سورية بعد تثبيت أمن إسرائيل/ عادل يازجي
ليس أمراً عرضياً اطمئنانُ الرئيسين بوتين وترامب على أمن إسرائيل، فهذا مؤشر على الرغبة بالتهدئة، لأنّ كل ما حدث ويحدث فوق الأرض السورية هو لخدمة أمنها، الذي لا يشكك فيه إلاّ نتانياهو، وربما عاتب صديقيه بوتين وترامب على التسرّع بإعلان اطمئنانهما في مرحلة ليست مناسبة في أزمته المتعلقة بقضايا فساد، ولذلك لم يبخلا عليه بالحفاظ على نقط ساخنة في جواره، وما «الغزوة» الداعشية لمحافظة السويداء إلا واحدة منها، فهذه مسألة ذات قراءة أخرى، وأوراق نتانياهو مع صديقيه حول الوضع الإقليمي لا تزال قيد التداول. فخروج إيران من سورية مرهون بدحر الإرهاب فيها و «استقرارها النسبي»، وهذا يقتضي الحفاظ على «داعش» و «النصرة»، لتحقيق الاستقرار أو إبعاده عن التداول وفقاً لرغبة مُشغِّليها. وعدم انكفاء إيران داخل حدودها الدولية لا ينغّص أمن نتنياهو فقط، بل الأمن العربي والإقليمي برمته، وقد يحظى بمفاجأة ترامبية من العيار الثقيل.
أمّا الوجود التركي في الشمال، ورعايته «إمارة» إدلب القاعدية، فهما العقبة الكأداء أمام «الاستقرار النسبي» الذي تقبله إيران، وقد تحسمه قمة الحلف الثلاثي (روسيا وإيران وتركيا). التهدئة واضحة المعالم: مصالحات، ترحيل من هنا الى هناك وبالعكس، دخول جيش النظام إلى حدود اتفاق فصل القوات عام 1974، حوار بين دمشق و «قوات سورية الديموقراطية»، انعقاد «آستانة 10» بحقيبتها الأساسية وسلّةٍ مُستحدثة هي عودة المهجّرين، وإقحام اللجنة الدستورية في هذه المنصة بلغة التشاور لاختيار لجنتها، التي وعد المبعوث الأممي بإنجازها قريباً في أيلول المقبل، ولن يعكّر جوَّ التهدئة هجومٌ داعشيٌ يُبرمَجُ لاستمرار الحرب على الإرهاب، أو عمل عسكري محدود في «إمارة» إدلب، كونها قيد المساومات بين موسكو وطهران وأنقرة بصمت أميركي قد يُستثمر بمقاربات خليجية وإقليمية، ضد إيران التي «تتغنّج» بقبول الحوار المباشر معه، وربما تستدرك قبل فوات الأوان!
علامات التهدئة (لا الاستقرار النسبي ولا الحل السياسي) تحت معطف النظام، الذي (كعادته) يحتضن الجميع بصدره الواسع (الحنون) ويَعِدُهم، كما يَعِدُ المجتمع الدولي، بأنّه سيغيّر نفسه بنفسه، ولا حاجة لاستيراد تغييرٍ بمواصفات غير وطنية، وهو قادر مع معارضيه الذين جمعهم وحاورهم في سوتشي، على وضع مواصفات انتقالية تفي بالغرض، وإجلاسهم على مائدته السياسية بكامل أناقتهم الموالية والمعارِضة. وطبّاخو النظام أكثر خبرة بالذوق السياسي السوري من أي خبرة مستوردة، ولو أممية.
التهدئة ليست الحل السياسي، وربما تعرقله إذا اطمأنّ النظام الى خُلَّبية الضغوطات عليه، لكنها أساسية لإنضاج الأفكار تمهيداً لخلق الفرصة المتاحة، التي حتى الآن لم تكتمل مستلزماتها الإقليمية سياسياً ولوجستياً، فمصير إدلب معلّق بتحديد وجهة من يرفض التسوية فيها، فهل مازال السلاح ملاذه الأخير، أم أحضان تركيا وقطر، أم تغيير نفسه بنفسه؟
قراءات مصير إدلب لا تبتعد عن سيناريو الانفجار، وأقلُها ضرراً هو التأجيل، الذي لا يخدش التهدئة ولا يلغي الانفجار.
