وجها لوجه

حوار مع الباحث السوري سلام الكواكبي

 

 

حاوره: سردار ملادرويش

لنبدأ.. من هو سلام الكواكبي كما يريد التعريف بنفسه؟

الكواكبي:  باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، تخرّجت من كلية الاقتصاد في جامعة حلب وتابعت دراسات عليا في معهد العلوم السياسية في ميدنة (إكس أون بروفانس) الفرنسية التي تشتهر بمركز أبحاث متخصص بالعالمين العربي والإسلامي، حيث كنت أيضاً باحثاً مشاركاً فيه. بعد إنهاء دراستي في فرنسا عدت سنة 2000 إلى مدينتي حلب، وأسّست وأدرت المعهد الفرنسي للشرق الأدنى كفرع لمعهد دمشق التاريخي، والذي يعود تأسيسه إلى عشرينات القرن الماضي. وقد نشط هذا المعهد باستقبال ندوات فكرية لباحثين سوريين وغير سوريين، حيث وفّرت لهم بيئة مساعدة نسبياً على التعبير غير المقيّد في ظلّ ندرة المنابر الفكرية في المدينة أو تأطيرها الشديد. تركت سوريا سنة 2006 إلى باريس حيث عملت بدءاً من سنة 2007 كمدير للبحوث ونائب المدير في مبادرة الإصلاح العربي حتى نهاية العام الماضي. واليوم أنا أُدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس. أنا أستاذ مشارك في جامعة باريس الأولى، حيث أدرّس في قسم الدراسات العليا في قسم “الهجرة والتنمية”.

تشهد سوريا منذ أكثر من سبع سنوات (ثورة- انتفاضة- أزمة- حرب أهلية) سمّها كما ترغب! في أحد المقابلات معك قلت بما معناه (تمّ الدعس على كل الأوهام في سرد الأحداث التي رافقت مسار الثورة السورية). لو أرفقنا كل ذلك مع ما يشهده المجتمع السوري من تناحر في المستوى الداخلي، والصراع الإقليمي والدولي في المستوى الخارجي. أين وكيف ترى مستقبل سوريا؟

الكواكبي: قبل الثورة، وقبل تحوّلها إلى مقتلة، كنت أعتبر نفسي من المتشائلين العضويّين. وبعد 7 سنوات دموية وتدميرية، صرت أجد نفسي متشائماً جذرياً. فالمستقبل الذي سأعيشه أنا وأبناء جيلي على الأقل ليس مبشراً بديمقراطية، ولو نسبية، أو تغيّر فعلي في المشهد السياسي، أو تناقص في التطرّف الديني والقومي لدى أطراف عدّة. كما أنني لا أعتقد بأن العدالة ستتحقّق، وهي الشرط الرئيسي لبناء السلم الأهلي. وبالتالي، فستسود رغبة الانتقام في مجتمعات تربتها خصبة لمفهوم الثأر، فما بالك إن كان القتل عشوائياً وأصاب أكثر من مليون ونصف المليون من السكان. نصف المليون الموثّقين كضحايا مباشرين، والآخرون ضحايا غير مباشرين للقحط الطبّي والوضع الإنساني العام. وهذا يحملني إلى المعادلة المثلّثة التالية: نحن كنا في بداية 2011 نُدير الأمل، وانتقلنا بسرعة، نتيجة القمع والقتل المنهجيّ، إلى إدارة الألم، لنصل اليوم إلى مرحلة إدارة الهزيمة. والإدارة فعلٌ إيجابي، ممّا يعطينا مسحة تفاؤل في سديم الليل الدموي بأننا قادرون، إن طوّرنا من أدواتنا، على تجاوز الهزيمة. ربّما.

الصراع في سوريا أخذ أبعاداً، وأصبح صراعاً مركّباً، كيف تنظر إلى طبيعته؟ هل نحن على أعتاب حرب أهلية أم إننا نعيشها بالفعل؟

الكواكبي: هناك صراعات عدّة في سوريا على حساب الصراع من أجل الحرّية. وتداخل الحسابات الإقليمية والدولية أجّج ضبابية المشهد. كما أن الضعف التكوينيّ لمؤسّسات المعارضة السياسية ساهم في تخبّط لا مثيل له في عملية إدارة الملفّ السياسي. وبالحديث عن توصيفات دقيقة ومغلقة للوضع، يمكن أن نقع في فخّ الاختزال. كنت دائماً أقول في البدايات أن لا حرب أهلية في الساحة السورية، إنما هي حربٌ ضدّ الأهالي. مع تطوّر المشهد وتداخُل العوامل، صار من الصعب رمي مفهوم الحرب الأهلية بعيداً، وصار من المنطقي أن نضعه أمامنا، ولا نخجل باستعماله، فيما يخصّ بعض جوانب المقتلة القائمة في البلاد. ولكنني حتماً أرفض التوصيف، إن ارتبط ببدايات الحراك الشعبي، وأرميه جانباً، وأُفنّد الأسباب دون أي حرج.

