عُيِّشَ الأسد… سقطت سوريا!/ حسان شمس
في ظل ما تشي به الأوضاع على الأرض، فإن ما كان يُعرف بـ«الجمهورية العربية السورية» آيلاً أن يكون كعكة تتقاسم النفوذ عليها كل مِن الولايات المتحدة، روسيا، إسرائيل، إيران وتركيا، وأن ما اصطُلِح على وصفه بـ«الاحتلال الإسرائيلي لمرتفعات الجولان السورية»، حتى الآن، صار مِن الماضي وصار معه تكريس الاحتلال أمراً واقعاً بفعل التغيرات الجيوسياسية التي شهدها الكيان السوري.
كان جليّاً منذ البدء أن مَن قدّم «العون» للسوريين مِن العرب في ثورتهم، لم يفعلها لأجل سواد عيونهم أو توقاً منه لبناء دولة حرّة علمانية ديمقراطية ستشكِّل، حتماً وآجلاً أم عاجلاً، نموذجاً يهدِّد بنقل عدواها إلى أوطانهم، وإنما لغاية إقامة أشباه أوطان على شاكلة التي عندهم، أو في أسوأ الأحوال، حالَ عجزهم، حصر تجربة السوريين الوليدة تلك في حدود أرضهم. كل مَن لم يضع، مِن المعارضة السورية، تلك الحقيقة الدامغة نصب عينيه ويتصرف بمقتضاها أو عمل بيدقاً لتلك القوى، سوف يلعنه السوريون لولَد الولدان ويحاكمونه ولو بعد حين.
لسنا في وارد سؤال «القوى المناهضة للنظام» عن ركاكة أدائها السياسي؛ فالقبور والمنافي والسجون التي اختارتها عصابة الأسد قدراً لكل معترض لا تصنع معارضة. كما أن الغاية ليست تحميلها وزر نذالة المجتمع الدولي وقراره في تأديب كل الشعوب المستضعفة على حساب الدم السوري وجعل بلادهم مقبرة الثورات، وتخلّيه الفاقع تالياً عنهم عبر وعود معسولة مِن غير رصيد؛ لكن ما لا يُغفَر لها هو الشطط والروائح النتنة والبيع والشراء واللعاب الذي ساب على سلطة ما حظيت بها يوماً! كما أنه ليس في سجّلات قرض الشعر والبكاء والمؤتمرات والاستجداء والتسوّل الذي احترفته، ما يشي أنها ساهمت في بناء أوطان أو نصرت ثورات. إنّ الاستثناء السوري، طال هذه المرة حتى نمطية «الثورة التي تأكل أبناءها»، إذ أنّ ثورتهم بدأت نهش أولادها أجنّة وحتى قبل اكتمال العناصر التي تجعل منها ثورة.
كان ينبغي لهذه الثورة أن تحافظ على نفسها سلميّةً حتى لو عمد النظام إلى قصفها بالنووي وليس الكيماوي وحسب. لكن مَن وضعها على سكّة وأدِها المحتوم الذي نشهده راهناً، وهو مِن غير منازع الإسلام السياسي والجهادي، يتحمل، جنباً إلى جنب، مع إجرام نظام الأسد، كامل المسؤولية عن خيانة ثورة السوريين ودمائهم وكل ما حلّ بهم مِن كوارث وفظائع وعذابات، بدءاً بحركة «الإخوان المسلمين» وانتهاءً بـ«داعش» و»النصرة» ومَن لفّ لفّهم. فكل المرّات التي استُدعي الله فيها إلى الأرض وحلبات السياسة حلّت الكوارث واللعنات. جماعة «ما خرجنا إلا لنصرة هذا الدين»، كان ينبغي عليهم، مِن الأصل، ألا يخرجوا وألا ينصروا! في لقاء متلفز لم يتم بثّه، بعيد اندلاع الثورة السورية، لم ترُق لمراسلة قناة «فرانس 24» إجابة أحد الحاضرين أنه يفضِّل أن تجتاح سوريا كل قوى الأرض العاتية وتقتلع النظام مِن جذوره، على أن يتم دفع الثورة للتسليح ويرفع سوري السلاح بوجه سوري آخر…؛ ليت ما تمنّاه تم. سوف يكتب التاريخ كثيراً عن بشار الأسد؛ عدوّ الإنسانية، مجرم الحرب، الكيميائي، البراميلي، رئيس أفظع نظام فاسد سياسيا، والديكتاتور الذي بالغَ في ممارسة فعل الخيانة -مِن جهة- وأكثر مَن رمى أخصامه بذات