عن الحوار حول دور المدينة والريف في الثورة السورية -مقالات مختارة-
============================
—————————————————-
عنصرية معارضين سوريين: الثورة فشلت بسبب أهل الريف!/ وليد بركسية
لا تعتبر سردية الصراع بين الريف والمدينة في سوريا، جديدة بحد ذاتها، إذ طرحت كثيراً لتفسير أسباب انطلاق الثورة الشعبية العام 2011 ضد نظام الأسد، لكنها كانت محصورة بالنقاشات الصحافية الرزينة والأبحاث الغربية والكتب المترجمة التي حاولت تفكيك بنية النظام تاريخياً مثل “الدولة المتوحشة” للباحث الفرنسي ميشيل سورا، كما كانت حاضرة في خطاب موالي الأسد لتحقير المعارضين بوصفهم متخلفين أتوا من الأرياف لتدمير الحضارة المُفترضة في المدن. لكن العجيب فعلاً هو حضور السردية اليوم بنفس عنصري قبيح ضمن خطاب المعارضين للنظام أنفسهم، في تفسيرهم لأسباب فشل الثورة السورية بعد نحو 10 أعوام من انطلاقها.
وانتشرت في الأيام القليلة الماضية مقاربات مناطقية عديدة من شخصيات معارضة، مثل ميساء آقبيق، المسؤولة في “رابطة الصحافيين السوريين”، والمعارض سمير نشار الذي يشغل حالياً صفة الناطق باسم “الحزب الوطني السوري الحر”، تضمنت مستوى من التعميم الممتزج بفوقية ثقافية، يرتقي حكماً إلى مستوى خطاب الكراهية الممنهج الذي يجرد فئات كاملة من السوريين من إنسانيتهم، بالقول أن أبناء الأرياف هم من أسلموا الثورة وعسكرها ما يجعلهم وحدهم مسؤولين عن فشل الثورة، أو أنهم جميعاً من الجهلة الذين لم يعيشوا أدنى معايير المدنية بعكس “أبناء العائلات الشبعانة” و”المتعلمين والعارفين”.
والمشترك في هذه المقاربات التي أثارت الاستياء في مواقع التواصل، مع مطالبات لأصحابها بالاعتذار على أقل تقدير، هو المستوى الجديد من الكراهية العلنية بين السوريين، وتحميل بعضهم مسؤولية ما وصلت إليه حال البلاد اليوم. لكن المحرك الأساسي لها على ما يبدو هو الاعتراف أخيراً من قبل شخصيات معارضة بفشل الثورة السورية، وهي فكرة لم تكن تتخطى حيز التساؤل فقط منذ العام 2017 ضمن الأجواء المعارضة بشكل عام. والمشكلة اليوم هي عدم تقديم تلك النتيجة برؤية أكثر واقعية مهما كانت محبطة لأصحابها، والميل بدلاً من ذلك إلى تقاذف الاتهامات والتملص من المسؤولية، بطريقة تكشف الكثير من العنصرية المبطنة التي تتواجد في المجتمع السوري على عدة مستويات.
ويحيل ذلك بدوره إلى معضلة أخرى، تتمثل في انحدار جديد ضمن خطاب المعارضة السياسية والشعبية على حد سواء، نحو لوم الفئات المختلفة ضمن المعارضة نفسها، إن لم يكن تخوينها، على ما وصل إليه مسار الثورة. في صراع متجدد على مفهوم الشرعية والأحقية في تمثيل الشعب السوري، ضمن المتغيرات السياسية الدولية الحالية تجاه الملف السوري المجمد. والمشكلة الأكبر أن هذه النوعية من الخلافات القبيحة التي يتلقفها إعلام النظام وحلفائه بلهفة، تؤكد بشكل خاص السردية الروسية التي تنفي منذ سنوات وجود ثورة ضد النظام الدكتاتوري في البلاد وتسطح كل ما جرى فيها بأنه مجرد حرب أهلية على السلطة بين فئات متناحرة لا تحظى بالشرعية أو الأهلية لقيادة الدولة السورية المفترضة أو حتى المشاركة في حكمها.