هل أصبحت سوريا ساحة مفتوحة أمام القوى الدولية والإقليمية المتخاصمة لخوض حروبها وتصفية حساباتها عبر وكلاء سوريّين أم أننا أمام لحظة تقاسم لمناطق النفوذ ؟

الكواكبي: اعتقد بأن سوريا صارت فضاءً مفتوحاً على الرغم من تقسيماته القائمة حالياً، والتي تُظهر بأن هناك أربعة مناطق متباينة. لقد أظهرت القضية السورية أن التحالفات المصالحية والزبائنية تتغيّر بسهولة مفجعة. وبالتالي، فيمكن أن تنام الليلة على واقع ما لتستيقظ غداً على واقع آخر ومتناقض. وما شهدته حلب من اتّفاق روسي / تركي لتسليمها في كانون الأول 2016، والاتّفاق الروسي / التركي على عفرين منذ أشهر قليلة، هما أعظم الأدلّة على ما سبق طرحه. والوضع الحالي مرتبط بهذه التحالفات وسواها ومستوى ثباتها أو درجة تقلّبها. وكل طرف يراهن على التغيّرات ويبني سياساته عليها. كما أن الظنّ بعداءٍ أميركي للدور الروسي في سوريا، يُهيمن فقط على عقول اليسار البافلوفي العربي الذي يبحث عن ذريعة إيديولوجية، لتبرير عجزه الأخلاقي، بالوقوف الى جانب حقوق الشعوب المنتفضة. فأميركا أوباما عهّدت الملفّ إلى روسيا بشكل شبه وظيفيّ، بحيث تكون نتائجه السلبية وبالاً على الروس، والإيجابية حلّاً لملفّ لم تكن الإدارة السابقة راغبة في الخوض في رماله. وأمّا الإدارة الحالية، ففي الملفّ السوري لم يتغيّر لديها سوى الخطاب، وليس الأداء عموماً مع تغييرات تفصيلية لا يمكن البناء عليها. وبالنهاية، القوى الإقليمية والدولية لا تعتمد فقط على وكلاء سوريّين، وهي بالأحرى تعتمد، أيضاً وخصوصاً، على وكلاء أجانب، كالميليشيات الطائفية والمرتزقة والعصابات الإرهابية المتطرّفة.

بعد استخدام السلاح الكيماوي على دوما شكّلت ضربات التحالف الغربي بقيادة أمريكا لمواقع عسكرية سوريّة، نوعاً من تجدّد الحرب الباردة، في المقابل وجدت توازنات جديدة كالتوافق الروسي- التركي الناتج عن “أستانا” و”سوتشي”، كيف ترى هذا الصراع على سوريا. وما هي المآلات المستقبليّة لهذه التحالفات على البلاد؟

الكواكبي: أعتقد أنني أجبت جزئياً في الأعلى فيما يخصّ التحالفات. وأرى بأن الضربات الهوليودية، التي أُعلِمَت بها كل الأطراف المعنيّة، كانت مجرّد رسالة سياسية إلى الروس تحمل تحذيراً من تجاوز ما تمّ الاتّفاق عليه عند تلزيم الملفّ السوري. وقد أعطت هذه الضربة ذرائع دسمة لما أسميتهم بالبافلوفيين من كل صنف ونوع لكي يستخدموها كشماعة صدئة يعلّقون عليها براءة الذمم، من الوقوف إلى جانب من يموت ويُعتقل ويُهجّر. وكما ذكرت فالتحالفات سريعة التحوّل والتلوّن، ولا أستبعد المفاجآت في وقت قريب، ونكاد نرى تباشيرها في التصريحات السياسية الأخيرة لعدد من القادة الإقليميّين. على الفاعلين المحلّيين، مهما اختلفت انتماءاتهم، الرجوع إلى فضيلة التعاون المبني على أسس بناء وطن تعدّدي لكل مكوّناته.

