مطاردة وباء الوحدة لن يعالج ما نعانيه
تم تعيّن وزير للوحدة في المملكة المتحدة. في اليابان، هناك صناعة ناشئة لتنظيف الفوضى التي يخلفّها من يموتون فُرادى ولا يتم العثور عليهم لأيام أو أسابيع. وصف فيفيك مورثي – والذي شغل منصب كبير أطباء سابق بالولايات المتحدة- الوحدة بأنها “وباء مرضي متنامي”. من الذي يعاني من هذه الأزمة؟ الرجال والمثليين وكبار السن والشباب.
على الرغم من أن الوحدة يمكن أن تكون مدمرة، فإن الزعم بأن مجتمعنا يعاني من وباء الوحدة لا يُصور العلاقات في الماضي بشكل مثالي فقط، بل يبالغ أيضاً في التهوين مما يمكن القيام به فعلياً لمكافحتها.
كيف يمكننا أن نُصور أمراً وجودياً مثل الوحدة بأنه “آخذ في الارتفاع”؟ اقرأ تقريباً أي خبر يتحدث عن صعود الوحدة في الولايات المتحدة، وستجد على الأرجح اقتباس من نفس الدراسة: المسح الاجتماعي العام يتتبع صلات الأمريكيين ببعضهم من خلال مطالبتهم بسرد أسماء من يتحدثون معهم عن القضايا الهامة. خلال عام 2004، نسخت فرقة الاستبيان مجموعة من الأسئلة التي طُرحت في الماضي عام 1985. ونزلت نتائج الاستبيان كالصاعقة على الباحثين. أظهرت دراسة أجريت عام 2006، قائمة على الاستبيان، أن عدد الأشخاص الذين يقعون ضمن نطاق من لديهم “صفر” من المقربين قد تضاعف 3 مرات من عام 1985 إلى عام 2004 وهو ما فاجأ الباحثين، بما في ذلك ماثيو براشيرز، أستاذ علم الاجتماع في جامعة كارولينا الجنوبية، الذي شارك في إعداد التقرير الأصلي.
وبعد التقاط وسائل الإعلام الرئيسية للقصة ومن ثم نشرها، أدرك الباحثون أن البيانات الأولية قد تكون أكثر تعقيداً مما ظهرت عليه لأول مرة. بعض المشاكل كانت في المنهجية المُتبعة، ولكن براشيرز يقول أيضاً أنه من الممكن أن العديد ممن شاركوا في الاستبيان، والذين قالوا إنهم ليس لديهم أشخاص يناقشون معهم المسائل الهامة، ببساطة لم يعتقدوا أن الأحاديث التي تحدث بينهم تقع في مصاف الأحاديث “هامة”. يصبح هذا التعريف مُحير أكثر عند إجراء مقارنات تاريخية. ما كان يمكن اعتباره هاماً وحميمياً، بل وحتى حساس في محادثة تخوضها جداتي، قد يكون شيء أُرسله في بعض الرسائل النصية العفوية إلى مجموعة مراسلة صديقتي قبل الذهاب إلى السرير. من غير المرجح أن أسرد جميع النساء في هذه المحادثة وأقول أنهم “شركاء يناقشون معي أموراً هامة”.
وعلى الرغم من التحذيرات، فإن براشيرز والمؤلفين المشاركين ظلوا واثقين من أنه، “واستناداً إلى بيانات عام 1985 و(البيانات المُصححة) لعام 2004، فإن تحليلاتنا ما تزال تظهر زيادة كبيرة في عدد الأشخاص الذين أفادوا بأنهم لا يناقشون مسائل هامة مع أي شخص، ووجود اتجاه هابط لمتوسط عدد المقربين”. بينما قال براشيرز أن ما يعنيه هذا فيما يتعلق بتغير طبيعة شبكة العلاقات الشخصية الأميركية ومستوى الرفاه العام يعتبر سؤال مختلف. “ثقتي أقل في أن هذه النتيجة تفيد بأننا منقطعين عن بعضنا البعض، وبالتالي الحضارة الغربية، بالشكل الذي اعتدنا عليه، تقترب من نهايتها”.
