استراتيجيات التمرد: قراءة كويرية في الثورة السورية/ ليل يوسف
تفكيك خطاب الاستبعاد
“أن تكون كويرياً في الثورة يعني أن تصغي لآلاف الشتائم المقذعة عن مقدار السخف والأنانية والجنون الذي تنطوي عليه قضيتك، وعليك أن تصمت كثيراً كما لو كنت مسؤولاً عن المجازر والقصف والتهجير دون أن ينتبه أحد إلى أنك منهم، من أولئك المضطهدين المقهورين، تعاني مثلهم من كل تلك المظالم وكل ذلك الجور” هذا ما يقوله الباحث/ة والناشط/ة السوري/ة ليل يوسف، في المقال الأول من ملف “أصوات كويرية”، مفككا/ة الخطابات السائدة للنظام والمعارضة، ومؤكدا/ة على أهمية “تغيير مفردات الخطاب أكثر فاعلية من استخدام القوة لتفعيل التغيير المنشود”.
يفترض الكثير من الناس أن بإمكانهم بناء تصور دقيق للأحداث التي يشهدونها من وجهة النظر التي يرونها مناسبة، وفي هذا السياق يتشكل لدينا عدد كبير من الروايات المختلفة لحكاية واحدة، وهذا بالفعل ما يحدث الآن في مجمل التنظيرات والآراء التي تحلّل وتؤرخ للحدث السوري بدءاً من العام 2011 حتى الآن، وقد جرت العادة أن يتم تصنيف الصراع السوري ضمن فئتين متقابلتين: الموالاة والمعارضة.
ولكن السنوات الأخيرة شهدت بعض التحولات الجذرية في تلك الثنائية النمطية دفعت قوى المعارضة إلى إعادة بناء موقفها وفقاً لتموضعها الإيديولوجي، وعلى الفور تشكلت تباينات عديدة داخل المعارضة نفسها حيث تحاول كل فئة الاستيلاء على مشروعية سرد حكاية الثورة بالشكل الملائم لمطالباتها ونوعية الجمهور الذي تتوجه إليه أي المناصرين لها.
إعادة القراءة تلك لم تكن ترفاً فكرياً؛ بل مساراً إجبارياً لأولئك الذين أتيح لهم معايشة أفكارهم ومعتقداتهم النظرية على أرض الواقع، وتكاد الأمثلة لا تعد ولا تحصى عن نتائج تلك العملية، فقد قادت البعض إلى نسف مواقفهم القديمة كلياً والتبرؤ منها ومحاولة إخفائها في فوضى السقوط الجماعي الذي لا يريد أحد أن يعترف بوجوده.
وفي سياق تعدد الأصوات في رواية الثورة السورية، ما تزال أصوات المثليين/ات والعابرين/ات جندرياً (الميم – عين) وغيرهم ممن هم خارج الأنماط التقليدية الثنائية للجندر والجنسانية (الكوير) في المجتمع السوري قليلة ومتناثرة،[1] فهل هناك مساحة حقيقية أو افتراضية لصوت كويري واحد على الأقل؟ أعني هل هناك إمكانية لوجود قراءة كويرية للثورة السورية تتجاوز حدية الثنائيات المسيطرة على خطابات الأطراف المتنازعة وتفسح المجال لتخيّل خطابات مختلفة؟ وهل تضمن كويريتها ألا تكون نمطية ومتحيزة كسائر الخطابات الأخرى؟
إن الجواب على الشق الأول من السؤال يبدو معقولاً من الناحية النظرية، نعم توجد مساحة فعلية للخطاب الكويري في الثورة السورية، يتمثل أولاً في مشاركة الكويريين في الثورة بوصفهم ناقمين على السلطة المسؤولة مباشرة عن حرمانهم من الحقوق والمساواة والعدالة؛ بل التي تعاديهم جهاراً في المحافل المحلية والدولية، والتي تلاحقهم وتمنع عنهم أبسط الحقوق وتجردّهم من الإنسانية في الممارسات العنفية التي تقع عليهم بوصفهم مجرمين مستحقين للعقوبات.
سنعثر إذن على شهادات حية من أولئك المشاركين وسنضيفها إلى أرشيف الشهادات الأخرى وسنقول إننا كنا هناك! وستكون تلك المذكرات ملائمة لحديث حول طاولة العشاء أو في إحدى الحلقات الضيقة التي لا يسمع عنها أحد، والتي ينظمها بين الحين والآخر عدد من أولئك المتحمسين لصياغة سيرة ثورية لحركات التحرّر تبرد حرارتها على الفور حين يقرّ الجميع أن لا شيء تغيّر حتى الآن.