ويحمل التحول السابق معنيين متناقضين ومتلازمين في وقت واحد. الأول، إنكار للواقع السياسي والعسكري الحالي. والثاني، اعتراف بأن الثورة السورية باتت تذوي عن الوجود شيئاً فشيئاً، وهو أمر مؤسف لأن تلك الثورة كانت فرصة تاريخية أعطت السوريين كثيراً من الأمل بإمكانية خلق بمستقبل ديموقراطي أفضل يتخلصون فيه من عقود الدكتاتورية والقمع. مع الإشارة إلى أن النقاشات التي انتشرت في الأسبوع الماضي، بدت بدائية وغير قادرة على تقديم أسباب كل هذا التشتت البنيوي في صفوف المعارضة، والذي طبع المشهد العام عقب الثورة العام 2011 بكل الانشقاقات الداخلية التي حصلت في التكتلات السياسية المعارضة الأولى التي نشأت حينها، وكيف تحول الخطاب من لوم النظام على خراب سوريا بسبب البطش الأمني الذي واجه به المتظاهرين السلميين، إلى لوم فئات من السوريين دون الأخرى ضمن المعارضة.
ومن اللافت أن جذور الصراع الطبقي قد تعود إلى أدبيات حزب البعث الحاكم وممارساته منذ ستينيات القرن الماضي، وتحديداً في فترة حكم حافظ الأسد التي كانت فيها الدولة نظرياً على الأقل، منحازة “للعمال والفلاحين وصغار الكسبة” وغيرها من التسميات التي يصف بها الفكر البعثي القاعدة الشعبية الريفية التي بنيت عليها دولة “البعث” قبل أن تصبح العام 2011 القاعدة الشعبية للثورة ضده، بعد فقدان تلك الطبقة كثيراً من الامتيازات والمكاسب التي كانت تنالها من الاشتراكية الاقتصادية، منذ أيام قوانين التأميم والإصلاح الزراعي وصولاً الخطط المالية القائمة على مركزية الدولة ومجانية الخدمات، مع تحول النظام السوري مطلع الألفية إثر وصول بشار الأسد للسلطة، نحو اقتصاد السوق الاجتماعي والليبرالية الاقتصادية، وما تبعه من تقليص للخدمات في الأرياف التي باتت مناطق مهمشة فقيرة أكثر من أي وقت مضى.
لكن المشكلة في هذا الطرح القائم على صراع بين المركز والهوامش، أنه ليس شاملاً، لأن تعقيد الصراع في البلاد يتوازى مع تعقيد بنية النظام الأسدي نفسه، سواء من ناحية تحالف النظام الطائفي المركزي مع النخب الريفية السنية من جهة، أو السطوة الأمنية التي لا تفرق بين السوريين سواء كانوا من الريف أو المدينة من جهة ثانية، مع الإشارة إلى أن تلك السطوة الأمنية مع نشوء الشبيحة والميليشيات المسلحة الموالية، نجحت في تخفيف المشاهد الاحتجاجية ضمن مراكز المدن بحصرها في الأحياء الجانبية، التي كانت توصف من قبل الثورة، بأنها أحياء الفقراء والغرباء، أي أهل الأرياف المحيطة. وتجب الإشارة هنا إلى أن العقد الأول من الألفية شهد تزايداً في حالات الهجرة من الريف إلى المدينة لأسباب كثيرة قد تبدأ بالتغيرات المناخية والجفاف ولا تنتهي بتغير العقد الاجتماعي من طرف واحد ضمن الدولة الأسدية، وكلها جزء من تغييرات متسارعة أخرى شهدها المجتمع السوري وأسهمت بشكل أو بآخر في الوصول إلى الثورة السورية كحركة شعبية تطالب بالتغيير السياسي وتستذكر المظالم التاريخية التي كرستها الدولة الأسدية.
