أردوغان السوري/ عمر قدور
التوتر الأخير بين إدارة ترامب وحكم أردوغان لم يمضِ بلا أثر بين السوريين، رغم وجود استحقاقات داخلية أهم من الانشغال بهبوط سعر صرف الليرة التركية ثم تحسنه النسبي، بينما لم تحظَ تطورات مماثلة من قبيل الحرب التجارية الأمريكية-الصينية أو العقوبات الأمريكية ضد روسيا باهتمام يُذكر. انخراط أنقرة في الشأن السوري لا يفسر وحده ذلك الاهتمام السوري الشديد، إذا لم نأخذ في الحسبان موقع أردوغان وما بات يختزله لدى عموم السوريين، إلى حد لا نغامر فيه إذا قلنا أن شخصية أردوغان تتكفل بحجب السياسة التركية عن أعين الشاخصين إليه.
ثلاث فئات رئيسية سورية لها مواقف ثابتة إزاء أردوغان، وحتى الآن لم تُزحزح المتغيرات والمعطيات الجديدة من ثباتها. الإسلاميون الذين يرون في أردوغان حصنهم الوحيد الباقي، بخاصة بعد انقلاب السيسي في مصر والتغيرات التي أزاحت حركة النهضة من صدارة الحكم في تونس. موالو الأسد المعادون لأردوغان بسبب مواقف ربما يرجع بعضها إلى الزمن الذي هدد فيه بأن حماة خط أحمر، وأيضاً لأن أردوغان الوحيد الباقي من سلسلة قيادات إقليمية دأب الموالون على شتمها بوصفها عناصر التآمر على السلطة الأسدية. يقترب أكراد سوريا بحجم كراهيتهم أردوغان من موالي الأسد، مع التنويه بأن هذا العداء يشمل النسبة الأعظم من حكام تركيا في العصر الحديث، إلا أن كراهية أردوغان تمتاز عن سابقيه بسبب توليه مباشرة التصدي للطموحات الكردية في بلاده وفي سوريا والعراق أيضاً.
في التوتر الأمريكي-التركي الأخير على سبيل المثال هلل الأكراد فرحاً بتراجع الليرة التركية، مع الأمل بأن تحتدم المواجهة بين الطرفين وتزداد الضغوط الأمريكية على أنقرة. بالطبع تختلط الأمنيات بالانفعالات، فلا تؤخذ في الحسبان الحدود التي يمكن لهذه المواجهة التوقف عندها، ولا تؤخذ في الحسبان تهديدات أردوغان بالبحث عن حلفاء جدد، ما يعني عملياً خروجه شبه التام من المنظومة الغربية، وتخليه تالياً عن ضوابط الحد الأدنى الذي يفرضها الوجود في حلف الناتو والشراكة مع الاتحاد الأوروبي. إن تخيّل معركة كسر عظم، لا بد أن يفوز بها الأقوى “ترامب” فيه من التوق إلى كسر أردوغان أكثر مما يحتمل على صعيد التحليل السياسي، وأكثر مما تحتمل النوايا الأمريكية إزاء القضية الكردية إذ تأخذ في الحسبان مجمل ظروف المنطقة لا العامل التركي وحده.
في المناسبة ذاتها سارع الإسلاميون إلى استحضار نظرية المؤامرة، وبموجبها الغرب الذي فشل بالانقلاب العسكري على أردوغان يعاود محاولة إسقاطه اقتصادياً. فرضية الغرب التي انبثقت فوراً لم تنتظر ردود الأفعال الأوروبية، والتي أتت في معظمها لصالح أنقرة، بما ينفي المؤامرة الغربية على الإسلام، أو أن يكون الغرب كتلة واحدة كما يُصوِّره الإسلاميون عادة. بموجب الإسلاميين السوريين غاية الضغوط الغربية تتمحور حول إخضاع أردوغان في الملف السوري تحديداً، وكأن المطلوب منه تنازلات لصالح مشروع الإبقاء على بشار وهو يأبى تقديمها. ينسى هؤلاء أن أردوغان على تواصل وتنسيق مستمرين مع بوتين وطهران من خلال مسار آستانة، وأن الخلاف الأمريكي-التركي في الملف السوري يتعلق فقط بالرعاية الأمريكية لميليشيات الحماية الكردية، وهي بمثابة فرع لحزب العمال الكردستاني الذي تحاربه أنقرة داخلياً وخارجياً.