إقصاء الخطاب السياسي للكوير
المشكلة ليست في انعدام الحديث عن تجاربنا في الثورة أو في مواجهاتنا مع السلطة، وإنما في إقصاء الخطاب السياسي للكوير داخل سوريا وخارجها، ولا ينسى أحد أن الخطاب الكويري ليس مستبعداً من قبل النظام وحسب، وإنما من قبل تيارات المعارضة على اختلاف معتقداتها، فمن الملاحظ أن كُلّاً من الموالين والمعارضين على حد سواء قد استخدموا المثلية الجنسية على سبيل المثال بوصفها اتهاماً لإسقاط الآخر أمام المجتمع واستبعاد حججه وحقوقه، فالمعارضة (ما يشمل الأطراف التقدمية منها) كما النظام لم تسع لاستقطاب الأصوات الكويرية، وعلى كل حال لا أحد ينتظر الدعم من الجهات المتشدّدة التي ما زالت تتخيل نفسها كجزء من “المعارضة” السورية على الرغم من أنها تتغذّى أساساً على الانقسامات الطائفية والعرقية وتؤسس لها.
فعلى سبيل المثال كانت مدينة دمشق وريفها مقسمة إلى قسمين أحدهما خاضع لسلطة النظام الحاكم وثانيهما لسلطات المعارضة، وقد استطاع النظام استعادة سيطرته على تلك المدن والبلدات بعد سلسلة من المعارك انتهت بتسوية تقرّر فيها خروج المقاتلين وعائلاتهم ومن أراد إلى شمال سوريا، ودمج من تبقى فيما عرف باسم “المصالحة”. ومن خلال تلك التسويات أصبح بإمكان المواطنين الذين كانوا حتى وقت قريب حاضنة شعبية للمعارضة الدخول إلى مناطق سيطرة النظام، وبطبيعة الحال كانت التيارات الإسلامية المتطرفة تحكم بعض المناطق التي استعادها النظام واستطاعت خلق مناخ ثقافي إسلاموي شمل مجالات الحياة المتاحة جميعها. وفي هذا السياق يعد هؤلاء أن الظهور العلني لأفراد مجتمع الميم – عين هو من فعل النظام ويتلخص هذا النسق بالجملة التي نسمعها يومياً “هي هيي سوريا الأسد” وفي المقابل يعتقد النظام وعناصر المخابرات والجيش والمؤيدين أن الثورة هي المسؤولة عما يسمونه “الانحلال الخلقي” ويتلخص هذا النسق بجملة شائعة جداً بين الموالين للنظام “هي هيي الحرية اللي بدن ياها” ومثل “هيك بدو شيخن العرعور اللوطي”.
يبدو أننا نبحث عن إجابة جلية أمامنا حول أسباب غياب الخطاب الكويري في الثورة السورية، رغم المشاركة المؤكدة لمن يسمون أنفسهم كويريين أو أعضاء في مجتمع الميم – عين، وهي أن سياسة الاستبعاد كانت قد استعيرت لخطابات الثورة أيضاً؛ لأن التهميش والتقليل من شأن أفراد مجتمع الميم – عين هو نسق اجتماعي راسخ في اللاوعي الجمعي، وقلما يشعر الناس بضرورة مراجعة مثل هذه الأنساق والمقولات، فكان من أسهل الأمور إسقاط الحجة السياسية لأي ناشط/ة بمجرد إشارة بسيطة إلى الجندر والجنسانية (غير المعيارية) ولو على نحو غير شخصي، فإما أن تعمل خارج سياق المجموعات الثورية الناشطة، أو أن تتخلى عن خطابك الكويري، ومن المؤكد أن معظم أولئك الناشطين قد اختاروا الطريق الثاني. فأن تكون كويرياً في الثورة يعني أن تصغي لآلاف الشتائم المقذعة عن مقدار السخف والأنانية والجنون الذي تنطوي عليه قضيتك، وعليك أن تصمت كثيراً كما لو كنت مسؤولاً عن المجازر والقصف والتهجير دون أن ينتبه أحد إلى أنك منهم، من أولئك المضطهدين المقهورين، تعاني مثلهم من كل تلك المظالم وكل ذلك الجور.
وأعتقد أننا لا نحتاج إلى المزيد من الشرح حول التمزق الإجباري لناشطة نسوية مثلية الجنس ومعارضة أثناء محاولتها تعريف ذاتها من داخل المعارضة، بحيث تجد نفسها مضطرة إلى التخلي عن قضية أساسية في حياتها كي لا يتم نبذها من دائرتها أو على الأقل تهميش صوتها، وكأن حرية التعبير والحرية بشكل عام لا ينبغي أن تكون متاحة للجميع، أو كأننا نعيد خلق نظام قمعي جديد أكثر تحديداً من سابقه. هذا لا يعني أنها ستكون حرة في التعبير عن نفسها في دوائر داعمة للنظام، نقصد أن قمع الحريات أمر جلي ومحسوم بالنسبة لخطاب النظام وسياساته، لكنه مستهجن ومحبط حينما يسود بين أوساط المعارضة التي تتبنى الحرية كمبدأ ثوري. فأن تكون كويرياً وثائراً يعني أن تقف أولاً للدفاع عن المبادئ الثورية قبل كل شيء، أن تنسحب خطوات إلى الوراء راجياً من الآخرين أن يتخلوا عن مطالباتهم الشخصية غير المعقولة في سبيل الحفاظ على الثورة. ولكن ألا نكون هكذا كمن يعترف للآخرين بمشروعية مصادرة الثورة وحيازتها خطابياً لأن لدينا أسلوبيات مختلفة في هذا المضمار؟ أو على الأقل لأننا نمتلك تصوراً خاصاً ليس بوسع أحد أن يخرجه من السياق الثوري هنا أو في أي مكان آخر؟
فهل ينبغي أن نكون ملزمين دائماً أن نختار قضايا أخرى أو أن نعبر فقط عن الأجزاء التي تعد مقبولة وغير جدلية من هوياتنا؟
إرادة الحرية تدفع تجاه انبثاق الثورة، ولا تتحقق تلك الإرادة إلا حينما تتمخض الثورة عن بداية جديدة تؤسس لنظام قائم على العدالة الاجتماعية، وتهيئ بنية سياسية ضامنة للحقوق والحريات، فالحرية معيار للحكم على الأنظمة والهيئات السياسية، وليست مفهوماً رومانسياً يسهل التخلي عنه بمجرد التوصل إلى تسوية هنا وامتياز هناك.
والحرية كمفهوم لا تتجزأ لأنها تعني أولاً القدرة على الاختيار، وفي صلب تلك الإمكانية تجتمع شتى صياغات الاختيارات المراد لها أن تتحول إلى حقوق مدنية، فحرية التعبير لا يمكن اختزالها في التعبير عن التوجه السياسي، كما لا يمكن إيجازها في حرية ممارسة طقوس دينية من هذا النوع أو ذاك، فهنا ينبغي التذكير دائماً في مجتمعاتنا التي تخوض أكبر تجربة تحرّر في تاريخها، أنّ حرية التعبير عن الهوية وكذلك الحريات الجنسانية ليست ترفاً ثورياً وإنما تقع في صلب الخطاب التحرري، وبالنتيجة تأخذ مساحتها في معنى الحرية بشكل عام، ولا نتحدث هنا عن إطلاق التوجهات الجنسية والتأصيل لها وحسب لأن ذلك يعني أنها لم تكن موجودة وتتم صناعتها وقولبتها، وإنما منحها الحق في التشكل العادل داخل الخطاب الاجتماعي العام وعمليات البناء السياسية المستقبلية.
كما أن العنف الثوري وإن كان أحد الصفات المميزة للثورات، فإنه أيضاً لا يؤطر الثورة بوصفها عملية عنفية، ومن هذا المنظور لا يحق لأحد أن ينتزع ثورية نشاط المجتمع المدني ومن ضمنه حركات التحرر الكويرية التي تتموضع نسقياً داخل الفلسفات اللاعنفية، ولا يمكن لجميع أنواع العنف الرمزي أن تمنع نشوء خطاب كويري سياسي بحجة أن التعبيرات السلمية لم تثمر في مواجهة عنف النظام، فالعنف لا يكفي لوصف ظاهرة الثورة، وإنما التغيير هو الوصف الأجدر بها.
إن التغييرات السريعة التي تنشأ نتيجة النزاعات المسلحة لا تنجح غالباً في تغيير الخطاب والأنساق الاجتماعية التي تضمرها الثقافة، التغيير يخضع غالباً لشروط عامة وخاصة من المعرفة والفهم، وتحتاج التحولات الكبرى وقتاً أطول لكي تصبح مستوعبة داخل الوعي العام، وتغيير مفردات الخطاب أكثر فاعلية من استخدام القوة لتفعيل التغيير المنشود، ولذلك نؤكد على أن السيادة الفعلية للسلطة إنما هي سيادة خطابية، فمن يمتلك حضوراً في الخطاب يمتلك حضوراً في الحياة، ومن الملاحظ أن مفهوم المعيارية (الغيرية) الكامن في الخطاب المهيمن يمنع تشكيل الذوات المغايرة أو التي لا تحقق الشروط المعيارية، فالمشكلة ليست مشكلة وجودية، فالذات المختلفة لا تشك بوجودها الذي تعبر عنه في سائر تشكيلات حياتها، ولكنها تعاني من استبعادها خطابياً، وهنا نعود مجدداً لمواجهة مع المركز الذي هو عين المشكلة، فحينما يعجز المركز عن استيعاب الاختلافات والتمايزات ينبغي إزاحته من المركزية، نسفه واستبداله. من منظور كويري ينبغي ألا ننتظر إعادة بناء علاقات ثنائية ضدية من طراز: مركز – هامش نجد ذواتنا فيها متضمنة في مركزية جديدة تعيد إنتاج علاقات قوى قمعية تمنح امتيازات للبعض على حساب فئات ما تزال مهمشة.
فما نحتاج إليه اليوم ليس تأكيد أنفسنا داخل الحركات الثورية ولكن داخل الخطابات الثورية بالدرجة الأولى، نحتاج إلى أعمال أدبية وفنية قوية وأبعد من إدراكنا، ونحتاج إلى أن نكون حاضرين في حلبة العلم والدراسات العلمية ليس كنماذج بل كمتكلمين عايشوا القهر ليس كموضوع أكاديمي وإنما كخبرة حياة.
نحتاج إلى نسف العلاقة الثنائية مركز – هامش، والاستفادة من كل فرصة انزياح ممكنة للمركز أو المراكز، ويتجلى ذلك في الوضع السوري الراهن من خلال إعلاء الخطاب الكويري خارج ثنائية النظام والمعارضة، وخلق مسار سياسي مغاير، فالقاعدة الشعبية التي تضم ما نسميه “الكوير” أوسع نظرياً من التشكيلات الأخرى، حيث يتوزعون على مختلف الطوائف والإثنيات والأيديولوجيات السياسية، ولهذا يشكلون عينة تحالف نموذجية قد تستطيع صناعة نموذج سياسي لا معياري/لاثنائي قابل للاستخدام حينما نتحدث عن عدالة انتقالية يكون من أولوياتها الأخلاقية إعادة تقييم مواقع الجناة والضحايا في الصراع، بحيث لا تخضع تلك التقييمات إلى الثنائيات الضدية النمطية، وإنما إلى صيغ بديلة مستندة إلى حقيقة مفادها أن السوريين المدنيين أجبروا أن يتم تعريفهم بهذا وذاك دون أن يتمكنوا من الاختيار في كثير من الأماكن والمواقف والحالات.
When talking about transitional justice whose moral priority must be re-evaluating the question of perpetrators/victims within the conflict, but in a way that does not simply follow the normative binary oppositions I have analyzed so far, but that follows alternative forms of judgment that many civilians were forced to identify themselves with either side without having the luxury of “choice” in most of places, situations, and cases.
نحتاج إلى تطوير خطاب كويري سوري ينطلق من تجاربنا نحن بوصفنا كويريين وسوريين، أي أن يتساوق مع مفردات الثقافة، وبالدرجة الأولى أن نلجأ إلى استخدام “لغة كويرية” إن جاز التعبير، أن نستعيد الصيغ والأوصاف التي تصف هوياتنا، وأن نعيد استخدامها وإدراجها في كتاباتنا بالشكل الذي يجعلها منظومة خطابية خاصة ومميزة، ليس لأجل خلق مقابلات سورية للاصطلاحات الأجنبية، وإنما لأنها لديها محتوى ثقافي مندمج أصلاً في الوعي الاجتماعي وتحتاج إلى مصادرة القيمة لا أكثر.
ويجدر بنا أن نؤكد أنّ خلق مساحة خاصة للخطاب التحرري الجنساني، ضمن الخطابات العامة للثقافة السورية، مسؤولية إنسانية لأولئك الذين يعون المخاطر الناجمة عن حرمان المجتمع من المعرفة، وما يترتب على ذلك من انتشار الجهل والشائعات، وهيمنة الخرافات الشعبية والآراء المتطرفة في فهم ومعالجة سائر القضايا الاجتماعية، ومسؤولية أخلاقية ملحة تجاه أنفسنا ومجتمعاتنا وتجاه أولئك الذين ولدوا بين النار والركام، وتجاه من سيأتي بعدنا ألا نسمح بمنعنا، بوصفنا إحدى المجموعات المهمشة والجماعات المقهورة، من المشاركة في بناء السياسات الاجتماعية المستقبلية لبلادنا.
[1] أستخدم مصطلح كوير (queer) للإشارة إلى اللانمطية الجنسانية والجندرية بكافة تجلياتها، فالكويرية تستوعب نظرياً التباينات التي يشتمل عليها مجتمع الميم – عين، وعلى نحو آخر تقع حرفياً خارج استراتيجيات الثنائيات الضدية التي تعيد إنتاج نفسها بصيغ محددة تعجز عن احتواء ما لا يتطابق مع نظام علاماتها.
باحث/ة سوري/ة و ناشط/ة في حقوق الميم – عين، خريج/ة جامعة دمشق و المعهد العالي للفنون المسرحية و حائز/ة على ماجستير في الأدب المقارن.
(ينشر هذا الملف بدعم من مؤسسة: Hannchen-Mehrzweck stiftung)
حكاية ما انحكت