نقد المنظور الطائفي في سورية/ راتب شعبو
وفق المنظور الطائفي، يبدو أن هناك طائفة حاكمة في سورية، هي الطائفة العلوية، في مقابل أكثرية سنية محكومة. وعليه، يكون هدف الثورة السورية إسقاط حكم أقلية مذهبية لصالح حكم أكثرية مذهبية. على الرغم من وجود ما يبرّر تداول هذا المنظور منذ اندلاع الثورة، قبل سبع سنوات ونصف السنة، مثل استقدام مليشيات شيعية متعدّدة الجنسيات لتقاتل مع نظام الأسد، وقوف النسبة العظمى من الأقليات الدينية والمذهبية، ولاسيما العلويين، إلى جانب النظام، كون الجسد العسكري المواجه لنظام الأسد يقتصر على الإسلاميين السنة… إلخ، إلا أن هذا المنظور يعيد تعريف الثورة على أنها ثورة أكثرية سنية، وليست ثورة سورية، أي إنه يفرغ الثورة السورية من محتواها التحرّري والوطني.
لو قبلنا، مؤقتاً، بهذا المنظور، ووافقنا على أن هناك “طائفة حاكمة”، واعتبرنا أن المشكلة في سورية تتمثّل فعلاً في سيطرة هذه الطائفة على الدولة السورية، فسوف نقبل أن يكون المخرج من المشكلة هو كسر هذه السيطرة وإعادتها إلى الأكثرية المذهبية صاحبة الحق، كيفما كان الشكل الذي يمكن تحقيق هذه الغاية عبره، (سواء بإعطاء كل طائفةٍ نسبة من السيطرة على الدولة “المناصب”، تناسب نسبتها العددية في المجتمع، أو بإقصاء أبناء الأقليات المذهبية عن المراكز العليا في الدولة تحقيقاً لمبدأ حكم الأكثرية، أو بإحلال أشخاصٍ من منبتٍ أكثري في المواقع الحاسمة التي يحتلها الآن علويون، أو بأي صيغة آخرى)، يبقى السؤال: هل يضمن الحكم “الأكثري” (معرّفاً بأنه الحكم الذي يشغل فيه المناصب الأساسية في الدولة أشخاص من الأكثرية المذهبية) تحرّر السوريين من الظلم والقمع وإرهاب الدولة؟ هل يضمن تجاوز الفساد وتأمين نمو اقتصادي وتحسين مستوى معيشة المواطن؟ هل يضمن تحقيق مستوى أعلى من الكرامة والحرية والعدل التي خرج السوريون يطالبون بها؟
على من يميل إلى الإجابة بنعم عن الأسئلة السابقة البحث عن سبب الثورات التي اندلعت في بلدان عربية لا تعاني من “حكم أقلية”. وعليه البحث عن سبب الفظاعات التي شهدتهاالجزائر، مثلاً، في ما تسمى “العشرية الدموية” طوال العقد الأخير من القرن الماضي، على الرغم من غياب الأقليات المذهبية هناك. وعليه تفسير القمع المعمم الذي شهدته سورية في زمن الحكم “الأكثري” خلال الوحدة مع مصر… إلخ.
الإشكالية (أو المشكلية) التي تشمل البلدان العربية هي غياب آلية ثابتة لإنتاج الشرعية السياسية، هي اقتصار الصلة بين الحكم والمحكومين على القسر، هي انغلاق الخط الراجع إلى التأثير المتبادل بين الحكم والمحكومين، فلا يستمدّ الحاكم مشروعيته من المحكومين، بل من قدرته على فرض نفسه على الداخل، ومن تحصيل قبول الخارج، في معادلةٍ لا محلّ فيها للمحكومين إلا موضوعا للحكم القسري. هذه هي الرحم السياسية المولدة لكل أسباب الاحتجاج والثورات، وما التلاوين الأخرى المتعلقة بعشيرة أو مذهب أو مناطق الحاكمين… إلخ، سوى تفاصيل وملامح مختلفة للأصل الواحد.
من المريح اختزال تعقيد المشهد السوري في حشره بخانةٍ طائفيةٍ بسيطة، وقد يكون هذا من بين أسباب شيوع المنظور الطائفي، فضلاً عن الخدمات التي يقدّمها هذا المنظور لحامليه السوريين، من حيث تطهير الذات عبر شيطنة الآخرين، وإعفاء النفس من مسؤولية الخطأ، فهناك مؤامرات وباطنيات وعقائد إجرامية وتواطؤات وخيانات وعبوديات… إلخ، وحدها المسؤولة عما وصلنا إليه. يقود هذا المنظور، من تلقاء نفسه، إلى رؤية الصراع في سورية صراعا بين خير مطلق وشر مطلق. هناك ذات فاسدة وذات طاهرة. وبطبيعة الحال، لا ينسجم هذا المنظور مع النقد الذاتي، ولا مع قبول النقد، لأن الخير والطهارة لا يقبلان النقص. ولا ينسجم أيضاً، وفي الوقت نفسه، مع قبول أي نسبةٍ من الخير في الشر المقابل. لذلك، يحيل هذا المنظور حامليه، كل من موقعه، وحسب قدراته، إلى جنود أو حماة أو محامين لصالح الخير الذي يتصوّرونه بلا نقص، ضد الشر الذي يتصوّرونه بلا نقص أيضاً.
في الحق أن هذا المنظور الذي عرضناه، بصورة حدّية أو صافية، له جاذبية خاصة، فيما يبدو، وقد تحكّم بنسبة كبيرة من الوعي المناصر للثورة، وساهم، من بين عوامل أخرى، في عرقلة العزل السياسي للطغمة الأسدية الحاكمة.
عودةً إلى مناقشة ما تم قبوله مؤقتاً أعلاه، من خلال التفكير بالسؤال: هل يمكن اعتبار الطائفة العلوية في سورية “طائفة حاكمة”؟ لا يقول الواقع المعيشي للعلويين في سورية إنهم طائفة حاكمة، لا المعاينة الميدانية لقراهم أو لأحياء الفقر التي يعيشون فيها في المدن أو على أطراف المدن، ولا الدراسات الاقتصادية الجادّة التي تتناول مناطق وجودهم، أو حصص هذه المناطق من الخطط التنموية، لا شيء من هذا يقول إنها طائفةٌ تحصل على نسبةٍ مميزةٍ من الدخل القومي، بسبب سيطرتها المفترضة على الدولة. يقول الواقع المعيشي للعلويين إنهم جزءٌ غير متميز من النسيج الشعبي السوري، ويميلون إلى شغل مواقع متدنيّة في السلم الاقتصادي الاجتماعي.
لا يغير شيئاً من اللوحة أن هناك نسبة من العلويين بلغت مناصب عليا في الدولة، ولا سيما في الجيش والأمن، ودخلت نادي الأثرياء ورجال الأعمال. كما لا يغير من اللوحة أن هذه النسبة من العلويين تتجاوز بكثير نسبة منبتهم من السكان، أو أنها وصلت إلى مناصبها بتفضيلات وحسابات طائفية. المعروف أن للعنصر العلوي، في الجيش والأمن خصوصا، فرصة أوفر في نيل الحظوة، وفي أن يصبح مستقرّا لسلطة، بصرف النظر عن رتبته، غير أن هذا يدخل في إطار آليات تعزيز السلطة الحاكمة، ولا تمسّ بصورة مؤثرة مستوى معيشة العلويين، أو نفوذهم إلى السلطة كطائفة.
والواقع أن أصحاب السلطة الأمنية والعسكرية العلويين الذين كانوا دائماً عصب السلطة المشدود، ونواة النظام الأمنية والعسكرية الصلبة، ليسوا، كما يمكن أن يتصوّر كثيرون، جسراً بين الطائفة والسلطة. ربما كان هذا التصور البسيط، أو الآلي، من أسس الاعتقاد بوجود طائفة حاكمة، هذا الاعتقاد الذي تجد ظلاً له عند كاتبٍ مهم، مثل ميشيل سورا.
النافذون العلويون مشدودون، في الواقع، إلى آليات السلطة واشتغالها في المجتمع، أكثر من انشدادهم إلى بيئتهم الاجتماعية ومتطلباتها وحساسياتها، ما يجعل من هؤلاء “أغوات” جددا يسكنون الفيلات الفخمة ذات السقوف القرميدية، بجوار بيوت وسطهم الفقيرة، ويصبحون غرباء مترفعين وذوي ميولٍ تسلطيةٍ مريضةٍ، لا تشبع من استجرار مشاعر الخضوع والتعظيم من الأهالي.
مع ذلك، لدى العلويين وهم بأنهم حاكمون، وأن نظام الأسد أقرب إليهم. التعبير الأمثل عن هذه المفارقة أن تجد صورة الرئيس “العلوي” في صدر بيت يفتقد للحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة. أو أن تجد الصورة نفسها في صدر بيتٍ يوجد أحد أبنائه في سجون صاحب الصورة، سجين رأي وسنوات طويلة. يعرض العلوي في الجو النفسي – السياسي السوري ما يعاكس قول الشاعر: “ظلم ذوي القربى أشد مضاضةً”، وربما يطمح حملة المنظور الطائفي السّني إلى موقع مشابه.
يتعزّز شعور العلوي بالسلطة الوهمية بشعور آخر يأتي، هذه المرة، من السوريين غير العلويين، والذي يذهب، من دون تمعّن وبناء على مشاهدات مجزوءة وتعميمات خاطئة وانطباعات، إلى أن العلويين، كطائفة، حاكمون. وليس هذا الوهم المتبادل عديم القيمة بالتأكيد، إنه يشبه الرأسمال الرمزي الذي يمكن أن يدرّ مكاسب مادية لأصحابه، ويمكن تعزيزه بسبل شتّى، والاستثمار فيه، غير أنه يبقى وهماً ينبغي تبديده.
من المهم السؤال عن سبب عدم تفجّر هذا التناقض بين واقع معاشي وسياسي سيئ للعلويين وشعورهم بالولاء أو حتى التماهي مع نظام لا يوفر لهم، مثلهم مثل بقية السوريين، ما يبرّر الولاء… الجواب يكمن في خوفٍ، تجري تغذيته باستمرار، من انتقامٍ قادمٍ إذا سقط النظام وخلفه نظام إسلامي لا يبدو لهم أن هناك نظاما آخر غيره مرشح لخلافة النظام الحالي. ومن المفيد هنا ملاحظة الموقف العلوي العام، الرافض بشدة أي معارضة للنظام في سياق الثورة السورية الحالية، قياساً على موقفهم الأكثر انفتاحاً في أحداث 1979-1982. ذلك أنه قبل تلك الأحداث لم يكن في ذمة النظام دماء ومجازر، يخشى العلويون تحميلهم مسؤوليتها.
الوهم بأنهم أصحاب سلطة، والخوف من بديل إسلامي، هو ما يربط الطائفة العلوية بنظام الأسد. على هذا، فإن عزل نظام الأسد يحتاج إلى جهد نقدي، يبدد وهم العلويين بأن نظام الأسد “نظامهم”، ويبدّد وهم غير العلويين بأن نظام الأسد هو نظام “طائفة حاكمة”، ويحتاج إلى بروز معارضة ديمقراطية ذات وزن.
العربي الجديد