والحال أن تصوير الثورة السورية كثورة قام بها الريفيون الفقراء الجاحدون ضد أهل المدن الأغنياء الكرام، بسبب الحقد الطبقي، تكرر في إعلام النظام، كسردية بديلة قادرة على خلق التعاطف عند جمهور حيادي، عند عدم الرغبة في تقديم الثورة السورية كحركة إسلامية متطرفة، وهو ما يلاحظ في مسلسل “روزنا” الذي أنتجته المؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني التابعة لوزارة الإعلام، العام 2018 على سبيل المثال. ويتماشى ذلك مع النزعة التي أدار بها النظام المظاهرات الأولى ضده، مع تعميم أوصاف مثل الغرباء والمندسين لوصف المحتجين في المدن الكبرى كحمص ودمشق على سبيل المثال.
في ضوء ذلك، من السهل إلقاء اللوم على التربية البعثية وعقود الحكم الأسدي للبلاد، عند محاولة تفسير انتقال الخطاب العنصري بهذا الشكل من ناحية الموالين إلى ناحية المعارضين، إلا أن ذلك ليس كافياً، مع إصرار بعض المعلقين على وصف حالات العنصرية ضمن الخطاب المعارض، سواء كانت مناطقية أو إثنية أو دينية وغيرها، بأنها مجرد هفوات فردية، بدلاً من القول أن تراكمها وتجددها مرة بعد مرة، يشكل حبة الكرز الصغيرة فوق كعكة إخفاقات المعارضة السورية، كواحدة من أكثر الحركات السياسية انفعالية وتورطاً في سوء التقدير السياسي، خصوصاً إن كانت الغاية من الخطاب المناطقي الأخير، هو التملص من مفرزات الثورة بغرض تقديم أصحابه لأوراق اعتمادهم أمام القوى العالمية الفاعلة في الملف السوري، بوصفهم “معارضين متنورين”، في وقت يكثر فيه الحديث عن تسوية سياسية قادمة، مع انزعاج موسكو تحديداً من الجمود الحالي الذي يمنع إعادة الإعمار في البلاد وفق الشروط الغربية التي يتختزلها قانون قيصر الأميركي.
على أن وجود هذه النوعية من الأصوات ضمن المعارضة السورية يثير تشتتاً في الرؤية الغربية للحدث السوري، قد يصبح معها التعامل مع النظام السوري وضبطه، فكرةً أكثر واقعية لدى بعض السياسيين الغربيين، مقارنة بالتعامل مع سياسيين معارضين لا يمكن التنبؤ بأفعالهم، ولا الدفاع عنهم أمام الرأي العام مع احتفاظهم بهذا النوع من خطاب الكراهية، الذي في الواقع يتخطى الجانب الإثني والطائفي والمناطقي، نحو الحقد ضد الاختلاف، بما في ذلك الاختلاف الجنسي والديني والجندري، وهي نقطة باتت تكررها وسائل الإعلام الغربية الكبرى في السنوات الأخيرة.
وإن كان خطاب العنصرية المناطقية، يقوم على فكرة وجود “سوريتين” الأولى هي سوريا النور التي تمثلها المدنية المتحضرة ويدعي امتلاكها النظام الأسدي وبعض المعارضين له، والثانية هي سوريا الظلام متمثلة بالثورة الجهادية. فإن الرد الأفضل عليه قد يكون باستذكار ما قدمته الثورة، التي ضمت سوريين من كافة الشرائح الاجتماعية ومن كافة المناطق بلا أي تمييز، من نماذج تنسف هذه السردية السامة من أساسها، مثل بلدة “كفرنبل” في ريف إدلب التي بقيت حتى سقوطها على يد قوات النظام في وقت سابق من العام الجاري، محافظة على مدنية الثورة في وجه الأسلمة والجهادية والعسكرة، ما يؤكد مجدداً بأن هناك “سوريتين” اثنتين فعلاً: سوريا الأسد بوصفها دولة بوليسية مجرمة ومخيفة، وسوريا الوطن أو سوريا الحلم التي ثار السوريون من أجلها العام 2011، وواجههم النظام بالرصاص الحي وسياسة الأرض المحروقة وخطاب التخوين.
