ماذا سيحدث في إدلب؟ -مجموعة مقالات مختارة -متجدد-
اتفاق إدلب.. فرص نجاحه وتحديات تنفيذه
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
توصّل الرئيسان، التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، في لقاء قمة جمعهما يوم 17 أيلول/ سبتمبر 2018 في مدينة سوتشي الروسية، إلى اتفاقٍ للحفاظ على منطقة خفض التصعيد في إدلب، ومنع هجوم عسكري عليها، يشمل إنشاء منطقةٍ منزوعة السلاح. وقد جاء الاتفاق، بعد فشل قمة ثلاثية في طهران، عقدت في السابع من الشهر نفسه، في التوصل إلى اتفاق حول مستقبل المحافظة التي غدت المعقل الأخير لقوات المعارضة السورية، بعد تصفية مناطق خفض التصعيد الثلاث الأخرى في غوطة دمشق، وريف حمص الشمالي، ومنطقة جنوب غرب سورية.
بنود الاتفاق
بحسب ما أعلنه الرئيسان، في المؤتمر الصحافي، يشمل الاتفاق إنشاء منطقة منزوعة السلاح بين مقاتلي المعارضة وقوات النظام السوري، بحلول 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، بعرض يراوح بين 15 و20 كم، وسحب الأسلحة الثقيلة من المنطقة منزوعة السلاح، بحلول 10 تشرين الأول/ أكتوبر.. كما نص الاتفاق على التزام الجانب الروسي ضمان عدم شن عمليات عسكرية ضد إدلب، في مقابل إبعاد الجماعات المتطرّفة عن المنطقة منزوعة السلاح، و”العمل على ضمان حرية حركة السكان المحليين والبضائع، واستعادة الصلات التجارية والاقتصادية، واستعادة حركة الترانزيت عبر الطريقين إم 4 (حلب – اللاذقية) وإم 5 (حلب – حماة) بحلول نهاية عام 2018″. كما أكد الطرفان “عزمهما محاربة الإرهاب داخل سورية بجميع أشكاله وصوره”، واتخاذ “إجراءاتٍ فاعلةٍ لضمان نظام مستدام لوقف النار داخل منطقة خفض التصعيد في إدلب”. وتقوم تركيا وروسيا بتسيير دوريات عسكرية منسقة لمراقبة التزام الاتفاق باستخدام طائرات من دون طيار، على امتداد حدود المنطقة منزوعة السلاح.
دوافع تغير الموقف الروسي.
“نجحت تركيا في إيضاح أهمية إدلب بالنسبة إليها؛ من خلال المقاومة الصلبة التي أبدتها لمنع هجوم على المدينة”
مثّل الاتفاق مفاجأة، في ضوء ما ظهر في قمة طهران التي شهدت سجالًا علنيًّا بين الرئيسين الروسي والتركي؛ إذ أصرّت تركيا في القمة على ضرورة احترام الاتفاق الخاص بخفض التصعيد في إدلب الذي تم التوصل إليه في إطار مسار أستانة في مطلع أيار/ مايو 2017، وتم الاتفاق على تفاصيل تنفيذه في أيلول/ سبتمبر 2017؛ بما يضمن تجنيب المحافظة عملًا عسكريًا يمكن أن يؤدي إلى مأساةٍ إنسانيةٍ كبرى، في ظل تقديراتٍ بوجود أكثر من ثلاثة ملايين مدني فيها، أكثرهم نازحون من مناطق سورية أخرى. أما روسيا فقد رفضت أي دعوةٍ إلى وقف إطلاق النار، أو إعطاء مزيدٍ من الوقت للتوصل إلى تسوية سياسية، في إطار سعيها المشترك مع طهران إلى إعادة المنطقة إلى سيطرة النظام السوري، قبل البحث في أي حل سياسي للصراع في سورية.
وقد ساهمت مجموعة من العوامل في تغيير الموقف الروسي الرافض تسوية سياسية؛ أهمها أن عملية عسكرية كبيرة في إدلب كانت ستؤدي بالضرورة إلى انهيار مسار أستانة، الذي يتعرّض لضغوطٍ شديدةٍ في مواجهة مجموعة العمل المصغرة حول سورية التي باتت تضم إلى أعضائها الخمسة الأصليين (الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وبريطانيا، والسعودية، والأردن) ألمانيا ومصر. وقد عادت هذه المجموعة للنشاط أخيرا؛ بإصدارها مجموعة المبادئ حول حل الصراع في سورية في مواجهة المقاربة الروسية. وسمح اتفاق إدلب لموسكو بإنقاذ مسار أستانة الذي هدّدت تركيا بالانسحاب منه، إذا قامت روسيا بعمل عسكري كبير ضد إدلب، ومن شأن ذلك أن يقوّض فرص الحل السياسي وفق الرؤية الروسية في سورية.
في إطار إستراتيجي أوسع، بدا واضحًا أن عمليةً عسكريةً كبيرةً في إدلب ستؤدي بالضرورة إلى تبديد كل جهود موسكو لانتزاع تركيا من حضن الغرب، والمستمرّة منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز/ يوليو 2016، بما في ذلك مساعي ربط تركيا بروسيا باتفاقياتٍ حول التجارة والطاقة، وحتى تزويدها بمنظومة صواريخ إس – 400 التي أثارت قلقًا واسعًا في الغرب، وبين حلفاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
نجحت تركيا من جهتها في إيضاح أهمية إدلب بالنسبة إليها؛ من خلال المقاومة الصلبة التي أبدتها لمنع هجوم عليها؛ إذ لم تكتف بإعلان معارضتها هذا الهجوم، كما فعلت إزاء تصفية بقية مناطق خفض التصعيد، بل وفّرت كل وسائل الدعم للمعارضة السورية المسلحة، استعدادًا لمواجهة كبرى محتملة. وفضلًا عن ذلك، حشدت عشرات الآلاف من قواتها داخل منطقة خفض التصعيد، وعلى الحدود معها، جاعلة من إدلب خطًا أحمر لها.
كما أن التحذيرات الدولية المتعاظمة من وقوع حمام دم في إدلب ربما تكون ساهمت أيضًا في الدفع في اتجاه تسوية؛ ذلك أن سقوط عدد كبير من المدنيين كان سيضع ضغطًا كبيرًا على الرئيس بوتين الذي لا يهتم عادة بهذا الشأن، لولا أن إستراتيجيته خلال الأسابيع الأخيرة أخذت تتمحور حول قضايا إعادة اللاجئين والإعمار، في محاولةٍ منه للحصول على دعم دولي في هذا الصدد، وأيضًا باعتبارها وسيلةً لإعادة تأهيل نظام الأسد واستعادة شرعيته.
وقدّمت تركيا عرضًا للتسوية، يحقق لروسيا جزءًا مهمًا من الأهداف التي كانت تسعى إلى تحقيقها من وراء عملية عسكرية، إنما من دون قتال، فإنشاء منطقة منزوعة السلاح بعمق يراوح بين 15 و20 كم، وإبعاد فصائل المعارضة إلى الشمال، يوفّران الحماية لقاعدة حميميم الجوية الروسية التي باتت تتعرّض، في الآونة الأخيرة، لهجمات متكرّرة بطائرات درونز تنطلق من مناطق تسيطر عليها المعارضة في إدلب. كما تعهّدت تركيا بتفكيك التنظيمات المتطرّفة في إدلب؛ وهو هدف آخر مهم بالنسبة إلى موسكو. وحصل النظام السوري على بعض المكاسب من الاتفاق؛ إذ فتح الطريق الدولي بين اللاذقية وحلب وبين حماة وحلب، وهو شريان التجارة الرئيس في البلاد. أما أردوغان فقد حصل على إقرار روسي بنفوذ تركيا في إدلب، وحفظ لها مصالحها فيها، سواء ما تعلق منها بمنع تهجير مئات آلاف اللاجئين، أو بالمحافظة على فصائل المعارضة، باعتبارها قوة مهمة للضغط في اتجاه الحل السياسي.
يعدّ العامل الأخير والمهم الذي ساهم في التوصل إلى اتفاق هو غياب الطرف الإيراني. وقد أثبتت التجارب السابقة أن روسيا وتركيا تتفاهمان أفضل عندما لا تكون طهران طرفًا فيه، حصل هذا في اتفاق حلب في كانون الأول/ ديسمبر 2016 (كان اتفاقًا كارثيًا للمعارضة السورية على كل حال)، وفي اتفاق خفض التصعيد في إدلب في أيلول/ سبتمبر 2017، وفي مناسباتٍ أخرى.
تحدّيات
إذا كانت روسيا تمكّنت من تسويق الاتفاق لدى حلفائها (إيران والنظام السوري)، فإن أبرز التحديات التي تواجه تنفيذه هي المتعلقة بالجانب التركي، ومدى قدرته على تسويق الاتفاق، ودفع بعض الجماعات المتشدّدة الموجودة في إدلب إلى تنفيذه. وتضم إدلب تنظيماتٍ يمكن أن تشكل عقبة أمام تنفيذ الاتفاق؛ وأهمها هيئة تحرير الشام، وحرّاس الدين، ومسلحو الحزب الإسلامي التركستاني (الإيغور) وآخرون.
تُعدّ هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) أكبر التنظيمات التي يمكن أن تقف حجر عثرة في طريق الاتفاق، ويقدر عدد مقاتليها بـ 12- 15 ألف مقاتل، وتسيطر الهيئة على ما يقرب من نصف مساحة المحافظة بما فيها مركزها. وقد عملت تركيا منذ التوصل إلى اتفاقٍ تفصيليٍّ حول إنشاء منطقة خفض التصعيد في إدلب مع روسيا، في أيلول/ سبتمبر 2017 على
“أثبتت التجارب السابقة أن روسيا وتركيا تتفاهمان أفضل عندما لا تكون طهران طرفًا فيه”
محاولة تفكيك هيئة تحرير الشام وعزل الجناح المتشدد فيها (الأجانب أو المهاجرون) عن المعتدلين. ويشكل السوريون نحو 90% من عناصر الهيئة. وما زال غير واضح مدى النجاح الذي حققته الجهود التركية في الفصل بين عناصر الهيئة المتشدّدين والمعتدلين، على الرغم من أن أنباء تحدثت عن انضمام بعض العناصر إلى فصائل المعارضة المعتدلة التي تدعمها تركيا.
لم تصدر الهيئة، حتى الآن، أي بيان رسمي يوضح موقفها من اتفاق إدلب. ومع ذلك، رفض قادة “مهاجرون” في الهيئة الاتفاق الروسي – التركي، وتعهدوا بمواصلة القتال في إدلب. وتمتلك هيئة تحرير الشام ترسانة أسلحة ثقيلة من دبابات ومدافع، وينتشر مقاتلوها على أجزاء من طريق دمشق – حلب الدولي، ومواقع عدة بالقرب من معبر باب الهوى، وتُعدّ جبال حارم الحدودية من أهم معاقلهم.
أما حرّاس الدين، فهو تنظيم منشق أصلًا عن هيئة تحرير الشام، تم تأسيسه في شباط/ فبراير 2018، يعلن ولاءه لزعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، ونواته الجهادية أجنبية؛ إذ ينضوي في صفوفه جهاديون عديدون قاتلوا في أفغانستان والعراق، كما استقطب عناصر من “داعش” من إدلب ودير الزور. وقد رفض التنظيم الذي يقدر عدد مقاتليه بنحو 1200 مقاتل، بوضوح الاتفاق الروسي – التركي، وأصدر بيانًا دعا فيه إلى “النفير” في مواجهة ما أسماه اتفاق “دايتون”. ويتوقع أن يشكل التنظيم عائقًا أمام تطبيق الاتفاق، خصوصا أن مقاتليه ينتشرون في مناطق في ريفي إدلب الغربي واللاذقية الشمالي..
أما التنظيم الثالث الذي يمكنه أن يعارض الاتفاق، فهو الجيش الإسلامي التركستاني، الذي ينحدر أغلب مقاتليه من منطقة تركستان الشرقية (أو إقليم شينجيانغ) ذات الأغلبية المسلمة غرب الصين، ويرتبط التنظيم الذي أُسس في سورية في حزيران/ يونيو 2014، تحت اسم “الحزب الإسلامي التركستاني في بلاد الشام”، بتنظيم القاعدة، ويقدّر عدد مقاتليه بنحو 2300. وينتشر مقاتلو الجيش في جسر الشغور ومناطق أخرى على حدود محافظة إدلب مع اللاذقية. يُعدّ التنظيم قريبًا من هيئة تحرير الشام؛ وهو مثلها، لم يصدر حتى الآن موقفًا من الاتفاق، ويُتوقّع أن ينسحب موقف الهيئة على موقف الحزب بسبب قربه منها وتحالفه معها.
وهناك عدد آخر من الفصائل المتشددة الرافضة للاتفاق، مثل أنصار الدين، وأنصار الفرقان، وأنصار التوحيد، وغيرها، إلا أنه لا يعتدّ بها لصغر حجمها، ليبقى موقف هيئة تحرير الشام الأهم، وتترتب عليه تداعيات كبيرة؛ نظرًا إلى حجمها ونفوذها الكبيريْن في إدلب. ويبدو أن الجانب التركي أخذ على عاتقه التعامل مع كل فصيلٍ من شأنه عرقلة تنفيذ اتفاق إدلب، مقابل ألّا تشنّ روسيا وحلفاؤها هجومًا واسع النطاق على محافظة إدلب، بحجة القضاء على التنظيمات المتطرّفة. ويعني هذا أن احتمال وقوع صدام عسكري بين الفصائل الرافضة اتفاق إدلب وكل من تركيا والفصائل السورية التابعة لها سوف يتزايد في الفترة المقبلة، إذا أصرّت هذه الفصائل على عدم تنفيذ الاتفاق. وفي إشارة إلى عزمها تنفيذ الاتفاق، أرسلت تركيا تعزيزات عسكرية كبيرة إلى منطقة خفض التصعيد في إدلب، تشمل دبابات وعربات مدرعة لنقل الجنود.
خاتمة
مثّل اتفاق إدلب الذي تم التوصل إليه بين الرئيسين التركي والروسي محطةً أخرى في مسيرة تعاون بينهما، بدأت في سورية، بعد فشل المحاولة الانقلابية في تركيا في منتصف تموز/ يوليو 2016. وعلى الرغم من أن روسيا استخدمت تقاربها مع تركيا غطاءً لحسم الصراع على الأرض عسكريًا لصالح النظام، فقد بدت أكثر اهتمامًا بالحساسية التركية في المناطق الحدودية القريبة منها؛ إذ سمحت لتركيا في آب/ أغسطس 2016 بإطلاق عملية درع الفرات في المثلث الممتد بين جرابلس والباب وأعزاز؛ لطرد تنظيم داعش منها، وإقامة منطقة آمنة فيها. كما سمحت موسكو لأنقرة بإطلاق عملية “غصن الزيتون” في عفرين، وطرد وحدات حماية الشعب الكردية في مطلع عام 2018. ويمثل اتفاق إدلب مرحلةً ثالثةً في هذا التعاون، لكن تحدّياتٍ تواجهه، في ضوء المقاومة التي يتوقع أن يبديها بعض الفصائل المتشدّدة للجهود التركية الرامية إلى إنشاء منطقة منزوعة السلاح في إدلب، ومحاولة تفكيك وجودها فيها، أو لجهة ظهور محاولات إيرانية لتقويض الاتفاق.
في كل الأحوال، لا يمثل الاتفاق تحولًا في مسار الأوضاع في سورية، ولا يشكّل منعطفًا، بل مخرجًا جنّب محافظة إدلب، التي تضم نحو ثلاثة ملايين مدني، معركةً دامية، ريثما تتضح صورة التفاهمات الإقليمية والدولية حول قضايا الحل السياسي في سورية، وكيفية الوصول إليه. فالعملية الرئيسة الجارية حاليًا هي محاولات إعادة ترميم نظام الاستبداد في سورية، ويكمن امتحان القوى السورية والدولية المعارضة لهذا النظام في إفشال هذه العملية، وعدم منحها أي شرعية.
العربي الجديد
هل تسير إدلب على طريق لواء الإسكندرون؟/ خالد غزال
ليس من قبيل المبالغة أو «التبصير» أن يسود هاجس إلحاق محافظة إدلب بتركيا، وذلك في مسار تقاسم المناطق والنفوذ الجاري حالياً بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية والدول الإقليمية خصوصاً منها تركيا. فسورية اليوم تعيش حال تقسيم واقعي على الأرض، لم يصل بعد الى تشريع قانوني بتعيين المناطق التي تعتبرها إسرائيل من حصتها، ولا الأتراك وصلوا إلى محطة متقدمة تسمح لهم بالقول إن حصة تركيا من سورية هي محافظة إدلب. لكن الهواجس تبقى مشروعة ومشرّعة في المستقبل، بعد أن فقدت سورية استقلالها، ولم يعد المسؤولون عنها أصحاب سلطة تقرر في مصير البلاد والعباد. فسورية خاضعة اليوم، عملياً وحتى الآن، إلى استعمار روسي له اليد العليا في كل شيء، على غرار ما كانت عليه سورية في النصف الأول من القرن العشرين خاضعة للاستعمار الفرنسي الذي الحق لواء الإسكندرون بتركيا بعد صفقة بين البلدين.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتقسيم الامبراطورية العثمانية، وحتى نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، كان لواء الإسكندرون أرضاً سورية وخاضعة للحكم فيها، وكان يشكل المحافظة الخامسة عشرة لها، وكان اللواء يومها تابعاً لولاية حلب. يومها لم يكن يسكن من التركمان في اللواء سوى ثلاثين في المئة من سكانه، فيما الآخرون من السكان العرب المتعددي الطوائف. كان لواء الإسكندرون ذا موقع استراتيجي مهم لسورية، فهو من أهم الموانيء البحرية. منذ أن استتب الحكم لمصطفى اتاتورك في تركيا في عشرينات القرن الماضي، بدأ التخطيط من جانبه لضم لواء الاسكندرون إلى تركيا، ودخل في مفاوضات مع الاستعمار الفرنسي أنتجت موافقة فرنسية على إلحاق اللواء بتركيا وذلك عام 1939.
بقي اللواء في المنطق السياسي والجغرافي أرضاً سورية، وإن يكن النظام كف عن المطالبة باسترجاعه في السنوات اللاحقة. لم تشكل المطالبة باللواء قضبة قومية بوصفه أرضاً محتلة ومغتصبة من الأتراك طيلة حكم حزب البعث وحافظ الأسد خصوصاً. حسمت تركيا الأمر عام 1996 عندما دخلت الأراضي السورية وتمركزت فيها، في سياق الضغط على الحكم السوري الذي كان يدعم التمرد الكردي بقيادة عبد الله اوجلان، وفرضت اتفاقاً مذلاًّ على القيادة السورية آنذاك، أعطاها الحق بالدخول إلى الأراضي السورية في كل مرة ترى ان حدودها مهددة. وكان من ضمن الاتفاق الحسم في تخلي النظام السوري بشكل نهائي عن اللواء، وإلغاء كل ما يتصل بسوريته، سواء في الخريطة السياسية أو الجغرافية وحتى في كتب التعليم الرسمي.
ترمي هذه الاستعادة عن لواء الإسكندرون للإضاءة على السلوك التركي تجاه سورية منذ اندلاع الانتفاضة قبل سبع سنوات وحتى اليوم. على رغم الصراخ الدائم الذي كان الشعب السوري يسمعه من أردوغان حول عدم السماح بتكرار مجازر حماه التي حصلت في ثمانينات القرن الماضي، إلا أن أردوغان لم يتدخل رغم رؤيته ان سورية كلها صارت مدينة حماه، بل إن ما حصل في حماه يشكل نقطة صغيرة مما أصاب سورية من الدمار على يد النظام وحلفائه الإيرانيين والروس خصوصاً. كان أردوغان، على غرار مصطفى كمال، ينتظر اللحظة المناسبة ليقطف ثمار انهيار سورية وتدميرها، وعينه متركزة على محافظة إدلب. ان الحجج التي يدعيها عن أن تدخله الراهن هو لكبح جماح الأكراد لا تقوم عليها أي صحة، فالأكراد وأهدافهم معلنة منذ اليوم الأول للانتفاضة، فلماذا لم يرسل دباباته إلى سورية إلا في الأشهر الأخيرة؟ يعرف أردوغان أن الصراع على سورية مندلع إلى أقصى مداه، وأن حصته لا بد من أخذها في الاعتبار. كما كان لواء الاسكندرون منفذاً بحرياً مهماً لتركيا، فإن محافظة ادلب موقع مهم في موارده الزراعية والبترولية.
سؤال يطرح نفسه عن تعثر تقسيم الدول خصوصاً التي رسمت في اتفاقيات سايكس بيكو، بما يعني أن هناك صعوبة دولية في الاعتراف بسلخ الأراضي. هذا صحيح. الطمع التركي باللواء بدأ في العشرينات من القرن الماضي، والإلحاق تم عام 1939، والتطويب النهائي من النظام السوري حصل عام 1996. فما هو حاصل اليوم، وأقصى ما تطمح اليه تركيا، هو الاعتراف لها بالمحافظة كمنطقة نفوذ، مع حقها في تمركز قواتها المسلحة لمنع التهديد الكردي عن أراضيها.
وعلى غرار ما فعله الاستعمار الفرنسي سابقاً، فإن تركيا أردوغان التي تقر بدور روسيا، الشبيه بدور فرنسا، ترى أن أهدافها في إلحاق إدلب ستـــكون عبر الاتفاق مع روسيا. لم تعد هذه تكهنات، فالعلاقات الروسية التركية خطت خطوات مهمة مؤخرا باتجاه الاتفاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية. البلدان يحتاج كل منهـــما الآخر، ولن يكون صعباً على الرئيس بوتين إعطاء حليفه قطعة من الأرض مقابل الخدمات التي يؤمنها أردوغان له.
أين تقف الولايات المتحدة من هذا المخطط؟ ليس في هموم أميركا المحافظة على الحدود والأراضي، فلن تكون رافضة لأي إلحاق لإدلب في المرحلة الراهنة مقابل مصالح استراتيجية مع تركيا. اما النظام السوري، فليس في مقدوره إعلان معركة قومية ضد سلخ قسم من أرضه، طالما انه سلم لروسيا بالاحتلال الشامل في السياسة والعسكر والجغرافيا.
* كاتب لبناني
الحياة
إدلب مع نسخة جديدة من اتفاق خفض التصعيد/ وائل عصام
أهم الملاحظات حول اتفاق المنطقة العازلة ونزع السلاح، كما ورد في نسخته الأصلية، هو أنه يخص المعارضة ومناطقها بإجراءات نزع السلاح والانسحاب دون النظام، فكما جاء في نص الاتفاق الذي وقع بين تركيا وروسيا وبموافقة النظام كما ورد، فإن فصائل المعارضة لا النظام، مطالبة بتسليم السلاح الثقيل وقائمة بأنواع المقذوفات والأسلحة، تعني نزعا شبه كامل للسلاح بدون البنادق الآلية، في عمق يصل لعشرين كيلومترا، وقد تصل المنطقة لتضم مدينة خان شيحون وفق بعض التفسيرات.
أما النقطة الثانية، فتتحدث عن تحديد منطقة نزع السلاح داخل منطقة خفض التصعيد، وهذا يعني انها ستقتطع من مناطق المعارضة فقط لا التي يسيطر عليها النظام، لأن منطقة خفض التصعيد في إدلب تبدأ حدودها من المناطق الخاضعة للمعارضة والخارجة عن سيطرة الأسد. وتبقى هذه التفاصيل للاتفاق تقنية وهو النسخة العاشرة ربما من قائمة اتفاقات تخص وقف إطلاق نار وهدن وقعت عليها روسيا والنظام منذ بدء سنوات الثورة في سوريا، وأعقبتها بحرق كامل لهذه المناطق، بدءا من خطة النقاط الست التي قدمها عنان وأقرتها الأمم المتحدة عام 2012 لوقف النزاع المسلح، وما أعقبه من إرسال لبعثة مراقبة للأمم المتحدة وقرارات لتشكيل حكومة انتقالية ومباحثات في جنيف، وصولا للعديد من اتفاقيات الهدن، ومن ثم الاتفاقية التي تمت بعيدا عن رعاية القوى العالمية، اتفاقية خفض التصعيد بإشراف حلفاء الأسد، روسيا وإيران، هذه الاتفاقية التي أقرت أربع مناطق خفض تصعيد، دمرها النظام تباعا واحتلها، وتبقى منها إدلب فقط ، فلماذا يجدر بأي متتبع للاحداث أن يتوقع عكس هذا المسار، على الرغم من أن الأسد ونظامه وحلفاءه باتوا اكثر قوة وسيطرة عسكرية في سوريا.
هذا الاتفاق، وللمفارقة، هو نسخة أكثر سوءا من اتفاقية خفض التصعيد، فلم يكن مطلوبا من فصائل المعارضة في مناطق خفض التصعيد في الغوطة ودرعا وريف حمص، نزع سلاحها، ولا الانسحاب من مناطق تسيطر عليها دون النظام، بل إن المفارقة تزداد حين نتذكر أن «النصرة» ونسختها الجديدة «تحرير الشام»، حصلت على عدة اتفاقات للهدنة مع النظام في إدلب أفضل من هذا الاتفاق، فقد وافق النظام على الهدنة في إدلب وخف القصف عنها بشكل كبير لاكثر من عامين بفضل هذا الاتفاق، الذي لم يشترط نزع سلاح أي من الفصائل أو الانسحاب، بل حصلت عليه «تحرير الشام» بعد استخدامها لشيعة بلدتي كفريا والفوعة كرهائن .وكما كان متوقعا، فتوقيع هذا الاتفاق يؤذن بأننا وصلنا لمرحلة «سلخ الشاة قبل ذبحها»، إنها المرحلة الأخيرة قبل إقدام النظام على استعادة إدلب، التي كما قلنا سيسعى لها النظام إما سلما أو حربا، سلما لتوفير مشقة الحرب، ومن خلال تسويات كهذه قد تؤدي إما لنزاع فصائلي سبق أن وقع بين القوى الموالية لتركيا وهيئة «تحرير الشام»، وإما لدور تركي مباشر في السيطرة على إدلب ومن ثم عودتها للنظام، كما أكد ذلك صراحة بوتين في مؤتمره الصحافي الاخير مع اردوغان، بضرورة عودة الاراضي لسيطرة الحكومة السورية، والاهم من ذلك، أن اتفاق خفض التصعيد ينص صراحة على سيطرة الحكومة السورية على كافة اراضيها، وهدا ما حصل فعلا بالحرب عندما فشلت التسويات، أو بالتسويات بدون حرب كما في درعا، وهذا السياق هو ما سيحصل في بعض مناطق إدلب على ما يبدو، خاصة تلك التي تسيطر عليها فصائل غير جهادية.
لكن يجب أن لا يتم تحميل الاتراك ما لا يحتملوه، فالنفوذ والدور التركي في سوريا بدا واضحا للجميع وللفصائل القريبة منه في سوريا، انه دور محدود ومتواضع، خصوصا بعد اعتذار السلطات التركية عن إسقاط الطائرة الروسية وهذا المنعطف الحاسم الذي أبقى الدور التركي تحت الاشراف الروسي، لذلك لم يجبر الاتراك أحدا على اتباع سياستهم التوافقية مع الروس، التي ستصب حتما في صالح الأسد في نهاية المطاف، بدون رغبة طبعا من الأتراك، لكن لا حيلة لهم بالنظر لتوازنات القوة المائلة لصالح حلف الاسد وروسيا وطهران في سوريا، وبالنهاية لا يفترض أن تهتم الدولة التركية بمصلحة اي اطراف اخرى فوق مصلحتها القومية وهذا ما تم فعلا، لكن المشكلة أن هناك من يعتقد ولو بطرح رومانسي، انه والآخر حالة واحدة، رغم أن الحليف الآخر يكرر له بالافعال وإن كان مشفوعا بالاقوال الرومانسية، الاشارة نفسها في كل مناسبة: من قال لك إن هناك من عليه أن يخوض معركتك أنت؟
كاتب فلسطيني
القدس العربي
بعد إدلب هل تسرّع تركيا ملف تجنيس السوريين؟/ هشام منور
مع اقتراب الأزمات الشرق أوسطية من محطاتها الأخيرة في العديد من البلدان، لا سيما سوريا، يبدو المسعى الروسي لفتح ملف اللاجئين والنازحين وبحث مستقبلهم «عزفاً» مميزاً على «وتر حساس» لبحث مستقبل القوة البشرية، التي تسعى الدول المتحضرة لاستغلالها في الأزمات الدولية، بعد أن تخلت عنها حكوماتها المحلية بحجج وذرائع مكافحة الإرهاب تارة، والحرب الكونية على أنظمة الحكم والمؤامرات التي تحاك ضدها تارة أخرى.
ما من شك في ان أوروبا استغلت وبنجاح كبير «فائض» القوة البشرية التي تتمتع بها بلداننا أثناء الأزمات التي تعاني منها منطقتنا، لكن الطرح الروسي في ملف إعادة اللاجئين، يأخذ في الاعتبار «تقاسم» الكعكة البشرية» لسوريا، بعد أن شارف اقتسام النفوذ والمصالح السياسي على استكمال أجندته المرسومة.
يشكّل السوريون ما يقرب من ثلث جميع اللاجئين في العالم، وتستضيف تركيا 63.4% منهم، أي نحو3.5 مليون شخص، بحسب الإحصاءات الرسمية للحكومة التركية. ويمثّل هذا العدد، زيادةً بنسبة 4.2% في عدد سكان تركيا لعام 2017 البالغ 81 مليون نسمة. لذا تتطلّب هذه الإضافة الكبيرة والمفاجئة الالتفات إلى السر الكامن وراء مسعى روسيا للتقارب مع تركيا تحديداً، دون غيرها من الدول، ولاسيما العربية، فالعامل السياسي والجغرافي لا يمكن إنكاره في الصدد، لكن «الخزان البشري» الذي استقبلته تركيا جعلها محور الاهتمام الروسي لبحث مستقبل سوريا، فضلاً عن اعتبارات سياسية واستراتيجية أخرى. يُعدّ تدفق اللاجئين السوريين بين عامي 2011 و2017 التحوّل الديموغرافي الأهم في تركيا منذ «التبادل السكاني» مع اليونان بين عامي 1923 و1924. فقد فتحت الحكومة التركية أبوابها أمام الناس للهروب من وحشية نظام الأسد في أبريل/نيسان 2011، ما أسفر عن فرار مليون شخص عبر الحدود بحلول سبتمبر/أيلول 2014. وبعد مرور عام، تضاعف العدد إلى مليوني شخص، ليبلغ ثلاثة ملايين في عام 2017. ووفقاً للأمم المتحدة، فإنّ 1.926.987 من هؤلاء السوريين هم من الذكور و1.627.085 من الإناث، وهناك أكثر من مليون لاجئ دون سن العاشرة.