التهمة مِن الجهة الأخرى. لكنه، بالقطع، لن ينكر عليه «مأثرته» أنه الأبله الطائفي الأقلّوي القادم مِن جبال الساحل السوري الذي أكثر ما أجاد فعله الركوب على ظهر المركَّب الأكثري في بلده وإقناع العالم برمّته بوصمه بالجهادي والإرهابي. كانت خمور الوطن تكفينا وتكفي أهل الأرض معنا، وهي أولى بنا مِن خمور السماء. كنا ربحنا أنفسنا وانتصرنا لثورتنا ودماء مَن سقطوا منّا، وكذلك لم نخسر غيرنا. لكن مشيئة مَن كان لهم الفضل الراجح ببعث الروح في جيفة الأسد كانت خلاف ذلك، وكان لهم ما أرادوا… أثبتوا أنهم مِن أولئك الذين لا يعتبرون مِن التاريخ ولا يتعلمون لا مِن أخطاء غيرهم ولا حتى مِن أخطائهم…؛ مَثَلهم الأعلى كان، على الدوام، كائنات ارتبط اسمها بمدينة «دُمَّر» قرب دمشق ويعرفها السوريون جيداً!
اعتاد أهالي منطقتنا، منذ عشرات السنين، كلما أرادوا أن يرْثوا حال الفلسطينيين القول: «ضاعت فلسطين على العرب». الأسد الابن الذي أضاع والده الجولان أول مرّة عام سبعة وستين، أبى إلا أن يشابه أباه. منذ الآن، يجب أن تعتاد ألسنتنا على متلازمة «ضاعت الجولان على السوريين»، وربما غير الجولان أيضاً.
كاتب سوري / الجولان المحتل
القدس العربي
————————-
عاشت سوريا الأسد وليسقط الشعب السوري!/ د. فيصل القاسم
كم كان الباحث والإعلامي السوري الدكتور أحمد الهواس على حقّ عندما كتب في عام ألفين وأربعة عشر، أي بعد ثلاثة أعوام فقط على الثورة أن «سوريا ليست نظاماً يسقط وآخر يأتي مكانه، سوريا حجر الزاوية في نظام أوسع حرص الغرب أن تكون تحت السيطرة، وأن الغاية تتحقق في نظام أقلوي». بعبارة أخرى، فإن ضباع العالم كانت مستعدة أن تضحي بالقسم الأكبر من السوريين بين لاجئ ومشرّد ومقتول ومعتقل، ولا يمكن أن تضحي بالنظام الذي يخدمها منذ عام ألف وتسعمائة وسبعين.
لا شك أن مثل هذا الكلام كان أشبه بالمبالغات الفانتازية قبل عقد من الزمان، لكن الأيام أثبتت أن سوريا الموقع الجغرافي ومعها النظام الوظيفي في دمشق أهم بكثير لسادة العالم من الشعب السوري.
لا شك أنكم سمعتم بما يسمى بـ«أصدقاء سوريا» في بداية الثورة حيث تنادى الشرق والغرب لتشكيل تحالف دولي بحجة دعم الشعب السوري، لكن الهدف كان مغايراً تماماً لمزاعم وشعارات أصدقاء سوريا المزعومين. صحيح أن القاصي والداني أبدى اهتماماً منقطع النظير بالقضية السورية في بداياتها، وقد ظن السوريون أن العالم يعمل جاهداً لمساعدتهم في التخلص من النظام الفاشي وتحقيق أحلام السوريين في الحرية والكرامة وإنضاج ثورتهم، لكن كل المناورات والتحالفات والمسرحيات الدولية والإقليمية كانت للضحك على الذقون وذرّ الرماد في العيون. لم يكن الهدف مطلقاً دعم الشعب السوري، بل كان الاهتمام منصباً بالدرجة الأولى على تجريد سوريا من القسم الأكبر من شعبها، والتنكيل بالقسم الآخر وتحضير الأرض السورية لترتيبات جيوسياسية وديمغرافية جديدة تخدم الأجندة الدولية، بحيث تصبح السيطرة على الجغرافيا السورية أسهل من ذي قبل بعد عملية التغيير والتعديل الديمغرافي غير المسبوق في العصر الحديث. ولو نظرنا الآن لوجدنا أن هنالك فعلاً سوريا جديدة تخدم المشاريع الكبرى أكثر بكثير حتى من سوريا الأسدية القديمة المصممة أصلاً لخدمة مشغلي النظام وداعميه.
