كيف ننجو من الدستور!/ عمر قدور
من الطريف في هذا التوقيت أن تعلن جماعة الإخوان المسلمين انسحابها من اللجنة الدستورية المنبثقة عما سُمّي مؤتمر الحوار الوطني السوري، الذي عُقد في سوتشي ولم ننسَ بعد المهازل التي رافقته، سواءً لجهة استهتار تنظيم الأسد باختيار ممثليه أو لجهة استهتار المضيف الروسي بممثلي المعارضة وصولاً إلى إهانتهم على الملأ. في هذا السياق يُفترض ألا ننسى، وألا يتجاهل الإخوان، مساهمة أردوغان الأساسية في التحضير لسوتشي، وفي مسار آستانة الذي سبقه وكان من غاياته تقويض مسار جنيف. بمعنى أن “الانحراف السياسي” الذي يشير إليه بيان الانسحاب لم يأتِ الآن، وكانت مقدماته واضحة للعيان، وكذلك كان الدور التركي في تسهيل مهمة بوتين.
الأمر لا يتعلق تحديداً بالإخوان، إذ من المعيب لأية جهة سياسية أن تكتشف متأخرة ما أصبح بسبب تقادمه بالنسبة للعموم في مقام البديهيات، وأن تغطي قصورها السياسي الفادح بتجاهل عملية متكاملة استغرقت سنوات. فنحن نعلم أن تنزيل سقف الحل السياسي المزعوم بدأ مع اللقاءات المتكررة التي كان يعقدها وزير خارجية أوباما مع لافروف لبحث الملف السوري، وكانا يخرجان في ختامها لمقابلة الصحافيين وضحكات التفاهم تغطي وجهيهما، أما إهمال إدارة ترامب للملف السوري فلا تخطئه عين، وأتى معطوفاً على تصريحات لترامب أثناء حملته الانتخابية استبشر بها الأسد وحلفاؤه.
الجهود الإقليمية أتت مكملة لذلك السياق الدولي، من خلال ضبط هيئات المعارضة القديمة والحديثة أو المستحدثة، فضلاً عن ضبط الفصائل العسكرية، وصولاً إلى إشراك هيئات محسوبة شكلياً على المعارضة ومتحفزة لإنهاء الثورة وبقاء بشار. لكن ما هو معلوم أيضاً أن هيئات المعارضة انساقت تماماً وفق ما هو مطلوب منها، ولا يقتصر ذلك على الانصياع لما هو مطلوب منها وإنما يتعداه إلى عدم امتلاكها أصلاً خططاً بديلة لمواجهة سَوْقها إلى الانتحار، وبالطبع لم يُعرف عن عالم السياسة رأفته يوماً بالمغفّلين أو المتغافلين.
يحدد بيان انسحاب الإخوان الخلل السياسي بأنه “فرض اللجنة الدستورية دون باقي الملفات التي نص عليها قرار مجلس الأمن 2254، وفي هذا تجاهل لنقطة البدء الأساسية وهي مرحلة انتقالية بدون الأسد تؤسس لهيئة حكم انتقالي تعمل على الدستور والانتخابات وبقية الملفات التي ستفضي إلى حل سياسي”. والحق أننا شكلياً لا نستطيع إنكار أحقية الاعتراض الإخواني، مثلما لا نستطيع إنكار أحقية الاعتراض الذي ينص على أن الدستور شأن ينبغي تركه للسوريين ضمن عملية ديموقراطية شفافة ونزيهة. إلا أن هذه التصورات المنطقية لا تصطدم فقط برغبات دولية مناقضة لها، وإنما أيضاً بوضع سوري داخلي يدحض المنطق الذي تقوم عليه.
من الخطأ الظن أن الصراع الذي استهلك سنوات من التدخلات الدولية والإقليمية يقتصر على إسقاط الأسد أو عدم إسقاطه، أو يُراد به الوصول إلى إعادة تدوير الأسد كنتيجة مقررة سلفاً. الصراع فقط من جهة الذين وقفوا مع الثورة هو من أجل إسقاط الأسدية، ومن ثم الشروع في عملية التغيير الديموقراطي؛ هذا التصور لا تتفق عليه حتى مجمل القوى السورية التي عملت على إسقاط الأسد بوجود فصائل إسلامية محلية أعلنت احتقارها الديموقراطية. إننا، على سبيل المثال، لا نستطيع إدراج استهداف فصائل الجيش الحر وصولاً إلى الفصائل الأكثر اعتدالاً بين الإسلاميين ضمن مشروع إسقاط الأسد، ولا يكفي إدراجه ضمن منطق إمارات الحرب، فالأساس هنا هو الصراع على ما بعد الأسد في المرحلة التي ساد فيها الظن أن سقوطه وشيك.
للخارج ربما أسبقية الانخراط في سؤال ما بعد الأسد، أولاً لضبط الارتدادات الإقليمية المحتملة لسقوطه، وثانياً لضبط الاضطرابات أو الفوضى السورية المتوقعة. كان لانتصار سريع وساحق للثورة أن يستبق ذلك كله، على الصعيدين المحلي والخارجي، إلا أن ذلك لم يكن متاحاً داخلياً وخارجياً، الأمر الذي جعل سؤال إسقاط الأسد وما بعده متشابكين بحيث يصعب الفصل بينهما. ولعل ما نعرفه عن “عقدة الأسد” التي قيل فيها الكثير، وبعدها الاتفاق على تصفير تلك العقدة، يوضحان المسار الخارجي لرسم خريطة المستقبل. تصفير “عقدة الأسد”، وفق هذا المنظور، لا يعني إعادة تدويره بقدر ما يعني الاتفاق على تفاصيل المرحلة القادمة.
الإلحاح الروسي على أولوية “اللجنة الدستورية” هو ضمن إطار أوسع من السيطرة على مستقبل سوريا، والانسحاب من اللجنة قد لا يعرقل سيرها إذا استمر الوضع الحالي على ما هو عليه لجهة تفويض موسكو بالملف السوري. لكن أسوأ ما في الأمر هو التلهي عن عمق ما يجري على أرضية مقولات سبق ذكرها، مثل ترحيل موضوع الدستور إلى المرحلة الانتقالية المأمولة، أو التوقف عند القول أن الدستور سيكتبه ويقرّه في ما بعد السوريون أثناء المرحلة الانتقالية أو بعدها، لأن أصحاب هذه المقولات لا يملكون القوة التي تكفل تنفيذها، ولأن الواقع تجاوزها فعلاً.
لقد فتحت الثورة باباً من المطالبات يصعب إغلاقه بالشعارات أو العموميات؛ هذا ما ينبغي الاعتراف به، وهناك قوى سورية تريد الحفاظ على هيمنتها، مثلما هناك قوى تتطلع إلى الهيمنة، وما بينهما قد يكون خطاب الثورة بوصفه خطاباً وطنياً ديموقراطياً هو الأضعف. وإذا توخينا مزيداً من الواقعية فإن الاتفاق على المستقبل كان منذ البداية في صلب عملية التغيير، وبالتأكيد في صلب إعاقتها. في هذا السياق لم يكن التصور الوطني العمومي ناجعاً إزاء قوى تريد ضمانات أفضل لمستقبلها أو لعدم الثأر منها، لم يكن ناجعاً مثلاً بالنسبة للأكراد الذين يريدون اعترافاً لا لبس فيه، ولم يكن في حسبان تنظيمات إسلامية سيطرت على الشطر الأعظم من المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد.
كانت الحظوظ أوفر للنجاة من دستور تكتبه اللجنة الحالية لو أعيد النظر من قَبل في مفهوم السلطة ذاتها، ولو نُظر إلى الدستور نفسه كآلية لتبديد مركزية السلطة الحالية، ولتبديد مفاهيمنا التي يتوقف قسم كبير منها عند الدولة المركزية. لو حدث هذا لأمكن مواجهة اللجنة الدستورية الحالية وما ينتج عنها بتصورات دستورية متقدمة، من ضمنها الانتهاء من الثقل الممنوح للرئاسة وللجيش، وربما مواجهتها بناء على ذلك بتحالفات أوسع وأرسخ من قوى ترى في اللامركزية ضمانة لمستقبلها. عدم حدوثه لم يكن فقط بسبب حرص ديموقراطي مزعوم على أن يقرر السوريون لاحقاً ما يناسبهم، ولا جراء سهو أو غفلة؛ إنه يعبّر عما نعرفه من تهافت قسم من المعارضة وعقلية الهيمنة لدى قسم آخر منها. بالتأكيد ثمة احتمال آخر لإعفاء المعارضة من مسؤوليتها تلك، إذا سايرنا رأياً مفاده أنه ليس من مهمة الثورة إنجاز هذه الاستحقاقات، لأن مهمتها تتوقف عند خلخلة الوضع وفتح باب التغيير. من وجهة النظر هذه تكون الثورة قد نجحت وانتهت تقريباً منذ الأشهر الأولى، وعليه لا معنى للتحدث باسمها خلال سنوات.
المدن