أصبحت الغالبية الساحقة من اللاجئين (أي 3554072 فردا) مختلطةً مع السكان الأتراك، في حين يتم إيواء 212816 لاجئ في المخيمات. ويتركز نحو 2.8 مليون منهم في اثنتي عشرة ولاية من أصل واحد وثمانين، في مقدمتها إسطنبول وشانلي اورفة وعنتاب وأضنة، وبورصة، وهاتاي، وإزمير، وكهرمان مرعش، وكيليس، وقونية، وماردين، ومرسين.
أبريل 2013، وافقت تركيا على «قانون الأجانب والحماية الدولية» الشامل والمستوحى من «مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين»، الذي أعاد التزام البلاد بتزويد اللاجئين بالاحتياجات الإنسانية الأساسية، وقام بإنشاء هيئة حكومية جديدة لإجراءات اللجوء، وهي «المديرية العامة لإدارة الهجرة». ومع ذلك، لم يُشرع في عملية تسجيل العدد المتزايد باطراد من السوريين إلاّ بحلول عام 2014. وفي الوقت نفسه، اعتمدت الحكومة قانوناً جديداً للجنسية التركية في مايو/أيار 2009 يسمح للاجئين بتقديم طلب للحصول على الجنسية إذا كانوا قد عاشوا في البلاد لمدة «خمس سنوات بلا انقطاع». العديد من اللاجئين، الذين تقدموا بطلبات للحصول على هذه الوثائق لدى وصولهم، قد استوفوا شرط السنوات الخمس وأصبحوا مؤهلين الآن لأن يصبحوا مواطنين أتراكا. فمنذ عام 2011، حصل 55583 سوريا على الجنسية بشكل رسمي، وقبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة 2018، صرح المسؤولون الاتراك بأن عدد من تم تجنيسهم يبلغ نحو 100 ألف شخص، من بينهم نحو 25000 شخص تحت سن الثامنة عشرة.
سياسة الحكومة التركية التي اعتمدت مبدأ التدرج في استقبال اللاجئين السوريين حتى ناهز عددهم الأربعة ملايين شخص (بشكل غير رسمي)، ثم الانتظار 5 سنوات للبدء في مشروع كبير ومتدرج أيضاً على شكل «كرة الثلج» لتجنيسهم، يثبت حنكتها في التعامل مع هذا الملف نظراً لحساسيته، ورغبة في عدم افتعال أزمات داخلية وإثارة الشارع التركي، الذي ينظر إلى الاحتجاجات في أوروبا ضد وجود اللاجئين وقبولهم في المجتمعات الأوروبية على أنه خطر داهم. ورغم البيانات التركية الرسمية عن عودة ما يزيد عن عشرات الآلاف إلى سوريا بعد تنفيذ تركيا عمليات «درع الفرات» و»غصن الزيتون»، فإن هذا الرقم مرشح للارتفاع مع إحكام تركيا سيطرتها على كامل محافظة إدلب وأجزاء من محافظات حلب وحماة واللاذقية، ما يعني أن المزيد من اللاجئين السوريين سوف يتمكنون من العودة إلى منازلهم قريباً، ولكن تحت إشراف وإدارة تركية، وبناء على المعطيات المتقدمة، التي لاحظت ازدياد كلا العاملين (تزايد تجنيس السوريين وتزايد عودتهم إلى سوريا) فإن من المرجح أن يستمر المنحى بشكل تصاعدي، وربما أسرع مما كان الأمر عليه في ما سبق، نظراً لاقتراب مفاوضات الحل النهائي الخاص بسوريا من نهايتها، وحاجة تركيا لورقة تقوي بها موقفها وموقف المعارضة السورية في مواجهة الأطماع الروسية بالاستحواذ على كامل سوريا، وإعادة البلد إلى حظيرة نظام الأسد.
الخطوة المقبلة للحكومة التركية سوف تلحظ تمكين السوريين من العودة إلى مناطقهم التي هجروا منها في الشمال السوري الخاضع لإدارتهم، وفي الوقت عينه، تقوية موقف المعارضة السورية ومعها الموقف التركي في مفاوضات الحل النهائي لسوريا، وذلك يقتضي بالضرورة أن تكون تركيا ليست مجرد «منافح» عن السوريين في مواجهة «تغول» روسيا والأسد، بل يقتضي أن تمتلك وجوداً شرعياً وقانونياً يستند إلى حمايتها من سيكونون «مواطنيها» في المستقبل القريب!
كاتب وباحث فلسطيني
هشام منور
القدس العربي
تحدّيات تطرحها إدلب على المعارضة/ غازي دحمان
تشكّل إدلب لحظة تحدٍّ حقيقية، ليس للفريق الذي يريد استهدافها وحسب، وإنما أيضاً للمعارضة السورية التي عليها اجتراح أسلوب إدارة خلاق، للاستفادة من الزخم الذي وفره الحراك الشعبي الكبير، بعد خروج المظاهرات الحاشدة، واعتبرها كثيرون بمثابة تصويتٍ لصالح الثورة في مواجهة دعاية روسيا، وتابعها بشار الأسد، من أن المدنيين مختطفون في إدلب، وأن الناس ملّت الثورة، وتريد عودة نظام الأسد.
اعتادت المعارضة، أخيرا، الاكتفاء بالبكاء والتفجّع، وهي تشاهد شريط النكبة السورية، من سقوط للمناطق بيد نظام الأسد إلى عمليات التقتيل الرهيبة، وليس انتهاءً بمشهد الحافلات الخضر. وأزعم أن المعارضة، وخصوصا السياسية، استسهلت هذا الأمر، بل وتآلفت معه إلى حد ما، وربما كان صعباً في بدايته، عند سقوط حلب، لكنه تاليا أصبح سلساً، ويمكن التعامل معه عبر تغريدةٍ، أو بيانٍ يشجُب ويندّد.
التحدي الذي تطرحه إدلب اليوم على المعارضة هو جعلها نقطة انطلاقٍ نحو بداية جديدة، بدلا من أن تكون نهايةً للثورة على نظام الأسد، على ما بدأ العالم يهيئ نفسه له، وراحت المعارضة الخارجية تجهّز نفسها للتعامل مع هذا القدر الذي لا رادّ له، وبالتالي لم تعد تهتم سوى للحديث عن الدستور، وجولات دي ميستورا وتصريحاته.
في التقييم الواقعي، يتوجب التفريق بين السقف العالي لطموحات المتظاهرين الذين طالبوا بإسقاط النظام وتعديل مسار العملية السياسية بالكامل وما يمكن تحقيقه بالفعل، لكن هذا يعد مؤشّراً على مدى فهم الجماهير اللعبة السياسية القائمة على رفع سقف التفاوض إلى درجة عالية، للحصول على نتائج مقبولة، وإبراز جدّية البيئة الحاضنة للثورة على تحدّي تهديدات الخصم واستعدادها للصمود في مواجهته.
وفي التقييم الواقعي أيضاً، استفادت إدلب من جغرافيتها الملاصقة لتركيا، وأن أمنها مرتبط بدرجة كبيرة بالأمن القومي التركي. ولهذا السبب، جنّدت أنقرة مواردها الدبلوماسية والعسكرية والإعلامية، لتفنيد ذرائع الهجوم الذي كانت تعد له روسيا لسحق الثورة في إدلب، واستطاعت، عبر اتفاق سوتشي، تفكيك جبهة القوى المتربّصة بإدلب، ولو إلى حين، كما أنها وفّرت البيئة المناسبة لحلٍّ يضمن حماية إدلب وسكانها، ويمكن تطويره إلى مقاربةٍ للحل السياسي في سورية.
لكن على المعارضة أن تعي أن تركيا، على الرغم من وجاهة حججها في البعد الإنساني لموضوع إدلب، وعلى الرغم من مكانتها لدى روسيا التي تراهن على إخراجها من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلا أن موقفا متماسكا من المعارضة، المدعومة شعبياً، سيشكل عنصر قوة ودعم للموقف التركي، والعكس صحيح، بمعنى أن تقاعس المعارضة وإحباط الشارع الثائر يزيد العبء على تركيا، ويدفعها إلى تقديم تنازلاتٍ ما، وقد آن الأوان للمعارضة، لتدرك أن مسألة توفر البدائل السياسية والإدارية باتت من أهم شروط عملية التغيير السياسي الذي يطالب به السوريون.
تملك المعارضة في إدلب مزايا لم تتوفر لها في مناطق أخرى، يمكن الاستفادة منها لتغيير المعادلة الراهنة في سورية، والقائمة على استسلام المعارضة بدون شرط أو قيد، واستعادة سلطة الأسد على جميع المناطق السورية. تستطيع إدلب بالفعل كسر هذه المعادلة، ودفع روسيا إلى مقاربةٍ جديدة، أقل جوْراً بحق السوريين، وتنطوي على أملٍ بتحقيق بعض أهداف الثورة.
في إدلب مجتمع مدني حقيقي، على الرغم من محاولات جبهة النصرة، وبعض الفصائل، تهميش هذه الحقيقة، وقمع تمظهرات هذا المجتمع، إلا أنه ناضل بقوّة في سبيل البقاء، وتراكمت، عبر سنوات الثورة، خبراتٌ هائلةٌ لدى منظمات تطوعية وإغاثية وإعلامية، وصارت تمتلك القدرة على الفعل، وإيصال صوتها إلى الخارج، في حين أن ذلك لم يكن متوفراً في أغلب مناطق الثورة، بعد أن طغى العسكري على المدني، وهجرت الكوادر المدنية، واختفت نهائيا في بعض المناطق.
تستطيع المعارضة الاستفادة من هذا المعطى، عبر إبراز الجانب المدني الذي بات يتخذ بالفعل طابعاً مؤسساتياً، ويلبّي المعايير الدولية في التنظيم والإدارة، وهو على صلةٍ بمنظماتٍ حقوقيةٍ وإغاثية مؤثرة في الغرب، وهذا يمنح المعارضة مساحة جيدة لطرح قضية إدلب بوصفها قضية سورية المصغّرة، والتي تستوجب حلولاً سياسية، وليست عسكرية، وإجبار روسيا على هذا المسار، ولو بعد طول مناورةٍ وتهرّب منها.
وليس الأمر مستحيلا، على ما يحاول المحبَطون ( بفتح الباء) إشاعته، فمن لديه عينان ويقرأ المشهد الدولي جيداً، يكتشف إمكانية تحقّق ذلك، فليس خافياً أنه باتت لدى روسيا، على أبواب إدلب، حساباتٌ معقدة، تختلف عنها في الفترة السابقة، فهي تريد الفوز بحل سياسي يشرعن وجودها ويقبله الغرب، ذلك أن روسيا وجدت نفسها أمام بلدٍ محطّمٍ لا يمكنها الاستفادة من نصرٍ قد تحقّقه على جثة سورية، وما لم تستطع إقناع الغرب والدول العربية بالمساهمة في إعادة الإعمار، تتحول الفرص إلى تحدّيات، وستصبح سورية مقبرةً للحلم الروسي في استعادة المكانة الدولية المفقودة.
معلومٌ أن روسيا تصوّر حربها على إدلب بأنها ضد المنظمات الإرهابية، مهمّشة حقيقة وجود حوالي أربعة ملايين مدني يعيشون حياة طبيعية، وهذا يستوجب من المعارضة استنفارا كاملا لطاقاتها، لتفنيد الرواية الروسية، وإبراز البعد المدني في قضية إدلب، وتحويل إدلب إلى عاصمة جمهورية الثورة السورية بكل معنى الكلمة، وما يتطلبه ذلك من دخول الفعاليات السياسية والإعلامية والأطر المختلفة إلى إدلب واتخاذها مقراً لنشاطها وعملها. لقد مهدت جماهير إدلب الطريق للمعارضة للقيام بخطواتٍ إيجابية لصالح الثورة السورية، والكرة الآن في ملعب المعارضة، فكيف ستكون استجابتها؟
العربي الجديد
اتفاق إدلب.. السياسة استمراراً للحرب/ راتب شعبو
عشرة أيام فصلت قمة طهران الثلاثية بين رؤساء إيران وروسيا وتركيا (7 سبتمبر/ أيلول) عن اتفاق سوتشي الثنائي بين رئيسي روسيا وتركيا (17 سبتمبر/ أيلول). وفي غضونها، تبدّل الموقف الروسي، من موقفٍ مشترك مع إيران يرفض أي دعوةٍ إلى وقف إطلاق النار، ويرفض إعطاء مزيدٍ من الوقت للتوصل إلى تسويةٍ سياسية، ويصرّ على إنهاء وجود الفصائل المسلحة وعودة إدلب إلى سيطرة النظام السوري، قبل البحث في أي حلٍّ سياسي للصراع في سورية، تبدّل إلى موقفٍ يقول إنه ليس هناك عملية عسكرية على إدلب، إنما منطقة عازلة بعرض 15 إلى 20 كم، ستكون من حساب المنطقة الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، تسحب منها الأسلحة الثقيلة، وتطرد منها المنظمات المتفق على أنها إرهابية (جبهة النصرة تحديدا)، وتراقب تركيا هذا الحزام من جهة فصائل المعارضة المسلحة، فيما تراقبه روسيا من الجهة الأخرى.
رحبت جميع الأطراف المنخرطة في الصراع السوري، داخلية وخارجية، باتفاق سوتشي بين الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، بشأن إدلب، ومنها نظام الأسد الذي لا يمتلك أن يعارض الاتفاق. ولذلك وجد نفسه مرغماً على الترحيب به، ذلك أن معركة إدلب بدون الشريك الروسي غير ممكنة، كما أن إيران انحنت أمام ما لا تستطيع ردّه، وتحولت لغتها العسكرية الحاسمة في قمة طهران إلى لغة إنسانية حريصة على المدنيين بعد اتفاق سوتشي. من طبيعة الأمور أن قبول هذين الطرفين بالاتفاق مسكونٌ بعدم الرضى، ويحمل بذور تخريبه والانقلاب عليه، حين تصبح الظروف مناسبة.
يمكن فهم التبدل في الموقف الروسي بالاستناد إلى عدة عناصر، أولها إدراك روسيا أن كسب معركة إدلب سيكون مكلفاً للغاية، وربما غير ممكن، من دون التعاون التركي. استنتج الروس هذا الدرس من معركة حلب الشرقية في نهاية عام 2016، التي كان التخلي التركي عنصراً حاسماً في كسبها.
لا ينبع اتفاق سوتشي هذا مما يقال إن تركيا أثمن من إدلب في الحسابات الروسية. في الواقع ليست المعادلة اليوم، بالنسبة للروس، إدلب مقابل تركيا، وليس ما دفع الروس إلى إبرام الاتفاق هو الحرص على عدم خسارة تركيا إذا تم الدخول إلى إدلب. لا شك أن روسيا حريصة على كسب تركيا، لكنها حريصة أكثر على أن تكسب نفسها، حين تنجح في المهمة السورية التي انخرطت فيها، والمهمة هي الحفاظ على النفوذ الروسي في سورية من خلال الحفاظ على نظام الأسد. تبيّن أخيرا، إثر الغارة الإسرائيلية على اللاذقية في 17 سيبتمبر/ أيلول (بتاريخ توقيع الاتفاق نفسه) وسقوط طائرة روسية (إيليوشن 20)، ومصرع الجنود الروس الخمسة عشر الذين كانوا على متنها، أن الخط الأحمر الذي وضعته روسيا لإسرائيل، فيما يخص الساحة السورية، هو أن لا تتعرّض الهجمات الإسرائيلية للقوات الروسية في سورية، وأن لا تؤدي إلى إسقاط نظام الأسد.
ما دفع الروس إلى التراجع عن التشدد المعلن في قمة طهران (7 سبتمبر/ أيلول)، إدراكهم أن الدخول إلى إدلب مكلف وغير مضمون من دون تركيا. من هذا المنظور، يمكن فهم التشدّد الروسي في قمة طهران، واصطفافها التام مع موقف إيران، على أنه محاولة ضغط على الموقف التركي للتوصل إلى تعاون تركي في موضوع إدلب. لم تفلح القمة في ذلك، بل على العكس، دفعت تركيا التي تخشى موجات هجرة جديدة، وتخشى خسارة أوراق قوتها في الشأن السوري، إلى اعتماد سياسة مضادّة تقوم على استعراض الدعم الشعبي، من خلال مظاهرات الأهالي في المنطقة، ورفع العلم التركي في غير مكان، إضافة إلى تعزيز نقاط المراقبة التركية (الحديث عن وجود 23 ألف جندي) وتزويد الفصائل الإسلامية (المقدّر عددها بحوالي 30 ألفا) بأسلحة نوعية، من ضمنها مضادّات طيران، واعتبار إدلب “جزءا من الأمن القومي التركي”.
ساهم في رسم التحول الروسي، إضافة إلى المعاندة التركية، موقف الاتحاد الأوروبي الضاغط على روسيا لمنع وقوع كارثة إنسانية تولد موجات هجرةٍ جديدة، والموقف الأميركي الذي تجلى في النشاط في مجلس الأمن، من خلال دعوتها إلى اجتماعات مخصّصة لموضوع إدلب، والتحذيرات الأميركية بالاستعداد لرد عسكري، ليس فقط على الهجمات الكيماوية، بل وعلى المجازر “التقليدية”، وما رافق ذلك من تحرّكات ميدانية، تمثلت بحشد قطع بحرية أميركية وفرنسية وبريطانية في البحر المتوسط قبالة الشواطئ السورية.
يبقى، مع ذلك، اتفاق سوتشي من المنظور الروسي مجرّد خطوةٍ باتجاه استعادة إدلب، وهذا ما لا يخفيه إعلام نظام الأسد في شرحه قبوله الاتفاق، وهو ما تشير إليه أيضاً بعض الصحف الروسية، مثل نيزافيسمايا غازيتا التي وصلت، بعد الاتفاق، إلى حد إعلان أكتوبر/ تشرين الثاني موعدا لبدء عملية عسكرية في إدلب. غير أن الأهم من الإعلام الذي يمكن أن يضرب في كل الاتجاهات حقيقة أن الاتفاق يعزل إدلب فعلياً من الناحية العسكرية، حيث يغلق كل جبهاتها مع قوات نظام الأسد، وتتحول إلى منطقة مغلقة مليئة بالفصائل المتنافسة، الأمر الذي
يرشّحها لموجة اقتتال داخلي، سيكون فتيله البدء باستئصال جبهة النصرة، وسوف تتفرّع خطوط الإنقسام فيه على خطوط الولاءات السياسية المتعدّدة التي من ضمنها ولاء فصائل عسكرية تحت اسم “المقاومة الشعبية” لنظام الأسد. أي إن الداخل الإدلبي سيكون، بعد أن بات مغلقاً بفعل الاتفاق، بؤرة صراعات عسكرية تغذّيها أطراف عديدة، سيكون منها نظام الأسد وإيران في الطليعة. صارت كرة النار اليوم، بموجب الاتفاق، في حضن تركيا التي أخذت على عاتقها مهمة التخلص من المنظمات الإرهابية.
فضلاً عن حقيقة تربّص إيران ونظام الأسد بهذا الاتفاق، وعن حقيقة أن داخل إدلب سيكون مسرحاً للعبث المسلح الذي سوف يرهق تركيا، فإن هذا الاتفاق، في أساسه، مؤقت، وخروجه من حالته المؤقتة يكون في أحد اتجاهين متعارضيْن، ومحل صراع سياسي وعسكري: إما باتجاه العودة إلى سيطرة نظام الأسد، كما يريد التحالف الثلاثي (الأسد، إيران، روسيا)، أو باتجاه تكريس سيطرة تركية دائمة، سواء بالضم، على غرار لواء اسكندرون، أو بالبقاء منطقةً لها وضع خاص بحماية تركية، مثل شمال قبرص.
الشروط السياسية الدولية، والاتفاق المذكور الذي يتضمن وحدة الأراضي السورية ودخول النظام إلى إدلب رمزياً في مرحلةٍ لاحقةٍ منه، تدفع باتجاه المسار الأول. ويدفع باتجاه المسار الثاني الإرادة الشعبية في المنطقة، والشهية التركية المفتوحة دائماً على الشمال السوري. من الراجح أن يتحرّك الصراع المقبل في سورية على هذا المحور.
العربي الجديد
مستقبل إدلب بعد قمة طهران.. احتمالات التسوية والمواجهة
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
اختُتمت قمة طهران التي استضافت الاجتماع الثالث لزعماء الدول الضامنة لاتفاق أستانة (روسيا، وتركيا، وإيران)، في 7 أيلول/ سبتمبر 2018، من دون التوصل إلى اتفاقٍ يجنّب منطقة خفض التصعيد الرابعة والأخيرة في محافظة إدلب مصير المناطق الأخرى. وقد شهدت القمة سجالًا علنيًّا بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، فقد أصرّت تركيا على ضرورة احترام الاتفاق الخاص بإدلب، حيث يعيش أكثر من ثلاثة ملايين مدني، أكثرهم نازحون من مناطق سورية أخرى، وجرى تأكيد هذا الأمر خلال القمتين السابقتين: الأولى في سوتشي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، والثانية في أنقرة في نيسان/ أبريل 2018. أما روسيا فقد رفضت أي دعوةٍ إلى وقف إطلاق النار، أو إعطاء مزيدٍ من الوقت للتوصل إلى تسويةٍ سياسية، في إطار سعيها، بالتعاون والتعاضد مع طهران، إلى إعادة المنطقة إلى سيطرة النظام السوري، وإنهاء وجود المعارضة العسكرية فيها، قبل البحث في أي حلٍّ سياسي للصراع في سورية.
مناورة أستانة وخفض التصعيد
نشأ مسار أستانة، إثر توافق روسي – تركي، أفضى إلى إنهاء معركة حلب الشرقية في كانون الأول/ ديسمبر 2016، وإجلاء فصائل المعارضة عنها. وقد انضمّت إيران إلى هذا التوافق، بعد أن فشلت في إعاقته أول الأمر. وفي ربيع 2017، عندما بدا أن معركة الموصل التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في طريقها إلى الحسم، وأن التركيز الأميركي سوف ينتقل بعدها إلى سورية، بدأ القلق من نجاح الولايات المتحدة في انتزاع أكثر الأراضي التي يسيطر عليها “داعش” في سورية يساور روسيا؛ إذ بدأت التحضيرات الأميركية، بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، للزحف على الرّقة، ومناطق أخرى يسيطر عليها “داعش” شرق نهر الفرات. في هذا السياق، طرحت روسيا، في إطار مسار أستانة، فكرةَ خفض التصعيد التي كان المبعوث الأممي الخاص إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، أول من اقترحها باسم تجميد الصراع عام 2014.
بناءً عليه، توصلت الدول الثلاث، الضامنة لمسار أستانة في أيار/ مايو 2017، إلى اتفاقٍ
لخفض التصعيد أو تجميد الصراع في أربع مناطق رئيسة تسيطر عليها المعارضة: إدلب ومحيطها في الشمال، ومناطق ريف حمص الشمالي في الوسط، وغوطة دمشق الشرقية في محيط العاصمة، ومنطقة الجنوب الغربي التي تضم محافظات درعا والقنيطرة وأجزاء من السويداء. سمح هذا الاقتراح لروسيا، وحلفائها الذين كانوا يفتقرون إلى الموارد البشرية اللازمة، بتوجيه القوات المنتشرة على مختلف الجبهات مع المعارضة، بالتركيز على قتال تنظيم الدولة الإسلامية في سياق السباق مع الأميركيين، للسيطرة على أراضي التنظيم، ثم للاستفراد بجبهةٍ بعد أخرى مع فصائل المعارضة السورية التي أخذت موضوع خفض التصعيد على محمل الجد.
وما أن انتهت الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، واتضحت مناطق السيطرة الروسية والأميركية، والتي مثّل نهر الفرات حاجزَ فصل طبيعيًا بينها، حتى عادت روسيا إلى التركيز على حسم الصراع مع المعارضة في مناطق خفض التصعيد. وكانت البداية في غوطة ريف دمشق، تبعها ريف حمص الشمالي، ثم منطقة التصعيد في الجنوب الغربي، حيث تم حسم الموقف فيها بالتفاهم مع إسرائيل التي وافقت على عودة جيش النظام إلى الحدود مع الجولان المحتل، في مقابل إبعاد المليشيات الإيرانية عن المنطقة، وعودة العمل باتفاق فك الاشتباك لعام 1974.
في كل هذه المناطق، كانت روسيا تتبع النمط العملياتي نفسه تقريبًا: قصف جوي عنيف يستهدف الحاضنة المدنية للضغط على فصائل المعارضة للاستسلام، يتم على إثره الاتفاق على تسليم الفصائل سلاحها الثقيل، ثم نشر شرطة عسكرية روسية في المنطقة، وترحيل من يرفض اتفاقات المصالحة مع النظام، من مدنيين وعسكريين، إلى منطقة التصعيد في إدلب التي حولتها روسيا إلى مكانٍ لتجميع كل المعارضين على الأرض السورية، ريثما يأتي دورها في الحسم.
3 سيناريوهات
مثلت إدلب آخر مناطق خفض التصعيد التي جرى التوصل إلى اتفاقٍ تفصيليٍّ بشأنها بين تركيا وروسيا في أيلول/ سبتمبر 2017، وبدأ التركيز عليها أخيرًا بعد أن حسم الروس مصير المناطق الثلاث الأخرى. وفي ضوء فشل قمة طهران في الاتفاق على مستقبل المنطقة، يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات ممكنة فيها:
- فصل تركي بين متشدّدين ومعتدلين
أن تنجح تركيا في شراء مزيدٍ من الوقت، لإنضاج جهودها الرامية إلى الفصل بين المعتدلين والمتشدّدين من الفصائل الموجودة في إدلب، وحل مشكلة المتشدّدين الذين يضمون عناصر من هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) وتنظيم حرّاس الدين (معظم عناصره غير سوريين) والجيش الإسلامي التركستاني (التنظيم الجهادي الإيغوري). وكانت روسيا أمهلت تركيا شهرًا لحل هذه المشكلة، حاولت خلالها إقناع هيئة تحرير الشام بحلّ نفسها، ودمج عناصرها من السوريين مع فصائل المعارضة السورية المعتدلة وترحيل “الغرباء” أو الأجانب. لكن هذه الجهود لم تثمر في ضوء رفض الهيئة هذه المطالب؛ وهو ما حدا بتركيا إلى تصنيفها فصيلًا إرهابيًّا، في مؤشرٍ إلى استعداد أنقرة لمواجهتها عسكريًا إذا ظلت مُصرّة على موقفها.
وعلى الرغم من أن هذا السيناريو يبدو ضعيفًا في ضوء إصرار روسيا المعلن على عدم منح تركيا أي وقتٍ إضافيٍّ للاستمرار في جهود عزل المتشدّدين وتفكيك تنظيماتهم، لتجنيب إدلب مواجهة دموية تدفع بمئات آلاف اللاجئين نحو الحدود التركية، فإن موسكو تبدو مع ذلك حريصة على ألا تفجر عملية أستانة، خصوصا بعد أن هدّد الرئيس أردوغان، في قمة طهران، بأن هجومًا شاملًا على إدلب سوف يؤدي حتمًا إلى انهيار هذا المسار، فروسيا تحتاج إلى دعم تركيا في أي عملية سياسية محتملة؛ نظرًا إلى ما تتمتّع به أنقرة من تأثير في فصائل المعارضة السورية، ومن نفوذ كبير على المجتمعات المحلية، خصوصا في شمال سورية.
- هجوم محدود
أن تشن روسيا وحلفاؤها هجومًا محدودًا في إدلب، لتحقيق مجموعة من الأهداف؛ أبرزها دفع تركيا وائتلاف فصائل المعارضة التي أشرفت على توحيدها تحت اسم “الجبهة الوطنية
للتحرير” إلى الدخول في مواجهةٍ مسلحةٍ للقضاء على الجماعات المتشدّدة. وقد تحاول روسيا أيضًا، من خلال عملية عسكرية محدودة، إبعاد فصائل المعارضة أكثر في اتجاه الشمال؛ بحيث تتمكّن من تأمين قاعدة حميميم الجوية التي تتعرّض، بين الفينة والأخرى، لهجمات بطائرات درونز، مصدرها مواقع المعارضة السورية في مناطق تقع في جنوب غرب إدلب، قرب الحدود مع محافظة اللاذقية، وهي المناطق التي تركّز روسيا القصف عليها في المرحلة الراهنة.
أما النظام، فقد يسعى أيضًا، من خلال عملية عسكرية محدودة ضد أجزاء من محافظة إدلب، للسيطرة على القسم المتبقّي من الطريق الدولي بين حلب وإدلب. يعزّز هذا الاحتمال حقيقة أن المعارك التي خاضها النظام ضد فصائل المعارضة على مدى العامين الأخيرين كانت تدور على مسار الطريق الدولي الممتد من الحدود الأردنية جنوبًا إلى حلب شمالًا بطول 450 كيلومترًا تقريبًا. وقد تمكّن النظام، من خلال السيطرة على درعا أخيرا، من تأمين الجزء الواصل نحو الحدود الأردنية، بعد أن أمّن الجزء المتصل بالغوطة الشرقية، ثم الجزء المارّ بريف حمص الشمالي، ولم يتبقّ له للسيطرة على كامل الطريق سوى الجزء الواصل بين إدلب وحلب، والذي يمر في مناطق خان شيخون، ومعرّة النعمان وسراقب، وهي المناطق التي يتركّز قصف النظام عليها حاليًا.
