حد كبير ووقفت بوجه التدخلات الخارجية للدفاع عن مصالحها معاً، الا أنها وفي لحظة تاريخية مفصلية ولسبب قد يكون جوهري أو هامشي نسفت كل تلك العلاقات الاجتماعية وانقلبت على أواصرها المشتركة وفتكت ببعضها البعض قتلا وتهجيرا وتشريدا تحت تأثير مجموعة من الأفكار والمُعتقدات والقناعات والتَّصرفات التي ترفع هيمنة مجموعة أو فئة معينة على حساب الفئات الأخرى أو بناءً على أمور مورّثة مرتبطة بالحكم على الأشخاص بناء على عاداتهم أو لون بشرتهم، أو ثقافتهم، أو مكان سكنهم، أو لغاتهم، أو معتقداتهم معطية الحق للفئة المُهيمنة بالتحكّم بالفئات الأخرى، في مصائرهم وكينونتهم وسلب حقوقهم وازدرائهم من منظور عنصري هذا المنظور الذي قد يكون غائباً ويظهر فجأة تحت تأثير عامل ما أو أنه كان موجوداً وكامناً واشتعل بشراهة تحريض أو فتنة من جهة ما / أشخاص – جهات إقليمية – جهات دولية- مرجعيات دينية ..الخ / و شرقنا- على وجه الخصوص – خير مثال على ماسبق ذكره وهو حافل بتلك الأحداث و منها على سبيل المثال لا الحصر /طوشة 1860 في سورية ولبنان –مذابح الأرمن – مذابح سيفو –النزاع العراقي الكردستاني –مذبحة سميل في العراق –الحرب الاهلية اللبنانية –اضطرابات المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية-انتفاضة شيعة العراق –الحرب الأهلية في اليمن –الحرب الأهلية في السودان -الصراع السني الشيعي وأخيرا وليس آخرا أحداث الربيع العربي /
بدراسة تاريخية لكل حادثة من الحوادث السابق ذكرها وبالتدقيق والتعمق في أسبابها وتفاصيلها ومراحل تطورها لا بد وأن تلفت أنتباه الباحث جملة من الحقائق والوقائع التي سبقت تلك الحوادث أهمها وجود العيش المشترك لأفرادها والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية الطيبة، تلك الحقائق والوقائع التي تثبت محبة الناس لبعضهم البعض وحسن علاقاتهم المتنوعة وانتفاء آية آثار عنصرية لدى كلا منهما تجاه الآخر بالقدر الذي يثير الاستغراب والدهشة عن مبررات زوالها على نحو مفاجئ وبتأثير عامل ما و تحولها الى النقيض تماما من مشاعر كره و بغض و عنصرية وطائفية مقيتة متبادلة تدفعهم لقتل بعضهم البعض وتشريد بعضهم البعض والاستيلاء على أموال بعضهم البعض لفترة زمنية قد تطول أو تقصر لتعود المياه الى مجاريها لاحقا ولتحل مشاعر المحبة و الاخاء بشكل تدريجي وليستقر المجتمع من جديد وهكذا دواليك باتجاه دورة أخرى من العنف الطائفي والعنصرية و التفرقة الاثنية من فترة لأخرى .
هذه الازدواجية في المشاعر و المعاملات و العلاقات الاجتماعية والتناقض الكبير بينها وانتقالها المفاجئ من أقصى اليمين الى أقصى اليسار في لحظات تاريخية فارقة تدفع للاستغراب و تثير جملة من التساؤلات وتولد العديد من اشارات الاستفهام حول مبررات تلك الازدواجية وذلك التناقض بين مواطني البلد الواحد من مختلف المشارب و الاعراق والاديان و الطوائف وحول مكامن تلك العنصرية والطائفية ودوافعها بين شعوب تعيش حياة مشتركة منذ مئات السنين كما تثير مجموعة من التساؤلات المشروعة التي نوجزها بالتالي :
1- هل كانت شعوب المنطقة بمختلف مشاربها تحمل مشاعر الود والمحبة و التعاضد تجاه بعضها البعض في الأحوال العادية أم لا
2- هل الطائفية و العرقية والعنصرية ومشاعر البغض تجاه المكون الآخر آفات اصيلة في تكوين تلك الشعوب منذ فجر التاريخ أم أنها عارضة على تلك المجتمعات ؟
3- هل ردات الفعل التي صاحبت النزاعات العرقية والطائفية بين أبناء البلد الواحد كانت بارادتهم أم نتيجة لتحريض وتخطيط دائمين من نخب تلك الطوائف الدينية او السياسية او الثقافية؟
تشير وقائع أغلب النزاعات العرقية والطائفية في المنطقة ودوافعها وأسبابها منذ مايزيد عن مائة عام أن غالبية الشعوب بريئة منها و تحمل مشاعر الود والمحبة تجاه بعضها البعض و خالية من آفات العنصرية والعرقية والطائفية وأن ردات فعلهم تجاه المكونات الآخرى هي نتيجة لتحريض نخب دينية او ثقافية أو سياسية وأن أغلب الجرائم المرتكبة ماكانت لتكون بتلك الوحشية لولا ذلك التحريض من تلك النخب التي تمتلك القوة والنفوذ والذكاء والدهاء والسلطة أي أن التركيز على النخبة كموضوع سياسي واجتماعي في الوقت نفسه وأدوارها يسعفنا في فهم المجتمع وتفسيره وتأويله، ومعرفة أسباب اختلاله واضطرابه واعوجاجه، بهدف إيجاد مختلف الحلول لمعالجته لتحقيق نوع من النظام والتوازن والتآلف، آخذين بعين الاعتبار جملة من الأسباب أهمها امتلاك النخبة لقوة مهمة على التأثير في القرارات السياسية المحلية، والجهوية، والوطنية، والدولية و تراجع دور النخبة السياسية المشرقية الايجابي أو الانتيليجنسيا المثقفة تراجعا كبيرا نتيجة سيطرة الأنظمة الديكتاتورية لعقود طويلة نتيجة تهميشهم من قبل تلك السلطات لصالح فئات انتهازية آخرى ممن يبدون الولاء ويسعون الى تحقيق مكاسب شخصية بغض النظر عن سلوك تلك الأظمة تجاه شعوبها.