موالو الأسد، الذين لا يخفون شماتتهم بأي ضرر يقع بأعدائهم وفق نظريتهم الخاصة عن المؤامرة، لا يرون متغيرات السياسة التركية بخاصة بعد محاولة الانقلاب على أردوغان، وذلك التقارب بين الأخير وبين بطلهم “بوتين”. هذا الصنف لا يرى الفوائد التي جناها بشار الأسد من أكذوبة مناطق “خفض التصعيد” وفق آستانة، ولا مساعدة أردوغان في هذا المسار تمهيداً لطرحه كبديل عن مسار جنيف. بالطبع لا يرى موالو الأسد الفائدة التي يجنيها بشار من العداء التركي-الكردي، فقطع الطريق على الميليشيات الكردية عبر عملية درع الفرات يحقق مصلحة له رغم الدعم الذي كانت الميليشيات قد نالته من تنظيم الأسد، لأن المطلوب كان قوة الميليشيات ضد فصائل المعارضة، وألا تقوى شوكتها بحيث تخرج عن المهمة المحددة لها. أيضاً أتى الاجتياح التركي لعفرين، بتسهيلات روسية ضمن الإطار نفسه، ويمكن هنا الحديث عن مقايضة مفادها “الأكراد مقابل عفرين”، حيث كان من المتوقع أن يؤدي اجتياح عفرين إلى إضعاف الميليشيات الكردية وعودتها إلى بيت الطاعة الأسدي بخاصة مع التلميحات الأمريكية حول الانسحاب من سوريا. جولات المفاوضات التي لم تتوقف بعدها بين الأسد والميليشيات الكردية صارت تتعثر بسبب تعنت الأسد، بعد أن آلت الميليشيات إلى حالة مناسبة من الضعف، بل تطوعت الميليشيات بتقديم خدمات مجانية كما حدث عندما عرضت المشاركة في قتال داعش شرق السويداء وقوبل العرض بالإهمال.
إننا في معظم الأحيان أمام صورة أردوغان الإسلامي، الصورة التي تحجب سوريّاً رؤية السياسة التركية الفعلية، ولا يندر في هذا السياق أن يهاجم أردوغان بشدة من هم أكثر استفادة من سياسته، وأن يدافع عنه لأسباب أيديولوجية أولئك المتضررين منها. مثلاً مرت تصريحات وزير الخارجية التركي، في مؤتمره الصحافي مع نظيره لافروف الثلاثاء الماضي، بلا توقف عندها رغم أنها حملت الكثير من الإشارات. فالوزير التركي مثلاً أشار إلى إجراءات تعزيز الثقة بين المعارضة و”الحكومة السورية”، وقال أيضاً أنه يجب الفصل بين المتطرفين والمعارضة السلمية، والعمل على مكافحة الإرهاب معاً، مع إشارته إلى أن ضبط الأمن في إدلب صعب بوجود الإرهابيين. فوق ذلك اعتبر جاويش أوغلو أن العقوبات الأمريكية على روسيا وبلده وطهران لها سبب مشترك، هو إشراف هذه الدول على عملية آستانة والغاية منها تالياً التأثير في نتائج تلك المفاوضات.
لعل تصريحات أوغلو معطوفة على سياق من السياسة التركية تقول ما لا تقوله صورة أردوغان الرائجة والاصطفافات المرافقة لها، فتمسك أنقرة بمسار آستانة رغم قضمه من قبل موسكو يضمر موافقتها على كل ما حدث. وضع إدلب من هذه الناحية لا يختلف عما كان قد قيل من أجل اجتياح الأحياء الشرقية لحلب ومن ثم الغوطة الشرقية وسواهما، ففي كل هذه الحالات تذرعت موسكو بوجود جبهة النصرة من أجل الشروع بقصف وحشي لتلك المناطق لا يميز بين الفصائل ولا بينها وبين المدنيين، ورفضت في جميع الحالات إجلاء مقاتلي النصرة فقط منها، وما سار سابقاً بيسر يجد السبيل ممهداً في إدلب بسبب إجلاء عناصر من النصرة إليها بعد اقتحام تلك المناطق. العلاقات المتوترة بين واشنطن وأنقرة قد تساعد على تمرير التنازلات التركية في إدلب، بذريعة عدم القدرة على مواجهة القوتين معاً، ولعل هذا يمنح عزاء كافياً لمحبي أردوغان وأيضاً لكارهيه، من دون أن يفكّر المحبّون والكارهون في ذلك السياسي الذي يتغير بما تمليه عليه المصالح بينما هم لا يتغيرون!
المدن