- هجوم شامل
أن تشن روسيا وحلفاؤها هجومًا شاملًا، يهدف إلى إعادة كامل محافظة إدلب إلى سيطرة النظام، وفرض تسويةٍ على الفصائل الموجودة فيها بقوة النيران، والقضاء على من لا يقبل منها. وقد بدأ النظام بالحشد وإلقاء مناشير يدعو فيها السكان إلى العودة إلى حضن النظام، والمقاتلين إلى إلقاء السلاح بحجة أن الحرب انتهت، وأنه لا خيار أمامهم. لكن مثل هذا الهجوم يبدو ضعيف الاحتمال، في هذه المرحلة على الأقل؛ فالنظام لا يملك قدراتٍ بشريةً كافيةً لشن هجوم شامل على منطقةٍ تقترب مساحتها من مساحة لبنان (نحو 10 آلاف كم مربع)، وفيها، بحسب تقديرات عديدة، ما يراوح بين 60 و70 ألف مقاتل من عناصر المعارضة المجهّزين بأسلحة ثقيلة، وممن تمرّسوا بالقتال سنوات عديدة، وهم فوق ذلك يعدّون من أشرس المقاتلين، وأشدّهم عداء للنظام، وليس أمامهم خيارٌ إلا الموت، بعد أن غدت إدلب ملاذهم الأخير. لذلك، فإن معركةً كهذه ستكون طويلةً وصعبةً من الناحية العسكرية من جهة، كما أن شن معركةٍ شاملةٍ بوجود نحو ثلاثة ملايين مدني تعني حمام دم وموجات نزوح بمستوياتٍ غير مسبوقة في الحرب السورية من جهة أخرى. سيولّد هذا الأمر ضغوطًا كبيرة على روسيا، ويصيب بمقتل إستراتيجيتها الجديدة التي تقوم على إعادة اللاجئين، واستقطاب جهود دولية للقيام بإعادة الإعمار. تهجير ثلاثة ملايين لاجئ يعني سقوط الإستراتيجية الروسية الساعية إلى إعادة الشرعية للنظام المتهالك من بوابة إعادة الإعمار واللاجئين.
كما أن وجود 12 نقطة مراقبة عسكرية تركية، تم إنشاؤها بالاتفاق مع روسيا بموجب اتفاق خفض التصعيد، ودفع تركيا مزيدا من قواتها اتجاه إدلب، يهدّدان بحصول مواجهاتٍ بين القوات التركية والقوات المهاجمة، وقد يؤدي هذا الأمر إلى إعادة العلاقات التركية – الروسية إلى المربع الأول الذي تلا إسقاط تركيا طائرة روسية على حدودها مع سورية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.
في هذه الأثناء، يبدو العمل على موضوع اللجنة الدستورية مع دي ميستورا في جنيف إيهامًا للرأي العام بوجود أفق للمسار السياسي مع النظام، في وقتٍ يتم فيه إعادة ترميم نظام الاستبداد في المناطق التي استعادها، والاستعداد عسكريًا لمعركة إدلب.
الموقف الأميركي
يبقى الموقف الأميركي الأشد غموضًا بين مواقف الدول جميعًا، وقد كشف غياب دوره عن مدى استضعاف كل من إيران وروسيا تركيا، بعد تخلي الحليف الأميركي عنها، وعدم إبداء
واشنطن موقفًا واضحًا من تطورات الوضع في إدلب. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، غرّد محذرًا من عملية عسكرية “غير مسؤولة” في إدلب وكأنه معلّق سياسي، من دون أن يوضح ما يعنيه بهذا الكلام، فقد اكتفى أركان إدارته من المدنيين والعسكريين بالتحذير من استخدام السلاح الكيميائي في الهجوم على إدلب، وذلك بحسب مستشار الأمن القومي، جون بولتون، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال جوزيف دانفورد. أما السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، فقد بدت كأنها لا تُعارض شن عملية عسكرية في إدلب، يتم فيها القضاء على التنظيمات المتطرّفة، بشرط عدم استخدام السلاح الكيميائي.
خاتمة
تمثّل إدلب ومستقبلها اختبارًا جادًّا للعلاقة بين شركاء أستانة الثلاثة؛ فمعركةٌ كبرى في هذه المحافظة سوف تؤدّي، بلا شك، إلى القضاء على عملية أستانة، وإخراج تركيا ربما نهائيًا من ساحة الصراع السوري، وإنهاء نفوذها فيه. لكن هذا سيجعل، في المقابل، الحل السياسي الذي تقوده روسيا غير ممكن أيضًا من دون تركيا. ثمّ إن الإفراط في ممارسة الضغوط على تركيا قد يدفع بها مجدّدًا إلى أحضان الولايات المتحدة، على الرغم من أن الرئيس بوتين يراهن على أن هذا غير ممكن بسبب عمق الخلافات بين أنقرة وواشنطن. لكن هذا الأمر قد يتغيّر، إذا قرّرت واشنطن استغلال الضغط الروسي على تركيا، لاستعادتها إلى صفها، وإنهاء أي إمكانية لاستمرار التقارب بينها وبين روسيا، ولا سيما أن واشنطن تتّجه إلى تغيير رأيها، والبقاء في مناطق شرق الفرات، بعد أن ألمحت إلى رغبتها في الانسحاب. في كل الأحوال، لا يبدو أن الصراع على سورية يقترب من نهايته بفتح معركة إدلب، بقدر ما يوحي بدخوله مرحلةً جديدةً عنوانها استمرار الصراع، ولكن بأدواتٍ ووسائل أخرى.
العربي الجديد
اللعب بالكلام الكيميائي فوق إدلب/ بكر صدقي
لا حدود لوقاحة الضواري حين تتكلم. استأنفت «الدبلوماسية» الروسية ـ فرع الإبادة الشاملة، تشغيل آلة الكذب بشأن السلاح الكيميائي الذي ثبت استخدام نظام بشار له 183 مرة، على الأقل، بعد النزع المزعوم لهذا السلاح من يده بين 2013 ـ 2014. ففي كل مرة يثبت بأدلة قاطعة استخدام النظام لهذا السلاح، يتنطح الروس لإنكار ذلك، وكأن الحقيقة تتغير بمجرد إطلاق لافروف أو مساعديه لتصريحاتهم. ربما معهم حق، لأن القانون السائد في العلاقات بين الدول هو قانون القوة: من يملك القوة يملك الحق في الكلام، وعلى الآخرين أن يصدقوا ما يقول، حتى لو كان كذبه واضحاً. شهادة القوي تجب كل الشهادات المعاكسة!
لقد تفوق الروس على أنفسهم في إطلاق كذبة جديدة حول «سيناريو يتم تصويره، منذ الآن، لاتهام النظام الكيمياوي باستخدام هذا السلاح في ضرب مدينة جسر الشغور!» بل يزيد الروسي من عنصر التشويق، فيقول إن «المسلحين قاموا بنقل برميلين من مشتقات غاز الكلور من خربة الجوز إلى جسر الشغور» لكي يتم أخذ عينات من التربة كدليل (مفبرك طبعاً!) على استخدام النظام لغاز الكلور. وقد بدأ التصوير منذ الآن بمشاركة من «الخوذ البيضاء»!
نعم، كل هذه التفاصيل «التقطها» الروس ببراعة استخباراتهم التي تعرف ما سيحدث قبل أن يحدث، على ما ذهب إعلان ترويجي شهير، قبل سنوات، لوسيلة إعلامية ناطقة بالعربية. وحول الدبلوماسيون الروس اللقطة الاستخبارية إلى خبر تتناقله وسائل الإعلام بكل جدية. ومن وسائل الإعلام ينتقل هذا «الخبر» إلى جمهور واسع، بعض منه يتلقفه لإثبات وجهة نظره الثابتة حول المؤامرة الكونية على النظام الكيمياوي ومحور الممانعة، ويبني عليه تحليلات بارعة تصل أبعادها إلى ما بعد بعد إدلب. وكان الزج بالخوذ البيضاء ضرورياً، في هذه المناسبة، لتأكيد صفتها الإرهابية للمرة الألف، ومهمتها الثابتة المتمثلة بالافتراء على «الحكومة السورية» (لاحظت صحفاً عربية تنقل عن قياديين في الجيش الحر تصريحات يستخدمون فيها، حسبما تنسب إليهم، لغة ديمستورا حول «الحكومة السورية» بعد سنوات من استخدامها تعبير «النظام» مع صفات كالمجرم أو الدموي أو الطائفي! لكن هذا خارج موضوعنا).
من أين يأتي الروس بكل هذه الوقاحة في فبركاتهم عن فبركات مفترضة يتهمون بها خصومهم؟ ليس فقط لأنهم يملكون القوة الفظة التي تخولهم إطلاق ما يشاؤون من أكاذيب مفضوحة. بل كذلك لأن الخصوم لا يقلون عنهم خسة، على الأقل في الحالة التي نتحدث عنها هنا، أي الحديث عن السلاح الكيميائي في إدلب. فطوال أيام وتصريحات الأمريكيين والفرنسيين تتكرر بطريقة الضرب على الرأس: إذا استخدم النظام السلاح الكيميائي في الهجوم على محافظة إدلب، سيكون رد الدول الثلاث، الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، قوياً! يبدو أن مسؤولي البلدان الثلاثة يخشون ألا يكون المعنيون فهموا ما بين سطور هذه التصريحات، لذلك فهم يكررونها كل يوم أكثر من مرة.
المضمر في هذه التصريحات، هو أن الهجوم على إدلب من قبل الروس والإيرانيين وتابعهم في دمشق، مسموح. كذلك استخدام كافة أنواع السلاح في هذا الهجوم مباح، باستثناء السلاح الكيميائي.
لكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جافاه النوم وهو يخشى ألا يكون الروس والأسديون فهموا ما يتوجب عليهم عمله. لذلك فقد غادر سريره وكتب تغريدة بديعة على حسابه على تويتر، قال فيها: «لا يجب على الرئيس بشار الأسد في سوريا مهاجمة محافظة إدلب بتهور. سوف يرتكب الروس والإيرانيون خطأ إنسانياً خطيراً بالمشاركة في هذه المأساة الإنسانية المحتملة. يمكن أن يُقتل مئات الآلاف من الناس. لا تدعوا هذا يحدث!»
ثم عاد إلى سريره مطمئن البال ونام بعمق، بعدما وجه نداءه المؤثر إلى الجنس البشري: «لا تدعوا هذا يحدث!» لكي يمنع بشاراً (الذي ارتقى، في لغة ترامب، من مرتبة الحيوان إلى مرتبة الرئيس!) من التهور في هجومه، فيكتفي بهجوم منضبط وعقلاني.
يشعر المرء أنه يشاهد عرض سيرك متوحش، تقوم وظيفة اللاعبين فيه على تهيئة الجمهور نفسياً لمشاهدة الجحيم. فبدلاً من محاسبة روسيا على عدم وفائها بتعهداتها بشأن التسليم الكامل للسلاح الكيمياوي الذي يملكه الأسد، بموجب تلك الصفقة الشائنة بين أوباما وبوتين والأسد في عام 2013، يقوم لاعبو السيرك الفظيع بالحديث عن هجوم كيماوي مفترض سيحدث في محافظة إدلب، وربما تبث وقائعه على الهواء مباشرةً، ويتهمون بها فاعلين مختلفين لم يفعلوا شيئاً بعد!
يقول العقل لا تفكر بذهنية المؤامرة. لكن هذا السيرك القبيح يدفعك دفعاً لتفكر بتلك الطريقة: كأنه ثمة اتفاقاً، بين الروس من جهة والأمريكيين وحلفائهم من جهة ثانية، على استخدام السلاح الكيميائي في الهجوم على إدلب، بحيث تتهم واشنطن ولندن وباريس نظام بشار الكيمياوي به، ويرد لافروف باتهام الخوذ البيضاء به. وبذلك تنتهي هذه «القصة» بتطبيع استخدام السلاح الكيميائي، بعد عقود على تحريمه دولياً، بفضل عالم «ما بعد الحقيقة». فلم يعد تمييز الحقيقة من الكذب ممكناً، ما دام الكذب محروساً بالقوة العارية لبلطجية هذا العالم.
٭ كاتب سوري
القدس العربي
مصير إدلب: قصة موت معلن/ بكر صدقي
انتهت قمة ثلاثي أستانة، بوتين وأردوغان وروحاني، إلى فشل المسعى التركي لتأجيل معركة إدلب “القيامية”. فقد بدأت حملة القصف الجوي لبعض مناطق المحافظة قبل انعقاد القمة، تمهيداً لاجتياح المحافظة من قبل الميليشيات الإيرانية – الأسدية. وكان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، صريحاً في رفضه مطالبة أردوغان بمهلة إضافية من وقف إطلاق النار لتفكيك هيئة تحرير الشام / جبهة النصرة سابقاً، بعدما أعلنتها أنقرة “منظمة إرهابية”. صحيح أن موقف الرئيس التركي، في طهران، كان معززاً بالمظاهرات الشعبية في بلدات المحافظة، وبتحذيرات أميركية – أوروبية موجهة إلى روسيا في مجلس الأمن، ولكن لا بوتين يحسب حساباً للرأي العام الشعبي، ولا التكتل الغربي أظهر جدية في تحذيراته، بدلالة التوكيد المتكرر على أن الممنوع الوحيد هو استخدام السلاح الكيماوي، مع إباحة كافة أنواع الأسلحة الأخرى ضمناً. أي أن الأميركيين والأوروبيين لا يعترضون، من حيث المبدأ، على معركة استعادة المحافظة لمصلحة النظام الكيماوي، بشرط أن تكون “نظيفة” من الكيماوي. ثم أن واشنطن التي وافقت على استعادة منطقة “خفض التصعيد” الجنوبية التي كانت مشاركة في ضمانتها، لا يتوقع منها أحد أن تعترض على استعادة النظام لمنطقة خفض التصعيد في إدلب، وهي بضمانة تركية، في وقت يعبر فيه ترامب، كل يوم، عن استيائه من أردوغان و”خيبة أمله” منه بسبب قضية القس برونسون، والقضايا العالقة الأخرى بين البلدين.
الغريب أن الرئيس أردوغان، في طريق عودته من طهران، لم يظهر أي خيبة أمل بنتائج قمة طهران التي عقدت على الهواء مباشرةً. وهو ما قد يشير إلى تفاهمات غير معلنة مع موسكو /أو طهران، بخصوص مسائل بعيدة عن موضوع إدلب.
على سبيل المثال، ذكر أردوغان، بتعابير ملتبسة، طلب إيران من تركيا إنشاء قنصلية تركية شرقي الفرات! فقال إن تركيا ليست في وارد ذلك حالياً، وأن الموضوع متروك لما بعد المضي في الحل السياسي الشامل في سوريا (الدستور والانتخابات). لا نعرف ماذا يعني الطلب الإيراني الغريب. هل المقصود هو إقامة علاقة دبلوماسية، بمستوى منخفض، قنصلي، بين تركيا ونظام الأسد، في قلب “المنطقة الأميركية” شرقي الفرات؟
سؤال فتح قنوات دبلوماسية مع نظام الأسد كان مطروحاً من قبل الصحفيين المرافقين لأردوغان في الطائرة التي عادت به إلى تركيا. وقد أجاب عليه بوضوح: “هذا غير مطروح”. وحين ألح عليه الصحفيون بالسؤال عما سيكون الموقف من العلاقة مع نظام بشار، في حال أعيد انتخابه في العملية السياسية المرتقبة بعد انتهاء الحرب، ركز أردوغان على اهتمام تركيا بالدستور والانتخابات، وبضرورة أن تعكس هذه إرادة الناخبين السوريين في الداخل والشتات و”الناخبين الجدد” كما قال، وأكد أن موضوع بشار الأسد لم يطرح أبداً في القمة.
واهتمت بعض الصحف التركية، على هامش قمة طهران ونتائجها، بموضوع آخر متصل بما بعد معركة إدلب: عن صراع روسي – أميركي مرتقب على مخزون ثروة الغاز في شرقي البحر الأبيض المتوسط، باعتباره أحد “جوائز” من سيفوزون في الصراع السوري المديد. وهو صراع يعني عدداً من دول المنطقة، إسرائيل وقبرص واليونان وتركيا ومصر إضافة إلى أوروبا كسوق استهلاكية، والصين كسوق استهلاك بديلة عن أوروبا. ولا يذكر أحد لبنان وسوريا اللذين هما خارج “الوليمة” لأسباب معروفة.
ففي حين تفضل روسيا بيع غاز شرقي المتوسط إلى الصين، لكي تبقى هي نفسها المصدر الاحتكاري للغاز إلى أوروبا، بما يجعل الأخيرة معتمدة عليها، يضغط الأميركيون باتجاه تصدير الغاز الإسرائيلي والقبرصي – عبر اليونان بدلاً من تركيا – إلى أوروبا. الحشد العسكري الروسي شرقي المتوسط، بمناسبة مناورات بحرية روسية من المقرر أن تجري، بعد أيام قليلة، بمشاركة صينية محتملة، قد تكون بمثابة تحدٍ لواشنطن وحلفائها الأطلسيين في هذه البقعة الخطرة. هذا الصراع الصامت، إلى الآن، هو ما يكمن في خلفية إصرار روسيا على البدء بمعركة إدلب فوراً.
ظاهرياً تبدو أنقرة وواشنطن في جانب واحد من الصراع بخصوص إدلب، بدلالة التصريحات التي أطلقها أردوغان في طهران، والسفيرة الأميركية في مجلس الأمن. ولكن إذا أدخلنا على التحليل كلاً من الطابع الخلبي لتصريحات هايلي ضد روسيا، والرغبة الأميركية بإخراج تركيا من مولد غاز شرقي المتوسط بلا حُمُّص، اتضح أن تركيا قد تزداد ارتهاناً لروسيا في الفترة المقبلة، على رغم الخلاف بشأن معركة إدلب. وقد تكتفي أنقرة من هذه المعركة بضمان أمن جنودها الألف ومئتين في نقاط المراقبة المنتشرة في المحافظة، تاركة أمر “تصفية الإرهابيين” لموسكو وطهران، ولو على مضض. ومن المحتمل أن يتجه نزوح المدنيين من مناطق القتال إلى كل من عفرين و”درع الفرات”، وضمناً مقاتلي الفصائل “المعتدلة” بعد إلقائهم السلاح كما يطالب بوتين.
يبقى كل هذا على الورق على أي حال. فلسنا نعرف كيف ستتطور الأمور في معركة إدلب، وما المدى الزمني الذي تحتاجه روسيا لاستعادة السيطرة على المحافظة، وهل يضرب النظام بعض نقاط المراقبة التركية “عَرَضاً” متمرداً على سيده الروسي، مدفوعاً بحقده على الدور التركي، وما يمكن أن تفعله تركيا في مواجهة احتمال من هذا النوع. وهل يصر بوتين على استخدام السلاح الكيماوي ليكشف مجدداً حدود الإرادة الأميركية في سوريا، بعد حادثتي مطار الشعيرات و”العدوان الثلاثي”؟
أم أن أردوغان يخبئ مفاجأة تتمثل في تسليم محافظة إدلب بلا قتال، بعد حل “تحرير الشام” وإلقاء مقاتلي الفصائل سلاحهم كما حدث في مناطق “خفض التصعيد” الثلاثة الأخرى، وذلك مقابل تعزيز الوجود التركي في كل من عفرين و”درع الفرات”؟ فقد أثبتت تركيا قوة نفوذها في إدلب، سواء لدى الفصائل أو لدى السكان المدنيين، بدلالة التظاهرات التي انطلقت دعماً له في قمة طهران.
تلفزيون سوريا
ارحموا أهلنا في إدلب من نزواتكم/ سوسن جميل حسن
يعيش السوريون اليوم، خصوصا في محافظة إدلب التي تضم حوالي ثلاثة ملايين فوق أرضها، حالة من الترقّب والرعب من تصعيد العمليات الحربية فيها، الأمر الذي سينجم عنه إزهاق أرواح وتهجير سكّانٍ، من المرجّح أن الحدود كلها ستغلق في وجوههم، مثلما وقع مع سكان درعا عند تصعيد العمليات الحربية، وكيف دفعتهم الحرب إلى العراء، بعدما أغلقت الحدود في وجوههم.
انطلاقًا من هذا الواقع، وهذا الاحتمال، واستحضارًا لقرائن مماثلة حصلت في عدة أماكن من سورية، بعد حصار وتجويع وعمليات حربية دامت شهورًا طويلة، انتهت أخيرًا بمصالحات نجمت عن مفاوضات برعاية روسية بشكل مباشر، وبمباركة مواربة من بقية الأطراف الضالعة في الحرب السورية، من المنطقي القول إن الأولوية الملحّة الآن هي حقن الدماء بوقف العمليات الحربية، والبحث عن طرق بديلة، بالتفاوض بين الأطراف المتنازعة، فالواضح أن الصراع في سورية اتّجه باكرًا نحو أن يكون على السلطة والنفوذ والاستئثار بالحكم. وبالتالي، كان الحكم للسلاح، ولم تكن هناك عملية سياسية في أيٍّ من أوقات الحراك السوري، والحرب من بعده، لأن الأطراف كلها، بين نظامٍ ومعارضيه، مرتهنة للخارج ولمصالح إقليمية ودولية، فتسعى هذه الأطراف إلى رعاية مصالحها وضمانها، والقمة في طهران أخيرا بين رؤساء روسيا وتركيا وإيران، بوتين وأردوغان وحسن روحاني، وما نجم عنها من تعنّتٍ في المواقف، خير مثال.
غياب العمليات السياسية ليس جديدًا، بل هو أحد ملامح الأزمة السورية الممتدة على عقود من الاستبداد والاستئثار بالحكم، نجم عنه غيابٌ للمعارضة السليمة والمعافاة، فالمعارضة، بمفهومها الأساسي، ليست جبهة تقود صراعًا من أجل البقاء والوصول إلى السلطة فقط، بل هي نشاط سياسي اجتماعي لخدمة الصالح العام، هذا هو الدور المهم الذي تتكفّل به، وبالتالي لديها خطط واستراتيجيات، وتقوم بنقد الأداء السياسي للنظام القائم، هذا في الدول التي تنتهج الديمقراطية، وتكون لديها أحزاب معارضة تلجأ إلى صناديق الاقتراع، لتحصل على أكبر نسبة من الأصوات، من أجل الوصول إلى البرلمانات وامتلاك الأغلبية في التصويت على المشاريع المقترحة، من أجل أداء الحكومة على الصعيدين، الداخلي والخارجي. وعندما تكون هناك أحزاب عديدة، تلجأ هذه إلى تشكيل ائتلافات من أجل الحصول على كتلة برلمانية وازنة. هذا في الدول الديمقراطية، أما في الدول التي يحكمها نظام استبدادي أو عائلي، فليست الأمور بهذا التنظيم أو الحركية الفعّالة، فعندما لا تكون هناك عملية ديمقراطية واقتراع وانتخاب نزيهة، تمارس البرلمانات في الأنظمة الاستبدادية دور الحكومة، وهي برلمانات تسلطية استبدادية لا تمثل قضايا الشعب. ولا تقبل هذه الأنظمة الشمولية الاستبدادية معارضًا فعليًا لنظامها وأدائها السياسي وطرق إمساكها زمام الأمور في الدولة والمجتمع، وهي تعتبر أن أي معارضة لحكمها تمثل خطرًا على أمنها، ولذلك تلجأ إلى قمعها وحظرها من العمل السياسي، العلني والسري، فهي لا تقبل أي رفض لسياستها والاعتراض عليها، وتعتبر أن المعارضة بمثابة خروج عن النظام، ونقد أداء النظام وسياساته، بل نقد الوضع الراهن، مهما بلغ شأن الفساد فيه والركود والمشكلات المستعصية، خيانة وعصيانًا يستوجبان العقاب.
من هذا المنطلق، كانت العملية السياسية غائبة تمامًا في سورية عقودا خلت، ولم تكن هناك أحزاب يمكنها الاضطلاع بدور قيادي تنويري، يؤسّس في المجتمع ثقافة وعي الذات والآخر والحقوق والواجبات والتعدّدية والمساهمة في صنع القرارات، ومفاهيم الديمقراطية والعدالة والمساواة وغيرها، فقد كانت تلك الأحزاب مستهدفةً من النظام، فمزّقها وشرذمها، واستعمل كل أشكال القوة في تفتيتها وجعلها مشلولةً عاجزة عن القيام بأبسط الأدوار الموكلة إليها، مستعيضًا عنها بجبهةٍ وطنيةٍ تقدّمية يجري تشكيلها في الفروع الحزبية لحزب البعث والفروع الأمنية، وتتم العملية الانتخابية الهزلية بكل وضوح وفجور، لتصل القوائم إلى مجلس الشعب الذي لم يمثل يومًا إلا إرادة السلطة الحاكمة. ولا يغيب عن الأنظمة من هذا النوع إحساسُها بضعف شرعيتها وانعدامها وبعدم متانة ركائزها الاجتماعية، ولذلك تلجأ إلى تعزيز وجودها بمزيدٍ من القمع والعنف وتقييد الحريات وانتهاك الحقوق الأساسية. لوحقت الأحزاب في سورية، وكان تعامل النظام معها مزيدًا من القمع والملاحقة والتفتيت، اليسارية والعلمانية منها، أو الإسلامية، وإذا كان العنف المبالغ به مورس على جماعة الإخوان المسلمين، فلأن هذه الجماعة كانت أكثر تماسكًا وتنظيمًا ودعمًا، وكانت الوحيدة التي واجهت النظام بطرق عنفية، ونجم عنها جناح مسلّح، واجه بسلاحه الدولة والمجتمع، فوجّه إليه النظام ضربة قاضية. لكن، ما الذي حدث في العقود اللاحقة؟
تبدّدت الأحزاب اليسارية والعلمانية، وانشقت عن بعضها بعضا، وبقيت من دون دعم خارجي، بينما كانت الجماعات الإسلامية تعيد تنظيم نفسها وصفوفها، وتضع خططها واستراتيجياتها، بدعم وتمويل من جهاتٍ عدة خارجية وإقليمية، وتعمل على تأسيس كوادر شعبية، مستغلة الفراغ الروحي والفكري الذي صار يتمكّن من الناس، في وقت كان المجتمع السوري يغرق في ركوده، وتنحدر حياته المعيشية والفكرية، وتنشط فيه النزعات الدينية والطائفية والمذهبية، بينما النظام السياسي ماضٍ في أسلوب حكمه، محاصرًا الحريات، منتهجًا سياسات اقتصادية فتحت الأبواب مشرعةً للاقتصاد الحر، ولرؤوس الأموال المتغوّلة في موارد البلاد وحياة البشر، فكان الإحساس بالظلم يزداد ضراوةً، والوعي العام ينحدر إلى مستوياتٍ أدنى، ويجنح الناس في حياتهم وسلوكهم نحو الحالة البدائية للتنظيم، إلى ما قبل الدولة، نحو القبلية والعشائرية والعائلية والطائفية، وصارت فئات المجتمع السوري مجموعاتٍ وتكتلاتٍ تقوم على انتماءاتٍ ضيقةٍ تمارس المعارضة ضد بعضها بعضا.
منذ بداية الحراك السوري، لم تستطع الأحزاب والجماعات المعارضة أن تشكّل جسمًا أو ائتلافًا قادرًا على أن يضع أهدافًا وخططًا يُقنع السوريين بها، ويسعى إلى تحقيقها. باكرًا انحدر الحراك، تحت سلطة التشكيلات المعارضة التي سادت على الموقف السياسي إلى العسكرة والسلاح، وإلى الارتهان إلى الخارج. ومع ازدياد العسكرة والاعتماد على السلاح وطول أمد الحرب، ابتعد الحراك السوري عن الأهداف التي انتفض الشعب لأجلها، ولم يعد هناك حراك ثوري، بل صراعٌ واقتتالٌ على السلطة وتدويرٌ لنظام قمعي، يفوق في بعض طروحاته النظام القائم قمعًا وإقصاءً، والمثال الحي الآن الفصائل الأقوى المسيطرة على الحياة في إدلب، جبهة النصرة وحلفاؤها، والتي ترهن ثلاثة ملايين سوري تحت سيطرتها. السؤال الجوهري: ما
الذي تريده هذه الفصائل وما هو برنامجها؟ ما هي الشعارات التي يمكن أن تُقنع السوريين بها؟ هي فصائل مقاتلة، مرجعيّتها دينية متطرّفة، تدعو إلى حكم إسلامي شمولي. لم يخفِ قادتها، منذ البداية، مشروعهم هذا، وموقفهم من بقية الأفراد والمجموعات التي لا تشبههم، وعنفهم وتطرّفهم في استخدام القوة ومصادرة المجال العام وتكريس استبداد ديني وحكم قمعي عنيف.
ثلاثة ملايين سوري تحت رحمة المزاودات والرهانات غير المدروسة، أو على الأقل التي لا تضع مصلحة الشعب وحماية حياته في أولوياتها، وسيطرة الجهات المرتهنة إلى الخارج، تمارس ساديّتها على الشعب، وتتلذذ بمازوخيّتها تجاه أسيادها ومموليها وماسكي رقابها.
ليتفضّل الذين يريدون من أهلنا في إدلب أن يحتملوا القصف، ويواجهوا الرصاص بشجاعة ولا مبالاة، ويبقوا مرتهنين لأمزجة المسلحين وبنادقهم وأهوائهم، ويطرحوا البرنامج البديل، ماذا لديهم غير إسقاط النظام؟ ما هو برنامجهم القريب والبعيد، وما الذي يمكن أن يفاوضوا عليه؟ سورية للسوريين، ومن يستلم قرارها اليوم ليس سوريًا، ولن يكون رحيمًا بأهلها. القمة الثلاثية هي قمة التغول بحياتنا، نحن السوريين، تعرض نفسها أمام العالم غير المبالي بمصيرنا، وبمستقبلٍ لا يمكن، إذا استمر فيه السلاح في القول، أن يخلّف أكثر من دولة مشلولة، زيادة على دمارها، لن تستطيع النهوض.
العربي الجديد
مصير إدلب ومستقبل سوريا/ د. خطار أبودياب
لم يُكتب مصير إدلب يوم 7 سبتمبر 2018 مع انعقاد القمة الروسية- الإيرانية- التركية في طهران وجلسة مجلس الأمن الدولي لمتابعة الوضع في هذا الجزء من الشمال السوري، بل إن تطور مسار الحروب السورية منذ التدخل الروسي قبل ثلاثة أعوام، وميزان القوى الدولي والإقليمي، كانا يقودان نحو نتيجة لمصلحة المعسكر الداعم للنظام. لكن معركة إدلب لن تكون الأخيرة في حقبة تصفية الحروب السورية بل إن مصير المناطق التي تتواجد فيها قوات أميركية في شمال وشرق الفرات سيكون محور تجاذبات حساسة وأبرزها اختبار قوة بين موسكو وواشنطن.