في ذلك السياق يميز فيلفريدو باريتو بين الطبقة الشعبية العامة والنخبة الخاصة وينقسم المجتمع وفق هذا التمييز إلى فئتين كبيرتين: الجماهير الشعبية والنخبة وهي قسمان: نخبة حاكمة ونخبة غير حاكمة. ويشير مصطلح النخبة الحاكمة أو الحكومية إلى ما يسميه رايت ميلز (Wright Mills) بنخبة السلطة، وموسكا (Mosca) بالنخبة السياسية فنكون اذا أمام نوعين من النخب يمكن لأيا منهما ان يلعب دورا سلبيا في التحريض الطائفي والتمييز العنصري :
1- النخبة الحاكمة كما هو الحال لدى أغلب الأحزاب الحاكمة القائمة على أساس ايديولوجي قومي ديني تميز العربي على سبيل المثال عن بقية الأعراق والأقوام الأخرى كحزب البعث العربي الاشتراكي الذي حكم كلا من سوريا والعراق وميز بين العرب و باقي فئات الشعب وخلق عنصرية مبطنة من خلال جملة من القوانين الاستثنائية التي تهدف الى الغاء الاخر و تغليب قومية واحدة على حساب بقية القوميات التي حرمتها من أبسط حقوقها و انتهج ازاءها سياسة الغاء وتعريب موجهة بهدف طمس معالمها و كحزب الاخوان المسلمين الذي ميز بين المسلمين السنة وبقية المذاهب الاسلامية الأخرى و كنظام الجمهورية الاسلامية في ايران الذي ميز بين المواطنين المسلمين الشيعة وبين باقي فئات الشعب الايراني من المذاهب والاديان الأخرى وقد كان لهذه النخبة الحاكمة دورا سلبيا للغاية فيما وصلت اليه المنطقة من تشنج طائفي ونزاع عرقي من خلال سياساتها المباشرة وغير المباشرة طيلة سنوات حكمها
2- النخب غير الحاكمة (الثقافية والسياسية والدينية والاجتماعية) وهي المؤثرة بشكل مباشر أو غير مباشر على الفضاء الايديولوجي عبر وسائل الاتصال المتوفرة لديها، وسهولة تدفق المعلومات بين أعضائها.
ومن هنا لاحظ غاتيانو موسكا أن النخب” تحكم مجتمعاتها، على الرغم من كونها أقلية، لأنها أفضل تنظيما من الأغلبية، وكذلك لأنها تستند إلى إيديولوجية تدعم مشروعيتها. ويمثل هذان العاملان مؤشرا حاسما على كفاءة وفعالية أية نخبة وقدرتها على قيادة المجتمع وقد لعبت هذه النخب الغير حاكمة دورا سلبيا -مع الأسف -في كافة الدول المشرقية التي شهدت صراعات أهلية وحروب طائفية وقتل على الهوية فبثت خطاب الكراهية وزكت نار العنصرية والطائفية بين شعوبها والأمثلة على ذلك كثيرة فلا يمكن لعاقل وصاحب ضمير حي أن ينكر الدور السلبي الذي لعبته المرجعيات الشيعية لدى طوائفها في بث خطاب الكراهية و التحريض على التفرقة المذهبية بين الشيعة وبقية المذاهب الأخرى والدور السلبي الذي لعبه عدنان العرعور على المكون السني السوري والذي ساهم في توجيه دفة الثورة السورية لغير وجهتها الأساسية وعاد ببالغ الضرر على ذلك المكون الذي يشكل غالبية المجتمع السوري والدور السلبي الذي لعبه منظري الفكر الاسلامي المتطرف لدى داعش وجبهة النصرة و الفصائل الاسلامية الراديكالية الأخرى والتي مهدت الأساس الشرعي (الديني) لكافة الجرائم التي ارتكبتها لاحقا من قتل و سرقة وسبي واغتصاب …الخ والدور السلبي الذي لعبته غالبية النخب الكردية والعربية في مواجهة بعضها البعض والدور السلبي الذي ارتكبته النخب السنية في العراق والمملكة العربية السعودية للتحريض على الشيعة و النخبة الشيعية في العراق وايران في التحريض على السنة وغيرها من الأمثلة التي لسنا بوارد ذكر جميعها في هذا المقال وبمعنى آخر ان الأزمة الطائفية والعرقية والعنصرية في مجتمعاتنا هي أزمة نخب بالدرجة الاولى وليس أزمة شعوب التي لو هيئ لها نخب صالحة لما استباحت دماء بعضها البعض ولاحترمت التنوع الطائفي و العرقي والمذهبي والديني على غرار الشعوب الغربية التي قطعت تقدماً شاسعا في الوعي و سعة الأفق وسخرت لنفسها النخبة الواعية فقط ونبذت الأقطاب المتطرفة التي لم تنجح في تحقيق أيا من أهدافها رغم كل محاولاتها المتكررة / اليمين المتطرف في المانيا وفرنسا وايطاليا و السويد ..الخ على سبيل المثال لا الحصر / وان الطائفية وان كانت موجودة واقعيا الا أنها لاعب غبي يحرّكه الشيطان المتمثل في النخب الفاسدة .