في قراءة للمشهد السوري نجد أغلب قوى المعارضة أصبحت مرتهنة لدول إقليمية لها تدخّلاتها في الوضع السوري، فهل يمكن التعويل عليها؟ وهل تحمل هذه المعارضة أي مشروع وطني سوري قادرة على قيادة المرحلة القادمة؟ أ ثمّة مشاريع يمكن لها أن تشكّل  البديل أو المنقذ من الكارثة السورية؟

الكواكبي: أنا لا يمكنني أن أتهّم كل مكوّنات المعارضة بالارتهان بهذه السرعة. ارتباط بعض المؤسّسات بقوى إقليمية كان شرّاً لا مفرّ منه في ظلّ الظروف الموضوعية. ولكن الارتهان يُصبح مشكلة، وهو ما ساد في أوساط بعض المعارضين وخصوصاً من حمل السلاح منهم. لم تكن الخيارات واسعة أمام المعارضين السوريين الذين حملوا إرثاً ثقيلاً جداً من انعدام الممارسة السياسية الصحّية، ونقلوه معهم إلى ما أنشئ من مؤسّسات. وبخصوص المشروع الوطني السوري، فقد طوّرته مجموعات عدة وطرحت برامج تفصيلية متنوّعة ومواثيق وطنية ووثائق جامعة. بالتأكيد هذا كله لم يُثمر بسبب الضعف البنيوي في الممارسة السياسية، كما في الارتباط البريء بمشاريع غريبة عن الواقع، أو الارتهان الزبائني بمصالح قوى إقليمية ودولية، لا تعبّئ بحرّية السوريين إلّا في إطار الخطاب.

يقول الباحث جاد الكريم الجباعي في مقابلة معه، إن المعارضة السورية لم تتخلّص من إرثها  (العشائري- القومي- الطائفي… الخ). بالنسبة لك أين ترى دور المثقّف السوري، والنخبة التي تعتبر جزءاً من المعارضة؟ هل فشلوا أم نجحوا كطرف في الوصول إلى مشروع تمسّكوا ونادوا به، وأين ترى مستقبل البلاد لو استلم هؤلاء؟

الكواكبي: لم يتخلّص إلا النوادر من السوريين بالحجم الكبير من الميراث غير الإيجابي الذي حملوه. ويمكنني أن أضيف أيضاً ميراث التسلّطية ورفض حرّية التعبير، وعدم قبول الرأي الآخر ومحاربة النقد. إنها ثقافة سيطرت على حيوات السوريين منذ 1958. ومهما كانت الثورة واعدة، فإن تجاوز هذا الإرث يطول وسيطول. بالمقابل، قدّمت المعارضة السورية، على تنوّعها الأيديولوجي، ثمناً باهظاً نتيجة القمع والتغييب. ولقد حاولت، في سنوات ماضية، أن تتبنّى خطاباً تصالحياً داعياً إلى الإصلاح الحقيقي للنظام السياسي، إلا أنها جوبهت بقمع نادر ومتشابك. أمّا النخبة المثقّفة، فقد تنازل القليل من ناسها عن أبراجهم الخشبية، وتنادوا إلى التعرّف عن قرب أكثر على مجتمعاتهم. وهذا يُفسّر الكثير من المواقف الصادمة لبعض المثقّفين من الحَراك الشعبي السوري في أيامه السلمية. كما أن بعضاً آخر من المثقّفين، والذين تبنّوا خطاباً قريباً من الثورة، افتقدوا إلى الأدوات الأساسية لفهم حقيقة الحَراك، ورغبوا في أن يكونوا قادته دونما بذل مجهود إنساني بالتقرّب من شريحة شعبية غير مثقّفة كانت هي عماده. ومن الخطأ الاعتقاد بأن المثقّف يسعى إلى السلطة. ربّما البعض يسعى للبروز وللحصول على الاعتراف وتلبية نقص يُصيب الأنا الذاتية، إلا أنه من الصعب أن يطمح في الوصول إلى سدّة القرار. وإن فعل، فهو لن يكون منطلقاً من موقفه كمثقّف بقدر ما هو مستند إلى دوره كناشط سياسي يسعى للتغيير. هناك نماذج عدة لمثقّفين نجحوا في إدارة التغيير وآخرين فشلوا. خذ مثلاً فاكلاف هافل في تشيكوسلوفاكيا (قبل انقسامها إلى دولتين). لقد نجح في لعب دور تاريخي في عملية التحوّل الديمقراطي في بلده. وبما أن في المقارنة مجازفة، فأنا لا أستطيع إسقاط الحالة التشيكية بمكوّناتها الثقافية والتاريخية على الحالة السورية، ولكنني أستطيع الإشارة إلى المثال. وأخيراً، أشيرُ إلى أن الرعيل الأول من الساسة السوريين كانوا مثقّفين نسبياً (الشهبندر، العظم، الجابري، مردم بك، القوتلي…) أمّا الساسة ـ أو العسكر ـ الذين تعاقبوا على حكم البلاد منذ انتهاء التجربة الديمقراطية الجنينية، فقد كان بينهم وبين الثقافة عداوة وكراهية انعكست في ممارساتهم تجاه النخبة الثقافية في البلاد طوال عقود.