في هذه الأجواء عُقِد الاجتماعُ 10 لمنصة آستانة في سوتشي، بإضافة سلة المهجرين، حضره المبعوث الدولي في زحمة انشغاله بتشكيل اللجنة الدستورية، وإعادة تأهيله لدى النظام، فقد زار وحاور وناقش كل العواصم، من واشنطن إلى موسكو فأنقرة وعمّان ثمّ طهران، والقاهرة، حتى بروكسيل وباريس ولندن. صحيح أنه لم يعرّج على دمشق، لكنه استدرك، أو أُقنِع بأن روسيا والنظام بتركيبته الموالية والمعارضة، هما الخصم والحكم حالياً، برضا كل العواصم التي زارها، يُضاف إليها تل أبيب. وحتى الأمم المتحدة التي يمثلها، اقتنعت بنتائج الصراع فوق الأرض. إدلب ليست ما يعيق انطلاق العملية السياسية، سواء عادت إلى بيت الطاعة أو دخلت خط الانفجار أو ابتعدت منه. ما يعيقها هو عدم توافر جرعة دفعٍ «سوبّر» قطبية مدججة بقوة إلزام سياسي، فالنظام يماطل بكل ما يملك من قوة روسية وإيرانية لمنع إلزامه بما لم تُلزمه به المواجهة الميدانية، وقضيته هذه توليها موسكو عناية خاصة قد تودي بحياة اللجنة الدستورية قبل أن ترى النور. والبديل المفعم بالوطنية والديموقراطية الذي يفبركه النظام مع إيران وروسيا، ربما يكون بتوسيع الجبهة الوطنية الحالية، أو حلّها وترك القرار حرّاً للشارع الانتخابي، وكلاهما ممكنٌ ومحتمل، فالجبهة الحالية يُفترض أن تفتح أبوابها لجبهة التنسيق الوطنية مكافأةً لها على رفضها التدخل الأجنبي، والجبهة قد ترفض الضمّ، وهي الضليعة بالرفض والمعارضة منذ العام 1976، ولا بد من استيعاب منصّتي القاهرة وموسكو، بما تحويانه من تيّارات. لكن المعضلة تكمن في كومة الأحزاب الجديدة التي ولدت من رحم قانون الأحزاب الذي صدر في آب (أغسطس) 2011، فقد بلغ عددها مع أحزاب هيئة التنسيق 25 حزباً (معارضاً) للنظام بموافقته ورعايته أمنياً وسياسياً، وبعضها قفز علناً إلى قاعدة حميميم الروسية ليثبّت أناقته المعارِضة.
أمّا الأحزاب المحظورة، فعددها ستة عشر حزباً، معظمها ذو أيديولوجيات مذهبية تعصبية، باستثناء واحد منها يساري متطرف، انشقّ عنه كثيرون وشكّلوا أحزاباً وتيارات في الداخل والخارج. وباب النظام مغلق سياسياً في وجوه هؤلاء كلهم، ومفتوح أمنياً لرعايتهم وتشغيلهم. ولافت ما يرشح عمّا تطبخه «الإخونجية» الأردوغانية مع «الإخونجية» السورية، لتشكيل واجهة لادينية لها، تؤهلها لمساعدة المعارضة المعتدلة في محاربة جبهة النصرة أو تدجينها، لتحويل إدلب من «إمارة» قاعدية إلى إدارة ذاتية على شاكلة إدارة الكرد المجاورة. فالحل الذاتي الإخونجي المعدّل، ربما لا بديل منه لهذا التجمّع الرافض التسوية، إذ يستحيل قبول تركيا أو قطر استضافة جبهة النصرة في أراضيهما، فدعمهما إياها هو للتصدير وليس للاستيراد أو التوطين في بلديهما! وبذلك يخفف أردوغان عن تركيا وقطر أعباء جهاد جبهة النصرة عربياً ودولياً، وقد يتّسع صدر النظام لإدلب مُعدّلة بضمانة طهران وأنقرة. وفي هذا الإطار، حتى التسريبات الرفيعة المصدر تبقى احتمالية، وربما مخادعة، أو واحدة من القراءات، والمجتمع الدولي يتفهّم أيَّ حل شبه ديموقراطي يمكن تحقيقه في ظلِّ النظام وحليفته روسيا.
* كاتب سوري
الحياة