بشار المريض حقاً +مقالين آخرين تناولا الأمر
بشار المريض حقاً/ عمر قدور
ها هو بشار الأسد ينجح في أمر آخر، فضلاً عن نجاحه في البقاء حتى الآن، ها هو يجتذب انتباهاً إلى كلمته العادية المبتذلة الموجّهة إلى أعضاء “مجلس شعبه”. ترقّبوه وهو يعلن عن هبوط ضغطه؛ هذا ما كان يقوله الإعلان الرسمي عن الكلمة قبل بثها. لا بأس، ستتجشمون عناء الاستماع إلى ما يقول لأنكم لا تعرفون توقيت الحدث الأهم، أي توقفه عن التحدث، ومن المحتمل جداً أنكم لن تستمعون وأنتم تستعجلون الوصول إلى تلك اللحظة. لا بأس أيضاً، لن يفوتكم شيء، وليست الغاية أصلاً اجتذابكم للاستماع إلى ما هو جديد.
خلال أشهر لم يخرج بشار للتحدث، رغم وجود أسباب تتطلب خروجه، لا ليقول كلاماً مهماً، فقط لما في ذلك من رمزية. لم يخرج للتحدث علناً عندما كان الإعلام الروسي يهاجمه، وشاعت التحليلات المتنبئة باقتراب تنحيته، مع ما لصدور الهجوم عن الإعلام الروسي من آثار على مؤيديه وقوة اصطفافهم وراءه. لم يخرج للتحدث أثناء النزاع مع ابن خاله رامي مخلوف، وأيضاً شاعت في الإعلام أسباب للنزاع تمتهن مكانة بشار إذ ترد النزاع إلى خلاف بين أسماء الأسد ومخلوف، وكان لظهوره حتى من دون الإشارة مطلقاً إلى النزاع أن يُنظر إليه كإثبات لمكانته. التحلي الحقيقي بالمسؤولية كان ينبغي أن يدفعه إلى مخاطبة الواقعين تحت سلطته مرات بسبب التفشي الهائل لكورونا، ففي معظم البلدان خاطب القادة شعوبهم ولو على سبيل تقاسم الهموم.
هكذا ظهر بشار متحدثاً في مناسبة روتينية جداً، وكأن كل شيء على ما يرام، بما في ذلك المؤامرة الكونية المزعومة عليه ومثابرته في التصدي لها، بل الانتصارات التي يحققها عليها. هذا هو أيضاً الفحوى الأهم لإجراء انتخابات مجلس الشعب وصولاً إلى إلقائه كلمته، أي التصدي للمؤامرات التي ترمي إلى تغيير الدستور. اختيار ما هو روتيني لجهة المناسبة، وتكرار الأسطوانة القديمة ذاتها في ظرف سوري غير مسبوق، يغريان “كما أغريا مراراً” بالقول أنه شخص منفصل عن الواقع. هذا قول صار مكروراً أيضاً، تعاقب على إطلاقه مسؤولون دوليون وصحافيون بمن فيهم غربيون أجروا معه لقاءات، وصولاً إلى مسؤولي معارضة يستخدمون الوصف عندما يريدون تقليد الغرب باستخدام شتائم مهذبة.
لكن أكد بشار مراراً أيضاً أنه ليس ذلك الشخص المنفصل عن الواقع، فهو على الأقل يعي جيداً من الواقع ما أسعفه ويسعفه من أجل البقاء. إنه مدرك لمصلحة سلطته كما يراها هو، لا كما يراها كثر من منطق عقلاني متماسك. تماسك المنطق العقلاني يأتي من القياس على مفهوم متداول للسلطة، بما في ذلك بعض نماذجها الديكتاتورية، بينما يأتي تماسك بشار من إصراره على استثنائية سلطته وعدم خضوعها للقياس، الإصرار الذي تأكدت واقعيته حتى الآن، ولا يمكن تالياً الانتقاص من “عقلانيته” أو اتهام صاحبه بالانفصال عن الواقع.