تهيمن قوى إسلامية على المشهد السوري المعارض بشقّيه السياسي والعسكري. فيما تغيب القوى الليبرالية والعلمانية رغم محاولاتها الدفاع عن وجودها ضد طغيان المشهدين العسكري والسياسي الإسلامي! لكن هناك من يعتقد أن هذا غير دقيق. أنت كيف تقيّم هذا المشهد. وما هي تنبّؤاتك بمستقبل القوى الإسلامية ودورها؟

الكواكبي: الظنّ بأن مجتمعنا علماني النزعة والممارسة، هو الذي أودى بنا إلى الوقوع في فخّ الإسلاميين المتطرّفين. كل الدراسات الاستشراقية والتي شيطنها البعض، تُشير إلى نسبة تديّن اجتماعي عالية في المجتمع. تجاهل هذا الواقع يؤدّي إلى استخلاص النتائج المشوّهة. أضف إلى ذلك، فمن الملاحظ بأن القوى السياسية الإسلامية تشتغل بالسياسة، أمّا القوى العلمانية فهي تشتغل ببعضها. يختلف الإسلاميون حتى الصدام في اجتماعاتهم الداخلية ليخرجوا بعد التوافق إلى العلن بموقف واحد. بالمقابل، يتّفق العلمانيون (وهنا المصطلح بحاجة إلى تعريف وتحديد في الحالة السورية) في اجتماعاتهم الداخلية، ليخرجوا إلى العلن بمواقف توازي في عددها عدد المجتمعين. هناك مشكلة حقيقية في الممارسة السياسية للقوى غير الإسلامية. وهذا لا يبرّئ البتّة القوى الإسلامية من مسؤوليتها في التلاعب بحنكة وبمكر على التحالفات لدى القوى الأخرى. ولكن هذه الممارسة تُعتبر جزءاً من السياسة، وبالتالي لا يُلام من ينجح فيها، بل يُلام من يفشل في مواجهتها. أمّا فيما يتعلّق بالمستقبل، فلن أستغرب أبداً أن تتحالف بعض القوى الإسلامية، وخصوصاً التي تتميّز بالتطرّف وممارسة الإقصاء، مع النظام، لما في مكوّناتهما من تشابه سلطوي وتسلّطي. ويجدر بالديمقراطيين من كل الأطراف اللقاء على قواسم مشتركة تساعد في إعادة بناء العقد الاجتماعي الاندماجي، بعيداً عن الإقصاء والتخوين والتكفير. كما يجب على كل من دافع أو برّر لقوى التطرّف تصرّفاتها أثناء السنوات الأخيرة من العلمانيّين، أن يطالب بالمعذرة من الناس، ولا أن “يلحس” ما قاله وكأن لا ذاكرة للجموع.