ولذا فإن الفصل الجديد الذي سيدور في إدلب وجوارها يندرج في سياق رقصة الموت المتنقلة على الركام السوري منذ 2011، وسيزيد من انطباع المنظومة الحاكمة بتحقيق النصر الحاسم واستمرار بقائها إلى الأبد، لكن الانتصار في معركة السلام هو مسألة أخرى. أما مستقبل سوريا فيبقى مرهوناً بمسار إعادة تركيب الإقليم وعدم انتهاء الوظيفة الجيوسياسية للحروب السورية.
قبل قمة طهران وجلسة نيويورك، كانت كل الدلائل تشير إلى بدء العد العكسي لهجوم في جنوب وغرب إدلب، أو لترتيب روسي- تركي توافق عليه إيران، خاصة بعد إعلان أنقرة إدراج هيئة تحرير الشام على لائحة المنظمات الإرهابية.
ومع النجاحات في حسم معارك الغوطة والجنوب خلال هذا العام، بدأت روسيا في الاستعداد لما تعتبره المنازلة الأخيرة ضد آخر معاقل القوات المناهضة لبشار الأسد، ولهذه الغاية أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتجميع أكبر حشود جوية وبحرية قتالية تنشرها روسيا من أجل عملية واحدة منذ الحرب العالمية الثانية، ويشكل ذلك رسالة لواشنطن وقفزة في مسعى فرض “الانتداب الروسي” وتحقيق إنجاز سياسي يترجم الإنجازات العسكرية. ومن جهة أخرى، أفادت مصادر سورية عن إرسال إيران، هذا الأسبوع، مجموعات إضافية من الحرس الثوري ومن الباسيج للمشاركة في معارك شمال غربي سوريا، وربما يمثل ذلك تطبيقاً لاتفاقية التعاون العسكري الإضافية التي وقعها وزير الدفاع الإيراني أمير خاتمي إلى دمشق في الأسبوع الماضي.
وهكذا تتماشى موسكو وطهران مع التزامهما السياسي والعسكري إلى جانب نظام الأسد لاستكمال الحسم العسكري. أما تركيا التي تعتبر أن أمنها القومي سيكون على المحك في حديقتها الخلفية في الشمال السوري فتوجد في الخط الأمامي، وتحاول معارضة هجوم واسع النطاق قرب حدودها ولكنها تحتفظ بموقف غامض، لا سيما في تعاملها مع الجماعات المتطرفة، وتبرر ذلك بسبب أولوية قتالها ضد الأكراد السوريين في حزب الاتحاد الديمقراطي (المرتبط بحزب العمال الكردستاني).
في مواجهة هذا الاستحقاق، تسعى أنقرة للاستفادة من اهتمام موسكو بزعزعة التزامها الأطلسي، ورغبة واشنطن في عدم خسارتها بالرغم من علاقاتها المتوترة مع أنقرة التي أثرت على الاقتصاد التركي. وكان من اللافت أن تصاعد الضغوط حول إدلب في الأيام الأخيرة أتاح استئناف الاتصالات الثنائية وقام الممثل الأميركي الخاص لسوريا جيمس جيفري بزيارة إلى أنقرة يوم الثلاثاء وأجرى محادثات مع وزير الدفاع التركي. ومن هنا يمكن لتركيا أن تراهن على تعزيز موقفها في قمة طهران في مواجهة الروس والإيرانيين لجهة اهتمام ترامب المفاجئ بالملف السوري وتغريداته التحذيرية حيال “مأساة في إدلب”، ودعوة واشنطن إلى عقد اجتماع خاص لمجلس الأمن الدولي في نفس يوم انعقاد قمة طهران. لكن لا يظهر أن موسكو سيلين تصميمها ويبدو كأنها لا تأبه بالتصريحات المشتركة أو المنفصلة لواشنطن وباريس ولندن، وتكرار توخي التدخل فقط في حالة استخدام الأسلحة الكيميائية من قبل النظام السوري في الهجوم. وفي هذا السياق اعتبر الكثير من المعارضين السوريين أن التحذيرات الأخيرة تشبه نوعاً من ضوء أخضر لهجوم بالأسلحة التقليدية، وتأكيدا لتخل أميركي وغربي منذ معركة حلب أواخر 2016.
عشية اجتماعي طهران ونيويورك تسرب توصل الروس والأتراك إلى اتفاق على خمس نقاط:
– تولّي تركيا حل هيئة تحرير الشام ومنحها الوقت الكافي لإتمام ذلك.
– إنشاء نقاط عسكرية روسية في المناطق التي تتواجد فيها النقاط التركية ودخول النظام لها إداريا وليس عسكريا.
– تعهد تركيا بعدم استهداف القوى المعارضة الموجودة في المناطق التي تسيطر عليها باستهداف مناطق النظام أو قاعدة حميميم والقوات الروسية.
– فتح الطرقات الدولية بضمانات الدول الثلاث حيث تقوم كل دولة بتأمين الطريق في مناطق سيطرتها.
– إرساء تعاون استخباري تركي مع روسيا وإيران ضد القوى الإرهابية.
بغض النظر عن مجمل المناورات الدبلوماسية للأطراف المنخرطة، لا يبدو أن العامل الإنساني في الحسبان لأن محافظة إدلب التي كانت تضم أقل من 900 ألف نسمة قبل 2011، يسكنها اليوم أكثر من ثلاثة ملايين نسمة بعد تدفق النازحين من كل سوريا إليها، وكذلك المقاتلين من حلب والغوطة والرقة والقنيطرة والقلمون ودرعا وغيرها. والمريع اليوم في حال إتمام الهجوم لن تكون هناك إدلب أخرى بعدما أراد البعض جعل إدلب الحالية “تورا بورا جهادية” لإتمام مخطط التدمير المنهجي والتغيير الديموغرافي. لن يكون هناك من مكان آمن للبؤساء والهاربين من الجحيم لأن تركيا بنت جداراً محصناً تحميه جندرمتها، ولأن ما تبشر به الأمم المتحدة من نزوح ممكن لـ800 ألف شخص لا يبدو أنه يحرك ما تبقى من ضمير عالمي إزاء قتل الإنسانية ونفيها في سوريا.
هكذا يمكن للترتيبات بين أطراف اتفاقيات أستانا وسوتشي تقرير مصير الفصائل المقاتلة. وفي هذا الإطار يقول مصدر سوري إن تأخر أنقرة في معالجة وضع جبهة النصرة كان يعود إلى رغبتها في استخدامها شرق الفرات ضد الأكراد وربما الأميركيين. ومن المعيب أن يتنبه البعض في العالم إلى أن بعض أنحاء إدلب تؤوي أهم مراكز تنظيم القاعدة، وكأن الدول الأطلسية وروسيا وتركيا وإيران لم تراقب وتسمح -بشكل أو بآخر- بتجمّع أطراف “حرب الجهاديين” من متطرفين وميليشيات موالية لإيران على السواء.
ضمن هكذا عبث عنفي واستخدام للأرض السورية كمسرح تصفية حسابات وصعود قوى دولية وإقليمية، لا يهم مصير إدلب صناع القرار في العالم، ويبدو أن أمرها متروك لثلاثي قمة طهران وخاصة لتفاهمات وتجاذبات موسكو وأنقرة.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العربي
جعجعة إدلب وطحين القامشلي/ إياد الجعفري
فيما ينشغل العالم بالتطورات المرتقبة في إدلب، يمر تطور لافت في القامشلي، يوحي بأن الأمريكيين، يبثون الحياة في دورهم المتضاءل، بسوريا.
بالنسبة للأمريكيين، تبدو إدلب ملفاً هامشياً، إلى حدٍ ما، ما دام الروس والإيرانيون، سيتقيدون بالخطوط الحمراء التي حددتها واشنطن هناك، وأبرزها، عدم استخدام الأسلحة الكيميائية، وعدم التسبب بخسائر بشرية كبيرة أو موجة نزوح هائلة. لكن، لا يمنع ذلك من استغلال الخلاف التركي – الروسي، بسبب ملف إدلب المعقّد. فتنفيذ عملية جراحية في إدلب، دون كسر الخطوط الحمراء الأمريكية، ليس بالأمر السهل، إلا بتفاهم تركي – روسي، ما يزال متعذراً، حسبما يظهر، حتى الآن. إلا أن ذلك لا ينفي أن واشنطن تريد في إدلب، فقط، تجنب “الأعراض الجانبية” للصراع في سوريا، حسب التعبير الذي استخدمه جيمس جيفري، في إحدى مقالاته، قبل تعيينه مبعوثاً خاصاً لسوريا.
الصوت المرتفع للأمريكيين والأوروبيين، بالتحذير من كارثة في إدلب، يُراد به تحديداً، تجنب عارضين جانبيين للصراع في سوريا، هما، الأسلحة الكيميائية واللاجئين. والأمريكيون يعتقدون، حسب معلومات لديهم، أن الأسد في وارد استخدام الأسلحة الكيميائية، في إدلب، بالفعل. لذلك، فإن التحذيرات الغربية كانت شديدة اللهجة، على أمل ألا يقدم الأسد، بغطاء روسي، على تنفيذ استفزاز جديد، للغرب. لكن حتى لو حصل ذلك، فإن الأمريكيين، سيقدمون برفقة حلفائهم من الأوروبيين، على توجيه ضربات عسكرية، قد تكون أقسى من تلك الأخيرة، في نيسان الفائت. لكنها لن تكون نوعية، بحيث تغيّر موازين القوى على الساحة السورية.
ويبدو أن التحذيرات الغربية أثمرت. فالروس يتعاملون مع ملف إدلب، بحرص شديد، بدافعٍ من خشيتهم خسارة التعاون التركي على الساحة السورية. بل أبعد من ذلك، قد تخسر روسيا، تركيا، كصديق، تماماً، ليعود الأتراك إلى البيدق الغربي، مجدداً، وسط ترحيب أمريكي، بذلك. هذا السيناريو، تخشاه موسكو، لذلك، رغم ما ظهر في قمة طهران، من استقواء روسي – إيراني على الأتراك، إلا أن المشاورات الروسية – التركية، بخصوص تسوية وسط، في إدلب، تجري على قدمٍ وساق.
وبعيداً عن إدلب، في القامشلي تحديداً، يبدو وكأن الفعل الأمريكي يظهر جلياً. ففيما كان الصوت الأمريكي مرتفعاً، دون فعلٍ في إدلب، كان الأمر مختلفاً في القامشلي. إذ يظهر للمراقب من بعيد، وكأن واشنطن أوعزت لحليفها الكردي، أن ينقلب على مساره التفاوضي مع النظام. مسار تفاوضي كان قد كُلل بجولتين ناجحتين، قبل أن يقفز المشهد بعيداً عن طاولات السياسة، إلى ساحات الميدان، ويحصل تحرش من جانب قوى أمن النظام، ترد عليه قوى أمن كردية، باشتباك، سقط جراءه قتلى من الطرفين.
سبق ذلك، حسب نشطاء مطلعين، قيام “الأسايش”، الجهاز الأمني التابع لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، بحملة أمنية ضد مرشحي انتخابات الإدارة المحلية، أجبرهم فيها على كتابة تعهدات بسحب ترشيحهم. هذا التحرك، يأتي كانقلاب على تفاهمات عقدها النظام مع الأكراد في جولتي مفاوضات دمشق، في تموز الفائت، والتي قضت بالسماح بإجراء الانتخابات المحلية التي يديرها النظام، في مناطق سيطرة الأكراد، في منتصف الشهر الجاري. ما سبق لا يمكن تفسيره إلا بأنه توجيه أمريكي، بلجم المسار التفاوضي مع النظام.
اشتباك القامشلي، وما سبقه من انقلاب على إنجازات المسار التفاوضي بين الأكراد والنظام السوري، تعبير عن تحول جزئي في السياسة الأمريكية بسوريا. فـ جيمس جيفري، أكد بصراحة، بعيد تسلمه موقعه، بأن الولايات المتحدة الأمريكية، لن تنسحب قريباً من شمال شرق سوريا. هذا ما أغضب الروس، وليس التهديدات الأمريكية بخصوص إدلب. فشمال شرق سوريا، الغني بالنفط، وذو الموقع الاستراتيجي، هو بيضة قبان السيطرة على سوريا. ويبدو أن الروس كانوا قد ذهبوا بعيداً في رهانهم على انسحاب أمريكي قريب من تلك المنطقة، بناء على حديث ترامب عن ذلك، وبناء على الخط العام في أوساط النخبة الأمريكية، بواشنطن، غير المرحبة بتورط أمريكي طويل الأمد في سوريا. وقرأت روسيا لاحقاً، تحرك الاتحاد الديمقراطي الكردي باتجاه التفاوض مع النظام في دمشق، على أنه تأكيد لوجود نية أمريكية بالانسحاب من شرق الفرات. لكن، سرعان ما انهارت الرهانات الروسية، على وقع تعزيز نفوذ الصقور في إدارة ترامب. إذ يعد جيمس جيفري، من الصقور في نظرته حيال روسيا وإيران. وتحديداً، حيال إيران، التي خبر نشاطها الميليشياوي، في العراق، حينما كان سفيراً لبلاده في بغداد.
ما سبق، لا يعني وجود تغيير نوعي في الاستراتيجية الأمريكية في سوريا. لا نيّة لدى الأمريكيين بالمزيد من الانغماس في سوريا. سيلعبون فقط دور المعرقل لإعادة تأهيل نظام الأسد، في ظل الهيمنة الروسية – الإيرانية في دمشق، وذلك عبر الاحتفاظ بالثلث الغني من سوريا، في قبضتهم، ورفضهم إطلاق عملية إعادة إعمار في البلاد، قبل تسوية سياسية.
وفيما يبدو أن الأمريكيين سيتركون إدلب لمصيرها، الذي سيُحدد في أروقة الكواليس الروسية – التركية، سيرتفع رهانهم من جديد، على شرق الفرات. خاصة بعد أن تعهدت دول حليفة بدفع جانبٍ كبير من التكاليف المالية هناك. فـ إدارة ترامب، لا تريد أن تصرف المال، لكنها مستعدة للتلويح بوجودها المعطّل لأي خاتمة للصراع بسوريا، لا ترضيها، عبر 2200 جندي فقط، على التراب السوري.
في هذه الأثناء، تظهر نظريات عديدة، حول الخطوة المقبلة من جانب روسيا وإيران، ونظام الأسد، في مواجهة البقاء الأمريكي. إحدى هذه النظريات تتحدث عن تنظيمات ستظهر من العدم، وترفع شعار مقاومة “المحتل الأمريكي”، وتنفذ حرب عصابات تستهدف مناطق السيطرة الأمريكية، شرق الفرات. لذلك يبدو في الفترة القادمة، أن الطحين سيكون في القامشلي ومحيطها الجغرافي، في شرق الفرات. أما في إدلب، فتبدو التصريحات الأمريكية، مجرد جعجعة، لا أكثر.
المدن
التعزيزات التركية في إدلب تؤجل المعركة/ عادل حمود
تنبئ وتيرة التحركات العسكرية في محافظة إدلب ومحيطها، بأن كل الأطراف تستعد للمعركة المؤجلة في المنطقة، فالنظام السوري وحلفاؤه يواصلون إرسال تعزيزات عسكرية إلى المناطق المحيطة بالمحافظة والخاضعة لسيطرتهم، فيما روسيا تتحدث عن ضرورة حل مشكلة “التنظيمات الإرهابية” في إدلب بشكل جذري عاجلاً أم آجلاً. في المقابل، ومع تعزيز تركيا لتدابيرها الأمنية عند حدودها، برز أمس، ما كشفته مصادر في المعارضة السورية عن تكثيف أنقرة إرسال إمدادات السلاح لمقاتلي المعارضة لمساعدتهم على الاستعداد لمعركة طويلة الأمد في إدلب. يأتي كل هذا مع كشف الأمم المتحدة من جديد أن النظام استخدم السلاح الكيميائي هذا العام مجدداً لاستعادة مناطق من سيطرة المعارضة، فيما ترتفع التحذيرات الدولية للنظام من استخدام الكيميائي في الهجوم على إدلب. ومن المتوقع أن يحضر ملف إدلب خلال لقاء وزيري الخارجية الألماني هايكو ماس، والروسي سيرغي لافروف، في برلين، يوم غد الجمعة.
ميدانياً، يدفع الجيش التركي بمزيدٍ من التعزيزات العسكرية نحو ولاية هاتاي الحدودية مع شمال غرب سورية، وتدخل بعض هذه التعزيزات بشكل شبه يومي في الأيام الماضية إلى منطقة “خفض التصعيد”، في إدلب ومحيطها، حيث لأنقرة 12 نقطة مراقبة عسكرية هناك. وقال شهود عيان من سكان القرى الحدودية مع تركيا لـ”العربي الجديد”، إن “آلياتٍ مصفحة، ومدرعات، وجنوداً أتراكاً، يصلون تباعاً منذ أيام، عابرين الشريط الحدودي نحو نقاط المراقبة التركية المتوزعة في إدلب ومحيطها وصولاً لشمال حماه قرب مورك”، في الوقت الذي قالت فيه مصادر محلية في مدينة الباب لـ”العربي الجديد”، إن “نحو 20 ألف مقاتل من فصائل الجيش الحر المنضوية في درع الفرات، بدأوا بالاستعداد في المناطق التي يتمركزون فيها حالياً (جرابلس، الباب، إعزاز ومحيطها) لمواجهة احتمالات تصعيدٍ من قِبل النظام بدعم روسي في إدلب”.
في السياق، كشفت وكالة “رويترز” نقلاً عما قالت إنها مصادر في المعارضة السورية، أن تركيا تكثّف إمدادات السلاح لمقاتلي المعارضة لمساعدتهم على التصدي لهجوم متوقع من النظام وحلفائه. وقال مسؤولون رفيعو المستوى في المعارضة، بحسب الوكالة، إن تركيا أرسلت المزيد من المساعدات العسكرية للمعارضين في منطقة إدلب وحولها منذ أن فشلت قمة طهران الأسبوع الماضي في التوصل إلى اتفاق لتجنّب شن هجوم على المنطقة. وقال قائد كبير في الجيش السوري الحر مطّلع على محادثات في الأيام القليلة الماضية مع كبار المسؤولين الأتراك، لم تنشر “رويترز” اسمه، إن “الأتراك تعهّدوا بدعم عسكري كامل لمعركة طويلة الأمد. لن يستطيع النظام أن يصل إلى ما يريد”. وقال قائد آخر بالمعارضة “هذه الشحنات من الذخائر ستسمح لأن تمتد المعركة وتضمن ألا تنفد الإمدادات في حرب استنزاف”. وأضاف “يحصلون على شحنات جديدة من الذخائر. لا يحتاجون أكثر من الذخائر”.
في المقابل، يعزز النظام وحلفاؤه حضورهم في المنطقة، وأفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان عن وصول أكثر من أربعة آلاف عنصر من قوات النظام والمقاتلين الإيرانيين مع آلياتهم وعتادهم إلى ريف حلب الشمالي منذ مطلع الشهر الحالي. في موازاة ذلك، وبعدما شهدت منطقة إدلب وأرياف حماة وحلب واللاذقية المتصلة بها، يوم الثلاثاء وحتى صباح أمس الأربعاء، عودة نسبية لحالة الهدوء الحذر، استؤنفت، أمس، غارات الطيران الروسي وطيران النظام المروحي. وقال المرصد السوري إن قوات النظام استهدفت بقصف صاروخي بلدة التمانعة ومحيطها في ريف إدلب الجنوبي. ومع تصعيد القصف على إدلب ومحيطها منذ مطلع الشهر الحالي، أحصت الأمم المتحدة نزوح أكثر من ثلاثين ألف شخص من ريفي إدلب الجنوبي والجنوبي الغربي، وريفي حماة الشمالي والشمالي الغربي حتى يوم الأحد. فيما أفاد مراسل وكالة “فرانس برس” في القطاع الجنوبي من إدلب عن تراجع حركة النزوح إلى حد كبير، أمس الأربعاء، مع توقف القصف.
كل هذه المعطيات تدل على أن المعركة مؤجلة راهناً في إدلب ومحيطها. ويعزز ذلك تصريح مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرينتييف، الذي حضر اجتماعاً، الثلاثاء، في جنيف، للدول الضامنة لمسار أستانة مع المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا، بشأن اللجنة الدستورية المتعثرة، إذ قال إن بلاده تعمل مع “الدول الضامنة” على حل المسألة في إدلب، بأدنى حدٍ من الخسائر، مع ضمان أمن المدنيين هناك، مضيفاً “إذا تحدثنا عن التأجيل، فيمكن تأجيل محاربة التنظيمات الإرهابية أسبوعاً أو أسبوعين أو ثلاثة أسابيع. ولكن ماذا بعد ذلك؟ يجب حل هذه القضية بشكل جذري عاجلاً أو آجلاً. ولذلك فإن الأمر يتوقف على قدرة المجتمع الدولي على المساعدة في فصل المعارضة المعتدلة الموجودة في إدلب عن المتطرفين”، قائلاً إن إدلب، بحسب اتفاق “خفض التصعيد” في أستانة قبل سنةٍ ونصف، تقع في نطاق المسؤولية التركية و”على تركيا فصل المعارضة المعتدلة عن المتطرفين”.
جاء ذلك مع تجديد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، مطالبته بضرورة بذل كل الجهود لحماية إدلب من “كابوس إنساني لم يحدث له مثيل في الصراع السوري”، مشيراً في مؤتمرٍ صحافي في نيويورك، إلى أن “الوضع الحالي في إدلب لا يمكن تحمله، كما لا يمكن التغاضي عن وجود جماعات إرهابية. ولكن محاربة الإرهاب لا تعفي الأطراف المتحاربة من التزاماتها الأساسية بموجب القانون الدولي”.
وشهد مجلس الأمن مجدداً سجالاً غربياً – روسياً، بشأن سورية. وقال المندوب الفرنسي في الأمم المتحدة، فرانسوا دولاتر، خلال جلسة مجلس الأمن، التي دعت إليها روسيا لمناقشة نتائج قمة طهران الثلاثية حول سورية وإدلب خصوصاً، إن “الحرب على الإرهاب يجب ألا تبرر خروقات خطيرة للقانون الإنساني الدولي. هذه مأساة. ولقد أثبتت التظاهرات السلمية في الأيام الأخيرة أن إدلب ليست مرتعاً للإرهاب. إن الهجوم على إدلب ستكون له تداعيات كارثية. وهناك عشرات الآلاف الذين انتقلوا إلى شمال إدلب لتلافي القصف”، مضيفاً “سنرد إلى جانب حلفائنا على كل استخدام للسلاح الكيميائي في إدلب”.
من جهته، تحدث المندوب الروسي في الأمم المتحدة، فاسيلي نيبنزيا، في الجلسة حول القمة الثلاثية في طهران، قائلاً إن “روسيا وتركيا وإيران، كدول ضامنة، مستعدة للعمل على إعادة بناء المناطق المدمرة، كما أن الدول الثلاث ملتزمة بوحدة الأراضي السورية. لقد تحدثنا عن وجود الإرهابيين في إدلب، ونطالب بأن تتوقف القوات المسلحة عن ضرب الصواريخ على القرى والمناطق المحيطة. لقد أكدت الدول المجتمعة كذلك على التزامها بالفصل بين الجماعات المعارضة وتلك الإرهابية”، مكرراً رواية بلاده حول أن “المجموعات الإرهابية في إدلب لديها إمكانية استخدام السلاح الكيميائي”.
أما المندوبة البريطانية كارين بيرس، فأشارت إلى ضرورة أخذ الوقت من أجل فصل الجماعات الإرهابية عن المدنيين، مضيفة أن “التقدّم إزاء الحل السياسي غير ممكن إن حدث هجوم عسكري على إدلب”. وذهبت السفيرة الأميركية نيكي هيلي، بالاتجاه نفسه، قائلةً إن “روسيا وإيران رفضتا طلب تركيا بوقف إطلاق النار، والولايات المتحدة لا تصدق ما تقوله روسيا وإيران عن إدلب وسورية”.
ويُتوقع أن أي معركة في إدلب ستزيد من المآسي الإنسانية في سورية، خصوصاً أن النظام السوري لم يتوانَ سابقاً عن استخدام الأسلحة الكيميائية لاستعادة المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة. وفي هذا السياق، كشف محققون من الأمم المتحدة يعملون في مجال حقوق الإنسان، في تقرير جديد لهم، أن قوات النظام أطلقت غاز الكلور، وهو سلاح كيميائي محظور، في الغوطة الشرقية التي كانت تخضع لسيطرة المعارضة، وفي محافظة إدلب هذا العام، في هجمات تمثل جرائم حرب. وذكر مسؤول في الأمم المتحدة لـ”رويترز”، أن هذه الوقائع ترفع عدد الهجمات الكيميائية التي وثقتها لجنة التحقيق بشأن سورية في البلاد منذ عام 2013 إلى 39 هجوماً، منها 33 هجوماً منسوباً للنظام، فيما لم يتم تحديد هوية المتسبب في الهجمات الست الأخرى. وأضاف المحققون في تقريرهم “لاستعادة الغوطة الشرقية في إبريل (نيسان)، شنّت القوات الحكومية العديد من الهجمات العشوائية في مناطق مدنية ذات كثافة سكانية عالية، واشتمل ذلك على استخدام أسلحة كيميائية”، في إشارة إلى أحداث وقعت بين 22 يناير/ كانون الثاني وأول فبراير/ شباط في منطقة سكنية في دوما بالغوطة الشرقية. وأوضح التقرير أن غاز الكلور استخدم أيضاً في 4 فبراير بمحافظة إدلب.
وكشفت اللجنة أن التهجير في سورية بلغ مستوى غير مسبوق منذ مطلع العام الحالي. وأكّدت أن أكثر من مليون شخص، بينهم أطفال، هُجّروا بسبب الهجمات التي شنّها نظام بشار الأسد على المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة و”المنظمات الإرهابية”، خلال الأشهر الـ6 الأولى من العام الحالي. وحذّرت من احتمال تكرار هذا الوضع في محافظة إدلب.
العربي الجديد
قمة طهران:أفراح أردوغان الثلاث/ عائشة كربات
أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن سعادته بثلاثة أمور على الأقل حول قمة طهران التي ناقشت مصير إدلب. الفستق، البث المباشر للقمة ودعوة فاترة من نظرائه الإيرانيين والروس لتجنب العملية العسكرية. وعلى الرغم من أن الدعوة كانت مشابهة جداً لدعوات السلام العالمي في مسابقات الجمال، لكنها وُجهت فقط بسبب إصرار أردوغان عليها.
الله وحده يعلم لماذا قرر الإيرانيون أن يبثوا مباشرة على الهواء مناقشات القمة بين القادة، وهو أظهر أردوغان بشكل متكرر على الشاشة بينما كان يتناول الفستق (بالمناسبة نطلق عليه اسم “فستق دمشق” بالتركية). علمنا بالعاملين الآخرين اللذين يسران أردوغان من المحادثات التي أجراها مع الصحافيين على متن الطائرة في طريق عودته إلى تركيا.
أخبر أردوغان الصحافيين بأنه لم يتم إبلاغه بأن المناقشات يجري بثّها على الهواء، ولكن ذلك كان جيداً. لم يشرح لماذا يفكر هكذا. ومع ذلك، ليس من الصعب تخيل سبب سعادته، لأن هذه المناقشات على الكاميرا أظهرت أن للعالم كله من يريد حقاً حلاً غير كارثي في إدلب. في النهاية ، تتمتع مقاومته العميقة لعملية عسكرية واسعة النطاق بدعم من أوروبا والولايات المتحدة. وفي الواقع، لم يتم منح تركيا مثل هذا الدعم الكبير منذ فترة طويلة، وهو ما يجعل يد أردوغان أقوى خاصة تجاه روسيا، حيث إنه يمنح أنقرة مساحة للمناورة ويجعلها تتطلع إلى الاجتماع المخطط في اسطنبول بين روسيا وألمانيا وفرنسا وتركيا، لمناقشة الوضع في إدلب.
في خطابه في قمة طهران وعد أردوغان بأن تركيا ستبذل قصارى جهدها لتحييد التهديدات التي تواجه حلب والقاعدة الجوية للروس في حميميم. وأضاف: “يمكننا أن نحاول تحريك العناصر التي تزعج أصدقاءنا الروس إلى مناطق لن يكونوا قادرين على مهاجمة حلب وحميميم بعد الآن. وبالتالي ، فإن الأماكن الحرجة في إدلب لن تسيطر عليها إلا المعارضة المعتدلة”. لكنه أكد أيضا أنه “في مكان مثل إدلب الذي يتشابك فيه كل شيء، نحتاج إلى تبني أساليب مختلفة لمحاربة الإرهاب تتطلب وقتاً وصبراً”.
لقد عملت تركيا منذ فترة طويلة بصبر كبير على توحيد جماعات المعارضة المسلحة في إدلب وفصلها عن جبهة “تحرير الشام” المرتبطة بتنظيم “القاعدة”. فقط في بداية أيلول/سبتمبر صنفت أنقرة الجبهة كمنظمة إرهابية لإظهار استعدادها لمحاربتها، وأيضاً كرسالة إلى المجموعات الأخرى في إدلب: “استخدم فرصتك الأخيرة لفصل نفسك عن هيئة تحرير الشام، وإلا لن تتمكن من الحصول على الحماية مني أكثر من ذلك”.
قبل يومين فقط من قمة طهران، نشرت إحدى الصحف الموالية للحكومة في تركيا تقريراً يشير إلى أن أنقرة على وشك أن تخبر المجموعات المسلحة الإثنتي عشرة في إدلب (المصنفة متطرفة) بما في ذلك “تحرير الشام” أنه يجب فصلها عن المدنيين، وأن عليها مغادرة وإخلاء مناطق معينة. وسيتم منحهم ممراً آمناً إلى منطقة معينة وسيطلب منهم تسليم أسلحتهم للمجموعات المسلحة المدعومة من تركيا. وإذا رفضوا القيام بذلك، سيكون عليهم مواجهة العمليات العسكرية من قبل الجماعات المدعومة من تركيا.
لكن الظروف على الأرض تجعل تنفيذ مثل هذه الخطة أمراً صعباً. صحيح أن بعض الجماعات المتشددة في إدلب، التي تسمى جبهة التحرير الوطني والتي لها علاقات جيدة مع تركيا، قد اشتبكت في الآونة الأخيرة مع “تحرير الشام”، لكنها ليست مثل الجيش الوطني الذي تسيطر عليه تركيا بالكامل. ومع ذلك، طالما استمرت الهجمات الروسية على إدلب ، فقد يفضلون التنسيق مع “تحرير الشام” بدلاً من القضاء عليهم.
