كيانات المعارضة السورية وضحايا الحل العسكري/ سميرة المسالمة
ليس من قبيل التنديد بالبيان الرسمي الصادر عن الهيئة السورية العليا للمفاوضات، في 2 أغسطس/ آب الجاري، بخصوص اللجنة الدستورية والعملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف، وإنما من قبيل المسؤولية عن مناقشة ما أورده باعتبارها مسلماتٍ تؤمن بها “الهيئة”، كثقافة متراكمة لها، “تطلب” من الشعب السوري الارتقاء “بمنظورنا إلى مستواها، بعيداً عن حلولٍ عسكريةٍ متوهمة، تؤدي إلى تدمير ما تبقى من وطننا”. وإذا كان هذا التعبير الصادم الذي جاء في البيان يعبّر عن تلك الهيئة، بوصفها كيانا معارضا، كأنه ولد من عامة الشعب، وليس من كياناتٍ قائمة ومستمرة، ومجموعها شكل الهيئة، بل إن أكثرها تمثيلاً داخلها (من تلك الكيانات) يتحمل مباشرةً مسؤولية مباركة تحويل الصراع من سياسي إلى عسكري، بل وارتهاناتها لتبعات ذلك، وتوهمات قدرتها على مجابهة جيش النظام المدعوم بقوى إقليمية ودولية، ومنها مثلا روسيا وإيران.
قد يكون البيان الذي أصدرته الهيئة لتبرير انجرارها وارتهانها للحل الروسي المفروض عليها مقبولاً، فيما لو اقتصر على شرح وقائع الحال، وفقدانها أوراق قوة، باعتبارها جهة ممثلة لكيانات عديدة متناحرة ومتنافسة فيما بينها (كيانات سياسية وعسكرية ومنصّات تفاوضية)، وبعضها مرتهنٌ بفعل مرجعيته الكاملة للدول التي أنشأتها ورعتها وموّلتها، وتالياً أجبرتها على الجلوس جنباً إلى جنب بقرار دولي، ولم تستطع أن تجري عملية اندماج لمشروع وطني متكامل، قائم على الحل السياسي السوري – السوري. لذا، في هذه الحال، يمكن أن يبدو سرد السيرة الذاتية للعملية السياسية وانتكاساتها ضرورياً، ولكن من دون الاختباء وراء الشعب السوري وإرادته، وتحميله مسؤولية خياراتٍ لكيانات معارضة مرتهنة لإرادة من يتبنّاها، ولا
علاقة للشعب السوري بها، لا من قبيل انتخابها أو شرعنتها أو حتى استمرارها.
البيان، بصيغته الخطابية التي تتشارك مع خطابية النظام في امتلاك الشعب السوري، والتّصرّف بشؤونه كأوصياء عليه وممثلين “منتخبين” له، وبالتالي تحميل الشعب بالتساوي مسؤولية الارتقاء “بمنظورنا” (النا الدالة على الفاعلين جمعت بين الهيئة كيانا معارضا والشعب السوري جميعه “المطالب بالارتقاء!”)، إنما يمكن وصفه بالتدليس والافتراء على الشعب السوري، لأن خيارات الشعب بدايةً كانت المواجهة السلمية، وفي النهاية لم يكن هو الشريك بخياراتهم في أي مرحلة من مراحل تطور الصراع، سيما تحويله إلى مواجهات مسلحة، لأنه كان يعي أنها لن تثمر إلا أمراء حروبٍ يجلسون على طاولة تفاوض لاقتسام حريته، وليس لتمكينه منها. وبدلاً من أن يأتي البيان محاولة لشرح موجبات الانخراط باللجنة الدستورية، على الرغم من أنها تمثل اغتصاباً لحق السوريين في صناعة مستقبلهم التي تكفله لهم القرارات الدولية، وما يشكله الدستور المقترح من الجهة الراعية من خطرٍ محدقٍ على مستقبل سورية وطنا واحدا، واعترافاً بهزيمة خيارات الكيانات التي تشكلت منها هيئة المفاوضات، وخصوصا الفصائل والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، فقد جاء ليحمّل السوريين مسؤولية خراب سورية وتدميرها، بالتساوي مع صنّاع الحرب والمرتهنين لهم.