المدن
——————————–
ترييف الثورة أم صراع الريف والمدينة؟/ عقيل حسين
جدل جديد فجرته منشورات حديثة لشخصيتين من المعارضة تتعلق بالعلاقة بين (فشل الثورة) وغلبة الطابع الريفي عليها، وعلى الرغم من التوضيحات التي عقب بها صاحبا المنشورين لتوضيح فكرتهما، فإن ردود الفعل المنتقدة والغاضبة كانت قوية.
والواقع فإن العلاقة بين الريف والمدينة، والفوارق بين المجتمعين ليست محل جدل سوري أو عربي فقط، بل كانت ومنذ عصور سحيقة قضية بحث ودراسة وتفكير، في كل أنحاء العالم.
كما أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها طرح هذه القضية في الأوساط الثورية والمعارضة، لكن معظم الطروحات كانت وما تزال مجرد انفعالات ومواقف شخصية، تم الرد عليها غالباً أيضاً بشكل انفعالي لا يفيد المسألة ولا أصحابها من الثوار والمعارضة، سواء أبناء الريف أو أبناء المدينة، ولا يخدم قضيتهم السياسية.
وإذا كان كثيرون يرون أن من الخطأ طرح هذا النوع من القضايا بالأصل، ولهم مبرراتهم المنطقية إلى حد كبير طبعاً، إلا أن الموضوعية تقتضي، كما أظن، تناول كل الأسباب التي نعتقد، مخطئين أم مصيبين، أنها أدت لفشل الثورة حتى الآن.
وترييف الثورة، مثلها مثل عسكرة الثورة وأسلمتها، ملفات لا يجب التعامل معها بحساسية مفرطة في كل مرة، مثلما لا يجب تناولها بهذا الاستسهال الذي يجري عليه الأمر، هذه الحساسية وهذا الاستسهال أديا في النهاية إلى مزيد من التعقيد لا أكثر!
فمن غير الموضوعي أن يقبل كثيرون، وبينهم عسكريون وأبناء ريف بطبيعة الحال، بتكرار طرح قضية أسلمة الثورة باعتبارها سبب من أسباب فشلها، لكنهم يرفضون في الوقت نفسه مناقشة مسألتي عسكرة الثورة وترييفها، وكذلك فإن من مجافاة الموضوعية أن يقبل البعض بمناقشة ترييف الثورة، لكنه يرفض الاقتراب من مسألة أسلمتها أو عسكرتها.
إن الأمر يتعلق بالنهاية في كيفية مقاربات هذه المسائل ودرجة العلمية التي يتم تناولها بها، فانتقاد عسكرة الثورة لا يعني بالطبع انتقاد كل من حمل السلاح من أجل الدفاع عن النفس ولحماية الحواضر التي كانت تتعرض للهجمات الدموية من قبل قوات الجيش والشبيحة والميليشيات الطائفية، بل يفترض أنه يتعلق بتغول دور العسكريين على حساب المدنيين من الثوار والمعارضيين، الذين فرض عليهم واقع العسكرة المتضخم الخروج من المشهد عملياً وانتزاع الفاعلية منهم، بعد أن أصبح القول والفعل بالنهاية لصالح من بيده السلاح.
وكذلك انتقاد أسلمة الثورة، فهو لا يعني بأي حال رفض أن يكون معظم الثوار، المدنيين والعسكريين من المسلمين السنة، أو حتى من المتدينين، بل يتعلق تحديداً بهيمنة جماعات الإسلام السياسي بمختلف توجهاتها ومدارسها على الفعل الثوري، العسكري والمدني، وإقصاء التيارات السياسية الأخرى بالقوة المادية والمعنوية، تحت ذرائع واهية، من بينها أن الغالبية العظمى من الثوار ومن الضحايا هم مسلمون، وهذا يفترض أن جميع المسلمين “إسلاميون” بالمعنى السياسي، وهذا غير صحيح بطبيعة الحال.
على ما تقدم، فإن انتقاد ترييف الثورة من منطلق عدم صوابية الهيمنة التي آلت لأبناء الريف على المواقع القيادية في مؤسسات الثورة والمعارضة، وتحديداً القوى الفاعلة منها، وهي إذن الفصائل العسكرية، وابتعاد أو إبعاد أبناء المدن عن قيادة هذه الفصائل حتى داخل الأجزاء الخاضعة لسيطرتها من المدن، بقصد أو كنتيجة، يصبح نقاشه أمراً مشروعاً، لكن وفق ضوابط ومقتضيات علمية، الهدف منها الفهم والاستفادة لا الجدل والسجال السلبي الذي يزيد الحساسيات ويعمق الانقسامات.
إن التهرب من مناقشة أسباب فشلنا يساوي تماماً طرح هذه الأسباب للنقاش غير العلمي، ولا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي عامل أساسي في إذكاء الحساسيات مع المجال الذي باتت توفره هذه الوسائل للجميع من أجل الإدلاء برأيهم في كل القضايا، وهو ما يعيدنا إلى مراحل الثورة الأولى عندما حدث انقسام خطير بين الريف والمدينة، نتيجة اتهام أبناء المدن الكبرى بالتخاذل والجبن وتأييد النظام بسبب عدم مشاركتها القوية في المظاهرات.
نحن إذن أمام قضية سياسية مزمنة، وليست طارئة على الثورة كما يدعي البعض، كما أننا إزاء مسألة اجتماعية قديمة وثابتة لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها بادعاء أن العالم تغير، وأن ثورة المعلومات والاتصالات هدمت كثيرا من الحواجز والفروق بين المجتمعات، ولا يمكن بالتالي إلا الإقرار بالاختلاف بين مجتمع المدينة والريف والبادية، سواء في طرق التفكير أو أساليب التعبير أو وسائل التعامل مع الظواهر والأحداث، وهي اختلافات طبيعية في النهاية ولا تتضمن بداخلها حكماً مسبقاً يقضي أياً منها الجيد وأياً منها السيئ، وهي اختلافات خفت حدتها أيضاً، لكنها لم تنته، بدليل هذا الجدل الذي يتفجر حولها في أوساط الثورة كل يوم.
إن الملاحظة التي لا يمكن إلا الاعتراف بها وتسجيلها بعد كل السجالات التي دارت فيما يتعلق بهذه القضية، هي أن المناقشين والمشاركين في الجدل حولها لا يناقشون مسألة ترييف الثورة، هل حصلت فعلاً ولأي حد وما هي الأسباب وما هي النتائج.. بل يعبرون غالباً عن الصراع بين الريف والمدينة للأسف.
عقيل حسين
تلفزيون سوريا
—————————————–
سوريا: ثنائية الريف والمدينة وتناقضات التشكّل/ إيلي عبدو
المعارض المعروف الذي أشعل السجال، وحمّل الريف مسؤولية فشل الثورة عبر العسكرة والأسلمة، اعتمد نتائج كلاسيكية للثنائية المطروحة، حيث المدينة تستخدم في احتجاجاتها “التظاهرة والاعتصام والإضراب والعصيان المدني”، فيما الريف يعمد سريعاً إلى “حمل السلاح”.
لا تستوي ثنائية ريف- مدينة، التي شغلت أوساط السوريين في الفترة الماضية، كمعيار أحادي لتفسير الأحوال التي باتت عليها البلاد عقب ثورة قُمعت بوحشية واستقرت حروب أهلية، وتدخلات إقليمية ودولية. كما أنها تقع على حوامل وتحولات ومسارح، تتعلق بتاريخ سوريا، تحيل نتائجها إلى نقائض ومستويات متداخلة، فضلاً عن كونها مفتوحة على استثمار الاستبداد الأسدي.
المعارض المعروف الذي أشعل السجال، وحمّل الريف مسؤولية فشل الثورة عبر العسكرة والأسلمة، اعتمد نتائج كلاسيكية للثنائية المطروحة، حيث المدينة تستخدم في احتجاجاتها “التظاهرة والاعتصام والإضراب والعصيان المدني”، فيما الريف يعمد سريعاً إلى “حمل السلاح”. وما يبدو صحيحاً في هذا الفرز لناحية المبدأ، يتبدد مع ملاحظة التحولات التي مرّت فيها المدن السورية، واختلاط تشكلها ونمو العلاقات فيها، وسط معايير تقليدية لا ترتبط بما يعتقد أنه من آليات العمل السياسي.