ما يزيد من تعقيد الأمور، هو وجود 12 نقطة عسكرية تركية وحوالي 1000 جندي تركي على طول الخط الأمامي في إدلب وفي عمق أراضي “تحرير الشام”. أي استفزازات ضدهم قد تؤدي إلى عواقب لا يمكن التنبؤ بها.
خسارة إدلب تعني ضعف قبضة تركيا على طاولة المفاوضات. أنقرة تدرك أيضاً أنه بعد إدلب، ستكون المناطق التي تسيطر عليها تركيا في سوريا على جدول الأعمال. تركيا ليست مستعدة للانسحاب من هناك لأنها لا ترغب في إعادة الجماعات التابعة لحزب العمال الكردستاني إلى عفرين لتحجيم تركيا، وقطع روابطها الحدودية مع الشرق الأوسط وخلق المزيد من المشاكل الأمنية لها.
لا داعي لذكر تدفق اللاجئين المتوقع من إدلب إلى تركيا، الأمر الذي سيؤدي إلى مزيد من الضغط على المجتمع التركي وسيضاعف التصدعات السياسية، خاصة أن معظم المواطنين الأتراك بمن فيهم ناخبو حزب “العدالة والتنمية” يسألون بجدية حول وجود اللاجئين السوريين في تركيا. كما أن الأسئلة حول إعادة إقامة العلاقات مع النظام السوري قد بدأت ترتفع، وهي خطوة يقول أردوغان بأنها ستكون مقبولة فقط بعد إجراء انتخابات حرة في سوريا.
لذا، على الرغم من كل هذه الصعوبات، تلزم تركيا نفسها بالتمسك بإدلب حتى مقابل ثمن باهظ. كما أخبر أردوغان المراسلين في الطائرة وهو في طريق عودته إلى تركيا من طهران: “لن نراقب من الخطوط الجانبية ولا نشارك في مثل هذه اللعبة، إذا غضّ العالم النظر عن قتل عشرات الآلاف من الأبرياء لتعزيز مصالح النظام السوري”.
إنه حقا يعني ذلك.
المدن
بانتظار المجهول: آراء من إدلب/ هاديا يحيى
«إنها أرضنا سنعيش فيها ونموت فيها»، هكذا عبّر الحاج الخمسيني حسين الأخرس عن رفضه فكرة النزوح إلى أي مكان على وقع تهديدات النظام السوري وحلفائه المستمرة باجتياح إدلب، ويقول أيضاً: «إن تراءى للنظام بأنه سيقضي على ثورة الشعب السوري بسيطرته على إدلب فهو مخطئ تماماً، لأن ثورة الشعب لا تهزم، وتطلّعُنا للحرية بات حقيقة تجري في عروق كل السوريين، ومهما حاول النظام أن يغطي الحقيقة بقوته وجبروته لن يستطيع ذلك».
الحاج حسين لا يقول إن النظام سيفشل حتماً في التقدم داخل إدلب، لكنه يؤكد أن تقدمه هذا لن ينهي الثورة، كما يؤكد أنه لن يغادر أرضه، أما بالنسبة للمُدرّسة حنان العلوان (35 عاماً) فهي لن تغامر بحياتها وحياة أبنائها إن حدث الهجوم فعلاً، بل هي عازمة على التوجه نحو المناطق الحدودية بحثاً عن طريقة لدخول الأراضي التركية حتى إن كان ذلك عن طريق مهربين، حالها في ذلك حال آلاف من المدنيين الذين سيحاولون الأمر نفسه كما تقول: «ليس من الحكمة أن نبقى تحت النار وقصف النظام وحصاره، نحن المدنيون لا نستطيع سوى المغادرة بأطفالنا وأرواحنا، لان بقاءنا بلا فائدة، بل إنه ربما يشكل عائقاً أمام دفاع الفصائل عن المنطقة».
يحاول سكان محافظة إدلب ومحيطها التمسك بهدوئهم ومتابعة حياتهم، فالأفران تعمل والأسواق مزدحمة ومدارس كثيرة فتحت أبوابها مع بداية العام الدراسي الجديد، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: على ماذا يعوّل أبناء إدلب والمُهجّرون إليها في مواجهة نظام مجرم استعان بميليشيات وقوى أجنبية لفرض سيطرته على كامل الأراضي السورية والقضاء على الثورة؟
لا يزال كثيرون متمسكين بالوعود التركية، إذ تبذل تركيا جهوداً لتجنيب إدلب عملية عسكرية كبيرة يهدد النظام بها منذ أسابيع، والمحافظة تحظى باهتمام تركي كونها منطقة واسعة جغرافياً وملاصقة للحدود التركية، ويقطنها حوالي أربعة ملايين إنسان وفق التقديرات، غالبيتهم من النازحين إليها، كما أنها متصلة جغرافياً بمناطق السيطرة التركية في عفرين وريف حلب الشمالي، ذلك فضلاً عن التواجد التركي الميداني في المحافظة عبر نقاط المراقبة المنتشرة على أطرافها.
الناشط الإعلامي صهيب الكامل (39 عاماً) يرى أن تواجد نقاط المراقبة التركية في مناطق متفرقة في ريف إدلب يمنح الأهالي بعضاً من الأمل بعدم إمكانية مهاجمة المحافظة من قبل النظام، مُرجّحاً أن «الحكومة التركية لم ترسل قواتها إلى إدلب عن عبث، فتلك القوات لم تأتي للتنزه وإنما لضمان جعل هذه المنطقة آمنة من أي هجوم عسكري عليها بحسب اتفاقات أستانا التي تضمنها روسيا وإيران وتركيا». ويضيف الكامل أن تركيا تعمل وبشكل جاد لمنع أي حرب على إدلب، لأن ذلك سيعني تدفق أعداد جديدة وكبيرة من اللاجئين باتجاهها، ولن يكون باستطاعتها ضبط الحدود مما قد يتسبب بأضرار كبيرة لها.
لكن بالمقابل، يرى المحامي نذير السميح (40 عاماً) بأنه من الخطأ الثقة العمياء بتركيا، فهي في النهاية دولة تسعى وراء مصالحها ولن تعرّض أمنها للخطر «من أجل عيون إدلب والسوريين» وفق تعبيره. يضيف: «ألم تكن قد وعدت سابقاً بعدم السماح للنظام بالسيطرة على حلب، ولكن ما الذي حدث؟ لقد قامت بتسليمها مقابل اتفاقيات خفيّة جرت بينها وبين روسيا وإيران على تسليمها عفرين». ولذلك فإن السميح يحذر من مغبة ما أسماه خيبة الأمل إن خذلت أنقرة السوريين في إدلب، ويرى أنه ينبغي اتخاذ كافة الوسائل لمجابهة الأمر بعيداً عن التمسك بحماية الأتراك ودعمهم، فالأمر أشبه ما يكون «بوهم وكذبة كبيرة» على حدّ تعبيره.
من جهته، يستشهد الطبيب حيان البديع بالمثل الشعبي القائل «الغريق بيتمسك بقشة» في إشارة منه إلى أن المدنيين لا يملكون ما يجعلهم يبقون في منازلهم ومناطقهم سوى الأمل بحلّ سلمي تحاول تركيا الوصول إليه: «ربما تكون تركيا جادة هذه المرة بحماية إدلب، لأن الأمر يتعلق بأربعة ملايين مدني قد يُضافون إلى عدد اللاجئين السوريين المقيمين على أراضيها».
وكان الآلاف من أبناء إدلب قد تظاهروا يوم الجمعة الماضي في ساحات مدن وقرى إدلب وشوارعها، في محاولة منهم للتعبير عن رفضهم التام لتقدم النظام باتجاه إدلب ومهاجمتها، ورفعوا أعلام الثورة وهتفوا بشعاراتها وشعارات مناهضة للنظام. كذلك حمل بعض هؤلاء المتظاهرين أعلاماً تركية، وطالبوا تركيا بحماية المنطقة، كما أن بعض الشعارات تضمنت طلباً بفرض الوصاية التركية على المنطقة لتجنيبها المذبحة والتهجير.
أحمد الصدير (32 عاماً) كان أحد المتظاهرين، وهو يقول إن المجتمع الدولي ينبغي أن يتحمل مسؤولياته ويتدخل من أجل منع مجازر النظام في إدلب، مضيفاً أنه ينبغي فسح المجال أمام سوريا ديموقراطية تضم كل السوريين، لكن ما يحصل هو إفساح المجال أمام سوريا «تُهجّر السوريين وتضمّ الروس والإيرانيين». أما المهندس هيثم التناري (28 عاماً) فيقول: «إذا اعتبروا أن جبهة النصرة إرهابية ويهاجموننا بسببها، فلماذا لا تُطبّق قوانينهم هذه على كل من حزب الله وفيلق القدس؟ لقد تعبنا من سياسة العقاب الجماعي وقتل الأبرياء والمدنيين بسبب الإرهاب».
يبدو واضحاً تأثير المجازر المخيفة التي ارتكبها النظام في أنحاء سوريا بدعم روسي وإيراني، وأفضت إلى استعادته السيطرة على مناطق واسعة آخرها الغوطة الشرقية ودرعا. ويحشد النظام قواته على أطراف إدلب اليوم، معلناً استعداده لتكرار السيناريوهات نفسها، لكن فصائل المعارضة تؤكد أن الأمر سيكون مختلفاً في إدلب، ويقول أحد القياديين الميدانيين فيها، أبو محمد الحموي: «إدلب ليست درعا وليست الغوطة، بل ستكون مقبرة لنظام الأسد إن حاول دخولها براً. ربما يستطيع الروس تدميرها بسلاح الجو، ولكن لن يكون من السهل على النظام التقدم شبراً واحداً، ونحن مستعدون لكل الاحتمالات وأعددنا العدة لذلك».
تتواجد في إدلب اليوم خمسة فصائل رئيسية، أكبرها الجبهة الوطنية للتحرير وهيئة تحرير الشام، بالإضافة إلى جيش العزة وكتيبة البخاري الأوزبكية والحزب الإسلامي التركستاني، وفصائل أخرى صغيرة. ويشير الحموي إلى أن عدد مقاتلي هذه الفصائل وتسليحها وتدريبها، وتوحد بعضها مؤخراً، لن يسمح للنظام بالتقدم، وبما أنه لا يوجد إدلب أخرى يلجؤون إليها، فإن المقاتلين سوف يستميتون في القتال والدفاع عن مناطقهم.
لكن الحقوقية سهام العلي (35 عاماً) تذهب إلى القول إن الفصائل في إدلب كثيرة وقوية وتستطيع أن تهزم النظام، وذلك فقط إن «عملت على تجاوز خلافاتها وتوحيد قياداتها والتخلي عن العنجهية والبحث عن النفوذ والسلطة، عندها فقط سينتهي تشرذمها وستحقق شيئاً إيجابياً لصالح حماية المناطق المحررة، أما وأنها لا زالت على تفككها وتناحرها فهي لا تملك الجاهزية الكافية لصد النظام وحلفائه، والدليل على ذلك هو عدم ثقة الأهالي بها وبقدرتها، وتمسك معظمهم بخيار المساعدة أو حتى الوصاية التركية».
موقع الجمهورية
كارثة إنسانية محتملة في إدلب
نشرت وكالة رويترز أمس تقريراً نقل عن مصدر من قوات النظام أن معركة إدلب ستكون على مراحل، وستشمل المرحلة الأولى المنطقة الغربية التي تضم ريف حماة الشمالي الغربي وجسر الشغور وريف إدلب الجنوبي حتى معرة النعمان. وتُظهر هذه التصريحات أن النظام يريد السيطرة على المناطق الحيوية والتي تهدد قاعدة حميميم أولاً وبشكل سريع.
إلا أن تحقيق هذه الخطة يتطلب أيضاً فتح عدة جبهات أخرى تتركز على قطع طرق الإمداد من ريف حلب الغربي، وتقسم إدلب لعدة مناطق معزولة. ويبدو أن جبهة تلة العيس ستكون مرشحة لتشتعل بالتوازي مع جبهات ريف حماة، باعتبار أن السيطرة على مباني منشأة إيكاردا القريبة ستتيح لقوات النظام قطع الطريق الدولي بسهولة.
أما جبهات ريف حماه وجسر الشغور فستنضوي ضمن عدة محاور مرجحة، منها محور مورك باتجاه خان شيخون؛ ومحور من قلعة المضيق لتشتيت القوات في ريف حماة؛ ومحور جورين لقطع الطرق جنوبي جسر الشغور وعزل الجبهتين. فيما ستتولى قطع عسكرية التوجه نحو جسر الشغور وعزل ريف اللاذقية. ويُبنى توقّع هذه التحركات على افتراض أن النظام سيطبق نفس الخطة التي اتبعها قبلاً في الغوطة ودرعا، والتي يحاول من خلالها الضغط على عدة جبهات برفقة قصف عنيف جداً في عمق المناطق المدنية، لخلق صدمة في صفوف القوات التي تواجهه نتيجة الكارثة الإنسانية التي تتسبب بها عمليات القصف الممنهجة، وستكون المنشآت الحيوية الهدف الرئيسي، مثل المشافي الكبيرة ومراكز الدفاع المدني ومحطات المياه والكهرباء.
من المتوقّع أن المرحلة الأولى من العمليات، التي تحدث عنها قيادي في التحالف الإقليمي الداعم للنظام، ستبدأ خلال أيام، لتستبقَ الاجتماعات الدولية المرتقبة الشهر المقبل، في حين سيكون الموقف التركي حاسماً تجاه وضع الجبهات في جسر الشغور وفي ريف إدلب الشرقي، إذ أن قوات الحزب الإسلامي التركستاني، التي تسيطر على جبهات جسر الشغور سيكون موقفها مشكوكاً فيه إذا ما أرادت تركيا السماح للنظام بالتقدم إلى تلك المنطقة، مما يضع جبهات ريف حماه في حصار شبه مطبق.
نتائج مثل هذه العمليات ستكون كارثية، اولاً لجهة قطع الطرقات ومنع حركة المدنيين، الأمر الذي سيضع عدداً كبيراً من أبناء المنطقة تحت رحمة القصف المستمر واحتمال تقدم قوات النظام إلى قراهم دون القدرة على النزوح، كما أن تخوف العاملين الإنسانيين من الاعتقال سيدفع عدد منهم إلى الانتقال إلى مناطق في العمق، ما قد يترك المنطقة دون أي خدمات إنسانية وطبية.
وقد توقعت المتحدثة باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة ليندا توم في تصريح لوكالة فرانس برس أن يصل عدد النازحين في حال اندلعت الأعمال العسكرية في إدلب إلى ثمانمئة ألف، وربما يكون هذا الرقم أكبر من ذلك إذا ما شهدت المناطق القريبة من الجبهات استهدافاً بأسلحة غير تقليدية. إلا أن التركيز فقط على عدد النازحين قد يكون مضللاً، إذ أن الطرق العسكرية التي يتبعها النظام لا تعطي غالباً مجالاً للسكان للنزوح والحركة، نتيجة قصف طيرانه المستمر على الطرقات والمواكب المتحركة عليها، بالإضافة إلى تحركاته العسكرية التي تهدف دوماً إلى خلق ممرات تقطّع أوصال المنطقة المستهدفة وتجعل حركة المدنيين شبه مستحيلة، الأمر الذي سيضع عدداً كبيراً من المدنيين تحت رحمة قوات النظام في أوضاع كارثية. وفي حين سيكون بالإمكان، ربما، الوصول إلى النازحين على الشريط الحدودي أو إلى مناطق السيطرة التركية في عفرين وشمال حلب رغم الصعوبة الشديد في ذلك، إلا أن الوصول إلى السكان المحاصرين سيكون مستحيلاً، ما يضع هؤلاء في ظروف كارثية.
وفي سياق متصل فإن القطاع الطبي سيشهد في مناطق العمليات عجزاً شبه كامل، مع ترجيح توقف أي عمليات لنقل الجرحى عبر الحدود إلى تركيا في حال اندلعت العمليات العسكرية، التي قد تدفع تركيا إلى إغلاق معبر باب الهوى. وستكون الطريقة الوحيدة المتاحة هي استخدام المنشآت الطبية في ريف حلب الغربي، بعيداً عن العمليات نوعاً ما، على الأقل في مرحلتها الأولى؛ وتلك الموجودة في مناطق السيطرة التركية، إلا أن تلك المنشآت غير قادرة على استيعاب أعداد كبيرة وخدمة الكم الكبير المُتوقّع من النازحين، الأمر الذي سيضع القطاع الطبي في كامل إدلب ومحيطها في وضع حرج للغاية.
لا يمكن لأرقام أن تصف شكل الكارثة الإنسانية في إدلب إذا ما بدأت العمليات العسكرية فعلاً في المنطقة، وعدا عن التحذيرات من وقوع الكارثة، لا يبدو أن أي طرف دولي أو إنساني يريد التحرك للتعامل مع الأمر والعمل على إيقافه، حتى أن اجتماع رؤساء روسيا وتركيا وألمانيا وفرنسا لن تتأثر أجندته، ربما، بتلك النيران التي ستحاصر أكثر من ثلاثة ملايين إنسان شمالي غرب سوريا.
موقع الجمهورية
مقاتل سابق في المعارضة: ذاهبون إلى إدلب لنكون الضامن بين النظام والفصائل/ قتيبة الحاج علي
تواصل قوات النظام السوري وحلفاؤها التحشيد العسكري والإعلامي تحضيراً لمعركة محافظة إدلب في شمال سوريا، آخر معاقل النفوذ المباشر لفصائل المعارضة، بعد سقوط محافظتي درعا والقنيطرة بيد قوات النظام قبل أقل من شهرين.
الجديد في معركة إدلب، سيكون مشاركة فصائل من المعارضة سابقاً، إلى جانب قوات النظام بعد اتفاقية “التسوية” التي تمت، خلال الأسابيع الماضية، بين الجانبين في جنوب سوريا، تحت الضمانة الروسية، لتفرض على الفصائل المشاركة إلى جانب قوات النظام في معاركها ضد “الإرهاب”، والتي شهدت منطقة حوض اليرموك في ريف درعا الغربي أولها، بعدما شنت قوات النظام وفصائل المعارضة هجوماً مشتركاً ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في المنطقة وانتهى بالسيطرة عليها بالكامل.
على رغم أن الاتفاقية أعطت المطلوبين للخدمة الإلزامية والاحتياطية في “الجيش السوري” مهلة ستة أشهر قبل الالتحاق، إلا أن الوعود والمغريات الروسية استطاعت استمالة آلاف الشباب في محافظة درعا وتجنيدهم، وكان معظمهم ضمن تشكيلات فصائل المعارضة قبيل سيطرة قوات النظام على مدنهم وبلداتهم.
إذاً، فالمكاسب التي حققها النظام من المشهد الذي آلت إليه المنطقة الجنوبية، لم تقتصر على إنهاء وجود المعارضة عسكرياً، بل توسعت إلى تحويل مقاتلي هذه الفصائل، بعددهم المقدر بالآلاف وما يملكونه من خبرة قتالية، من خصوم للنظام إلى حلفاء له، وهو المكسب الذي لم يتأخر في استغلاله، عبر الزج بهؤلاء المقاتلين في معركته الجديدة المرتقبة في محافظة إدلب.
ما يزيد عن 5 آلاف مقاتل من فصائل محافظة درعا سابقاً، ممن تم تجنيدهم ضمن “الفرقة الرابعة” التي يقودها ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري، و”الفيلق الخامس” المدعوم روسياً والمشكّل حديثاً في جنوب سوريا، تم نقلهم إلى جبهات محافظة إدلب خلال النصف الثاني من شهر آب/أغسطس، ليضع هذا العدد علامة استفهام كبيرة حول الأسباب التي دفعت بهؤلاء المقاتلين إلى “الانقلاب” على معارضتهم للنظام، والانضمام إليه في قتال معارضيه.
أحمد الرشدان، أحد مقاتلي فصائل المعارضة سابقاً، والمنضم إلى “الفيلق الخامس”، أوضح في حديثه مع “درج” جانباً من الأسباب التي دفعت برأيه مقاتلي فصائل درعا إلى الانخراط في المواجهة العسكرية المرتقبة في محافظة إدلب. يعتبر الرشدان أن المعركة باتت أكبر من طرفي الصراع وعليهما الخضوع للاتفاق الدولي بإنهاء المواجهات العسكرية في سوريا، موضحاً: “علينا أن نعترف بأننا أصبحنا جزءاً من التفاهمات الدولية لإنهاء الأزمة السورية، وعدم الاعتراف بهذه الحقيقة سيؤدي إلى المزيد من القتل والتدمير”، ويرى المقاتل أن معركة إدلب وما سبقها في درعا والغوطة الشرقية، هي “ضمن سلسلة تفاهمات الدول الكبرى التي اتخذت القرار بإنهاء انتشار السلاح في سوريا سواء بطريقة سلمية أو عسكرية، ومن المؤكد أن روسيا وتركيا اتفقتا على معركة إدلب، تماماً كما اتفقت روسيا والأردن وإسرائيل على معركة درعا قبل أشهر”.
ويتابع أحمد الرشدان أن مقاتلي فصائل درعا سيتوجهون إلى إدلب للمشاركة في البحث عن الحل السلمي قبل أي مواجهة عسكرية أخرى، “نحن سنلعب دور الوسيط والضامن للأهالي والفصائل هناك، من ممارسات الميليشيات الطائفية التي قد يستخدمها النظام في هجومه، علينا إقناع الفصائل هناك بضرورة التخلي عن المواجهة العسكرية لمصلحة الحلول السلمية، والاستفادة من تجربتنا في درعا وتجربة الغوطة الشرقية”.
المقاتل نفسه رأى أن الأعداد الكبيرة من فصائل الذين انضموا إلى قوات النظام، هي “حالة صحية على طريق إنهاء النزاع المسلح”، مشيراً إلى أن روسيا شجعت مقاتلي المعارضة على الانضمام إلى “الجيش السوري” أثناء المفاوضات التي أجريت بين الطرفين قبل أسابيع، مضيفاً: “أوضحت لنا روسيا أن الجيش السوري سيكون الجهة العسكرية الوحيدة المعترف بها، وعلينا أن نمنع احتكار أي طائفة لهذا الجيش، واعترفوا لنا صراحة بأنهم يريدون بناء جيش وطني وليس جيشاً طائفياً، ليكون ضامناً لمنع تكرار ما حصل خلال السنوات الماضية”.
باتت الأطراف اللاعبة والمؤثرة في الخارطة السورية، على بعد خطوات قليلة من انتهاء عملية “ضبط انفلات السلاح” وحصره في ثلاث جهات رئيسية فقط: “الجيش السوري” المدعوم روسياً، “قوات سوريا الديموقراطية” إضافة إلى فصائل المعارضة في منطقة التنف المدعومتين أميركياً، وأخيراً فصائل المعارضة في منطقتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” المدعومة تركياً، ولضمان عدم حصول أي انتكاسة، يتم حالياً إعادة تأطير حاملي السلاح في سوريا ودمجهم، تحت هذه الجهات الثلاث، والتي قد تتقلص مستقبلاً إلى جهة واحدة فقط، ليبقى التحدي الأكبر الذي يواجه هذه العملية، هو البحث في طريق الحل السياسي، الحل الذي يبدو أن خيوطه تدور في فلك الأطراف ذاتها التي شاركت في ضبط العملية السياسية.
درج”
التسوية البعيدة للحرب المستمرة/ خالد غزال
بعيداً عن تهويمات ما يعرف بجبهة الممانعة عن انتصارات تحققت في سورية، وعن قرب الحسم العسكري في بعض الجيوب، لا بد من التمعن في ما يجري على الأرض السورية من صراعات محلية وإقليمية ودولية، تجعل الحديث عن النصر محفوفاً بعلامات استفهام كبيرة، بل أن المؤشرات تجزم بالمسافة البعيدة التي تفصل الحل السياسي للحرب عن الوقائع المتشابكة.
العنوان البارز اليوم يدور حول «تحرير» محافظة إدلب من المجموعات الإرهابية المعارضة. سبق للنظام وحلفائه إن رحّلوا المقاتلين من كل المناطق إلى إدلب، لتصبح اليوم الملجأ للمقاتلين. يعلن النظام جهارا نيته في تحرير إدلب مهما كان الثمن، ويعتبر أن هذا التحرير هو نهاية الحرب السورية وبسط سلطته على كامل الأراضي. تصميم النظام ينبع من حسم المعركة عسكرياً مهماً خلفت من خسائر بشرية وأدت إلى كوارث إنسانية، لأن ما يريده هو «التأديب» الكامل للشعب السوري لمنعه من التفكير لاحقا ًبالاعتراض.
لا يقف النظام وحده في المعركة، فهو يعتمد على حليفه الروسي في الحسم. روسيا لها مصلحة في إنهاء جيب إدلب. حجتها أن المعارضين فيها يستخدمون طائرات الدرون لقصف قاعدة حميميم على الساحل السوري. لكن روسيا تدرك أن التعقيدات التي تحيط بالحسم كبيرة جداً. تلجأ إلى مقولة التمييز بين معارضة معتدلة ومعارضة متطرفة هي جبهة النصرة، وهي حجة قديمة لجأت إليها في مناطق أخرى وكانت نتائجها إبادة كاملة للمعارضين. تدرك روسيا كما النظام أن التمييز بين معتدل ومتطرف شبه مستحيل، والتداخل بين القوى يمنع هذا التمييز. معضلة روسيا إدراكها أن اللجوء إلى أسلوب التدمير في إدلب على غرار ما قامت به في حلب والغوطة ودرعا، من استخدام أساليبها في الشيشان وإعتماد الأرض المحروقة، أن هذه الممارسة في إدلب ليست متيسرة على غرار سائر المناطق.
في إدلب، لتركيا دور يستحيل تجاهله، وهي لا تحبذ عملية عسكرية وفق ما يخطط لها النظام والروس. تهدد بالتدخل العسكري في حال حصلت العملية العسكرية. لا تستطيع روسيا والنظام تجاهل الموقف التركي، النابع من مصالح تركيا وليس من النتائج الإنسانية الكارثية. يسعى الروس إلى تسوية تمنع التدخل التركي، لكن تناقض المصالح يمنع الوصول إليها. في جانب آخر، تقف الولايات المتحدة في وجه إنجاز العملية العسكرية، وتهدد بقصف سورية إذا ما لجأ النظام إلى استخدام الأسلحة الكيماوية، وهو تهديد شاركتها فيه فرنسا وبريطانيا، ما يجعل الأمور بالنسبة إلى الروس أكثر تعقيداً. يختلف الامر بالنسبة إلى الاميركيين عما حصل في الجنوب السوري حيث تخلت اميركا عن وعودها بمنع النظام من السيطرة على المنطقة، لأن اميركا كانت ترى في سيطرة النظام على الحدود مع إسرائيل ضمانة أمنية لإسرائيل. في الشمال السوري، حيث تتواجد قوات أميركية، لن تسهّل الولايات المتحدة الحسم العسكري، لأن الأمر مرتبط بالعلاقة مع روسيا والتسوية التي ستحصل بين الدولتين المعنيتين أساساً بالحل أو إنهاء الحرب السورية. الخلاصة من ذلك أن الحلول العسكرية لا تبدو في متناول اليد في ظل الصراع الإقليمي والدولي القائم.
إن الإتفاقية العسكرية الأخيرة مع إيران وتشريع وجودها العسكري في سورية، سيكون أحد العناصر في إعاقة إنهاء الحرب، خصوصاً أن اسرائيل تعلنها جهاراً وبالممارسة أنها لن تتوقف عن ضرب المواقع الإيرانية في سورية.
إذا كانت الحلول العسكرية في حالة من التخبط، فلا تعود الحلول السياسية في متناول اليد. ما يزال المبعوث الدولي دي ميستورا يحاول الوصول إلى تسوية سياسية، وإلى وضع مسودات دساتير لسورية المقبلة. عمل المبعوث الدولي ليس أكثر من تقطيع الوقت. فالنظام يرفض أي تسوية سياسية قبل أن تتم السيطرة العسكرية على الأرض. وعندما تحصل هذه السيطرة، لن يعود في حاجة إلى حل سياسي، لأن نظامه كما يراه سيظل الأمثل.
من ناحية ثانية، هناك مسألة شديدة التعقيد أفرزتها الحرب السورية تتصل بهوية البلد المستقبلية. سورية اليوم غير سورية قبل العام 2011، نسيجها الاجتماعي تفكك، النزعات الإثنية ارتفعت وتطالب بنظام لها فيه حصة، تصل إلى المطالبة باستقلال ذاتي. ومقولة سورية ذات الهوية العربية مطروحة للبحث، والوحدة السورية السابقة لم تعد موجودة، ولا تبدو الحلول الدولية والإقليمية متحمسة لإعادة هذه الوحدة. كلها عناصر تعيق إمكان الوصول إلى تسوية في المدى القريب.
يبقى عنصر مهم يتصل بإعادة إعمار سورية. بعد تصاعد الوعود ببدء الإعمار من أميركا وأرووبا، تلاشى الحديث عن الاستثمارات والإعمار من قبل هذه الدول، التي ربطت المساهمة بالإعمار بإنجاز التـــسوية السياسية، وهو أمر طبيعي لرؤوس الأموال التي تشترط السلم وانتهاء العمل المسلح ووجود تسوية تضمن الرساميل الموظفة في الإعمار.
وسط كل ذلك ستظل، سورية تعاني الدمار والبؤس وتشريد سكانها، تضاف إليها قبضة النظام وقمعه المتواصل لما تبقى من الشعب السوري.
الحياة
من استوكهولم إلى إدلب/ حازم صاغية
السويد أيضاً أصبحت بلداً مقلقاً. «ديموقراطيّو السويد القوميّون»، المتفرّعون عن النيو – نازيّين، أحرزوا قرابة خُمس الأصوات في الانتخابات العامّة قبل يومين. في الانتخابات السابقة، كانوا أقلّ من 13 في المئة. رفاقهم وجيرانهم في «حزب الشعب الدنماركيّ» يستحوذون على ما يُقدّر بين ربع المقترعين وخُمسهم. اسكندينافيا أيضاً ليست على ما يرام.
السويد، على رغم اتّساع الفجوة الاجتماعيّة بين طبقاتها في العقدين الأخيرين، لا تزال أحسن حالاً من معظم بلدان أوروبا، بفضل الإنجازات التي قدّمها الاشتراكيّون الديموقراطيّون. متوسّط الدخل مرتفع والبطالة منخفضة، ومثلها الجريمة. مع هذا فـ «ديموقراطيّو السويد القوميّون» يحاولون أن ينسبوا إلى اللاجئين والمهاجرين كلّ ضربة كفّ تحصل. ذاك أنّ السويد استقبلت منهم النسبة الأوروبيّة الأعلى قياساً بعدد السكّان: 160 ألفاً في 2015 وفقاً للرقم الذي بات شائعاً. هذا بدل أن يكون شهادة لها بات شهادة عليها. فاللاجئون هؤلاء هم الخطر على السويد! لكنْ، إذا جاز للسويديّين أن يحتاطوا، فعليهم بجارهم الأكبر والأقوى، السيّد فلاديمير بوتين، لا بعشرات آلاف اللاجئين الضعفاء والمستضعفين.
على أنّ القلق الآتي من أقصى شمال القارّة الأوروبيّة بات يجد ما يكمّله في سائر القارّة: إيطاليا في الجنوب. النمسا في الوسط. بولندا وهنغاريا في الشرق. هذا التحالف المتين مدعوم بواشنطن ترامب وبموسكو بوتين. لكنّه مدعوم أيضاً، وأساساً، بالكوارث الإنسانيّة وأهمّها في زمننا ظاهرة اللجوء. في الأخبار التي نقرأ، يتلاحق خبران لا يحول البعد الجغرافيّ دون تلاصقهما: واحد يقول إنّ الشعبويّين يتقدّمون في أوروبا، وهم يرفعون سكاكينهم في وجوه اللاجئين، وفي وجه أوروبا نفسها، وآخر يحضّرنا لمذبحة في إدلب السوريّة، مذبحةٍ يصحبها انفجار جديد في اللجوء إلى الشمال ومنه إلى الغرب.
قلاع الديموقراطيّة الليبراليّة، في المقابل، مهدّدة كلّها بالتصدّع: أنغيلا مركل تُدفع يوميّاً إلى مواقع أضعف. إيمانويل ماكرون، بمعونة خفّته وغطرسته معاً، تتراجع قوّته في الرأي العامّ بإيقاع متسارع. في بريطانيا التي خرجت أصلاً من الاتّحاد الأوروبيّ، يتهيّأ شعبوياً اليمين واليسار، بوريس جونسون وجيريمي كوربن، للحلول محلّ تيريزا ماي التي تبدو شخصاً ضائعاً في غابة نائية.
الثورات الشعبويّة والقوميّة الكاسحة تنذر بأخطار كثيرة على شعوبها وعلى العالم. لكنّ أحد أكبر تلك الأخطار إضعاف النموذج الديموقراطيّ الليبراليّ وربّما إلغاؤه. جاذبيّة ذاك النموذج لم تعد تجذب. إلى ذلك، فالسياسيّ الذي يسيّر ذاك النموذج أضعف الثقة بالسياسة والسياسيّ. يكفي أن نستعيد شخص دونالد ترامب وأفعاله، لا سيّما بعد ما كتبه بوب وُدورد و «مقاومة» البيت الأبيض الذي تحوّل قاعة للأفلام الهزليّة أو البورنوغرافيّة.
نعم، هناك تقدّم هائل يحصل في الطبّ والعلوم. هناك حساسيّة بالغة الرهافة في المدن الكوزموبوليتيّة حيال كلّ تمييز، إثنيّاً كان أو دينيّاً أو جنسيّاً. لكنّ السياسة تتكرّس كشيء آخر تماماً، شيءٍ لا يتأثّر إلا بالهجرة واللجوء، أو لا يستعيد مكبوته اللعين إلا بذريعتهما. فالثورة، التي تطيح السياسة والسياسيّ، هي التي كبتها التنوير والتقدّم والديموقراطيّة وارتفاع الحساسيّة الإنسانيّة بما يليق بكلمة «إنسانيّ». وكم يبدو هذا الانتكاس فظيعاً فيما العالم يمضي في «ترقّب» مذبحة تحدث في إدلب، مذبحةٍ لا يملك في مواجهتها إلا سلاح الترقّب.
الحياة
حرب في إدلب، وحربان في شرقها وغربها أيضاً؟!/ خالد العكّاري
كأنّنا في منطقة الشرق الأوسط نعيش لحظة ما قبل الطوفان. هذا ليس نعيق غربان وليس تشاؤماً من عيار قياميّ. الأرض تتحوّل تحت أقدامنا إلى رمال متحرّكة فعلاً.
قبل كلّ شيء هناك الطوفان الإنسانيّ المُحتمَل إذا ما هاجم الروس والإيرانيّون والنظام السوريّ إدلب. الهجوم المرجّح على عدد من السكّان يتراوح بين مليونين وثلاثة، ويتراوح اللاجئون إليهم بين ثلثهم ونصفهم، سوف يطلق خزّاناً بشريّاً لن تقوى تركيّا، ولن تقوى تالياً أوروبا، على صدّه. أمّا الآثار السياسيّة على تركيّا وعلى أوروبا فقد يصعب التكهّن بحدودها من غير أن يصعب التكهّن بطبيعتها الكارثيّة.
مع ذلك فالحرب المحتملة جدّاً على إدلب تبدو محكومة بحروب صغيرة أخرى، علماً أنّ بعضها قد يكبر:
هناك النزاع بين تركيّا وحليفها الروسيّ. الأولى لا تريد الحرب خوفاً من تدفّق أفواج النازحين، وتالياً من تنامي النفوذ الإيرانيّ في جوارها الجنوبيّ (ربّما تحت عنوان، أو انطلاقاً من، إعادة سكّان بلدتي كفريّا والفوعة الشيعيّتين إليهما). تركيّا، كذلك، مثلها مثل عدوّتها الجديدة الولايات المتّحدة الأميركيّة، تشعر أنّها خُدعت بـ “اتّفاق خفض التصعيد” الذي تحوّل عمليّاً، بفعل الروس، اتّفاقاً لتثبيت سلطة بشّار الأسد. روسيا، في المقابل، مستعجلة على الحسم. سيرجي لافروف، وزير خارجيّتها، حضّ على “محو الإرهابيّين” في إدلب. لافروف وزميله السوريّ وليد المعلّم يتفنّنان في نسج سيناريوات تآمريّة عن ضربات كيماويّة يوجّهها الإرهابيّون بما يعطي الذرائع للولايات المتّحدة كي تضرب النظام. ما من شكّ في أنّ روسيا حريصة على عدم تنفير تركيّا، وهي تعمل على توسيع تناقضها مع واشنطن بما يوجّه ضربة قاصمة لحلف الناتو. لكنّ جمع المتناقضات لن يكون سهلاً، وهذا ما ستحاول تذليله قمّة طهران الوشيكة حيث سيناقش القادة الروس والإيرانيّون والأتراك مسألة إدلب. فلننتظر ونرَ.
تركيّا، على أيّ حال، وضعها صعب. هناك الخصومة مع الأكراد المتحالفين مع واشنطن. هناك علاقة التحالف – العداء مع جبهة النصرة (10 آلاف مقاتل). هناك الأجواء الداخليّة المناهضة للنزوح السوريّ، وبعضها قوميّ مؤتلف مع “العدالة والتنمية”. وهناك، فضلاً عن روسيا وإيران، العلاقة المأزومة جدّاً بأوروبا الغربيّة، وخصوصاً بالولايات المتّحدة.
الأخيرة قرّرت فجأة أن تمارس عودة الشيخ إلى صباه. ترامب، في تغريدة له، حذّر الروس والإيرانيّين من “خطأ إنسانيّ ضخم” في إدلب. الخارجيّة الأميركيّة أيضاً حذّرت من هجوم كيماويّ لحكومة الأسد. التواجد العسكريّ الأميركيّ والروسيّ، في البرّ والبحر، يتزايد. المراقبون يقولون إنّ الولايات المتّحدة قرّرت، هذه المرّة، ألاّ تنسحب. مناطق السيطرة الكرديّة هي موضع قدمها الأكثر ثباتاً ورسوخاً: منها تلقي عيناً على سوريّا وعيناً – أكبر – على العراق.
هنا نقع على احتمالات حرب، بل حروب، في العراق، لا سيّما إذا صحّ الخبر الذي أوردته وكالة “رويترز” من أنّ إيران نقلت صواريخ متوسّطة المدى إليه. الخبر صحيح على الأرجح، خصوصاً وقد أصبح الحضور العسكريّ الإيرانيّ في سوريّا غير مضمون، أو فلنقل: أقلّ ضماناً. تنضاف إلى هذا الأزمة السياسيّة العراقيّة، وهي في وجه أساسيّ منها أزمة النفوذ الإيرانيّ في العراق. إذاً: إلى التناقضين السنّيّ – الشيعيّ والعربيّ – الكرديّ، صار في الإمكان الحديث عن تناقض انفجاريّ ثالث: الشيعيّ – الشيعيّ. تأليف الكتلة البرلمانيّة الأقوى، وغير الإيرانيّة الهوى، يدفع بهذا التناقض خطوات إلى الأمام ويصبغه بالتنافس الأميركيّ – الإيرانيّ على بلاد الرافدين.
هذا على الجبهة الواقعة شرق إدلب. على الجبهة الواقعة غرب إدلب، ينبغي ألاّ ننسى إسرائيل. الأيّام القليلة الماضية شهدت هجوماً جوّيّاً إسرائيليّاً قرب مطار دمشق الدوليّ، وهجوماً آخر على قافلة للإيرانيّين و”ميليشيات شيعيّة” في الجنوب السوريّ. لقد بات واضحاً أنّ الإسرائيليّين غير راضين بالحلّ الروسيّ للوجود الإيرانيّ في سوريّا (إبعاده عن الحدود السوريّة – الإسرائيليّة مسافة 85 إلى 100 كيلومتر، مع استثناء دمشق). إسرائيل تريد أكثر. أغلب الظنّ أنّها صارت أشدّ اطمئناناً إلى خطّتها بعدما وفى بشّار الأسد بوعده، المضمون روسيّاً، حول الالتزام بمعاهدة فصل القوّات في 1974.
الموسم اليوم في إسرائيل موسم حربيّ تعبّر عنه أجواء اختيار رئيس جديد لأركان الجيش. صحيفة “هآرتز” تقول إنّ وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان يريد رئيس الأركان “ضابطاً يستطيع جيشه أن يربح حروباً، وأن يقود ثورة على مستوى القوّات البرّيّة، وألاّ يزعجه كثيراً في ما خصّ الضوابط الاستراتيجيّة”. أحد أبرز المرشّحين للمنصب، الجنرال يائير غولان، قال في خطاب ألقاه مؤخّراً في “المعهد الدوليّ لمكافحة الإرهاب” في هرتزليا: “كلّ مَن تعامل مع القتال يفهم أنّ الحروب لا تُكسَب فقط بالاستخبارات ودقّة النيران. التكنولوجيا وحدها لا تكسب حروباً”. كلامه فُسّر على أنّه توكيد على أهميّة “المناورات على الأرض”.
في هذه الغضون: الأمم المتّحدة لا تملك أكثر من الدعوة إلى “ممرّات إنسانيّة” تتيح المغادرة للمدنيّين في إدلب. مأساة السوريّين في إدلب تتوالى فصولاً وخياراتٍ بشعة: حكم جبهة النصرة وعودة نظام الأسد والموت والتهجير. العالم مشاع إراديّ: حرب في إدلب وحرب شرق إدلب وحرب في الغرب منها.
درج
هل تستعد الصين للمشاركة في معركة إدلب؟ خطأ في الترجمة أم تراجع من بكين؟
الصين مستعدة للمشاركة في معركة استعادة محافظة إدلب السورية. هذا ملخص خبر نشرته صحيفة الوطن السورية المقربة من النظام السوري، في الأول من أغسطس، قبل أن تنشر في السابع من نفس الشهر ما قالت إنه توضيح من السفارة الصينية في دمشق جاء فيه أن نشر ما ورد في الخبر ناتج عن “سوء ترجمة” من قبل الصحيفة.
وقال الخبر الذي نشرته الصحيفة إن السفیر الصیني في سوریا تشي تشیانجین أكد أن جیش بلاده مستعد للمشاركة مع الجیش السوري “بشكل ما” في معركة إدلب أو أي مكان آخر في سوریا لمكافحة ما وصفتهم الصحيفة بالإرھابیین، وخاصة “الإیغور” القادمین من الصین.
وأضافت الصحيفة أن الملحق العسكري والبحري والجوي الصیني في دمشق وانغ روي تشنغ اعتبر “أن الأمر یحتاج إلى قرار سیاسي”.
ونقلت الصحيفة ما قالت إنه تصريح خاص لها من تشیانجین قال فيه: “إن الجیش الصیني لعب دوراً مھماً في حمایة سیادة وأمن وسلامة واستقرار الصین وبنفس الوقت یسعى الجیش الصیني إلى المشاركة في عملیات حفظ السلام في إطار الأمم المتحدة”، مضيفة أن “ھناك تعاوناً جیداً بین سوریا والصین في محاربة الإرھاب”.
واعتبر مراقبون أن الخبر قد يشير إلى أن الصين قررت القيام بتغيير في استراتيجيتها الدولية التي كانت تقضي بعدم مشاركة جيشها في عمليات قتالية في الخارج.
وبحسب الوطن السورية، فإن السفیر الصیني في سوریا أضاف: “نعرف أن مكافحة الإرھاب ومعركة سوریا ضد الإرھابیین لیست فقط لمصلحة الشعب السوري بل لمصلحة الشعب الصیني وشعوب العالم، وقد جرى تعاون جید بین جیشینا في مكافحة الإرھابیین من كل دول العالم ومن ضمنھم الإرھابیون القادمون من الصین وسوف یستمر ھذا التعاون بین الجیشین والجھات المعنیة”.
وتقول الوطن إن محافظة إدلب تحوي آلاف “الإرھابیین”، بعضھم من المسلحین “الإیغور” القادمین من الصین وینتمون إلى تنظیم جبھة النصرة، بحسب الصحيفة.
ونقلت الصحيفة عن السفير الصيني في دمشق أن بلاده “تتابع التطورات في سوریا خاصة بعد الانتصار جنوباً، والجیش الصیني مستعد للمساھمة بشكل ما مع الجیش السوري في مكافحة الإرھابیین في إدلب وفي أي مكان آخر في سوریا”.
وحوى الخبر تفاصيل أكثر، منها، تصریح لوانغ روي تشنغ قال فيه إن “التعاون بین الجیشین السوري والصیني في المجال العسكري مستمر، ونود أن نطور العلاقات مع الجیش السوري” لكنه أضاف: “أما مشاركتنا في عملیة إدلب فتحتاج إلى قرار سیاسي”، نافياً وجود مستشارین عسكریین أو قوات خاصة لبلاده حالیاً في سوریا.
لكن كلام المسؤولين الصينيين ذكّر بما نشر إعلامياً أواخر العام الماضي عن وصول قوات خاصة صینیة إلى سوریا لدعم الجیش السوري في مكافحة مسلحي حركة تركستان الشرقیة، وهم مسلحون من أصول إيغورية.
خطأ في الترجمة؟
بعد نشر الخبر بنحو أسبوع، نشرت الوطن في السابع من أغسطس توضيحاً، تضمن بياناً لسفارة الصين في دمشق تحدثت فيه عن عدم دقة الخبر معتبرة أن ظهوره يعود إلى “سوء ترجمة كلام السفير والملحق العسكري”.
وقالت الصحيفة إنها تلقت توضيحاً من سفارة الصين بخصوص الخبر الذي نشرته في عددها الذي حمل رقم 2955، جاء فيه “أن الصین لم ولن یوجد لدیھا قوات عسكریة في سوریا یمكن أن تشارك في أي عملیة عسكریة مع الجیش (العربي) السوري، وموقفھا الداعم لسوریا في مجال مكافحة الإرھاب الذي یعتبر آفة دولیة، یقضي باجتثاث جذوره بالأعمال المشتركة الدولیة وبالمعاییر الموحدة”.
أبعاد استراتيجية لمعركة إدلب/ حسين عبد العزيز
أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قبل أيام أن المهام المتعلقة بمحاربة الإرهاب في إدلب (في سورية) شارفت على نهايتها، وأن الهجوم على إدلب أصبح وشيكا، وأن من حق النظام السوري محاربة الإرهاب. وتوازى هذا التصريح مع استكمال دمشق حشودها العسكرية في محيط إدلب، في وقت لا يزال فيه المسؤولون الأتراك يتحدّثون عن إمكانية تفادي وقوع معركة، على الرغم من قناعة أنقرة أنها واقعة لا محالة، ليس بسبب التصريحات الروسية والحشود العسكرية للنظام فحسب، بل لأن مسار تطور الصراع يؤكد أن معركة إدلب من الضرورات الاستراتيجية التي لا غنى عنها، للانتقال جدّيا إلى المستوى السياسي، والانتقال إلى بحث قضايا أخرى ما فوق ثنائية النظام/ المعارضة، كالمسألة الكردية، ومسألة الوجود الأميركي، واللاجئين، وملف إعادة الإعمار.
من الواضح أن تركيا نجحت في تأخير العملية العسكرية، وستنجح، على ما يبدو، في ضبط إيقاعها وحدودها، فلن تكون معركة كسر عظم مع المعارضة السورية، أي لن تكون معركة واسعة ومفتوحة للنظام، من أجل السيطرة على كامل إدلب، فالعلاقة الروسية ـ التركية الآن لا تسمح بذلك، وإنما ستكون عملية محدودة، أقصى هدف ممكن لها هو معرّة النعمان، أو ربما مدينة إدلب.
كيفية تحييد التنظيمات الإرهابية وكيفية التعامل معها أو مع بعضها لاحقا، ودور فصائل
المعارضة في المعركة، مسائل تعقد المشهد، لكنها تظل، في نهاية المطاف، تفاصيل غير استراتيجية. وما هو استراتيجي يكمن في معركة إدلب في حد ذاتها، محدودة كانت أو واسعة، لأن الأبعاد الاستراتيجية للمعركة ستنعكس على صعيد الجغرافيا العسكرية المحلية (النظام/ المعارضة) أولا، وعلى صعيد الجغرافية العسكرية الإقليمية ـ الدولية (روسيا/ تركيا) ثانيا، وعلى موازين القوى التي سترتب عليها في المديين، القريب والمتوسط، ثالثا. ويمكن تلخيص الأهمية الاستراتيجية هذه في ثلاثة عناوين رئيسية:
أولا، تعتبر محافظة إدلب آخر بقعة جغرافية وازنة، تحت هيمنة فصائل المعارضة (منطقتا درع الفرات وعفرين تحت الهيمنة التركية ونشأتا وفقا لتفاهمات إقليمية/ دولية لا علاقة لها بثنائية النظام/ المعارضة)، وخسارتها كليا أو جزئيا تعني تحويل الفصائل العسكرية إلى قوىً كامنة في حالة القوة، غير قادرة على الانتقال إلى حالة الفعل والتأثير.
بعبارة أخرى، ستخسر الفصائل القدرة على اتخاذ القرارات العسكرية، سواء بقيت في بعض مناطق محافظة إدلب أو انتقلت إلى منطقتي درع الفرات وعفرين، وسيصبح القرار العسكري بيد أنقرة، وبالتالي ستنتهي عمليا المعارك بين المعارضة والنظام، على الأقل وفق الموازين الاستراتيجية القائمة.
ثانيا، من شأن القضاء على جميع التنظيمات الإرهابية أن يؤدّي إلى نشوء مساحة جغرافية صافية لفصائل المعارضة، وخالية من أية تنظيمات أيديولوجية متطرّفة، ما يسمح للمعارضة بإعادة إنتاج نوع من السلطة المحلية، ونوع من القوة المتماسكة، وإن كانت معطلة عمليا. ومن شأن القضاء على التنظيمات الإرهابية أيضا أن يجعل التفاهم بين موسكو وأنقرة أسهل حيال مستقبل فصائل المعارضة، ومصير ما تبقى من إدلب.
ثالثا، أهمية معركة إدلب تكمن فيما بعدها، حيث ستكون مناطق المعارضة المدعومة من تركيا بين فكي كماشة، ومحاطة من عدوين: عمليا النظام ونظريا قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
وستكون المرحلة التي تلي معركة إدلب عنوانا لتفاهمات جديدة بين موسكو وأنقرة حيال الوجود
التركي في سورية. وإذا كانت المرحلة الحالية لا تسمح بطرح هذا السؤال، فإن المرحلة المقبلة تسمح بذلك. وقد يستغل النظام و”قسد”، كلٌّ لأسبابه، تلك المرحلة لإجراء تفاهمات مشتركة تجاه منطقتي عفرين ودرع الفرات، بما يؤدي إلى إرباك العلاقة الروسية ـ التركية، ووضعها على سكة جديدة.
والحقيقة أن روسيا لا تزال تعول على اختراق أو إعادة العلاقة مع القوى الكردية إلى سابق عهدها، كما كانت قبل سنتين، ما قد يسمح للكرملين بقدرة أوسع على ملاعبة الفاعلين المحليين والإقليميين، ويجعلها في موقفٍ أقوى على ممارسة الابتزاز السياسي.
ولن يكون مستبعدا أن ترفع روسيا بعد معركة إدلب مستوى ضغوطها على تركيا، سواء على مستوى الجغرافيا العسكرية أو على المستوى السياسي، مدركة أن أنقرة أصبحت مكشوفةً في سورية، فمن الناحية السياسية لا توجد قوى دولية وإقليمية قادرة على مساندة الموقف التركي حيال المسألة الدستورية، والانتقال السياسي، باستثناء مواقف أميركية مبعثرة، وهذا أمر يخدم روسيا، خصوصا في ظل العلاقة المتوترة بين أنقرة وواشنطن. ومن الناحية العسكرية، ستتقلص المساحة الجغرافية المحسوبة على تركيا، وستتقلّص معها الخيارات العسكرية.
وربما يدفع هذا الواقع المستجد إلى تغيير جذري في بيئة الصراع، بحيث تحوّل أنقرة قوتها مع فصائل المعارضة لمقاتلة “قسد”، بدعم مضمر من روسيا، في مقابل السماح لها بالبقاء في منطقتي درع الفرات وعفرين. وربما تذهب روسيا أبعد من ذلك، عبر دعم تركيا عبور نهر الفرات شرقا، في محاولةٍ لجعلها رأس حربة في الصراع مع الولايات المتحدة، تحت عنوان التهديد القومي الكردي.
في كل الأحوال، سيكون المشهد السوري مختلفا كثيرا بعد معركة إدلب، وسيكون الدور التركي في سورية، وطبيعة تحالفاته، عنوانا للمرحلة المقب
العربي الجديد
إدلب معركة سورية الأخيرة/ بشير البكر
تعيش مدينة إدلب وضعاً لا تُحسد عليه، ويخيّم على أهل المدينة وريفها جوٌّ من الرعب وسط حشود عسكرية وتهديدات لا تتوقف. روسيا وإيران والنظام السوري على أهبة الاستعداد، من أجل خوض المعركة التي يريدون لها أن تكون الأخيرة، والفاصلة في الحرب السورية، وهذا ما يمكن أن يلمسه المراقب من ضخامة حجم القوة العسكرية التي جهّزتها روسيا في البحر المتوسط وقاعدة حميميم الجوية.
وسط قعقعة السلاح، وحالة الرعب التي يعيشها قرابة ثلاثة ملايين مدني سوري من أهل المدينة واللاجئين إليها، اقتصر رد الفعل الدولي فقط على تهديد الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا للنظام من عواقب استعمال أسلحة كيماوية، بينما زكّى مندوب الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، العملية العسكرية المرتقبة، وأعطى الضوء الأخضر لها من خلال سلسلة من التصريحات التمهيدية التي تعيد التذكير بمواقفه من معارك حلب والغوطة ودرعا. وفي المحطات الثلاث، أعاد العبارات نفسها، وقدّم الذرائع نفسها للروس، كي يباشروا الحرب داخل مدن مكتظة بالسكان.
حين يأتي الوقت لتسليط الضوء على الدور الذي لعبه دي ميستورا في المسألة السورية، لن يضعه أحد في مصاف المبعوثين اللذين سبقاه في هذه المهمة، كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي، ليس لأنه افتقر إلى النزاهة والحياد فقط، ولم يكرّس جهده من أجل الحل، بل سوف يكون مضرب المثل للمبعوث الأممي الذي خان شرف الأمانة التي يجب أن يتحلّى به، بوصفه موظفا في أعلى هيئة دولية أوفدته في مهمة تحقيق السلام، فتحوّل إلى عرّاب للجرائم الروسية الإيرانية في سورية، في ظل سطوةٍ روسيةٍ في مجلس الأمن، وتهاون أميركي غربي حيال جرائم النظام في سورية منذ مجزرة كيماوي الغوطة.
وتؤكّد المؤشرات كافة أن العد العكسي للمعركة قد بدأ، والموعد المفصلي في ذلك هو يوم السابع من الشهر الحالي، حيث تُعقد في طهران القمة الثلاثية الثالثة بشأن سورية بين الرؤساء، الإيراني والروسي والتركي. وعلى الرغم من أن الأوساط المحلية والإقليمية والدولية تعوّل على هذا اللقاء من أجل إيجاد مخرجٍ يجنّب المدنيين كارثة جديدة، ويتلافى دمارا كبيرا يمكن أن يلحق بالبنى التحتية، فإن التصميم الذي تبديه موسكو وطهران على خوض المعركة لا يبشّر بأي بارقة أمل، ولا يترك أمام المساعي التركية أي فرصةٍ للنجاح.
ستكون إدلب المعركة الأخيرة، ولا أحد يعرف كيف ستتم. وربما يشكل الجهل بمجرياتها أحد أساليب خوضها من طرف الروس، وهذا ما حصل في الغوطة ودرعا، حيث لجأ الروس إلى أنماطٍ من التكتيكات انتهت بكسب المعركة. ولكن في المرّات جميعها كان هناك طريق للخروج لمن لا يريد القتال، ومكانٌ لاستقبال النازحين هو مدينة إدلب. وفي هذه المعركة، لا مفرّ ولا ممرّ ولا مستقرّ لمن يستعدّون للهروب. وقد شرعت بعض منصات البروباغندا الروسية في نشر دعاياتٍ بأن هناك ممرّات سيتم فتحها من أجل خروجٍ آمن للمدنيين، وجاء ذلك على لسان دي ميستورا، لكن هذا الأمر صعبٌ من الناحية اللوجستية، وفي ظل انتشار عسكري كبير في المدينة، تشكل فيه جبهة النصرة نسبة محدودة لا تتجاوز 10%، والباقي يعود إلى فصائل جبهة تحرير سورية والجبهة الوطنية للتحرير.
لن تكون المعركة نظيفةً، كما يروّج الروس، وسيدفع المدنيون الفاتورة الأساسية من الدم والممتلكات والتهجير. وكما هو الحال منذ معركة حلب التي كانت جبهة النصرة طرفا رئيسيا فيها، ستجد هذه وسيلة كي تنجو بنفسها، بعد أن تكون قدمت الذريعة للمعركة.
لا يختلف أحدٌ على الدور القذر الذي لعبته المجموعات الإرهابية، ومنها جبهة النصرة، في الإساءة إلى ثورة السوريين، لكن استخدامها ذريعة من أجل اقتحام إدلب لا ينطلي على أحد، ولو أنها لم تكن موجودة لخلقها الروس والإيرانيون.
العربي الجديد
الضربة القاضية آتية للديمقراطية السورية/ ليلى الشامي
النظام السوري مصمم على إعادة احتلال كل الأراضي التي خسرها. بمساعدة من القاذفات الروسية والقوات الإيرانية، وبمعنويات عالية بعد نجاحها في ترويع سكان الغوطة ودرعا وإجبارهم على الخضوع، تستعد حكومة بشار الأسد الآن لمهاجمة إدلب، وهي آخر محافظة متبقية خارج سيطرته. إدلب موطن لحوالي ثلاثة ملايين شخص، نصفهم تقريبًا من النازحين، أو تم تهجيرهم قسرًا إلى المحافظة من أماكن أخرى. الكثير منهم محشورون في مخيمات غير صحية أو ينامون في العراء.
في الأيام الأخيرة، تجمّعت قوات النظام على حدود إدلب، وأُسقطت منشورات على مناطق سكنية تدعو السوريين إلى قبول “المصالحة” أو مواجهة العواقب. في هذه الأثناء، أرسلت روسيا تعزيزات إلى قاعدتها البحرية في طرطوس.
حددت الترويكا السورية (روسيا وإيران وتركيا) إدلب “منطقة خفض التصعيد” العام الماضي. ولكن ما سيحدث بعد ذلك قد يؤدي إلى تقويض اتفاق المنفعة المتبادلة بين الدول الثلاث.
يخدم خفض التصعيد في إدلب مصالح تركيا بشكل حقيقي: فهو يبقي كلًا من الأكراد السوريين ونظام الأسد بعيدين عن الحدود، ويحافظ على صلة تركيا بالتسوية طويلة الأجل، وتضم السوريين الذين كانوا سيحاولون، لولا ذلك، الانضمام إلى الثلاثة ملايين ونصف لاجئ الموجودين حاليًا في تركيا. لقد أظهرت تركيا التزامها من خلال إقامة مراكز مراقبة في كل المحافظة وإنشاء الجبهة الوطنية للتحرير، وهي مزيج من الجيش الحر والميليشيات الإسلامية التي تتبع الأوامر التركية. ومن ناحية أخرى، تنظر روسيا وإيران إلى مناطق خفض التصعيد على أنها تكتيكية ومؤقتة. ومثلما تم التخلي عن درعا والغوطة، فإنهم (يأملون) أن تُعاد إدلب إلى سيطرة الأسد.
النظام السوري وحلفاؤه يبررون هجومهم المقبل على إدلب، بالقول إنهم يريدون استئصال الجهاديين. هيئة تحرير الشام، التي تقودها جبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة، تسيطر على نحو 60 في المئة من المحافظة، ويقدر عدد مقاتليها بنحو عشرة آلاف مقاتل، بحسب ستيفان دي ميستورا، مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسورية. إن الوصف المتكرر لإدلب “كمرتع لتنظيمات إرهابية” يدعم سردية النظام بأن كل معارضة لحكمه تتكون من مجموعات إرهابية. كما يعفي المجتمع الدولي من أي مسؤولية لحماية المدنيين.
لكن هذا التوصيف للمحافظة غير دقيق. كان أهل إدلب في طليعة النضال ضد هيئة تحرير الشام (هتش). منذ تحرير إدلب من النظام (جزئيًا منذ عام 2012 وبعده تمامًا عام 2015) عمل العديد من مواطنيها على بناء مجتمع حرٍ يعكس قيم الثورة. وفقًا للباحثين، تم إنشاء أكثر من 150 مجلسًا محليًا لإدارة الخدمات الأساسية في المحافظة، وأقام الكثيرون أول انتخابات حرّة منذ عقود. لقد شهد المجتمع المدني المكبوت منذ فترة طويلة انبعاثًا جديدًا، وتمّ إنشاء وسائل إعلام مستقلة، مثل راديو فريش Fresh الشعبي، لتحدي احتكار النظام للمعلومات، ونمت المراكز النسائية التي تمكّن المرأة من المشاركة في السياسة والاقتصاد.
لقد هددت (هتش) هذه الإنجازات التي تحققت بشق الأنفس. حاولت الجماعة دمج نفسها داخل السكان المحليين. منذ سقوط حلب عام 2016، كثفت محاولاتها لفرض أيديولوجيتها، من خلال الاستيلاء على المؤسسات المحلية وإنشاء المحاكم الشرعية. لقد كانت قاسيةً مع خصومها المتخيلين. في كانون الأول/ ديسمبر، اعتقلت أربعة ناشطين من مضايا بارزين هُجروا إلى إدلب، بتهمة “العمل الإعلامي ضد هيئة تحرير الشام”، وكان رائد فارس، أحد مؤسسي راديو (فريش)، قد نجا من محاولة اغتيال، وكذلك غالية رحال، التي أسست منظمة مزايا Mazaya، التي تدير ثمانية مراكز نسائية. أسفر القتال بين (هتش) ومجموعات متمردة أخرى عن مقتل العديد من المدنيين، كما تركت موجة الاغتيالات وعمليات الخطف للحصول على فدية السكان المحليين خائفين وغاضبين.
لم يخاطر السوريون بحياتهم ويثوروا ضد ديكتاتورية الأسد ليستبدلوها بأخرى. أصدرت العديد من المجالس المحلية بيانات رفضت فيها سلطة (هتش) على الحكم المحلي، أو أعلنت حيادها في القتال بين الجماعات المتمردة. والمئات من الناشطين المحليين قاموا بتنسيق المعارضة لسيطرة (هتش)، ودعوا إلى نزع العسكرة عن مجتمعاتهم من خلال الحملات الإعلامية والتظاهرات العامة. بشجاعة، استبدلوا العلم الجهادي الأسود بعلم الثورة. في نيسان/ أبريل، نظم العاملون في المجال الطبي احتجاجات ضد الاقتتال الداخلي وضد الاختطاف، كما نظّمت النساء احتجاجات ضد مراسيم التمييز تجاه المرأة، مثل فرض قوانين صارمة بارتداء الملابس، والطلب من الأرامل العيش مع قريب من الذكور (مُحرَم).
ترافق استيلاء النظام على الغوطة ودرعا وغيرها من المناطق، بانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان. فقد حدثت هناك موجات من الاعتقالات من المنشقين، وتمّ تجنيد الرجال قسرًا في جيش النظام، كما أُجبر العديد على توقيع الوثائق التي تفيد بعدم اشتراكهم في الاحتجاجات أو الأنشطة المناهضة للنظام، وقد تم الضغط عليهم لتقديم معلومات حول الجماعات المتمردة. الصحفيون والعاملون في المجال الإنساني وناشطو المعارضة يعيشون في خوف لكونهم مستهدفين.
لا شك أن إعادة احتلال إدلب ستؤدي إلى تلك النتائج نفسها. سيتم سحق النشاط المدني الذي يعمل علانية، وسيتم القضاء على التجارب الديمقراطية الواعدة، مما يجعل المتطرفين يزدهرون في الظلام/ سرًا.
في حين أن مجتمعًا مدنيًا قويًا هو واحدٌ من أفضل المدافعين ضد انتشار التطرف، بينما حملات القصف والإرهاب الذي تقوده الدولة تزيد من جاذبية الجماعات الجهادية. واليوم، يقوم مانحون رئيسون للمجتمع المدني السوري، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، بسحب التمويل للمنظمات السورية في إدلب خشية أن يصل إلى أيادي الإرهابيين. وبالنظر إلى فداحة الأزمة الإنسانية التي من المرجح أن تتكشف، فإن سحب المساعدة التي هم بأمس الحاجة إليها قد يزيد من تعقيد معاناة المدنيين.
الأسوأ من ذلك كله هو أن هناك إجماعًا دوليًا متناميًا على أن النظام هو أفضل حلٍ للدمار الذي أحدثه. المجتمع الدولي يقوم الآن بتحويل تركيزه نحو إعادة الإعمار، وإعادة تأهيل النظام من خلال مكافأة المسؤولين عن دمار البلد، والضغط على اللاجئين للعودة إلى بلدٍ، سلامتهم فيه بعيدة كل البعد عن أن تكون مضمونة.
يدرك أهالي إدلب أن من المحتمل أن يتم التخلي عنهم إلى مصير مماثل لمصير إخوتهم في درعا والغوطة. إن الغضب من خداعهم من قبل القوى الديمقراطية المفترضة، المتجذرة بعمق بالفعل، آخذٌ في الازدياد. ويدرك السكان أن أولئك الذين يفضلون “الاستقرار” بأي ثمنٍ يرون استمرار مقاومتهم كإزعاج. لكن استعادة سيطرة النظام على إدلب لن تؤدي إلى السلام، بل ستقلل من الاستقرار، وستقضي على البديل الديمقراطي للاستبداد، وتترك الجهاديين -الذين يزدهرون من خلال العنف والاضطهاد والاحتلال الأجنبي- كآخر رجال يقفون، لتشكيل تهديد طويل الأمد للمنطقة والعالم.
هل يتواجه الأميركيون والروس في شرق سوريا؟/ هدى الحسيني
في الوقت حيث عيون العالم مركزة على هجوم للنظام السوري على جنوب وغرب إدلب، تستمر روسيا وإيران والرئيس السوري بشار الأسد في وضع شروط الهجوم على الولايات المتحدة وشريكها الأساسي على الأرض، «قوات سوريا الديمقراطية» في شرق سوريا.
وبدأت القوات الموالية للنظام تتجمع في محافظة دير الزور، وتوطد سيطرتها على البنية التحتية التي قد تمكنها في المستقبل من شن هجمات عبر نهر الفرات. الترجيحات تميل إلى نيات الائتلاف الروسي – الإيراني في الحصول على تنازلات من «قوات سوريا الديمقراطية» والولايات المتحدة عن طريق التهديد بالتصعيد عسكرياً في شرق سوريا إذا فشلت المفاوضات.
وحسب المعلومات، فقد اتخذت روسيا وإيران خطوات إضافية لتهيئة الظروف لهجوم محتمل على الولايات المتحدة وشركائها في شرق سوريا. واتخذت القوات الموالية للنظام عدداً من الخطوات لتركيز الجهد الرئيسي للتحضير لعمليات شرق سوريا. وتضيف المعلومات أن روسيا قد تستعد للقيام بعمليات عبر النهر في محافظة دير الزور. وأفادت الأنباء بأن الشرطة العسكرية الروسية تولت السيطرة على جميع نقاط التفتيش الأمامية ونقاط العبور (بمعظمها للعبَّارات غير الرسمية)، على طول نهر الفرات في محافظة دير الزور منذ منتصف شهر أغسطس (آب) الماضي، وحسب الوكالات جرى اتفاق في 17 أغسطس الماضي بين النظام و«قوات سوريا الديمقراطية» لفتح معبر الصالحية في دير الزور.
بشكل واضح تفرض روسيا الأمر، بعد نزاعات عنيفة ومتزايدة بين القوات الموالية للنظام حول العائدات من التجارة عبر الحدود مع المناطق التي تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية». هذا التعزيز يجعل الشرطة العسكرية الروسية مهيأة لعمليات في المستقبل ضد الولايات المتحدة و«قوات سوريا الديمقراطية». وتستطيع روسيا بناء جسور مؤقتة عند هذه المعابر النهرية لتمكين التحركات العسكرية عبر نهر الفرات. وقد سبق لها أن نشرت مهندسي قتال الجسور حتى دير الزور. كما تقول روسيا إن أفراداً من وزارة الطوارئ الروسية يقومون حالياً بإعادة بناء البنية التحتية في محافظة دير الزور، مما يعني أنه من الممكن استخدام هؤلاء الموظفين في مشاريع البنية التحتية لدعم العمليات العسكرية في شرق سوريا.
من الاستعدادات قيام روسيا وإيران بتوحيد هياكل القيادة والتحكم في شرق سوريا، وكانت أنباء ذكرت أن «الحرس الثوري» الإيراني ألقى القبض على القائد المحلي لقوات الدفاع الوطني التابعة للنظام في محافظة دير الزور في 18 من الشهر الماضي، بعدما احتجزته الشرطة العسكرية الروسية لعدة أيام. وكان لُوحظ تزايد الخلافات بين ميليشيات النظام والقوات الإيرانية في دير الزور، وبينها وبين الميليشيات الشيعية في سجن السيدة زينب. وقد جاءت الاعتقالات بعد عدة أيام من الاشتباكات العنيفة بين الميليشيات المدعومة من إيران وقوات الدفاع الوطني في محافظة دير الزور.
من المحتمل أن روسيا وإيران تمارسان سيطرة أكثر فعالية على القوات الموالية للنظام في شرق سوريا، وتثبيت روسيا سيطرتها على معابر النهر يدعم هذه الجهود، فهذا التوطيد هو خطوة ضرورية قبل أي عملية قتال مقبلة ضد الولايات المتحدة و«قوات سوريا الديمقراطية» في شرق سوريا.
خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي، مع زميله السوري وليد المعلم في الأسبوع الماضي، قال لافروف إن الوجود الأميركي في سوريا يتجاوز الجانب العسكري، إذ يبذل «شركاؤنا» الأميركيون قصارى جهدهم في تطوير شرق الفرات واستعادة البنية التحتية هناك وإعادة الروابط الاجتماعية والاقتصادية وحتى إنشاء شبه هيئات رسمية للحكم. وأضاف: هذا أمر محفوف بمحاولات تقسيم سوريا.
المعروف أن التحالف الروسي – الإيراني يواصل جهوده لزعزعة استقرار المناطق التي يسيطر عليها التحالف الأميركي و«قوات سوريا الديمقراطية» المناهض لتنظيم «داعش» في سوريا. وقد وزع الوكلاء الموالون للنظام منشورات تدعو المدنيين لمقاتلة القوات الأميركية و«قوات سوريا الديمقراطية» في مدينة الرقة (23 من الشهر الفائت). وكان تقرير أمني أميركي حذر، من قبل، من أن القوات الموالية للنظام بدأت في التسلل إلى الأراضي التي تحت سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» في وقت مبكر من شهر فبراير (شباط) الماضي، وتقوم ببناء شبكات من القبائل لعرقلة وتهديد الولايات المتحدة و«قوات سوريا الديمقراطية».
من المرجح أن روسيا وإيران والأسد ما زالوا يأملون في إجبار «قوات سوريا الديمقراطية» على إبرام صفقة معهم والابتعاد عن أميركا. ولا يزال الأسد يسعى إلى صفقة تعيد إدماج هذه القوات بالدولة السورية. المفاوضات بين الطرفين متقطعة، وقد أكد الأسد أن نظامه لن يتردد في استخدام القوة إذا فشلت هذه المحادثات، لكنه رفض حتى الآن الوفاء بالشروط التي اقترحتها «قوات سوريا الديمقراطية»، وبدلاً من ذلك صعّد سياسياً في شمال سوريا. هو يضغط لتوسيع الانتخابات المحلية التي ستجري في 16 من الشهر الحالي، ويريدها أن تشمل المناطق التي تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية». لكن الجناح السياسي لهذه «القوات» رفض الاقتراح، واعتقل عدداً من المرشحين للمناصب في جميع أنحاء شمال سوريا. كما لا يزال الطرفان أمام باب مسدود في المفاوضات المتعلقة بالسيطرة على البنية التحتية، بما في ذلك المرافق والسدود وحقول النفط شرق سوريا، إذ أكدت «قوات سوريا الديمقراطية» أنها ستستمر في إدارة حقول النفط والغاز في محافظة دير الزور حتى تصل إلى تسوية سياسية كاملة مع الأسد، ولهذا قد يلجأ الأسد لممارسة الضغوط العسكرية.
من المرجح، أن تكون أولويات روسيا وإيران احتلال أجزاء من محافظة إدلب التي تسيطر عليها المعارضة في شمال سوريا، ثم تتحول إلى شرق سوريا. ويمكنهما استغلال التركيز الدولي على محافظة إدلب للقيام بعمليات ضد الولايات المتحدة في شرق سوريا، فكلمات لافروف واضحة تنم عن رفض للأميركيين بحجة عدم تقسيم سوريا، وكذلك كل المسؤولين الإيرانيين الذين زاروا الأسد أخيراً، ووعدوا بإبقاء «مستشاريهم»، وفي المقابل وعد الأسد بإعطائهم وإعطاء روسيا «عقود» إعادة بناء سوريا التي دمرها بسلاحه وسلاحهما.
لقد بدأت الولايات المتحدة تحجب التوعية القبلية الموالية للنظام، وهي أرسلت وفداً رفيع المستوى للقاء القبائل المحلية في المناطق التي تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» في شرق سوريا، كان ذلك في نهاية الشهر الماضي حيث جدد الوفد التزام أميركا بمواجهة كل من مقاتلي «داعش» وإيران في سوريا. الزيارة هي انعكاس لمستوى المشاركة المحلية، وكانت إشارة إلى أن الولايات المتحدة قررت الاحتفاظ بقوات في سوريا. إن تأطير السياسة الأميركية في شرق سوريا المناهضة لإيران تعكس على الأرجح بدء منع ترسخ إيران في محافظة دير الزور. هذا التواصل هو خطوة أولى إيجابية نحو تعزيز المكاسب ضد «داعش»، وإعاقة قدرة إيران وروسيا والأسد على التعاون مع «قوات سوريا الديمقراطية». من المؤكد أن الولايات المتحدة مستعدة أيضاً للدفاع ضد التصعيد العسكري المحتمل، وقد يدفع الإصرار الأميركي المتجدد في شرق سوريا القوات الموالية للنظام إلى التخلي عن جهودها الدبلوماسية والتصعيد عسكرياً بدلاً من ذلك.
إثر هذا، قامت القوات الموالية للنظام بتعديل انتشار وحداتها على الضفة الغربية لنهر الفرات في محافظة دير الزور في المناطق المجاورة لعمليات التطهير الجارية من قبل «قوات سوريا الديمقراطية» ضد «داعش» في منطقة حاجين. وقد تكون زيادة انتشار القوات الموالية للنظام على طول وادي نهر الفرات، أو «قوات الحشد الشعبي» على طول الحدود السورية – العراقية، مؤشراً على هجوم وشيك ضد القوات الأميركية، أو «قوات سوريا الديمقراطية». ثم إن الهجمات المتعددة ضد البنية التحتية للنفط في شرق سوريا تعكس محاولات الاختراق عسكرياً من قبل التحالف الروسي – الإيراني. ويجب ألا ننسى أن هذه الهجمات تتم بالتناوب مع هجمات يشنها «داعش».
ليس كل من في إدلب إرهابياً، كما يقول النظام وروسيا وإيران. إنهم أيضاً السوريون الذين اقتلعوا من مناطقهم وأرسلوا إلى إدلب. كل مصالحات النظام المفتعلة أدت، وعن قصد، إلى إدلب. الآن بعمل عسكري جنوني أو بمصالحات، أين هي إدلب الجديدة التي سينفي النظام شعبه في إدلب الآن، إليها؟
الشرق الأوسط
النظام يتأهب للانقضاض على إدلب والحدود مقفلة في وجه أهلها/ تيم غوراني
لا يستغرقُ الأمر كثيراً قبل أن يشعر المتجول في أي منطقة في محافظة إدلب السورية وبخاصة المناطق التي تعتبر خط تماس مع قوات النظام، بحجم الخوف والتوتر الذي تعيشه المحافظة برمتها. السيارات والشاحنات مركونة على أبواب المنازل محملة بالأمتعة وبعض قطع الأثاث. قد يبدو الأمر غريباً للوهلة الأولى إذ تعيش هذه المناطق هدوءاً أمنيا، فلا قصف يذكر ولا طيران في السماء.
لكن الحقيقة هي أن الضغوط المعنوية التي يتعرض لها الأهالي وترقبهم لدخول إدلب في أتون مواجهة عسكرية شرسة في القريب العاجل، تؤرق السكان وترعبهم. تتداخل المشاعر ما بين الاطمئنان والخوف، ويسيطر سؤال واحد في مخيلة الجميع: هل حقاً سنواجه النزوح من جديد، ألم ينتهِ هذا المسلسل طيلة سنوات الحرب؟
تعيش إدلب حالاً من الترقب والانتظار، لتواجه مصيرها المجهول بين الحرب الطاحنة والسلام الدائم، فهي منذ دخولها اتفاق خفض التصعيد في منتصف أيلول/ سبتمبر 2017، تعيش حالاً من الهدوء العسكري. في المرحلة الماضية التقط السكان بعض انفاسهم وعادوا تدريجياً إلى حياة شبه عادية، إلى أن تحوّلت الآن أنظار الدول الفاعلة في الملف السوري نحو إدلب، آخر معاقل المعارضة، بعد سيطرة قوات النظام من خلال اتفاقات ما عرف بالتسوية على مناطق جنوب سوريا ووسطها كافة.
النظام وحربه الإعلامية
نشرت حسابات مناصرين لنظام الأسد خلال شهر تموز/ يوليو مقاطع فيديو تصور عدداً من الآليات العسكرية متجهة من مناطق الجنوب السوري باتجاه خطوط التماس في إدلب، وازدادت التحركات العسكرية بشكل ملحوظ على جبهات القتال سواء في جبلي التركمان والأكراد بالساحل السوري وفي سهل الغاب بريف حماة الغربي وفي مناطق شرق إدلب، ما يُظهر بشكل جليّ سير عملية التجهيز العسكري على قدم وساق في صفوف قوات الأسد.
400 عائلة من ريف إدلب الشرقي إلى شماله
استعدادات النظام دفعت بالكثير من سكان ريف إدلب الشرقي تحديداً إلى النزوح فعلاً باتجاه شمال المحافظة، وقد تم رصد أكثر من 400 عائلة على اوتواستراد دمشق- حلب الدولي، مصطحبة معها أمتعتها باتجاه الشمال.
التقى “درج” العم جمال الدين علوان، أحد أهالي بلدة التح بريف إدلب الجنوبي، هرب وعائلته من بلدته متجهاً إلى المناطق الحدودية مع تركيا، نصب خيمة وجلس منتظراً المصير الذي ستؤول إليه منطقته، يقول: “ليست تلك المرة الأولى التي ننزح فيها، إنها الثالثة خلال عامين، فعلياً لم يكن هناك قصف عنيف في بلدتي ولكن الجميع يتحدث عن نية النظام التقدم باتجاهها، قررت بعد أيام من التفكير ملياً في الأمر أن ننزح الآن مستغلين الهدوء الذي تعيشه البلدة، فنزوحنا اليوم كان بطريقة جيدة فلم نضطر إلى ترك شيء خلفنا، لا أحد يعلم ما سيحصل ولكن أتمنى ألّا تطول مدة نزوحي، ببساطة النوم هنا في الخيمة مع الأمان أفضل بكثير من النوم في منزلي مع الخوف فيما الترقب يتلف الأعصاب ويقصر العمر”.
نقاط المراقبة التركية للأهالي “لا تخافوا”
في المقابل، يرى علاء الحسن أحد سكان بلدة معرشورين بريف إدلب الشرقي أن وجهاء البلدة والبلدات المجاورة دعوا إلى اجتماع مع وفد تركي داخل نقطة المراقبة التركية في بلدة الصرمان، والتي بدورها وجهت رسائل إلى الأهالي كانت أهمها تطمينات بعدم وجود نية لدى النظام بالهجوم على إدلب، وطلبت منهم عدم مغادرة منازلهم، مخافة أن يعطي ذلك مسوغاً للهجوم على المنطقة.
يقول علاء لـ”درج”، “الجميع جلس وفكر بالأمر بين تطمينات من جهة معلومة وبشكل واضح، وبين إشاعات تنذر بهجوم النظام وبداية القصف، كان الأمر مربكاً ودخل الجميع حال تخبط، ولكن هناك الكثير ممن كانوا ينوون النزوح عدلوا عن الأمر وقرروا البقاء، فعلياً أصبح الأمر بين يقين واضح وشك مريب، تركيا تعتبر دولة عظيمة وأن توجه لنا رسالة بهذه الطريقة فهي لا تتكلم من فراغ، والجميع يستبشر الخير بوجود القوات التركية في المنطقة”.
“الجولاني” يزيد الطين بلة
في خضم هذه المعطيات والتطورات المتسارعة التي تعيشها إدلب، خرج زعيم تنظيم هيئة تحرير الشام “النصرة سابقاً” بكلمة مرئية في ثاني أيام عيد الأضحى، وبدأ حديثه عن التجهيزات التي تقوم بها الهيئة مع الفصائل في رصّ الصفوف وتحصين الجبهات، وفق وصفه.
وعن التطمينات التركية، حذر الجولاني من الاعتماد عليها، قائلاً: “على أهلنا أن يدركوا أن نقاط المراقبة في الشمال لا يمكن الاعتماد عليها في مواجهة العدو ولا تغرنكم وعود هنا أو تصريحات هناك، فالمواقف السياسية قد تتغير بين التو واللحظة. وتعليقاً على كلمة “الجولاني” تحدث “درج” مع المهندس المعماري هادي الحداد، والذي يقطن في مدينة إدلب، واصفاً مواقف الجولاني بأنها “جاءت في الوقت الضائع فبعد أيام من حصول الأهالي على التطمينات، خرج ليقول إنها تطمينات واهية، ببساطة ما فعله الجولاني هو صب الزيت على النار، فبدلاً من طمأنة الأهالي إلى أن الفصائل العسكرية جاهزة لصد النظام، يعود ويسعر نار الخوف في قلوب الناس”.
ركود في الحركة التجارية
إضافة إلى حركات النزوح التي لا تزال خجولة نوعاً ما في إدلب، تشهد المحافظة ركوداً عاماً في الحركة التجارية في أسواقها. يقول تيسير العبد لله الذي يملك متجراً لبيع الأدوات المنزلية في بلدة معرة مصرين شمال إدلب، إن الحركة التجارية تكاد تكون معدومة، على رغم الاكتظاظ السكاني في المنطقة، مبرراً ذلك في التخوف الكبير الذي يعيشه الأهالي، “الجميع يعيشون على مبدأ تأجيل الأمور غير الضرورية، مكتفين بشراء الخبز والقليل من الخضار ليوم واحد، من دون إحضار أي شيء للغد، فلا أحد يعلم ما قد يحصل في أي وقت والحرب على الأبواب”.
اتفاق كفريا والفوعة خطوة في عكس التوقعات
على رغم الحديث الدائم عن المعركة المرتقبة في إدلب، عقدت هيئة تحرير الشام اتفاقاً مع القوات الإيرانية المتواجدة في سوريا، قضى بإخراج أهالي ومقاتلي بلدتي كفريا والفوعة المحاصرتين بمحاذاة مدينة إدلب، مقابل إخراج النظام 1500 معتقل من سجونه، وقد تم الاتفاق في منتصف شهر تموز/ يوليو الفائت، في خطوة لم يتم تفسيرها إلى الآن، فكيف لقوات الأسد التي تنوي اجتياح إدلب بعد أيام أن تخلي بلدتين لمصلحة المعارضة، فأي رؤية عسكرية بسيطة ترى أن وجود البلدتين هما الدافع والمسوغ الوحيد لقوات النظام لاقتحام إدلب، فكيف تفوت هذه الفرصة؟
تخبط لدى الجميع “نهرب أم نبقى”
لم تعش المحافظة هذه الحال طيلة سنوات الحرب، إذ كانت الأمور في السابق واضحة نوعاً ما، فالطائرات الحربية هي التي تدل على المنطقة التي يجب أن ينزح أهلها، بينما اليوم تدور في رأس الجميع دوامة تكاد لا تنتهي بين الهرب والبقاء. ببساطة الحرب النفسية التي يقوم بها النظام هي الأشد والتأثير الكبير داخل مخيلة الجميع أصبح واضحاً، لا مفر من الموت أو القبول به، فدرعا والغوطة وحمص ليست بعيدة، ربما هو يعمل بمقولة “لو صبر القاتل على المقتول لمات وحده”.
يقطن في محافظة إدلب قرابة 3 ملايين نسمة، نصفهم من أهالي المناطق التي تم تهجيرها من وسط سوريا وجنوبها، وفي حال حدوث مواجهة عسكرية سيتعرض الجميع للخطر وسيؤدي الأمر إلى كارثة إنسانية، ربما ستكون الأكبر في الحرب السورية.
درج
إدلب بين مقاول وبلطجي/ عمر قدور
لم يكن ينقص تهيئة الأجواء لمعركة إدلب سوى أن يعلن دي ميستورا الخميس الماضي استعداده العمل على ممر إنساني للمدنيين فيها، المبعوث الدولي كان قد أبدى استعداداً مماثلاً مع اجتياح الغوطة الشرقية، ولم تكن موسكو أو غيرها في وارد منحه الدور الذي يتوق إليه للتغطية على الوحشية التي يبدو أن أحداً سواه لا يكترث بالتغطية عليها. وكي لا ننتقص من السلة المتكاملة للرجل، ونقصرها على شبهة التطوع بمهمة إنسانية، فهو قد ساوى بين إمكانية استخدام الأسد أو النصرة السلاح الكيماوي، وأشار إلى عشرة آلاف “إرهابي” ينبغي القضاء عليهم. قد نشبّه عرض دي مستورا بعقلية المقاول الصغير، الذي يريد صنع إنجاز لشخصه وموقعه، لا من خلال العرض الأخير فحسب وإنما من خلال مجمل أدائه في منصبه الذي بقي مخلصاً لأقذر السياسات الدولية في سوريا، من دون أن تتخلله صحوة واحدة على غرار سابقيه كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي.
ليس من غاية هذا الاستهلال لوم موظف أممي صغير قياساً إلى اللعبة الدولية الأكبر، إلا أنه “وهو يحاول أن يجد لنفسه مكاناً” يستبطن ذلك المناخ المواتي للمعركة القادمة، والاتفاق الدولي حولها. فمصير إدلب اليوم يمكن اختصاره اليوم بأن واقع بين مقاول وبلطجي، فلا يحاول رئيس القوة الدولية الأعظم إخفاء إدارته الحكم بأسلوب المقاول، بل يروّج له بصفته الأسلوب الأكثر ربحية لبلاده، بينما يروّج نظيره الروسي لنهجه في البلطجة باعتباره الطريق الأنسب لاحتلال مكانة دولية، بالمعنى الحرفي لكلمة احتلال.
منذ أيام أوباما تعاملت الإدارة الأمريكية مع الملف السوري بأسلوب المقاولات، قايضت به طهران من أجل الاتفاق النووي، ثم قايضت به موسكو كترضية عن العقوبات المتخذة ضدها في الملف الأوكراني، وفيما بينهما منحت مساحات لخصوم الأسد الإقليميين للتدخل مع منع أن يكون تدخلهم حاسماً، وعندما احتاجت قوة على الأرض لمساندة قصفها داعش لم تتردد في عرض الأمر كمقاولة لاستجلاب مرتزقة لهدف محدد وحيد. إلا أنه مع مجيء إدارة ترامب اتضح كلياً أن بوتين قد نال المقاولة الأكبر من أجل تصفية كافة الفصائل المسلحة التي تقاتل الأسد، سواءً تلك المصنّفة إرهابية أو تلك التي نالت في ما مضى دعماً من واشنطن أو حلفائها. لقد مُنح بوتين الدور الذي يحبه ويتوق إليه، أي دور البلطجي الذي لا يتورع عن استعمال البطش والوحشية، ولا يتورع عن إظهار احتقاره القوانين الإنسانية الدولية، ولا يرى مبرراً لاستخدام السياسة مع الأضعف ما دام متاحاً إخضاعه.
إذا لم تكن أنقرة قد خُدعت بوعود روسية فهي على الأرجح قد ركبت موجة المقاولات، عندما كانت مساعدتها حاجةً روسية. في كل الأحوال ظهرت السياسة التركية، عبر مسار آستانة، كمقاول إقليمي عند البلطجي الأكبر. يندرج في هذا الإطار ما أعلنه مؤخراً مسؤول روسي عن أن بلاده على تواصل مع أنقرة لبحث مصيري إدلب وعفرين، فالمغزى هنا الابتزاز العلني من أجل مقايضة جديدة مفادها اجتياح إدلب مقابل عدم إزعاج الوجود التركي في عفرين. بل من المرجّح أن موسكو، وقد ضمنت موافقة دولية على استهداف إدلب، تلمّح إلى الهدف التالي وهو استرداد عفرين التي أخلتها قبيل الاجتياح التركي، تماماً كما فعلت أثناء استهداف جبهة حوران إذ أعلنت نيتها التوجه إلى إدلب لاحقاً.
كانت لافتةً في سياق التحضير لمعركة إدلب تصريحاتُ وزير خارجية السعودية في موسكو التي اقتصرت على المطالبة “بحل سياسي يحافظ على وحدة أراضي سوريا وأمنها واستقرارها”، فهذه الصيغة هي المستخدمة على نطاق واسع من أجل استبعاد كافة اللاعبين الإقليميين. ويبقى الغطاء الأهم هو اتصال معاون وزير الخارجية الروسي، عقب زيارة الجبير، برئيس الهيئة العليا للتفاوض التي تتخذ من الرياض مقراً لها، ليوحي الاتصال بوجود تفاهم بين موسكو والهيئة يشمل ضمناً موافقة الأخيرة على ما يُحضّر لإدلب. ورغم الخلاف المعروف بين الرياض وأنقرة يجوز القول بوجود تناغم في دوريهما في الملف السوري، وإذا أنجزت الثانية دورها في ضبط فصائل المعارضة وأماكن سيطرتها، وفق خطة خفض التصعيد المزعومة، فإن الأولى أنجزت دورها أيضاً في تخفيض سقف المعارضة السياسية، عبر إنشاء الهيئة العليا للتفاوض ومن ثم توسيعها لتشمل شخصيات تؤيد علناً بقاء بشار.