هناك سلطة منفصلة عن معاناة وهموم ومصالح محكوميها، هذا شأن مختلف تماماً ولا يعني أنها لا تعرف همومهم ومعاناتهم ومصالحهم، وتبرئتها من المعرفة هي خدمة جيدة مشابهة لمنح صك الجنون في المحكمة لقاتل بكامل قواه العقلية. إنها سلطة تعترف أحياناً بالحد الأدنى من معاناة المحكومين، من دون أن تلزم نفسها بحلول حقيقية، وعندما تمارس سياسة الإنكار تجاه المشكلات الكبرى وأسبابها فهي تمارس إنكاراً سياسياً متعمداً ووظيفياً، لا ذاك الإنكار الذي يمارسه مريض نفسي. إذا كان الانفصال عن الواقع، بالتعريف النفسي البسيط، تعبيراً عن الهروب والانسحاب فإنكار الواقع على هذا النحو السياسي هو نوع من المجابهة المقصود بها تعزيز قهر المعنيين به. بدورها، ما ندعوها سياسة إنكار لا تصدر عن عجز ومداراة له أو عن حياء، هي المقام الأول سياسة قهر وتعذيب ممنهجين للضحايا الذين تُنكر معاناتهم في الأحوال العادية، ويُنكر وجودهم إذا حاولوا إثباته.
بعد ذلك كله سيأتي تصوير هبوط الضغط الذي ألمّ ببشار أثناء إلقاء كلمته بمثابة منّة أو مكرمة، فها هو على هيئة البشر العاديين. يا له من متواضع، إذ من المحتمل أن يكون الانشغال بمهامه المفترضة قد أرهقه، وشغله حتى عن تناول الطعام! هو صاحب إنجاز لمجرد إصابته بالإرهاق، وصاحب إنجاز لتفسير الإرهاق بقيامه بمسؤولياته، وصاحب إنجاز أخير بالتواضع إلى مستوى البشر العاديين الذين يُرهقون أو يفقدون شهيتهم للطعام لسبب أو آخر.
ربما يكون قد أصيب حقاً بهبوط الضغط، لكن مجمل إخراج القصة يوحي بفبركتها، ومن المرجح أن يكون ما حدث نوعاً من التمارض، أو أنا الفبركة اللاحقة جعلته يبدو كذلك، لكن إشارة بشار إلى عدم تناوله الطعام لا تبدو بريئة وعفوية. المهم في الأمر أن هناك من يدّعي عدم تناوله الطعام رغم تأكد الجميع من وفرته لديه، في حين تأتي الأخبار بما هو مأساوي عن عدم قدرة السوريين على تأمين الطعام حقاً، وعن اكتفاء قسم منهم بأقل من الوجبات المعتادة، وتخليهم عن أصناف من الطعام كانت تُعدّ رخيصة إلى وقت قريب. حتى الملح والسكر اللذين قال بشار أنه تناول قليلاً منهما ليرفع ضغطه أصبحا من الأصناف الغالية قياساً إلى دخل الغالبية الساحقة، أما أسعار الأدوية “فضلاً عن فقدان البعض منها” فقد شهدت ارتفاعاً شديداً، بما فيها الضرورية كتلك التي يتناولها مرضى حقيقيون بالضغط أو ذات الطلب الحالي المتفاقم بسبب انتشار كورونا مثل الفيتامينات وبعض المضادات الحيوية.
في ظرف شديد السوء والبؤس، يأتي متمارض ليخطف الأضواء من مرضى حقيقيين. سواء حدث هبوط في الضغط أو لم يحدث، إخراج الأمر على هذا النحو فيه ما فيه من التنكيل بعدد هائل من المرضى الفعليين وبعدد هائل ممن هم تحت خط المجاعة، وأدنى درجات الاحترام لمعاناتهم ألا يتم السطو عليها بادعاء كاذب، لأن السطو عليها يحيل الأمر برمته إلى نوع من المهزلة. إن ما يفعله على الأقل مئات ألوف السوريين هو الصمت على معاناتهم أمام من يرونهم أصحاب معاناة أشدّ، ورغم الكبت الذي يراكمه الصمت ففيه قدر من النبل والمسؤولية على الضفة الأخرى تماماً من التمارض أو المتاجرة بعارض صحي خفيف. المتاجرة في حالتنا لا تصدر عن شخص ضعيف يستجدي تعاطفاً كما في الكثير من حالات التمارض المعتادة، هي تصدر عن تركيبة سيكوباتية أصيلة، عن المرض الذي يكون خطيراً على الآخرين.
المدن
وعكة الأسد: شاهِدوا كم أنا مرهق من أجلكم!/ وليد بركسية
لسنوات طويلة قبل وفاته العام 2000، عانى الرئيس السوري حافظ الأسد من مرض سرطان الدم، لكن النظام البعثي القائم على فكرة الأسد للأبد، حجب أي معلومات تتعلق بمرض “القائد الخالد”، كجزء من سياسة اعتمدها النظام طوال عقود وأسهمت في خلق هالة أسطورية للأسد الأب أمام السوريين بشكل خاص. وفيما انكسرت تلك الهالة القديمة جزئياً مع الكشف عن إصابة أسماء الأسد، زوجة الرئيس الحالي بشار الأسد بالسرطان، العام 2018، فإن دعاية النظام حافظت على موقف ثابت من الرئيس، كشخص يتخطى الحدود البشرية ويبدو أقرب للآلهة.
وبغض النظر إن كان ما تعرض له الأسد خلال إلقاء خطاب روتيني أمام مجلس الشعب الجديد، من انخفاض مفاجئ في ضغط الدم، حقيقة أم مجرد مسرحية دعائية موجهة إلى طبقة الموالين، فإن تقديم ذلك على الشاشات الرسمية وفرد مساحة للحديث عنه، يظهر كيف بات النظام بارعاً، أكثر من أي وقت مضى، في التلاعب بالرأي العام، المحلي والعالمي، عبر السوشيال ميديا. وهي لعبة كان يخسرها في السنوات الأولى من الثورة السورية، لصالح المعارضين.
واللافت في حادثة الأسد الصغيرة، مساء الأربعاء، هو التمهيد لها، فطوال الصباح كان الحديث في الصفحات الموالية يدور حول كلمة مرتقبة للأسد أمام البرلمان الجديد، الذي أطلق عليه السوريون تسمية “مجلس الحرب” عطفاً على وصول نحو 20 من قادة الميليشيات المحلية إليه إثر الانتخابات التي لم تشهد إقبالاً جماهيرياً واسعاً، ورغم أن خطابات الأسد المماثلة تبث بشكل مباشر من أجل تصدير التطبيل والتصفيق للجمهور المحلي، فإن مُعرّفات الرئاسة في مواقع التواصل، نشرت معلومات لاحقة تفيد بأن الكلمة ستكون مسجلة وستبث في وقت لاحق عبر الإعلام الرسمي، قبل الكشف عن عارض صحي ألم بالأسد خلال الكلمة، ما فتح باب التكهنات والشائعات والأخبار الكاذبة، على مصراعيه.
وهنا، كان بالإمكان الالتفاف على ما ألم بالأسد بعملية مونتاج بسيطة، من دون إثارة الانتباه إلى حالته الصحية أو إثارة الخوف عليه أو كسر هالته كقائد ملهم لـ”الدولة السورية” وجماهير الموالين، إلا أن الإبقاء عليها، يعطي لمحة عن كيفية صناعة الدعاية الأسدية بعد عقد كامل من الثورة السورية التي طالبت بالتغيير السياسي والإصلاح. وهو تغيير يرتبط بشكل أساسي بالسوشيال ميديا والتطور التكنولوجي الذي غيَّر طبيعة التواصل البشري بشكل كلي عن حقبة الأسد الأب، وأفرز حاجة ملحة لتقديم الأسد بصورة أكثر إنسانية، في مقابل صورته كرجل تسبب بأكبر كارثة إنسانية في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
والحال أن الدعاية الأسدية، كانت تصور حافظ الأسد كقائد خالد عتي وجبار لا يطاله المرض أو الموت، وهي صورة كان النظام الناشئ في السبعينيات إثر انقلاب عسكري، والذي تعرض لأزمة في الثمانينيات، بحاجة ماسة إلى خلقها بموازاة “أبديّته”، لأن منصب الرئيس في الدعاية الرسمية كان دائماً رمزاً للنظام بأسره، لكن ذلك تغير مع مرور الوقت، وبات مفهوم الوطن والبقاء في الدعاية فضفاضاً ويحمل العديد من الرموز التي تحمل جانباً إنسانياً، يدغدغ شعور المواطنين المستهدفين بالدعاية، ويعزز التورط العاطفي لديهم والمتمثل بكذبة الانتماء لوطن واحد تنتشر فيه العدالة والقيم النبيلة، ويترصد به الأعداء والأشرار.
ويشير هذا الانتقال مع السلاسة التي يتسم بها تقديم البروباغندا الرسمية، إلى خطورة النظام القابل للتطور، وهي خاصية تراكمية أظهرها النظام منذ العام 1970. ففيما كان النظام متماسكاً على مستوى الخطاب الدبلوماسي بعد العام 2011، إلا أنه كان هشاً على مستوى الضخ للرأي العام عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي التي كانت منطقة جديدة بالنسبة إليه، وأفرز ذلك أسلوباً جديداً في التعامل مع الشعب السوري، وتقديم “المعلومات” إليه، سواء كانت كاملة أم مجتزئة أم مختلقة، بموازاة تغيير التكنولوجيا لطبيعة تبادل المعلومات عن الأسلوب الذي اعتاده النظام في ثمانينيات القرن الماضي على سبيل المثال، حينما كان في الإمكان الاعتماد على التعتيم والإعلام الرسمي لخلق “حقائق” مزيفة.
وهكذا، تسهم صورة بشار وهو في لحظة ضعف بسيطة خلال خطاب وطني، في خلق تعاطف عام معه، لأن تلك الصورة تنقسم إلى عدة أقسام، فمن جهة تشير إلى تفاني الأسد في السهر على راحة المواطنين وحماية أمن البلاد من المؤامرات الخارجية، لدرجة لم يجد معها الأسد وقتاً كافياً لتناول الطعام ليوم كامل، ما يجعله رجلاً متفانياً يستحق التضحية من أجله “بالروح وبالدم” مثلما يقول الشعار البعثي العتيق. ومن جهة أخرى، فإن عودة الأسد بعد دقائق لمتابعة خطابه متسلحاً بقليل من “الملح والسكر”، تظهره صامداً متحدياً قادراً على تخطي المصاعب، حتى لو كان ذلك على حساب جسده المرهق، من أجل الشعب والوطن. وهو ما تجلي في الضخ اللاحق للخطاب في قنوات الإعلام الرسمي والصفحات الموالية في مواقع التواصل.
بالتالي، لا تصبح قصة وعكة الأسد الصحية، تجسيداً لضعف ما، بل دليلاً على القوة، وذراً للرماد في العيون، في مقابل الغضب الشعبي العام في مناطق سيطرة النظام، بسبب المشاكل الخدمية والاقتصادية المتلاحقة، والتي تكثفت هذا العام مع هبوط سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي، وخروج مظاهرات في مناطق مثل السويداء جنوبي البلاد، بالإضافة للمشكلة المستمرة مع رجل الأعمال رامي مخلوف، والأحاديث المستمرة عن نوايا روسية لاستبدال الأسد مع نهاية فترته الرئاسية العام 2021. وبهذا الأسلوب يتم امتصاص غضب الموالين وتحويله إلى تعاطف وخوف وقلق، وهو أسلوب كلاسيكي في بناء البروباغندا.
يذكر أن الأسد قبل العام 2011، يعتمد على شركات علاقات عامة عالمية ترسم له الصورة الذهنية العامة منها شركة “براون لويد جيمس” الأميركية، فيظهر “فجأة” من دون مرافقة أمنية في دار الأوبرا أو في سوق الحميدية الشهير، وكأنه فرد عادي يمارس نشاطاً يومياً لا أكثر، وليس رئيساً يحكم البلاد بقبضة حديدية. ورغم أن ذلك أعطى الأسد الابن صورة أكثر إنسانية مقارنة بوالده، إلا أنه بقي محافظاً على هالة تضعه فوق بقية السوريين. وبعد الثورة السورية، باتت إطلالات الأسد أكثر ندرة، وانقسمت بين ظهوره كقائد عسكري بين الجنود، أو بين إطلالات “عفوية” تصوره كأب يحمي الدولة والمجتمع.
المدن
——————————————
مرض القصر الجمهوري/ خضر الآغا
لطالما نظر العالم، الغربي خاصة، إلى بشار الأسد على أنه حاكم مقبول وإصلاحي، وقد اعتمد في ذلك على صورة نمطية أشاعها وكرسها هو ذاته تتمثل في أنه شاب، تعلم في الغرب واطلع على أساليبه في الحكم والسلطة، وقد تجاهلت تلك الصورة نسب الفقر التي لم تنفك عن الزيادة ونسب الديمقراطية المنعدمة، وامتنعت عن الاصغاء لصوت السوريين وإرادتهم وتطلعاتهم.
اعتمدت تلك الصورة أيضًا على زوجته أسماء الأخرس وقدمتها على أنها شابة كانت تقيم في بريطانيا ومتطبعة بالـ”الطبائع” الغربية، جميلة، أنيقة، ومنفتحة، وأنه لأمر مؤثر أن تكون زوجة رئيس سوريا الشاب بتلك الصفات. كما تمت صناعة عدة أفلام في دوائر غربية عن الرئيس وزوجته، ربما كان آخرها مع مصوري الصحافة البريطانية حيث ظهر الأسد يقود سيارته بنفسه برفقة زوجته لحضور حفل موسيقي في دار الأوبرا، مشيرًا إلى أن سيارته ليست مصفحة كدليل على عدم خشيته من محاولات اغتيال، حيث لا أعداء له في سوريا.
تلك الصورة “الباهرة” اعتمدت، لتقديمه كرئيس جيد، على مقياس واحد هو الغرب، فكونه درس في الغرب وزوجته عاشت هناك يعني أنه اجتاز بنجاح اختبارات الجودة! مع كل ذلك العور الذي يعتري تلك الصورة والثقوب الكثيرة في تلك النظرية، إلا أنها سادت الغرب وربما العالم فترة طويلة، وأثرت حتى على السوريين أنفسهم، لكنها سرعان ما ترنحت في بلد المنشأ ذاته مع انطلاقة الثورة السورية وقيام “الطبيب” الذي درس في الغرب بقمعها بوحشية بمساندة زوجته الجميلة المتطبعة بـ”طبائع” الغرب! وتتالت صور الوحشية حتى عمت ولم يعد من الممكن معها رؤية الرئيس وزوجته إلا بوصفهما صورة من صور الطغيان الأشد قبحًا في العالم المعاصر. وأنتجت إحدى القنوات الإعلامية الألمانية فيلما مؤثرًا عن الزوجة بعنوان: “وجه الدكتاتورية الجميل”، وقد عبّر فيه الكثير من السياسيين والديبلوماسيين والصحفيين الغربيين أنهم كانوا مخدوعين بها. كما كشفت الصحافة الغربية والأمريكية والعالمية قيامها بشراء أحذية وملابس ومجوهرات فارهة في الوقت الذي يقوم فيه زوجها بقتل السوريين وتهديم منازلهم وتمويتهم جوعًا عبر حصارهم.
أمام محاولات بوتين وأجهزته تعويم بشار الأسد بعد أن كانت روسيا قد استعادت الكثير من المناطق التي كانت خارج سيطرته وهجرت أهلها ومسلحيها إلى مناطق أخرى، خاصة إلى إدلب، كان لا بد لصورة الوحشية التي عمت دوائر الغرب وجزءًا من العالم أن تتغير، وتعود معها الصورة النمطية الأولى لرئيس وزوجته درسا وأقاما في الغرب وحازا مسبقًا على معايير الجودة.
في هذه الأثناء وعلى نحو مفاجئ للسوريين أعلن النظام في آب/أغسطس 2018 عن مرض أسماء الاسد بالسرطان وتلقيها العلاج الكيماوي. بدا الأمر مفاجئًا، إذ إن السوريين لم يعتادوا سماع أخبار عن مرض أفراد العائلة الحاكمة، فهم لا يمرضون كباقي أفراد البشر! وبعد سنة أعلنت أسماء الأسد بنفسها شفاءها وانتصارها على السرطان. بدا الأمر أشبه بالمعجزة أن تمرض وتشفى وينبت شعرها الذي تساقط بفعل جرعات الكيماوي خلال سنة واحدة، بل أكثر، بدا أنها في صحة ممتازة. الأمر الذي أثار ريبة السوريين، المعارضين خاصة، وواجهوا ذلك المرض بالسخرية وباعتباره بروباغندا لاستجداء التعاطف الدولي وليس الشعبي، إذ إن النظام لم يعبأ يومًا برأي الناس وهمومهم، وأن ذلك محاولة لإحياء الصورة النمطية الأولى لا سيما أن المرض هو ما يهتم العالم لأجله ويقيم الندوات والحوارات والمراكز الصحية والنفسية لمواجهته والتوعية به. لقد اختارت الزوجة مرضًا لطالما شكّل “تريند” عالميًا وحصد تعاطفًا دوليًا مع مصابيه، خاصة أولئك الذين شُفُوا منه بما يحملونه من طاقة إيجابية وإرادة قوية ويكونون مثلًا للاحتذاء.
بعد عامين في آب/أغسطس 2020 أعلنت وكالة سانا التابعة للنظام في دمشق عن موعد لبث كلمة بشار الأسد أمام أعضاء مجلس الشعب يتخللها هبوط ضغط الرئيس لدقائق ثم عودته لإتمام الكلمة. وتم تداول مقطع الفيديو الذي يعرض دقائق الهبوط المفاجئ للضغط! بدا المشهد جديرًا بتصديره للعالم لاعتبارات عديدة، فقد جاء بعد “انتخابات” أعضاء مجلس الشعب، وجلس الأعضاء مراعين قواعد التباعد الاجتماعي في زمن كورونا، وواضعين الكمامات… أخبرهم رئيسهم بما حصل وطلب سماحهم بالجلوس دقائق والعودة. وقال إن ذلك عائد إلى أنه لم يتناول الطعام منذ يومين، وهكذا.
هي صورة معدة للتصدير بشكل جيد بصرف النظر عن مرضه فعليًا أم لا، فهذا تفصيل ثانوي. منذ وصول عائلة الأسد إلى السلطة لم يتم الاعلان ولا مرة عن مرض الرئيس، وقد تكون هذه هي المرة الأولى التي يمرض فيها أمام الكاميرا مباشرة ويشرح ما حصل، بل ويبث فيديو المرض. بدا أنه يمنن بمرضه هذا الناس، ويمننهم بإعلان المرض، ويمننهم بأنه لم يأكل منذ يومين، بعبارة أخرى بدا أنه يمنن الناس بأنه يمرض مثلهم، وبدا أنه يمننهم أنهم سبب ذلك، فلولا سهره لأجل قضاياهم وهمومهم لما مرض.
صورة جديرة بالتصدير، لكن بعد سنوات القتل والتدمير هذه، هل ستجد سوقًا لها؟
الترا صوت
—————————————-