فالمدن الرئيسية، أي دمشق وحلب وحمص وحماه، تحكّم بعلاقتها بالسياسة، عقب الاستقلال، أعيان العائلات. وهؤلاء مارسوا العمل السياسي انطلاقاً من أساليب تقليدية، تجعل من “قبضاي” الحي جامع أصوات في الانتخابات، وتعتمد تاريخ “الشخصيات الوطنية” ضد الانتداب، دعاية متواصلة تعفي من طرح مضامين حول البلاد القلقة. بمعنى أن قواعد الديموقراطية الضعيفة في سوريا، غدت مسارح لممارسة سياسة الأعيان التقليدية. والأحزاب آنذاك لم تُؤسس بناء على طروحات تتعلق بالنظرة إلى سوريا بل بناء على مصالح البرجوازيات المتضاربة.
حزبا “الشعب” و”الوطني” لم يحملا مضامين سياسية جديّة، إنما اعتمدا على السمعة والوجاهة والتقليد العائلي. والقوى الراديكالية التي صعدت بالضد من الممارسة التقليدية للسياسة، لم تسعَ إلى تصويب هذا الخلل، وإنما قضت على قواعد السياسة الضعيفة عبر الانقلابات وتدخل العسكر بالبرلمان والحكومة، وعلى وقع هذا التحوّل انخرط الريف أكثر في المعادلة، وبات خزان للراديكالية المستجدة، يمدها الجماهير والتأييد، لكن هذا المدّ الشعبي لم يكن مرتبطاً بالريف فحسب، وإنما بالمدن أيضاً التي انهارت فيها الأحزاب التقليدية وعصفت بها الأيديولوجيات العابرة لسوريا.
وعليه، فإن الاعتصام والإضراب والتظاهرة والعصيان المدني، التي اقترحها المعارض السوري السالف الذكر، لإعطاء حكم قيمة على المدينة على حساب الريف في الفعل السياسي، مورست انطلاقاً من شروط تقليدية، في حقبة الأعيان، وفي شروط شعبوية في حقبة الراديكالية. أي أنها لم تمارَس انطلاقاً من قواعد ديموقراطية مؤسسة وصلبة، تربط أداة الاحتجاج بالتغيير وتمثيل الناس أنفسهم بشكل فعل. وهذا الإشكال، لم يكن مفصولاً عن القيم المحافظة في المدن السورية، التي لم يخرقها الاقتصاد الليبرالي الجزئي، ولا الأيديولوجيات الثورية، وهو ما حال دون تشكلها، أي المدن، كمناخات مفتوحة قابلة للتعدد والاختلاف وخاضعة لتأثير الرأي العام.
امتناع المدينة السورية عن تشكلها كمدينة بمعنى الاجتماع المتعدد، توازى مع امتناع آخر يرتبط بقصور الفعل السياسي وضعف قدرته على التغيير. وانطلاقاً من الامتناعين هذين، يمكن النظر إلى صعود الريف، الذي لم يرتب ما سمي “الإصلاح الزراعي”، أي تغير في طبيعة العلاقات فيه، بل ارتبط بالشعبوية الراديكالية التي أرادَت جماهيرَ لها.
أبناء الريف انخرطوا بمدينة ممتنعة عن التشكل، تعاني من تناقضات، فالاقتصاد حر لكن العلاقات محافظة، والديموقراطية تمارس لكن بطرائق تقليدية، والنسيج الاجتماعي مغلق على عدد من العائلات وغير منفتح على التعدد والتهجين. الحقبة الراديكالية المتمثلة بصعود الإيديولوجيات، أنهت أي فرصة لعلاج هذه التناقضات، واستبدلتها بشعبوية شعارتية تعتمد التغيير القسري. وهو ما وفر مناخاً لبروز أبناء الريف الذي جاء على وقع مدينة لم تتشكل، وسياسة تحولت أدواتها من التقليدية إلى العسكر والعنف.