ربما يكون ما حدث مجرد تغيير في شكل العلاقات، بدلاً من تحولها للأسوأ. يقول براشيرز إن بعض الأبحاث تُظهر أننا نقسّم شبكاتنا الاجتماعية بشكل مختلف عما كان عليه الحال في الماضي. قد نعتمد على مجموعة من الناس لمراقبة أطفالنا في حالات الطوارئ وأخرى للدعم المالي وأخرى لمناقشة المسائل الصعبة. “ليس بالضرورة أن يحدث التداخل بين هذه المجموعات بالقدر الذي تتوقعه. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أننا نتفاعل مع عدد أقل من الناس. يمكن أن يعني هذا أننا نقسّم من نعرفهم بطريقة مختلفة عما كنا نفعله”.
يشكك المؤرخون أيضاً في فكرة حدوث زيادة هائلة في الشعور بالوحدة. وفي مقال له عن التاريخ الاجتماعي، يقول كه دي سنيل، أستاذ التاريخ الحضري والثقافي في جامعة ليستر- “منذ ستينات القرن الماضي وحتى الآن، ومن خلال عدد من الدراسات والثقافات، نجد أن بين 30 إلى 50 بالمئة من الذين شملهم الاستطلاع كانوا يشعرون بالوحدة، وحوالي 10-30 بالمئة وحيدين للغاية”. تُظهر الدراسات الاستقصائية أحياناً أرقام أعلى من هذه وأحياناً أقل، كما يقول سنيل.
فبطريقة ما، أصبحت الوحدة جزءاً لا يتجزأ من مجتمع الحداثة؛ إذ نتج عن الثورة الصناعية تفكيك الأسر الكبيرة التي اعتمدت في السابق على الزراعة كما تفرق الناس في مختلف البلدان حيث أصبحوا فجأة قادرين على تحمل العيش وحدهم ولفترات طويلة من حياتهم.
تقول المؤرخة ستيفاني كونتز إن أكثر فترة شهدت الوحدة (بين الأشخاص) في العصر الحديث، كانت خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر وذلك مع صعود النزعة التجارية؛ إذ نزحت أعداد كبيرة من الناس إلى البحر ومناطق العمل البعيدة تاركين ديارهم بحثًا عن لقمة العيش. وتضيف قائلًا إن الحنين إلى الوطن والاشتياق إلى المجتمعات المترابطة قد بات شعوراً لا يمكن في كثير من الأحيان تحمله.
أما اليوم، فعلى الرغم من أن معظم الناس في الولايات المتحدة الأميركية ليسوا مضطرين لتجربة مثل هذه الاضطرابات، إلا أنهم بالفعل أصبحوا أكثر انفتاحاً وأقل ترابطاً من الناحية الاجتماعية عما كانوا عليه قبل عصر الحداثة. وتقول المؤرخة كونتز أيضاً، “ربما يكون الحديث عن الوباء الجديد، (الوحدة) مبالغًا فيه بعض الشيء، ولكنني أظن أنها تعبر عن إحدى معضلات المجتمعات الحديثة المفتوحة فحسب. فنحن نحصل على حرية اختيار من نريد أن نكون، ولكننا لم نفقد فقط حس الانتماء مع كل القيود التي فرضت علينا، بل فقدنا أيضًا كلًا من الأمن والراحة”.
ويمكن أن يعكس وجود عدد كبير من الأشخاص الذين يشعرون بالوحدة الجانب الإيجابي، وهو أننا نمتلك معايير عالية في العلاقات العاطفية أكثر مما حلم به أسلافنا. فعلى سبيل المثال، تلاحظ كونتز أن لدينا توقعات أعلى في العلاقات الزوجية عما قبل. ففي الواقع، ربما يكون هذا هو السبب وراء قلة اهتمامنا بالعلاقات الأخرى خارج نطاق الزواج، طبقاً لحساب نتائج جهاز الأمن العام الذي وجد أن دائرة الأشخاص الموثوقين بالنسبة لنا قد أصبحت أصغر من السابق. ولكن هل يعد هذا سيئًا؟ تُظهر الإحصائيات أننا نتمتع بحياة زوجية أقل سعادة عما كنا قبل 50 عاماً من الآن. وتطرح كونتز سؤالاً: هل يريد أي شخص، وخاصة لو كانت امرأة، أن تعود بالزمن وتعيش هي إحدى هذه الزيجات؟
أصبحت الوحدة، بشكل مفاجئ، معضلة، وهذه الفكرة تمثل جزءاً من المشكلة نفسها، وهذا ربما يولد حنيناً واشتياقاً لماضٍ يُتخيل أنه يسوده علاقات ناجحة، مجتمعاً يحتوينا متى احتجنا إلى ذلك، حين كانت شبكات علاقاتنا الاجتماعية تمثل أكثر قمعاً وخاصة ضد المرأة والمثليين والسود.
المشكلة الثانية المتعلقة بما يُطلق عليه معضلة الوحدة، هي أنها تعالج مشكلة معقدة على أنها ظاهرة عالمية واحدة. ففي مجتمع غير متكافئ مثل هذا، تنبع مشكلة الوحدة لدى مُختلف الأشخاص بناء على أسباب وجذور مختلفة تماماً. بالنظر إلى القضية من خلال صياغة فيفيك مورثي لها إذ يقول “في نطاق العمل، يُظهر معظم العاملين، وحوالي نصف المديرين التنفيذيين، شعورهم بالوحدة من خلال أدوارهم”. كما يبدو جلياً أن السبب وراء شعور المديرين بالوحدة في العمل يختلف تماماً عن السبب وراء نفس شعور حوالي ثلث عدد المواطنين الأميركيين والذين تجاوزوا سن الخامسة والأربعون ممن شملهم الاستطلاع. وهذه المشكلة الأخيرة تعبر عن التحيز ضد كبار السن في سوق العمل، بالإضافة إلى المشكلات التي تعاني منها دور رعاية المسنين والأسر المُثقلة بالأعباء التي تحمل على عاتقها مسئوليات تقديم الرعاية. أما المشكلة الأولى فتنبع من أماكن العمل التي تنتهج نظاماً هرمياً بشكل كبير. وبشأن اختزال هذه المواقف المتعددة للوحدة في نمط واحد ومعضلة واحدة، يقترح مرثي حلولاً لها وهي مساعدة الفرد لذاته روحياً، وهذا الحل يساعد خلال مكان العمل أكثر منه في الإصلاحات المجتمعية الكبيرة.
حتى وإن كنا نعاني من الوحدة أكثر مما كان عليه الحال قبل جيل من الآن، فإن محاولة وقف هذا الاتجاه من خلال المساعدات الذاتية في أماكن العمل أو المنازل لا تكفي لحل المشكلات التي نبعت في الأصل من الطريقة التي ننظم بها المجتمع، وخاصة الطريقة التي ننتهجها في العمل والعيش. فإذا أردنا إيجاد حل فعلي لهذه المشكلة، فلابد أن نتبع نهجاً كاملاً على أصعدة متعددة يعمل بجدية على بناء هياكل ضد عدم المساواة الاجتماعية. ولأن شبكات العلاقات لدى الأفراد تعد فريدة من نوعها، فكذلك تكون تجاربهم مع الوحدة فريدة من نوعها أيضاً.
*هالي سوينسون.
هذا الموضوع تم اعداده وترجمته عن موقع “سلايت” لمراجعة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي.
درج