بين الليبرالية والعلمانية والشكل الإسلامي، أيّ النماذج ستكون الأفضل لسوريا، وكيف؟ أيضاً، أين ترى نفسك ضمن التيارات السياسية الموجودة؟ أم يقودك إرث جدّك “عبد الرحمن الكواكبي” كرجل دين لكن غير منغلق دينياً، بل أكثر انفتاحاً ودعا كثيراً للتحرّر؟ نودّ شرحاً منك وتفسيراً لرؤيتك؟

الكواكبي: أوّلاً، الكواكبي، رغم أن موقفه لا يُلزمني، اعتبر بأن “الدين كان أوّل رجل دين مسلم طالب بالفصل بين الدين والدولة بنصّ صريح حين قال: “”هل تجمع سلطتان أو أكثر في شخص واحد؟ أم تخصّص كل وظيفة من السياسة والدين والتعليم بمن يقوم بها بإتقان؟ ولا إتقان إلا بالاختصاص، ولذلك لا يجوز الجمع منعاً لاستفحال السلطة”. وبالتالي، إرثه يقودني إلى الدولة لعلمانية المنفتحة على الجميع، والتي لا تتدخّل فيه المؤسّسة الدينية بالسياسة، والتي ترفع فيه المؤسّسة السياسية يدها عن الدين. أعرف بأن تحقيق ذلك صعب للغاية في مجتمع محافظ وفي بيئة سياسية ما فتئت تستخدم الدين لصالح أجندات سياسية متنوّعة، إلا أنني لا أتخيّل حلّاً من دونه. ولا أعني بالعلمانية ما نشاهده من علمانويّة البعض وممارستهم الإقصاء والشيطنة تجاه الحركات الإسلامية والإسلاميين، أبداً، فأنا أؤمن بحقّ الجميع بالتواجد على المشهد السياسي، مع قبول الآخر والابتعاد عن الظنّ بأن الديمقراطية محصورة في صناديق الاقتراع، والتي تشكّل جزءاً من عناصرها وليس الكلّ.

في إحدى المقابلات دافعت عن المجتمع المدني السوري في أنه استطاع تقديم الخدمات والمساعدة للسوريين. هل هذا هو الدور المنوط بالمجتمع المدني السوري في ظلّ الصراع الحالي والانحيازات والانقسامات الموجودة؟

الكواكبي: المجتمع المدني، كمفهوم، حديث العهد في بلادنا، وهو ضحية للهجوم الشرس من قبل الأنظمة، لأنها تؤمّم المشهد العام وتمنع العمل المدني. كما أنه ضحية مغالطات يصل بعضها إلى تبنّي لهجة السلطات المستبدّة بالتشكيك بوطنية المنتمين إليه. في سوريا، لم يكن هناك مجتمع مدني بالمفهوم الغربي للكلمة، وإنما مجتمع أهلي انخرط في الشأن الخيري بعيداً عن أية حقول شائكة. وقد تمّ تأطيره بعناية من قبل الأجهزة الأمنية طوال عقود. وتمّ استقدام تجربة كوريا الشمالية في سبعينات القرن المنصرم لتأطير مختلف فئات الشعب بدءاً من الطفولة ووصولاً إلى الموت، عبر ما يسمّى بمنظمات الديمقراطية الشعبية. في الألفية الثانية، تبنّت السلطة مفهوم المجتمع المدني للركوب على موجة عالمية تدعو إلى إعطائه دوراً أساسياً أثبتت الدول عجزها عن تحمّله. وأُنشئت إذاً المنظمات الحكومية شديدة الحكومية (GONGO’s) والمرتبطة إمّا بأشخاص هم جزء لا يتجزّأ من المنظومة الحاكمة، أو بأجهزة أمنية تُسيّر البلاد منذ رسوخ مفهوم الأمنوقراطية في سوريا. أي منذ 1970. إثر اندلاع الاحتجاجات، أو قبلها بقليل، انبثق من شبه العدم، عمل مدني رائع عبّرت عنه التنسيقيات وعديد من الأشكال المدنية الأخرى. وطوال سنوات المقتلة، استطاع المجتمع المدني السوري الوليد، من أن يتحمّل أعباء هائلة في مجالات عدّة منها التعليم والصحة والتوعية والتوثيق.

يتعرّض المجتمع المدني للعديد من الانتقادات، وهذا طبيعي ومطلوب خصوصاً أنه في مرحلة التأسيس. وتشوب بعض مفاصله مؤشّرات فساد وسوء إدارة، وهذا أيضاً طبيعي ويحتاج إلى تعزيز الحَوْكَمة والشفافية، بعيداً عن التشهير المجّاني الذي صار سائداً بوجود وسائل التواصل الحديثة.

سيكون للمجتمع المدني السوري دور كبير، بل الأكثر أهمّية في عملية إعادة البناء المادي والأخلاقي في سوريا المستقبل بعد إنجاز عملية الانتقال السياسي.

سلام الكواكبي مدير المركز العربي للأبحاث

مجلة صور

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى