عن إعلان الوطنية السورية – الإعلان- الموقعين -مقالات مختارة تناولت الأعلان
==========================
———————————–
إعلان الوطنية السورية
الإعلان مفتوح للتوقيع والنقاش والتبني النظري والعملي من جميع السوريين الساعين إلى وطن سوري يستحق هذا الاسم. (التوقيع مفتوح في صفحة الإعلان الفيسبوكية)
وأنا لدي كل الأسباب النظرية والعملية، الأخلاقية والسياسية والمعرفية، لتبني مضمون هذا الإعلان وتوقيعه، بعقلي وقلبي، في الوقت نفسه.
كل الشكر لكل من فكر وأسهم في صياغة هذا البيان و/ أو يبذل جهده وفكره ووقته من أجل الدفاع النظري و/ أو العملي عن مضامينه، لنحويله إلى أساس لواقع سوري أفضل، نتمناه قريبا.
أولًا: لماذا هذا الإعلان؟
في ظلِّ تمزّق الجغرافيا الوطنيّة السوريّة، وتحوّلها إلى ساحةِ صراعٍ لجهاتٍ ودولٍ مختلفة، ومع حال الفوضى التي نعيشُها، وانقسامِ المجتمع السوري وتشظِّيه، ومع افتقادِنا إلى قوىً وطنيّة سوريّة قادرةٍ على أداء مُوحِّد للشعب السوري للعمل في ضوء رؤية وطنيّة سوريّة، يرى الموقِّعون على هذا الإعلان أهميةَ العمل على بلورة الوطنيّة السوريّة ومبادئها وأسسها، وإنضاجها تدرجيًّا لتكون أرضيةَ عملٍ لأوسعِ قطاعٍ ممكنٍ من السوريين، مثقفين وسياسيين وإعلاميين وناشطين ومواطنين سوريين من جميع أنحاء سورية.
ويأتي هذا الإعلان أيضًا، حرصًا من موقعيه على الدفع في اتجاه تحقيق أكبر قدرٍ ممكنٍ من استقلاليةِ الإرادةِ والقرارِ الوطنيّين، والحدّ من خطر احتمال تشظي القضية الوطنيّة والمسألة الديمقراطية نهائيًا، واحترامًا ووفاءً لأرواح شهدائنا وتضحياتِ شعبنا. وغنيٌ عن القول أيضًا إنه يأتي في سياق الآمال المشروعة للسوريين في تطلعهم إلى الحرية والمساواة والعدالة، بقدر تطلعهم إلى الأمن والسلام، وإلى حياة إنسانية لائقة، وتنمية إنسانية شاملة ومستدامة، ومشاركة إيجابية في إنتاج المعارف والقيم والخيرات الإنسانية.
ومع احتواء “إعلان الوطنيّة السوريّة” على مجموعةٍ من الرّؤى والمبادئ الأساسية التي نعتقد أنها يمكن أن تؤسِّس للوطنيّة السوريّة؛ فإنه يشكِّل دعوة صريحة إلى السوريين جميعهم لإعلان إيمانهم به، والتزامه، والعمل من أجله، وفي ضوئه، ثقافيًا وسياسيًا وإعلاميًا ومدنيًا وحياتيًا، لكن بقدر ما يعني الإعلان هذا الموقعين والموافقين عليه، الآن وفي المستقبل؛ فإنه يعني بالدرجة نفسها السوريين كلّهم من حيث ضرورة إشباعه نقدًا وتطويرًا ليكون، تدريجًا، أساسًا لبلورة رأي عام سوري نحن أحوج ما نكون إليه في ظل استمرار حال التوهان والضياع والآفاق الغامضة.
ثانيًا: الوطنيّة السوريّة
الوطنيّة السوريّة هي انتماء إلى وطن اسمه سوريّة، بحدوده الرسمية، بحضارته وتاريخه وحاضره؛ وعليه تُشكِّل هذه الوطنيّة، مع الزمن والتفاعل المجتمعي الحر، نسيجًا روحيًا وثقافيًا يستوعب السوريين جميعهم. الوطنيّة السوريّة هي رابطتُنا الجوهرية، وجسرُ التواصلِ بين السوريين، والمدخلُ إلى علاقاتهم ببعضهم بعضًا، وإلى ملاقاتهم الآمال والطموحات المشتركة، وهي مدخلُنا إلى المشاركة في النشاط الإنساني، وميدانُ التفاعل الحيّ مع غيرنا، والمؤثِّر في الخارج، وسبيلُنا إلى مواجهة الاستحقاقات والتحديات والأخطار التي تهدِّد مصيرنا، وإلى اغتنام الفرص التي تزيد من أهليَّتنا وتأثيرنا الإيجابي في الإقليم والعالم.
الوطنيّة السوريّة ليست نقيضًا أو بديلًا للانتماء القومي أو الديني أو الطائفي، وتنبع جوهريتُها من كونها الرابطة التي تبني الدولة، وتحقِّق المشترك بين المواطنين، وتوفِّر المظلة التي تضمن حماية التنوع الديني والمذهبي والإثني. الوطنيّة بهذا المعنى، منظومة أفكار ومبادئ وأسس وقوانين، تحرِّرنا من منطق الانتماء الجبري والانتماء الاسمي والانتماء اللغوي، ومن هنا تبرز الأهميةُ الشديدة لإحياء وإعادة بناء قيمة المواطنة، في ارتباطها العضويِّ بالوطنيّة السوريّة من جهة، وفي كونها الحلَّ الأمثلَ للحفاظ على تنوّع المجتمع السوري ثانيًا، وتعني المواطنةُ العضويةَ الكاملة في الدولة الوطنيّة، وتتجسَّد بأركانها الثلاثة المتلازمة؛ المساواة الحقوقية، والحرية الفردية، والمشاركة في الشأن العام وحياة الدولة.
ثالثًا: مبادئ وأسُس وطنية
1- الإنسان والمواطن
الإنسان هو المبدأُ الرئيسُ المؤسِّسُ للدولةِ الجديدةِ، وعليه ينبني مبدأُ المواطنة الذي يعني تساوي المواطنين في الكرامة الإنسانيّة، وأمام القانون في الحقوق والواجبات، من دون أيِّ تمييزٍ بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الإثنية أو الدِّين أو العقيدة، والمعنى العميق لها هو أنَّ “الإنسانية والمواطنة صفتان لا تقبلان التفاوت والتفاضل”؛ “فليس من فردٍ إنساني هو أكثر أو أقل إنسانية من الآخر، وليس من عضو في دولة ديمقراطية عصرية هو مواطن أكثر أو أقل من الآخر”، ومن ثمّ ليس هناك من سوريٍّ أكثرَ سوريّة أو أقلَّ من سواه.
2- الدولة الجديدة
• الدولة السوريّة؛ التزام المبادئ الفكريّة والسياسيّة والأخلاقيّة التي تتأسَّس عليها الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة الحديثة؛ فالدولةُ المستقبليّةُ ليست دولةَ فردٍ أو طغمةٍ أو طائفةٍ أو عشيرة أو حزب، بل دولةُ المواطنين السوريين جميعهم؛ فأيّ نظامٍ سياسيٍّ يستمدُّ شرعيتَه من هيمنةِ أغلبيّةٍ دينيّةٍ، أو طائفيّةٍ، أو إثنية، إنّما يقوّض الديمقراطيّة، ومن ثمّ ينتهكُ شروط المواطنة المتساوية كلّها. وتتركّز سمتُها الأساسيّةُ في طابعها العامّ المشترك، وفي بقاء مؤسّساتِها مؤسّساتٍ وطنيّة عامّة، ومحايدة إزاء الأفراد والفئات الاجتماعية المتنوِّعة، لتؤدي وظيفتها في تحقيق التوازن بين المصالح الاجتماعية المختلفة.
• الدستور السوري؛ إنتاج دستور سوريّة المقبل استنادًا إلى عقدٍ اجتماعيٍّ يشكلُ مقدمةَ الدستور، يتناول هذا العقد بوضوح؛ تعريف سوريّة، من هو السوري، الشعب السوري، الدولة السوريّة، قضية القوميات والوطنيّة السوريّة، قضية الأديان والمعتقدات والوطنيّة السوريّة، محدِّدات علاقة سوريّة بمحيطها وبالعالم. العقدُ الاجتماعي هو التعبيرُ القانونيّ والحقوقيّ عن الكلِّ الاجتماعيّ، والمعبِّرُ عن التوافق على الحدّ الأدنى المشترك بين الأطياف الاجتماعية، ما يعني انضواءها تحت سلطة الدولة الوطنيّة الحديثة المنبثقة عن هذا التوافق. دستور سوريّة المستقبل يُنتجه السوريون حصرًا، داخل بلدهم، من دون أيِّ ضغوط، عبر جمعية تأسيسية منتخبة، ويُقرّ بالاستفتاء الشعبي العام.
3- النظام الديمقراطي
نظام سورية المستقبل نظامٌ ديمقراطيٌّ، وله مجموعةٌ متكاملةٌ من الأركان؛ مبدأ الحياة الدستورية، التعدّدية والنظام البرلماني، مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث، مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء، حقُّ المشاركة في الشؤون العامة، الشَّعب مصدرُ الشرعيّة والسلطات جميعها، احترامُ حقوق الإنسان في ضوء الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، حريّة التفكير والتعبير، حقّ التنظيم، حريّة الصحافة والنشر، عدم الاستئثار بالسلطة وتركيزها في مركزٍ واحدٍ، أي اللامركزية في الإدارة، وتوسيع دائرة اتخاذ القرار في المستويات كافة، وتنظيم الحياةِ السياسيّة عبر قانونٍ ديمقراطيٍّ للأحزاب، وتنظيم الإعلام والانتخابات البرلمانيّة وفق قوانين توفر الحريّة والشفافية والعدالة والفرص المتساوية.
4- الحريّات والسِّلم الأهليّ
• بيئة حرّة للتنوّع؛ سوريّة المستقبل وطنٌ تُتاح فيه الحريّةُ لجميع القوميات والأديان والمعتقدات والمذاهب والأيديولوجيّات والأحزاب في التعبير عن نفسها والفعل والتأثير، لكن مع استمرار دولتهم السياسيّة في التعبير عن الكلِّ الاجتماعيِّ. لذا ينبغي رفض كلّ رسائل التطمين المبتذلة الموجَّهة إلى أيّ طائفةٍ أو قومية؛ لأنَّها تعبِّر في العمق عن منطلقٍ طائفيٍّ أو إثني في النظر إلى السوريين لا عن منطلقٍ وطنيٍّ، وأيضًا رفض انتظار بعض السوريين للرسائل المطمئِنة؛ لأنَّها تعني أنَّهم ينظرون إلى أنفسهم أنَّهم مواطنون هامشيّون. ليس لأحدٍ أن يُطمئن أحدًا، وليس لجماعةٍ أن تُطمئن غيرها، فالجميعُ أصحابُ البيت، ومتساوون في الحقوق والواجبات.
• حُرمَةِ الدِّماءِ والممتلكاتِ؛ ينبغي التأكيدُ، اليوم وغدًا، على حُرمَةِ الدِّماءِ والممتلكاتِ الوطنيّة العامَّةِ والخاصَّة خارج إطار الدّفاع المباشر عن النفس، ونبذُ العُنفِ بصورهِ وأشكالِه كلها، وإدانتُه الصَّريحةُ القاطعةُ، وتجريمُه وطنيًّا، وإدانةُ التحريضِ على العُنفِ، أو تسويغِه أو تبريرِه، أو التَّرويجِ له، أو الدِّفاعِ عنه، وإدانة الإرهاب بأشكاله ووجوهه ومصادره كافة، والتّأكيد على التزام الوسائلِ السياسيّةِ السِّلميَّةِ في العمَلِ الوطنيِّ العامِّ، وحمايةُ النَّسيجِ الوطنِيِّ من الفتنِ الطائفيّةِ المصنَّعةِ والحقيقيَّةِ، ومن الدَّعواتِ العُنصُريَّةِ، ومن كُلِّ ما يُهدِّدُ سلامةَ الوطنِ، وتضامُنَ أبنائِه، ووحدةَ تُرابِه.
• العدالة الانتقالية؛ تنبني الدولة السوريّة على فكرة العدالة، وأساسُها سيادة القانون، ولها بناءٌ قانونيّ لا يستثني أحدًا من المحاسبة بصرف النظر عن موقعه الوظيفيِّ أو طبيعة المؤسَّسة التي يعمل فيها. وتقتضي العدالة وجود هيئةٍ وطنيّة للعدالة الانتقاليّة والمصالحة وردِّ المظالم من أجل المحاسبة، والكشف عن المفقودين، والتعويض على المعتقلين وضحايا العنف.
5- الثقافة الوطنيّة والوعي الوطنيّ
تُبنى الثقافة الوطنيّة، وتتبلور تدريجًا، عبر التفاعل المجتمعي، في مُناخٍ من الحريات والديمقراطيّة واحترام التنوّع والاختلاف بوصفه مصدر غنىً وطنيّ، ومن خلال برامجَ وطنيّة عامة تركّز على المشترك الثقافيّ كما على حقيقة الاختلاف بوصفه منبعًا للإبداع والتجديد؛ فتاريخ سوريّة وثقافتها هو تاريخُ وثقافة كلِّ التنوُّع الثقافيّ والسياسيّ والدينيّ والاجتماعيّ فيها، وليس تاريخَ إثنية بعينها أو دينٍ أو مذهبٍ دون سواه.
6- حقوق القوميات والجماعات الإثنيّة
ضمانُ حريّة القوميات والجماعات الإثنيّة، وحقوقها السياسية والثقافيّة والاجتماعيّة في العقد الاجتماعي الجديد، وإيجادُ حلٍّ ديمقراطيٍّ عادلٍ للقضيّة الكرديّة في إطار وحدة سوريّة أرضًا وشعبًا، بما يضمن المساواة الكاملة للمواطنين السوريّين الكرد مع بقية المواطنين السوريين، وإرساء قواعد حوار حقيقي لمناقشة الحلول الديمقراطية والممكنة جميعها التي من شأنها تحقيق مزيدٍ من الحريات، ومزيدٍ من تماسك النسيج الوطني والدولة الوطنيّة.
7- حرية المرأة وحقوقها
إطلاقُ إستراتيجية وطنيّة للنهوض بالمرأة، على مستوى الدولة والمجتمع معًا، والعمل على تمتّعها بالمساواة التامة مع الرجل في الحقوق كافة، وتوفير المُناخ الملائم لتوسيع مشاركتها في الحياة السياسيّة، وفي التنمية الشاملة، وغرس قيم الشراكة الحقيقيّة، والوقوف ضدَّ المعوقاتِ كلّها التي تحول دون ذلك بوصفها تتعارضُ مع قيم المواطنة المتساوية.
8- الجيش السوريّ والأجهزة الأمنية
بناء الجيش السوريّ على أسسٍ وطنيّة احترافية ومهنيَّة، وتُحدَّد مهماته بحماية الوطن، وصون وحدته، وحراسة ثرواته، والحفاظ على تراثه وحضارته ونظامه الديمقراطيّ، ويُبعد عن النزاعات السياسيّة والولاءات الحزبيّة والمناطقيّة والعشائريّة والمذهبيّة، أو أيّ صراعاتٍ أخرى أو ولاءاتٍ ضيِّقةٍ تخرجُه عن دوره الوطنيّ. وبناءُ أجهزة الأمن على أسسٍ تجعل منها سدًّا منيعًا تجاه الاختراقات الخارجية، وحارسًا أمينًا لمصالح المواطنين، تصونُ دماءهم وأعراضهم وأموالهم وتحمي حرياتِهم، وتكون محددّةَ المرجعيّات والمسؤوليّات، وخاضعةً للمساءلة القانونيّة على المستويين الشخصيّ والاعتباريّ، ويخضع عملُها للمراقبة الشَّعبيّة. ويلتقي مع هذه الرؤية عدم انخراط أفراد الجيش والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية في العمل السياسي والحزبي طوال مدة وجودهم في الخدمة.
9- النظام الاقتصادي الجديد
بناءُ نظامٍ اقتصاديٍّ حديثٍ يرتكز على التوازن بين الحريّة الاقتصادية، والحفاظ على دور رقابي وإشرافي للدولة في الحياة الاقتصاديّة عمومًا، بما يضمن وجود شبكة ضمان اجتماعي، فضلًا عن دورها الأساسي في القطّاعات الاستراتيجية، لكن بعيدًا من نمط الدولة المركزية التي تتحكم في مناحي الحياة كلها.
وخلقُ سياساتٍ اجتماعيّةٍ واقتصاديةٍ تضمن التطوير المتوازن والمتكامل بين مختلف المناطق السوريّة، مع الأخذ في الحسبان مسألة الارتقاء بالمناطق التي تعرّضت إلى الإهمال والتهميش في الماضي، وتحقيقُ التنمية المستدامة بأبعادها كافة، البشرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والبيئية، بما يؤمِّن المواطنين ضدَّ الفقر ويحسِّن أوضاعهم المعيشية، ويضمنُ توزيعًا عادلًا للدخل القوميِّ، وفرصًا متساوية أمام الجميع، ويُتيح شغلَ الوظائف استنادًا إلى مبدأ الكفاءات لا الولاءات، ومحاربةُ ظواهر النهب والفساد والإفساد، ودخولُ سوريّة إلى المجتمع العالميّ من بوابة العلم والإنتاج والمعرفة.
10- السياسة الخارجيّة السوريّة
تلتزمُ السياسة الخارجيّة لسوريّة الجديدة مبادئَ وأهدافَ الشَّعب السوريّ والمصلحة الوطنيّة السوريّة، وفي مقدّمها الحفاظُ على استقلال وسيادة سوريّة ووحدتها، وحمايةُ أمنها واستقرارها وسلامة أراضيها، وخدمةُ المصالح الاقتصاديّة الوطنيّة، ودعمُ وتعزيزُ استراتيجيّات التنمية الداخلية الشاملة. سوريّة الجديدة دولةٌ تقوم على كامل أراضيها، ولا تتخلى عن أيِّ جزءٍ محتلٍّ منها، وتستخدمُ الوسائل المتاحة، والمشروعة دوليًا، لتحرير أراضيها؛ دولةٌ تبني علاقاتها بمحيطها، العربيّ والإقليمي، على أساسٍ تكامليٍّ يحقِّق المصالح المشتركة؛ دولةٌ تؤسِّس علاقاتِها الدوليّة على مبدأ النديّة والاحترام المتبادل، وعلى احترام المواثيق والعهود الدوليّة، وتلتزمُ الاتفاقيّات والعقود السابقة للحكومات السوريّة المتعاقبة التي لا تخلُّ بسيادتها، ولا تضرُّ بمصالح شعبِها.
رابعًا: محدِّدات وطنيّة أولية: قوى الواقع الراهن وقوى المستقبل
نشير أولًا إلى أن تعبير “القوى” تعبيرٌ واسعٌ، يمكن أن يعني القوى السياسية أو القوى العسكرية أو النخب والشخصيات الثقافية والسياسية، أي القوى الحاضرة في المشهد السوري، بصرف النظر عن تقديرنا لأوزانها الفاعلة، ونشير أيضًا إلى ضرورة تحويل المعاني الأخلاقية في هذا النص إلى قوانين واضحة مع كل خطوة نسيرها باتجاه سوريّة الجديدة.
1- نظام الحكم الحالي
نظام الحكم الحالي نظامٌ استبداديٌّ، يرتكز على منطقِ الغلبة والقهر والفئوية والتمييز الطائفي والقومي، تغلغل فسادُه في مناحي الحياة كلها، والتهمَت سلطتُه الدولةَ السوريّة، وجيَّرت وظائفَها وأدوارَها في خدمتِها، وألغت سائرَ أشكالِ التّضامن الاجتماعيِّ، وحوّلت المجتمعَ السوريَّ إلى سديمٍ بشريٍّ مفكّكٍ، وقد اعتمد آليات عديدة في التعاطي مع السوريّين، ترتكز على الترهيب والقتل والقمع والاعتقال والإفساد، وأحيانًا الترغيب؛ وهو اليوم، بعد سنواتٍ تسعٍ من ثورة الشعب من أجل التغيير، الثورة التي له النصيبُ الأكبرُ في تحويلها إلى محنة وطنيّة تكاد تشمل السوريين كلهم، لا يمتلكُ القدرةَ والإرادةَ اللازمتين لحلٍّ سياسيٍّ يحقِّق مصلحةَ البلد والشَّعب؛ نظامٌ لا يَصلُح ولا يُصلَح ولا يُصلِح. وإذ ذاك، فإنه لا أفقَ لسوريّة ولأكثرية السوريين إلّا برحيله؛ فرحيله خطوةٌ أولى في اتجاه تحقيق السِّلم الأهليِّ والمصالحة الوطنيّة، وفي بقائه استمرارٌ للشروخ الهائلة التي خلقها داخل المجتمع السوري، وتحريضٌ على نموِّ مشاعر الحقد والانتقام بين السوريّين.
هدفُنا هو التّغيير البنيويُّ الشاملُ الذي لا يعني رحيلَ النظام فحسب، بل يعني أيضًا تفكيكَ بنيةِ الدولة الشموليّة، وإعادةَ بنائها عبر تأسيس عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ أساسُه المواطنُ السوريُّ، وهذا يستلزمُ مشاركةَ المواطنين السوريين جميعهم، باستثناء أولئك الذين اندرجوا في آليات القتل والفساد، أكانوا في صفوف النظام أم المعارضة الحالية بأطيافها كافة.
2- القوى الراهنة
تنوّعُ القوى السياسية من حيث معتقداتها وأهدافها وبرامجها أمرٌ طبيعيٌّ، شريطة ألا يتعارض وجودُها مع الدستور السوري مستقبلًا، ومع سوريّة الوطن والشعب؛ سوريّة الخالية من الاستبداد بأشكاله كلها، ومن الاحتلالات جميعها، ومن التطرف بأنماطه كافة، القومية والدينية والمذهبية. لكن القوى الراهنة معظمها، قد أخلَّت بالأساسيات هذه، واندرجت في مشروعاتٍ لا تتوافق مع المصلحة الوطنيّة السوريّة، ولم تنجحْ في إنجاز برنامج عملٍ يحملُ مشروعًا وطنيًّا يُجسِّدُ تطلعاتِ الشعب السوري للانعتاق من حال الضياع والشلل؛ مشروعًا وطنيًّا فوق الأيديولوجيات والعقائد والأحزاب والمصالح الفئوية، بهدف إنهاء الاستبداد وإحلالِ الديمقراطية وتحريرِ البلاد من القوى الدخيلة أو التي لا تعترفُ بالكيان الوطني السوري وسيادةِ الشعب السوري المطلقة عليه، وفشلت في تأليف قيادةٍ وطنيّة حقيقيةٍ، وذات كفاءةٍ، تحملُ المشروع الوطني، وتحصلُ على الشرعية الحقيقية واللازمة لأداءِ دورها.
3- حيازة واستخدام السلاح
ينبغي أن تنظرَ القوى العسكرية السوريّة كلّها، الموجودة حاليًا، إلى نفسها أنها قوى مؤقّتة، وأن سلاحَها غيرُ شرعي، وأن تلتزمَ حلَّ نفسِها مستقبلًا أو تتعهد تسليمَ سلاحِها إلى الدولة السوريّة الجديدة التي هي وحدها صاحبةُ الحقِّ بحيازة السلاح واستخدامه، أو الاندماجَ في الجيش السوري بصورة فردية. ويتصلُ بذلك، في اللحظة الراهنة، ضرورةُ إدانةِ كلِّ قوةٍ سياسيةٍ أو عسكريةٍ تسعى لفرضِ وجودها أو أيديولوجيتها أو معتقدها بقوة السلاح، مثلما ينبغي رفضُ أيِّ تغييرٍ ديموغرافيٍّ في أي بقعة من سوريّة وإبطالُه، والإقرارُ بحقِّ كلِّ سوريٍّ في العودة إلى وطنه وبيته في أيٍّ وقتٍ، فكلُّ ما يُفرض بقوة السلاح مرفوضٌ ومدانٌ، وينبغي تجريمُ السلوكاتِ هذه كلِّها قانونيًا في سوريّة الجديدة.
4- العلاقات بين القوى وتحالفاتها
كلُّ حوارٍ أو تحالفٍ سياسيٍّ بين القوى السياسية السوريّة مرحبٌ به، شريطة ألا يكونَ موجهًا ضد سوريّة، أو ضدّ إحدى الفئات الاجتماعية السوريّة، أو يخدمُ تدخلَ دولةٍ أو جهةٍ خارجية ما في الشأن السوري. وتنبغي إدانةُ أي بيانٍ أو تصريحٍ أو خطابٍ سياسي أو إعلامي يرتكزُ على التحشيد والتجييش والإقصاء ضدّ أي فئة سوريّة على أساس إثني أو ديني أو ثقافي أو مهني أو جنسي.
ينبغي للقوى السياسية إرساءُ تقاليد سياسية حديثة في التعامل فيما بينها أو في بناء تحالفاتِها السياسية أو مخاطبتها لبعضها بعضًا، واعتمادُ الحوار سبيلًا لحلِّ المشكلاتِ في ما بينها، ورفضُ لغة التخوين وخطاب الكراهية، والتزامُ الصدقيّة في تحالفاتها، بعيدًا من البراغماتية العوراء والمصالح الضيقة، الفردية والفئوية، ومناقشةُ جميع المسائل السياسية الخلافيّة في ضوء الوطنيّة السوريّة، لا ضدها أو بالتخارج معها. ولا بدّ من الارتقاء بالحوار السياسي السوري إلى الحوار حول المفهومات والتفاصيل، بدلًا من التخندق وراء الشعارات والأهداف الكلية والكلمات العامة؛ فأنماط الحكم الديمقراطي، مثلًا، عديدة ومتنوعة، ولا يمكن الوقوف معها أو ضدّها على طول الخط، بحكم وجود أشكالٍ ودرجاتٍ وأنماطٍ عديدةٍ منها، ما يفرضُ ضرورةَ مناقشةِ كلٍّ منها تفصيلًا، واختيار أو رفض أيٍّ منها استنادًا إلى معايير رئيسة؛ وحدة الأرض والشعب، المصالح الوطنيّة السوريّة، موافقة المؤسسات التمثيلية والشرعية.
5- علاقة القوى بالخارج
في سوريّة الجديدة، ينبغي تأسيسُ ديناميّةٍ جديدةٍ تجعل الارتهانَ للخارج أمرًا ممجوجًا ومدانًا، ويجبُ أن تنصّ قوانينُها على رفضِ أي قوةٍ تجعلُ من نفسها فرعًا تنظيميًا صريحًا لقوةٍ غير سوريّة، أو تجعلُ من نفسها مركزًا تنظيميًا صريحًا لفروع غير سوريّة، وتجريمِ كلِّ قوةٍ تستعينُ بأيِّ قوةٍ خارج سوريّة، أكان هذا استنادًا إلى التماثل الأيديولوجي أو القومي أو الديني، وتجريمِ كلِّ قوةٍ سوريّةٍ تحاولُ التدخّل في صراعاتٍ غير سوريّة بإرسال أعضائها أو جنودها إلى أيِّ مكان خارج سوريّة.
من حقِّ القوى السياسية أن تعقدَ اتفاقاتٍ سياسيةً أو ثقافية أو تدريبية في سياق تبادل الخبرات مع قوى غير سوريّة تشاركُها الرأي، لكن لا يحقُّ لأيِّ قوةٍ سياسية (أو عسكرية) أن تعقدَ أيَّ اتفاقاتٍ، سرية أو علنية، مع الدول أو أي جهاتٍ خارجية تتعلق بالمصالح الوطنيّة السوريّة والممتلكات الوطنيّة؛ فهذا العمل من حقِّ القوى المنتخبة أو القوى التي تمثِّل الحكومةَ الشرعية الجديدة والمؤلفة استنادًا إلى توافقات الحلِّ السياسي والقواعد الديمقراطية حصرًا.
6- القوى الراهنة والثروة الوطنيّة
القوى السياسية والعسكرية الحالية هي قوى تخصّ أعضاءها فحسب، وهي ليست قوىً تمثيلية منتخبة أو قوىً حكومية معترفًا بها؛ لذلك أيُّ محاولةٍ من أيِّ قوةٍ منها لفرض أمرٍ واقع في سوريّة أو تحوّلها إلى قوة أمرٍ واقعٍ تتصرف بالثروة السوريّة والأرض السوريّة كيفما تشاء، أو وضع اليد عليها أو اقتسامها أو عقد اتفاقات خارجية بشأنها، هي سلوكاتٌ مرفوضةٌ جملةً وتفصيلًا، وينبغي تجريمُها قانونيًا؛ فالثرواتُ السوريّة في الجغرافيا السوريّة كاملة ثرواتٌ وطنيّةٌ عامة، والتصرفُ بها من حقِّ القوى المنتخبة أو القوى التي تمثِّل الحكومة الشرعية الجديدة والمؤلفة استنادًا إلى توافقات الحل السياسي والقواعد الديمقراطية حصرًا.
7- قوى المستقبل
السوريون مطالبون بإنتاج قوىً سياسيةٍ وطنيّة جديدة، تتجاوزُ القوى الحالية، سياسيًا وبرامجيًا وخطابًا وأداءً، تلك التي فشلت في تقديم خطابٍ وطنيٍّ عموميٍّ للسوريين، وخطابٍ إلى العالم، وأسهمت في تقديم السوريين إلى العالم على هيئة طوائف وقوميات وميليشيات تابعة لدول أخرى، بدلًا من تقديم أنفسهم بوصفهم سوريين أولًا وقبل كلِّ شيء، وهذا يتطلبُ وضعَ خطٍّ فاصلٍ وواضحٍ، يُقيم الحدَّ على المرحلة الماضية، للانطلاق نحو الإسهام في بناء مجالٍ عموميٍّ سوريٍّ يعزلُ أطرافَ الصراع الحالية، ويقطعُ معها، تدريجًا، تلك التي ركبت على الانقسامات العمودية في المجتمع السوري، وتماهت مع التدخلات الإقليمية والدولية التي استثمرت في الانقسامات هذه، وفي الأطراف نفسها.
خامسًا: كلمة أخيرة
لا يسعى هذا الإعلان ليكون نهايةَ المطاف أو قولًا فصلًا، أو ليكون صيغةً مكتملةً ونهائيةً؛ إنه صيغةٌ متجدِّدةٌ، ومنفتحةٌ على التطور، بقدر تقدّم الحوار بين السوريين، ونضجِ التجربة الواقعية، وتطورِ الأوضاع في المستويات كافة، ما يجعله موضوعَ حوارٍ دائمٍ، بهدف تعميقِ وإنضاجِ رؤاه وتوجهاته، وبما يؤدي إلى تحوّله، تدريجًا، إلى مشروعِ تغييرٍ وطنيٍّ ديمقراطيٍّ سوريٍّ يحظى بأوسع مشاركة سوريّة ممكنة.
نؤكِّد، أخيرًا، على أن توقيعَ هذا الإعلان من جانب أيِّ فردٍ سوريٍّ، أو قوةٍ سوريّة، هو مسؤوليةٌ كبيرةٌ، ونهيبُ بالسوريين ألّا يستسهلوا توقيعَه من دون أن يشعروا أنه يُعبِّر، بقدرٍ ما، عن أرواحهم ورؤاهم وآمالهم ومصالحهم، خصوصًا أن بعضنا استسهل الأمر ووقّع، خلال السنوات الماضية، بياناتٍ متناقضةً في الآن نفسه؛ فالتوقيعُ مسؤوليةٌ وطنيّة وحقوقيّة كبيرةٌ، تمامًا مثل الكلمة والموقف والأداء.
إعلان الوطنيّة السوريّة
الموقعون على الإعلان حتى تاريخ حزيران/ يونيو 2020، الساعة 5 مساء بتوقيت دمشق صباحًا بتوقيت دمشق
1. ابتسام الصمادي (كاتبة ومشرعة سابقة)
2. الأخوان ملص (مسرحيان)
3. انتصار زيني (مواطنة سورية)
4. إبراهيم خليل يوسف (مهندس)
5. إبراهيم شاهين (محام)
6. إبراهيم كوريش (رئيس مجلس عفرين المدني)
7. إبراهيم ملكي (محام وحقوق إنسان)
8. إقبال محمود (مواطنة سورية)
9. إياد الخضر (مواطن سوري)
10. إياد ددم (مخرج)
11. إياد شربجي (صحافي)
12. إيمان الصادق (صيدلانية)
13. إيناس الحرفوش (مدرسة)
14. إيهاب غسان سعيد (مخرج سينمائي وتلفزيوني)
15. أبي سكّر (منتج ومخرج صوتي)
16. أحمد الأحمد (خبير لايتكلتور اندماج إسلام معاصر وشؤون اللاجئين في المانيا)
17. أحمد الصالح (موسيقي)
18. أحمد العبدي (مواطن مستقل)
19. أحمد المستو (عامل)
20. أحمد إبراهيم رفاعي (مدرس)
21. أحمد أبو حسان (طالب جامعي)
22. أحمد أراجة (فنان تشكيلي)
23. أحمد جاسم الحسين (أستاذ جامعي وكاتب)
24. أحمد خطيب (طبيب جراح)
25. أحمد رحال (عميد منشق)
26. أحمد سعد الدين (باحث اقتصادي)
27. أحمد سليمان (كاتب)
28. أحمد صبحي (عضو مجلس محلي)
29. أحمد صلال (صحافي وكاتب وناقد سوري)
30. أحمد طاهر (ناشط سياسي وحقوق إنسان)
31. أحمد طلب الناصر (صحافي)
32. أحمد طه (ناشط مدني)
33. أحمد عبد العال (طالب جامعي)
34. أحمد عبد المنعم الأحمد (طالب هندسة ميكانيك المانيا)
35. أحمد عبدالرزاق الأحمد (صحافي)
36. أحمد غازي (طبيب)
37. أحمد كلاس (ناشط)
38. أحمد كلش (ناشط مدني)
39. أحمد كمال (مهندس معماري)
40. أحمد مارديني (مواطن سوري)
41. أحمد مظهر سعدو (كاتب وصحافي)
42. أحمد منصور (إعلامي)
43. أحمد نظير الأتاسي (أستاذ جامعي)
44. أحمد يوسف (باحث في الفلسفة الإسلامية)
45. أدهم باشو (سياسي مستقل)
46. أروى غندور (ألمانيا)
47. أسامة العمر (ناشط سياسيكتلة العمل الوطني)
48. أسامة آغي (إعلامي)
49. أسامة باكير (طبيب)
50. أسامة سعد الدين (إعلامي)
51. أسامة عاشور (ناشط مدني وسياسي)
52. أسامة محفوض (طالب عمارة)
53. أسامة هنيدي (كاتب)
54. أسد خياط (ناشط سياسي وكاتب)
55. أسعد عبد القادر عنتر (ناشط مدني وحقوقي)
56. أسعد عبد الكريم الأسعد (ناشط)
57. أسوان نهار (ناشطة)
58. أكرم القطيفان (مهندس وناشط)
59. أكرم أبو حمدان (مواطن سوري)
60. أكرم حسين (سياسي كردي مستقل)
61. أكرم عبود (مهندس)
62. أكرم عطوة (فلسطيني سوري، مهندس زراعي)
63. أمجد ٱل فخري (كاتب)
64. أمجد ساري (ناشط إعلامي)
65. أمل حويجة (مواطنة سورية)
66. أمل رشيد (معلمة)
67. أمل نصر (باحثة اقتصادية)
68. أمين داؤد (فنان موسيقي)
69. أمين سرحان (مواطن سوري)
70. أنس رقوقي (مواطن سوري)
71. أنطوان الحداد (سياسي)
72. أنور الحريري (مواطن سوري)
73. أيمن أبو جبل (صحافي، الجولان المحتل)
74. أيمن أبو هاشم (منسق عام تجمع مصير)
75. أيمن أحمد (مدني سوري)
76. أيمن مراد (ناشط)
77. أيوب أحمد آغا (سياسي وإعلامي مستقل)
78. آلاء عوض (صحافية)
79. آلان خضركي (مصرفي)
80. آمال أبو صعب (مواطنة سورية)
81. باسل الكركي (مواطن سوري)
82. بانكين جان (صيدلاني)
83. بدرالدين عرودكي (كاتب ومترجم)
84. براء الحاج علي (طالب جامعي)
85. براء السالم (مدرس)
86. براء الشيخ ويس (مغترب سوري)
87. براء صليبي (إعلامية)
88. بسام اشتي (مهندس)
89. بسام الشيخ (ناشط مستقل)
90. بسام ديوب (مهتم بالشأن العام)
91. بسام قطيفان (فنان سوري)
92. بسام محمد شلبي (كاتب وقاص)
93. بسام يوسف (كاتب)
94. بشار الرفاعي (طبيب بيطري)
95. بشار فستق (مخرج مسرحي)
96. بلال الخربوطلي (ناشط)
97. بهزاد عليكو (ناشط سياسي)
98. بيان الأطرش (ناشط سياسي)
99. تامر جبور (ناشط)
100. تمام نصر (مواطن سوري)
101. توفيق حلاق (مذيع وإعلامي سوري)
102. توفيق طه السليم (معلم)
103. تيسير الرداوي (أستاذ جامعي)
104. تيسير صياغة (مواطن سوري)
105. تيسير فارس (ناشط حقوقي)
106. تيماء قاسم (ناشطة حقوقية)
107. ثائر حداد (مهندس)
108. ثائر موسى (مخرج سينمائي وتلفزيوني)
109. جاد الكريم الجباعي (مفكر سوري)
110. جبر الشوفي (سياسي)
111. جمال الشوفي (كاتب وباحث)
112. جمال المسالمة (مهندس)
113. جمال سعيد (كاتب)
114. جمال سليمان (ممثل ومخرج)
115. جمال يانس (فلسطيني سوري، مهندس زراعي وناشط سياسي)
116. جمال يوسف (مواطن سوري)
117. جمانة سيف (محامية)
118. جمعة الدبيس العنزي (قاضٍ)
119. جميان جميان (مدرس فيزياء وكيمياء)
120. جنان الحسن الصالح (معلمة وكاتبة)
121. جهاد عبيد (مواطن سوري)
122. جوان علي (حقوقي)
123. جيمي شاهينيان (ناشط مدني)
124. حازم الحموي (سينمائي وتشكيلي)
125. حازم نهار (كاتب وباحث)
126. حافظ قرقوط (إعلامي وكاتب)
127. حسام الدين درويش (كاتب وباحث أكاديمي)
128. حسام الشامي (ناشط)
129. حسام اليوسف (مواطن سوري)
130. حسام حلوم (حقوقي)
131. حسام عتال (طبيب)
132. حسان الخطيب (دكتوراه هندسة زراعية)
133. حسان الصالح (إعلامي سوري)
134. حسان المالح (ناشط إغاثي، مونتريال)
135. حسان إدريس (ضابط متقاعد)
136. حسان عزت (شاعر وصحافي)
137. حسن الحاج إبراهيم (ناشط سياسي)
138. حسن شندي (سياسي كردي ناطق باسم مؤتمر إنقاذ عفرين)
139. حسين الحاج علي (طبيب)
140. حسين الشيخ (شاعر وصحافي)
141. حسين أبو مصطفى (مدرس متقاعد)
142. حسين بهاء الدين (ناشط)
143. حسين خلف (مهندس وكاتب)
144. حسين قاسم (مهندس وسياسي كردي مستقل)
145. حسين محمود (ناشط سياسي)
146. حسين مصطفى (ناشط سياسي)
147. حكمت أبو حسون (مدرس فيزياء وكيمياء)
148. حكمت شيخ سليمان (مهندس مدني)
149. حنان البلخي (سياسية وحقوقية)
150. حنين السيد (إعلامية)
151. حنين صبرة (مواطن سوري)
152. حيان جابر (صحافي)
153. خالد البيطار (أكاديمي وباحث في العلوم السياسية)
154. خالد امقيدح (مهندس)
155. خالد أمين (مهندس زراعي)
156. خالد صطوف (مهندس، ناشط سياسي وحقوق إنسان)
157. خالد قنوت (مهندس)
158. خالد محمد المسطو (ناشط وكاتب سياسي)
159. خضر الأغا (شاعر وكاتب)
160. خضر الشويخ (ناشط سياسي مستقل)
161. خلدون شيخ الحدادين (مهندس)
162. خلدون قيسية (مهندس)
163. خلود الزغير (شاعرة وباحثة)
164. خليل حسين (سياسي)
165. خورشيد خليل (ناشط سياسي)
166. دارا ئستري (فنان كاريكاتير)
167. دارم جبر (ناشط)
168. دانيال مراد (مغترب)
169. دريد جبور (طبيب)
170. ديب قات (مستقل)
171. ذهبية الجبر (محامية)
172. راتب شعبو (كاتب سوري)
173. راغدة حريري (ناشطة)
174. رافي وهبي (ممثل وكاتب ومخرج)
175. راما العامر (عالمة آثار، إعلامية)
176. رامي الزعيم (صف ضابط منشق)
177. رامي أدهم (ناشط إنساني ورئيس الرابطة السورية الفنلندية)
178. رائد دهموش المشهور (مهندس)
179. رأفت الزاقوت (مواطن سوري)
180. رأفت السقال (مواطن سوري)
181. رباح الصالح (ناشطة سياسية وحقوقية)
182. ربى الشوفي (ناشطة مجتمع مدني)
183. ربيع الأخرس (نحات)
184. ردينه الخطيب (مرشدة اجتماعية)
185. رشا رزق (فنانة)
186. رشيد الحاج صالح (أكاديمي)
187. رشيد الناصر (مهندس، ناشط سياسي)
188. رضوان أبو فخر (ناشط سياسي)
189. رفعت عامر (أستاذ جامعي)
190. رفيق قوشحة (كاتب وصحافي)
191. رمزي الحسين (مواطن سوري)
192. رمزي شقير (ممثل ومخرج)
193. رنا بركات (نقد مسرحي)
194. رند المصطفى (طالب جامعي)
195. رواد الداحول (مواطن سوري)
196. رواد إبراهيم (صحافي وكاتب)
197. رياض الشعار (فنان تشكيلي)
198. رياض عبد الله صفيف (ناشط سياسي)
199. ريم الحاج (علوم اجتماعية وسياسية)
200. ريم حلو (مواطنة سورية)
201. ريمون معلولي (أستاذ جامعي)
202. رئيفة المصري (مواطنة سورية)
203. زانا خليل (صحافي وإعلامي)
204. زاهر الدالي (سوري)
205. زردشت محمد (محام، سياسي كردي)
206. زكريا دادو (ناشط سياسي)
207. زكوان البعاج (دكتور في إعادة تنظيم المدن)
208. زهير شاكر حمود (مهندس)
209. زياد الدادا (مهندس إلكتروني وبرمجيات، متقاعد)
210. زياد القاموع (طالب جامعي)
211. زياد أبو صالح (مهندس)
212. زياد حرب (موسيقي)
213. زياد طارق حلبي (دكتور مهندس)
214. زياد عامر (محاسب قانوني)
215. زيد القنطار (سياسي)
216. سارة العظمة (كاتبة وناشطة حقوقية)
217. سامح خلف (ناشر ومترجم)
218. سامر الأحمد (صحافي)
219. سامر كعكرلي (مهندس زراعي)
220. سامر محفوض (طالب جامعي)
221. سامي الدريد (مدرس وناشط)
222. سامي الساري (مواطن سوري)
223. سامي خويص (مسرحي)
224. سامي زين الدين (ناشط)
225. سامية لاوند (إعلامية)
226. سعاد خبية (صحافية وناشطة سياسية)
227. سعد فنصة (كاتب ومصور)
228. سلاف علوش (نقد أدبي)
229. سلام مارديني (مواطنة سورية)
230. سلامة درويش (سياسي وطبيب أسنان)
231. سلطان الرحمون (ناشط، مدرس جامعي سابق)
232. سلوى أحمد إسماعيل (دكتورة)
233. سليم بشارة (طبيب، هولندا)
234. سليم صقر (فنان تشكيلي)
235. سليم قباني (إعلامي)
236. سليمان الكفيري (مواطن سوري)
237. سليمان أبو ياسين (ناشط)
238. سليمان أسعد (مواطن سوري)
239. سمر كوكش (ممثلة)
240. سميح العوام (فنان وناشر)
241. سميح شقير (فنان سوري)
242. سمير البكفاني (مهندس)
243. سمير سليمان (مهندس مدني)
244. سمير عليوي (حقوقي واستشاري إدارة عامة)
245. سناء حويجة (ناشطة سياسية)
246. سها القصير (مستقلة)
247. سها قواص (مقيمة في كندا)
248. سهير فوزات (ناشطة)
249. سهيل ذيبان (فنان تشكيلي)
250. سهيل شماع (مواطن سوري)
251. سهيل نفاع (ناشط مدني)
252. سومر الحمادة (مهندس وأستاذ جامعي)
253. سيبان سيدا (ناشط سياسي)
254. سيف الدين الأتاسي (مهندس زراعي)
255. شادي القطيفان (طبيب)
256. شافع شقير (ناشط مستقل)
257. شاكر حسون (ناشط سياسي)
258. شاهر الصفدي (مواطن سوري)
259. شاهر شقفة (مواطن سوري)
260. شريف قطريب (رسام كاريكاتير)
261. شفيع بدر الدين (موسيقي)
262. شفيق صنوفي (مهندس)
263. صالح سلطان (مدير مركز لاهاي للتنوع الثقافي، هولندا)
264. صالح مبارك (دكتور مهندس وأستاذ جامعي)
265. صايل ناصيف (ناشط سياسي)
266. صباح دراق السباعي (ناشطة مجتمع مدني)
267. صباح صبره (مهندسة)
268. صخر المحمد (صحافي)
269. صفاء عليان (إعلامية)
270. صلاح بدر الدين (سياسي وكاتب)
271. صلاح صالح (أستاذ جامعي)
272. صلاح عياش (سياسي، درعا)
273. صهيب الآغا (مهندس وناشط مدني)
274. ضاهر عيطة (مخرج وكاتب مسرحي)
275. ضحى الشيخ حسن (تنمية دولية)
276. طارق حمدان (طبيب ومدافع عن حقوق الإنسان)
277. طارق عزيزة (كاتب وباحث)
278. طارق غريبي (محام وناشط سياسي وحقوقي، الولايات المتحدة)
279. طلال المصطفى (أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق)
280. طلال خيشي (صحافي)
281. طلحت وهبة (مواطن سوري)
282. طه الزعبي (مهندس ديكور)
283. طه عبد الواحد (صحافي)
284. طه عطوان الرحبي (صحافي)
285. عادل درويش (سياسي وحقوق إنسان)
286. عادل موسى (صحافي)
287. عارف حمزة (كاتب وناشط سوري ألمانيا)
288. عاصم الباشا (نحات)
289. عاصم سويد (مواطن سوري)
290. عبدالباسط السمير (جامعي)
291. عبد الباسط حمودة (مهندس)
292. عبد الباسط سيدا (كاتب وباحث)
293. عبد الجبار الهايس (مهندس زراعي)
294. عبد الحفيظ الحولاني (مرشد اجتماعي)
295. عبد الحكيم المسموم (مواطن سوري)
296. عبد الحكيم قطيفان (فنان)
297. عبد الحميد الجمعة (ناشط)
298. عبد الحميد خليفة (مخرج ومدرس مسرحي)
299. عبد الحميد ياسين شريقي (مواطن سوري)
300. عبد الرحمن سيجري (طبيب أسنان)
301. عبد الرحمن مطر (كاتب)
302. عبد الرحيم أحمد خليفة (صحافي وسياسي مستقل)
303. عبد الرزاق المحمد (جامعي)
304. عبد الرزاق دياب (صحافي وكاتب)
305. عبد الرزاق عثمان (ألمانيا، مهندس)
306. عبد السلام حاج بكري (كاتب صحافي)
307. عبدالفتاح الجميده (مدرس)
308. عبد القادر خيشي (صحافي)
309. عبد القادر دعبول (معارض سوري)
310. عبد القادر عاكوب (تربوي)
311. عبد الكريم ريحاوي (ناشط حقوقي)
312. عبد الكريم محفوض (ناشط، السلمية)
313. عبد الله القصير (كاتب روائي)
314. عبد الله إبراهيم (ماجستير فلسفة يونانية، ألمانيا)
315. عبد الله تركماني (كاتب وباحث)
316. عبد الله حاج محمد (أمين عام حزب اليسار الديمقراطي)
317. عبد اللطيف ترياكي (دكتور مهندس زراعي)
318. عبد المجيد قدور (مواطن سوري)
319. عبد الناصر كحلوس (ناشط سياسي)
320. عبد الهادي دبل (مواطن سوري)
321. عبدالاله ضاهر (مهندس، ألمانيا)
322. عبدالاله فرهود (سينمائي)
323. عبدالباري بحرو (ناشط سياسي)
324. عبدالحكيم كيوان (صيدلاني، ناشط إغاثي طبي)
325. عبدالرحمن الحمامي (مصور)
326. عبدالرزاق علوش (ناشط سياسي)
327. عبدالله عسكر (مواطن سوري)
328. عبدالله مجيد (دكتور مهندس وأستاذ جامعي)
329. عبدالمعطي الصغير (مواطن سوري)
330. عبد الوكيل بيرقدار (مواطن سوري)
331. عبسي سميسم (صحافي)
332. عبير الحايك (مهندسة زراعية)
333. عبير حيدر (مستشارة اجتماعية)
334. عتاب حريب (فنانة تشكيلية)
335. عثمان ملو مسلم (عضو مكتب سياسي في حزب البارتي)
336. عدنان الدبس (سياسي)
337. عدنان طرابيشي (مواطن سوري)
338. عدنان عبد الرزاق (إعلامي)
339. عدنان علي (صحافي)
340. عرفان أبوبكر (مواطن سوري)
341. عروة سوسي (محام وصحافي)
342. عزالدين سالم (التآلف الديمقراطي السوري الحر)
343. عزام أمين (باحث وأستاذ في علم النفس الاجتماعي)
344. عزة البحرة (فنانة سورية)
345. عزت الشيخ سعيد (كاتب وناشط سياسي)
346. عصام قطيني (مدني)
347. عصام كلثوم (مواطن سوري)
348. عقيل حسناوي (معارض مستقل)
349. علاء الدين حسو (كاتب وإعلامي)
350. علاء الدين مراد (ناشط سياسي ومعتقل سابق)
351. علاء حميدي (محام)
352. علاء غنيم (مواطن سوري)
353. علي العائد (صحافي)
354. علي النايف (محام ومستشار)
355. علي أبو عواد (طبيب)
356. علي جمالو (صحافي ومنتج أفلام وثائقية)
357. علي دعاس (ناشط إعلامي حر)
358. علي رحمون (سياسي)
359. علي شتيان (مواطن سوري)
360. علي عطورة (طبيب)
361. علي قاسم (مواطن سوري)
362. علي محمد شريف (شاعر ومحام)
363. عماد الظواهرة (سياسي)
364. عماد القطمه (مواطن سوري)
365. عماد المسالخي (الولايات المتحدة)
366. عماد غليون (كاتب)
367. عمار العيسى (طبيب)
368. عمار ديوب (دكتور في البيئة الزراعية)
369. عمار عكلة (مهتم بالشأن الوطني)
370. عمار عمر (ناشط)
371. عمر اشقودر (مواطن سوري)
372. عمر الخطيب (إعلامي)
373. عمر السعدي (مترجم)
374. عمر إدلبي (باحث وإعلامي)
375. عمر أبونبوت (مواطن سوري)
376. عمر حداد (مهندس)
377. عمر سليمان (ناشط سياسي كوردي)
378. عمر عمر (ناشط)
379. عمر ملا علي (طالب جامعي)
380. عمر يعقوب آغا (مهندس معماري)
381. عيسى عبدو (مدرس)
382. غادة الأطرش (أستاذة جامعية)
383. غالب الحسين (أعمال حرة)
384. غالية كيالي (ناشطة)
385. غسان الجباعي (كاتب ومخرج مسرحي)
386. غسان الحسان (مهندس)
387. غسان أبو حمدان (طبيب)
388. غسان زيدان (خبير مالي، معارض سياسي)
389. غسان شقير (مهندس جيوفيزيائي)
390. غسان مرتضى (أستاذ جامعي)
391. غنى الشومري (باحثة، ناشطة حقوقية)
392. غياث بلال (باحث سوري)
393. غيلان الأتاسي (تاجر)
394. فاتن حمودي (كاتبة وإعلامية)
395. فاتن عجان الحداد (صحافة وإعلام)
396. فادي أحمد (ناشط)
397. فادي حداد (مدير تنفيذي لمؤسسة موتيف)
398. فادي عربي كاتبي (موسيقي)
399. فادي قرقوز (إعلامي ومصور صحافي)
400. فادي كحلوس (كاتب وناشط)
401. فاديا أبو زيد (ناشطة حقوق إنسان)
402. فارس الحلو (فنان)
403. فارس الشوفي (سياسي)
404. فارس مشعل تمو (محام)
405. فاضل الخطيب (معارض سياسي)
406. فاطمة الزهراء عبيد (طبيبة)
407. فاطمة أديب دوجانغن (مواطنة سورية)
408. فايز العباس (كاتب وشاعر)
409. فايز القنطار (كاتب وباحث)
410. فجر الحمد (مواطن سوري)
411. فخر شلب الشام (ناشط سياسي)
412. فراس الأتاسي (مواطن سوري)
413. فراس حاج يحيى (حقوقي سوري)
414. فراس سلوم (مواطن سوري)
415. فراس طلاس (سياسي ورجل أعمال)
416. فراس علاوي (صحافي)
417. فراس محمد (ناشط)
418. فرج بيرقدار (شاعر)
419. فرحان المطر (كاتب وصحافي)
420. فريال حسين (ناشطة سياسية)
421. فريح الخالد (صحافي)
422. فريد حداد (مواطن سوري)
423. فريزه جهجاه (مدرسة رياضيات وفيزياء)
424. فواز الهاشمي (مواطن سوري)
425. فواز حداد (كاتب وروائي)
426. فواز دبيات (مواطن سوري)
427. فوزي غزلان (شاعر وناشط)
428. فؤاد عزام (صحافي)
429. قاسم نصر الدين (متقاعد)
430. قتيبة مفلح (مواطن سوري)
431. قصي رجب (ناشط)
432. كمال الخطيب (محام)
433. كمال الدين تباب (مقاول)
434. كمال أبو الحسن (ناشط مدني)
435. كمال أبو صالح (محام)
436. كمال أوغلي (مدرب ومصور فوتوغرافي)
437. كمال زين علوش (دكتور وناشط سياسي)
438. كوران رشو (ناشط سياسي)
439. لبانة القنطار (فنانة)
440. لجين فليحان (إعلامية)
441. لطفي صادق (مدرس)
442. لمى الأتاسي (باحثة مختصة في إدارة التغيير)
443. لونا العيسمي (طالبة جامعية)
444. لؤي الصافي (أستاذ جامعي)
445. لؤي شلهوب (مهندس كهرباء)
446. ليلى عوض (ممثلة ومخرجة)
447. لينا رضا (فنانة تشكيلية)
448. ليندا الأحمد (مغنية، ناقدة مسرحية)
449. ماجد فوزي (ممثل)
450. ماجد مرشد (صحفي وكاتب- ألمانيا)
451. ماري تيريز كرياكي
452. مازن الأطرش (حقوقي وإدارة عامة)
453. مازن بايرام (ناشط سياسي)
454. مازن رفاعي (صحافي، رومانيا)
455. مازن عدي (سياسي)
456. ماسه الموصلي (محامية وكاتبة)
457. مالك الخولي (إعلامي، رئيس تحرير حرية برس)
458. مالك كورية (موسيقي)
459. ماهر اختيار (مواطن سوري)
460. ماهر سليمان العيسى (سياسي وباحث)
461. ماهر مسعود (كاتب)
462. مأمون البني (مخرج)
463. مجد الحسن (مهندس تقانات حيوية)
464. مجيد عبود (مهندس زراعي، ناشط)
465. محاسن الجندي (مدرسة لغة عربية، كاتبة وشاعرة)
466. محسن الشريطي (مواطن سوري)
467. محسن بابات (المجلس الشركسي)
468. محمد الأغا (مواطن سوري)
469. محمد الجبوري (كاتب)
470. محمد الحاج علي (لواء منشق)
471. محمد السليم (مواطن سوري)
472. محمد الصالح (أستاذ جامعي)
473. محمد العكلة (فنان تشكيلي)
474. محمد القطيني (ناشط مجتمع مدني)
475. محمد القمر علي الدرزي (مواطن سوري)
476. محمد الهنداوي (طبيب بيطري)
477. محمد إياد بطل (ناشط ومدون)
478. محمد أبازيد (خبير زراعي)
479. محمد أبو قاسم (معارض)
480. محمد أمير ناشر النعم (كاتب وباحث)
481. محمد بشير الخلف (سياسي)
482. محمد بلال (كاتب صحافي)
483. محمد حجي خليل (ناشط سياسي)
484. محمد حسن (رجل أعمال)
485. محمد خليفة (كاتب وصحافي سوري)
486. محمد خليل (مواطن سوري)
487. محمد خير أحمد كريم (ناشط من أجل التغيير)
488. محمد درويش (مواطن سوري)
489. محمد ربيع عمو (مواطن سوري)
490. محمد زادة (شاعر)
491. محمد سطام حسن (كاتب سيناريو ومخرج)
492. محمد سياد (ناشط في العمل الإنساني)
493. محمد شاكر جمعة (السويد)
494. محمد صالح (مواطن سوري)
495. محمد طه (ناشط سوري مدني)
496. محمد عبد الستار إبراهيم (روائي وصحافي)
497. محمد عبد الوهاب شوبك (ناشط)
498. محمد عبيد (ناشط سياسي)
499. محمد عدنان محمد (طالب علوم سياسية)
500. محمد عـطّـار (رجل أعمال ألمانيا)
501. محمد علي إبراهيم باشا (محام)
502. محمد علي إدلبي (ناشط)
503. محمد علي منان (سياسي مستقل)
504. محمد عمر كرداس (سياسي معارض)
505. محمد عيد (إعلامي)
506. محمد كلش (مواطن سوري)
507. محمد نفيسة (كاتب وباحث في الفكر الإسلامي)
508. محمد هلال (طبيب)
509. محمد وانلي (مواطن سوري)
510. محمد وجيه اسكيف (مدرس)
511. محمدثائر خبية (ناشط)
512. محمود الأحيى (طالب جامعي)
513. محمود الريفي (مواطن سوري)
514. محمود المعمار (مهندس)
515. محمود النجار (ناشط سياسي)
516. محمود الوهب (كاتب ومدير دار نشر)
517. محمود حسن (جلي صحون بمطعم، ألمانيا)
518. محمود حمزة (سياسي وأستاذ جامعي)
519. محمود ديركي (مواطن سوري)
520. محمود شيخ نوح (ناشط سياسي)
521. محمود ضويحي (مواطن سوري)
522. محمود عيسى (محام)
523. محمود كوريش (إعلامي)
524. محمود مهاجر (مزارع)
525. محي الدين قصار (سياسي)
526. محي الدين محروس (اقتصادي)
527. مختار جانسيز (ناشط تركماني)
528. مخلص الخطيب (محاضر جامعي متقاعد)
529. مراد درويش (مهندس، معارض)
530. مرام المصري (شاعرة ومترجمة)
531. مرهف مينو (صحافي)
532. مروان خوري (مواطن سوري)
533. مشعل العدوي (صحافي ويوتيوبر)
534. مشهور أبو لطيف (مدرس فلسفة)
535. مصطفى السليمان (فنان تشكيلي)
536. مصطفى الصافي (فنان تشكيلي، الدنمارك)
537. مصطفى تاج الدين الموسى (كاتب)
538. مصطفى سليمان (محام وناشط سياسي)
539. مصطفى عنتابلي (ناشط)
540. مصطفى كعلو (ناشط سياسي)
541. مصطفى وانلي (اقتصاد وإدارة)
542. مضر الدبس (كاتب وسياسي)
543. مضر سعد الدين (ناشط)
544. معتز رافع (مهندس زراعي)
545. معتصم رافع (ناشط مدني)
546. معتصم مراد (مواطن)
547. معروف العبيد (طبيب)
548. معروف المشرقي (رجل أعمال)
549. معصوم حسن (موظف)
550. معصوم سليم (صيدلاني، قيادي سياسي كردي سابق)
551. معن الخضر (مهندس سوري)
552. مقداد العبد الله (ناشط)
553. ملحم كامل أبوصالح (مستقل، الجولان المحتل)
554. منصور السلطي (ممثل ومخرج مسرحي)
555. منصور جاسم (مواطن سوري)
556. منصور خزعل (ناشط مستقل)
557. منى الأسعد (محامية)
558. منير عبدالسلام (طبيب)
559. مهند البعلي (محام)
560. مهند الطلاع (عميد وقائد جيش مغاوير الثورة)
561. مهند العلي (مواطن سوري)
562. مهند شرباتي (محام)
563. مهندس النحاس (ناشط)
564. موفق حمودة (مهندس)
565. موفق كنج حرب (مهندس)
566. ميخائيل سعد (كاتب)
567. ميساء شقير (مهندسة زراعية وصحافية)
568. ميشيل صطوف (طبيب وسياسي)
569. ميشيل يونادام (مصور)
570. نادر العنداري (طبيب)
571. ناصر زهير (مستشار العلاقات الدولية، مركز جنيف للدراسات)
572. ناصر عيطة (ناشط مجتمع مدني)
573. ناظم بدرالدين (مواطن سوري)
574. ناهض السيد سليمان الأتاسي (مترجم)
575. نبال النبواني (كاتبة)
576. نجاة عبد الصمد (طبيبة وأديبة)
577. نجم الدين السمان (كاتب سوري)
578. نجم الدين النجم (صحافي)
579. نذير دنيا (مواطن سوري)
580. نذير صالح (طبيب وكاتب)
581. نزار السهلي (صحافي)
582. نزار أبو فخر (مدرس سابق)
583. نزار بعريني (مواطن سوري)
584. نزار غسان عبيدين (اقتصادي)
585. نسـيم نصـر (طبيب)
586. نشوان الصالح (صحافي)
587. نشوان أتاسي (كاتب وباحث)
588. نصار يحيى (مواطن سوري)
589. نصر الدين خليل (ناشط)
590. نصري الطويل (ناشط مدني)
591. نصوح الشومري (مواطن سوري)
592. نضال السويداني (مواطن سوري)
593. نضال فواز العبود (دكتور مهندس، كاتب)
594. نعمان اسماعيل (مواطن سوريبلجيكا)
595. نعمان حلاوة (مدرس)
596. نعيم هيلانة (طبيب)
597. نهى الجندي (فنانة تشكيلية)
598. نهى صفيه (ناشطة مدنية)
599. نوار الشبلي (إعلامي)
600. نوار الماغوط (إعلامي سوري)
601. نوار بلبل (ممثل ومخرج)
602. نوارة صفي الدين (ناشطة)
603. نورهان الطه الناصر (معلمة، مدير صالون نور الثقافي)
604. نور الهدى الصيادي (ناشطة مدنية)
605. نيجرفان مراد (صحافي)
606. هاني دركزنلي (رجل أعمال، كندا)
607. هبة المصري (محللة أنظمة تقنية)
608. هدى زين (أكاديمية سورية)
609. هدى نصر (مترجمة ومدرسة)
610. هزار الحرك (إعلامية)
611. هشام اسكيف (كاتب وناشط سياسي)
612. هشام الخياط (ناشط سوري من الأرجنتين)
613. هشام المسالمة (محام ومعارض)
614. هشام نظمي الأفشاري (ناشط حيادي، سجين سابق)
615. هنادة الرفاعي (معتقلة سابقة)
616. هنيد حسن زهرة (مواطن سوري)
617. هوشنك أوسي (كاتب وشاعر وروائي)
618. هيثم البدوي (أكاديمي سوري)
619. هيثم بدرخان (صحافي ومحلل سياسي)
620. هيثم سراي الدين (مجدل شمس، الجولان المحتل-ناشط)
621. هيثم عبدالله حاج محمد (حزب اليسار الديمقراطي السوري)
622. هيثم نصر فرج (مهندس)
623. واحة الراهب (فنانة سورية)
624. وجدان ناصيف (كاتبة)
625. وديد سلبود (طبيب أسنان)
626. وسام الحريري (منظم فعاليات ثقافية)
627. وسام الناصر (باحث سوري)
628. وسيم حسان (ناشط سياسي)
629. وفاء حرك (مواطن سوري)
630. وفاء عباس (مواطنة سورية)
631. ولات بكر (صحافي كردي)
632. ولات جافو (ناشط سياسي)
633. وليد الحسنية (شاعر)
634. وليد النبواني (مهندس وناشط سياسي)
635. وليد خضر (سياسي)
636. وليد فواز عامر (موسيقي)
637. وليد فوال (مواطن سوري)
638. وهاب النجرس (مواطن سوري)
639. وئام عماشة (ناشط، الجولان المحتل)
640. ياسر الجيوش (معارض)
641. ياسر الخوجة (اقتصاد)
642. ياسر بركات (كاتب وباحث)
643. ياسر جلبوط (مرشد اجتماعي)
644. ياسر خنجر (شاعر، الجولان المحتل)
645. ياسر عدي (صيدلاني)
646. ياسمين مرعي (سياسية وصحافية)
647. يحيى الخطيب (ناشط سياسي عروبي)
648. يحيى حكوم (باحث في العلاقات الدولية).
649. يدن الدراجي (صحافي)
650. يزيد العبدالله عاشور (كاتب وصحافي، السويد)
651. يعرب حمودة (ناشط حقوقي)
652. يوسف حمامي (باحث في العلوم الاقتصادية)
653. يوسف سليقة (موظف سابق)
654. يوسف معاد (ناشط مدني).
655. يوسف وقاص (كاتب ومترجم).
للتوقيع اتبع الرابط التالي
إعلان الوطنية:معنى أن تكون سورياً بعد 9 سنوات ثورة
أطلق معارضون سوريون بياناً للتوقيع في مواقع التواصل الاجتماعي تحت عنوان “إعلان الوطنية السورية”، للتعبير عن معنى أن يكون المرء سورياً بعد أكثر من 9 سنوات من انطلاق الثورة في البلاد ضد نظام الأسد.
وجاء في البيان الذي وقعه عليه صحافيون وكتاب وناشطون ومعارضون بارزون: “في ظل تمزق الجغرافيا الوطنية السورية، وتحولها إلى ساحة صراع لجهات ودول مختلفة، ومع حال الفوضى التي نعيشها، وانقسام المجتمع السوري وتشظيه، ومع افتقادنا إلى قوى وطنية سورية قادرة على أداء موحد للشعب السوري للعمل في ضوء رؤية وطنية سورية، يرى الموقعون على هذا الإعلان أهمية العمل على بلورة الوطنية السورية ومبادئها وأسسها، وإنضاجها تدرجيا لتكون أرضية عمل لأوسع قطاع ممكن من السوريين، مثقفين وسياسيين وإعلاميين وناشطين ومواطنين سوريين من جميع أنحاء سورية”.
ويأتي الإعلان وفقاً للموقعين عليه، للدفع في “اتجاه تحقيق أكبر قدر ممكن من استقلالية الإرادة والقرار الوطنيين، والحد من خطر احتمال تشظي القضية الوطنية والمسألة الديموقراطية نهائياً، واحتراماً ووفاء لأرواح” الشهداء وتضحيات الشعب السوري، و”في سياق الآمال المشروعة للسوريين في تطلعهم إلى الحرية والمساواة والعدالة”.
ورأى الموقعون أن أهمية هذا الإعلان تكمن في “العمل على بلورة الوطنية السورية ومبادئها وأسسها، وإنضاجها تدرجياً لتكون أرضية عمل لأوسع قطاع ممكن من السوريين”، علماً انه يحتوي على عدد من المبادئ والرؤى الأساسية التي من الممكن أن “تؤسس للوطنية السورية”، ويشكل بالتالي دعوة من أصحابه إلى السوريين جميعهم “لإعلان إيمانهم به، والتزامه، والعمل من أجله، وفي ضوئه، ثقافياً وسياسياً وإعلامياً ومدنياً وحياتياً”.
وهنا أكد البيان على مبدأ المواطنة والمساواة وأهمية الإنسان، و التزام المبادئ الفكرية والسياسية والأخلاقية في الدولة السورية القائمة على الديموقراطية، وإنتاج دستور يستند إلى عقد اجتماعي باستفتاء شعبي. مع الإشارة أيضاً إلى مبادئ عامة مثل احترام الحريات لجميع القوميات والأديان والمعتقدات والمذاهب والأيديولوجيات والأحزاب، وتحقيق السلم الأهلي، والعدالة الانتقالية والمحاسبة، بالإضافة إلى ضمان الحرية والحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية للقوميات والجماعات الإثنية، فضلاً عن التأكيد على حرية المرأة وضمان حقوقها وتحقيق المساواة.
وشدد الإعلان على ضرورة أن يستند “بناء الجيش السوري على أسس وطنية احترافية ومهنية، وتحدد مهماته بحماية الوطن، وصون وحدته، وحراسة ثرواته، والحفاظ على تراثه وحضارته ونظامه الديموقراطي، ويبعد عن النزاعات السياسية والولاءات الحزبية والمناطقية والعشائرية والمذهبية”.
وأفسح البيان مساحة واسعة لعرض رؤية أصحابه لنظام الحكم الحالي في البلاد والقوى الراهنة وعلاقاتها وتحالفاتها وحيازة السلاح واستخدامه من طرف القوى العسكرية المتواجدة على الأرض وعلاقاتها الخارجية، مع التشديد على ضرورة الوصول إلى تشكيل “قوى سياسية وطنية جديدة، تتجاوز القوى الحالية”.
وأوضح البيان: “نظام الحكم الحالي نظام استبدادي، يرتكز على منطق الغلبة والقهر والفئوية والتمييز الطائفي والقومي، تغلغل فساده في مناحي الحياة كلها، والتهمت سلطته الدولة السورية، وجيرت وظائفها وأدوارها في خدمتها، وألغت سائر أشكال التضامن الاجتماعي، وحولت المجتمع السوري إلى سديم بشري مفكك، وقد اعتمد آليات عديدة في التعاطي مع السوريين، ترتكز على الترهيب والقتل والقمع والاعتقال والإفساد، وأحياناً الترغيب؛ وهو اليوم، بعد سنوات تسع من ثورة الشعب من أجل التغيير، الثورة التي له النصيب الأكبر في تحويلها إلى محنة وطنية تكاد تشمل السوريين كلهم، لا يمتلك القدرة والإرادة اللازمتين لحل سياسي يحقق مصلحة البلد والشعب؛ نظام لا يصلح ولا يصلح ولا يصلح. وإذ ذاك، فإنه لا أفق لسورية ولأكثرية السوريين إلا برحيله؛ فرحيله خطوة أولى في اتجاه تحقيق السلم الأهلي والمصالحة الوطنية، وفي بقائه استمرار للشروخ الهائلة التي خلقها داخل المجتمع السوري، وتحريض على نمو مشاعر الحقد والانتقام بين السوريين.
وأكد الإعلان في نهايته على أن التوقيع عليه من جانب أي فرد سوري، أو قوة سورية، هو “مسؤولية وطنية وحقوقية كبيرة، تماماً مثل الكلمة والموقف والأداء”.
في ضوء ذلك، علق الباحث السوري حسام الدين درويش على الإعلان الذي شاركه عبر صفحته الشخصية في “فايسبوك”: “لدي كل الأسباب النظرية والعملية، الأخلاقية والسياسية والمعرفية، لتبني مضمون هذا الإعلان وتوقيعه، بعقلي وقلبي، في الوقت نفسه. كل الشكر لكل من فكر وأسهم في صياغة هذا البيان و/أو يبذل جهده وفكره ووقته من أجل الدفاع النظري و/أو العملي عن مضامينه، لتحويله إلى أساس لواقع سوري أفضل، نتمناه قريباً”.
————————————-
“(إعلان) الوطنية السورية” بين الفردانية الليبرالية والجماعاتية اللا ديمقراطية/ حسام الدين درويش
منذ بضعة أيام، أصدر بعض السوريين وثيقةً أسموها “إعلان الوطنية السورية”. وقد تضمنت تلك الوثيقة شرحًا لأسباب صدور هذا الإعلان، والمعنى المقصود ﺑ “الوطنية السورية”، ومبادئ هذه الوطنية، وأسسها المتعلقة ﺑ “الإنسان/ المواطن، والدولة السورية والدستور السوري، والنظام الديمقراطي، والحريات والسلم الأهلي، والثقافة الوطنية والوعي الوطني، وحقوق القوميات والجماعات الإثنية، وحرية المرأة وحقوقها، والجيش السوري والأجهزة الأمنية، والنظام الاقتصادي الجديد، والسياسة الخارجية السورية. كما تناول الإعلان نظام الحكم الحالي، وقوى الواقع الراهن، والعلاقات والتحالفات بينها وعلاقاتها بالقوى الخارجية، وقوى المستقبل المنشود والمنشودة. وتضمن الإعلان، في النهاية، تشديدًا على أنه ليس “قولًا فصلًا”، ولا “صيغةً مكتملةً ونهائيةً”، وإنما مجرد صيغة متجددة، قد تفضي إلى “مشروع تغيير وطني ديمقراطي سوري يحظى بأوسع مشاركة سوريّة ممكنة”.
كما هو متوقع، قوبل الإعلان بمزيج من الترحيب والتشجيع، من ناحية، والتجاهل أو الانتقاد والتحفظ، من ناحية أخرى. فقد أثار غياب وجود أسماء الأشخاص الذين أسهموا في صياغة هذا الإعلان، وإطلاق تلك المبادرة، امتعاض كثيرين ممن اعتادوا محاكمة مثل تلك المبادرات، من خلال النظر إلى أسماء أعضائها، بالدرجة الأولى. لكن هذا الغياب لم يمنع بعض هؤلاء الأشخاص من إبداء التحفظ على البيان، بسبب توقيع هذا الشخص و/ أو عدم توقيع شخص آخر. كما شكّك كثيرون في أهمية البيان، وجدواه، لأنهم رأوا أنه لم يضف جيدًا، ولأن مشكلتنا لا تكمن في “الوطنية”، أو في أي إعلان عنها أو لها، وإنما في مكان آخر لا يسهم الإعلان في معالجته. كما تناولت الانتقادات بعض مضامين البيان، لكونه، على سبيل المثال، يبالغ في ماهية الدور الذي ينبغي للجيش أن يقوم به، وفي مدى هذا الدور؛ وكانت هناك مخاوف من تحول الإعلان عن تلك الوطنية إلى أيديولوجيا للإقصاء، وتخوين المختلفين مع بعض مضامين تلك الوطنية، وفقًا لتوصيفها في الإعلان. أما الانتقادات والتحفظات الأبرز، والأكثر عددًا، فقد تناولت إشكالية العلاقة بين الفرد والجماعات العضوية والدولة. وسأناقش، فيما يلي، هذه الإشكالية، الحاضرة بقوة، ليس في “الإعلان، فحسب، بل في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والسياسية المعاصرة، أيضًا.
1 – الوطنية والسياسة بين فردية المواطن وانتماءاته الجماعاتية
ثمة تشديد كبير على أهمية “المواطنة” في أي نظام سياسيّ وطنيّ/ ديمقراطي. وعلى الرغم من أن المعنى الأولي والعام لهذا المفهوم واضح ومتفق عليه عمومًا، إلا أنه يوجد اختلافات مهمة، في خصوص مدى فردية هذا المواطن، وطبيعة علاقاته بالدولة والعملية السياسية وبالجماعة أو الجماعات العضوية التي ينتمي إليها نسبًا، ومدى مشروعية و/ أو ضرورة حضور هذه الانتماءات والجماعات، في المجال السياسي. ويمكننا التمييز بين رأيين أساسيين في هذا الخصوص: أحدهما يشدد على فردية المواطن، بوصفها أساسًا لحضوره السياسي، بما يقصي كل انتماءاته الجماعاتية، من المجال السياسي؛ والآخر يرى أن فردية المواطن لا تتنافى، بالضرورة، مع انتماءاته الجماعية، وأنه يمكن لحضور المواطن، في المجال السياسي، أن يتأسس، أيضًا، على تلك الانتماءات.
أ – المواطن هو الفرد، ولا مكان للجماعات والانتماءات الجماعاتية في المجال السياسي
يشدّد هذا الاتجاه على أن المواطنة/ الوطنية (الديمقراطية) تقتضي إبعاد كل الانتماءات الجماعاتية عن المجال السياسي. وعلى هذا الأساس، تتنافى تلك الوطنية مع أي أحزاب أو تنظيمات سياسية تتأسس على أساس إثني أو دينيّ. فالانتماءات الجماعاتية هي انتماءات قبل أو تحت وطنية، و/ أو فوق وطنية، وهي، في كل أحوالها، مضادة للانتماءات الوطنية، ومضادة لديمقراطية النظام السياسي التي تقتضي حضور المواطن بوصفه فردًا، وليس بوصفه منتميًا إلى هذه الجماعة العضوية أو تلك. والتنظيمات الوحيدة التي يمكن وينبغي للمواطن أن يحضر من خلالها، في المجال السياسي، هي التنظيمات المدنية والأحزاب السياسية، التي تتأسس على الانتساب (السياسي)، بعيدًا عن أي تسييسٍ لأي نسب أو انتماء جماعاتيّ. فهذه الانتماءات ينبغي أن تبقى في إطار المجال الثقافي، ولا ينبغي تسييسها أو إدخالها في المجال السياسي.
ويرى هذا الاتجاه انتفاء أي بعد ثقافيّ خاصّ للدولة. فهذه البعد الثقافي خاص بجماعة ما، دون أخرى، بغض النظر عن عدد أفراد هذه الجماعة أو تلك. فالحيادية الكاملة للدولة تعني تعبيرها عما يجمع كل مواطنيها. ونظرًا إلى أن القواسم المشتركة قليلة عمومًا بين أفراد أي دولة، يبدو تصور أفراد هذا الاتجاه للدولة تصورًا شكلانيًّا، من حيث افتقار الدولة، بمؤسساتها ووظائفها، لأي مضامين ثقافية أو معيارية خاصة.
ولتسويغ ضرورة تبني هذه الرؤية، في الحالة السورية، يرى متبنو هذا الاتجاه أن قيام الدولة الحديثة يقتضي، بالضرورة، تحييد الانتماءات الجماعاتية، في المجال السياسي السوري، فسوريا عانت، وما زالت تعاني، من تسييس هذه الانتماءات، وأفضى ذلك إلى هيمنة الاتجاهات الطائفية أو الإثنية أو المناطقية، ذات المنظور الضيّق، وغير الوطني، من حيث إنه مضادّ أو معاد، صراحةً أو ضمنًا، للوطنية السورية، ولأن تكون سورية وطنًا، ولأن يكون السوريون شعبًا واحدًا، بالمعنى السياسي للكلمة.
ب – الجماعات هي المكونات الأساسية للمجتمع والدولة وأساس العمل السياسي
يرى أنصار هذا الاتجاه أن الجماعات العضوية تمثل مكوّنًا أساسيًّا من مكوّنات كثير من المجتمعات والدول؛ ويذهب بعضهم إلى اعتبارها المكوّن الأكثر أهميةً. وانطلاقًا من ذلك، ينبغي الاعتراف بهذا الواقع، والانطلاق منه، في بناء الدولة أو بنيانها، وشرعنة العمل السياسي، على أساس الانتماء إلى هذه الجماعات العضوية. فمن الضروري أن تعبّر الدولة عن الواقع الاجتماعي والثقافي الجماعاتي، وينبغي للسياسة أن تتأسس على الانتماء إلى هذه الجماعة العضوية أو تلك، وعلى طبيعة العلاقة القائمة، و/ أو المنشودة، بين هذه الجماعات.
وإذا كان الاختلاف بين الاتجاه الجماعاتي والاتجاه الفرداني واضح، ويتمثل في الأهمية المعطاة للجماعة أو الفرد، أو لدورهما، في إطار الدولة والعمل السياسي؛ فإن ذلك الاختلاف ينبغي ألا يحجب الاختلافات الموجودة ضمن كل تيار. فعلى الرغم من الاتفاق المبدئي أو الأولي بين متبني الاتجاه الجماعاتي على أهمية الجماعة العضوية، في إطار الدولة والعمل السياسي، فإن اختلافات كبيرةً قد تبرز بينهم في كثير من المسائل الأساسية، في هذا الخصوص، وفقًا لنوع الجماعة التي ينتمون إليها، وحجمها، وموقعها، في الدولة والمجتمع.
فبعض أنصار هذا الاتجاه من المنتمين إلى أغلبية إثنية أو دينية أو طائفية ما، قد يرون مشروعية، بل وجوب، أن تعكس بنية الدولة ومؤسساتها وقوانينها وتوجهاتها هذه الأغلبية. فالدولة ينبغي أن تكون، لدرجة أو لأخرى، عربيةً أو عروبيةً، و/ أو إسلاميةً، إذا كانت الأغلبية المجتمعية عربيةً أو مسلمةً، نسبًا. وعلى الرغم من إمكانية تأثير ذلك، سلبًا في المساواة المواطنية، في الدولة، وفي ديمقراطيتها أو ديمقراطية نظامها السياسي، فليس من النادر أن يستند أنصار هذا التيار إلى فكرة الديمقراطية، ذاتها، ليبرزوا أنهم يمثلون الأغلبية، ويحقّ لهم المطالبة بذلك، وتنفيذه، وفقًا للديمقراطية ذاتها. وبغض النظر عن المطابقة غير الموضوعية التي يقيمها الجماعاتيون، عمومًا، بين الأغلبية السياسية والأغلبية الإثنية أو الدينية أو الطائفية، فإن بعضهم، على الأقل، يقع في مفارقة طريفة تتمثل في أنه يطالب بخضوع الدولة للأغلبية، وتفضيلها لثقافة هذه الأغلبية، وتوجهاتها الأيديولوجية الدينية أو السياسية، عمومًا، مع رفضه القاطع لنشوء فيدراليات على أساس دينيّ أو إثني، في بعض مناطق الدولة التي توجد فيها أغلبيات إثنية أو دينية أو طائفية مختلفة عن الأغلبية التي ينتمي إليها هذا “البعض”.
وغالبًا ما يقع بعض الجماعاتيين من المنتمين نسبًا، إلى الأقليات المذكورة، في مفارقة مختلفة ومماثلة، في الوقت نفسه. فهم يرفضون اتسام الدولة، ومؤسساتها، ونظامها السياسي، بأي سمة تعبّر عن ثقافة أو توجهات الأغلبية العددية، الإثنية أو الدينية، لكنهم يطالبون، في الوقت نفسه، بحقوق سياسية خاصة، بوصفهم أقليات. فعلى سبيل المثال، وفي السياق السوري، ليس نادرًا مطالبة بعض الجماعاتيين الأكراد بإقليم فيدراليّ كرديّ، أو على أساس إثني، مع رفضهم القاطع للسمة العربية ليس للدولة فحسب، بل حتى لاسمها.
أحد أهم الشعارات التي يرفعها الجماعاتيون، عمومًا، وفي السياق السوري، خصوصًا، هو شعار “الواقعية”. وبمقتضى تلك “الواقعية المزعومة”، يشدد هؤلاء على أن الواقع السياسي السوري هو واقع جماعاتيّ، بامتياز. فالصراع “السياسي” العنيف أصبح صراعًا جماعاتيًّا عمومًا، وطائفيًّا (بين السنة والعلوية، خصوصًا) وإثنيا (بين العرب والكرد، على سبيل المثال او التخصيص)، خصوصًا. ويجب الانطلاق من هذا الواقع والبناء عليه، وأخذ حساسيات هذه الإثنية أو الطائفة و/ أو تلك في الحسبان. ويرى هؤلاء الجماعاتيون أن الدعوات إلى نظام سياسي وطني/ ديمقراطي، قائم على مواطنة الأفراد والمساواة بينهم في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن انتماءاتهم ونسبهم، هي مجرد دعوات حالمة وغير واقعية، من جهة، وليست مناسبةً سياسيًّا، ولا خيّرةً أخلاقيًّا، ولا مفيدةً عمليًّا، من جهة أخرى. ولا يرى بعض هؤلاء الجماعاتيين، في الدعوة إلى العلمانية، إلا قناعًا طائفيًّا للأقليات الدينية، وفي الدعوة إلى الفيدرالية إلا قناعًا انفصاليًّا للأقليات الإثنية، وفي الدعوة إلى الديمقراطية إلا قناعًا طائفيًّا وعنصريًّا للأغلبية الدينية الإثنية. وهكذا يُختزل الواقع السياسي في جماعات هوياتية متناحرة، ولا يؤخذ، في الحسبان، لا تاريخية هذه الظاهرة ولا محدوديتها، من حيث وجود أطراف أخرى كثيرة، تجاوز انتسابها الإرادي نسبها الإثني أو الديني او الطائفي، واختلف عنه، ولم يتأسس عليه سياسيًّا.
2 – في التوتر المحايث للعلاقة بين الديمقراطية والليبرالية
يمكن وصل العلاقة الإشكالية بين الاتجاهين الفرداني والجماعاتي بالتوتر الإشكالي الملازم للعلاقة بين الديمقراطية والليبرالية. فعلى الرغم من الصلة الوثيقة، في الديمقراطيات (الغربية) المعاصرة بين الديمقراطية والليبرالية، فإن العلاقات بينهما ليست ضروريةً من ناحية، ويشوبها توتر، فعليّ أو ممكن دائمًا، من ناحية أخرى. وإلى جانب التوتر بين الليبرالية الاقتصادية، في صيغتها “النيوليبرالية” خصوصًا، والديمقراطية التي تتضمن وجوب المشاركة الجماهيرية الفاعلة وتكافؤ الفرص في الميدان السياسي، ثمة تناقض أساسيّ أو مبدئي، بين الليبرالية (السياسية) والديمقراطية. ويكمن في هذا التناقض أن الأولوية لليبرالي تتمثل في الفرد وحرياته، في حين أن روح الديمقراطية أو أولويتها تكمن في التعبير عن (إرادة) الشعب، من خلال عملية الاقتراع أو الانتخاب، مثلًا وخصوصًا. الديمقراطية تتطلب إقرار الحقوق المدنية والسياسية العامة، كحقوق الاجتماع والتصويت والتعبير والرأي إلخ، وهي تلتقي مع الليبرالية، في هذا الخصوص، لكنها لا تتضمن بالضرورة إقرارًا بحرية الفرد الكاملة نسبيًّا في حياته الخاصة والاجتماعية، كما هو حال الليبرالية. فنظريًّا وعمليًّا، ارتبط الاعتراف بالحريات والحقوق الجنسية للمثليين، على سبيل المثال، بالتوجه الليبرالي، لا بالتوجه الديمقراطي، حيث إن ذلك الاعتراف حصل بناءً على مبادئ الليبرالية وتوجهاتها، وبغض النظر عن، أو على الرغم من، وجود أغلبية شعبية معارضة لهذا الاعتراف، في أحيان ليست قليلةً.
لا شك أن الحريات الفردية ضرورية، لأي نظام ديمقراطيّ جدير بهذا الاسم، لكن يمكن للديمقراطية أن تنتج خطابًا أو نظامًا يحد من بعض الحريات الفردية عمومًا، ومن الحريات غير المتعلقة بالمجال السياسي المباشر، خصوصًا. في المقابل يمكن للحريات (شبه) الكاملة أو المطلقة، في الميدان الاقتصادي، خصوصًا، أن تدمّر مسائل العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، ليس في الميدان الاقتصادي، فحسب، بل في الميدان السياسي، أيضًا. ومن هنا تأتي الإمكانية الدائمة لحصول صراع بين هذين المبدأين أو الموقفين. وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نفهم خوف كثير من الليبراليين والمنتمين، نسبًا و/ أو انتسابًا، إلى أقليات ما، من “طغيان الأكثرية” باسم الديمقراطية. في المقابل، يقدم كثيرون الديمقراطية الليبرالية، في أحدث نسخها الغربية، بوصفها وصفةً جاهزةً وناجزةً، مسبقًا، ولا تحتاج إلا إلى الاتباع، والتبني، والتطبيق، بدون قيد أو شرط، أو حتى نقاش، وبدون أي اهتمام بمدى أو كيفية تقبل أو قبول الأغلبية أو المجتمع لتلك الوصفة.
الليبرالية، في حدودها الدنيا، وفي الميدان السياسي، خصوصًا، شرطٌ من شروط ديمقراطية أي نظام سياسيّ. فبدونها لن يكون أفراد الشعب أحرارًا، لكي يستطيعوا التعبير فعلًا عن أنفسهم، أو إرادتهم، في المجال السياسي. لكنها في حدودها العليا غير المضبوطة قد تفضي إلى ما هو غير مقبول ديمقراطيًّا، سواء من حيث المبدأ، أو من حيث التصويت والمقبولية الشعبية. وعلى الرغم من أن النظام الديمقراطي هو نظام أغلبية عمومًا، فإنه كان يفترض وحدةً ثقافيةً ما بين أفراد الشعب، في إطار الدولة – الأمة أو الدولة القومية، ولم يكن يكترث، كثيرًا، بالأقلية أو الأقليات، التي كان جُلَّ اهتمامها، وأقصى طموحاتها و”أحلامها”، أن يتم التسامح معها، ومع اختلافاتها، وليس الاعتراف بها، والإقرار بمساواتها، ومساواة الأفراد المنتمين إليها، مع الأغلبية، وأفراد تلك الأغلبية.
وعلى الرغم من أن ليبرالية الديمقراطيات الغربية قد ازدادت في العقود الأخيرة، لدرجة أنها أصبحت تعطي الانطباع بالتضمن المتبادل والتشابك الماهوي بين الطرفين، فإن التوتر والتناقض بين الطرفين ما زال قائمًا، ويظهر بقوة، في مناسبات كثيرة. ويبدو ذلك جليًّا، حين تتجه إرادة الأغلبية السياسية أو الشعبية إلى تبني وجهات غير مقبولة من منظور الدساتير والقوانين أو التوجهات ذات الطبيعة أو الأبعاد الليبرالية، والخاصة بحماية الحريات والأقليات والضعفاء عمومًا. وإذا كانت الليبرالية الاقتصادية المتزايدة تؤثر سلبًا في ديمقراطية أي نظام سياسيّ، فإن “الديمقراطية الزائدة” قد تؤثر سلبًا في ليبرالية هذا النظام، وربما في ديمقراطيته ذاتها، إذا اتفقنا أن الديمقراطية ليست مجرد عملية اقتراع أو انتخاب. فإلى أي حدّ ينبغي للديمقراطية أن تكون ليبراليّةً، وإلى أي حدّ ينبغي لليبرالية أن تكون ديمقراطيةً؟ هذه إشكالية نظرية، ومشكلة عملية، تواجهان كل ديمقراطية (ليبرالية) معاصرة، ويزداد تعقيد هذه الإشكالية، وتزداد حدة تلك المشكلة، في الديمقراطيات الناشئة، أو عند السعي إلى إنشاء ديمقراطية (ليبرالية) ما.
3 – نحو استيعاب جدليّ للتوتر بين الليبرالية الفردانية والجماعاتية (غير) الديمقراطية
يحاول إعلان الوطنية السورية التوفيق بين الفردانية والحريات الفردية، من جهة، والجماعاتية والحقوق الجماعاتية، من جهة أخرى. وقد أثارت مضامين هذا التوفيق، الجزئي والنسبي، اعتراضات من أنصار كلا الطرفين، بقدر محاولتها تقديم ما بمكن أن يُرضي كليهما، في إطار تركيب أعلى. فمن ناحية أولى، يتحدث البيان عن المواطن بوصفه إنسانًا، وبوصفه فردًا، وليس بوصفه كائنًا ثقافيًّا منتميًا إلى هذه الجماعة الدينية أو الإثنية أو تلك. في المقابل، يشدد البيان على أن الانتماء إلى الوطنية السورية ليس “نقيضًا أو بديلًا للانتماء القومي أو الديني أو الطائفي”، ويذهب إلى درجة الإقرار، ليس بالحقوق الثقافية والاجتماعية ﻟ “القوميات والجماعات الإثنية” فحسب، بل إلى الإقرار بحقوقها السياسية أيضًا.
وقد أثار الحديث عن تلك “الحقوق السياسية” كثيرًا من علامات الاستفهام والاستهجان. فلم يكن واضحًا المقصود بتلك الحقوق، وخشي البعض أنها قد تتضمن قبولًا ضمنيًّا ﺑ “الحق في الانفصال”، ولا سيما أن الإقرار بالحقوق السياسية حصل في إطار الحديث، ليس عن “الجماعات الإثنية” فحسب، وإنما عن “القوميات” أيضًا. كما بدا الاقتصار على ذكر الإثنية الكردية بالاسم، وتجاهل الإثنيات الأخرى، أمرًا غير مسوغ، وغير مقبول، عند كثيرين، حيث ظهر هذا التخصيص كما لو أنه يحابي جماعةً إثنيةً، على حساب الجماعات الأخرى.
من الضروري الانتباه إلى خصوصية وضع الإثنية الكردية في سورية. فهذه الخصوصية قد تسوّغ الاهتمام الخاص الذي أولاه الإعلان لتلك الجماعة الإثنية. فهذه الإثنية هي ثاني أكبر إثنية سورية، وقد عانت، معاناةً كبيرةً، من ممارسات النظام العنصرية والتمييزية تجاهها، ولهذا السبب ثارت شكوك، بل تشكيكات كبيرةً، محقَّةً حينًا، وغير محقة، أحيانًا أخرى، بوجود نزعة انفصالية لدى “بعض/ معظم” السوريين الأكراد، على الأقل. ورأى كثيرون في تشديد بعض الأكراد على الحق المبدئي “المزعوم” في الانفصال دلالةً قويةً على وجود هذه النزعة. وتزايدت هذه الشكوك مع هيمنة حزب PYD، المرتبط بقيادات وأجندة غير سورية، على منطقة الجزيرة السورية. ثم تصاعدت التوترات بين قوًى كردية وعربية، مع احتلال “قوًى عربية معارضة” لبعض المناطق ذات الغالبية الكردية، واحتلال “قوًى كردية” لمناطق ذات أغلبية عربية، والإسهام في تدميرها وقتل أو تهجير سكانها. كل ذلك، وغيره، أضفى طابعًا خاصًّا على وضع السوريين الأكراد، عمومًا، لدرجة رأى “الإعلان” أنها تقتضي الإقرار بوجود “قضية كردية” في سورية، وبأن الإثنية الكردية لها، ليس حقوقًا اجتماعيةً وثقافيةً، فحسب، بل حقوقًا سياسيةً أيضًا.
وعلى الرغم من أن القول بالحقوق السياسية (قد) يعني، من حيث المبدأ، الإقرار بالحق في الانفصال، وهو ما أثار امتعاض واعتراض بعض “الجماعاتيين العرب”، فإن الإعلان يشدّد أكثر من مرة على أن تلك الحقوق، وغيرها، محدودة ومشروطة بالإقرار بوحدة سورية، أرضًا وشعبًا. وقد أثار ذلك البند استهجان بعض الجماعاتيين الأكراد الذين رفضوا هذا التقييد، وأصروا على أن للسوريين الأكراد حقًّا، مبدئيًّا، بالفيدرالية الإثنية، على الأقل، وبالانفصال الكامل، على الأكثر. لكن من الواضح أن الحديث عن هذا الانفصال يتنافى مع أبسط مقومات “الوطنية السورية”، بالمعنى الوصفي، وليس المعياري، لتلك الوطنية، على الأقل. ولهذا فإن المعنى الأدق لتلك الحقوق السياسية، في الإعلان، يتمثل، مثلًا وخصوصًا، في حق الأفراد المنتمين إلى جماعة إثنية ما، في ممارسة السياسة وتنظيم أنفسهم سياسيًّا أو إنشاء أحزاب سياسية، على أساس انتمائهم الإثني، أو للتعبير السياسي عن الهموم والتطلعات الخاصة بتلك الإثنية، من منظور هؤلاء الأفراد.
ولا يبدو واضحًا سببُ اقتصار البيان على الحديث عن الحقوق السياسية للجماعات الإثنية، وتجاهل الجماعات الدينية، ومن ضمنها الجماعات الطائفية والمذهبية. فهل ينبغي أن يكون لتلك الجماعات حقوق سياسية، أيضًا؟ وهل يتسق ذلك مع ديمقراطية النظام السياسي و”علمانيته”؟ قبل تناول هذه المسألة من زاوية “ديمقراطية النظام السياسي”، وتمهيدًا لهذا التناول، من المفيد تناول المسألة من زاوية “علمانية الدولة والنظام السياسي”.
لا يتضمن الإعلان أي ذكر لكلمة “علمانية”. وقد أثار ذلك الغياب أو التغييب اعتراض بعض السوريين “العلمانويين”، وتحفظاتهم، ودفعهم إلى المطالبة بوجود نصّ صريح وواضح، يقول بعلمانية الدولة والنظام السياسي المنشودين. لكن ثمة من يقول بعدم ضرورة وجود هذا المفهوم الإشكالي، ذي السمعة السيئة لدى شريحة واسعة من الناس، طالما أن النص يشدد صراحةً على “تساوي المواطنين في الكرامة الإنسانيّة، وأمام القانون في الحقوق والواجبات، من دون أيّ تمييز بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الإثنية أو الدّين أو العقيدة“. فهذه هي السمة الأساسية للعلمانية، بوصفها شرطًا من شروط النظام الديمقراطي. أما تحويل العلمانية إلى شعار، وأيديولوجيا شاملة، فيمكن أن يكون عقبةً أمام ديمقراطية النظام السياسي، بدلًا من أن يكون شرطًا من شروط هذه الديمقراطية.
وانطلاقًا من هذين الفهمين المختلفين للعلمانية؛ يمكن للحديث عن حقوق سياسية للجماعات الدينية أن يكون متناقضًا مع العلمانية، بوصفها شعارًا، وأيديولوجيةً شاملةً تقول بالفصل الكامل بين الدين، من جهة، والسياسة والدولة، من جهة أخرى، لكن الإقرار بالحقوق المذكورة لتلك الجماعات لا يتناقض مع العلمانية، بوصفها سمةً من سمات النظام الديمقراطي، ومع كونها تقول بالمساواة بين المواطنين في الكرامة والحقوق والواجبات؛ بل إن هذا الإقرار المبدئي (قد يكون) من مقتضيات ديمقراطية هذا النظام أو من نتائج تلك الديمقراطية. لا شك في أن هناك كثيرًا من الشكوك في خصوص مدى تقبل قوى “الدين السياسي” للديمقراطية، ولهذا وجب التشديد على أن قبول النظام السياسي الديمقراطي لأي طرف يشترط، بالضرورة، قبول هذا الطرف، صراحةً، ونظريًّا وعمليًا، لأسس هذا النظام الديمقراطي ومقوماته الأساسية. يُضاف إلى ذلك أن إعطاء الحقوق السياسية للجماعات يجب أن يتأسس على الحقوق الفردية، وليس العكس. وبكلمات أخرى: إن الحقوق المذكورة تتأسس على حقوق الأفراد، أما حقوق الأفراد فلا تتأسس على أي حقّ جماعاتيّ، بل تؤسس له. وهذا يعني أن الأفراد يملكون دائمًا إمكانية الدخول في تنظيمات جماعاتية، كهذه، والخروج منها. فالنسب لا يفضي تلقائيًّا إلى الانتساب، ولا يمكن قبول أي قسر أو فرض جماعاتيّ، في أي نظام ديمقراطيّ. كما ينبغي التشديد، دائمًا، على أن تلك التنظيمات تمثل جانبًا، فقط، من رؤية الجماعة المفترضة التي تنتمي إليها، ولا يحق لها ادعاء التمثيل الكامل لها. فهذا الأمر تقرره سيرورة العملية الديمقراطية التي تفسح دائمًا مجالًا لاختلاف الآراء وتغيرها وتغييرها، بعيدًا عن أي محاصصات جامدة أو حتى ثابتة.
4 – في الوطنية (والقومية)
وفقًا للبيان، لا يبدو سهلًا الاتسام بالوطنية، فهذه الوطنية تتطلب التحلي بكثير من السمات، وتبني كثير من الأفكار والقيم والمبادئ والأهداف؛ وبعضها، على الأقل، إشكاليّ وموضع خلاف (شديد). ومن هنا تنبثق ضرورة عدم المبالغة في إلحاق كثير من المسائل الإشكالية بالمسألة الوطنية. فعلى سبيل المثال، ليس ضروريًّا أن يتبنى الإنسان رؤيةً اقتصاديةً محددةً لكي يكون وطنيًّا. وكذلك الحال في مسائل كثيرة أخرى يتضمنها البيان. والربط بين الوطنية والمواطنة أمرٌ مهمّ معياريًّا، لكنه يترافق مع تحميل الوطنية ما لا طاقة لها به أو عليه. ومن شأن كثافة السمات الوصفية والحمولة المعيارية أن تقوم بإقصاء كثير من الوطنيات المخالفة لهذا التصور للوطنية. وفي حال تقديم الوطنية بهذه الكثافة الوصفية والحمولة المعيارية، ينبغي أن يترافق ذلك، بالضرورة، مع الإقرار بأن الوطنية وطنيات، من حيث المبدأ والواقع، وبدون تفاوت معياري ضروريّ. وهذا الإقرار الأخير يستلزم البحث عن القواسم المشتركة بين تلك الوطنيات، للوصول إلى تعريف الحد الأدنى للوطنية. ويمكن للتعريف التقليدي للوطنية أن يقدّم ذلك الحد الأدنى والمتمثل في الارتباط العاطفيّ ببلد/ وطن ما، والشعور بالانتماء الهوياتي الجزئي إليه، والاهتمام بخيره، مع استعداد، مبدئيّ، للقيام بتضحية ما من أجل هذا الخير.
ومن المهمّ جدًّا، عمومًا، وفي الحالة السورية خصوصًا، تخفيف السمات الوصفية، والحد من الحمولة المعيارية، الملحقة بمفهوم الوطنية. فمن ناحية أولى، ينبغي فهم وجود سوريين (كثر) لا يتبنون الوطنية، ولا يرون في سورية وطنًا لهم. ولا ينبغي المسارعة إلى الإدانة (الأيديولوجية) لهؤلاء السوريين. فالوطنية ليست، بالضرورة، أفضل، معياريًّا، من الخيارات الأخرى. وهي ليست مجرد تنظير لواقع قائم؛ إنما هي تنظير لما يجب أن يكون، بناءً على رؤية مصلحية، بالدرجة الأولى. فمن وجهة نظر كثيرين، وكاتب هذه السطور منهم، من مصلحة السوريين أن يحاولوا أن يجعلوا سورية وطنًا لكل السوريين. لا يبدو لي أن هذا هو الخيار الأفضل، فحسب، بل الخيار “الجيد” الوحيد. لكن من المفهوم جدًّا أن تثير فكرة “سورية الوطن” نفور أو سخرية أو لامبالاة سوريين كثر. فسورية التي يعرفونها كانت أبعد ما يكون عن أن تكون وطنًا؛ لقد كانت “سوريا الأسد” أو “سوريا البعث”، وسورية القمع والظلم والإفقار والمعاناة. الوطنية السورية لم تكن، في العقود الأخيرة، على الأقل، واقعًا معطى، ولا بديهيةً وصفيةً أو معياريةً، معرفيةً أو أخلاقيةً أو سياسيةً. الوطنية هي ما يمكن أن نصبو أو نسعى إليه، ونؤسسه، أو نؤسس له، أكثر بكثير من كونها ما ننطلق منه، ونؤسس عليه.
تبدو العلاقة المفهومية، الوصفية والمعيارية، بين “الوطنية” و”القومية”، علاقة تناقض أو اختلاف جذريّ، من وجهة نظر كثيرين، في “العالم الغربي المعاصر”. وظهر ذلك واضحًا في قول الرئيس الفرنسي ماكرون: “الوطنية هي نقيض الوطنية تحديدًا: القومية خيانة للوطنية”. أما الإعلان فلا يرى في الوطنية “نقيضًا أو بديلًا للانتماء القومي”. من المفهوم جدًّا أن تسود البيان محاولة استيعاب الاختلاف، في إطار جامع، بعيدًا عن عمليات الإقصاء قدر المستطاع. لكن استيعاب ما لا يمكن استيعابه، والتوفيق بين أطراف لا يمكن، نظريًّا و/ أو عمليًّا، التوفيق بينها، يكون أقرب إلى التلفيق منه إلى التوفيق، وأقرب إلى الموقف السياسي الرغبوي منه إلى الفهم المعرفي والضبط المفاهيمي والواقعية (السياسية). الوطنية التي يتحدث عنها الإعلان مختلفة عن القومية بالتأكيد، لكن ليس واضحًا كيف يمكنها أن تستوعب القومية التي تناقض الوطنية، وصفيًّا ومعياريًّا. فثمة شكوك كبيرة ومسوغة في إمكانية أن يكون الاتجاه القومي العروبي أو الكردوي، على سبيل المثال، جزءًا من أي وطنية سورية، مفترضة أو منشودة، بقدر كونه قوميًّا فعلًا.
قد لا يكون استخدام مفهوم “القومية”، في هذا الخصوص، مناسبًا، فالقومية ترتبط بمفهوم الأمة، والحديث عن العرب والأكراد، بوصفهما قوميتين، يحيل إلى هويتين جريحتين، لم تستطيعا التجسد في دولة – أمة. ولا يتعلق الأمر بالقوميات الإثنية، فحسب، بل يمكن أن يمتد إلى أي جماعة عضوية أخرى تتسم بسمات القومية: كالجماعات الدينية/ الإسلامية، على سبيل المثال. ومن الضروري التمييز، هنا، بين الإثنية والقومية، فالجماعة القومية تتأسس على إثنية أو انتماء عضويّ ما، لكن الجماعة الإثنية أو العضوية ليست جماعةً قوميةً، بالضرورة. وليس المقصود هنا نفي مشروعية وجود اتجاه قوميّ، لدى أفراد أي إثنية، لكن من الضروري بحث كيف يمكن للتوجهات القومية تحت الوطنية، أو فوق الوطنية، أن تكون وطنيةً أو جزءًا من وطنية ما مغايرة لتوجهها القومي. ويبدو أن اتساق التوجهات القومية مع الوطنية يتناسب طردًا مع تلاشي قومية تلك التوجهات.
التوفيق بين الفردانية والجماعاتية، في إطار وطنيةٍ ما، ليس مسألةً سهلةً بالتأكيد. ولا نرى أن الحل يكمن في إقصاء أحد الطرفين أو في توفيق مائع يعطي الطرفين أهميةً متساويةً. بل نرى ضرورة أن يتأسس هذا التوفيق على أولوية الأفراد وحرياتهم، قدر المستطاع، بدون إنكار الحقوق الجماعاتية، المتأسسة أصلًا، على الحقوق والحريات الفردية، كما أسلفنا. ولا ندعي أننا قدمنا حلًا كاملًا لتلك الإشكالية/ المشكلة، أو قدرتنا على تقديم هذا الحل الكامل. وفي كل الأحوال، لا ينبغي البحث عن هذا الحل، في إطار تفكير نظريّ مجرد، معزول عن الحوار الفكري والسياسي. فمعالجة الإشكالية النظرية المجردة لا تنفصل، أو لا ينبغي أن تنفصل، عن مواجهة المشكلة العملية والعينية في سياقاتها. ولا ينبغي بالتأكيد، ولا يمكن أصلًا، مواجهة هذه المشكلة مواجهةً فرديةً، بل لا بد أن تحصل تلك المواجهة، في إطار تفاعل بنَّاء مع “الآخرين”
———————————
بين إغراء السوريين وإغوائهم بهوية وطنية سورية/ بكر صدقي
على وقع «أزمة الانتصار» التي يعيشها نظام بشار الكيماوي ويعاني من أعراضها، في ظل سريان قانون قيصر، نشط مبعوثون روس على خطوط «المكونات» السورية، فالتقوا الشيخ معاذ الخطيب في الدوحة، وهو رئيس سابق للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ووفداً من «علويين مؤثرين» معارضين كما وصفوا أنفسهم ويمثلهم عيسى إبراهيم الذي يعود بنسبه إلى الشيخ صالح العلي، أحد رموز الاستقلال السوري. لا نعرف ما إذا كانت هناك لقاءات روسية أخرى مع شخصيات معارضة من مكونات أخرى، سرية تمت أو أنها على جدول أعمال الدبلوماسيين الروس. لكن اختيار هذين المحاورين يعطينا ما يكفي لاعتبار المنظور الروسي للحل في سوريا هو منظور توافق المكونات الأهلية إذا صح التعبير. وهو ما لم يخفه الروس، على أي حال، فقد وضعوا، قبل سنوات، مسودة دستور لسوريا فيدرالية، كما كان الاسم الروسي لمؤتمر سوتشي هو «مؤتمر الشعوب السورية» قبل أن يغيروه تحت ضغط المدعوين من كلا الطرفين، نظاماً ومعارضة.
من جهة أخرى، أطلقت مجموعة من المعارضين السوريين ما أسموه بـ«إعلان الوطنية السورية» مفتوحاً للتوقيع عليه كأفراد أو مجموعات. وينطلق منشئو «الإعلان» من واقع التفكك الجغرافي والأهلي في سوريا في ظل احتلالات أجنبية عدة، فيدعون السوريين إلى «الإيمان بالإعلان والالتزام به والعمل من أجله وفي ضوئه، ثقافياً وسياسياً وإعلامياً ومدنياً وحياتياً» وفق نص الإعلان الذي يعتبر التوقيع أمراً في غاية الجدية يجب لصاحبه أن يحترمه ولا يخل بموجباته.
لدينا، إذن، بحث متعدد المصادر والمستويات عن حل سياسي للصراع الدائر في سوريا وعليها منذ تسع سنوات ونصف، ذكرنا منها نموذجين، الروسي و«الإعلاني». هذا البحث الدؤوب يعبر عن حاجة موضوعية للحل ناتجة عن أزمة النظام المصمم على البقاء في ظل حرب دائمة، ولا قدرة لديه لخوض السياسة القائمة بداهةً على التعدد والتفاوض وابتكار المخارج والحلول. وهو ما أسميه بأزمة الانتصار لأن النظام يتوهم أنه انتصر، في حين أن النصر العسكري يستوجب تتويجاً سياسياً يجهل النظام قاموسه.
من المحتمل أن روسيا بوتين تعاني من أزمة مشابهة، وإن كانت بطريقة مختلفة عن أزمة النظام. يتبين من مسالك الروس، في الفترة الأخيرة، تجاه النظام الكيماوي أنهم ربما يرغبون في التخلص من رأس النظام الذي بات يشكل صداعاً دائماً لهم، لكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك قبل ضمان استقرار مصالحهم في سوريا ما بعد الأسد، ومنها معاهدات طويلة المدى في مجال السيطرة على قواعد عسكرية واتفاقات اقتصادية مع شركات روسية وغيرها. لعلهم طرحوا هذه الأمور، أو لمحوا إليها، في لقاءاتهم مع الخطيب والمجموعة العلوية، جساً للنبض.
سواء لاقى الروس استعداداً عند بعض الجهات المعارضة لمقايضة رأس النظام بضمان المصالح الروسية أو لا، فالمنظور الروسي للحل هو منظور هوياتي قائم على ما يشبه المحاصصة في السلطة و/أو النظام الفيدرالي. الأمر الذي يلاقي ممانعة كبيرة من الفاعلين السياسيين، النظام ومعارضوه على السواء، ومن المحتمل أن يلاقي استحسان القوى السياسية الكردية فقط، باعتبار أنها تطالب أصلاً بنظام فيدرالي.
ويأتي «إعلان الوطنية السورية» (اختصاراً: الإعلان) على الضد من هذا التصور الروسي للحل، معبراً في ذلك، ليس فقط عن الموقعين عليه، بل كذلك عن رأي عام واسع، لكنه غير موحد، يرفض أي طرح من هذا النوع. هو غير موحد لأنه، أولاً، منقسم بين الموالين للنظام والمعارضين له، وثانياً، فيما بين هؤلاء الأخيرين بمختلف ألوانهم وتوجهاتهم الأيديولوجية. واقع الانقسام هذا هو ما يسمح لنا بوصف «الإعلان» بأنه نوع من المائدة المفتوحة التي تطمح لتلبية أذواق كل الناس. ولكن، وفي الوقت نفسه، يطمح الإعلان إلى سحب البساط من تحت جميع القوى السياسية والعسكرية التي سبق له وصفها، في المتن، بأنها قوى تفتيتية ومرتهنة للخارج وفي أحسن الأحوال فاشلة.
إنها مفارقة أن ينطلق الإعلان من هذا الوصف (الصحيح عموماً) للقوى الفاعلة، ليدعو إلى وضع معياري متخيل، قد يكون جميلاً وبلا عيوب على الورق، لكنه يحمل في داخله كل تناقضات الواقع السوري القائم. إذ لا سبب يدعونا إلى افتراض أن كل مظاهر الانقسامات الاجتماعية الحادة ومناخ
الكراهية بين الجماعات ستزول بالنوايا الطيبة أو بمخطط معياري قائم فقط على «الإيمان» وفق نص الإعلان، أو باحترام التوقيع الشخصي وكأنه «إمساك بالشوارب» على دُرجةٍ تقليدية لأهل الشام.
لا يفيد كثيراً مناقشة نص «الإعلان» بالتفصيل، مع أنه يحتمل ذلك، فالأهم من ذلك هو روح الإعلان الذي يتكرر في كل بيان تأسيسي لتيارات جديدة تنشأ كل يوم، وكأن الأمر يتعلق بـ«حفظ الدرس جيداً» لأن التلميذ مقبل على امتحان. بهذا المعنى يبدو المنظور الروسي أكثر واقعية من منظور «الإعلان»، ولا أقصد المفاضلة الأخلاقية بينهما، فروسيا هي دولة احتلال لبلدي سوريا، إضافة إلى سجل جرائمها المشين في استهداف المدنيين والمنشآت الطبية، ودعمها للنظام الكيماوي وخططها بشأن «مناطق خفض التصعيد» و«المصالحات»، وصولاً إلى مسار آستانة وسوتشي اللذين استهدفا إفراغ قرار مجلس الأمن الخاص بإنهاء الحرب والانتقال السياسي من أي محتوى. لكن المقارنة السياسية تشير إلى واقعية روسية في التعامل مع الوضع القائم كما هو، مع انحياز لا جدال فيه للنظام، مقابل نص قائم على فرض وطنية سورية متخيلة بلا أي حوافز حقيقية غير «الإيمان» والالتزام بالوقيع.
لم توجد قط هوية وطنية للسوريين، بل هوية أسدية لسوريا، وقد شكلت ثورة آذار 2011 فرصة كبيرة لصناعتها، فرصة ضاعت بسبب مواجهة النظام الإجرامية الإبادية للثورة وفقاً لشعار «الأسد أو نحرق البلد» قبل أن تضاف جهود أخرى إلى جهود النظام لتقويض أي احتمال لسوريا أخرى. من أجل الحصول على فرصة جديدة لابتكار هوية وطنية سورية، يحتاج الأمر إلى حوافز مصلحية خلا منها نص الإعلان خلواً تاماً.
كاتب سوري
القدس العربي
————————————–
إعلان الوطنية السورية .. قراءة نقدية/ علي العبدالله
في مبادرة جادّة وشجاعة، تبنّت شخصيات سورية، من خلفيات فكرية وسياسية واجتماعية متعددة، ومتباينة، ما سمته “إعلان الوطنية السورية”، منطلقةً من اعتبار “الوطنية” محدّداً معيارياً للعلاقات الداخلية والإقليمية والدولية. الوطنيّة السوريّة، الرابطة الجوهرية للسوريين، وركائزها: سورية الوطن، بكل تاريخه وحضارته وتنوعه القومي والديني والمذهبي، والمواطنة أساس العقد الاجتماعي، والديمقراطية قاعدة النظام السياسي.
وقد بسط أصحاب الإعلان، في ضوء هذه المنطلقات، مبادئهم العامة وتصوراتهم الخاصة للحمة الاجتماع السوري المنشود وسداه، تحت عناوين دالة: الإنسان والمواطن، الدولة الجديدة، النظام الديمقراطي، الحريّات والسِّلم الأهليّ، الثقافة الوطنيّة والوعي الوطنيّ، حقوق القوميات والجماعات الإثنيّة، حرية المرأة وحقوقها، الجيش السوريّ والأجهزة الأمنية، النظام الاقتصادي الجديد، السياسة الخارجيّة السوريّة، ومحدِّدات وطنيّة أولية: قوى الواقع الراهن وقوى المستقبل؛ عرضوا تحت هذا العنوان الفرعي تقويمهم للراهن السوري وبدائلهم المتوخاة. وتقديراً لهذه المبادرة وتلبية لدعوتهم لتطويره بقولهم: “إنه صيغةٌ متجدِّدةٌ، ومنفتحةٌ على التطور”، هنا قراءة نقدية وملاحظات على شكل ومضمون الإعلان وتوجهاته النظرية والعملية.
يلمس قارئ الإعلان أنه صِيغ بلغة تقريرية وتبشيرية؛ مع ميلٍ واضح إلى الاسترسال في الإنشاء السياسي وعمومياته. قال “الوطنيّة السوريّة هي رابطتُنا الجوهرية، وجسرُ التواصلِ بين السوريين، والمدخلُ إلى علاقاتهم ببعضهم بعضاً، وإلى ملاقاتهم الآمال والطموحات المشتركة، وهي مدخلُنا إلى المشاركة في النشاط الإنساني، وميدانُ التفاعل الحيّ مع غيرنا، والمؤثِّر في الخارج، وسبيلُنا إلى مواجهة الاستحقاقات والتحدّيات والأخطار التي تهدِّد مصيرنا، وإلى اغتنام الفرص التي تزيد من أهليَّتنا وتأثيرنا الإيجابي في الإقليم والعالم”، “وتنبع جوهريتُها (الوطنية) من كونها الرابطة التي تبني الدولة، وتحقِّق المشترك بين المواطنين، وتوفِّر المظلة التي تضمن حماية التنوّع الديني والمذهبي والإثني”، و”الإنسان هو المبدأُ الرئيسُ المؤسِّسُ للدولةِ الجديدةِ، وعليه ينبني مبدأُ المواطنة الذي يعني تساوي المواطنين في الكرامة الإنسانيّة، وأمام القانون في الحقوق والواجبات”، و”الدولة السوريّة؛ التزام المبادئ الفكريّة والسياسيّة والأخلاقيّة التي تتأسَّس عليها الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة الحديثة؛ فالدولةُ المستقبليّةُ ليست دولةَ فردٍ أو طغمةٍ أو طائفةٍ أو عشيرة أو حزب، بل دولةُ المواطنين السوريين جميعهم؛ فأيّ نظامٍ سياسيٍّ يستمدُّ شرعيتَه من هيمنةِ أغلبيّةٍ دينيّةٍ، أو طائفيّةٍ، أو إثنية، إنّما يقوّض الديمقراطيّة، ومن ثمّ ينتهكُ شروط المواطنة المتساوية كلّها”، و”نظام سورية المستقبل نظامٌ ديمقراطيٌّ، وله مجموعةٌ متكاملةٌ من الأركان؛ مبدأ الحياة الدستورية، التعدّدية والنظام البرلماني، مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث، مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء، حقُّ المشاركة في الشؤون العامة، الشَّعب مصدرُ الشرعيّة والسلطات جميعها، احترامُ حقوق الإنسان في ضوء الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، حريّة التفكير والتعبير، حقّ التنظيم، حريّة الصحافة والنشر”، و”بيئة حرّة للتنوّع؛ سوريّة المستقبل وطنٌ تُتاح فيه الحريّةُ لجميع القوميات والأديان والمعتقدات والمذاهب والأيديولوجيّات والأحزاب في التعبير عن نفسها والفعل والتأثير، لكن مع استمرار دولتهم السياسيّة في التعبير عن الكلِّ الاجتماعيِّ”. … إلخ.
واقع الحال أن صيغة التقرير والتبشير بتطلعاتٍ عامةٍ لا تصلح لعرض قضية حساسة ودقيقة، مثل قضية “الوطنية”، قضية إشكالية وملتبسة في أذهان عموم السوريين في ضوء ولادة الدولة السورية، قاعدة الوطنية ووعائها السياسي والاجتماعي، في ظروفٍ وشروطٍ سريعةٍ وعاصفة: الخروج على النظام الإمبراطوري، السلطنة العثمانية، وولوج تجربة جديدة في كيان مستقل، في ظل ثقافة إسلامية سائدة تربط القيم والخيارات السياسية بالموروث الإسلامي؛ دولة الخلافة والجامعة الإسلامية، وإرهاصات التوجه القومي، العربي، والدعوة لدولة عربية واحدة في المشرق العربي، رد الفعل على تلاشي الوعود البريطانية بإقامة كيان عربي واحد، وعد بلفور، والانتداب الفرنسي وسياساته التفتيتية والتمييزية. دولة ضعيفة واقعة بين حجري رحى: دعوات فوق وطنية، إسلامية وعربية، وممارسات تحت وطنية، إثنية ومذهبية ومناطقية، ما حوّلها إلى كيان هش مخترق ومحاط بدعوات ومواقف رافضة ومكبلة.
يتجاهل المنطق التقريري والتبشيري الذي اعتمده أصحاب الإعلان حاجة كل كلمة، خيار، موقف، لتبرير وتفسير، في بيئة فكرية تقليدية ومفاهيم سياسية واجتماعية مشوشة ومختلطة، فضلاً عن أن طرح “الوطنية” والمبادئ المرتبطة بها، كما جاء في الإعلان، يتعارض مع ثقافةٍ سياسيةٍ فرضت بمنطق السلطة وقوة الأمر الواقع؛ تحوّلت إلى مسلمات وقناعات عامة، صوّر غسان سلامة، في كتابة “الدولة والمجتمع في المشرق العربي”، الحالة بقوله: تسأل العراقي هل أنت بعثي؟ فيجيبك بلا، ولكنه خلال الحديث يجيب عن أسئلة سياسية واقتصادية واجتماعية إجابات بعثية… فالدعوة إلى “الوطنية”، وسط البيئة الفكرية والسياسية السائدة، بما تعرفه من اختلاط في القيم والمفاهيم وتشابك وتداخل في الانتماءات والولاءات، لن تكون سهلة، أو تُستقبل بقبول تلقائي وسلس؛ فالحالة العامة رافضة، أقله مرتبكة ومتشكّكة، ما يستدعي جهداً كبيراً وعملاً دؤوباً لتبرير (وتفسير) الخيار وجدواه في مواجهة المأزق الوطني الراهن، فالحاجة ماسّة لقراءة مقارنة بين الدعوة الوطنية والدعوات الأخرى، القومية والإسلامية والأممية، بحيث تؤسس لقناعات وتوافق راسخ حولها.
لذا كان المنطقي والمنهجي صياغة الدعوة بصيغة مختلفة، صيغة حوارية، صيغة مقارنة، أساسها عرض وتبرير وتفسير الفكرة/ الموقف ومترتباتهما القريبة والبعيدة ونتائجهما المفترضة وانعكاساتها على الوطن والمواطن، ومقابلتها مع الدعوات الأخرى، كي تكون الدعوة مادةً لحوار فكري وسياسي، على طريق تبنيها وجعلها معياراً للسياسات الداخلية والإقليمية والدولية بالنسبة للشعب السوري، كما يرغب أصحابها. ضرورة حيوية لا تنفيها أو تحدّ من ضرورتها أننا أمام إعلان سياسي، هو بمثابة إعلان مبادئ.
في فقرات الإعلان أحكام وتقديرات بحاجة إلى تدقيق وتصويب، مثل قوله “الوطنيّة السوريّة ليست نقيضاً أو بديلاً للانتماء القومي أو الديني أو الطائفي”. كيف ذلك والإعلان يقول إنها “منظومة أفكار ومبادئ وأسس وقوانين، تحرِّرنا من منطق الانتماء الجبري والانتماء الاسمي والانتماء اللغوي”، وعليه تكون الوطنية نقيضاً وبديلاً للانتماء القومي والديني والطائفي، في مجال الحقوق والواجبات وعلاقة الفرد بالدولة ومؤسساتها، وإلا فما معنى الدعوة لها في هذا السديم الغامر. وهنا لا بد من الإشارة إلى عدم توفق الإعلان في قوله: “تحرِّرنا من منطق الانتماء الجبري والانتماء الاسمي والانتماء اللغوي”، فهي لا تحرّرنا، لأن هذه الانتماءات طبيعية ومشروعة، بل تنظمنا في إطار رؤية محدّدة لها أولوياتها وتوازناتها مع بقاء الانتماء القومي والديني والطائفي كشأن شخصي؛ يمارسه المواطنون بشكل خاص؛ في حياتهم اليومية وعلاقاتهم مع محيطهم الاجتماعي، مع ملاحظة أن العبارة صادمة لما تنطوي عليه من نزوع عدمي.
جاء فحوى فقرة “حقوق القوميات والجماعات الإثنيّة” في تعارضٍ حادٍّ مع تبنّي الإعلان المواطنة قاعدةً للعقد الاجتماعي، والديمقراطية نظاماً سياسياً، لأن الحق في دولة المواطنة فردي، والديمقراطية تعتمد أغلبية سياسية، لا قومية ولا دينية، ما يستدعي إعادة نظر في الصيغة والبحث عن مخرج منطقي وعملي يتسق مع المنطلقات الرئيسة، مع ملاحظة أن التحفظ هنا ليس على حقوق القوميات والجماعات الإثنيّة، بل على عدم الاتساق المنطقي والسياسي في نص الإعلان.
في فقرة “الجيش السوريّ والأجهزة الأمنية” تعارضان فجّان مع روحية الإعلان، تمثّلا بالمهام التي أعطيت للجيش وأجهزة الأمن، للجيش “حراسة ثرواته، والحفاظ على تراثه وحضارته ونظامه الديمقراطيّ”، ولأجهزة الأمن “حارساً أميناً لمصالح المواطنين، تصونُ دماءهم وأعراضهم وأموالهم وتحمي حرياتِهم”، إذ للجيش في الدولة الحديثة مهمة واحدة: حماية أرض الوطن؛ فكيف اتفق أن الإعلان يرفض انخراط الجيش في العمل السياسي، ويكلفه بمهمة سياسية؟ وأجهزة الأمن لها هي الأخرى مهمة واحدة: مقاومة الاختراقات الخارجية. أما مصالح المواطنين فيحميها القانون والقضاء والأمن الداخلي: الشرطة والأمن الجنائي. فتكليف الجيش بحراسة الديمقراطية باب واسع لدخوله معترك السياسة وفرض توجهاته ورغبات قادته على الحياة السياسية، وتكليف أجهزة الأمن بحراسة مصالح المواطنين يشرعن تدخلها في حياتهم وابتزازهم والتعدي على حقوقهم وحرياتهم.
في فقرة “النظام الاقتصادي الجديد” تبنٍّ غير معلن للنظام الرأسمالي، قال “بين الحريّة الاقتصادية، والحفاظ على دور رقابي وإشرافي للدولة في الحياة الاقتصاديّة عموماً”، فهل يصلح النظام الرأسمالي لإخراج مجتمعات مفقرة وممزّقة، وتعيش في ظل ثقافة تقليدية من وهدة الفقر؛ ودولة مدمّرة من مشكلات التضخم والانكماش والبطالة والقدرات الخدمية الضعيفة والمديونية العالية وانهيار سعر صرف العملة الوطنية؟ وفي فقرة “علاقة القوى بالخارج” موقفٌ بعيدٌ عن روحية الإعلان الرافضة للعسكرة ولغة السلاح، حيث جاء “لكن لا يحقُّ لأيِّ قوةٍ سياسية أو عسكرية أن تعقدَ أيَّ اتفاقاتٍ، سرية أو علنية”، ما يسمح باستنتاج خطير بإمكانية القبول بوجود تشكيلات عسكرية خارج المؤسسات الشرعية.
في الختام، نجدّد الإشادة بالمبادرة، وندعو إلى التفاعل معها والمساهمة في إنضاجها وتطويرها بروح إيجابية، وعلى أسس موضوعية، ركائزها المعقولية والعملية تحقيقاً لتطلعات الشعب السوري في الحرية والكرامة والتقدّم نحو دولة الحق والقانون والعدالة والمساواة والحريات العامة والخاصة في وطن معافى ومزدهر.
العربي الجديد
———————————-
ردًا على القراءة النقدية لعلي العبدالله/ محمد عبد الوهاب شوبك
إن إعلان الوطنية السورية هو بمثابة الحجر الأساس الذي يجب أن تبنى عليه الدولة السورية القادمة، وهو بمعنى أوضح مبادئ فوق دستورية تعيد تجميع الطيف السوري بكل ألوانه.
لقد مر قرن من الزمن على خروج هذه المنطقة من تحت سلطة الدولة العثمانية، وما تبعه من تقسيم للمنطقة بين فرنسا وبريطانيا عبر اتفاقية سايكس بيكو، وزرع كيان غريب عبر وعد بلفور في فلسطين، ثم مرحلة الاستقلال والانقلابات العسكرية التي كان عنوانها دعوات فوق وطنية (الوحدة العربية، الوحدة الإسلامية) فاشلة، حتى وصول حزب البعث إلى السلطة وانقلابه على نفسه مرات عدة، أفضت في النهاية إلى وصول هذا النظام الحالي إلى السلطة، والذي بدوره، أوصل البلاد، خلال خمسة عقود عجاف، إلى هذه الحالة من التشظي والدمار على جميع الصعد الاجتماعية والسياسة والاقتصادية.
بعد كل هذه التجارب، وما آلت إليه الأوضاع بعد الثورة السورية، يرى الموقعون على هذا الإعلان، أن الوطنية هي سبيلنا لبناء دولة عصرية تلحق بركب الأمم، وأذكر هنا بما ذهب إليه غسان سلامة في كتابه المجتمع والدولة في المشرق العربي إلى أن سبب وجود الدعوات التحت وطنية (دينية، طائفية، إثنية) هو الدعوات الفوق وطنية.
المآخذ على الإعلان كما حددها علي العبدالله:
١- الوطنية السورية ليست نقيضًا أو بديلًا للانتماء القومي أو الديني أو الطائفي. يتساءل الكاتب: كيف ذلك والإعلان يقول إنها منظومة أفكار ومبادئ وأسس وقوانين تحررنا من منطق الانتماء الجبري والانتماء الاسمي والانتماء اللغوي. واستنتج بالقول: وعليه تكون الوطنية نقيضًا وبديلًا للانتماء القومي والديني والطائفي.
ويقول أيضًا: وهنا لا بد من الإشارة إلى عدم توفق الإعلان في قوله “تحررنا من منطق الانتماء الجبري والانتماء الاسمي والانتماء اللغوي”، فيجيب: هي لا تحررنا لأن هذه الانتماءات مشروعة…إلخ.
لقد ذهب علي العبدالله بعيدًا في تفسيره للوطنية على أنها مساوية لدعوة الشيوعية (خالد بكداش) ودعوة الحزب القومي السوري الاجتماعي (أنطوان سعادة) اللذين يصادران الدين والطائفة والإثنية لمصلحة أيدلوجية معينة. بينما جاء هذا الإعلان ليحافظ على مكونات الطيف السوري، وليؤكد على الرابطة التي تستطيع إعادة تجميع لوحة الموزاييك السورية المتشظية، وهي الرابطة الوطنية.
٢- يقول جاء فحوى فقرة حقوق القوميات والجماعات الاثنية في تعارض حاد مع تبني الإعلان المواطنة قاعدة للعقد الاجتماعي والديمقراطية نظامًا سياسيًا، لأن الحق في دولة المواطنة فردي، والديمقراطية تعتمد أغلبية سياسية، لا قومية ولا دينية، مما يستدعي إعادة نظر في الصيغة والبحث عن مخرج منطقي وعملي يتسق مع المنطلقات الرئيسية.
أقول إنه لا يوجد تعارض، فغاية دولة المواطنة هي الحفاظ على حقوق جميع أفراد المجتمع وبناء دولة عصرية متقدمة تحقق الخير والرفاهية لمواطنيها. وإذا نظرنا إلى الدول المتقدمة الغربية، فهي ذات أغلبية مسيحية، وكذلك أحزابها، ولكنها تضم في طياتها أعراقًا وأديانًا مختلفة، والمجتمع يعيش في توافق وانسجام، ونرى أن هذه الأقليات تنخرط في هذه الأحزاب، وتتقدم فيها وتحصل على مكاسب سياسية، لأن الدولة مشيّدة على أساس المواطنة لا على أساس الدين والعرق والمحاصصة.
٣- يقول الكاتب: في فقرة الجيش والأجهزة الأمنية، كيف اتفق أن الإعلان يرفض انخراط الجيش في العمل السياسي ويكلفه بمهمة سياسية وهي الحفاظ على الديمقراطية، إضافة إلى حماية ثروة الوطن والحفاظ على تراثه وحضارته.
نقول هنا إن المقصود بحماية الديمقراطية أن أي جهة أو فئة أو حزب يحاول اغتصاب السلطة أو يرفض تسليمها للسلطة المنتخبة، لا بدّ أن يقوم الجيش بردها، وإعادة السلطة إلى الشرعية المنتخبة بحسب القانون والدستور.
٤- يقول عن الأجهزة الأمنية: وهي الأخرى لها مهمة واحدة هي مقاومة الاختراقات الخارجية، أما مصالح المواطنين فيحميها القانون والقضاء والأمن الداخلي، فتكليف أجهزة الأمن بحراسة مصالح المواطنين يشرعن تدخلها في حياتهم وابتزازهم والتعدي على حقوقهم.
إن الجواب عن السؤال متضمن في نص الإعلان الذي اقتبس منه، لكن نضيف أنه عندما ينص الإعلان على أن هذه الأجهزة تخضع للرقابة الشعبية والقانون والقضاء المستقل، فلا سبيل لهذه الأجهزة إلا الامتثال للقوانين، ومن جهة ثانية فإن الدولة المنشودة هي دولة المؤسسات التي تختلف عن الدولة الشمولية التي يكون فيها القضاء تابعًا للسلطة التنفيذية، ما يعني أن الشفافية والمحاسبة ستكونان سيفًا مسلطًا على كل من تسول له نفسه اختراق القانون أو التعدي على حقوق المواطنين.
٥- في فقرة النظام الاقتصادي يستنتج أن الإعلان يدعو إلى تبني النظام الرأسمالي، مع أنه غير مدرج في نص الإعلان. ثم يتساءل هل يصلح النظام الرأسمالي لإخراج مجتمعات مفقرة وممزقة وتعيش في ظل ثقافة تقليدية من وهدة الفقر؟
جاء الإعلان جاء ليؤكد على أن الاقتصاد لن يخضع لفئة أو طائفة أو جهة معينة، وأن فرص إقامة المشاريع الاقتصادية ستكون متاحة للجميع تحت سقف القانون وإشراف ورقابة الدولة، وبذلك نضمن النمو الاقتصادي وازدهار الدولة، وهذا نقيض ما كان عليه الاقتصاد سابقًا، عندما كان يتركز بيد فئة معينة قريبة من دائرة السلطة، فالإعلان أوضح أنه لا بد من ترسيخ قاعدة الحرية الاقتصادية لكن مع ضمان عدم تغول رأس المال.
٦- يقول في فقرة علاقة القوى بالخارج: موقف بعيد عن روحية الإعلان الرافضة للعسكرة ولغة السلاح، حيث جاء في النص “لا يحق لأي قوة سياسية أو عسكرية أن تعقد أي اتفاقات سرية أو علنية”، مما يسمح باستنتاج خطير بإمكانية القبول بوجود تشكيلات عسكرية خارج المؤسسات الشرعية.
لا أعرف كيف خلص الكاتب إلى هذا الاستنتاج، مع أن الإعلان ينص تحت عنوان (محددات وطنية أولية وقوى الواقع، الفقرة الثالثة حيازة واستخدام السلاح) على ما يلي: “ينبغي أن تنظر القوى العسكرية السورية كلها الموجودة حاليًا إلى نفسها أنها قوى مؤقتة وأن سلاحها غير شرعي، وأن تلتزم حل نفسها مستقبلًا، وتتعهد تسليم سلاحها للدولة السورية الجديدة التي هي وحدها صاحبة الحق بحيازة السلاح واستخدامه، ويتصل بذلك إدانة كل قوة سياسية أو عسكرية تسعى بفرض وجودها أو أيدولوجيتها أو معتقدها بقوة السلاح.”
في النهاية نثمن هذه القراءة، ونرى أنها تأتي في سياق التفاعل مع هذا الإعلان، وهي نوع من الحوار الذي نشجع عليه وندعمه في سبيل تطويره، وليكون قاعدة عمل لأوسع قطاع ممكن من الشعب السوري.
——————————————-
حول ضرورة «الوطنية السورية» وصعوباتها/ موفق نيربية
بعد أن انتهى السوريون عموماً – أو كادوا- من صبّ جام غضبهم على السيدين سايكس وبيكو ومشروعهما لهندسة دول المشرق الجديدة أثناء الحرب الكونية الأولى وفي أعقابها، تمركزت النقمة شمالاً وشرقاً لدى الكرد، باعتبارهم الضحية الأكبر للاتفاق المذكور، الذي قام بتوزيعهم بين دولٍ أربع، في تركيا وإيران والعراق وسوريا.
ربّما- ولعلّ وعسى- يمكن لهؤلاء أن يأخذوا العبرة من السوريين الآخرين؛ الذين أضاعوا الكثير من الوقت رفضاً لكيانهم الذي نشأ، وتعلّقاً بأحلام وأوهام الدولة العربية الكبرى، فخانتهم القناعة بحالهم، ولم يركّزوا جهودهم على تطوير دولتهم الناشئة، التي غدا من السهل فيها على أي ضابط محدودٍ وطامحٍ، أن يرى في نفسه مشروع سلطان، بقلبِ مغامر وعقل زعيم عصابة، مع مكتب استشارات قادر على أن يوائم بين السياسات الدولية والإقليمية، ومصلحته.
كان لحرب أكتوبر/ تشرين الأول بتعديلها لنتائج حرب يونيو/حزيران، وضبط مفاعيلها على مصائر النظام السوري، تأثير مهمٌ علينا، جعلنا نرحم المرحومين سايكس وبيكو، قليلاً من غضبنا منذ السبعينيات، وبشكل أوضح في التسعينيات، ونهائياً في العقد الحاسم الأخير. وابتدأنا بالاقتناع أن» الوطن» هو ذلك الذي نحن فيه، من دون أن نقول إننا» أمة» غير الأمة العربية التي تهرّأت على ألسنتنا وعلى الأرض، ونكتفي بتعبير «الشعب» الذي تعب اختصاصيّو الاجتماع السياسي العرب، حتى فرضوه ضمن تعبير «الشعوب العربية»، مع فرضهم لمفهوم «العالم العربي» بديلاً عن «الوطن العربي». فتحركاتنا القديمة غالباً ما كانت خارج العلم والمنطق والمصلحة، وتفسح الطريق بحماسة للشعارات وحدها، وللاستبداد المتمدّد من بعدها.
سبق أن تعامل السوريون مع صفة الوطنية، وأطلقوها على كل من يَجهر بالعداء للاستعمار والصهيونية، وينادي بالتحرر من الإمبريالية وتحرير فلسطين، بل يدعو إلى الوحدة العربية، خصوصاً إذا فعل ذلك من دون تحفظ ولا دراسة ولا تمهيد: «بدنا الوحدة باكر باكر.. مع هالأسمر عبد الناصر»، «لا دراسة ولا تدريس.. حتى يرجع الرئيس»، بلهجتنا المتنوعة بالطبع. ابتدأت الوطنية السورية في الواقع بالتشكّل في زمن الانتداب الفرنسي، وازدهرت في الخمسينيات مع الديمقراطية القصيرة العمر(أربع سنوات)؛ لكنها لم تتجذّر لدى السوريين إلا بفعل الاستبداد الأسدي الطويل، الذي وحّد السوريين ضمن «مظلومية» شاملة، ثم بفعل ثورتهم في ربيع 2011، حين التمعت أعينهم على ذكر اسم كلّ مدينة أو حيٍّ أو قرية تسهم في الحراك الشعبي الواسع النطاق، وذاقوا تفاحة معرفتهم بوطنهم وتفاصيله التي كانوا يجهلونها. في تلك الثورة، خصوصاً في عاميها الأولين، أزهرت الوطنية السورية، وأكملت نموها، لتصبح قدر السوريين الذين استقبله – معظمهم – بصدر مفتوح، وتنفسوا الصعداء كمن أزاح عن كاهله حملاً ثقيلاً مزمناً.
للوطنية وجوه ظاهرة ساحرة وأخرى خفيّة ماكرة، فهي هوية وانتماء إلى بلد ودولة وشعب، ومحبة وإخلاص.. في حين كان للطغيان الأسدي دور حاسم في نكراننا لها، وتهليلنا لقول جونسون عنها إنها»الملجأ الأخير للأنذال»، أو قول أوسكار وايلد إنها» فضيلة الأراذل»، بسبب الأذى الذي أحدثه إظهارها من قبل النظام، تعبيراً عن الولاء المطلق للسلطان، أو تكريساً لاعتبار أي انزياح عن الولاء للنظام خيانة وطنية. لكن وجود «هويات» سريعة الانفجار على مستويات متقاطعة أو متعامدة، كلها مؤهلة لتهوين قتل الآخر المختلف- كالطائفية والمذهبية والإثنية والقَبَلية والمناطقية – تفرض أن تتقدم الوطنية السورية إلى الواجهة، ويتحدد معناها ومفهومها، ليصبح الأساس الحاسم في الهوية، سابقاً على الهويات الأخرى، من دون أن ينفيها أو يجعلها حراماً ممنوعاً. سوريا الواقعية بلدٌ عجيب في فسيفسائه، ومن لا ينطلق من ذلك متكئاً على مفاهيم الأكثرية والأقلية سوف يغامر بسلامة جسم بلده لزمن طويل، قد يستغرق الكيان ويمتص تكامله، لذلك تأخذ الوطنية هنا وجهاً مختلفاً، يعتمد ويستند إلى التنوع والتعدد والاختلاف، بدلاً من أوهام الصبغة الواحدة، القاتلة بدورها أيضاً.
ولعلّ خاصية مفهوم الوطنية الأكثر أهمية في الحالة السورية، هي ما يحدّدها بأنها دفاعية، على عكس مفهوم القومية، الذي يتميز بتحديدها من حيث هي هجومية. ففي سوريا تشكّل الوطنية، بمعنى الانتماء والإخلاص إلى هذه الـ»سوريا» الواقعية، ملاذاً أخيراً لازماً بالضرورة، للدفاع عن الكيان؛ في حين أن تلك المبنية على أوهام التاريخ والجغرافيا والروح والأساطير، رغم جمالها، تهتم بمهاجمة «الآخر» أكثر من الاندماج معه، وهذا يشمل الطرفين معاً قبل أن ننسى الإشارة إلى ذلك. لكن ذلك المفهوم غير كافٍ بذاته بالطبع، ولا بدّ له من الاستناد ديالكتيكياً إلى دعامتين، تبدوان للوهلة الأولى والثانية متعارضتين تماماً: هما المواطنة المتساوية أولاً- وأساساً – كملاذ وطني، ومن ثَمّ تلبية حقوق الجماعات المكونة للوطن المعنيّ. في حالتنا السورية قلنا مثل ذلك في المعارضة منذ بداية ربيع دمشق، وطورناه في إعلان دمشق بالإجماع في بيان مجلسه الوطني 2007، وظهر كذلك في عهد القاهرة الوطني 2012، كما تطور أيضاً في اتفاقية الائتلاف الوطني السوري مع المجلس الوطني الكردي.. السوري أيضاً.
في ذلك الاتجاه هنالك نقطتان أكثر إلحاحاً من غيرهما في المسألة السورية، أو مسألة الوطنية السورية: أولاهما القضية الكردية وحساسيتها الكبرى، تفخيخاً أو تعزيزاً للوطنية المطروحة. فمن لا يواجه هذه القضية مباشرة، من أرضية وطنية دفاعية وسلمية، تنزع صاعق الأرضية القومية الهجومية بطبعتها الداخلية (ومعها القومية – الإسلامية بالتكافل والتماهي)، لا يمكن له أن يعيد تأسيس وطن، أو يؤسس دولة حديثة. وعليه فإن التسليم بأهون السبل، وهو سبيل الاحتكام إلى القانون الدولي، وإلى المادة الأولى في ميثاق الأمم المتحدة، والمادة الأولى في العهد الدولي للحقوق الاجتماعية والسياسية، وإلى العقل والمصلحة قبل أي شيء آخر، عن طريق الحوار والتفويض والتوسيط أيضاً.. يساعد على الخلاص السلس من الأخطار ذاتها التي يراها العرب السوريون – في شمال شرق سوريا خصوصاً – في أسوأ كوابيسهم.
المسألة الأخرى في هذا الحقل هي ثنائية السني – العلوي، وأحدهما قوي بأكثريته وتاريخ حكوماته القديم، والثاني بقوته وتاريخ حكوماته الحديث، ولكلٍ منهما أن يحتجّ – وعن حق- على تعبيرحكوماته. للأول مظلوميته المزعومة في العصر البعثي، بمظاهر طائفيته التي ينكرها وتفضحه، يخدش دقة تلك المظلومية عدم صفاء الفئة السائدة من دون أن ينفيها إطلاقاً، وللثاني مظلوميته المزعومة في العصر العثماني، يخدش دقتها غياب التوثيق حتى الآن، رغم مؤشراتها المتفرقة.
ولكل الهويات السورية من هذا الباب مظلوميةٌ تهبّ منها الأهواء، حين تَفتح العواصف أبوابها، ولكن؛ بعد الكارثة التي حلّت بالسوريين وتهدّد وجودهم ونوعهم، لا بدّ من المواجهة والمصارحة والاحتكام إلى قوانين العالم المعاصر، ومنها بنيان الدول على أساس الوطنية، بالمواطنة في الأساس، وتوفير ما أمكن من ضمانات الطمأنينة حتى لا يتكرر ما حدث. وهذه الأخيرة لا يمكن أن توجد بشكل حاسم، ولا تكتمل إلا بالحوار الصريح والتوصل إلى قبول الآخر شرطاً وجودياً ونهائياً. تلوح الآن علامات النهاية على رأس هرم الطغيان، وسيأخذ التغيير الجذري زمناً طويلاً نسبياً حتى يتحقق، وتصبح سوريا دولة وطنية ديمقراطية حديثة، تقوم على المواطنة وسيادة القانون وطمأنينة الأفراد والجماعات إلى حقوقهم، لذلك ربما تنبعث حالياً نقاشات الوطنية السورية، بشكل صحيح، ولا بدّ لهذه النقاشات أن تنضج، وتواجه إشكالات مقوماتها، لا الهروب إلى الدروب الجانبية لتكديس النقاط مسبقاً.. ذلك مع الإقرار بأهميتها التأسيسية لتنظيم القوى وتجميعها هنا وهناك، بل وتعيين اختلافاتها…
كاتب سوري
القدس العربي
———————————-
إعلان الوطنية السورية إذ يمحو الشعب/ إيلي عبدو
يمكن لإعلان الوطنية السورية الذي جرى تداوله على مواقع التواصل، وحظي بتوقيع عدد من الكتاب والمثقفين والمعارضين، أن ينطبق على أي بلد، وليس فقط سوريا. فالصياغات العامة، حول النظام الديومقراطي والعقد الاجتماعي والمساواة الحقوقية، والحرية الفردية، والمشاركة في الشأن العام والسلم الأهلي، تنفي أي تخصيص، وتجرد سوريا من تاريخيتها وتحيلها إلى نموذج، قابل لكل تجربة مهما افتقدت من حوامل وشروط ومناخات، أي تفصلها عن خيبات تأسيس دولة وطنية عقب الاستقلال، وعن نتائج السنوات العشر الأخيرة حتى لو جعل الإعلان هذه الأخيرة سبباً لتدبيجه.
وسوريا النموذج التي يريدها الإعلان، هي محتوى لإسقاط الصياغات الجاهزة، ومفرّغة من سكانها، إذ إن الإعلان (من غير الواضح من كتبه) يحيل الشعب إلى مفاهيم، مغفلاً الأوضاع التي بات عليها، حيث بلغ الوعي الجماعاتي أقصى حدوده، عقب صراعات بين العرب والأكراد والسنة وبقية الأقليات والأرياف والمدن، صرعات غلّفت بثنائية ثورة ونظام، واستندت على ذواكر تاريخية ومظلوميات متبادلة. تجاهل هذا التعقيد والردّ عليها بتدبيج صياغة عامة حول المواطنة، يجعل سوريا خالية من الناس، الذي يتطلب تواجدهم، بحث الأحوال التي باتوا عليها، وطرح مقاربات قانونية، تجيب على اجتماع معقد منهك بفعل حرب أهلية طاحنة، بدل استسهال العموميات.
يمحي الإعلان السوريين، عبر القفز عن واقعهم، وجعلهم أدوات تطبق صياغات ومفاهيم عامة يتم تكرارها في ورش المجتمع المدني التي تجري في كل أنحاء العالم، ضمن نمذجة عامة تتجنب التعيين ورصد التعقيدات والبناء عليها. ما يحوّل الوطنية، المراد تأسيسها، إلى فعل قسري يصهر البشر ضمن لعبة صياغات تستبدل “البعثية” بـ”الديمقراطية”، وإذا كانت الأولى، أي “البعثية”، مفرغة من مدلولاتها بحكم تركيبها التلفيقي القائم على الشعبوية، فإن الثانية، مفرغة من مدلولاتها بحكم إسقاطها على مجتمع يشهد حرباً أهلية وجماعاته مشحونة ضد بعضها البعض، ما يجعل الديموقراطية مصدر قلق عند الأقليات التي تخشى تحكم الأكثرية بها ويجعل ،”العلمانية” مثلاً مصدر قلق عند الأكثرية التي تخشى استغلالها من قبل الأقليات للوصول ثانية للحكم.
كل مفهوم أو صياغة وردت في الإعلان، سينظر إليها ضمن حسابات الجماعات وصراعاتها وخوفها من بعضها البعض، وليس انطلاقاً مما تحمل تلك المفاهيم والصياغات من إمكانية لتأسيس نظام سياسي جديد ونقل البلاد من الاستبداد إلى نقيضه.
ما يعني أن عناصر الإعلان، تحتاج إلى تطوير لتناسب الواقع السوري بدل أن تقفز عليه وتستريح إلى نموذج عام يفتقر إلى الآليات، والأخيرة ضرورية جداً لعدم ترك المفاهيم على تجريديتها، وإنزالها إلى تعقيدات الواقع وما ترتب عليه بفعل السنوات العشر الأخيرة. آلية تطبيق المفهوم أهم من المفهوم نفسه، إذ إنها تراعي الحساسيات وتنظر إلى تحولات الخريطة، وما طرأ على وعي الجماعات من تصورات لأحوالها، تخالف تلك التي يجزم الإعلان بوجودها ويعتبرها بديهية.
والإعلان الذي يغرق بالتعميم و بالصياغات، يذهب إلى التحديد مرتين، حين يؤكد أن “ينبغي رفض كلّ رسائل التطمين المبتذلة الموجَّهة إلى أيّ طائفةٍ أو قومية؛ لأنَّها تعبِّر في العمق عن منطلقٍ طائفيٍّ أو إثني في النظر إلى السوريين لا عن منطلقٍ وطنيٍّ، وأيضًا رفض انتظار بعض السوريين للرسائل المطمئِنة؛ لأنَّها تعني أنَّهم ينظرون إلى أنفسهم أنَّهم مواطنون هامشيّون”. وأيضا حين يشير إلى “إيجادُ حلٍّ ديمقراطيٍّ عادلٍ للقضيّة الكرديّة في إطار وحدة سوريّة أرضًا وشعبًا”.
هكذا يتبدى التحديد استكمالاًَ للتعميم في عملية محو الشعب خلف صياغات تسعى لإنتاج غيره، ينطبق مع النموذج المطروح. فالجماعات محرومة من التطمينات، وعليها الإكتفاء بوطنية عمومية متخيلة، والأكراد محرومون من تقرير مصيرهم ضمن شرطية وحدة سوريا. أي أن الوطنية التي يقترحها الإعلان لا تمحو الشعب السوري فقط بل تمنعه من تأسيس وطنية غير تلك المتخيلة والمصاغة. في الإعلان مفاهيم وكليشيهات، وطنية أساسها استقرار الجماعات وشعورها أنها غير مهددة.
الوطنية السورية لا تمر بنص ومجموعة تعليمات، بل بالتصالح مع تكويننا كمجتمع مفتت، وما آل إليه من صرعات وحروب، وإيجاد صيغ تصنع السلام، انطلاقاً من أسباب الحرب وما سبقها من مقدمات، ما يؤسس لاستقرار في أوضاع الجماعات، ويخلق هوامش للأفراد، بهذا ننفتح على إمكانية النموذج الذي يسعى الإعلان لإيصالنا له، أما الآن فإن، هذا الإعلان بما يحتوى من صياغات جاهزة وعموميات، هو وصفة لاستكمال الخراب الذي نعيشه، مع فارق أننا نردد كلاماً جميلا عن الديمقراطية والحقوق والمساواة خلال طريقنا إلى الهاوية.
درج
——————————————-
حوار حول “الوطنيّة السوريّة” المفهوم – المبدأ، الرؤية، الدلالات والضرورة السياسيّة
—————————————–
حول امكانية سوريا “الوطن” – هنادي زحلوط/ هنادي زحلوط
ربما تشكل هذه اللحظة بالنسبة للسوريين، أينما حلوا، لحظة تلاقي تاريخية حقا، فهم وعلى اختلاف انتماءاتهم وتوزعهم الجغرافي يحاولون أن يقوموا بمبادرات فعلية للمطالبة بحقوقهم، الحقوق التي لم يتمتع بها أحد منهم يوما.
وبينما أضاءت في السويداء منذ بداية شهر حزيران يونيو الجاري شمس التظاهر الشعبي لتعيد شعارات ثورة ألفين وأحد عشر، مطالبة برحيل النظام، وقد اكتوى سوريو الداخل بنار الغلاء، فإن سوريي الخارج اكتووا بنار لا تقل ايلاما هي الحنين لبلاد حرموا منها وأهل بقوا هناك، جرح لا يخففه سوى رؤية هذا الجيل الثاني من الثورة يمشي طريقا كنا قد بدأناها يوما ونرجو أن تكون خطوات أبنائنا وأهلنا هناك ثابتة أكثر من خطواتنا.
أما سوريو الخارج فقد نظموا أنفسهم بجهد مشكور لمحامين عاملين في الشأن العام، وبدؤوا بتحضير دعاويهم للمطالبة بحقوقهم كضحايا عنف، ومنها ما بدأ في ألمانيا، ومنها ما سيبدأ تباعا.
وليس صدفة أن تترافق هذه المطالبات في الداخل والخارج بوثائق هامة تصدر لتكون دالة على طريق السوريين، كان أبرزها هذا الشهر “اعلان الوطنية السورية”، وقد ضمت هذه الوثيقة القيمة معان وأفكارا لطالما سعى إليها السوريون وتوافقوا عليها.
وعلى عكس السنوات السابقة، يستطيع السوريون انتهاز هذه اللحظة التاريخية للتوافق وتنسيق جهودهم ضد فاسديهم وجلاديهم على السواء، بعد أن صرفوا سنوات وأهدروا وقتا ثمينا في نقاشات ومعارك جانبية أتت الآن إلى نهاياتها مع زبدة الكلام ومفيد القول.
منذ ألفين وأحد عشر، اختلفنا حول ضرورة الثورة، أو التظاهر، واختلف السوريون حول الشعارات، والخروج من الجوامع او الجامعات، وخضنا نقاشات لا نهائية في ضرورة العسكرة وإيجابياتها وسلبياتها، وتبادلنا اتهامات الخيانة والعمالة، وبينما انشغل قلة منا بتوثيق كل الانتهاكات الحاصلة على كل الجبهات وأبرزها جبهة النظام، كان غالبية السوريين مقموعين بشكل أو بآخر ومسلوبي الإرادة، بأيدي النظام أو بأيدي الدول الاقليمية والقوى العالمية.
استنزفتنا حملات التضامن والإغاثة، على ضرورتها، ورغم كل جهودنا لم نستطع بلسمة الجراح، لأن السكاكين كانت تعمل بطاقتها القصوى وتشحذ من دمنا النازف، نحن الضحايا!
لدى غالبية السوريين اليوم، داخلا وخارجا رغبة في التغيير علينا العمل على التقاطها، من نحن؟ نحن السوريين الذين دفعنا ثمن استلاب حقوقنا ولا نزال.
يرزح حوالي ٨٢ بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، هم سوريون من كل الطوائف والقوميات والانتماءات الطائفية والاثنية وشرائح المجتمع المختلفة، هنالك في أقصى حاضنة النظام من يشتمه ويسخر منه، ولطالما كانت هذه مؤشرات لتعبئة الناس باتجاه المطالبة بتغييره، هنالك من يعتبر أيضا أن هؤلاء الموالين مجرمون أيضا، وأنا أقول بأنه ليس من حق أحد مصادرة العدالة، وكما يتهم طرف الثورة الموالين بدعم نظام مجرم، فلربما يتهمنا طرف الموالاة أيضا بدعم داعش والنصرة وبكوننا مذنبين بذلك أيضا! فما رأيكم أن نتفق على ضرورة القصاص من المجرمين في كلا الطرفين ومحاكمتهم، وهل من سبيل أفضل إلى ذلك من تغيير النظام وإقامة سلطة قادرة على المسير في طريق العدالة؟
إن التغيير اليوم هو مصلحة مشتركة لكل السوريين على اختلاف انتماءاتهم، وإن كثيرا من سوريي الداخل راغبون في الخروج للتظاهر مطالبين بحقوقهم، وربما لا يتفقون تماما مع شعارات السويداء ويعتبرون أن من حقهم الخروج فقط للمطالبة بشروط حياة كريمة لهم ولأطفالهم، ولا أعتقد أن أحدا يمانع بذلك من السوريين، بل على العكس، علينا أن ندعم أي حراك حتى وإن كنا نعتبر سقفه منخفضا بالنسبة لنا، فنحن لا نعلم متى يعلو هذا السقف، ومن ناحية أخرى ان أي مطالبة بأي حقوق مهما كانت ستواجه بإنكار واستنكار ورفض من قبل النظام، لأنه قائم أساسا على الاستبداد والقمع وانكار أي حق للسوريين، وهذا ما يجب أن يزيد من وحدة السوريين ما يجعل أيضا من تصنيف واحد صائبا وثنائية واحدة: نظام/ شعب، جلاد/ ضحية، مجرم/ مطالب بالعدالة.
يعيش السوريون في الداخل معا، ويعانون سوية من الظروف ذاتها، لذلك أعتقد أن سوريي الداخل أقدر منا بحكم تجربتهم على أن يكونوا نواة لمجتمع سوري جديد يؤمن بالوطن والتعايش كما بالعدالة، فكثير من سوريي الخارج تطرفوا في انحيازهم وهم لا يلامون وحدهم في ذلك، أو تألموا لدرجة فقدوا الأمل بأي امكانية للتعايش، هؤلاء عليهم أن يؤمنوا بشكل أو بآخر بالوطن: سوريا، وبعدها سيكون كل شيء ممكنا.
ومن هنا تبرز أهمية “اعلان الوطنية السورية”، الذي قد لا يكون مثاليا، وربما يحتاج تطويرا أو تعديلا، لكنه يبني على فكرة الوطن، فكرة كان قد تم تشويهها، ليس فقط ببشاعة الانتهاكات، ولكن أيضا باجتراح مصطلحات تشوه سوريا أكثر مما تقدم لها، كالفيدرالية والاتحادية وغيرها، فهذه المبادرات أو الأفكار تفترض أن سوريا ليست واحدة وأنها تنقسم لمكونات وأن علينا إعادة تجميعها، وهذا ما يختلف معه كثير من السوريين المصرين على وحدة سوريا وطنا وشعبا، وفي الوقت ذاته، تنوع شعبه وخيراته ونقاط قوته.
سيكون من المفيد جدا اعادة تجميع القوى المؤمنة بقيم العدالة والكرامة للسوريين جميعا، ولن يقوم بذلك سوى سوريين لاقوا الأذى من كل الأطراف، يحلمون بالخلاص ويعملون له.
موقع نواة
—————————————–
“إعلان الوطنية السورية” بين الوطنية والقومية/ راتب شعبو
صدرت في الأيام الأخيرة وثيقة “إعلان الوطنية السورية” بتوقيع عدد لا بأس به من السوريين. تغلّب الوثيقة، كما يشير عنوانها، “الوطنية” على القومية. فيما يلي سنتناول فهمنا لمعنى هذا التغليب وقيمته السياسية.
لدينا في سورية، كما في كثير من “الدول الوطنية”، مشكلة مستعصية على الحل ناجمة عن التعارض بين النزوع الوطني، الذي يعني تغليب الانتماء إلى البلد الفعلي (سورية الحالية) الذي لم يختر حدوده أصلاً، وبين النزوع القومي الذي يعني ميل أبناء القوميات في البلد إلى التمتع بحقوق قومية كاملة ومن ضمنها تكوين دولتهم القومية. لا يوجد حل نهائي لهذه المشكلة. هناك خياران سياسيان متعارضان، لكل خيار وجاهته الخاصة، وينشأ تعارضهما من التعارض الدائم بين القبول والتأقلم مع الإطار الحالي بوصفه الإطار “الوطني” النهائي، وبين التطلع والعمل لإنجاز وحدة قومية أو كيان قومي. هناك منظوران: بين جعل مركز التفكير داخلياً ويُنظر إلى الخارج من خلاله، أو جعل الخارج مركزاً وموجهاً للنظر إلى الداخل والعمل فيه.
سوف يبقى هذا التعارض إشكالياً أي مصدراً لإنتاج المشاكل، ولا مجال للخروج النهائي من هذا التعارض. إذا تناولنا سورية كوطن نهائي لأبنائه، كما تذهب وثيقة إعلان الوطنية السورية، كيف ننكر على الكرد في سورية تطلعهم إلى تحقيق حلم الدولة القومية المجهض؟ وكيف ننكر على العرب السوريين ذلك أيضاً؟ لا يبدو لنا أن نبش التاريخ يقدم حلاً للمشكلة، كما لا تحلها التنظيرات الإنكارية مثل تلك التي ترى في الكرد السوريين قوماً وليس قومية، كمقدمة نظرية لإنكار الحقوق القومية الكردية في سورية. ولكن بالمقابل، كيف ننكر على السوريين من غير الكرد رفضهم تحويل “وطنهم” إلى منطلق لصراعات “قومية كردية” تتجاوز حدودهم وتثقل على وطنهم؟ وبالدرجة نفسها كيف ننكر على الكرد أن يروا في ما يستجره الانشغال السوري بالقضية الفلسطينية أمراً “قومياً عربياً” لا يعنيهم؟
بين حقوق قومية مقرة دولياً (حق تقرير المصير) وممنوعة دولياً بالدرجة نفسها (الاعتراف الدولي بالحدود السياسي للدول الأعضاء ورفض تغييرها بالقوة)، تطرح القضايا القومية في سورية (بشكل أساسي بين الكرد والعرب) مشاكل مستعصية.
حين يتوفر في البلد المتعدد القوميات توافق بين التوزع السكاني والتوزع الجغرافي، يمكن التخفيف من التعارض المذكور من خلال إيجاد كيانات قومية داخل “الوطن”، أي كيانات حكم ذاتي بدرجات مختلفة تندرج في الحكومة المركزية. التداخل السكاني في سورية يعيق هذا الحل أو يجعله منطلقاً لإشكالات جديدة.
هناك من سوف يعترض على اعتبار سورية بلد متعدد القوميات مؤكداً على عروبة البلد، لكن ماذا عن السوريين غير العرب؟ كيف يمكن حل إلحاقهم بقومية ليست قوميتهم؟ بكلام آخر: كيف يمكن بناء رابطة وطنية فعلية ومتينة بين السوريين إذا كان سيتم إلحاق الوطنية السورية بقومية أكانت قومية أغلبية أو أقلية؟
طوال تاريخ سورية كانت “وطنية” الدولة محل خلاف وتنازع. الحزب القومي العربي الذي حكم سورية منذ 1963، اجتهد في سحق التطلع القومي للكرد السوريين، وفي فعله هذا كان يسحق “الوطنية السورية” أيضاً وبنفس القدر. لم تكن الأنظمة السياسية السورية السابقة أكثر “ديموقراطية” مع حقوق الكرد، لذلك كان هناك على الدوام اعتلال وطني في سورية مرافق للاعتلال القومي، ويمكن القول إن مصدر الاعتلالين هو انشغال السلطة السياسية دائماً في ترسيخ “أبديتها” على حساب كل المبادئ الأخرى، أكانت قومية أو وطنية. على هذا، من المفهوم أن يجد أصحاب التطلعين الوطني والقومي نفسهم في مواجهة الاستبداد.
اليوم تمر سورية بأكثر مراحلها الوطنية ضعفاً، في ظل الاحتلالات وخطوات التقسيم الصريحة والتشتت السياسي ..الخ. ضمن هذه المعطيات صدرت وثيقة إعلان الوطنية السورية ولاقت قبول من عدد غير قليل من السوريين.
الإعلان يحدد خياراً أمام السوريين، هو خيار تغليب الوطنية السورية على النزوعات القومية. لا شك أن في هذا نوع من القسر الذي لا مهرب منه، ولكنه من وجهة نظر الوثيقة هو الخيار الأنسب لسورية بوصفها “بيتاً” للجميع. هذا لا يعني أن ما جاء به الإعلان يعكس حقائق “علمية”، فالسياسة خيارات، والإعلان يحدد خيار سياسي استراتيجي لسورية يحافظ على وحدة سورية وينطوي حكماً، بالتالي، على منع حق الإنفصال.
من المفهوم أن يكون هناك خيار آخر يتضمن خيار الإنفصال بوصفه أحد الحقوق القومية المعترف بها عالمياً. هذا الخيار له وجاهته من منظور يعلي شأن القومية على الوطنية. ومن المقهوم أن يكون للعروبي السوري خيار يميل إلى العمل الوحدوي العربي، وكذا الحال فيما يخص الكرد، أو أن يكون للإسلامي السوري خيار لا يتقبل فكرة “الدولة الوطنية”. دائماً كان في سورية مجال لوجود هذه الخيارات. يرى إعلان الوطنية السورية إلى نفسه على أنه الخيار الذي قد يلائم الجميع، من حيث احتواء التنوع ضمن الكيان الواحد، دون تغليب لون محدد من الألوان على الجامع الوطني، الذي يتسع ويحتفي، في الوقت نفسه، ببروز كل الألوان.
يمكن أن يثار نقاش حول السؤال: ومن قال إن الكرد يريدون الانفصال حتى يجري وضع خيارهم القومي في مواجهة الوطنية السورية؟ إذا كان الكرد لا يريدون الانفصال، وهم فعلا لا يرفعون هذا المطلب، فإنهم يطالبون بحقوق قومية منقوصة، وهذا لا يتعارض مع الإعلان. لكن المشكلة هي أن حق الانفصال يبقى، بشكل طبيعي، في وجدان الكرد، أو نسبة مهمة منهم على الأقل، كما أن في وجدانهم تشكيل دولة قومية لى أرض كردستان التاريخية. كما يبقى في وجدان السوريين العرب تطلع لا يموت إلى بناء الوحدة العربية. هذا أمر مفهوم بلا شك، ولكن وضعه ضمن استراتيجية سورية يفت في عضد الوطنية السورية. هذا يعني أن الوطينة السورية القابلة للحياة لا تستجيب لهذه النوازع وتنطوي بالتالي على إحباط أو قسر في وجه الخيارات البعيدة الأخرى.
هل يمكن تخفيف هذا القسر بأن يسمح لأصحاب النوازع القومية (أي من يغلبون نزوعهم القومي على الانتماء الوطني) بممارسة نشاطهم السياسي؟ بمعنى أن لا يتضمن الدستور منع النشاط السياسي الذي يتجاوز في أهدافه الوطنية السورية؟
في كل حال، ينبغي أن يكون في البال أنه لا يوجد في سورية حل نهائي للتعارض بين القومي والوطني، وأن الأمر هو خيار سياسي، وأن انتهاج خيار يعني مصادرة الخيارات الأخرى، ولكن المصادرة تتم هذه المرة بوعي وإرادة تحتاج إلى أغلبية وازنة من السوريين، أو إلى خيار جمعية تأسيسية منتخبة.
رغم أن الواقع السياسي الناجم عن صراع قوى خارجية هو ما رسم حدود سورية الواقعية، ورغم أن تجاوز هذا الواقع، تجاوباً مع تطلعات قومية أكانت عربية أو كردية، ليس في المتناول القريب ولا البعيد ربما، فإن الوطنية السورية هي الابتكار السوري الممكن. ابتكار رابطة وطنية واعية وديموقراطية تتوافق مع الواقع “المفروض”، يتفتح فيها القومي بالقدر الذي تسمح به الرابطة الوطنية، قد يشكل مخرجاً مقبولاً من التعارض بين القومي والوطني، وهو التعارض الذي يعيش في أحشاء سورية مثل ألم لا يهدأ إلا لكي يشتد.
العربي الجديد
—————————-
نقص النمو الوطني السوري/ حازم نهار
تعبير “نقص النمو الوطني” من التعابير التي أجدها مطابقة لتوصيف الحال السورية، طوال السنوات الماضية. لكن، لا أقصد، بالطبع، من استخدام تعبير مفهوم “الوطنية” في السياق هذا، المعنى القيمي الشائع، أي المعنى المضاد لـ “العمالة” أو “الخيانة الوطنية”، بل المعنى الذي يشير إلى العناصر الجامعة أو الموحِّدة لدى أي جماعة بشرية؛ مثل وجود “رأي عام”، “هوية مشتركة”، “دولة سياسية عمومية”، أو أي خطوط عامة متفقٍ عليها لدى الجماعة البشرية المعنية تتعلق بدور بلدها في التاريخ والجغرافيا، وآماله وتطلعاته إلى المستقبل… إلخ.
بهذه المعاني، كانت سورية بلدًا ناقص النمو الوطني، لما تتكون ملامحه بعد، ولم ينتج ما يُعتد به على مستوى زيادة وزنه الوطني طوال نصف القرن الفائت، وقد جاءت فرص مهمة للسير خطوات في طريق بناء الوطنية السورية، لكنها قُطعت أو أُنهيت. في السنة الأولى من الثورة كانت هناك إمكانية فعلًا، أو احتمال ما، لسير سورية والسوريين نحو الأمام وإعادة بناء الوطنية السورية، لكن هذا كانت له شروطه التي لم تتوافر، وعقباته التي لا يُستهان بها، وأهمها الطريقة التي استقبل فيها نظام الحكم سعيَ السوريين، بدءًا من آذار/ مارس 2011، لإعادة بناء بلدهم على أسس وطنية، راسخة وجديدة.
العنصر الرئيس المتحكِّم في أداء السوريين عمومًا، وفي المسار الذي وصلوا إليه اليوم، وفي طبيعة تعاطيهم مع الخارج، أو تعاطي الخارج معهم، هو عدم وجود أو تكون هوية وطنية خلال نصف القرن المنصرم، وهذا هو، فعلًا، ما راهن عليه نظام الحكم بصورة رئيسة لإفشال مساعيهم، قبل رهانه على احتمائه بروسيا وإيران وتدخلات الآخرين، وأكثر ما تجلّى غياب الوطنية السورية في عجزنا عن إنتاج نخبة سياسية ثقافية وطنية منظمة في سورية، تحمل على عاتقها جملة من المسؤوليات المركزية؛ تصدير خطاب سياسي وطني، الاتفاق على أساسيات العقد الاجتماعي الجديد، بناء علاقات خارجية على أساس المصلحة الوطنية السورية.
كان متوقعًا أن يؤدي نقص نمو الوطنية السورية، بالضرورة، إلى أمراض عديدة، تظهر بوضوح في مرحلة ما حول الولادة، أي في المرحلة التي تلي تعبيراتها الأولى، وهذه يمكن تحديد بدايتها بالاحتجاجات السلمية في آذار/ مارس 2011 التي كانت، في جوهرها، اعتراضًا على العقد الاجتماعي القائم، وما يرتبط به من نظام حكم، ومن نظم وقوانين موجودة، ومن علاقات سائدة، بين الدولة والمواطن، أو بين المواطنين أنفسهم، وغيرها.
يعني ذلك أنه عندما تقوم الثورات لتعلن بدايات جديدة، في بلدان لم “يكتمل” نموها الوطني، أو لديها نقص وزن تاريخي في الوطنية، أو لديها نقص مزمن في تشكّل الهوية الوطنية، بحكم الاستبداد الشمولي؛ فإنها ستصاب، حكمًا، بأمراض عديدة، متفاوتة الدرجة، وسيكون مصيرها التشظي والتوهان، سواء استطاعت إسقاط نظام الحكم أم لم تستطع، وسيستمر تشظيها إلى أمدٍ غير محدَّد، يتعلق من جهة أولى بقدرتها على إعادة إنتاج نخبة وطنية سياسية وثقافية جديدة ومنظمة، ومن جهة ثانية بوجود أحوال موضوعية، إقليمية ودولية، ملائمة لإعادة بناء شبكة المصالح الداخلية بين الكتل والجماعات المتنوعة. هذه الاحتمالات السيئة، وغيرها، موجودة وطبيعية ومتوقعة، وتشير بصورة رئيسة إلى تفسخ الدولة والمجتمع أصلًا؛ لأنه لا يُتوقع من الثورة في أي بلد لديه نقص في النمو الوطني أصلًا بفعل نظام الحكم الاستبدادي، أن تسير بسلاسة، بل ستكون الحصيلة هي التفسخ والتشظي، خصوصًا أن هذا النظام متغلغل في تفاصيل المجتمع أيضًا، لا الدولة فحسب.
كذلك، ستعيد الثورات، في مرحلة ما حول الولادة، في البلدان ناقصة النمو الوطني، طرح الأسئلة البديهية والأساسيات الخاصة بالاجتماع البشري وبناء الوطن والدولة على مائدة النقاش من جديد، وستستحضر الإشكالات الفكرية السياسية جميعها المرتبطة بإعادة البناء والتكوين؛ الهوية، الدين والإثنية، الدولة ونظام الحكم، العلاقات الخارجية… إلخ. وسيتداخل هذا النقاش ويتمفصل واقعيًا مع شبكة المصالح الداخلية والخارجية.
ما يعني بالضرورة أن نتيجة النقاش والحوار لن تكون محسومة، بصورة مؤكدة، في مثل هذه البلدان، لمصلحة الهوية الوطنية، بحكم تعدّد المدخلات والمؤثِّرين في مجريات الحوادث والحوار العام، بل قد يكون الانقسام والتشظي احتمالاتٍ ممكنة، خصوصًا إذا استمرّ غياب مركز سياسي وطني أو نخبة وطنية ثقافية سياسية متماسكة، تدرك مخاطر واحتمالات التذرر الجغرافي والبشري في بلدها.
وهذا يعني أن واقع التشظي والانقسام اليوم، ليس حصيلة الاستبداد الطويل ونظام الحكم القائم فحسب، فقد أسهمت قوى الواقع الراهن، بدرجة ما، في إنتاجه أو تعميقه، تلك التي حاولت التعامل مع المولود غير المكتمل، الوطنية السورية، بطريقة لا تتوافق مع أساسياته؛ تنكرت له ولم تعترف به، وأخذته إلى مسارات ازداد فيها تشوّهه واقترابه من حافة الموت لمصلحة ما هو أصغر أو أكبر، لكنه هو الآخر غير ناضج أو غير مكتمل، أو وهمي، أو فات أوانه، وغالبًا ما يكون ذلك على أساس إثني أو ديني أو طائفي.
تثبيت الوطنية السورية معركة مفتوحة، الحاسم فيها في المآل هو قدرتنا على إنتاج الدولة الوطنية الحديثة على أساس عقد اجتماعي جديد، وآنذاك يزداد احتمال تفتّحها وتبلورها، عبر التفاعل الاجتماعي الحر والمستمر، ما يجعلها أساسًا ديناميًا دائم التجديد.
المدن
———————-
إعلان الوطنية وإعلان الاستقلال وما بينهما/ ثائر الزعزوع
تبدو الساحة السورية الآن في أكثر مراحلها اضطراباً وفوضوية، الجميع ينتظر حدثاً، لكن لا أحد يستطيع أن يضع تصوراً لشكله أو ماهيته. حدث ما، استثنائي ربما، قد يغير معادلة «المجزرة» المستمرة، منذ تسع سنوات ونيّف، وينقلنا وينقل سوريا بأسرها معنا إلى مرحلة أخرى، يقول المختصّون إنّها ستكون سياسية بامتياز، ولذا فلم يكن مستغرباً أن تنشط بعض الدعوات السياسية المشتّتة هنا وهناك، والتي قد لا يجمعها جامع مشترك، سوى أنّها تريد أن تظهر على السطح في هذه الفوضى، وأن يكون لها «دور» أيّاً يكن حجمه، في مرحلة ترتيب الأوراق لاحقاً.
لن أستغرق وقتاً طويلاً، فيما أطلق عليه «إعلان الوحدة الكردي» والذي نجح، أخيراً، في جمع المتخاصمين الكرد على طاولة حوار، أفضت إلى بيان، ينبذ الخلافات جانباً، ويطوي سنوات من الخصومة السياسية، ليفتح صفحة جديدة، كما قيل، برعاية أو بإشراف أمريكي، قلت إني لن أستغرق طويلاً، لسببين: أولهما، أنّ الموضوع أشبع تحليلاً وتفنيداً، وكتب العشرات مقالات مستفيضة مدحاً وذماً، والسبب الثاني، أنّي حقيقة لست مطلعاً كفاية على أسباب خلافات الأحزاب الكردية.
لكن لعلي أرصد أكثر ما وصلني من بيانات أو مشاريع على بريدي الشخصي، وطلب مني أن أشارك فيها، بداية وصلني «بيان إلى الرأي العام» مصاغ بطريقة رديئة، وهو رد فعل على بيان الوحدة الكردية، وقد وقّع عليه العشرات وربما المئات، تملّص عدد من الموقعين، وأعلن أنّ اسمه قد زجّ به دون استشارته، وأنا أصدق المتبرئين، ولست في وارد تكذيبهم، كما فعل بعض المعلقين، لكن الملاحظة الأولى التي ذكرتها، والتي تتعلق بالصياغة الرديئة، تنسحب حقيقية على ما فيه من أفكار، لن أقول إنّها رديئة، لأنّ من حق أيّ كان أن يفكر بالطريقة التي يرى أنّها مناسبة، حتى وإن لم تعجبنا، لكن الموقّعين على البيان، ربما، لم يلاحظوا أنّهم يعترضون على شيء، قد يكون إيجابياً، وقد يفتح الطريق أمامهم ليفعلوا مثله، أقصد أن يبدؤوا بترتيب أوراقهم، والبحث عما يوحدهم، وأن ينبذوا خلافاتهم السياسية، ويشرعوا حقيقة في تأسيس كيان سياسي، له قيمة ثم يطرحوا أنفسهم على الملأ، كواحد من القوى السورية الفاعلة على الساحة، أما توقيع البيانات، فهو لا يقي من برد، و لا يشبع من جوع، وهو عمل استعراضي، إن صح القول، ولا يليق ببعض الأسماء التي لها وزن وقيمة، سياسياً وأكاديمياً.
االبيان الثاني، حمل عنواناً مختلفاً، وأكثر رومانسية، إذ أطلق عليه واضعوه تسمية «إعلان الوطنية السورية» ويتضمن، كما تتضمن البيانات والإعلانات عادة، مقدمة تشرح الأسباب التي أوجبت إعلان الوطنية السورية في هذا الوقت، متلاطم الأمواج، وما إلى هنالك من شروح عامة، عما آلت إليه الأوضاع السورية، ثم يأخذ «الإعلان» شكل النظام الداخلي لأحد الأحزاب، فهو يتدخل في شكل الدولة والسياسة العامة، ويفصل فيما يجب أن يكون وما يجب ألا يكون، مبتعداً كثيراً عن عنوانه الأصلي «إعلان الوطنية السورية»، وقد طلب من الناس التوقيع على «الإعلان» إن كانوا موافقين على ما يتضمنه.
والحقيقة أنّ أيّاً كان، لن يكون لديه اعتراض على الكلام العام، الإنشائي المذكور في البيان، فهو رومانسي جداً، ويأمل بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وكأنّ رمي سنوات الصراع والدمار من الذاكرة يجعلنا ننتقل، وبمجرد تبني ما ورد في الإعلان إلى دولة حديثة متطورة، ثم، وهذا مهم جداً، كما أرى، لم يعد الشارع السوري منساقاً إلى القوالب الجاهزة، وهو لن يقبل بالصيغ التقليدية، وهو الذي عاش ما عاشه من اندحار لمفاهيم الوطنية والمقاومة والصمود، وحتى مفهوم الوطن نفسه، صار بحاجة إلى إعادة تعريف، وإعادة قراءة. الاستقلال
المشروع الثالث الذي وصلني، والذي قد يبدو، للبعض، وللوهلة الأولى، فانتازياً، وقد يعتبره البعض الآخر، مزحة ثقيلة الظل، تطرح في هذا الوقت لتشتيت الرأي العام، هو بكل بساطة «إعلان استقلال الجزيرة»، وهو مشروع يضرب بعرض الحائط كل شعارات الوحدة الوطنية، ووحدة التراب السوري، التي ما انفك الجميع يرددها، وحتى أشدّ أعداء سوريا الذين أوصلوها إلى حافة الهاوية، فهم يعلنون في كل بياناتهم الصحفية، وخطاباتهم، أنّهم حريصون أشدّ الحرص على وحدة التراب السوري، لكنهم يعملون بكل ما أوتوا من قوة لزيادة تمزيق ذلك التراب، وتشريد من تبقى من ساكنيه.
إذاً، فإنّ إعلان استقلال الجزيرة يبدو كصدمة لمن سوف يطلع عليه، فأصحاب الإعلان، يعتبرون أنّ سكان الجزيرة لا يمكن أن يستمروا تابعين لسوريا، وهي التي استغلتهم واستغلت ثرواتهم على مدى عقود، ويحمل أصحاب البيان اتفاقيّة سايكس بيكو المسؤولية عن وضع سكان الجزيرة في حيّز جغرافي واحد مع سوريا، دون أن يستشاروا في مصيرهم. ورغم الصدمة التي قد يحدثها مثل هذا البيان، إلا أنّي أعتبره تفكيراً خارج الصندوق، وهو مغامرة سياسية، ربما لن يكتب لها النجاح، لكنها تقودنا إلى نمط مختلف من التفكير يبتعد عن نمطية الشعارات التي تربينا عليها. وقد نتمكن حقاً من توسيع آفاق تفكيرنا قليلاً، ورمي ما تعلمناه من شعارات إلى سلة مهملات التاريخ، فالشعارات لا تبني دولاً.
ختاماً، منذ سنوات التقيت كاتباً فرنسياً مشاكساً، قال لي وهو يضحك، أنتم تأتون إلى فرنسا، وأنا أكره هذا البلد كثيراً، لم تعد الحياة في فرنسا تناسبني، هذا بلد بليد و لم يعد يتطور. الاستقلال
ليفانت – ثائر الزعزوع
——————————————-
قانون قيصر والوطنية السورية/ كمال شاهين
محاولة لمقاربة تفكك “الوطنية السورية”، بناء على عوامل بنيوية اصيلة وبفعل ممارسات النظام القائم وما تفرضه الحروب والتدخلات الاقليمية والدولية من نتائج.
منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي وحتى اندلاع الحراك في سوريا العام 2011، ساهمت العقوبات الأميركية في تحقيق شكل من أشكال “الوطنية” والتضامن بين السوريين، روّجت لها السلطة على أنها “مقارعة للمؤامرات والمخططات المشبوهة على اﻷمة العربية وليس على سوريا فقط، وتجسيد لصحة النهج الوطني”، بغض النظر اﻵن عن كون هذا التضامن مفروضٌ على الناس ومنسوج على نول السلطة بشكل قمعي يحتكر كل أنواع الاجتماع.
في سياق تلك العقوبات، يأتي قانون قيصر الذي بدأ سريانه منتصف حزيران الحالي. إلا أنه يأتي هذه المرة في ظروف مختلفة كلياً على البلاد، سواء بداخلها أو في محيطها اﻹقليمي والدولي. يعني ذلك أن عدواناً جديداً كهذا سيكون له مفاعيل مختلفة، أبرزها انتقال الصراع السوري – السوري الى عتبات جديدة قد تؤدي إلى تقسيمٍ (ناعم) للبلاد في ظل غياب أي مشروع وطني جامعٍ للسوريين.
سياق الوطنية السورية
حتى اليوم، ما يزال مفهوم الوطنية السورية غائماً، يصعب وضعه ضمن منظومة محددة الملامح. ولا يتعلق اﻷمر بالمنتج الفكري (الديماغوجي) للبعث الذي وضع العروبة واﻹسلام والوطنية في بقجة واحدة، بل هو يرتبط بالممارسة اليومية في السياسة والاقتصاد وغيرها. ويمكن رؤية ما جرى في سنوات الحرب السورية الفائتة على أنه تجسيدٌ حيٌّ لهذا الضياع.
في إطارها المرجعي، وكما في كل مكان آخر، تضم الوطنية في سوريا تنويعة من الهويات الفرعية القائمة في المجتمع، وهذا ما يجعل واقعية وحياة الوطنية السورية واستقرارها منوطان بالتعددية في جانبها اﻷكثر ضرورة للحياة المشتركة.
لقد أثّرت بنية المجتمع السوري، المتناقضة على مستويات متعددة، أفقية وعمودية، حضرية وريفية، مدينية ودينية وطائفية وعشائرية وغيرها.. على مسار تشكّل الهوية الوطنية إذ تحوّلت إلى عناصر إعاقة بسبب استخدامها وتوظيفها من قبل السلطات الحاكمة التي مارست تخريباً ممنهجاً لعلاقات تاريخية مجتمعية واستبدلت تطوراً طبيعياً بآخر مشوّه مبنيٌّ على الولاء والبراء السياسي والديني.
يمكن للإنسان أن يحمل هويات متعددة (دينية أو قومية أو ثقافية أو مناطقية…الخ)، إلا أن المواطنة الفاعلة تتأسس في فضاء دولة جامع ومفتوح، يُفترض به تعريفاً ومبدئياً أن يقبل الآخر أياً تكن هويته.
بالمقابل، لم تستطع البنى المقدّمة كبدائل في الممارسة اليومية (تجربة المزارع الاشتراكية في السبعينيات وكذلك الحزب أو التنظيمات “الجماهيرية” المختلفة) أن تقنع الناس بالخروج من عباءات الجغرافيا والتاريخ. فقد كان تأثيرها ضعيفاً بحكم تشوهها اﻷصلي الناجم عن نقلها عن تجارب شعوب أخرى وتحوّلها في الممارسة إلى شكليات فارغة الجوهر أعادت إنتاج العلاقات القديمة بثوب جديد.
يرى بحث حديث حول سوريا (1) أن علة العلل في سوريا ما بعد الاستقلال هي تشتت “هوية” التيارات السياسية نتيجة اختلاف المرجعية الفكرية (المشروعة) واختلاطها بعلّة العشائرية والإثنية على أرض الواقع، وتَعارض مصالح البرجوازيات الجديدة الحاكمة والبرجوازية ذات الأصول الإقطاعية. وبالتالي فقد بقيت مسألة الهوية والانتماء الوطني موضوعاً للانقسام والتناحر بين الأحزاب السياسية، وهو ما لم يسمح بالاتفاق على قواعد إدارة العملية السياسية، وبناء مؤسسات دولة جميع المواطنين.
لقد استثمرت السلطات السورية في البنى اﻷولية للمجتمع، وساقتها بالاتجاه الذي ترغب به، وما تزال تفعل إلى اليوم، دون أن تقودها إلى الوطنية التي تحقق اﻹنتماء الفعلي (القانوني واﻹنساني). فقد بقي صراع الكتل الدمشقية ـ الحلبية على قيادة البلاد معلماً رئيسياً من معالم تشكيل الحكومات التالية للاستقلال، وكان استبعاد الريف (واﻷقليات) من صناعة القرار الوطني، بما في ذلك ما يتعلق بشؤونه اليومية (الزراعية والإنتاجية)، أحد اﻷسباب التي قادت إلى انفجارات متتالية آخرها عام 2011.
الوطنية في سنوات الجمر
يوجد اليوم في سوريا ثلاث إدارات سلطوية كُبرى (إن لم يكن أكثر) تعمل إلى حد كبيرٍ بالتضاد مع بعضها البعض، ولكل منها رؤيتها لسوريا الحالية والمستقبلية، ولكلّ منها “وطنيتها” وأسبابها التي تزاود بها في علاقتها مع الآخرين.
تفككت “شرعية” السلطة المركزية بعد تفكك شرعيات مؤسسات الدولة وفقدان ثقة الناس بها وباعتماديتها، ليس في المناطق الواقعة خارج سيطرتها، حيث تم تدمير كثير من مؤسسات الدولة بقصدية واضحة (صوامع الحبوب مثالاً)، بل في مناطق سيطرتها، حيث تفشى الفساد والاعتقال العشوائي والنهب المنّظم والابتزاز والتعفيش والسرقة، مع تنامٍ كبير لسلطة الميليشيات العسكرية..
وفي المناطق، تراجعت فيها قدرة مؤسسات الدولة على تلبية احتياجات السكان اليومية، في ظل تقطع شرايين البلاد الاقتصادية والمعارك الطاحنة على امتداد 60 في المئة على الاقل من البلاد، خاصة بعد نزوح ملايين المهجرين باتجاه مناطقها (مما تقّدره مصادر أممية ب80 في المئة من السكّان)، مترافقةً مع ارتفاع كبير في أعداد ضحايا الحرب، والشباب أولّهم جراء استنزافهم على مدار عقد كامل من قبل المؤسسة العسكرية وميليشياتها، مع ما يشير ذلك اليه من تسارع في الفقد السكاني ﻷهم شريحة منتجة في المجتمع، وازدياد انتشار شرائح أكثر اعتماداً على اﻹعانات ودعم الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني (غير المعترف بعملها رسمياً) على حساب كثير من مؤسسات الدولة التي أصبحت شبه خاوية من الموظفين والمنتجين.
هياكل محلية جديدة: مؤقتة أم دائمة؟
إلى جانب فقدان السوريين ثقتهم بالدولة وشرعية مؤسساتها، أتاحت اﻷزمة الطاحنة منذ 2011 ظهور عدد كبير من هياكل السلطات المحلية في مختلف المناطق، بما في ذلك مناطق سيطرة الحكومة، قدّمت نفسها على أنها بديل (شرعي ووطني) للمؤسسات السابقة الموسومة بالفساد وشبكاته. ومع مرور الوقت، أصبحت سلطةٌ يوميةٌ حاضرة وفاعلة، ومتجّذرةٌ في بيئتها بحكم فراغ السلطة المركزية من جانب، وبحكم كونها بديلاً أكثر تماساً مع حاجة الناس.
كانت التجربة اﻷكثر وضوحاً لظهور مؤسسات وهياكل بديلة للدولة، تجربة اﻹدارة الذاتية لشرق وشمال سوريا، حيث طبّقت نموذجاً مختلفاً تماماً عن نموذج الدولة السورية التاريخي (الاشتراكي ـ المركزي) وأعادت هيكلة المؤسسات في منطقة واسعة تشمل ثلاثاً من أغنى المحافظات السورية بالموارد، الحسكة والرقة وشمال حلب، ودمجتها في نظام فيدرالي واسع الصلاحيات ضمن كيان يُدار من قبل مجلس أعيان مشترك القوميات. كما شكّلت نوعاً من اﻹدارة لموارد ومكوّنات المنطقة، يختلف كلياً عن التوجه المركزي السابق الذي شاب إدارته اﻹهمال والفساد لسنوات طويلة. وهذا خلق نموذجاً استطاع الحياة عبر سنوات الحرب بمعزل عن الخسائر في البنية التحتية، دون نسيان أن الاحتلال التركي، لمساحات واسعة من المنطقة والعمليات العسكرية المتتالية منذ العام 2016 على تلك المناطق، تسبب في وقوع تحولات كثيرة في بنية تلك التجربة. وصحيح أن تلك التجربة ما كان لها أن تستمر في الحياة لولا الدعم اﻷميركي وتوفير نوع من الغطاء اﻷمني لها، في ظل صراعات مستعرة بالقرب منها، ورفض لها من قبل الحكومة المركزية التي رأت فيها انقلاباً على شرعيتها من جانب، وانقلاباً على نموذجها في إدارة البلاد عبر المركزية المفرطة.
كانت العلاقة مع دمشق واحدةً من المسائل الرئيسية في دعوة الإدارة الذاتية إلى تشكيل مفهوم جديد للوطنية في الدولة القادمة، مبني على تصوّر مختلف عن التصور القومي العربي البعثي المنشأ، يتمثل في الاعتراف المطلوب بوجود قوميات أخرى (ليس الكُرد وحدهم) ولغات أخرى (السريانية والكُردية وغيرها)، وثقافات أخرى. حتى أن بعضاً من هذه العناصر تقع خارج المنظومة الإسلامية الرسمية (اليزيدية مثلاً)، وهو ما تمّ تظهيره في تلك التجربة، على الرغم من وجود بعض التطلعات القومية الكُردية نحو الانفصال.
التحدي الثاني للوطنية السورية بمعناها القومي ـ البعثي جاء من مناطق سيطرة المعارضة المسلحة على مناطق شمال وغرب البلاد (إدلب والباب وتل أبيض وغيرها)، حيث تمت تنحية الوطنية السورية لصالح عصبيات ما قبل وطنية، إسلامية بالدرجة اﻷولى، تقبل الاحتلال التركي وتدافع عنه وتتعامل معه بالضد من بقية الهويات اﻷخرى. يتضح ذلك في عملية إسكان مهجّري ريف حمص والقلمون في مدينة عفرين ذات الغالبية الكردية، ومشاركة مقاتلي المعارضة المسلحة في عمليات الجيش التركي ضد “قوات سوريا الديمقراطية” واعتبارها إرهابيةً وفق التصور التركي، وكذلك عملياتها ضد الجيش السوري في مناطق مختلفة.
أحد أوضح خسارات الوطنية السورية جاء من قبول سكان تلك المناطق التدابير التركية في استبدال العملة الوطنية بالليرة التركية (وهو ما يجري على قدم وساق هناك)، سبقها، التأسيس لبنية تحتية مرتبطة بالدولة التركية من الاتصالات والتعليم والطرقات والشؤون المدنية والاقتصادية، وهو ما يؤشر إلى وقوع قطيعة مع المتحد السوري المعرّف بحدود سايكس بيكو. وهذا يقود إلى سهولة تحقق التقسيم الناعم في قادم الوقت، بخروج مناطق واسعة من البلاد من إمكانية الدخول في الحل السياسي.
قصف البلاد ومعاركها
ظهر الخلاف بشكل حاد في كثير من الأحداث، بدءً من أسماء الأسابيع (الثورية) وصولاً إلى الضربات اﻷمريكية واﻹسرائيلية والروسية في البلاد.
على سبيل المثال، وإثر تناقل تقارير عن تجدد استخدام الأسلحة الكيميائية في غوطة دمشق (7 نيسان/ابريل 2018) من قبل قوات الحكومة، تعرّضت البلاد إلى عدة ضربات جوية ـ أمريكية – بريطانية – فرنسية، بموافقة روسية، وهو ما خلق استقطاباً حادّاً بين السوريين داخل وخارج البلاد، وحتى داخل الصف الواحد، موالاةً ومعارضةً، بين مؤيّد للضربات ورافض لها، ولكل منهم أسبابه المُفزعة بالنظر إلى كونهم جميعاً سوريين! وتُظْهر هذه اﻵراء الشرخ الكبير لنسيج الاجتماع السوري، وتحلّل مفاهيم الانتماء والشرعية والسيادة الخ.
في السياق نفسه، تشير المعارك المستمرة في مناطق إدلب وريفها إلى معضلة وطنية أخرى أشدّ التباساً. فهناك جيشٌ وطني كما يُفترض (تدعمه روسيا بحدود معينة) يقاتل القوات التركية التي تعضدها قواتٌ سوريةٌ معارضة (إسلامية الطابع). وهناك اليوم من يستميت بالدفاع عن الوجود التركي في مناطق إدلب وريف حلب، ولا يعتبره احتلالاً مثلما يعتبر الروسي واﻹيراني واﻷميركي. وهناك من يرى أن الوجود الروسي منع انهيار الدولة السورية، دون أن يعتبره احتلالاً، وكل هذا يشير إلى حجم تجاذبات وصراعات “الوطنية السورية” واصطفافاتها في قلب الصراعات اﻹقليمية والدولية.
نموذج آخر تختلط فيه “الوطنية” مع الوضع اﻹقليمي والدولي، يظهرمع الضربات الجوية اﻹسرائيلية على مواقع القوات اﻹيرانية في البلاد، وآخرها ما حدث في السويداء ودير الزور. ولكثير من السوريين (بمن فيهم موالو النظام)، فإن الوجود اﻹيراني في البلاد أصبح عبئاً، ليس بسبب الضربات اﻹسرائيلية فقط، بل وبسبب ما فعلته القوات اﻹيرانية في سياق الحرب السورية من إشعال للنيران الطائفية (ومثلها فعلت قوات المعارضة). وإذا كان بعضهم (موالاة ومعارضة) يفهم الوجود الروسي ويتقبله (مؤقّتاً على الاقل) كبوابة للحل السياسي، فإنه من غير المقبول مثلاً أن تتدخل إيران في صياغة المناهج التعليمية السورية و”تحديثها”! وتصبح علاقة التبعية بين دمشق وطهران مرفوضة من قبل سوريين يرون في علمانية ومدنية مستقبل بلدهم شرطاً أساسياً للدخول في حل سياسي. ويتوافق في هذا اﻷمر بقايا التيارات العلمانية والقومية وحتى اﻹسلامية.
إلى جانب ما سبق، هناك قضايا لا تقل أهمية جعلت من الوطنية السورية موضع سؤال وشك، فالتعامل مع قضية المهجّرين والنازحين غلبت عليه الحسابات السياسية دون الوطنية من جانب النظام، تجّلت في توجيه النازحين إلى مناطق محددة، وبالمقابل تم استخدام المهجّرين في تغيير ديموغرافية مناطق الشمال السوري، وهو اﻷمر نفسه الذي جرى لبعض المكونات العربية في مناطق الإدارة الذاتية. هذا لو تركنا جانباً المقولة الاستعمارية الموطنة محلياً كرد فعل على النزوح الواسع للسوريين الى خارج البلاد، والتي اشارت الى وجود “سوريا نافعة” (هي الموالية) واخرى التخلص منها يجري بلا أسف!
قانون قيصر
بقدر ما يبدو أنّ “قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين” ـ اسمه الرسمي ـ موجّهٌ ضد دمشق، إلا أنه موجّه بالوقت نفسه ضد روسيا وإيران، ويصب دون شك في مصلحة إسرائيل التي تشارك بفاعلية في صياغة التوازنات المحيطة بدمشق وأطراف الصراع السوري اﻷخرى. يشترط القانون في أحد أبرز بنوده خروج إيران من الأراضي السورية، وهو الطلب المتفق عليه عربياً وأميركياً وأوروبياً وإسرائيلياً، مع الانتقال إلى عملية سياسية سوريّة منبثقة من القرار 2254، وما يقتضيه ذلك من تغييرات في قلب تكوين النظام السوري. وﻷن هذا الأمر يخضع لصراعات القوى اﻹقليمية والدولية وتوازناتها، يُستبعد أن تنفذه دمشق.
كان هناك ترحيبٌ من شخصيات المعارضة البارزة بالقانون باعتباره نتاج نضالهم (الوطني!)، وهي كذبة أنتجوها وصدقوها، وهم من كان يطالب بالتدخل الخارجي منذ سنوات، ويدركون تماماً أن القانون إياه ناتج عن الاستخدام السياسي للمأساة السورية في أسوأ صورها، ويعرفون تماماً ـ مثلهم مثل النظام ـ أن استجابة دمشق للشروط الموضوعة من قبل واشنطن سوف لن توقف تنفيذ القانون، وأن المطلوب استمرار إنهاك البلاد ووصول ما بقي منها إلى ما وصل إليه العراق بعد أكثر من ربع قرن على حصاره، وتنفيذ “قانون النفط مقابل الغذاء”.
ترافق بدء تطبيق قيصر مع اتفاق كُردي ـ كُردي (أوّلي) يُفترض أنه طوى صفحة خلاف تاريخية بين “المجلس الوطني الكُردي” وأحزاب “الوحدة الوطنية الكُردية” (25 حزباً) بدعم وتنسيق أميركي، على الضد من الرغبة التركية. كان اللافت في الاتفاق قوله أنه “تمهيدٌ لاتفاقات تضم مختلف القوى السياسية السورية بغض النظر عن انتمائها القومي” ـ حسب نص الاتفاق ـ وهو ما يبدو “إيجابياً”، لولا أن هناك تصريحات أميركية تقول بعدم تطبيق قانون قيصر في الشمال السوري (وهو ادّعاء يكّذبه وضع الليرة السورية هناك)، وهو ما يعني صبّ مزيد من الشقاق بين السوريين (مولاةً ومعارضة) في وجه الكُرد، والتسبب بمزيد من الاشتعال في منطقة مشتعلة أصلاً. كل ذلك يجعل من التقسيم أمراً واقعاً في ظل الحديث عن اللامركزية والكونفدرالية وغيرها.
على جانب دمشق، فإن القانون الذي يقيّد حركة كل نشاط مالي، تسبب قبل بدء سريانه بتدهور اقتصادي غير مسبوق، جعل من الواقع المعيشي للسوريين المنكوبين بالحرب (وتوقف النشاط الاقتصادي بسبب جائحة كورونا)، نكبةً مضافة. فلم ترتفع أسعار السلع فقط، بل اختفى قسم منها (400 صنف دوائي)، وبدأ الناس يحجزون صباحاتهم ﻷجل ربطة خبز واحدة، وﻷجل تأمين قوت يومهم بعد فقدان الليرة لحوالي 70 في المئة من قيمتها.
وعلى الرغم من هذا التسارع في تدهور الاقتصاد (والسياسة)، فإن حكومة دمشق وجدتها فرصة لدعوة السوريين إلى مزيد من الصمود والصبر والوقفات التضامنية ضد قانون قيصر، وكأن ما خبروه في السنوات الفائتة لم يكن صموداً! تصريحات مسؤوليهم المنفصلين عن الواقع إلى درجة الدعوة إلى انتخابات لمجلس الشعب ظهر فيها اختراعٌ ديمقراطي جديد اسمه “الاستئناس” سيأتي بالمنتفعين والفاسدين من جديد إلى قبة المجلس. هو استمرار للسياسات القديمة في التعامل مع الواقع الجديد، سواء عند إجبار الموظفين على الخروج اﻹجباري إلى الوقفات التضامنية تلك، أو في الزخ اﻹعلامي الذي يتغنى بصمود من ليس في يدهم أي خيار سوى محاولة الحياة.
يمكن القول، إن “الوطنية السورية” في حالها الراهن، هي في أسوأ وضع لها منذ الاستقلال، وأنها قد تودي بوجود الكيان السوري بشكل لا رجعة فيه. ويشير لقاء روسي جرى مؤخراً مع شخصيات علوية معارضة إلى أن اﻷمر ليس مجرد تخمين، بقدر ما بدأ يتحول إلى سياسات دولية معلنة، ولنا في العراق “أسوةٌ حسنة”.
______________
1-خلود الزغيّر، “سورية الدولة والهوية: قراءة حول مفاهيم الأمّة والقومية والدولة الوطنية في الوعي السياسي السوري” ( 1946-1963)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ، 2020 بيروت.
السفير العربي
———————————
جديد المبادرات السورية… مؤشرات دولية إلى التغيير/ عمار ديوب
لم يهنأ النظام في سورية بإعلان انتصاره على الشعب، وهو الذي كرّر أنها أزمة، وانتهت “خلصت” منذ العام 2011. أرسل الروس أخيرا مندوباً سامياً، ليحدّدوا له المسموح والممنوع في السياسات العامة الدولة السورية. لم يُسلِّم هو الراية كاملة للروس بعد، فيرسل ممانعته البائسة عبر لقاءاته مع الإيرانيين. يردّ الروس، وبمختلف الطرق، ويفهمونه أنهم هم فقط من أنقذوه من سقوط وشيك 2015، وهم من يحميه ومنذ 2011، وأن الخيار الوحيد المسموح له حالياً هو فك كل علاقة مع الإيرانيين. إفهامه ذلك يتم عبر تشكيل فصائل جديدة تابعة للروس، وإطلاق يد إسرائيل بقصف أية مواقعٍ إيرانيّة ترغب بشطبها، وحتى قانون قيصر، لم ترفضه روسيا بشكلٍ حقيقيٍّ، بل وأطلقت مواقف “محبّذة له”، حينما طُبِّقَ، وأن هناك مفاوضات جديدة وجديّة مع الأميركان. رافق ذلك، لقاءات تمّت من الرئيس الأسبق لائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، معاذ الخطيب، ومجموعة مثقفين، يُعرِّفون أنفسهم بالوطنية وبالهوية العلوية، وهناك لقاءات كثيرة سريّة، تجريها روسيا. إذاً لم يعد لدى النظام سبب حقيقيّ لإعلان الانتصار، فالمنتصر يكون مستقلاً، وطنيّاً بامتياز، بينما النظام، كلما يستعيد منطقة، يصبح أكثر ضعفاً إزاء الروس، بل والإيرانيين أيضا، وكذلك إزاء قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والفصائل التابعة للأتراك، بل وحتى أحمد العودة أصبح قائداً عسكرياً في درعا، وتابعاً للروس.
في الساحة السورية، ظهر أخيرا فاعلٌ جديد، وهو “انشقاق” رامي مخلوف، وهو الموصوف بأنه رجل أعمال، وملاحقته قانونياً عبر أجهزة السلطة، وحماية الروس له، كما يرشح من أخبارٍ، وهذا يشير إلى تفككٍ عميق في بنية السلطة. ونضيف، أن البدء بتطبيق قانون قيصر، ووجود تململ روسي واسع إزاء تصلّب السلطة وعدم ملاحقتها شبكات الفساد، رافقته مواقف معارضة متعدّدة، ومتباينة جديدة، والمشكلة في تباينها الكبير، ولكن ومع ذلك، توضح أن لديها تلمّساً كبيراً إلى تغييرٍ قادم في الموضوع السوري، وسيشرك النظام والمعارضة، وسيشطب أقساما منها.
ظهرت عدة مبادرات وبيانات وإعلانات. أهمها إعلان الوطنية السورية، وهناك عدة بيانات، من شخصياتٍ مثقفة ومعارضة، تتبنّى رفض كل أشكال الاستئثار في شرق سورية، وأن تلك المنطقة يجب أن تمثلها هيئات سياسية من كل قومياتها، وبعيداً عن روح الاحتراب الذي له ألف سببٍ وسبب. إضافة إلى ذلك، وربما الأصل به، بروز تفاهمات، لم تنته بعد، بين الاتحاد الديمقراطي (الكردي) والتيار الكردي السوري الأقرب إلى مسعود البرزاني، والتنسيق مع قوى كردية أخرى، وبعيداً عن القوى العربية، وهذا ما أثار تخوفاً وحذراً، فكانت البيانات المتعدّدة، وكلّها تؤكد ضرورة إيقاف اشكال الصراع هناك، وتمثيل المنطقة الشرقية. تتوخّى البيانات والمبادرات تمثيل شرق سورية، ورفض أي استئثار بها من النظام أو “قسد” أو تحالف القوى الكردية، أو القوى العربية. هذا يعني أن هناك محاولات لصياغة رؤى سورية جديدة، كردية أو عربية أو سريانية، وسواها، وتستهدف رفع كل غبن تاريخي على إحدى القوميات أو حتى القبائل أو مدن شرق سورية.
المبادرات الجديدة ونقاش في الوطنية
المبادرات السورية هذه، لن تنتقدها هذه المطالعة بشكل مفصل هنا، وستركز على أفكار عامة نحوها. تفتقد المبادرة الكردية إلى البعد الوطني، حيث تقتصر على أكثرية القوى الكردية، وهذا يُضعف من قيمتها ويثير تخوفاتٍ كبيرة منها، سيما أنها تتم تحت الرعاية الأميركية أولاً، والفرنسية ثانياً. الرعاية تلك، وسرّية المفاوضات، تؤكدان ما ذكرت، وبالتالي تعمّق الانقسام العربي الكردي، أو بين قوميات شرق سورية، وهذا لا يقدّم أية رسائل اطمئنان للآخر، والأسوأ أن جهة كردية من المتحاورين الكرد ممثلة في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وبالتالي كان عليها رفض كل سريّةٍ للمفاوضات، وثانياً اشتراط التفاوض بحضور مراقبين من الائتلاف الوطني، وليسوا كرداً.
ردّت أطراف عربية ببيانات، تؤكّد على التخوف من الحوارات الكردية، وتعلن صفتها العربية، فقد سمّت نفسها “التحالف العربي الديموقراطي”، وبهدف تمثيل أبناء المنطقة الشرقية. وإذا نرفض كردية المفاوضات، فبالتأكيد نرفض هنا محلية أو إقليمية روح التحالف، حيث يمثل المنطقة الشرقية! وكذلك يتقصد مخاطبة “المجتمع الدولي” وكأنّه جهة سياسية مستقلة بذاتها، ويمثل منطقة مستقلة عن سورية، أو في سورية. هناك بيانات أخرى، تتحرّك في الإطار ذاته. لا يفيد هنا شيئاً القول إن المفاوضات الكردية من أجل موقف كردي موحد، أو أن يقول التحالف إنه يبتغي تمثيل مصالح الجزيرة العربية المغبونة تاريخياً، والتي تتعرّض لمخاطر شديدة من الأميركان والأتراك وروسيا والإيرانيين. المشكلة هنا أن “المهاترات” الكردية العربية تصمت عن تبعيتها للخارج، وتكفر السوري المغاير، الكردي أو العربي. وبالتالي، لا تلمس المبادرات أعلاه المؤشرات الدولية نحو التغيير، وتتحرّك كأدواتٍ سياسية وكأورق قوة لصالح هذه الدولة أو تلك، بينما كان يجب أن تتلمس إشكاليات الهوية الوطنية، والتي تتفاقم منذ أن تسلمت المعارضة والقوى السياسية، العربية والكردية، صدارة تمثيل الصراع في سورية في 2011، وكذلك أشكل النظام الوضع بأكمله، والذي يطيل أمده عبر ذلك.
شكل “إعلان الوطنية السورية” محاولة جادّة لتلمس مشكلات الهوية السورية المنقسمة، وإذ أغمض العين عن تحليل تلك المشكلات أو إشكالية التاريخ المُشكّل استعمارياً لسورية وكل البلاد العربية، فقد ركز انتباهه نحو المستقبل. الإعلان بذلك، يقدّم نفسه إعلانا سياسيّا بامتياز، ويبتغي الترفع عن تلك المشكلات، وتجميع السوريين، المنقسمين بشدّة، وتشكيل قوة سياسية وطنية. هدفه ذاك دفع أصحابه إلى صياغة إعلانهم بلغة تقريرية، كما يشير علي العبدالله في مقاله في “العربي الجديد” والمعنون “إعلان الوطنية السورية .. قراءة نقدية”، وفيه انتقادات مهمة. وكذلك حاول راتب شعبو التطرق إلى الموضوع عينه في مقال في “العربي الجديد” أيضا، بعنوان “إعلان الوطنية السورية بين الوطنية والقومية”، وهناك نقاشات عديدة على وسائل التواصل الاجتماعي، تتناول الإعلان الذي لم يقدم جديداً يذكر، والأسوأ أنه أهمل قضايا إشكالية في سورية، حيث لم يتصدّ لقضية العلاقة بين العرب وسورية؟ وانتماء الأكثرية السورية للعرب، وكذلك، لم يولِ انتباهاً هاماً لمسألة إسرائيل، ولم يسمّها بالاسم، كيانا عنصريا يحتل الجولان ومناطق عربية عديدة، ويرفض إنصاف الفلسطينيين، وهناك احتلال تركيا أراضي سورية. وضمن ذلك، لم يتصدّ الإعلان، وهو المنشغل بكيفية تشكيل الدولة السورية مستقبلاً، لقضية الاحتلالات، حيث تُجمع أغلبية التحليلات على أن روسيا ستُعطى سورية في أيّة تسويةٍ مع أميركا والدول المتدخلة في سورية.
يحاول الإعلان جاهداً ربط الوطنية بالمواطنة، وكأنّ الأولى هي الثانية والثانية هي الأولى. ولهذا يساوي الوطنية بـ”المساواة الحقوقية، والحرية الفردية، والمشاركة في الشأن العام وحياة الدولة.” وروح الإعلان تتحرّك ضمن هذا الحيز. يمكن أن نتفهم ذلك، نظراً إلى التتفيه المبالغ فيه من النظام للمسألة الوطنية، واعتبارها ضد الخارج، ورفض الحقوق السياسية للسوريين. وقع الإعلان في الإشكال ذاته، فتجاهل الخارج، وركّز جلَّ أهدافه ومنطق رؤاه على الداخل. المشكلة هنا أن الخارج لا يمكن تجاهله، والداخل لا يقوم بذاته، وإذا كانت الإعلان يركّز على البعد الوطني للسوريين، وهو محق بذلك، وأن كل مشروع للتغير الوطني الديمقراطي يجب أن يكون بيد السوريين، فإن عدم مناقشة انتماء أغلبية السوريين للعرب، وأن إسرائيل هي من يحتل أراضينا وفلسطين، يعتبر خطأ، وهذا يفترض تصويبه، سيما وأن الإعلان يقدم ذاته، “صيغة متجدِّدة، ومنفتحة على التطور”.
إذاً، هناك ضرورة للنقاش الجاد والدقيق فيما يخص الهوية الوطنية، حاول الكاتب موفق نيربية تلمسه في مقاله “حول ضرورة الوطنية السورية وصعوباتها”، في صحيفة القدس العربي، فركز على قضيتين صراعيتين: العرب والكرد، والإشكال السني والعلوي. إذاً، ورغم أهمية اللحظة الراهنة، وضرورة ملاقاتها، فإن الضرورة ذاتها تستدعي عدم الاكتفاء بإعلان المبادئ، وبالتالي مناقشة مشكلات الواقع، وكيفية النهوض بسورية، المنقسمة وطنياً، والمحتلة خارجياً، والمثقلة بصراعاتٍ تكاد تتجاوز العقد، وفيها مشكلات في غاية التأزم، وتتجاوز المشكلتين أعلاه، لتشمل المجتمع بكل مستوياته. الإعلان بصيغته التقريرية وفقاً للعبدالله، والبيانات أعلاه، تبيّن أنها لم تستجب جيّداً للحالة الراهنة، وتحرّكت ضمن إطار مفاقمة المشكلات، بدلاً من العمل من أجل تجازوها.
القراءات الثلاث للإعلان، أو للمسألة الوطنية، تلمست بعض أوجه مشكلات سورية الوطنية، ولكن هناك قضايا إضافية: أولاً، يجب الربط المحكم بين وجهي الوطنية، فهي تتحدّد بالمواطنة داخلياً، وبكل حقوق الأفراد والمساواة والمشاركة السياسية وللجميع، وللقوميات المختلفة. وخارجياً، هناك الوجه الوطني، وهذا يستدعي رفضاً كليّاً للاحتلالات القديمة والجديدة، وكذلك رفض استمرار الدولة الصهيونية. وينطلق هذا الرفض من أنها قضية عادلة أولاً، وثانياً قضيّةً عربيّة بامتياز، ولا يمكن تفادي الإشارة إليها، ومهما تبحّر النقاش، بالعلاقة بين الوطني والقومي، ولو أقرَّ بضرورة الفصل بينهما، لجهة تطور دولة قُطرية محدّدة، كسورية أو لبنان أو مصر أو فلسطين، وأن المسألة القومية قضية مستقبلية، وتتعلق بخيارات الأفراد الذين يشكلون الدولة، وينظمون ذلك حصراً، عبر الاستفتاءات الشعبية، والديمقراطية. وضمن ذلك، نقول إن الأغلبية السوريّة عرب، وهناك قوميات أخرى، والأخيرة جزء من قوميات أكبر، كالأكراد مثلاً، أو التركمان أو الشركس. القوميات هذه، وبغض النظر عن كبرها أو صغرها معنية بتشكيل دولة سورية حديثة، ورفض أية تنازعات بينها، انطلاقاً من القضية القومية، كأن يؤكد عرب سورية المسألة القومية قبل التحرر الوطني ومبدأ المواطنة، أو أن يؤكد الأكراد تبعيتهم لأكراد تركيا أو العراق، قبل انضوائهم في المشروع الوطني السوري، وهكذا.
قضايا أساسيّة
سورية الآن على الأرض، وهي سوقٌ مفتوح للبازار عليه؛ أي على الرغم من كارثية وضعها وتهجير أهلها، فهي تتعرّض للبيع، نعم للبيع. روسيا التي حاولت، ومنذ سنوات، إغراء أوروبا وأميركا لإعادة إعمار سورية، لا تفكر أبداً بذلك الإعمار وبالتأكيد أوروبا أو أميركا. هنا، كيف يمكن النهوض بسورية؟ سياسياً، هناك شكل واحد للحكم، وهو الديمقراطية، ولا يجوز اللعب فيه بأية حالٍ، وتشكل مسألة الدستور مدخلاً دقيقاً لها. ولهذا هناك نقاشات متعددة، حول بنود الدستور، وكيفية تجاوز البعد الطائفي فيه، وتأمين مصلحة كل السوريين وحقوقهم، بغض النظر عن تمايزاتهم، القومية، والجنسية، والدينية، وسواه. ليست المسألة بسيطة، ولا يجوز التفاضل بأية قضية من هذه التمايزات. وبالتالي، الأساس فيها هو المواطنة، وشرعة حقوق الانسان، وأن يستقي الدستور والقوانين منهما كل البنود والفقه القانوني بأكمله. لا يكفي هنا القول بإعلان دستوري فوق الدستور، أو بمرحلة انتقالية لها دستورها وقوانينها، ولو كان الأمر مقبولاً في بدايته، فإن الأساس يظلُّ ما جاء أعلاه.
لا يحتمل وضع سورية الراهن مشاريع اقتصادية فاشلة، أو تتبع أهواءٍ عقائدية، تنطلق من اللبرلة، كما طُرحت في سورية. والسوق يطوّر نفسه بنفسه، وكفّ يد الدولة نهائياً، ووظيفة الأخيرة رعاية نمو السوق! هذه “كوارث”، حيث الدولة لم تهمش إطلاقا في أوروبا وأميركا، ولعبت الدور الرئيسي في إنقاذ البنوك والشركات الكبرى من الإفلاس، سيما في 2008، وحالياً في مواجهة فيروس كورونا. وبالتالي، وفي حالة سورية، يصبح من العبث بمكان القول بالحرية الاقتصادية. إن دولة كسورية أو العراق أو لبنان، وغيرها، تحتاج إلى رؤيةٍ اقتصاديّةٍ وطنية، تتحدّد فيها القطاعات الاقتصادية الأساسية ونقصد التصنيع العام، وبكل أشكاله والزراعة أولاً، وأن تجبر رؤوس الأموال على تمويل هذه المشاريع بالتحديد، وليس العمل بالبنوك أو الفنادق أو السياحة مباشرة، وأن يكون العمل بهذه القطاعات بما يخدم القطاعات الاقتصادية، ثانياً. هذا ليس شطباً للبرلة، بل تحديداً للمجالات الاقتصادية التي يجب أن تعمل فيها، وسعياً إلى النهوض بالوضع العام. البدء بتلك القطاعات يسمح بتطوير الثروات الباطنية، وتقليل الاعتماد على الخارج في المواد الأوليّة، وتشغيل أكبر القطاعات الشعبية، وإيجاد تشابكات اجتماعية جديدة، كالنقابات والقوى المجتمعية العابرة للمجتمعات المحلية. الخسائر في الاقتصاد أصبحت تتجاوز أربعمائة مليار دولار، وتجربة البنوك الدولية، وسياساتها في الدول المديونة، تقود إلى التبعية وتفكيك الاقتصاد المحلي، وتوجيه قطاعات منه نحو التصدير، وإلغاء المكتسبات الاجتماعية لأغلبية المواطنين، وتفكيك المجتمع وفقاً للهويات ما قبل الوطنية، ولهذا فالرؤية الليبرالية يجب أن تستند إلى المصلحة الوطنية للأغلبية ولكيفية النهوض بالاقتصاد.
.. لسنا ضد أيّة مشاريع اقتصادية ليبرالية أو من دولتية أو من الخارج، شريطة أن تتحدّد لها القطاعات الاقتصادية، ورفض أية مشاريع لا تتناسب مع مصالح الأكثرية الشعبية وحقوقها.
وهناك قضية سياسيّة، وتتعلق بشكل الدولة، والبيانات أعلاه، والصراعات الكردية العربية، تقود إليها، وهناك من المحللين السوريين أو المنشغلين بالوضع السوري من يستسيغ الفيدرالية، وأنها وحدها الشكل المناسب للدولة، وعلى أرضية تهميش المركز، وتوسيع حقوق المحافظات، وأن ذلك سيتيح تمثلاً أدقّ للمحافظات، وتوزيع الثروة. بوضوح أقول: هل يمكن مقارنة وضع مدينة كدير الزور باللاذقية مثلاً، أو حمص بالحسكة أو طرطوس، وهل يمكن مقارنة ثروات دير الزور بثروات درعا. القضية غير ممكنة، ولو أضفنا الدمار الكبير لهذه الدولة أو تلك، فإن طرح الفدرلة يصبح كارثةً حقيقيّة. وعدا ذلك، ليست سورية في حالة تطوّرٍ كبير، ليتم البحث عن أفضل أشكال العلاقة بين العاصمة والمحافظات، بل هي في أسوأ حالاتها وعلى مختلف الأصعدة. وبالتالي، يكون مفهوم اللامركزية الإدارية، والذي يتضمن المركزية وتوسيعا أكبر لحقوق المحافظات. الأفضل، ويتيح مركزية كبيرة للعاصمة في تحديد كيفية النهوض، وتوزيع الأموال والثروات على كل المدن.
هناك مشكلة هنا، وتتعلق بسؤال الهوية، وكيف سيتم ضمان حقوق الأكراد أو العرب في شرق سورية، وقد ظلموا تاريخياً، ولم يستفيدوا من ثروات النفط والماء والقمح والقطن..، الموجودة في مدنهم بشكل رئيسي. الحقيقة المرّة أن تلك الثروات استفادت منها السلطة فقط، بينما نالت كل المدن السورية نصيبها الكامل من التهميش، وبقدرٍ متفاوت، ولهذا أسباب كثيرة، وليس قائماً على تطوير هذه المدن أو تلك. الفدرلة في حالة سورية تقود إلى صراعات قومية ومناطقية. الإشكالية هنا أن هناك اختلافات حقيقية، وكبيرة، وقديمة وتجدّدت بعد 2011، وبالتالي فإذا كان المطلوب من عرب سورية ضمان حقوق الأكراد وعبر حقوق المواطنة، أي الاعتراف الكامل بحقوقهم، وهذا ما تفعله أيّة قومية كبيرة في بلد ما، وتسعى نحو النهوض، فيصبح عل الكرد أن يعودوا إلى المطالبة بالمواطنة المتساوية، وليس “النط” إلى الفدرلة أو حق تقرير المصير. يتطلب بناء وطنٍ أو بلدٍ موحد نقاشاً دقيقاً في هذه القضايا. الدستور هنا يجب أن يكون واضحاً بما يتعلق بالفدرلة والمواطنة وشرعات حقوق الإنسان، وبحقوق القوميات.
الآن، وإضافة للمبادرات الجديدة، هناك الاتصالات الروسية مع معاذ الخطيب. والرجل رجل دينٍ ودمشقيٍّ وسنيٍّ، وهي رسالة قوية إلى المجتمع السوري، حيث رفض الروس من قبل أيّ شكلٍ للحكم خارج الشكل الحالي. أيضاً، هناك مشروع روسي لوحدة سورية الوطنية، ويجمع فيه الطوائف والأعراق والعشائر السورية. مشكلتنا مع المعارضة السورية، أنها لا ترفض هكذا خيار، وقد شكلت مؤسساتها وفقاً له، وهذا أولاً، وثانياً، غياب الجذرية لديها، وعدم قدرتها على رفض التوافقات الدولية، وضعف رؤاها الوطنية لكل مشكلات سورية. مقدّماتٌ كهذه، وفي حال شعرت المعارضة بجديّة الروس، فستوافق على معاذ والوحدة السورية “الطائفية والعرقية” وهذا سيؤسس لدولة سورية أكثر فشلاً بالضرورة، ومثالنا هنا لبنان أو العراق.
شخصيات سياسية كمعاذ الخطيب أو سواه، يمكن أن يكونوا واجهة انتقالية في شكل الحكم، وبما يقود إلى تبوّؤ شخصياتٍ أكثر درايةٍ بمشكلات الوطن وكيفية النهوض به، ومن كافة النواحي، ولكنّ المبادرات التي تنطلق من المحلي: الجزيرة، الأكراد، الطوائف، العشائر، لا تفيد سورية والسوريين بشيء، وتعمق مشكلاتها، وبالتالي هناك ضرورة لإعلانات جديدة، وتنطلق من الوطنية، وتوسع من مرتكزاتها وأوجهها، وتعمل من أجل مصالح الأغلبية السورية، وكائنة من كانت، وتتجاوز حكاية معارضة وموالاة.
لم يعد ممكنا إعادة إنتاج النظام الحالي أو إصلاحه، وما يجري حالياً من مفاوضاتٍ دوليّة وإقليميّة، هي بقصد البحث عن تسوية لتفكيكه، وضمان مصالح الخارج، وخلق أدواتٍ سورية تابعة لها، فهل يعي السوريون خطورة اللحظة الراهنة، ويتجهون نحو مشروعٍ وطني ديمقراطي، لا يسمح بوجود نظامٍ تابعٍ وهشٍّ ومسخٍ عن أنظمة العراق وسورية.
العربي الجديد
——————————————-
جواب بسيط لأسئلة قلقة/ راتب شعبو
عندما نقول “الوطنية السورية”، هل نتكلّم في الواقع أم في الخيال؟ هل يوجد تعريفٌ محدّدٌ أو هوية معينة لهذا التعبير؟ هل توجد “وطنية سورية” لها عصبيةٌ ما تشدّ عناصرها، وتحمي حدودها؟ هل يمكن لسورية أن تكون “وطناً”، بما تعنيه هذه الكلمة من استقرار ورضى لأهله؟ ألم يكن ثمّة حظر قومي عربي على تعبير “الوطن السوري”، لفترة غير بعيدة، على اعتبار أن الصفة الوحيدة التي يحقّ لها أن تلحق بكلمة الوطن هي “العربي”؟ أليس ما يجمع السوريين هو القسر، أكان من حيث الحدود الفعلية “المفروضة” أم من حيث النظام السياسي “المفروض”؟ مع ذلك، هل تمكّن هذا القسر، مع الزمن، من صياغة “هوية سورية”؟ أم أنه، على العكس، أحيا الهويات غير السورية وعزّزها، وولّد لديها تطلعاتٍ سياسية، وجعل منها نوىً صغيرة “لوطنياتٍ” كامنة، منها الإثني ومنها القومي ومنها الطائفي ومنها المناطقي؟ هل تكمن المشكلة في قسرية الحدود واعتباطها، أم في قسرية الحكم السياسي واستبداده؟ إذا كان تعديل حدود بلدنا أمراً ليس في متناولنا، لاعتبارات عالمية خارجة عن إرادتنا، فهل يمكن لنظام سياسي ديمقراطي وعلماني في سورية، إذا تمكّنا من إرسائه، أن ينتج وطنية سورية غالبة؟
من بين الناس الذين يعيشون ضمن الحدود السورية المعترف بها دولياً، ما هي نسبة من يدفعه إلى العمل السياسي أو إلى الانخراط في الشأن العام، انتماؤه السوري أولاً؟ بطريقة أخرى، ما هي نسبة هؤلاء الذين يحملون في أذهانهم تصوراتٍ سياسيةٍ تطابق سورية الفعلية وتناسبها بوصفها “وطناً”؟ ومن الناحية الأخرى، عبر تاريخ الدولة السورية، متى كانت المصلحة الوطنية السورية هي المحرّك الفعلي للسلطة السياسية الحاكمة في سورية، بدءاً من أول رئيس جمهورية بعد الاستقلال، شكري القوتلي، الذي يصفه خالد العظم بالحاكم المستبد، ويقول عنه في مذكراته: “كان الدستور ألعوبة بيد حارسه، وقواعد الحكم الديمقراطي النيابي معطلة مهملة، وكان يعتبر البلاد السورية من جملة مخلفات المرحوم والده، فيصعب عليه أن يدّعي أحد بمشاركته في إدارتها أو أن يقف في وجهه معارضاً”، وصولاً إلى الرئيس المجرم الحالي الذي “خلف له المرحوم والده” هذه البلاد، وأوصلها مع نظامه “اللاحم”، بحسب توصيف موفق للصديق الفنان عبد الحكيم قطيفان، إلى حضيضٍ لا سابق له؟
في المرحلة الديمقراطية السورية الوجيزة التي تزيّنها كتب التاريخ بالمديح، رقّ الشعور بالوطنية السورية إلى حدود أن سورية أنكرت ذاتها أو نسيت نفسها وارتمت في الحضن المصري، وتخلّت حتى عن اسمها لتكون مجرّد “إقليم” وليصبح رئيسها (القوتلي نفسه) مجرّد “مواطن”. في مرحلتها الديمقراطية، تنكّرت سورية “لوطنيتها”، ومنحت قلبها لبطل خارجي لم يحز أي زعيم سياسي سوري في كل تاريخها، على ما حازه ذاك البطل المصري من حب السوريين. وفي مرحلة السيطرة الأسدية المديدة، جرى تزييف الوطنية السورية، لتكون مطابقة “لسورية الأسد”، وكان أن حرق هذا التزييفُ الأرضَ التي يمكن أن تنبت عليها بذور الوطنية. ظلت الوطنية السورية هي المفارقة الأبرز في تاريخ سورية منذ نشوئها، فهي الوجود الأقوى في الواقع (لا حقيقة سياسية للسوريين أقوى من حقيقة وجودهم ضمن حدود سياسية معينة تشكل المحل السياسي المشترك لهم)، وهي الوجود الأضعف في الذهن (قليل من السوريين المشتغلين في الشأن السياسي، من كل التوجهات الفكرية، يحترمون الواقع السياسي السوري، ولا يتطلّعون إلى ما هو أبعد منه، وقليلون منهم ينطلقون من مبدأ المساواة الفعلية بين السوريين، الغالبية يُضمرون تمييزاً ما، ويسعون إلى سيطرة شريحة اجتماعية تحت عناوين فكرية فضفاضة).
متى يحدث التلاؤم والانسجام بين الوجودين؟ متى يتجاوز السوريون المنشغلون في الشأن السياسي العام، مدّ النظر السياسي لكي يروا بلدهم وحقيقتهم الأبرز، لكي يروا “وطنهم ووطنيتهم”؟ متى ينشغلون في الإجابة عن السؤال: ألا يمكن أن تكون أولوية الانتماء لسورية مدخلاً لتجاوز المظالم، وكيف؟ ببساطة، لأن المعالجة الوطنية والمسؤولة لشتى صنوف المظالم التي يعجّ بها المجتمع السوري أجدى من التطلع إلى حلها على حساب الوطنية السورية، مثل بناء جماعات سياسية سورية علاقات مع “خارجٍ ما” تتفوّق على علاقاتها مع الداخل السوري.
يبدو لنا، بعد هذا التاريخ وبعد هذه “العشرية الدموية” على نحو خاص، أنه لا مهرب للسوريين من سوريتهم (وقد خبر السوريون الكرد والعرب هذا من تجربة لجوء الأولين إلى كردستان العراق، والآخرين إلى البلدان العربية، فهؤلاء وأولئك سوريون أولاً في نظر الكرد والعرب خارج سورية، وعوملوا على هذا الأساس). ويبدو لنا أن الوطنية السورية قادرة على استيعاب رد الاعتبار وضمان حدود واسعة من الحقوق لكل الجماعات، فضلاً عن كونها أدنى إلى الواقع. ويبدو لنا أن الانطلاق في الحل من مبدأ الوطنية يعود ليعزز هذا المبدأ مع كل خطوةٍ يتم إنجازها على هذا الطريق.
يحتاج الأمر إلى أن يرى الفكر السياسي السوري في الواقع السوري وحدته الأساسية، وإلى أن يتخلّى هذا الفكر، بعمقٍ وصدق، عن كل أحلام السيطرة الداخلية لصالح احترام مبدأ المساواة بالعمق والصدق نفسيهما.
العربي الجديد
———————————–
من إعلان الوطنية إلى صناعتها/ ماهر مسعود
إحدى آليات التحليل النفسي، في تفسير وفهم الشخصيات الجامدة والبخيلة وغير الإبداعية، هو ردّها إلى ما يسمّى بـ “التثبيت الشرجي”. الفكرة هي أن الطفل بين السنتين الأولى والثانية من عمره لا يفصل بين ذاته وفضلاته، ويظن أنها “ذهبٌ”، وعندما يتعرض لعملية التنظيف التربوية، يقاوم ويتمسك بتلك “الملكية الثمينة”. وإذا كانت العملية التربوية في تلك المسألة قهرية وخشنة؛ فقد يمتد الإمساك/ التمسّك بـ “الموروث البيولوجي” إلى الشخصية كاملة، ويتحول إلى ما يسمى “تثبيتًا شرجيًا”، ينتقل من البيولوجيا إلى السيكولوجيا، ومن السيكولوجيا مستقبلًا، إلى الأيديولوجيا، وإلى وعي العالم.
عاش السوريون تحت نظام آل الأسد، منذ خمسين عامًا حتى اليوم، وهو جزءٌ من تاريخهم، وجزءٌ من وعيهم أو لاوعيهم، سواء أحبّوا ذلك أم كرهوه، و”الوطنية” التي وضعها هذا النظام في بنية الوعي الجمعي السوري ليست أكثر من فضلات، مع أن النظام وكثير من السوريين في جهتي الصراع ما زالوا يرونها “ذهبًا”. وعندما نقول إنها فضلات، لا نقصد التجريح، بل تسمية الأشياء بأسمائها التحليلية، فسورية لم تكن وطنًا بل مزرعة، ولم يكن فيها مواطنون بل سكان ورعية وعشائر ومخابرات، وهؤلاء لا تحكمهم الوطنية، بل الولاء للسلطة والرعب منها ومن تصنيفاتها. ولا نجد حاجة إلى إثبات أن فضلات الوطنية السورية -كما عرفها السوريون خلال العقود الخمسة الماضية- قد غطت الشعب السوري كله؛ مواليه ومعارضيه، فقرًا وجوعًا وخوفًا وقتلًا وتعذيبًا وتهجيرًا واقتلاعًا من الوطن، ثم توّجته باحتلالات متعددة، تشارك السلطة القائمة في احتلالها الوطن والشعب والأرض والموارد، مثلما ستشارك في أزمة الوطنية السورية مستقبلًا، وفي صناعتها أيضًا.
“إعلان الوطنية السورية” هو إعلان جميل، ويبدو مثاليًا، من حيث المبدأ، لكن المشكلة في مثاليته هي أنها مثالية مقلوبة، لم تتجاوز الوطنية المثالية التي تأسست بعد الاستقلال وترسخت بالحديد والنار في زمن البعث. ولتوضيح المقصود بهذا الكلام، لا بد من طرح المقاربة التالية: جميع الدساتير والمبادئ التأسيسية للدول الديمقراطية في العالم هي مبادئ مثالية، وعلى الرغم من أن الواقع في تلك الدول ليس مثاليًا، فإنه يسير باتجاه واحد نحو المثال، وقد تتعثر الديمقراطية في تلك البلاد، أو تتحجر، أو تعاني أزمات خطيرة تهدد مبادئها، لكن يبقى الثابت هو الخط الذي يجمع الواقع والمثال معًا، في اتجاه واحد. المشكلة لدينا هي أن الواقع يسير في اتجاه معاكس تمامًا للمثال التأسيسي والقيم الدستورية، حيث انطلقت أهدافنا مع الأسد الأب -على سبيل المثال- من الوحدة والحرية والاشتراكية، لنصل بالضبط إلى التفتت والتشرذم، وإلى “شو هيّ الحرية اللي بدكن ياها!”، وإلى “بدكن حرية!”، وصولًا إلى “الأسد أو نحرق البلد”، وأخيرًا إلى اشتراكية الخوف والذل والجوع الشاملة. وبالتكرار المأساوي ذاته، انطلقنا مع الأسد الابن، من الشفافية ومحاربة الفساد التي افتتح بها برنامجه الوراثي (بدل الانتخابي)، لنصل إلى الفساد الشامل، الإداري والاقتصادي والسياسي، وإلى رأسمالية “الحبايب والقرايب” التي رفعت جيلًا جديدًا من “الحبايب والقرايب”، وجرّمت الاقتصاد السوري حتى العظم.
تلك العملية التي جعلت الواقع والمثال يسيران في اتجاهين متعاكسين، تظهر أصولها في تأسيس الدولة ذاتها من فوق، من القوى الكولونيالية التي رسمت دولنا، بالورقة والقلم، من دون النظر إلى الواقع السكاني، أو الانطلاق من حياة البشر وحاجاتهم ومطالبهم. وعوضًا عن قبول الواقع وإعادة الانطلاق منه لصناعة الوطنية السورية ضمن حدوده، لم يفعل نظام البعث سوى إنكار الواقع الذي رسمته خريطة سايكس-بيكو، من جهة، بناءً على مثال قومي متعال ومستحيل، ثم إحلال نفسه -من جهة ثانية- كقوة كولونيالية جديدة تفرض الوطنية من الأعلى إلى الأسفل، بما يخدم بقاءها ومصالحها، بالطريقة ذاتها التي كانت بها سايكس-بيكو تخدم مصالح المستعمرين وحاجاتهم “الوطنية”.
الوطنية المطروحة في “إعلان الوطنية السورية” تقع -في جزء واسع من طروحاتها- في المطبّ ذاته، حيث إن صناعة الوطنية السورية التي قد تنجي الشعب السوري من التفتت أو الضياع أو العودة للدكتاتورية، لا بد من أن تنطلق -باعتقادنا- من الواقع السوري القائم، وأن يُبنى المثال الوطني انطلاقًا منه وعلى أساسه، لا العكس. أي لا يمكن أن نصنع مثالًا للوطنية ينطلق من فضلات الوطنية السابقة، المتعالية، الشعاراتية الفارغة، التي فُرضت من الأعلى؛ مرة من الاستعمار، ومرة من نظام الأسد، من دون أن نسقط في إحدى النتيجتين: إما التأسيس النظري لدكتاتورية الدولة المركزية ذاتها، وإن كانت مزيّنة “باللامركزية الإدارية” معدومة القيمة التي يطرحها الإعلان، وإما عدم التأثير على الإطلاق في مجريات الواقع المتشظي القائم، ومضيّ المثال الوطني الجديد بعكس اتجاه الريح الواقعية الموجَّهة بقوى داخلية واحتلالات خارجية تتقاسم النفوذ السياسي بما يشبه “اللامركزية السياسية”، بين الشمال الشرقي الكردي/ الأميركي، والشمال الغربي/ التركي، والجنوب الروسي/ الإسرائيلي، والبقية معروفة للجميع. وما يعزز الفرضية الثانية، أي بقاء الإعلان بلا قيمة عملية، هو عدم خروج الإعلان من قوى سياسية موجودة أو مؤثرة؛ لا على الأرض ولا في السماء، ولا في الداخل ولا الخارج، حيث إننا ما زلنا نفتقد مثل تلك القوى والأحزاب والحركات السياسية التي تمثل الناس، بالمعنى الطائفي أو المناطقي أو الإداري أو الإثني أو السياسي البحت المترفّع عن كل ما سبق. على العكس، ما زال الرعب يبدو طاغيًا من نموذج المحاصصة الطائفية غير القابلة للتطبيق في سورية، نتيجة نسبة أكثريتها إلى أقلياتها على الأقل، ومن التقسيم الذي لن يحصل ولن يأخذ مباركة دولية، مهما تقسّمت سورية فعليًا من الداخل.
إن عدم محاكاة المثال للواقع والانطلاق منه هو بداية سير المثال بعكس اتجاه الواقع، والانفصال عنه، وما يُلمح به الواقع الحالي، بعد تسع سنوات من الثورة والحرب، هو مسألتان لا بدّ -باعتقادنا- من رؤيتهما جيدًا؛ المسألة الأولى علوّ صوت الناس العاديين، ورغبة المجتمعات المحلية -في مجمل مناطق سورية- في إدارة أنفسهم ذاتيًا، وهو ما أنتجته ميكانيزمات الحرية والاستقلال النسبي من جهة، والخوف من الآخر من جهة أخرى؛ أما المسألة الثانية التي تجري أيضًا في الواقع الحالي، فهي أن الروس الذين ثبتوا أقدامهم “شرعيًا” في سورية يسيرون باتجاه يجمع بين ما فعلوه بالشيشان، وما فعله حافظ الأسد في لبنان، حيث إن عمليات “المصالحات الوطنية” والتسويات التي تقودها روسيا، وتعيين مسؤول روسي بمنزلة المندوب السامي في سورية، يمضيان معًا نحو إعادة تأهيل مجرمي الحرب والعصابات النظامية وغير النظامية، وتمكينهم من قيادة المرحلة الانتقالية تحت إشرافهم. وما الاجتماعات الأخيرة مع المكونات السورية المتنوعة، من الجنوب إلى الشمال، إلا تعبيرٌ عن هذا الاتجاه الذي يوحي بأنهم إذا اضطروا إلى التخلي عن الأسد شخصيًا؛ فستكون البنية العسكرية والسياسية، المناطقية والطائفية، بما تحتويه من عصابات أُعيد تأهيلها أو تمّ تأسيسها، جاهزةً لقيادة سورية ما بعد الأسد. وإذا نجح هذا الأمر -ويبدو أن نجاحه واقع- فإنه سيلقي بكل ما يسمى “عدالة انتقالية” و”مواطنة متساوية” أدراج الرياح، وسيجعل المثال الوطني الذي صاغه إعلان الوطنية، في جهة، والواقع أو المستقبل السوري، في جهة معاكسة من جديد.
أخيرًا، قد تكون رغبةُ الذين كتبوا الإعلان في عدم الدخول بأي من الأسئلة الصعبة والإشكالات العالقة، في المسألة السورية، مفهومةً، لكن الواقع هو أن فقرة واحدة من التابوهات التي عاشت عليها الوطنية المثالية السابقة، مثل دين رئيس الجمهورية أو اسم الجمهورية، قد تلغي الأساس النظري كله الذي قام عليه الإعلان، فكيف يمكن الحديث عن “مواطنة متساوية”، إذا كان دين رئيس الجمهورية هو الإسلام! وإذا كان صحيحًا أن ممكنات الواقع الحالي لا يمكن أن تفرز رئيسًا مسيحيًا، فإن إغلاق تلك الإمكانية في المبادئ التأسيسية يقوّض مبدأ المواطنة المتساوية من أساسه. وقد تنطبق المسألة ذاتها على اسم “الجمهورية العربية السورية” التي تحيل إلى ثقافة الأكثرية، من دون اعتبار للمكونات الإثنية الأخرى، كردية كانت أو آشورية أو سريانية أو غيرها من المكونات، التي نتباهى عادة بوجودها، على أساس الغنى والتنوع و”الفسيفساء” المميزة لسورية، ثم نطمس وجودها في الأصل التأسيسي للدولة العربية. وهذا في المحصلة يحيل إلى تناقض قد ينتج عن الإعلان الذي جاء تحت صياغة أنه لا داعي للتطمينات “السخيفة” بين المكونات، وليس لأحد أن يطمئن أحدًا، ولكن اطمئنوا، فالدولة ستبقى عربية ورئيسها مسلم.
تحتاج صناعة وطنية جديدة إلى تجاوز التثبيت الشرجي الذي أورثته الدكتاتورية، ومواجهة التابوهات السياسية، بكل جرأة، مع الاعتراف بهشاشة التكوين الوطني السوري، وبناء الجمهورية الثالثة انطلاقًا من تلك الهشاشة ذاتها.
مركز حرمون
————————————-
العروبة والوطنية السورية/ حازم نهار
لا يزال مفهوم العروبة، لدى القطاع الأوسع من العرب، يأخذ قيمته من الماضي أكثر كثيرًا من الحاضر، وكأننا إزاء مفهوم ثابت غير قابل للتغيّر، لا تاريخي، خارج الزمان والمكان، على الرغم من أن أي مفهوم هو حصيلة معارك ثقافية سياسية وحوادث سياسية وتفاعل مع الواقع الراهن وتجاوب مع تحديات المستقبل.
ظهر مفهوم العروبة في ميدان الصراع مع الأتراك، في لحظةٍ كانت القومية التركية تتعامل فيها باستعلاء وازدراء مع العرب، وقد أثّر ذلك في تكوينه وفهمه، ووسمه بسماتٍ أولية لا تزال تطلّ علينا؛ أولًا، سيطرة النهج الدفاعي على فهمنا للعروبة، فقد استخدمت العروبة في بداياتها في مواجهة اتهامات الأتراك للعرب وتاريخهم القبلي القائم على الغزو، وللغتهم أنها عاجزة عن استيعاب التطور الحضاري. ولكن هذا النهج الدفاعي أصبح من مستلزمات فهم العروبة والحديث عنها عند التعاطي مع الخارج أو الآخر أو عند التمايز عنه. وثانيًا، النظرة الرومانسية التي تجلت بسيطرة الرغبة في استعادة أمجاد الماضي على الخطاب العروبي، ما أدّى إلى التركيز الروحي والوجداني على صفات العربي وأخلاقه في الشجاعة والكرم والمروءة وإغاثة الملهوف، وغيرها من الصفات، وكأن هذه الصفات صفات جوهرية، ولا يعتريها التغيير عبر الزمن، وخاصة بالعرب كلهم، ولا تخضع للتفاوت والتفاضل بينهم، ولا يُتوقّع أن تكون غائبة عن العربي. وثالثًا، الدمج بين العروبة والإسلام، بصيغة لا تجد فصلًا بينهما، مع التركيز على قداسة لغة القرآن، وأن الإسلام وليد العروبة، ما حمَّل الأخيرة شكلًا من الاعتزاز، على اعتبار أن العرب هم الذين نشروا الدين الإسلامي.
مع ساطع الحصري، اكتسبت العروبة بعدًا ثقافيًا يرتكز على اللغة العربية، وأصبح العربي ذاك الذي يتحدّث العربية، لا من كانت أصوله عربية، ومع قسطنطين زريق أُثيرت مسألة فصل الدين عن الدولة، في محاولةٍ لإنضاج فهم آخر للعروبة، فيما حاول مؤسِّس حزب البعث، ميشيل عفلق، التركيز على الواقع الحاضر في فهم العروبة، فربطها بالحرية والاشتراكية من جهة، وبالتخلص من التخلف والاستعمار من جهة أخرى، لكنها تحوّلت تدريجًا إلى أيديولوجيا قومية لحزب سياسي، ومن ثم إلى أيديولوجيا دولة طاردة لغيرها، لكن النفحات الوجدانية ظلت تطل برأسها دائمًا “الرسالة الخالدة”، بينما ركّزت الناصرية على الممارسة السياسية أكثر كثيرًا من الركون إلى مقولاتٍ أيديولوجية أو نظرية ثابتة، وكان ربطها بالاشتراكية والحرية يأتي من واقع المصالح السياسية ومواجهة الظلم الذي يتعرّض له العرب.
عمومًا، ظلت العروبة في الوعي العام تحتوي ضمنيًا مجموعة من العناصر؛ الخطاب الدفاعي ضد الآخر، ارتباطها بالإسلام، ارتباطها بالقبلية العربية، الرومانسية والروح الوجدانية، قداسة اللغة العربية، الرسالة الخالدة للعرب .. إلخ، وهي العناصر التي حرمتها، عمليًا، الوضوحَ من جهة، والتجدّدَ من جهة ثانية.
إعادة اكتشاف العروبة
ليس من الصعب اكتشاف أن بلاد العرب وصلت إلى طريق مسدود على المستويات كافة؛ فقد تعرّضت لهزائم فعلية كبيرة أمام الخارج (هزيمة يونيو/ حزيران 1967 أمام إسرائيل، الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، هزيمة العراق عام 1991، الاحتلال الأميركي للعراق 2003، وغيرها من الهزائم)، وأصبحت البلدان العربية مجتمعةً لا تشكل أي خطر على إسرائيل، وإيران موجودة في أربع عواصم عربية، فضلًا عن تغلغلها في النسيج الاجتماعي لبلدان عدة، وانفجرت الهويات الإثنية والطائفية في بلدان عدة في إثر ثورات الربيع العربي، فضلًا عن الفشل على مستوى التنمية الاقتصادية، وغيرها. يصبح والحالة هذه طرح أسئلة العصر الراهن أمرًا ملحًا؛ ما تصورنا للعروبة اليوم؟
ليس جديدًا القول إن العروبة في حاجةٍ إلى تخليصها من تراث الاستبداد، ومن الحزبوية، ومن اختزالها في الأيديولوجيات القومية، والذهاب بها إلى فضاءات إنسانية وكونية مفتوحة، وهذا غير ممكن من دون بيئة ديمقراطية. لا تحتاج العروبة إلى التقديس أو الأسطرة أو إلى حقنها بمشاعر الاستعلاء، بل إلى تجذير وتعميق بعدها الإنساني والكوني المنفتح على العالم والحداثة؛ عروبة معاصرة تؤمن وتعترف بالدول الوطنية، وباللامركزية الديمقراطية سبيلًا لإدارة مجتمعاتها، ما يعني أن العروبة أمامنا لا خلفنا، وأنها تحتاج إلى صناعةٍ وإعادة إنتاج في ضوء الراهن والمستقبل.
تسييس العروبة وأدلجتها يماثلان تسييس الإسلام وأدلجته، وكل منهما، التسييس والأدلجة، يؤدّي إلى خفض العروبة أو الإسلام من فضاء عام، ثقافي وروحي، إلى أدوات سياسية خاضعة لمصالح هذه الفئة أو تلك، أو إلى أيديولوجيا خاصة بحزب أو جماعة، ما يخرجهما من إطار الإنسانية والعصر، ويبقيهما حبيسيْن في العصبوية والانغلاق. أن يكون المرء مع الإسلام دينًا يختلف عن أن يكون مع تنظيم إسلامي بعينه ذي أيديولوجيا إسلامية محدّدة، ومصمَّمة وفق مقاسات أصحابها ووعيهم؛ فتجسيد الإسلام في تنظيمات دينية ستنزل به من مساحة العام إلى الخاص، ومثله اختزال العروبة أيضًا في الأحزاب القومية وأيديولوجياتها، ما يفقدها، بالضرورة، عموميتها وانفتاحها على التجديد، ولتتحوّل، من ثمّ، إلى منظومةٍ خاصة ومغلقة، وهذه تتحوّل تدريجًا إلى أداة قهر وظلم لأصحابها وللآخرين.
لا وجود للوطن من دون المواطن، والعكس صحيح. ولا وجود لهما من دون الدولة السياسية. وبما أنه لا توجد واقعيًا دولة عربية موحدة تعبِّر عن العرب، فإنه من المنطقي القول إن مصطلحات مثل “وطن عربي”، “مواطن عربي”، “الشعب العربي”، وغيرها ستظلّ بلا معنى، لأن وجودها مرتبط أساسًا بوجود الدولة. كذلك، مصطلح “المواطنة العربية” هو الآخر يفتقد إلى التجسيد، فالمواطنة تعني وجود حقوق وواجبات لهذا “المواطن العربي”، وتعني وجود علاقةٍ قانونيةٍ حقوقيةٍ تربط المواطن بالدولة، ما يفترض بداهةً وجود “دستور عربي”، وتعني أيضًا وجود “جنسيةٍ عربية”، لأن الجنسية عنصر أساسي في تحديد الهوية، وهذه لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال الدول القائمة بالفعل. كل ما سبق غائب، ونحن بالكاد اليوم نستطيع الحديث عن ثقافة عربية، لكنها أيضًا، في غياب الدولة العربية الموحدة أو في غياب الدول الوطنية، تبقى ثقافة كسيحة.
كان قوميون عرب كثيرون يرون أن العرب شعب واحد وأمة واحدة، وكان ماركسيون عرب كثيرون يقولون “إن العرب شعب واحد يتفرع إلى أمم متعدِّدة هي الأقطار العربية”، في حين كان جمال عبد الناصر أقرب إلى الحقيقة، عندما اعتبر العرب أمة واحدة مؤلفة من شعوب. لكن الحقيقة السياسية، في ضوء الراهن، ترى أن مفاهيم مثل الشعب والأمة ليست معطىً ناجزًا، بل إنها تحتاج إلى صناعة، ما يعني أن العرب يمكن أن يكونوا شعبًا وأمة عندما يبنون دولتهم العربية. وإلى ذلك الحين يمكننا الحديث عن فضاء ثقافي روحي عربي لا غير، وعن مؤسسة إقليمية عربية اسمها “جامعة الدول العربية”، وحتى في حال تحولت هذه الدولة/ الحلم إلى واقع، ينبغي ألا تُبنى استنادًا إلى عروبة أيديولوجية.
ليست العروبة نظرية فكرية أو منهج تفكير، وليست تعبيرًا عن العِرق، فالعِرق النقي الخالص غير موجود، وشعوب المنطقة كلها مزيج سلالي. العروبة فضاء ثقافي روحي، مثل الفضاءات الثقافية الأخرى في العالم (الثقافة الأوروبية… إلخ)، تنتعش وتغتني في أجواء الحرية، وتتجدّد دائمًا بالإبداع الثقافي العربي المنفتح على العالم والثقافات الأخرى، وتموت عندما يجري تسييسها أو تحويلها إلى أيديولوجيا.
هل هناك طريق إلى اتحاد عربي؟
لا تزال الصورة المتخيلة لطريق الوحدة في الوعي العام ترتكز على الطريقة البسماركية؛ دولة مركز أو إقليم قاعدة، بحسب نديم البيطار، يأخذ على عاتقه إنجاز الوحدة. ولذلك كانت مصر في عقل القوميين العرب أهم كثيرًا من بلدانهم، بوصفها المرشحة أكثر من غيرها لتكون الدولة المركز أو الإقليم القاعدة. ولهذا أيضًا شعر عربٌ كثيرون بالفرح لاجتياح صدام حسين الكويت. وتتمثل الطريقة الأخرى ببناء حزب سياسي قومي عربي يُنشئ فروعًا له في بلدان عربية، على شاكلة حزب البعث. وفي نهاية الطريقين، نكون أمام دولة عربية واحدة مركزية وشعب واحد مندمج. وتُربط النزعة الوحدوية أيضًا في الغالب الأعم بالخطر الخارجي، ويُنظر إلى الوحدة أنها نتاج إرادوي لأحزاب بعينها أو لسلطات حاكمة بذاتها، ويُغفل بعد التطور الاقتصادي الاجتماعي وحاجته إلى الوحدة، وبعد نمو الإرادة العامة الحرة لشعوبٍ تعيش في دول وطنية ديمقراطية.
وتعكس هذه الطرق إلى الوحدة، والصورة الكرتونية لها، طريقة التفكير السائدة تجاه العروبة ذاتها، وتجاه الدول القائمة بالفعل. عروبة بسماركية تغيب عنها الديمقراطية أو عروبة مؤدلجة يغيب عنها الواقع العياني، لا تريد أن ترى الدول الموجودة والمعترف بها عالميًا، بل إن الدول هذه، في العمق، مكروهة، وستظل كذلك إلى أن تصبح الوحدة العربية واقعًا، ما يعني أنه لا حاجة إلى أن نتعب أنفسنا في بنائها، فكل نهضة فيها ستكون طريقًا إلى صيرورتها دولة فعلية ومقنعة وكافية لمواطنيها، وهذا سيكون على حساب دولة الوحدة المبتغاة.
سورية غير موجودة في حسابات الرؤية السائدة إلا بوصفها أرضًا جغرافية مؤقتة، وطفرةً جينية مرذولة، ينبغي تصحيحها لتتوافق مع الأيديولوجيات “الصحيحة”. على ما يبدو، هناك خوف داخلي عام من نجاح الدولة “القُطرية” في التحول إلى دولة وطنية ديمقراطية، خوف من انكسار حلم الدولة الكبيرة، فهل ينبغي أن تبقى سورية مريضة إلى أن تتحقق الوحدة العربية؟ مع هذا الفهم، تصبح الحياة كلها مؤقتة في انتظار المعجزة، ولا ندري في أي جيل.
عندما نزح أهالي الجولان من قراهم وبلداتهم، ظلوا ينظرون إلى احتلال الجولان على أنه مؤقت. لذا عاشوا في المؤقت في ضواحي دمشق ودرعا، وحتى عندما عاد جزء من القنيطرة إلى سورية، جرى الحفاظ على هذا الجزء مدمرًا في انتظار معركة أخرى مع إسرائيل، ولم يجرِ إعماره. لا حاجة لإعمار سورية وتحويلها إلى دولةٍ وطنيةٍ ديمقراطيةٍ في انتظار الوحدة العربية.
لا يمكن السير في طريق أي مشروع وحدوي من دون إعادة بناء الدول “القُطرية” القائمة بالفعل على أسس إنسانية ووطنية وعقلانية وديمقراطية. إذا كان هناك مستقبل لهذا المشروع، فإن أكثر ما يخدمه هو تحويل الدول القائمة إلى دول وطنية ديمقراطية. إذا قُيِّض لطريق الوحدة أن يُفتح، فلا بدّ أن يكون عن طريق تلاقي الإرادات الشعبية، وهذا غير ممكن إلا في دول وطنية ديمقراطية، وربما يكون “الاتحاد العربي” أو “الفدرالية العربية” أو “الولايات العربية المتحدة” هدفًا مشروعًا شريطة تحويل الدول القائمة إلى دول وطنية ديمقراطية، وأن يكون هذا الهدف خيارًا شعبيًا ينمو ويتبلور في بيئة ديمقراطية.
الخوف على العروبة في سورية
يؤدّي الخوف على العروبة من الاضمحلال ببعضنا إلى الاعتقاد بأن صونها يمكن أن يحدث من خلال تثبيتها صفةً أو هويةً أو أيديولوجيةً للدولة، أو من خلال تسويرها بجدارٍ غليظ ضد “الغزو الثقافي”، وهذا عمل سهل، لكن نتيجته ستكون خسارة العروبة والدولة معًا، وسيحمل معه، بالضرورة، شكلًا من أشكال الإرغام والقهر. لو أردنا فرض “الجنة” بالإكراه لرفضها البشر، فضلًا عن أن الأفكار التي تُفرض بالإكراه تشير سلفًا إلى ضعفها وعجزها عن ترسيخ نفسها وملاقاة العقول والقلوب بصورة حرّة، وتوحي بنقص ثقة أهلها بأنفسهم، وبضعف قدرتهم على الحضور الثقافي في ساحة المجتمع المدني، ساحة الحريات والتعدّدية. لا خوف على العروبة إلا من اختزالها وحصرها في رمز أو اسم أو صورة أو أيديولوجيا أو حزب أو دولة. لا خوف على العروبة إلا من كسل أهلها وتقاعسهم عن الإنتاج الثقافي والعلمي.
حتى لو لم يكن في سورية إلا العرب، فإن اسم دولتنا المستقبلية ينبغي له ألا يحمل أي صفة تشير إلى عرق أو أيديولوجية أو دين؛ فمفهوم الدولة الحديثة لا يتقبّل أن يُقرن بأي صفة غير الصفة الوطنية/ العمومية. هل يمكن أن يكون للجمهورية السورية المستقبلية دور مهم في المنطقة العربية؟ نعم، أصلًا لا يمكن لها أن تستمر من دون هذا الدور؛ حقائق التاريخ والجغرافيا والمصالح تفرض ذلك، ولا ينبغي لأحد أن يفرح أو يحزن إزاء هذه الحقيقة، فهذا أحد أقدار سورية. يُضاف إلى ذلك أن الناظر إلى سورية من خارجها، أي من العالم، لن يراها إلا دولةً تسبح في الحضن العربي، أيًا كان مستقبلها.
لا يمكن أن تنتعش العروبة في سورية من دون الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ فإعادة اكتشاف العروبة وضخ الدماء في عروقها غير ممكنيْن من دون أن تتحوّل سورية ذاتها إلى دولة وطنية ديمقراطية. ولا يمكن فهم تعبير “سورية أولًا” إلا في هذا السياق، أي في سياق الطريق العقلاني الذي يقرّ بما هو ممكن أو متاح بين أيدينا من جهة، والذي قد يفتح طريقين في آن معًا من جهة ثانية؛ طريق إلى صيرورة سورية دولة ديمقراطية لأبنائها كلهم، وطريق إلى شكلٍ ما من اتحاد ديمقراطي مستقبلًا بين الدول الوطنية الديمقراطية في المنطقة العربية، لا في سياق تخلي سورية عن التزاماتها اللصيقة بها، تلك التي لا يمكن الفكاك منها.
صناعة الوطنية السورية
أسوأ ما يحدث في الأزمات هو انفجار البنية المجتمعية على حديث الهويات، وأخطر ما في الحديث هذا ركونه إلى الماضي والذاكرة على حساب الحاضر والمستقبل، خصوصًا عندما يُنظر إلى الهوية بوصفها صيغةً ثابتةً ومتكوِّنة سلفًا، ومن ثمّ ليس من دور للبشر الحاليين سوى النضال لتثبيتها كما هي أو كما وُرثت. هنا يغيب الحاضر والمستقبل عن الهوية، ما يعني استبعاد تجدّدها، والركون إلى حالة من الكسل الثقافي والمعرفي، والاستمرار باجترار الماضي. الهوية مفهومٌ تاريخي متجدِّد، وأي محاولةٍ لحجره في إطار الخصوصية يقتل الهوية، الخصوصيات التي يُحتفى بها عدمية وثابتة، وبعيدة عن التفاعل الإنساني.
هناك تخوّف معلن أو مضمر من تعبير “الشعب السوري”، التعبير الذي استبدله البعثيون في الدستور السوري بتعبير آخر “الشعب العربي في سورية”، لا يتوافق مع الحقيقة السياسية في سورية، ومثله جرى الذهاب نحو تعابير أخرى: “التلفزيون العربي السوري” و”الجيش العربي السوري”… إلخ، خوفًا على العروبة من النسيان أو الزوال. في الحقيقة، المفاهيم كلها المتعلقة ببناء الدولة الحديثة مترابطة في ما بينها؛ فمفهوم المواطن مرتبط بالدولة القائمة فعليًا لا بالدولة المتخيّلة، وباعتبار أن الواقع لا يقدِّم لنا إلا الدولة السورية المعترف بها في الأمم المتحدة، فمن الطبيعي أن تُشتق المفاهيم الأخرى من الدولة هذه: المواطن السوري، الشعب السوري، ويغدو من المنطقي أيضًا استخدام مفهوم الأمة السورية من دون حرج أو خوف، بوصفه تعبيرًا ثقافيًا عن الدولة والشعب، لأن كلًا من المفهومين (الدولة، الأمة) يشترط وجود الآخر.
الوطنية السورية هي تصالح مع الذات الواقعية، مع الذات المعترف بها عالميًا، مع الذات الوحيدة التي يمكن أن تكون معبرًا عن الكل الاجتماعي السوري، وهي التعبير الوحيد الذي يتطابق مع تعبير الشعب السوري. الوطنية السورية هي الانتماء إلى الفضاء العام السوري، إلى الدولة السورية القائمة بالفعل، وإلى أرضها وشعبها وثقافتها؛ ثقافتها المتنوعة التي هي حصيلة تفاعل الثقافات، العربية وغير العربية، وانفتاحها على الثقافة الكونية بأبعادها كلها.
يمكن أن يكون تعبير “الثقافة السورية” تعبيرًا أعم وأشمل بالنسبة إلى سورية والسوريين، بوصفه تعبيرًا عن اجتماع وتفاعل ثقافات متنوعة، إحداها الثقافة العربية، وأكثر انسجامًا وتناغمًا مع المفاهيم الأخرى الممكنة في سورية (الدولة السورية، الشعب السوري، المواطن السوري، الأمة السورية .. إلخ)، لكن هذا التعبير نفسه، أي “الثقافة السورية”، يمكن أن يكون، في الآن ذاته، إحدى تنويعات الثقافة العربية بمفهومها الواسع والديمقراطي والمنفتح والمتجدِّد، خصوصًا أنه لا توجد لسورية لغة خاصة بها مشتقة من اسمها “لغة سورية”، بل لغة عربية تشكل وعاء الإنتاج الثقافي للسوريين العرب، ولسوريين كثيرين غير عرب.
الوطنية السورية مفهوم وثيق الصلة بالدولة الحديثة، ويشير إلى صفتها الأساس؛ العمومية، وهو مغاير لمفهوم “القطرية” الذي يحضر بكثافة لدى القوميين العرب، للتعبير عن حال التجزئة المرفوضة. هنا من المنطقي، والمهم أيضًا، ألا نستمر في التعاطي مع نتائج سايكس بيكو بعقليةٍ تستند إلى شكل من أشكال تأنيب الضمير ومعاقبة ذواتنا أو إلى روحية التبرؤ من منتجاتها أو كرهها ونبذها (سورية، لبنان، فلسطين، الأردن، العراق)، الأمر الذي يجعلنا نشعر بالخيانة للعروبة وارتكاب الخطيئة، عندما نفكِّر أو نريد أن نبني سورية دولةً وطنية ديمقراطية. لا أحد يستطيع أن يبني شيئًا من شيء يكرهه أو يستثمر في شيء يشعر تجاهه بالخطيئة. لا توجد دولةٌ في التاريخ ظلت حدودها صامدةً بلا تغيير، وتتجلى العقلانية بالاستثمار في بناء ما بين أيدينا دولًا كاملة الأهلية، وهذه قناعة ينبغي لها أن تملأ العين والعقل والقلب.
على مستوى الشعور العاطفي، لا خوف من تعدّد المشاعر، بل من الطبيعي أن تتعدّد، ويمكنها أن تتكامل بدلًا من أن تتناقض؛ فالشعور بالانتماء إلى مدينة أو قرية سورية لا يلغي الشعور بالانتماء إلى سورية، والانتماء الحقيقي إلى الأخيرة عندما تصبح دولة وطنية ديمقراطية لا ينهي الانتماء إلى فضاءات أوسع أو يتناقض معها، بل على العكس سنكون أمام انتماءات صحية أخرى، متجدِّدة أو جديدة، بما فيها الانتماء إلى العروبة والإنسانية.
العربي الجديد
——————————–
الوطنية السورية بين الواقعية والمثالية/ حازم نهار
يُعيب البعض على المنادين بالوطنية السورية رومانسيتهم ومثاليتهم، وابتعادهم من الرؤية الواقعية إلى الوضع في سورية الذي يسير في كل يوم بعيدًا من الوطنية وأحلامها، ويقترب أكثر فأكثر من ترسيخ التقسيم. ويركن هؤلاء في تحليلهم، في الدرجة الأولى، إلى موازين القوى الواقعية وحوادث الواقع ودرجة التباعد والكراهية السائدة، ويشاركهم في تحليلهم قوى الأمر الواقع نفسها، بحكم ما لديها من عسكر وعتاد وتأثير وسيطرة.
في الحقيقة، هناك قراءات عديدة للواقع، لكن القراءة السائدة اليوم في سورية هي القراءة الاختزالية والسطحية، إذ يختزل الواقع في الموجودات والظواهر الحسية أو المباشرة، بينما يغيب الواقع بمفهومه الواسع الذي يشمل المسارات والإمكانات الكامنة، فضلًا عن عدم الالتفات إلى أهمية وضع الواقع في مساره التاريخي الذي يحدِّد اتجاهات المستقبل. ويعني ذلك أننا نحتاج حقًا إلى البصر والبصيرة في آن معًا لاكتشاف مشروعية أو إمكانية أي فكرة أو مشروع في الواقع. حكم البصر هو حكم الواقع العياني، المحسوس، المباشر، الآني، بينما تهتم البصيرة برؤية الكوامن والموجودات والعلاقات الاستراتيجية التي تحكم مصائر الظواهر، وتُعقلن السلوك والتكتيكات والمؤقتات.
تتخذ الرؤية الواقعية السطحية من موازين القوى الظاهرة مرجعها الوحيد لتحديد الخيارات، ويغيب عنها أن الواقع شديد التعقيد والتغيّر والتحرّك والتناقض، ومفتوح على احتمالات غير حصرية، ومن ثمّ لا تمكن إحاطته أو معرفته بصورة كلية؛ فكلُّ فردٍ منا يراه من زاويته، وحتى إن افترضنا أن مجموعة من الأفراد يرونه من زاوية واحدة، فإن كلًا منهم يفهمه بطريقته، ويستخدم فهمه بطريقة مغايرة للآخر، ولا يمكن استبعاد تدخّل الأيديولوجية في فهم الواقع المرئي، حتى أن بعضنا يمكن أن يقدِّم الواقع بصورة تتوافق مع أيديولوجيته. أيضًا، الواقع ليس ما نراه فحسب، بل أيضًا ما لا نراه؛ الوقائع الكامنة التي يمكن أن تتحول إلى واقع في لحظة ما، تلك التي لا نستطيع اكتشافها وإدراكها من دون التاريخ والمعرفة.
في سورية، قوى الأمر الواقع معظمها قوى غير استراتيجية؛ قوى مؤقتة، محكومة بأوضاع مؤقتة وسريعة التبدل، بينما القوى الاستراتيجية هي تلك القوى التي تملك درجة ما من الثبات، وتتوافر لها المقومات الواقعية على الاستمرار. القوى المؤقتة هي رهينة العلاقات الإقليمية والدولية، ولا تملك عناصر أو مرتكزات داخلية للقوة، وهذه لا تُختزل في القوة العسكرية، ما يعني أن أي تغيرٍ في العلاقات (تسويات، مساومات، تبادل مواقع…إلخ) من شأنه أن ينعكس سريعًا على مخزون القوة ذاته لقوى الأمر الواقع، مع رجحان احتمالات الاضمحلال أو التلاشي أو تغيير الاصطفاف السياسي. وللأسف، فإن رؤية الواقع بمفهومه البسيط والمباشر مرتبطة بالغرور وردّات الفعل السريعة، فما أن تحظى مجموعة أو فئة ببعض القوة حتى تدير ظهرها لأي اتفاق سابق كانت طرفًا فيه، ما يعني أن الاتفاقات التي تجري في أحوال غير مستقرة كانت اتفاقات هشة، ولا تملك إمكانية الاستمرارية.
هل تتمثل الواقعية بالرضوخ لموازين الواقع الراهن والتنظير لها وشرعنتها أو تطبيعها؟ كان تنظيم “داعش” قوة من قوى الواقع منذ سنوات، وسيطر على ما يزيد على 50 في المئة من مساحة سورية والعراق مدة من الزمن، لكنه تبخّر فيما بعد. لقد اكتسب تنظيم “داعش” ميزان قوى جعله فاعلًا ومؤثرًا في الواقع، لكنه افتقد إلى القابلية للحياة، أو الاستمرارية، أو هو في الأحرى مشروع ولد ميتًا سلفًا، ووحدهم من يقرؤون الواقع سطحيًا وآنيًا من غرتهم قوته، ومن ثمّ لم يستطيعوا رؤية مسارات الواقع المستقبلية.
كان كثير من المحللين “الواقعيين” يرون، مثلًا، أن النظام السوري وصل إلى درجة عالية من الضعف إزاء التنظيمات الإسلامية المتنوعة التي سيطرت على مساحات وساحات واسعة في سورية، لكن الواقعية العاقلة كانت ترى آنذاك أن هذه القوى ضعيفة بالمعنى الاستراتيجي أو ميتة سلفًا، فلو اقتربت من استلام السلطة في سورية لن تجد النظام السوري وإيران وروسيا في مواجهتها فحسب بل العالم كله، ومن ضمنه الدول التي دعمتها ماليًا وعسكريًا. الأمر نفسه ينطبق على “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي، فمثل هذه القوى، وإن وصلت على درجة من القوة العسكرية التي تجعلها تغتر بنفسها، وتعتقد أنها قادرة على فعل ما تريد، تبقى قوى مؤقتة أو معدة للاستخدام المؤقت، ولا تملك مقومات البقاء والاستمرارية.
على ما يبدو، يترك الواقع المزدحم بالقوى السياسية والعسكرية، وبالتدخلات الإقليمية والدولية، الباب مفتوحًا للرهانات السريعة والسطحية انطلاقًا من مخزون القوة المادية، العسكرية والمالية، وكثير منها يصبّ في ساحة الوهم أو الاستثمار في الوهم، وهذا حصل كثيرًا خلال السنوات الماضية، وهذه تعكس حجمًا كبيرًا من القراءات الخاطئة للواقع وموازين القوى الحقيقية؛ فميزان القوى لا يمكن احتسابه بالاستناد إلى ميزان القوة العسكري فحسب، لأن مفهومه أوسع كثيرًا من ذلك، إنه يشمل السياسة والجغرافية والديموغرافيا والتاريخ والإعلام والعلاقات الإقليمية والدولية والاقتصاد، وغيرها. وفي السياق هذا، كانت هناك، وما تزال، أوهام عديدة سيطرت على الساحة السورية ونخبها؛ وهم الدولة الإسلامية، وهم الدولة العلوية، وهم الإسقاط السريع للنظام، وهم الدولة الكردية… إلخ.
كان لينين يرى أن السياسة هي العمل في وحل الواقع، وهذا صحيح، لكن ليس بهدف التمرغ في أوحاله، بل من أجل الارتقاء به، بقدر ما نملك من طاقة ومعرفة، وبقدر ما تسمح به إمكانات الواقع الظاهرة والكامنة، ومن دون هذا كنا سنظل أسرى واقعنا، فضلًا عن أن السير مع الواقع إلى حيث تريد موازين القوى الظاهرة أو السائدة في لحظة ما يُفقدنا مبرر الوجود. الواقعية أو الموضوعية لا تعني التسليم بالحتمية والقدرية واليقين إلا بقدر ما تعني الضرورة.
ما أريد قوله هو إن المشروعات السائدة في الواقع السوري اليوم، والتي تظهر قوية ومسيطرة في اللحظة الراهنة، هي مشروعات ضعيفة وهشة على المستوى الاستراتيجي، ولا تملك مقومات الحياة أو الاستمرارية أو الثبات؛ لذلك تتمثل أمنيتنا بإمكان عدم سير قوى الأمر الواقع في طرق مسدودة النهايات أو مطاردة الأهداف الوهمية، لكننا نعلم أن تحقق الأمنية هذه مشروط بحيازة القوى هذه رؤية عقلانية تستطيع استشفاف المستقبل، وهو ما لا يدعو إلى التفاؤل.
الوطنية السورية ليست حتمية، لكنها إحدى ممكنات الواقع، ومن عناصر قوتها الكامنة أنها الإمكان الأكثر شعبية وقبولًا عند أكثرية السوريين، السوريين الطبيعيين، إذا استبعدنا المندرجين في القوى المتحكِّمة في الواقع، على الرغم من كونها الأضعف في موازين القوى الحالية؛ فآراء وتطلعات الأكثرية هذه غير ظاهرة بحكم سيطرة قوى الأمر الواقع، وليس لها وجود سياسي أو عسكري. العنصر الآخر هو اتجاهات العلاقات الدولية والإقليمية التي ترجِّح، في اعتقادي، الحفاظ في المآل على سورية موحّدة، لأن التقسيم لا يصبّ في مصلحتها، كونه قد يجرّ المنطقة كلها إلى التقسيم وحرب الجميع ضد الجميع، فضلًا عن عدم إمكانية تحقّقه ديموغرافيًا واقتصاديًا. سورية مفتوحة استراتيجيًا على خيارين، إما الوطنية السورية أو التشظي والبقاء زمنًا في ساحة الحرب، فيما التقسيم ليس واردًا.
لا يستطيع البشر العيش من دون مثال أو هدف، شريطة أن يكون أحد ممكنات الواقع، لا مجرد خيار معلَّق في الرأس. يمكن أن يساعد الهدف أو المثال في تغيير العالم نحو الأفضل، ولكن من الضروري أن يُشتقّ أو يُستخلص من الواقع؛ فالاسترشاد بالمثال مهم كي لا يكون مصيرنا السير عميانًا في واقع لا يخدمنا، والقراءة العاقلة للواقع مهمة كي لا يأخذنا المثال نحو الوهم ومطاردة طواحين الهواء.
مثلما هناك واقعية سطحية، هناك أيضًا مثالية سلبية، إن جاز التعبير؛ “الذاتوية” أو “الإرادوية”، تلك التي تُخرج الواقع من رأسها، بدلًا من إخراج رأسها من الواقع، معتقدةً “أن أوهامها عن الواقع هي الواقع، وأن إرادتها هي التي تصنع التاريخ، هذه الإرادوية تنتج الاستبداد والفاشية”. في المقابل، الواقعية في حدّ ذاتها، لا تؤدي بالضرورة إلى فهم الواقع، ومن ثمّ اكتشاف مساراته، والتعامل الفاعل مع حقائقه، خصوصًا إن كانت واقعية جزئية أو سطحية أو أيديولوجية.
لا تتجلى العقلانية باتساق حركة الفكر والخيارات السياسية مع حركة الواقع وموازينه وممكناته فحسب، بل أيضًا مع المصالح والأهداف العقلانية للأفراد والجماعات. الواقع والمثال كلاهما ضروري لبناء رؤية عاقلة، أو للعقلانية، ولا يشكل التضاد أو التعارض أو التوتر أو التنابذ بين المثالي والواقعي، في المآل، مشكلة لكلِّ ذي بصيرة، لأن هذا هو جوهر الفلسفة والسياسة.. والحياة.
المدن
——————————————-
==========================
=============================
تحديث 28 تموز 2020
—————————
في حاجة الوطنية السورية إلى الفكر/ حازم نهار
1.استنكار الفكر
يضيق كثير من الناس ذرعًا بالحديث النظري، خصوصًا عندما يكون الواقع قاسيًا، وضاغطًا بشدة على أعصابنا، ويطالبنا بحلول إسعافية لمشكلات عاجلة لها علاقة بحياة الناس وأكلهم وشربهم ومسكنهم، وهذا أمرٌ مفهوم ومفسَّر. ويزيد بعضهم في الأمر ويقول لا فائدة من الكلام النظري إن كنا لا نستطيع تأمين بعض الخبز للناس في الخيام، وهذا أيضًا يمكن فهمه وتفسيره.
لكن ما لا يمكن فهمه وتفسيره سيطرة هذا الضيق على مستوى النخب الثقافية والسياسية، لأن معناه الضمني والصريح الاستقالة من عملها من جهة، وإنكارها لبديهية أساسية تتجلى بالترابط الوثيق بين النظر والعمل أو بين الرؤية والواقع من جهة ثانية.
نعم، الغريب فعلًا هو أن يشعر كثيرون من العاملين في الحقل السياسي بتوقٍ إلى الحديث في الخطوات العملية واقتراح الأسماء التي تمكنها المشاركة، فيما ينتابهم الضيق من الحديث في النظريات والمبادئ والمفهومات، معتقدين أنهم يُفلحون أو سيفلحون في العمل السياسي من دون الفكر والسياسة.
تتعامل أكثريتنا مع “الوطنية السورية” على أساس أنها بديهية ومعروفة سلفًا، ولا حاجة إلى التفكير فيها، مع أنها أكثر ما يحتاج منا إلى صناعة وبناء على أساس فكري سياسي؛ ففي غياب الرؤية الفكرية السياسية، يتحول المشروع الوطني السوري إلى مشروع “لمة”، وتنخفض قيمته من مشروع جامع إلى مشروع تجميعي، يعبِّر عن نفسه بجمع ممثلين عن الإثنيات والقوميات والأديان والطوائف.
كلنا نقول إننا نحمل راية الوطنية السورية والمشروع الوطني السوري، لكن عندما نذهب إلى السياسة والممارسة السياسية لا نجد أثرًا لهما في الواقع، بل نجد تصريحات وخطابات تتناقض مع بديهيات أي مشروع وطني، ونجد مواقف سياسية تتبع سياسات دولية وإقليمية، وممارسات سياسية ما دون وطنية، إثنية وطائفية وعشائرية ومناطقية. ما يعني أننا غير صادقين في انتمائنا إلى الوطنية السورية أو أننا نفتقد إلى فهم المشروع الوطني ذاته.
عندما لا نبني، تدريجًا، عبر حوار عميق وتفصيلي، رؤى عقلانية متماسكة إلى الوطنية السورية، وإلى القضية الكردية، وإلى العلاقة بين الدين والدولة، وإلى الريف والمدينة، وإلى العلاقات الإقليمية والدولية، وإلى القيادة وفهم أدوارها وآليات عملها، وإلى الخطاب السياسي، وإلى العلاقة بين الثورة والسياسة، وإلى الإعلام وأهدافنا منه، وإلى النظام السياسي السوري ونقاط ضعفه وقوته… إلخ، من الطبيعي أن نصل إلى الحال هذه من الانقسام والفوضى والفشل.
اختزال السياسة وغياب الاستراتيجية
كثيرون ممن عملوا في الحقل السياسي لا يقرؤون، يعتمدون على ما يسمعونه، وينقلون مضامين لقاءاتهم بالسفير أو الدبلوماسي الفلاني على أنها حقائق، هذا إن كان النقل سليمًا أو صادقًا، وفي أحسن الأحول يتابعون النشرات الإخبارية. مواقفهم السياسية حافلة بالتناقضات والتنقلات السريعة، من اليمين إلى اليسار أو العكس، يجمعون في رؤوسهم ما لا يُجمع، الوطنية السورية والطائفية، الاستقلالية والتبعية، العداء المطلق لهذه الدولة والانبطاح في حضن غيرها… إلخ. في أبسط الأمور، لا توجد رؤية أو فهم للزعامة والقيادة ودورها، ولا إدراك لأهمية التزام القانون والنظام، ولهذا يمكن لأي فرد في التشكيلات السياسية السائدة أن يتحدث إعلاميًا بصورة مختلفة عن الآخر إلى درجة التناقض، كما لا توجد ضوابط تحكم سلوك الأفراد سياسيًا، ولا محدِّدات للقاءات مع السفراء والوزراء… إلخ.
يُختزل العمل السياسي أيضًا بالتكتيكات الفارغة، والتذاكي المفضوح، والفهلوية قصيرة النفس، والتصريحات الإعلامية القتالية، واللقاءات الدبلوماسية الفاقدة للمعنى…إلخ. عندما يكون هدف المرء من السياسة حيازة موقع شخصي فحسب، لا يحتاج وقتها العمل السياسي إلا إلى بعض الصفات المتعلقة بطرق الوصول وإزاحة المنافسين ونصب الشِّراك والفخاخ، وإلى قنوات إعلامية تُقدِّمه. بينما عندما يكون هدف السياسة بناء الدول والمجتمعات وإدارة الأزمات العامة وإحراز التقدم، سنكون في حاجة إلى بذل الجهد كثيرًا لاكتساب المعرفة. السياسة أعقد علوم البشر، وتحتاج إلى الفكر والمعرفة بالتاريخ والجغرافيا وسياسات الدول ومسارات تحول المجتمعات والثقافات البشرية، وغيرها، خصوصًا في المجتمعات المتأخرة التي لا يوجد لديها تاريخ سياسي.
تؤدي الرؤية السياسية الخاطئة مثلًا؛ التحليل السياسي الأيديولوجي، التحليل الرغبوي، التحليل الشعبوي، التحليل الرومانسي، التحليل الذي يفتقد إلى المعطيات… إلخ، إلى رؤية زائفة للواقع الذي نريد الفعل أو التأثير فيه، ومن ثم تقترح هذه علينا، بالضرورة، ممارسات وآليات عمل لا تتوافق مع الواقع. كذلك، ستترتب على تحييد الرؤية النظرية والتحليلية للواقع نتائج خطرة، معظمها اليوم أصبح من معطيات الواقع السوري؛ فأخطاء الممارسة السياسية تعود في جزء غير هيِّن منها إلى الخلل في الرؤية أساسًا، ويمكننا أيضًا اكتشاف أن تكرار الأخطاء العملية ذاتها، يعود أولًا، ببساطة، إلى تحليلنا الخاطئ للواقع، فالخطأ في التشخيص أو الرؤية لا بدّ أن يستتبعه أخطاء في العمل والممارسة.
من نتائج غياب الرؤية النظرية والتحليلية والاستراتيجية أيضًا الانهماك والغرق في التكتيكات والتفاصيل والهوامش والجزئيات، وتضارب سلوكات السياسيين وتعارضها، وإنهاء بعضها بعضًا، ما يمنع تراكم الجهد والخبرات، ويفقدنا القدرة على التقدم خطوة نحو الأمام.
الاستنساخ المتكرِّر للتجربة
طوال السنوات الماضية، كان المطلوب أو الهاجس دائمًا، محليًا أو إقليميًا أو دوليًا، إنجاز عمل سريع تحت ذريعة أن النظام سيسقط سريعًا أو بناءً على طلبٍ أو وعدٍ من دول معينة، أو استنادًا إلى تقديرات سياسية ذاتية، كانت كلها في الحصيلة خاطئة.
أُنجز المجلس الوطني بين ليلة وضحاها، والائتلاف الوطني في أربع وعشرين ساعة، وكلاهما انتهى إلى الاضمحلال والتفسخ، وشُكِّلت حكومة انتقالية لا تحمل أي فرصة للحياة، وبُنيت الهيئة العليا للمفاوضات عن طريق دعوات اعتباطية، واحتوت في داخلها كل عناصر الانفجار والتمزق. نحن مغرمون بتشكيل الفصائل والجماعات والتنظيمات بسرعة إلى درجة ابتذال الأسماء كلها.
ما الفائدة التي حصلنا عليها من اجتماعات الائتلاف والمجالس وهيئة التفاوض وأستانا وسوتشي، وغيرها؟ في الحقيقة، لم تقدم سوى مزيد من الفوضى والإمعان في تفسخ قوانا. هذا الأداء السائد ليس عملًا سياسيًا بالتأكيد، ولن يتمخض عن شيء ذي وزن بالطبع، إنه نوع من الغرق في مستنقع لا ينتج إلا المزيد من الخراب والعفن. ما معنى المشاركة في العملية التفاوضية مع الافتقاد إلى رؤية تحدِّد عناصر قوة الذات والآخر، وإلى استراتيجية تفاوض، وإلى مراحل عقلانية وواقعية، وإلى خطاب سياسي ذي عناصر محدَّدة، وإلى إعلام مدروس من حيث مفهوماته وتعابيره…؟
ينادي كثيرون، في محطات عديدة، باتخاذ خطوات وإجراءات عملية وتنظيمية، ولا يدرون أنها ستبقى تشكيلات لا معنى لها بحكم افتقادها إلى الصلة بالرؤية والأهداف؛ فالتنظيم نفسه ليس شكلًا هندسيًا ومجموعة من المحدِّدات القانونية، بل هو أساسًا، وقبل كل شيء، فكر وسياسة. نحن نبني التنظيمات والهياكل العملية التي تتوافق مع رؤية فكرية سياسية محدَّدة، ومع قراءة سياسية تحليلية للواقع، وإذا لم يحدث هذا، فإن المنتج لا يعدو أن يكون هيكلًا كرتونيًا.
تُبنى الشراكات والتحالفات معظمها بين القوى أو بين الأفراد، على أساس مقولات عامة أو شعارات فضفاضة من دون إخضاعها لحوار فكري سياسي حقيقي وصبور، ما يجعل أي تحالف أو بنية أو شراكة سياسية أمام احتمال الانفجار دائمًا؛ لأن الاتفاق الحاصل جرى وفق منطق التواطؤ الضمني المشترك على استخدام كلمات عامة تحظى برضا الجميع، بينما يحمل كل فرد أو طرف سياسي لها معنى مغايرًا، ما يعني أن الاتفاق الذي يُبنى سريعًا استنادًا إلى منطق التواطؤ هذا، سينفرط عقده عاجلًا أم آجلًا.
يشبه أولئك الذين يذهبون إلى بناء التشكيلات التنظيمية والآليات العملية من دون بذل الجهد في بناء رؤية فكرية سياسية لمشروعهم، ورؤية سياسية تحليلية عقلانية، أولئك الذين يحرِّكون أيديهم وأرجلهم من دون رأس؛ حركة مجانية من دون هدىً أو كما يُقال “حركة بلا بركة”.
عندما تكون مسيرتنا السياسية، خلال السنوات الماضية، ذات مسار انحداري، وعندما ننتقل من حفرة إلى حفرة، ومن مطبٍّ إلى آخر، ينبغي لنا أن نعيد بناء رؤانا وتصوراتنا الفكرية أولًا؛ قبل الذهاب باتجاه الإعلان عن تشكيلات تنظيمية من أي نوع، ينبغي لنا الاتفاق على الرؤى والمفاهيم النظرية والمبادئ الموجِّهة للعمل، واختبار إيماننا بها، وفهمنا لها.
المدن
——————————
في المشروع الوطني والبحث عن حوامله المجتمعية/ جمال الشوفي
بين أن تطرح فكرة وتبحث عن واقع يحملها، أو تنطلق من واقع لفكرة يمكن أن تصيغه كثافةً، جدل مستمر منذ هيغل وماركس، وما قبل وما بعد، هو عمل واشتغال في قضايا الناس وشؤونهم ومصائرهم وطرق حياتهم. فالواقع قابل للاعقل، كما الفكر والعقل قابل لأن يصبح واقعاً، وبين هذه وتلك ثمة جدل وطرق معرفية ومناهج أيضاً، لكن الأهم قبل طرح هذه أو تلك، وحسب الياس مرقص، هو ردم هذه الهوة بين الفكر والواقع، أو الواقع والفكر، بالعمل والأدوات. المشروع الوطني
تكتظّ الساحة السياسية السورية اليوم بالمشاريع والأوراق السياسية، التي تحاول أن تضع مشروع وثيقة أو مبادئ وطنية، تبحث في الحل والمستقبل السوري، مطعمة برؤية وأهداف ومبادئ حامليها. فالبحث عن تغير سياسي ينصف المظالم، ويحقق العدالة، ويبني دولة تقدّر وتثمّن مواطنيها، هو الخلاصة العامة لهذه الأوراق والجهود؛ خاصة وأنّ حجم المأساة والكارثة السورية بات يفوق حد الخيال، فكيف إذا ما أضفنا، أنّه ثمة شعور عام باقتراب المسألة السورية من نهاياتها، بإشارات روسية وأمريكية متعددة، وبين هذه وتلك، معايير سياسية واقتصادية ناتجة عن مفاعيل قانون “قيصر”، وأثره الملموس على واقع السلطة السورية ورعاتها الإقليمين والدوليين.
التغيير والانتقال السياسي بمرجعية القرار 2254/2015، العدالة الانتقالية، المبادئ العامة للوطنية السورية، روافعها وأسسها الدستورية والقانونية كما في إعلان الوطنية السورية، وبصيغة موسعة أحياناً في مجالسها الانتقالية السياسية والعسكرية والمدنية، كما في العديد من الأوراق والوثائق الوطنية الأخرى، والتي هي مبادئ عامة بمجملها، تحاول النضوج والاكتمال من حيث الرؤى والفكر وطريقة الحل الوحيد والممكن، والذي لا نزاع عليه لليوم منذ 2011، في استحقاق التغيير والانتقال السياسي. لكن السؤال المطروح اليوم من هي الحوامل المجتمعية القادرة على حمل هذا التحول والتغيير؟ وهو ما يعيدنا لموضوعين: الأول، في عمق جدل الفكر والواقع، والثاني أين هي مقومات الحل السوري اليوم؟ المشروع الوطني
لا يخفى على أحد من العاملين في الحقل السياسي الفكري السوري اليوم، أنّ سورية باتت مسألة دولية شائكة تتنازعها طريقتين: طريقة سوتشي الروسية وجنيف الأممية، والتي درست بشكل مدقق ومتكرر، وبات عنوانها الدولي “ما فوق سوتشي وما دون جنيف”، والتي تعني بالتحديد عدم السماح لروسيا بالاستفراد بالحل السوري سياسياً، وهذا ليس لأنّ الشعب السوري وقضيته في الحرية والكرامة محطّ تضامن عالمي، بل لأنّ المسألة السورية باتت محطة دولية كبرى يتصدّر المشهد فيها كيفية إعادة ترتيب النظام العالمي وحيد القطب بنمو وصعود روسيا على حسابها ومن خلالها.
إنّ إدراك الغالبية العظمى من السوريين لهذه المعادلة، يجعل البحث في مقدمات ومتطلبات الحل السوري معضلة شائكة وعقدة صعبة الحل، خاصة وإنّ قوى التماس الأرضية محفوفة بالمخاطر العسكرية الكارثية بوجود كبرى المنظومات العالمية على الأرض السورية، وبالتالي يعتبر البحث في مستقبل سورية وفق إعلان مبادئ وطنية سورية، سواء بورقة عامة أو بوثيقة عمل وعهد وطني، مهم من حيث المبدأ للمستقبل الممكن، لكن ينقصه البحث في الواقع المحلي وحوامله المجتمعية القابلة على حمل هذه المبادئ وتجسيرها فعلياً في الواقع، وهي المبتلية بكل جروحات وكوارث السنوات العشر الماضية، ما يحيلنا مباشرة للسؤال الأول في المقدمة: ما هي الطرق والأدوات لردم هذه الهوة بين الواقع المثخن بالآلام والكوارث والفكرة الحق المطروحة؟
فإذا سلّمنا بأنّ الحل السوري بات دولياً بامتياز، وأنّ التغيير السياسي هو مفتاحه، فما على السوريين فعله؟ هل انتظار هذا الحل والتغيير، أو العودة لعلاج ما لم تعالجه السياسة لليوم، إلا وفق جملة من المقترحات والتوصيات على أهميتها، لكنها أبداً لا تعالج مشاكل الواقع والهوية السورية؟
علاج الشروخ العميقة بين المكونات السورية المجتمعية الأهلية والدينية والسياسية أيضاً، يقود تلقائياً للطرق والأدوات الممكنة للعمل ولكن بمبادرات محدثة، تقوم على:
-ترميم الصدوع العنفية كمنتج للسياسة والحرب في كل منطقة سورية، كالكرد والعرب شمال شرق سورية، درعا والسويداء جنوبها مثلاً، وعموم نقاط التماس المحلي بين مكونات المجتمع بصيغته الأهلية.
-تقارب الرؤى بين الأديان وموقعها في حياة المجتمع ومستقبل الدولة الممكنة.
-استعادة مقولة العيش المشترك ووحدة المصير، ونبذ العنف والطائفية وتنازع الهويات دون الوطنية.
هو عمل يقوم على الإقرار بأنّ الحل الفكري السياسي المتقدّم، يحتاج ويتطلب لحوامل مجتمعية واقعية تقوم به وتنهض فيه، وهي تتحمل كامل مسؤوليتها التاريخية والوطنية عن مستقبل هذا البلد الذي يعمه الخراب من كل جهة.. هو العودة للبحث في محامل الواقع المجتمعي، أولاً، كطريقة وإدارة عمل لردم الهوة بين فكرة التغيير السياسي وبناء الدولة الحديثة، وبين واقع تفترسه كل موبقات المشاريع السياسية للدول الكبرى، وما ينتج عنها من عنف وتهجير وقتل وتذكية النزاعات البينية والأهلية لتفتيت هذا النسيج الوطني، بغية الاستفراد به قطعة قطعة، كما حدث طوال السنوات الماضية، ترسيخاً لسياسة القوة وسلطة العسكر. المشروع الوطني
ثمّة ما يمكن الاستناد له مرة أخرى بقول قديم حديث بآن: إذا كان مشروع الدولة السورية الحديثة مرتبط وثيقاً بالتغيير والانتقال السياسي، فالوصول لهذا التغيير وتحقيق مفاعيله، من عدالة اجتماعية وانتقالية وإنصاف حقوق ومظالم يبدأ من الواقع بكل تعييناته وتفاصيله، الذي تعبث به كل نزعات الشرور والجريمة والسياسات الدولية الماكرة، هو عمل بالواقع والحوامل الوطنية الممكنة لردم تلك الهوة العميقة بين الفكرة والواقع.
كان لسيفوكليس الروائي والمسرحي اليوناني مأثرة هامة في المسرح، حين أضاف ممثلاً ثالثاً للمشهد، بدل الاكتفاء بممثلين متحاورين في وقتها، ومأثرته أنّ هذه الفكرة جعلت المسرحية تتحرّك بسرعة ومنحتها روحاً وعمقاً وحياة، فهل يمكن للمشهد السوري أن يُمنح بعداً وحياة، إذا ما أضفنا للمشهد الثنائي الدولي (السوتشاوي الروسي والجنيفي الأممي) أو المحلي السوري (المعارض والموالي) لاعباً ثالثاً هو المجتمع بحوامله الوطنية، والذي تدعي كل الثنائيات هذه تمثيله؟ هذا البعد المجتمعي بواقعيته وتاريخه الوطني هو القادر على تحريك دفة المسرح السوري من الجمود والهدر المتتالي إلى الحياة بكل معاناتها، وتجسير العقد الاجتماعي بحوامله المجتمعية توافقياً، والمعبر الأوضح عن وحدة الأرض والشعب، وهدفه الوصول لعقد اجتماعي وطني، التغيير السياسي ليس نهاية مطافه، بل بدايته الفعلية لاستعادة الهوية الوطنية التي تذروها مفاعيل السياسية الدولية وارتهان المحلي لها معارض وموالٍ.
هو سؤال الهوية مرة أخرى، لكن من بوابة الحوامل المجتمعية صاحبة الحق بردم معيقات وجودها وهدرها الوطني المتتالي والمتفاقم، وفق بوصلة التغيير الوطني الحقة. المشروع الوطني
ليفانت – جمال الشوفي
——————————————
الهندسة المفهومية في صيانة المشروع الوطني السوري/ مضر رياض الدبس
الذات المفردة مشروع حياة، والذات الوطنية مشروعٌ لعيش هذه الحياة. والحياة صفة يتشاركها الإنسان مع سائر الكائنات، ولكن العيش صفة يتفرد بها، وتميزه عن باقي الكائنات؛ لأنها تحيل على اللغة، وعلى الإدراك، ومن ثم على طرائق وأنماط ومنهجيات الحياة. لذلك يمكن أن نقول إن العيش بناءٌ إبداعي وفني وتواصلي، وهو يتضمن بالضرورة حياةً سياسية مدنية، يمكن أن تحيا البشر من دونها، ولكن لا يمكن أن تعيش. ولا تصير الأشياء مدركةً من كونها لُمست أو شوهدت، بل من كونها فُهمت؛ فالفهم مقدمة الإدراك اللازمة، وهو منتهى اللغة، لذلك هو شرط العيش اللازم.
يبدو أن الانتقال من فكرة الحياة (مجرد وجود) إلى فكرة العيش (طريقة حياة) هو المعنى العميق للمشروع الوطني، بالنسبة إلى السوريين اليوم، ولأن الفهم ضروري لهذا الانتقال، فإنه ضروري للمشروع الوطني، وهما متلازمان. وثمة توصيفٌ آخر لهذا الانتقال لا يقل أهميةً عن الأول، فنقول: هو أيضًا انتقالٌ من تجربة مجردة إلى تجربة شخصية، فـ “مجرد حياة” ليست إلا تجربة غير شخصية، نتشارك فيها مع الحيوان والنبات، والعيش فعلٌ إنساني. والعبور من الحياة (التي لم نخترها) إلى العيش (بخياراتنا وحريتنا وإبداعاتنا) عبورٌ ضروري لضمان حق الوجود، وإلا كان هذا الحق مهددًا؛ فيصبح هذا العبور لازمًا للحفاظ على الوجود، ولطول العمر، وتأخير الموت إلى أن يحين أوانه الطبيعي، وهذا أضعف الإيمان. وهو عبورٌ في طريقين اثنين: الأول من التسليم وموقع المفعول إلى النقد وموقع الفعل، ويتضمن تعيين وبناء المنهجية؛ والثاني من الشكل المجرد إلى الشكل الشخصي المتعين، ويتضمن فهمًا وممارسة وتعيينًا وبناء لـ “مفهوم الفرد”. ولهذا العبور فنٌ يقوم على الفهم، والأصح -بتقديرنا- أن نقول إنه يقوم على ما يمكن أن نسميه “الهندسة المفهومية”. وإذا أردنا أن نضع لمفهوم “الهندسة المفهومية” ضبطًا دلاليًا، لكي نستخدمه بوضوحٍ أكثر؛ قلنا إنه: فهمٌ للموضوع وفهمٌ للآخر، يتم باستخدام الأدوات المعرفية والفكرية والمفهومية بفنٍ واحتراف. ونميز في هذه الهندسة فرعين: الفرع الأول فهم الموضوعات، وفيه المنهجيات وطرائق الفهم والمقاربة؛ والثاني فهم الآخر (جماعات وأفراد)، وفيه المقدرة على فهم الذات وهندسة قابلية الاجتماع المفضي إلى رغد العيش، ويتضمن عملين إبداعيين هما بناء مفهوم الفرد (أو الإرادة الحرة)، وبناء الإرادة العامة.
1) فهم الموضوع
للفهم بتقديرنا وسطاء، والذهنية أهمها. الذهنية وسيط بين الفاهم والمفهوم، ووسطٌ فيه تتحول اللغة إلى إدراك. ولذلك تتمايز الأحداث الذهنية عن الأحداث المادية -بتعبير ديكارت- الأمر الذي يجعل من الفهم موضوعًا للمعرفة، فضلًا عن كونه أداةً لها. تُكَّون كل ذهنية صورة للمفهوم في العقل الفاهم، وتتأثر هذه الصورة بنوع الذهنية التي تتوسط وتحلل، ويكون هذا التكوين إبداعيًا أو عاديًا أو ركيكًا أو مقلوبًا. الإبداعي مقارب يكون للعيش ورغد العيش، والعادي ينتج مجرد حياة (وجود)، والركيك ينتج وجودًا شقيًا، وأما المقلوب (أو الأيديولوجي) فهو مقدمة للموت قبل الآوان، وهكذا، في التكوين الأول، يصان المشروع الوطني، وفي الثلاثة الباقية يمتهن ويبتذل.
يعني ذلك أن معاني المفهوم الواحد تتعدد بتعدد الذهنيات التي تقاربه في لحظة معينة؛ فكثيرًا ما يبدو لنا أننا متفقون نظريًا، ولكننا عند الممارسة العملية ندرك أننا مختلفون في فهم وتأويل ما اتفقنا عليه. لذلك يحتاج المشروع الوطني إلى اتفاق على المفهومات في ما يشبه القاموس المفاهيمي الموحد للمفهومات الرئيسية، وحين نقوم بذلك نكون قد أزلنا أولى عقبات سوء الفهم، بأن نبدأ بتكلم لغة مشتركة، عمومية وواضحة؛ فالوضوح شرط الفهم الأول. وما إن ننجز هذا الوضوح حتى تفرض طريقة الفهم نفسها، وتكون سلامتها شرطًا للإبداع، فالمنهجية الأصيلة تؤدي إلى الفهم الأصيل. وبموجب هذه المنهجية الأصيلة، لا تكون الأصالة بالتمسك بالماضي أو التراث أو العادات والأعراف التقاليد وإلى ما هنالك؛ بل بالحرية التي تجعل من كل شيء موضع نقدٍ دائم على مستوى الذهنية الناظمة لعملية التفكير والتفكّر. والفهم الأصيل تكاملٌ بين تفكير معمق وتكوين مبدع، وعرضٌ واضح لما تمّ فهمه في خطابٍ إبداعي ومبتكر. لذلك تكون الأصالة في الإبداع، وتنطلق من الذات. ولذلك نقول إن القبيلة، مثلًا، عندما تفرض نهجًا في فهم الحياة، تكون مضادةً للأصالة والإبداع، ومن ثم للوطنية، وهذا ينطبق على الطائفة، والإثنية، وكل الانتماءات السابقة على مفهوم الفرد. وبالمناسبة، إن قيمنا الراسخة التي تقوم على الحيوية والعمل والشجاعة والنبل جميعها لا تكون حقيقية، إلا إذا بناها وأبدعها الفرد الحر بقراراته. ووفق هذا المنطق، لا يمكن قبول المنطلقات المنهجية الأيديولوجية التي تنتج فهمًا مقلوبًا للواقع والحياة (بكل أنواعها)، إلا بوصفها قصورًا (Immaturity)، وعجزًا، وكسلًا، وجبنًا. بل إن البعض، مثل كانط، قد ذهب إلى تمييز عصر الأنوار من خلال هذه الفكرة تحديدًا، فيقول في معرض إجابته عن سؤال حول ماهية عصر الأنوار: “التنوير هو خروج الإنسان من حالة القصور التي وضع نفسه بها”. والقصور المقصود هنا هو عجز الإنسان عن استخدام فهمه من دون توجيه الآخرين، ويرى كانط أن الإنسان ذاته هو المسؤول عن هذا القصور، لأن السبب فيه لا يعود إلى نقصٍ في الفهم، بل إلى نقصٍ في القدرة على اتخاذ المواقف، ونقص في الشجاعة اللازمة لاستخدام الفهم من دون قيادة الآخرين. فيقول: “إن الكسل والجبن هما السببان اللذان يفسران أن مجموعة كبيرة من الناس تظل قاصرة، على الرغم من أن الطبيعة تحرره من كل تأثير خارجي، وهذا يفسر لماذا يسهل على غيره أن يفرض نفسه وصيًا عليه؛ فمن السهل جدًا أن يكون الإنسان قاصرًا”[1].
والآن، لنتأمل معًا: لماذا تأسس الائتلاف قاصرًا؟ ولماذا أصبحت هيئة التفاوض قاصرة؟ ولماذا أصبح السوريون ينظرون إلى السياسة بمجملها على أنها قاصرة، ولا تحل مشكلاتهم وفقدوا الثقة فيها؟
2) فهم الآخر
الجماعة السياسة جماعةٌ متناغمة مع/(وناتجة عن) ذهنية الفرد الحر، الذي يمتلك شعورًا معقلنًا بروح الجماعة والانتماء إليها، هذه الجماعة الناجزة هي الأمة، هي المعادل الثقافي والأخلاقي للمجتمع المدني، وهي التعبير الثقافي عن مفهوم الشعب، وعن الدولة الوطنية. ولهذه الجماعة السياسة إرادة عامة، لا تكون من دونها، وهذه الإرادة العامة لا تكون بدورها من دون الحوار العمومي المفضي إلى التعاقد، أو الذي سيفضي بالضرورة إلى التعاقد، حالما تتحقق الشروط الموضوعية. وفي الحقيقة، من غير الممكن مقاربة مفهوم الإرادة الحرة، التي تتحول إلى الإرادة العامة بموجب فعل التعاقد، بوصفها كمًا من الإرادات الحرة، بل بوصفها كيفًا: أي إن التغير الكمي الذي يعني ازدياد عدد الأفراد الذين تجاوزوا شبكة العلاقات التقليدية والفئوية والأولية والعصبوية إلى مستوى الأمة، يؤدي إلى تغيرٍ كيفي من مجتمع متنوع متصارع، إلى مجتمع متنوع موحد. ما الذي يعنيه ذلك؟
إنه يعني تلازم مسارين، ونتيجة منبثقة من تلازمهما: المسار الأول هو زيادة كم الإرادات الحرة، مما يؤدي إلى ازدياد احتمال صراعها واقتتالها نظرًا لاختلافاتها. والمسار الثاني هو زيادة كم الإرادات الحرة مما يؤدي إلى ازدياد تقبل الآخر نتيجة ارتفاع منسوب العقلانية في الإرادة الحرة. والنتيجة: تؤدي زيادة الإرادة الحرة كَمًا، إلى ازدياد الصراع من جهة، والميل نحو الوحدة من جهة أخرى، فينشأ مفهوم ضابط لوجود هذين النقيضين معًا (الصراع والوحدة)، وهو مفهوم نسميه “السيفيلتي” (ترجمة حرفية لكلمة “civility”) [2]، وبما أن الدولة هي التي تجمع هذا التناقض الجدلي، فتصبح السيفيلتي هي أداة ربط الدولة بالمواطنة، وأداة لفهم آلية عملهما في الوقت ذاته. وإذا أردنا ضبطًا دلاليًا لمفهوم السيفيلتي نقول: إنها المادة (المعنوية) التي تؤدي إلى دمج التناقض والتطابق في وحدة جدلية، وهي -بالمفهوم- تعني الاعتراف بكرامة الآخر، وبجميع احتياجاته، ومعتقداته، والمطالبة بها، ورعايتها، على أسسٍ تقوم على احترام الإنسان بوصفه إنسانًا وحسب. إنها المعادل العمومي لمفهوم “الكياسة”، بما يتضمنه من اللياقة والاحترام أثناء الاختلاف، والسعي إلى تكوين أرضية مشتركة يستند إليها الحوار حول مواد الخلاف، ويحكمها نوع من “التذاوت الإيجابي”. فالسيفيلتي هي شرط الدولة، وشرط المواطنة، وتتمحور حول مسؤولية وسلوك مدنيين، يقومان على استبعاد الإقصاء، ومشاركة الجميع، واحترام الجميع، والاعتراف بالآخر، والحرص على أن يتحدث ويعبر عن رأيه، وعن توجهاته، وقناعاته، ومعتقداته، ونيّاته، بحرية تامة؛ والحرص أن يبقى صوته مسموعًا ومحترمًا. فإذا كانت هذه الظاهرة في المجتمع المدني، وعلى المستوى الخاص، تسمى كياسة؛ فإننا على مستوى الدولة والمجال العام نسمّيها “سيفيلتي”.
وكما يؤدي نقص الكياسة إلى تطور الاختلاف في وجهات النظر وإلى عنفٍ كلامي يحمل إمكانية الانفلات إلى عنفٍ جسدي، فإن نقص السيفيلتي يمكن أن يؤدي إلى توترٍ واحتقان مجتمعي، ويمكن أن يتطور إلى حربٍ أهلية. ونرى أن هذا المفهوم يتضمن تطورًا جماليًا للعلاقات بين البشر، وتصورًا جماليًا للوطن، ولشركاء الوطن، ويتجاوز ذهنية التنميط والانتماء السابق للفرد، القبيلة والعرق واللون والعائلة والدين…إلخ.
كل هذه العملية لا يمكن أن تتم من دون فهم الذات لذاتها، فهو شرطٌ لفهم الآخر. ذلك لأن إدراك الغير لا يتم موضوعيًا في أغلب الأحيان، بل نقاربه كذاتٍ أخرى نتطابق معها: نحن مثلًا نتعاطف مع المتألم، لأننا نتخيل تجربتنا مع الألم؛ فنتخيل معاناته انطلاقًا مما نشعر به. لذلك يمكن القول بأن نضوج مفهوم الفرد شرط أساسي لنضوج مفهوم الجماعة السياسية، ومن ثم المشروع الوطني برمته، والعكس أيضًا صحيح، فلا ينضج مفهوم الفرد من دون البدء بمشروع وطني حقيقي. أي أننا نطرح هنا أن “الأنا” مفهومٌ ناقص من دون الآخر، وهذا الآخر هو شرطه الوجودي، ولكي ينضج الفرد يجب أن تنضج رؤيته إلى الآخر، وبتعبير أدق: يجب أن تنضج منهجية رؤيته إلى الآخر، ويجب أن يقاربه وفق وعيٍ معقلن. فالوعي إما أن يكون وعيًا أيديولوجيًا فنفهم الآخر وفق أحكام الذات، وهنا لا نترك مساحةً كافية لظهور مفهوم الفرد لأننا نستنزف قواعد المفهوم في بناء المقاربات الهووية؛ وإما وعيًا تواصليًا يقوم على عقلانية تواصلية تساعد الذات في فهم الآخر، بالاستناد إلى حوارٍ مستمر معه تكون الذات فيه فاعلة ومنفعلة، تغير وتتغير، أي أنها تتذاوت.
وإذا أردنا ضبطًا دلاليًا لمفهوم الفرد في هذا السياق؛ فإننا نقول: الفرد هو صاحب الإرادة الحرة القادرة على التواصل والحوار والمساهمة في بناء إرادة عامة، وبذلك تكون إرادته الحرة إرادةً قابلة للاجتماع السلمي. هذا ما يجعلنا نعود إلى ذلك المفهوم المفتاحي المهم وهو “السيفيلتي”؛ فالفرد هو الواحد المجرد المتعيَّن من خلال مفهوم السيفيلتي، أي هو الإنسان المتعيَّن من خلال الحضور الدائم للآخر، ولقناعاته المعترف بها، وبحقه في اعتناقها، وفي الدفاع عنها، من دون شرط الاعتراف بصحتها، ومن دون فرض أي مرجعية محددة لهذا الحكم، والقبول بتعددها ضمن الاتفاق الأخلاقي والعقد الاجتماعي.
هذا يعني أن مفهوم الفرد متعينًا بعضوية جماعة سياسية نسميها الوطن (أي المواطن)، هو مفهومٌ ناقص من دون مفهوم المجموعة، فلا يتحدد الفرد كاملًا إلا من خلال تواصله مع الأفراد الآخرين، ولا تتحدد المجموعة بدورها إلا من خلال الاعتراف الكامل بكلِ فردٍ من أفرادها بوصفه عنصرًا منها، أي بوصفه مكوّنًا من مكوناتها، غيابه يجعل المجموعة ناقصةً ومشوّهةً.
وفي الحقيقة، يبدو أن بعض السوريين يخشى ألا تصمد أفكارهم كما يرغبون لها أن تصمد، إذا حولوها إلى مادة للتفكير العقلاني. هذه الخشية نتيجة لخوفٍ دفين من أن لا نكون “نحن”، فنتشبث بالأفكار الهووية في مقاربة الذات والآخر. في مثل هذه الحالة، يكون الفهم محصورًا بالطائفة العصبوية (دينية أو إثنية أو مذهبية أو أيديولوجية وإلى ما هنالك)، وهذا ديدن الكسولين؛ فهذه أفكار مريحة لا تحتاج إلى العمل والجهد والبحث، وهي متينة راسخة في المجتمع من دون أن تتعرض للنقد الذي تستحق. ذلك لأن سبل التفكير السائدة في الجماعات العصبوية (بالمعنى الخلدوني) لا ترحب بالنقد، ولذلك تزعجها العقول النقدية والمنفتحة، لأنها تخلخلها وتقلق راحتها وتهدد أدلوجتها. ويقع التناقض عندما تنخرط هذه الجماعات في مشروع يطلب الحرية، لأن التأمل الذاتي النقدي والحرية متماهيان، فنحن لا نتبصَّر الطرق التي ينبغي علينا السير فيها، من دون أن يكون بمقدورنا أن ندرك أنفسنا[3]. ولذلك فإن صيانة المشروع الوطني تعني -في أحد أهم أشكالها- تفنيد صفات الاستعلاء، والجحود، والغرور، والترفع عن نقد الذات، والتبرير الذهاني لكل سلوكات الذات، والأنانية المفرطة، وإلى ما هنالك من صفات التمركز حول الذات أو التكور عليها..
ولا يمكن بأي حالٍ من الأحول إنتاج إرادة عامة لتكوين مشروع وطني، ما لم يكن الفرد حرًا، وإن أي رأي، يبديه فردٌ عضو في الجماعة، يجب أن يكون رأيه الخاص به، الذي ينسجم مع قناعاته في لحظة إبداء هذا الرأي، إذ إن القناعات تتغير، إذا كان أصحابها أحرارًا بالمعنى الذي يمنع، بل يجرّم، ممارسة الاستبداد على الأفراد بأي شكلٍ كان (مباشر بالفرض والقمع، أو غير مباشر بالتضليل وامتلاك منابر التغيير وقوى نشر المعلومات) وبهذا المعنى؛ فإن العصبيات التي تشكل جماعات ضمن الجماعة تعدّ نوعًا من الاستبداد، وكل ما يمنع التفكير وإعمال العقل ما هو إلا استبداد. وقد ميَّز روسو مفهوم الإرادة العامة (General Will)، التي تعبّر عن إرادة الكل، ومفهوم إرادة الجميع (Will of All). وكان هذا التفريق -بتقديرنا-خلاّقًا من حيث المضمون، ومبدعًا من حيث الآلية. فالإرادة العامة -بتعبير روسو- هي “التي لا تنشغل إلا بالمصلحة المشتركة”، فيما لا تنشغل “إرادة الجميع” إلا بالمصلحة الخاصة[4]. والمعاني التي يتضمنها هذا التفريق قادرةٌ على إنتاج مفاهيم مهمة لخدمة السعادة الإنسانية، على مستوى التشارك في الحياة العامة، وعلى مستوى تدبير اختلاف الأحاسيس البشرية، ومن ثم تدبير الخلاف في الإرادات. هذا التفريق هو ما يجعل عملية “قابلية الاجتماع” ممكنة من دون صهر البشر، ومن دون سحق شخصياتهم وآرائهم، بل إن الحفاظ على هذا الخلاف بين البشر هو الذي يؤدي إلى إبداع مفهوم الإرادة العامة. وهذا ما يؤدي منطقيًا إلى ترسيخ مفهوم الحوار بشكلٍ عصري لا يلغي الآخر، بل يعدّه ذاتًا حرة مستقلة، لها كرامة ورأي يُحترم ويجب الحفاظ عليه.
الهوامش:
[1] Immanuel Kant, An Answer to the Question: “what is Enlightenment? “, Konigsberg, Prussia, 30th September, 1784.
[2] يميل البعض إلى التعبير عن مفهوم السيفيلتي بكلمة “المواطنوية”، ولكننا رأينا أن هذه الترجمة الحرفية أكثر دقة معرفيًا ودلاليًا، لأسباب كثيرة لا يتسع لها هذا المقال.
[3] Simon Blackburn, Think. A Compelling Introduction to philosophy, Oxford university Press, 1999.
[4] Jean Jacques Rousseau; the Social Contract, Book:2, 3rd part.
مركز حرمون
——————————————
الهوية الوطنية والدولة في سورية ما بعد الثورة/ رشيد الحاج صالح
تُعدّ مهمة بناء هويّة سورية تجمع كل السوريين، على اختلاف أديانهم وطوائفهم وقومياتهم وأيديولوجياتهم، اليوم، من أصعب المهمات الملقاة على كاهل المثقفين السوريين. وتعود هذه الصعوبة إلى أسباب عدة، أولها أن الدولة السورية/ الأسدية لم تكن دولة بالمعنى الحقيقي لمفهوم الدولة، أي أنها لم تكن الكيان الذي يعتقد السوريون أنهم ينتمون إليه ويجدون ذاتهم وطموحاتهم السياسية فيه، فضلًا عن أنها لم تسعَ أصلًا إلى بناء هوية وطنية للسوريين، خوفًا من توحدهم خلف هوية وطنية قد تشكل خطرًا على النظام الأسدي. أما الصعوبة الثانية، فتعود إلى السوريين أنفسهم، من حيث إنهم يفكرون بالـ “الهوية” بطريقة تجاوزتها الحداثة السياسية، طريقة ما زالت تعطي العوامل الطبيعية السابقة للهوية (الانتماءات القومية والدينية..) أولوية على العوامل الإنسانية (الحقوق، المساواة..).
تعود مشكلة السوريين، في عدم قدرتهم على تكوين هوية سياسية تجمعهم، إلى أن الهوية السياسية تتشكل في كنف الدولة. الهوية لا تنمو وتتمظهر خارج الدولة. فمثلًا الهويات القومية الأوروبية نشأت في كنف الدول التي عبّرت عن الأمة ورسّخت شعورًا عامًا بين مواطنيها يُعلي شأن الرابطة بينهم، ويجعلهم يفكرون في الأهداف نفسها والمصير المشترك. سورية الحديثة دولة أتت بها اتفاقيات سايكس بيكو، ولم تكن دولة تعبّر عن مجموعة بشرية بينها مشتركات وروابط. في مثل هذا الحالة، على الدولة أن تبني مثل تلك الروابط، لتخلق نوعًا من الحميمية بين الدولة وسكانها. وعندئذ تنشأ هوية انتماء إلى الدولة وكيانها السياسي والجغرافي. غير أن الدولة السورية الحديثة لم تُعطَ الفرصة الكافية لتكوين مثل تلك الرابطة بين السكان والدولة. والسبب في ذلك انقلاب العسكر على الحياة السياسية القصيرة في سورية، في مرحلة ما بعد الاستقلال.
سرعان ما سيطر حافظ الأسد على سورية، عبر انقلاب عسكري، كان حزب البعث واجهته السياسية. والهوية التي تبناها حافظ الأسد هي الهوية القومية العربية، التي أصبحت الأيديولوجيا الرسمية للدولة منذ انقلاب عام 1963. وتم تدعيم هذا الهوية بـ “الاشتراكية” التي كانت تعني -في أدبيات حزب البعث- تأميم الأراضي والممتلكات، لتوزيعها على الفقراء والفلاحين، إضافة إلى “الحرية” التي تحولت إلى ديمقراطية مركزية يقوم فيها حافظ الأسد وكبار معاونيه، من خلال القيادة القطرية لحزب البعث، باختيار ثلثي أعضاء مجلس الشعب ونقابات العمال والمعلمين واتحادات الفلاحين والمحامين وغيرهم.
كان سبب صعود الهوية القومية العربية في المنطقة هو الاستعمارين الفرنسي والبريطاني الذي قسم المنطقة العربية إلى دويلات. غير أن الأيديولوجية القومية بقيت حاضرة بقوة كهوية، حتى بعد تلاشي الاستعمار المباشر. ومن مشكلات النزعة القومية عمومًا أنها لا تتهاون مع المستعمر الخارجي، ولكنها من النوع الذي يتهاون مع الدكتاتوريات، ولذلك لم يرَ حافظ الأسد فيها أي خطر على مستقبله الدكتاتوري. وإن الطغاة الذين ركبوا على القومية لتثبيت طغيانهم أكثر من أن يُعدّوا. حتى إن الهوية السورية عُدّت نوعًا من الخيانة للهوية القومية العربية التي تشكّل المجال الأبوي للشعب السوري. غير أن سياسات حافظ الأسد القمعية، وتغوّل الدولة الأمنية (بتعبير طيّب تيزيني) ومصادرة الحريات، وعدم السماح بتشكيل أحزاب، واستشراء الفساد، ومجازر حماة، أوجدت شعورًا عامًا لدى السوريين بأن السياسة أمرٌ خطير في هذا البلد، وبأن على المرء أن يكون حذرًا أكثر من اللازم.
هذا الشعور العام بعدم الثقة بالنظام الأسدي، وبأن كل ما يقوله مجرد كذب، ونوع من ذر الرماد في العيون للتمويه على فساده ونهبه لمقدرات البلد، جعل السوريين يفكرون في الهوية القومية على أنها إما مجرد حلم بعيد المنال، وإما نوع من الكذب السياسي، أو أنها هوية غير ملموسة على أرض الواقع، أو أنها أكبر منهم، أو مجرد تغنٍ بماضٍ تليد، أو هوية غير مفيدة لهم فعليًا، ولا سيّما أن فكرة الوحدة، وهي الحامل الذي يراد للقومية العربية أن تتجسد فيه، أصبحت بعيدة المنال، وباتت مجرد كلمة خشبية لا تحوز أي مكانة في وجدان السوريين السياسي.
تكوين الهوية، التي حرص حافظ الأسد على جعل السوريين يؤمنون بها إيمانًا يصل إلى حد الهلوسة السياسية، كان موجهًا صوب الخارج لا الداخل. وهذا يعني أن الهوية القومية العربية كانت متجهة إما صوب الخارج العربي، أي الأنظمة العربية المجاورة، وهي العدو اللدود للنظام الأسدي (عراق صدام حسين، الأردن الإخونجي، الخليج العربي المتأمرك)، وإما صوب “إسرائيل” والغرب الداعم لها. ومن هنا؛ كانت هوية سلبية تتخذ الخوفَ من الآخر، والشك في نيّاته وأهدافه، مدخلًا لفهم السياسة.
حتى إن المزاج العام للسوريين البعثيين (القوميين) أخذ يحمل تقديرًا منخفضًا للسكان العرب، في الدول الأخرى والأنظمة العربية على حدٍ سواء، وهذه مفارقة تشبه مفارقة النظام الأسدي الذي يُعلي مكانة القضية الفلسطينية من جهة، ويتعامل بعدوانية مع الفلسطينيين كأفراد، من جهة أخرى.
على ذلك؛ تكونت رؤية سياسية عامة لدى السوريين، فيها خوف مضاعف من النظام القمعي الداخلي، وعدم ثقة بالخارج. هذا الخوف انعكس على تفكيرهم السياسي بالهوية التي يمكن أن تجمعهم في مرحلة ما بعد الثورة.
يضاف إلى ذلك بروز الهويات الطائفية بين أوساط السوريين، الذين تبين لهم أن الدولة كيان لا يمكن الوثوق به، بل إن الدولة/ النظام أكبر المستفيدين من عدم ظهور وطنية سورية، تكون بديلًا عن الهويات الطائفية والمناطقية، ولا سيما أن هذه الدولة (النظام) عجزت عن أن تسير خطوة واحدة، في طريق مطلب القومية العربية في الوحدة أو حتى التنسيق العربي العربي.
بقي النظام الأسدي يتجاهل المبادئ الحديثة للهوية السياسية في العالم المعاصر، مثلما تبنى طريقة الدكتاتوريات الكبرى، ولا سيما السوفيتية والصينية، في بناء هويات مصطنعة تفرضها تلك الدول على الشعوب، بما يناسب مصالح أنظمة تلك الدول وحساباتها السياسية. وهي هويات سرعان ما انهار معظمها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لأنها هويات فُرضت بالقوة لتزيح هويات أخرى.
هكذا يجد السوري اليوم نفسه أمام وضع “وطني” معقد: دولة ليست وطنية، تصاعد هويات طائفية وقومية تحت وطنية في ظل أوضاع الانفلات العام الذي تشهده معظم مناطق سورية، هوية قومية تكاد تنعدم الأسس الواقعية لتحقيقها، خوف من المستقبل، عسكرة المجتمع، تدخل دولي غير مسبوق.. حتى إننا نكاد نعثر في مدينة نائية -كالرقة مثلًا- على قوات أميركية وفرنسية وروسية وتركية، فضلًا عن ميليشيات النظام والمتعاونين معه، والكتائب الموالية للائتلاف الوطني، إضافة إلى قوات كردية.
في أوضاع كهذي، يكاد يصل السوري إلى نتيجة مفادها أن الهوية والوطنية قضايا ما فوق سياسية، بمعنى أن الوضع السياسي لا يحتمل التفكير في مثل هذه القضايا، وأن أولياته يجب أن تتركز على أمانة وتدبير أمور حياته من معيشة وتعليم وغيرها. ولكنه، بالرغم من ذلك، لا يستطيع أن يقف مكتوف الأيدي، أمام هذه التغيرات السياسية التي يمكن أن تترك بصماتها على الوضع المستقبلي لسورية.
إن السوري اليوم مطالَب أكثر من أي وقت مضى بأن يفكر في وطينته وهويته، بطريقة تلبي طموحاته الوطنية، وتستجيب لتعقيدات الوضع السوري، لتكوين هوية تجمع أكبر عدد من السوريين، وهذا يعني أن عليه إعادة النظر في ست قضايا أساسية، نرى أنها مدخل مناسب لمناقشة قضية الهوية الوطنية، في سورية في مرحلة ما بعد الثورة:
الأولى أن الهويات الوطنية الحديثة أصبحت تركز على الحقوق والمساواة والعدالة والحريات، ولم تعد تعطي الأولية لقضايا القومية والدين. وهذا يعني أن الانتماءات القومية والدينية أصبحت أمرًا ثقافيًا أكثر منه سياسيًا. ففي البداية، يتفق الناس على شكل الحكم والحقوق، ويضمنون وجود مبادئ عامة للمساواة والحريات، أما الانتماءات القومية والدينية فهي مسائل ثقافية يجب أن تُحترم، ويكون للناس الحرية التامة في التعبير عنها واعتناقها أو عدم اعتناقها في إطار ديمقراطي مسالم وإيجابي.
الثانية أن السبب الكبير الذي يكمن وراء تمسك بعض الفئات والقوى والأحزاب في تبني هويات قومية أو دينية أو طائفية هو أن هذه الهويات تسهل سيطرة تلك الأطراف على الشعوب، لا أكثر ولا أقل. فالهويات القومية والدينية -كما رأينا آنفًا- هويات تتساهل مع الطغاة، بل إنها تمجدهم، ما داموا يبيعون شعوبهم أحلامًا سياسية مجانية، ويدغدغون رغبات قومية، عفا عليها الزمن، قد تعود إلى مئات وربما آلاف السنين.
الثالثة أن الأحزاب القومية والدينية والطائفية من النوع الذي يمكن أن يدار من الخلف، لأنها بالأساس أحزاب غير ديمقراطية. ولعل هذا ما يفسر أن أهم الأحزاب التي تعمل في سورية في مرحلة ما بعد الثورة، وترفع شعارات قومية، هي أحزاب دكتاتورية، ولا سيما حزب البعث العربي الاشتراكي وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في شمال سورية.
الرابعة أن مفهوم الولاء اليوم لم يعد ذا بُعد واحد يتجه من الفرد إلى الدولة، بل أصبح ذا اتجاهين. بمعنى أن على الفرد أن يقدم الولاء للدولة التي تحترم حقوقه وترعى مصالحه وتهتم بأمانه، وإلا فلا معنى سياسيًا للولاء الوطني. على العكس، إن من يقدم الولاء لهوية أو دولة تقف على الضد من حقوقه، ولا تشركه في السلطة، ولا تبني علاقة قانونية معه، سيوقع نفسه ومجتمعه في مشكلات عليه أن يتحمل تبعاتها.
الخامسة أن مضمون الهوية لم يعد أمرًا مسبقًا وثابتًا ونهائيًا، كما هي الحال في التفكير الهوياتي التقليدي، بل على العكس، الهويات اليوم تُبنى وتُعدّل وتنمو، وفق مصالح الشعوب وظروفها. والسبب في ظهور مثل هذا التصور للهوية أن الهويات الحديثة أصبحت تتجه إلى المستقبل، ولم تعد تهتم بالماضي كثيرًا. كما أنها تعد اليوم إحدى الأدوات الواقعية الفعالة في حل مشكلات التعايش والنزعات الانفصالية، في عدد من دول أوروبا وأميركا.
السادسة أن الزمن الذي كانت تقام فيه الهوية على الضد من الهويات الأخرى قد ولّى إلى غير رجعة، وأن مفهوم الهوية اليوم يقوم على الاعتراف بالهويات الأخرى، وأخذ مخاوفها ومصالحها بعين الاعتبار. وهذا يعني أن اختلاف الهويات والأديان والأعراق يمكن تحويله من عامل صراع ونفي، إلى عامل إغناء وقوة. وهذا يعني أن تحويل التفكير بالهوية إلى نموذج يقوم على الاعتراف بالآخر المختلف هو أول خطوة في تكوين هوية سورية جامعة.
مركز حرمون
——————————————
=========================
=================================
تحديث 15 آب 2020
———————————
في ضرورة نظرية جديدة في المواطنة/ وائل السواح
رجع مفهوم المواطنة، في السنوات الأخيرة، إلى صدارة البحث بين المنظّرين السياسيين، ليس في سورية فحسب، بل في العالم كله، بعد أن كان اختفى وهلة على امتداد العقود السابقة منذ السبعينيات التي ساد خلالها خطاب أيديولوجي، قومي، شبه فاشي. وثمّة أسباب عديدة لهذه العودة، لعل أهمها أن مفهوم المواطنة يختزل، في داخله، عدة مفاهيم مهمة للبشر، كالكرامة والعدالة والانتماء المجتمعي. أهم من ذلك أن المواطنة تتصل في آن معا بقضايا تتعلق بالإنسان فردا، من ناحية، وفي انتمائه إلى مجتمعه، من ناحية أخرى. وهي بذلك تحتفظ بفردية المواطن واستقلاله وحريته في الفكر والاعتقاد والعمل السياسي والمجتمعي في وقت واحد.
وساعدت على عودة مفهوم المواطنة إلى الظهور أخيرا عوامل أخرى مثل التحولات الديمقراطية في أوروبا الشرقية في التسعينيات من القرن الفائت، وبلدان أخرى في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وتحوّلُ الديمقراطية من كونها ترفا لا ضرورة له في حمأة النضال من أجل التحرر الوطني والنضال الطبقي إلى كونها ضرورةً لا محيد عنها، باعتبارها النظام السياسي الأقل سوءا، إن لم يكن الأمثل. وجاء الازدياد الأخير لخطر الأصوليات والتعصب الديني، سواء في إيران أم الذي تشكّله الحركات الإرهابية في أفغانستان وبلاد الشام وأفريقيا، وعلى امتداد الكرة الأرضية.
أظهرت هذه التحولات أن استقرار الديمقراطية وعافيتها لا يكمنان فقط في عدالة بنيتها الأساسية، وإنما في نوعية المواطنين وسلوكهم، مثل شعورهم بالهوية، وكيف ينظرون إلى البنيات المنافسة لهذه الهوية، من بنياتٍ قومية وإقليمية ودينية وعرقية، وأهم من ذلك مقدرتهم على التسامح والتعايش والعمل مع الآخرين الذين يختلفون عنهم. وأخيرا، رغبتهم في القيام بفعل سياسي كيما يروجوا قضية عامة، ويحاسبوا السلطات عليها.
في سورية ودول عربية كثيرة، وخصوصا التي مرّت بتجربة انتفاضات 2011، بات تطوير فكرة المواطنة الآن مطلبا راهنا في منطقتنا أكثر مما في البلدان الأكثر تقدّما، لجملة من الأسباب. لقد دفع السوريون ثمنا عزيزا جدّا من أجل تحرّرهم من ربقة أبشع أنواع الاستبداد والطغيان، وسيكون عبثا مريعا وإساءة لذكرى من قضى ومن ضحّى بيننا في سبيل ذلك أن نخرج من طغيانٍ لنقع في طغيان آخر.
أولا: يقوم مفهوم المواطنة على أساس العلاقة التبادلية بين الحق والواجب. وهما مفهومان يكادان يكونان غائبين عن ثقافتنا العربية. ينقسم مفهوم الحق إلى ثلاثة جوانب رئيسية: الحق في الحياة والحق في الكرامة والحرية والحق في التملك. ولقد أنكر على الفرد تاريخيا في البلاد العربية هذه الحقوق في معظم الأحيان. وغالبا ما كان السماح بها منةً وإنعاما من الحاكم (الخليفة، الوالي، الملك، الرئيس) الذي كان باستطاعته في أي وقت استرجاع ما جاد به، فهو قادر على إزهاق الحياة ومصادرة الأملاك ومنع الأفراد من حقوقهم في العمل والتعبير والعيش الكريم، بمجرد إبداء إرادته بذلك. ههنا ينعدم تماما مفهوم المواطنة، ليحل محله مفهوم الرعية.
ولا بد، إذن، لتطوير نظرية في المواطنة، من التركيز على أهمية إيجاد الأرضية الثقافية والحقوقية والدستورية التي تعيد الاعتبار لهذه الحقوق الثلاثة الأساسية التي تعتبر المدخل إلى كل الحقوق الأخرى. ولا بد من أن يعمل المثقفون السوريون على تعزيز هذه الحقوق الثلاثة، بحيث يمتنع، مرة وإلى الأبد، على أية سلطة، مهما كانت ومهما كان مبرّر وجودها، أن يكون بإمكانها سحب أي منها (قتل النفس وقتل الكرامة ومصادرة الملكية). ولا يكفي إقرار ذلك في الدستور، ما لم يترافق ذلك بثقافة حول الحق ينبغي العمل على تأصيلها في أوساط المواطنين، بحيث تغدو الحياة والحرية والملكية الأسس التي تقوم عليها المواطنة، وليس الانتماء العرقي أو القبلي أو الديني أو الطائفي أو غير ذاك.
من جانب آخر، ينبغي التركيز على مفهوم الواجب والتمييز بينه وبين الفرض، فالواجب قضية لا تكون فاعلة إلا إذا كانت نابعة من الذات، وبالتالي قادرةً على التحقق، بغض الطرف عن القوى التي يمكن استخدامها لتحققها، كالقانون والشرطة مثلا. وفي ثقافتنا، كثيرا ما يحل الفرض محل الواجب، فيقوم الناس بواجباتهم، لأنها فرض عليهم، ولأنهم إذا ما تجاهلوها يمكن لسلطةٍ ما أن تنالهم. نرى ذلك في أبسط الأشياء، كالالتزام بإشارات المرور، إذا كان الشرطي موجودا وتجاهلها إذا كان غائبا. ولكن الشيء نفسه يمكن أن يقال عن الأمور الكبرى، كالضرائب. يتهرّب معظم السوريين من الضرائب إذا ما أمكنهم ذلك، وهم يعتبرون الضريبة نوعا من السلب لحقهم في التملك. وهم لا يدفعون ضرائبهم إلا إذا كان سيف العقوبة القضائية مسلطا على رقابهم.
وربما كان من الممكن أن يتفهم المرء الدوافع وراء مثل ذلك السلوك، وأهمها شعور المواطن أن حكومته، في واقع الأمر، غريبة عنه ولا تمثله، وأنها، بالأحرى، سلطةٌ عليه، وليست سلطة منه. ويزداد الأمر سوءا عندما يتم الخلط بين الحكومة والدولة، فالحكومة ينبغي أن ينظر إليها عرضا زائلا، تعبر عن وجهة نظر واحدة من وجهات نظر متعدّدة في البد، في حين أن الدولة ومؤسساتها دائمة، وتهم جميع “المواطنين”، وتعود ملكيتها إليهم جميعا بالتساوي.
السلوك الذي تسلكه الحكومات، أحيانا كثيرا (وربما دائما)، في تماهيها بالدولة، وتصرّفها كأنها هي الدولة، أو كأن الدولة هي الحكومة، هو المسؤول وراء سلوك “المواطنين” حيال مؤسسات الدولة، والطريقة التي ينظر إليها المواطنون إلى الأملاك العامة والمرافق العامة، كالطرقات والحدائق العامة ووسائل المواصلات. ونحن نعرف أن السواد الأعظم من السوريين، مثلا، لا يميزون بين مصطلحي الدولة والحكومة، فيستخدمونهما مترادفيْن لمعنى واحد.
على أن التفسير شيء وقبول الأمر الواقع شيء آخر. وكما أن من الخطأ أن تستأثر الحكومة بمؤسسات الدولة، وتستخدمها لأغراضها السياسية الضيقة، فإن من الواجب على النخبة السورية أن تعمل جاهدةً لكي يصل إلى وعي السوريين أن ثمّة فرقا بين المفهومين، وأنه إذا كان ثمّة لبس بسبب من استئثار الحكمة بمدلولات الدولة، فإن من واجب “المواطنين” أن يعملوا، بشكل دؤوب وواضح، لاستعادة حقهم في أن تكون مؤسسات الدولة ملكا لهم بالتساوي.
ولا بد أخيرا من الاعتراف أنه لا يمكن تأسيس مفهوم المواطنة بعيدا عن مفهوم المجتمع المدني الذي لا بد له أن يلعب دورا كبيرا، إلى جانب الحكومة (وليس في صفها)، في قيادة مؤسسات الدولة. وينبغي أن يأتي هذا الاعتراف من الحكومة أولا، ومن “المواطنين” ثانيا. وفقط عندما يصل السوريون إلى هذا الفهم المشترك، يكون الطريق قد أفسح أمام نشوء مفهوم عصري للمواطنة، بعيدا عن مفهوم الرعية الذي ظل سائدا طوال السنوات الفائتة.
العربي الجديد
—————————————
حول الوطنية السورية… كي لا نبقى في الوهم/ ريمون المعلولي
الوطنية -كما أفهمها- هي تلك الرابطة الوجدانية بين أفراد الجماعة الإنسانية والموطن/ الموئل الذي يقيمون فيه، وتعدّ مشاعر الانتماء أحد أهمّ تعبيرات الوطنية. وكأي عاطفة إنسانية، تولد الوطنية عاطفة فردية، وسرعان ما تعمم وتغدو ذات بعد اجتماعي.
تولد عاطفة الوطنية لدى الإنسان، وتنمو في سياقات معقدة من الخبرات والعلاقات التي يعيشها ويقيمها مع غيره من أفراد الجماعة/ الجماعات التي ينتمي إليها، ومع المحيط/ الموئل – الوطن، حيث يستمد منه مقومات حياته. وتختلف شدة العاطفة الوطنية وطبيعتها، بحسب طبيعة الخبرات، حيث تترافق الخبرات الإيجابية مع مشاعر العزّة والفخر بالوطن، وبالانتماء إليه، على خلاف ما ينتج عن الخبرات السلبية.
وفي سياق سلسلة من العمليات الذهنية المعقدة التي يمارسها الأفراد بصورة مستمرة، حيال خبراتهم المعيشة، من تحليل وتركيب ومقارنة وتجريد، وعبر سياقات ومسارات متعددة ومعقدة وطويلة المدى، يتمكنون من استنباط خصائصهم الجوهرية ووعيهم لها، فتكون لهم هوية تميزهم عن غيرهم من الشعوب وتوحدهم.
والوطنية -باعتبارها عاطفة انتماء وولاء- وإن كانت ذات طبيعة نفسية، هي مفهوم دينامي ومركب يتضمن أبعادًا متعددة، منها: الوعي بموضوع العاطفة/ الوطن، والاعتقاد به، والاستعداد للعمل والممارسة الحية. إنها أبعاد متفاعلة فيما بينها، تؤثر وتتأثر ببعضها، وهي من جهة أخرى، عاطفة مكتسبة غير فطرية أو مورثة، تُولد وتنمو وتكبر لدى الأفراد، وقد تضعف وتموت.
تتجلى الوطنية، كما تم وصفها، من خلال القيم والمواقف والمشاعر التي يحملها الفرد/ الجماعة تجاه الوطن، وبالطبع، تتجلى في سلوكه الفعلي، ومدى اتساقه مع القيم والمواقف والمشاعر التي يكنّها لهذا الوطن.
هل تمتع السوريون بمشاعر الوطنية قبل ثورتهم في آذار 2011؟
وهل صحيح أن الشعب السوري كان واحدًا، كما ردد المتظاهرون في بدايات الثورة؟
وإذا كان للأحداث المأساوية التي عاشها السوريون، طوال السنوات التسع الأخيرة، دورٌ في تشتيت انتماءاتهم وتوزعها على تكوينات “ما دون الوطنية”؛ فما نصيب النظام السياسي المسيطر منذ نصف قرن في ذلك؟
وهل شكّلت التنويعات الاثنية والدينية والطوائفية.. إلخ التي يتميز بها السوريون أرضيةً موضوعيةً، قام النظام الحاكم باستثمارها لمصلحته، من خلال اتباعه لسياسة “فرّق تسُد”، وذلك من أجل إجهاض أي فرصة لنمو الروح الوطنية السورية الجامعة؟
في الأصل، لم تكن الهوية السورية، في منظور حزب البعث والسلطة الحاكمة، سوى ساقية صغيرة ترفد نهر “القومية العربية”، فكانت هوية السوري هي العربية، وقد غرسها في عقول الناشئة على مدى عقود كرستها سياسته التربوية والإعلامية، فكان الوطن هو العربي، وكانت الأمة هي العربية، وعمد إلى تبسيط التنويعات الاثنية للسوريين، من خلال اختزالها في النوع العربي الوحيد، ومن طرائف ذلك انتساب العديد من الأكراد والتركمان والآشوريين إلى حزب البعث، الأمر الذي يرتّب على هؤلاء القيام بمسؤوليات البعثي العربي، في وقت حُرموا فيه من ممارسة أبسط حقوقهم الثقافية، وفي مقدمها التعلّم بلغاتهم الأم.
من جهة أخرى، مارس نظام البعث الحاكم ابتزازًا مضمرًا بحق الوطنية السورية، حين كان يستعين بها كلّما دعته الحاجة لها، وخصوصًا في أوقات الأزمات التي تواجهه، كالحروب والاحتجاجات الشعبية، إذ كان يلجأ إلى استخدام “عدّة الوطنية”، كالأعلام والأغاني والأناشيد والرموز الوطنية، بغية شدّ العصب الوطني، وحينئذ تبدو الوطنية السورية في غاية تماسكها! وهي في حقيقة الأمر وطنية هشة وسطحية وممزقة. وما إن يستشعر النظام الأمان ثانية حتى يطوي علم الوطن ويركنه في صناديقه، مقابل إعادة رفع علم البعث وباقي شعاراته القومية.
ومما زاد في شرذمة الوطنية السورية، لجوء النظام إلى اتباع تكتيكات تهدف إلى تقسيم السوريين والإيقاع بين مكوناتهم: الاثنية والدينية والطوائفية والاجتماعية والمناطقية، أفرادًا وجماعات، منها مثلًا اعتماد نهج المحاصصة عند توزيع المكاسب “المناصب” على المكونات المختلفة، والتدخل في شؤونها، وضبط إيقاعاتها على إيقاعه: مشايخ العشائر ورجال الدين والطوائف والأقاليم، واستخدام أسلوب العصا والجزرة. فضلًا عن نشر قيم الولاء للفرد القائد، كمعادل للولاء لسورية، ودأبه على طمس تاريخ سورية وتزويره له، من خلال التجاهل المتعمد للرموز الوطنية، في مقابل إبراز الفرد القائد باعتباره صانع التاريخ والحاضر وضامن المستقبل. فالوطنية السورية، في ظل حكم البعث، لم تكن يومًا مؤسسة على الوعي والرضى والحرية والحب.
ربما عاش السوريون وطنيتهم عبر ومضات تاريخية قصيرة، كانت بدايتها في إعلان المؤتمر السوري العام، في 8 آذار 1920، عن قيام دولة في سوريا الطبيعية، وتعيين فيصل ملكًا دستوريًا عليها، وصوغ دستور 1920. ثم خلال النضال الوطني ضد الاحتلال الفرنسي وثورات التحرر الوطني إلى نيل الاستقلال الوطني، في نيسان 1946، صعودًا إلى التجربة الديمقراطية الفريدة التي مرت بها سورية خلال الأعوام (1954-1957)
لقد كانت ثورة آذار 2011 الفرصة الذهبية الأكثر ملائمة من أجل التقاط “الوطنية السورية”، من قبل الشباب الذين خرجوا ضد النظام وهتفوا بملء حناجرهم: “الشعب السوري واحد”.
وفي ظني أنه كان شعارًا معبّرًا عن رغبة جامحة لدى الثوار في تجسيد سوريتهم الموحِدة لهم، عبر توليدها أو غرس بذرتها من جديد، أكثر من كونه تعبيرًا عن حقيقة منجزة ومجسدة.
مع ذلك، على السوريين أن يعلموا أن استمرار نضالهم، وانتصارهم لثورتهم، بإسقاط النظام الحالي، وبناء نظام سياسي جديد ودولة سورية حديثة هو المعادل الحقيقي لانتصار وطنيتهم السورية المؤسسة على التعددية السياسية والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة والمواطنة المتساوية لكل أطياف السوريين.
مركز حرمون
———————————-
===============================