بيد أن صعود الريف في السياسة والجيش والاجتماع، ترتب عليه، صعود أبناء الأقليات، وإن كانت ثنائية الريف والمدينة في سوريا تقوم على ارتباكات وخلل في تشكل طرفيها على ما ورد سابقاً، فإن استبطانها لثنائية الأكثرية والأقلية، يضعها في مستوى آخر يرتبط باحتكار البرجوازيات السنية للعمل السياسي، وما استتبعه من ردود فعل أقلوية اتخذت من بروز الأحزاب العقائدية مسارح لها.
والأسدية إن كانت نتيجة لردود الفعل تلك، فهي غير معزولة عن الإشكالية الأصل، وما رتبته من نتائج في فشل السياسة وفشل تشكل المدينة. وعلى رغم انتماء الأسدية إلى مركبات الانقسامات السورية، فهي، ومع تشكلها كسلطوية أمنية قمعية عائلية فئوية، جيّرت هذه الانقسامات، لمصلحتها، فإضعاف ريف ما تعيش فيه أقلية دينية، يستوجب وضع مدينة في مواجهته يعيش فيها أكثرية سنية، وإضعاف مدينة ما، سنية الانتماء، يستوجب استجلاب أبناء الريف من الأقليات للعيش فيها، والتحكم بقراراتها.
والانكشاف الذي حصل مع اندلاع الثورة، وتبدى صراعاً أهلياً عنيفاً، يرتبط حكماً بالتلاعب الأسدي بانقسامات البلاد، لكن أصوله تتموضع في عدم تحول هذه الانقسامات إلى ديناميكات تتحول وتتغير، وتذوب في مصالح تسعى إلى التمثيل السياسي. تطور البلاد الناقص عبر اعتماد هياكل الليبيرالية لممارسة سياسة تقليدية، والاستسلام لـالأيديولوجيات الانقلابية وتلاعب الاستبداد، هذا كله ساهم في تكريس الانقسامات وتداخلها مع بعضها بعضاً، ضمن مستويات متداخلة.
ما نظنه انقساماً بين الريف والمدينة قد يتمظهر صراعاً بين طائفة وأخرى وقد يبقى كما هو، وربما لا يكون له تأثير أبداً. هكذا كانت التجارب خلال السنوات العشر الماضية. لا منطقَ يحكم الانقسامات لأن مسرحها، أي سوريا، لم يتشكل وفق مسار واضح، يعتمد فكرة “الدولة – الأمة”، كما أنها، أي الانقسامات، لا تستتبع أي أحكام قيمة أو تصورات جوهرية، لأنها تتداخل ببعضها بعضاً.
درج
————————————————
هل ما زال تصنيف الريف والمدينة دقيقا؟/ وائل عصام
شهدت المدن العربية هجرة ريفية واسعة في العقود الأخيرة، وأدت موجات الترييف هذه لتغيير طبيعة معظم المدن الكبرى، والأهم هو التأثير الكبير على القيم والعادات والروابط الاجتماعية للسكان داخل حدود المدينة، هذا الاختلال أدى بالتالي إلى ظهور سكان مدن ليسوا بالضرورة «حضريين» ويحملون عادات المدينة، وتمدين نسبة من سكان الريف، بحيث تخلوا أيضا عن بعض عادات الريف، لكنهم لم يصبحوا مدنيين، مقارنة بسكان تلك المدن القديمة، فأصبح الحال تركيبة هجينة جديدة، بحاجة للتدقيق في إطلاق التصنيفات.
كما أن هذا الواقع يقودنا للتفريق بين إطلاق اسم الحالة المدنية على حدود المدينة الجغرافية، وقيم السكان، لأن الكثير من سكان المدن هم جغرافيا داخل إطار المدينة، لكن قيمهم وروابطهم الاجتماعية لا تزال هجينة بين الريف والمدينة.