الشعب السوري الذي انتفض ضد النظام المستبد، متطلعاً إلى حريته، ومطالباً بكامل حقوق مواطنته، وأجبر، في لحظةٍ ما، على الدفاع عن نفسه ضد الممارسات العنفية للنظام، بحمل السلاح الفردي، ليس هو نفسه الذي يتحمّل مسؤولية خيارات تشكيل الفصائل المسلحة، ذات الأجندات الدولية، والمؤدلجة، وذات المطامع السلطوية التي لا يمكن تمييز ممارساتها عن ممارسات الأجهزة الأمنية التي ثار السوريون ضدّها، ما يعني أن التمييز الواجب هنا بين دفاع السوريين عن أنفسهم بالوسائل السلمية أو المسلحة يختلف تماما عن ادّعاءات الفصائل المرتهنة لمشغليها، والتي تدخل اليوم في تشكيل بعض الكيانات، ومنها هيئة التفاوض، وتتصدّر العملية التفاوضية، سواء في جنيف طرفا شريكا للمعارضة السياسية، أو في أستانة طرفا متفرّدا مقابلا للنظام، أو في سوتشي طرفا شريكا للنظام، والتي تحاول الهيئة، في بيانها، تبييض منتجاته، واستدراك ما فات بعضها الذي أجبر على عدم الحضور تحت ضغط الحاضنة الشعبية للثورة.
خيار الانسياق وراء الحل الروسي بديلا للحلول الأممية التي أقرّتها القرارات الدولية، تحت ضغط الخسائر العسكرية، تتحمل مسؤوليته الكيانات السياسية المرتهنة التي تبنّت الانتصارات “الموهومة والمدبرة” في البداية، وقبلت بالانقلاب العسكري عليها، عندما حكمت تلك الفصائل المناطق التي سميت “محرّرة”، تحت مسمّيات الإمارة أو الخلافة أو حكم المجالس المحلية أيضاً، لتمرير مشروع التقسيم الجغرافي، بعد التقسيم والتغيير الديمغرافي، التي أسهمت الفصائل نفسها مع النظام بشرعنته تحت مسمّى التسويات المحلية بداية، ومناطق خفض التصعيد لاحقا منتج مسار أستانة.
في المحصلة، يمكن القول إن الذهاب إلى المشاركة في اللجنة الدستورية ليس “محاولة استثمار فرصةٍ ممكنةٍ للبناء على ما تم إنجازه”، كما يحاول البيان الرسمي للهيئة تأكيده، وإنما هي
“يمكن القول إن الذهاب إلى المشاركة في اللجنة الدستورية ليس “محاولة استثمار فرصةٍ ممكنةٍ للبناء على ما تم إنجازه””
مشاركة مأجورة في عملية انتزاع ما تحقّق بدماء السوريين من إلزام المجتمع الدولي على الاعتراف بحقهم في صناعة مستقبلهم، والتلاعب على القرارات الدولية بتجزئة محتواها، و”اختطاف الحل” من سياسي إلى ترقيعي، يبقي على الصراع مفتوحاً لمصلحة الدول الراعية لمساري أستانة وسوتشي، إلى أن تتحقّق مصالحها، على حساب المصلحة السورية، في حل يضمن للسوريين حياة مواطنة متساوية، وينهي استبداد النظام والفصائل الشبيهة له، والتي هي قاب قوسين أو أقل من الشراكة معه في صناعة منظومةٍ أمنيةٍ جديدة تطبق على رقاب السوريين من جديد.
الفرصة دائما متاحة للهيئة أن تقدّم للسوريين، وليس باسم السوريين، بياناً واضحاً لا يتعلق بتمسّكها بنسب تشكيل اللجنة الدستورية، لضمان تمثيل أعضاء غير منتخبين من الشعب السوري، وغير معني الشعب السوري بتحاصصاتهم، وإنما بياناً يشرح مسؤوليتها بوصفها كيانا مشكلا من كيانات مسؤولة مباشرة عن هزيمة سياسية، قبل أن تكون عسكرية، وتبرّر للناس سبب رفضها الانخراط بتشكيل لجنة دستورية، طالبها بها المجتمع الدولي نفسه منذ عام 2013، وتقول إنها تنفذ قراراته، وليس قرارات مؤتمر سوتشي، وما حجم مسؤولية تلك الكيانات عن كل الضحايا السوريين، بشراً وحجراً، منذ عام 2013، أي منذ رفضت أن تكون اللجنة الدستورية مدخلا لحل سياسي، على الرغم من كل عوامل القوة التي امتلكتها آنذاك، من وجود جيش حر، وليس فصائل مرتهنة، إلى تعاطف شعبي دولي إلى قرارات دولية، في الوقت الذي تقبلها الآن، وقد بدت أضعف حتى من تسمية أعضاء متخصّصين في صناعة الدستور، وقبلت بحكم العسكر والمحاصصات داخلها، وقزّمت السوريين إلى الصورة التي يظهر فيها ممثلوها في اللجنة الدستورية الروسية، وليست السورية.
العربي الجديد