تعالوا الآن لنلقي نظرة سريعة على شريط الأحداث السورية منذ عام ألفين وأحد عشر، سنجد أن كل ما فعله النظام بالسوريين منذ اللحظة الأولى لم يكن من بنات أفكار النظام مطلقاً، بل كان أجندة خارجية صارخة بدأ ينفذها النظام بثقة كبيرة. وقد ظنها البعض قوة وجسارة من النظام، بينما كانت في الواقع خطّة أكبر من النظام. لاحظوا مثلاً، أن سادة العالم لم يسمحوا في التاريخ الحديث لأي نظام في العالم ـ وليس في المنطقة ـ باستخدام سلاح الطيران لقصف مناطق داخلية، ولم نشهد مطلقاً على مدى القرن الماضي والحالي بأنّ نظاماً ما استطاع أن يستخدم طيرانه بكل سهولة لقصف شعبه وتدمير المدن فوق رؤوس سكانها، هاتوا لي بلداً واحداً استخدم القوة البرية والجوية بالشكل الذي استخدمه نظام الأسد ضد شعب أعزل، لا يوجد! وحتى أنظمة أمريكا اللاتينية العميلة للعم سام لم تتجرأ على قمع الانتفاضات الشعبية بالطريقة التي فعلها النظام السوري، فقد كان طغاة أمريكا الجنوبية يترددون في استخدام الطائرات لملاحقة قوى المعارضة عندما تحتمي في المناطق المدنية.
وقد لاحظنا كيف تأهب العالم أجمع عندما راجت أخبار تقول إنّ معمر القذافي على وشك استخدام طائراته لقصف بعض المناطق الليبية الثائرة، ونتذكر وقتها كيف ثارت ثائرة الشرق والغرب واستنفر الإعلام العالمي قبل أن ترمي الطائرات الليبية قنبلة واحدة على المناطق المدنية، وتبين لاحقاً أن القذافي لم يكن يفكر أصلاً باستخدام سلاح الطيران ضد شعبه، لكن وسائل الإعلام العالمية روّجت للخبر لشيطنة القذافي على اعتبار أن مثل هذا العمل محظور دولياً وخط أحمر لا يمكن أن يحدث أو أن يسمح به العالم مطلقاً، لكنه سمح به في سوريا الأسد، وتغاضى عنه وأصبح القصف اليومي للمناطق المدنية بالبراميل المتفجرة خبراً مألوفاً لا يأبه به الإعلام العالمي وكأنه أقل من عادي! بينما تاريخياً لم يقم أي نظام باستخدام الطيران إلا في المعارك والحروب الخارجية.
وقد لاحظنا لاحقاً كيف كان العالم يستقبل أخبار نزوح ملايين السوريين من ديارهم لم يكن هناك أي ضجة تذكر، لتعيد لنا صور النازحين وغرقى البحر تركيب المشهد من جديد بسؤال بات يلح على كل ذي لب:
هل كانت فكرة التغيير الديمغرافي فكرة النظام؟ ويبدو أن الجواب لا أبداً، بل كان النظام مجرد منفذ لمخطط أكبر منه منذ وصوله إلى السلطة، أمّا بعض الدول التي بدأت تفتح حدودها أمام السوريين فليس من باب العطف والمساعدة، بل تنفيذاً لمخطط يهدف إلى تجريد سوريا من قسم هائل من شعبها، لأن عملية تغيير الشعب وتشريده وقتله واعتقاله وتعذيبه على ما يبدو كانت أسهل بالنسبة لضباع العالم وكلابه من التضحية بسوريا ونظامها. وحتى لو شهدنا قريباً تغييراً في وجوه النظام بدأ ببشار نفسه، فهذا لا يعني مطلقاً أن الوجوه الجديدة ستكون في خدمة السوريين، بل ستبقى في خدمة مشغليها فقط. عاشت سوريا الأسد وسقط الشعب السوري.
كاتب واعلامي سوري
القدس العربي