في بغداد وحلب والموصل وغيرها، أدى نزوح كتل سكانية من الريف (في معظم الأحيان) إلى إقامة أحياء داخل المدينة، أشبه بالكانتونات، يشترك سكانها في انحدارهم العشائري أو الريفي، ويحافظون بالتالي على روابطهم وعاداتهم وقيمهم، ويشكّلون بالتالي كتلا غير منسجمة، مع سكان المدينة الأصليين. فهناك أحياء كاملة في الموصل وحمص يسكنها عشائريون يسمون «عرب المدينة» وحتى اليوم يتم النظر لهم بتمييز من قبل عائلات المدينة القديمة، وهذه الحال راسخة بشدة في حلب، بين أهل المدينة والريف، خصوصا مع المشاركة القوية للريف الحلبي، مقابل الدور الخجول للمدينة، عدا عن أحيائها الشرقية الفقيرة، ذات الانحدار الريفي أصلا.
وفي دراسة ستنشر قريبا، يخلص زميل باحث من حمص، إلى أن الطبقة المدنية التجارية في كثير من المدن السورية، قد تبدلت بنسبة تفوق 60% بعائلات أخرى، في القرن الأخير. ويمكن فهم هذا بالنظر مثلا إلى الهجرة المعاكسة من المدينة للريف في دمشق، حيث باع الكثير من العائلات الدمشقية بيوتهم وسكنوا غوطة دمشق، ولكن ماذا بقي من «غوطة» ومن «ريف»؟ في ريف الغوطة الدمشقي معظم المساحات الخضراء الزراعية أكلتها الكتل الإسمنتية، وحولت الغوطة إلى منطقة يصعب تصنيفها، إن كانت ريفا أو مدينة، حتى أن الباحث الاجتماعي حنا بطاطو، يميل لوصف سكان الغوطة أهل مدن، لأن الكثير من قراهم قد تمدن، بل إنه يمايز بينهم وبين سكان آخرين ريفيين، في المرج شرق الغوطة، الذين ما زالوا حسب بطاطو أقرب للبداوة بسلوكهم وعاداتهم، أما فلاحو حوران فيصنفهم في منزلة بين المنزلتين. إذن ليس من السهولة بمكان إطلاق التصنيفات القديمة على كل سكان الريف، أو المدينة، وحتى الريف قد ينقسم بناء على الانتماء الطائفي، ضمن الريف الواحد، وهذا ما يقوله أيضا حنا بطاطو «إذ يصف بعض الطوائف، كالدروز والعلويين، «من بين طوائف سورية الدينية الأكثر انغلاقا». ويضيف «والقاعدة هي أن المرء لا يمكنه أن ينضم إلى هذه الطوائف، بل يمكنه أن يولد فيها فحسب. ولديها جميعا حسُّ حاد بهويتها الخاصة، ويحركها شعور قوي بالمسؤولية نحو أخوتها في الدين».
وقد تزايد النقاش حول الريف والمدينة في ظل الحراك السياسي القائم، خصوصا في العراق وسوريا، حيث لعب سكان الريف أدوارا فاعلة، سواء في الثورة أو التشكيلات العسكرية، ورغم أن هذا الجانب بحاجة لتفصيل لا يتسع في هذا المقال، لكن إن كان الكثير من الانتقادات قد وجه للمناطق الريفية في سوريا، بسبب الأخطاء التي شابت نشاطهم العسكري في الثورة السورية، إلا أن المفارقة تكمن في أن الذين ينتقدونهم من سكان المدن لم يقدموا في الحقيقة أي مشروع بديل، ومن البداية لم يشاركوا بالفاعلية نفسها، لا في الحراك السلمي ولا في العمل العسكري. ويمكننا ملاحظة أن البؤر المدنية التي كانت معقلا لحراك ثوري بارز كانت، إما مدنا عشائرية مثل درعا، أو تسكن أحياءها نسبة من العشائر كحمص، أو أنها ذات أصول ريفية، كما حلب الشرقية، ولكن اللافت حقا، إنه بينما انقسمت المعارضة السورية بين توجيه اللوم للريف أو للمدينة، (في حالة استنباط إجابات مزيفة على سؤال لماذا أخفقنا)، إلا أن النظام السوري نفسه، وهو ينحدر من أصول ريفية، تعامل مع خصومه المنقسمين في المعارضة «ريفا ومدينة» ككتلة واحدة.
==========================
==========================
==========================