من المفترض أن يوحي التقاسم الوظيفي، دولياً وإقليمياً، بوجود استراتيجية عامة تجمع أطرافه. وكان هذا ليصحّ لو كان هناك تصور متكامل لمعركة إدلب، بما فيه الشق الإنساني المتعلق بالمدنيين، والسياسي والعسكري المتعلقان بالفصائل المدعومة تركياً. لكن، كما علمتنا تجارب اجتياح مناطق خفض التصعيد الأخرى، يُستبعد أن تتوفر أدنى حساسية في ما يخص حماية المدنيين أثناء القصف الوحشي والعشوائي، ويُستبعد توفر ضمانات حقيقية للمقاتلين غير المصنّفين كإرهابيين ضمن جبهة النصرة، أو ضمانات للمدنيين المتبقّين بعد الاجتياح من عمليات الانتقام والتنكيل والسطو الأسدية.
غياب الحد الأدنى من الضمانات لا يعكس فقط استهتاراً بأرواح السوريين، أو استهتاراً بحقوقهم حين يُلقى بهم ثانية في حظيرة الأسد. إنه يعكس أيضاً الحد المتردي من السياسات التي تتراوح بين المقاولة والبلطجة، إذ ضمن هذين الحدين لا استراتيجيات ذات وزن وأفق واضح، ولا اعتبار لأية أعراف سياسية، وما كان ممكناً في الأصل بقاء تنظيم الأسد لو لم تكن السياسات الدولية والإقليمية ضمنهما.
لقد كان للسياسات المذكورة فضل في شيوع المقاولة والبلطجة داخلياً أيضاً، فالمثال المتوحش الذي قدّمه الأسد كان مستحيلاً لولا الدعم المباشر من حلفائه، والدعم غير المباشر ممن لا يزعجهم سوى استخدام الكيماوي. تعرف موسكو وطهران وحشية الأسد، بل تعرفان فساده الذي لم يوفّر المساعدات الاقتصادية التي قدّمتاها له منذ الثورة، لكنهما شجعتاه على اقتراف المزيد. وتعرف واشنطن والعواصم الغربية والأمم المتحدة أن الأسد، فوق عدم التزامه بالقرارات الدولية، سطا على المساعدات الأممية ووزعها على شبيحته ومواليه، ومع ذلك صمت الجميع بذريعة عدم وجود خيار آخر لإيصالها.
أما مخابرات الدول التي دعمت بعض فصائل المعارضة فقد رعت تحول البعض منها إلى مرتزقة، وإلى إمارات حرب يختلط فيها الارتزاق بالبلطجة، ولم تربط تمويلها آنذاك بمعايير الحد الأدنى من احترام السوريين وأهداف الثورة، بل لم تربطه بالحد المنطقي من المردود العسكري والميداني. وكي لا نقتصر باللوم على الخارج ينبغي الاعتراف بأن الأرض السورية كان فيها ما فيها من الخصوبة لإنتاج مختلف أنواع شطّار المقاولات والبلطجة بحيث تلاقي فساد الخارج وإفساده، وبحيث يصعب الجزم بأرجحية الخارج على الداخل أو العكس. لكن ما لا يصعب الجزم به، مع التحضير للهجوم على إدلب وإنهاء مرحلة الصراع المسلح، أن زمن الشطّار الصغار قد ولى سورياً وإقليمياً، في انتظار ما يتفق عليه المقاول والبلطجي الدوليين.
المدن
عن إدلب وتركيا/ ميشيل كيلو
يثير مصير إدلب مخاوف ملايين السوريين في منطقتها وخارجها. ويطرح هؤلاء سؤالا قلقا عمّا إذا كانت أنقره ستتمسّك بضمانتها للشمال السوري، أم ستتخلى عنه… ثمّة عوامل تقرّر مصير إدلب، هي:
ـ أهمية تركيا بالنسبة لروسيا التي تفوق أهمية إدلب، وربما نظام الأسد، وستحكم موقف روسيا من دولةٍ لها مصلحة استراتيجية في إبعادها عن المعسكر الغربي. لذلك لن تغامر بإلحاق هزيمة في إدلب بها لسببين: الضرر الفادح الذي سيترتب على ابتعادها عن روسيا بالنسبة لموسكو، والنتائج القاسية والكارثية بالنسبة لمكانة الرئيس التركي أردوغان، ولصدقية نهجه السياسي. بقول آخر: لن تكرّر روسيا في إدلب ما سبق أن فعلته في الغوطة وريف حمص الشمالي، ليس فقط لأن تركيا دولة قوية، وإنما أيضا لأن عواقب استفزازها ستكون شديدة الخطورة على مجمل سياسات روسيا السورية، واستراتيجيتها الإقليمية والدولية. في المقابل، سيرغم التداخل بين الوضعين، السوري والتركي، وإخراج تركيا من إدلب بالقوة، رد فعل تركي، يتصل بحفظ أمن أنقرة القومي، وسيجبر أردوغان على الدفاع عن بلاده في إدلب، وربما في غيرها أيضا، بالخسارة المؤكدة لموسكو التي لن تتمكن من تعويضها في أي مكان آخر، وستكون أكبر بكثير من إبقاء الوضع في إدلب على حاله القائم اليوم، بضمانة تركيا.
ـ بما أن الرئيس الروسي بوتين حدد آخر العام الحالي مهلة نهائية لإنهاء القتال في سورية، ومطلع العام لبدء الحل السياسي، وبالنظر إلى التزام عسكر ودبلوماسيي روسيا بخططها، فإن خيار موسكو سيذهب، على الأرجح، نحو عمليةٍ محدودةٍ، لا يموت فيها الذئب أو يفني الغنم، تبقي على صدقية الكرملين، من دون أن تطيح علاقاته مع أنقرة، وتضعف مكانة أردوغان ونهجه، عبر ما يسمّيه الأسد متبجحا: “معركة تحرير إدلب” التي ما كان ليجد في نفسه الجرأة على مجرد الحديث عنها، من دون دعم جوي روسي، يرجح أن يقدّم له بصورة مقيّدة في الساحل، وصولا إلى جسر الشغور، لفتح طريقي حلب/ دمشق، واللاذقية / حلب السريعين، كما يقال.
ـ ليس لروسيا مصلحة في تخريب علاقات استراتيجية الأبعاد مع تركيا، من أجل مسألةٍ لها حلول متنوعة غير الدخول في مكاسرة عسكرية/ سياسية مع أنقرة التي أخبرت موسكو أن صلاتها الطيبة معها ليست بديلا لعلاقاتها مع أوروبا وأميركا. وليس أردوغان خوّافا يستسلم أمام التلويح بالقوة، لذلك جدّد تمسّكه بإعادة الأمن والاستقرار إلى سورية والعراق، بينما تبدو واشنطن مصمّمة على تعزيز موقع الكرد في المعادلة السورية، وربما الإقليمية، ما يجعل لإدلب أهمية استراتيجية مضاعفة بالنسبة للرئيس التركي، بالنظر إلى أن إخراج تركيا منها يعني خروجها من المسألة السورية، ودخول في المقابل إلى تركيا. وفي السياسة، يفضل المرء الدفاع عن أمنه خارج حدوده، على ترك الأخطار تقتحمها، وتنتقل إلى داخلها.
ـ إخراج الشمال، ولو مؤقتا، من قرار روسيا الإجهاز على مناطق خفض التصعيد والتوتر، الذي قضى عليها في الغوطة الشرقية وجنوب دمشق وريف حمص الشمالي، وترك فسح متعاقبة من الوقت، لحل مشكلة جبهة النصرة في إدلب ومحيطها، دليل آخر على ما لأنقرة من أهمية استثنائية في نظر موسكو، وثقة بأنها تستطيع حل مشكلتها من دون حرب.
ـ هناك، أخيرا، احتمال وحيد قد يغير هذه الحسابات، هو تفاهم أميركي/ روسي على طي الصفحة الكردية، وسماح أنقرة بعودة الأسدية إلى الشمال السوري، بما فيه الجزء الذي تحتله أميركا منه. هل هذا احتمال واقعي؟ لا أعتقد. لذلك يبقي مصير إدلب رهنا بالعلاقات بين أنقرة وموسكو.
العربي الجديد
بوتين الإدلبي/ حازم صاغية
حين يُسمّى كبير اللصوص رئيس مخفر الشرطة فهذا يضعنا أمام خيار معروف: إسباغ الشرعيّة على السرقة، بعد إسباغها على السارق. لكنْ هناك احتمال آخر، هو أن يتظاهر رئيس المخفر الجديد بالتوبة ويفتعل التكفير عن ذنبه، فيبالغ في التبرّوء من ماضيه عبر المبالغة في الاقتصاص من رفاقه السارقين. الحفاظ على الأمن، في هذه الحال، قد يأخذ شكلاً قاسياً وعديم الرحمة يراه ضحاياه برهاناً على «قلّة الوفاء» عند زعيم العصابة السابق.
الخياران مطروحان اليوم على روسيا – فلاديمير بوتين، عشيّة الحدث الجلل المتوقّع: مذبحة في مدينة إدلب ومحيطها بما يعيدهما إلى بيت الطاعة الأسديّ. والخياران مطروحان معاً على طريقة «لكلّ مقام مقال».
فالسارق، الذي بات رئيس مخفر الشرطة، يُسبغ الشرعيّة على سرقاته من خلال بعض ما نراه ونسمعه حاليّاً: الأمّ تيريزا التي تفيض حماسة لإعادة تعمير سوريّة بعد المساهمة النشطة في تدميرها، ولإرجاع اللاجئين والنازحين السوريّين إلى بلادهم بعد المساهمة النشطة، بمعيّة الحلفاء، في دفعهم إلى النزوح. واللبنانيّون، في هذا السيناريو، هم الأشدّ تصديقاً وتهليلاً. إنّهم يرفضون أن يلاحظوا أنّ هذه التوقّعات، التي تنضح بالتفاؤل، يتخلّلها التوقّع الرهيب عن مذبحة في إدلب، وعن حشود عسكريّة غير مسبوقة في البحار والمحيطات، وعن احتمالات الاستخدام لأسلحة محرّمة دوليّاً (هذا ما يقال على الأقلّ).
لكنّ السارق، الذي يتظاهر بأنّه تاب وتغيّر، قد يُدفع إلى تأديب الحلفاء الأتراك والإيرانيّين، ممّن لا يملكون خيارات عدّة سوى الرضا بالتأديب. هكذا يؤدّب الأوّلين في الشمال الغربيّ، انطلاقاً من إدلب، ويؤدّب الآخرين في الجنوب، انطلاقاً من درعا.
في الحالات كافّة نحن مع فلاديمير بوتين وسلطته الشعبويّة وأعمالهما (احتلال، أرض محروقة، اغتيال، تسميم…) حيال تناقض تصعب معالجته: نظام لا يعيش تعريفاً إلاّ بافتعال المشكلات والأزمات وإدامة الاستثنائيّ والطارىء. مع هذا فإنّه يقدّم نفسه، بالاستفادة من وضع دوليّ رثّ، نظاماً لحلّ المشكلات وتطبيع حياة البلدان وسكّانها. هكذا تؤلّف موسكو لغة بائسة وهزيلة وجهنّميّة في آن معاً، كأنْ تنسب إلى المعارضة السوريّة القدرة على توجيه ضربات كيماويّة، لن يلبث أن يليها اتّهام النظام السوريّ بها، وبعد ذاك تعاقب واشنطن هذا النظام بضربات موجعة!.
وما يتيح لبوتين أن يمضي، متعايشاً مع تناقضه الكبير وناسجاً لغته الغثّة، أنّه لا يملك من الصدقيّة ما يخاف أن يخسره، و «طول ما أنت أقرع ما حدّش يقدر يمسّ شَعرا منّك»، كما يقول مثل شعبيّ مصريّ. لكنْ إذا أمكن للبوتينيّة، على رغم كلّ شيء، أن تمضي في إقلاعها ومراكمة انتصاراتها، قبل إدلب وبعدها، فإنّ سنوات من العتم سوف تجد طريقها إلى ربوعنا في المشرق العربيّ، وهي سنوات سوف تبزّ كلّ ما شهدناه من عتم حتّى اليوم.
الحياة
إدلب قلب عاصفة سورية/ سميرة المسالمة
تمثّل إدلب خريطة التفاهمات الدولية، ليس سورياً فحسب، وإنما إقليمياً ودولياً، فحيث تتسع مساحتها لحشد قوات لكل المتصارعين على سورية، فهي اليوم مأوى ما يزيد على ثلاثة ملايين مدني مرحّل من كل مناطق سورية، إضافة إلى القوات الفصائلية المحلية والمختلطة، وهي تمثل المعبر لمصالح الدول داخل سورية وخارجها، وكما أنها وسيلة ضغط تحدّد مكانة محوري الصراع في منطقة البحر المتوسط، وتوزيع مهامها، في محاولةٍ روسيةٍ للخروج من التبعية إلى موقع الندّية مع الولايات المتحدة الأميركية. وعلى ذلك، فإن السعي الروسي إلى تأزيم ملف الصراع على إدلب يأخذ مستوياتٍ مختلفة، فهو، من جهة، بين شركائها في مساري المفاوضات أستانة وسوتشي (إيران وتركيا)، ومن جهة ثانية، بين دول التحالف الدولي تحت الزعامة الأميركية.
ويمثل استحضار نشاط المتطرّفين وترويجه إعلامياً، المتمثل بجبهة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، في الوقت الذي تلزم فيه روسيا حليفتها تركيا بالتخلي عنها، واعتبارها منظمة إرهابية، يمثّل تحدّياً جديداً أمام نزع أحد ملفات القوة التي امتلكتها تركيا على مدار سنوات أربع. وفي مقابل ذلك، لم يترك كل من إيران وتركيا، وهما طرفا الشراكة مع روسيا، الحبل بالكامل بين يديها، فقد سعتا إلى محاصرة أطماع موسكو بالتفرّد، من خلال تفاهمات بينية بينهما، أنتجت انسحاب المليشيات الإيرانية من محيط إدلب، لتخفيف الضغط عن الفصائل المدعومة تركياً، في مقابل خرق تركيا العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، والإبقاء على تبادل السلع بين
“التعتيم على الخلافات المصلحية بين روسيا وإيران لا يجعل من تلك التباينات في ملف الصراع السوري غير مرئية للجانبين”
أسواقهما، لتخفيف عبء الحصار الأميركي على اقتصاديْهما، هو ما قد يترجم إلى تحالف القوى المهزومة أمام العقوبات الأميركية التي لم تستثن روسيا أيضاً منها، ويجعل من اجتماع طهران يوم الجمعة المقبل (7 سبتمبر/ أيلول) محطة مفصلية، لمواجهة مخاوفهم البينية من ناحية، ومخاطر التحرّك الأميركي الغربي في المقابل، من ناحية ثانية، فحيث لا يمكن تجاهل الخلافات التركية الروسية، بما يتعلق بدور كل منهما في ملف الصراع السوري، ومواقفهما المتضادّة أحياناً، على الرغم من شراكتهما في مساري أستانة وسوتشي، نتيجة مصالحهما المشتركة في إزهاق مسار جنيف الأممي الذي يتناقض مع رغبة موسكو بإعادة تعويم النظام السوري، كما يتضارب مع مصالح تركيا بما يتعلق بملف الأكراد، وتوسيع دائرة نفوذهم في الشمال، وفق دستورٍ يضمن حقوقهم كاملةً كمواطنين أفراد، وكجماعة قومية تتنافس معها على الشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية التي تسعى إلى تمكينهم من إقامة مناطق إدارة ذاتية شمال سورية، ما يهدّد، حسب زعم تركيا، الأمن القومي لها، ويهدّد استقرار مناطقها المحاذية لها، وهو ما جعلها تذهب إلى التحالف مع روسيا، على الرغم من اختلاف مواقعهما في ساحة الصراع في سورية.
كما أن التعتيم على الخلافات المصلحية بين روسيا وإيران لا يجعل من تلك التباينات في ملف الصراع السوري غير مرئية للجانبين، فإيران تدرك حجم التقارب الروسي – الإسرائيلي، كما تقيس بدقة مسافة تقارب موسكو مع واشنطن، بما يتعلّق بمبادرة السلام المزعومة في منطقة الشرق الأوسط (صفقة القرن)، حيث تقضي تفاصيلها بإبعاد إيران وتحجيمها، وتغيير سلوكها بما يتوافق والإرادة الأميركية الإسرائيلية في المنطقة، وبما يضمن أمن إسرائيل، وتوزيع خارطة النفوذ الاقتصادي بناءً على مبدأ الأرض مقابل السلام، والاقتصاد المتبادل مقابل الأمن والاستقرار.
وتأتي الرغبة الأميركية بإخراج إيران من سورية في مصلحة تمدّد النفوذ الروسي، وبما لا يتعارض مع إرادة كل من إسرائيل والإدارة الأميركية والدول الأوروبية، حيث تمارس روسيا دور الشرطي في المنطقة، كما تمثّل خط الدفاع الأولي لأوروبا في إبعاد مخاطر نمو التطرّف الإسلامي، الذي تدّعي موسكو محاصرته في إدلب اليوم، وأن من شأن وجودها في سورية طويل الأمد أن يبدّد ما عملت عليه المجموعات المتطرّفة فكرياً خلال سنوات الحرب.
وفي المحصلة، فإن الشركاء الثلاثة يحتاجون في اجتماعهم المقبل إلى تبديد مخاوفهم، والإفصاح عن مصالحهم، لإيجاد تقاطعاتٍ تحصّنهم من مواجهة ثنائية:
أولاً، ضد حلفائهم المحليين من النظام والمعارضة، حيث يعمل النظام على استرجاع منطقة خفض التصعيد الأخيرة، ليمتلك أوراق قوة تمكّنه من فرض رغباته في تفاهمات العملية السياسية، بدءاً من صياغة الدستور، مروراً بتشكيل الحكومة المشتركة بين شركاء طاولة التفاوض. ومن جهة المعارضة المسلحة، فإن أي تفاهماتٍ تؤدّي إلى تسوياتٍ على شكل ما حدث في درعا، وقبلها في الغوطتين، فهذا يعني إنهاء وجود الفصائل، وتحويلها إلى شرطة تحت إشراف مشترك روسي تركي، وهذا ما هو خلاف رغبتها، وتبعيتها التركية فقط، كما تجعلها، في الآن نفسه، في مواجهة جبهة النصرة التي تفوقهم عدداً وتدريباً وعتاداً.
ثانياً، بمواجهة خصومهم الدوليين الذين يرفضون وجود إيران ضمن تحالفٍ يصون مصالحها في سورية، ويبدّد جهود الإدارة الأميركية في حصارها، وتسوير نشاطها داخل حدودها، كما يخالف رغبتهم بتحجيم دور تركيا في إدلب، ومحاصرة مساعيها في الشمال، لإنهاء الوجود الكردي الحليف لقوى التحالف الدولي في معاركهم ضد “داعش”. ما يعني أن الثلاثي الدولي (روسيا، إيران، تركيا) يواجه اليوم معضلة لقاء مصالحه البينية، في ظل حروبٍ على أطرافه “مجتمعة”، و”منفردة”، كما يواجه معضلة تفرّد موسكو وتنمّرها على شريكيْها، باعتبارها تمتلك إرادة النظام “الطرف الشرعي” في ظل الحرب المعلنة على الحليف الآخر، والأقرب للنظام أي (إيران)، ما جعل النظام يتنازع بينهما، وينقسم على نفسه بين نظام سوري روسي ونظام سوري إيراني.
وينطبق هذا على حال الفصائل المسلحة المعارضة التي انقسمت أيضاً بين فصائل مسلحة تحت الرعاية الروسية وأخرى مسلحة تحت الهيمنة المباشرة التركية، وهو ما يهيئ أجواء متوترة للشركاء، على الرغم من الحالة الظاهرية للوفاق المعلن، حيث استغلت موسكو التوترات الأميركية – التركية لتلزم الأخيرة بالتخلي عن جبهة النصرة، والوقوف إلى جانبها في حربٍ محتملةٍ على الإرهاب الذي تمثله هيئة تحرير الشام، وفصائل من التركستان، والتي فتحت المجال لدخول الصين عليها طرفا مساندا للقوات الروسية، على الرغم مما يتّسع الوقت من مفاوضات لا تزال جارية بين الأطراف الدولية، لتطويق نتائج الحرب المحتملة التي ستبتلع جهود إيقاف تدفق اللاجئين، وإعادة توطينهم داخل بلادهم.
في المحصلة، الحرب التي يروّجها النظام السوري في إدلب تجعله في قلب العاصفة، وتهيئ المناخ المناسب لانتزاع أسباب تأجيل الحل السياسي الذي سعت إليه روسيا من خلال مساراتها التعطيلية لمفاوضات جنيف، وتترك المجال عكس رغباته لإعادة إحياء مسار جنيف، على أساس أن “لا مكان للأسد في مستقبل سورية”، ليبدو النظام وكأنه يحفر حفرة لرئيسه، بدلاً من ردمها.
العربي الجديد
معركة دمشق وليس إدلب/ ساطع نور الدين
المعركة ليست في إدلب بل في دمشق. هذا ما تقوله الغارة الاسرائيلية على مطار المزة فجر الاحد، وهذا ما تفصح عنه الكتابات والمواقف الصادرة من تل ابيب وواشنطن. إدلب تفصيل بسيط في اللوحة السورية المعقدة، بالمقارنة مع الصراع على من يتولى الوصاية على سوريا ومن يتمتع بالنفوذ الأخيرعلى حكامها.
لم يخف الاسرائيليون أنهم يتوقعون تسوية سلمية لمعضلة إدلب ، على الرغم من الضجيج الهائل الذي يدور حول معركتها الفاصلة. لعلهم يتمنون تلك التسوية او يدفعون في اتجاهها. المهم من وجهة نظرهم الا يخطىء أحد في تحديد طبيعة الفصل الاخير من الحرب السورية وأهدافها ونتائجها.
وفي هذا التحليل الاسرائيلي من الحجة ما تدعمه الغارة على مطار المزة: معركة إدلب تكاد تكون عبثية، إستعراضية، وغير مفيدة لأحد. طبول الحرب تكفي وحدها لتفاديها. تجريد حملة إبادة لنحو مليونين ونصف مليون إنسان سوري من أجل التخلص من نحو عشرة آلاف مقاتل من جبهة النصرة، لا يحقق أي غرض سياسي. فهؤلاء المقاتلون لم يعد لهم أي غطاء. لم يكن لهم أصلا أي تغطية، أو صدقية سوى ما يميزهم عن الدواعش المستوردين من كوكب آخر، وما يجمعهم من عزم على الثأر من النظام، وفق منظور خلاصي اسلامي فارغ المحتوى. كانوا بمثابة فئة شريدة (ضالة) تقطعت بها السبل السورية، وها هي اليوم تستعد للتسليم بأنها وصلت الى نهاية الطريق، ولم يبق امام مشايخها وافرادها سوى ان يهيموا على وجوههم، ويهاجروا الى المجهول.
عندها يمكن ان تصبح التسوية ممكنة، وأن تكون شروطها أفضل من بقية التسويات التي جرت في أنحاء سورية أخرى، فقط لأنها ستكون بضمانة روسية تركية مشتركة هذه المرة، تحول دون وضع النظام أمام إختبار قدرته، المشكوك بها أصلاً، على فرض سيطرته على تلك المحافظة المكتظة بالمسلحين والنازحين والمعارضين الذين لم يعد لهم مكان يفرون اليه. وبالتالي لا حاجة الى مذبحة كبرى، يرتكبها الروس والنظام، برغم ان أحداً لن يمنعها وربما لن يحتج عليها، طالما أنها كانت نظيفة من الاسلحة الكيماوية.
المعركة الحقيقية، او بالاحرى المصيرية، هي في دمشق. عبّر الاسرائيليون في الغارة على مطار المزة عن ضيقهم من الصديق الروسي الذي يتباطأ في عملية إخراج إيران من سوريا، بحجة أنه غير قادر على الاقدام على هذه الخطوة، أو لعله راغبٌ في الحصول على ثمنها سلفاً. لا تريد إسرائيل ولا واشنطن طبعا ان يكون الايرانيون مدعوين الى حفل إعلان نهاية الحرب السورية، وتوزيع غنائمها. وثيقة التعاون العسكري السوري الايراني التي وقعت الاسبوع الماضي في دمشق، كانت خطوة تعكس الكثير من التحدي، برغم ان مضمونها قد لا يعني شيئا بالنسبة الى مستقبل سوريا المحدد كقاعدة عسكرية وسياسية روسية لا تحتمل أي شراكة أو منافسة.
لكن اسرائيل لم تقصف مطار المزة رداً على تلك المعاهدة السورية الايرانية. ثمة سياق مفتوح من قبل الاسرائيليين والاميركيين غايته إعادة إيران الى داخل حدودها التي غادرتها منذ غزو العراق في العام 2003 ، والتي وسعتها الى أعماق العالم العربي عندما بدا لها ان الاسلاميين(السنّة) تمكنوا من خطف الثورات العربية بعد ربيع العام 2011. هذا السياق يدخل الآن في مرحلته الحرجة: الحصار يشتد على إيران، وهو ينذر بإختناق الدولة الايرانية وربما إفلاسها، عندما يسري مفعول العقوبات النفطية في تشرين الثاني نوفمبر المقبل.
الغارة على مطار المزة تعيد تسليط الاضواء على ما يفترض ان يتم في دمشق، لا في إدلب.. كما تعيد توجيه الانظار مجدداً الى ان سوريا ستكون واحدة من أهم جبهات المواجهة الاسرائيلية-الاميركية الايرانية.. مع أنها لن تكون الجبهة الوحيدة.
المدن
لماذا معركة أدلب والاتفاق النووي استوجبا وجود إيران في سوريا؟/ د. عصام نعمان
كل الأنظار تتجه الآن إلى إدلب، متى تبدأ المعركة الأكثر خطورة في حرب السنوات السبع السورية؟ ما تداعياتها، محلياً وإقليمياً؟ ما مطالب الأطراف الإقليمية والدولية المشاركة فيها مباشرةً أو مداورةً؟
تلتقي أطراف عدّة في مساعٍ حثيثة لتفادي معركة دموية مدمرة لن تنتهي قبل قتل وجرح عشرات الآلاف، وتهجير ما لا يقلّ عن المليون.
سوريا ما عاد في مقدورها استيعاب المزيد من المهجّرين فوق مئات آلاف المشردين حاليّاً في مختلف مناطقها، لذا تراها حريصة على إجراء مصالحات محلية مع سكان بعض البلدات والقرى لتفادي مفاعيل الاشتباكات الضارية.
تركيا تتخوف من تدفق المزيد من اللاجئين إلى ديارها، حيث تأوي نحو مليونين من أقرانهم السوريين الهاربين من أهوال الحرب. أوروبا قلقة هي الاخرى من احتمال اتجاه آلاف اللاجئين إلى دولها المرهقة بآلافٍ منهم منذ سنوات.
أمريكا تريد أن تتدارك انعكاسات نجاح الجيش السوري في استعادة إدلب على وجودها العسكري في شمال شرق سوريا حيث حلفاؤها الكرد المعادون لتركيا من جهة والمعارضون للحكومة السورية من جهة اخرى.
«إسرائيل» تخشى أن يؤدي انتصار الجيش السوري في إدلب إلى تدعيم سلطة الحكومة المركزية في دمشق، وترسيخ تحالفها مع إيران ووجودها العسكري في بعض مناطق البلاد.
روسيا تضع في حسبانها مخاوف سائر أطراف الحرب في سوريا وعليها، لكن يهمها، في الدرجة الاولى، مستقبل وجودها العسكري في سوريا ودورها السياسي في المنطقة.
كل هذه المخاوف والهواجس والمصالح والمطالب مهمة لأصحابها، لكن أهمها هو الوجود الإيراني في سوريا، الذي يتصل بثلاث قضايا رئيسة كان وزيرالخارجية الفرنسي جان- ايف لودريان قد حدّدها بقوله: «إيران لا يمكنها أن تتفادى مفاوضات في شأن ثلاثة ملفات كبرى تثير قلقنا هي، مستقبل الالتزامات النووية بعد سنة 2025 (تاريخ انتهاء مدة الاتفاق النووي) ومسألة الصواريخ الباليستية، وحقيقة أن هناك نوعاً من الانتشار الباليستي من جانب إيران، والدور الذي تضطلع به في المنطقة».
هذه القضايا الثلاث الكبرى لا تقلق دول اوروبا فحسب، بل تقلق ايضاً وربما أكثر، كلاًّ من أمريكا و»إسرائيل». فالولايات المتحدة، في ظل إدارة ترامب، تعتقد أن في وسع ايران امتلاك اسلحة نووية بقدراتها الذاتية حتى قبل انتهاء مفاعيل الاتفاق النووي سنة 2025، الامر الذي يهدد نفوذها ومصالحها في الشرق الاوسط وغرب آسيا. «إسرائيل» ترى هي الاخرى أن امتلاك ايران صواريخ باليستية للمدى البعيد يهدد أمنها القومي، ولاسيما إذا ما قيّض لوجودها العسكري أن يبقى راسخاً في سوريا.
مكمن الخطورة في هذه القضايا الثلاث الكبرى أنه لا أمريكا ولا روسيا ولا دول اوروبا في مقدورها حمل ايران على سحب وجودها العسكري من سوريا، ولا إيران يسمح امنها القومي بالتخلي عن خيارها الإستراتيجي في بناء صناعة صاروخية باليستية.
ذلك كله يطرح سؤالاً بالغ الخطورة: هل ينجرف أصحاب الرؤوس الحامية في ادارة ترامب مع ضغوط «إسرائيل» ونفوذها القوي في الكونغرس، فيشيرون على الرئيس الامريكي، المعروف بنزقه وتهوره، بضرورة شن الحرب على ايران في عمقها، كما في مواقع تواجدها في الخارج، بغية تدميرها وإضعافها وجعلها عاجزة عن بناء صناعة نووية أو صناعة صاروخية باليستية؟
هذا خيار جنوني. لكن الأرجح ألاّ يقترن بقرارٍ اكثر جنوناً، مع ذلك لا بد لإيران وسوريا، كما لروسيا، من أن تضع في حسبانها إمكانية أن يركب ترامب ومستشاروه المتهورون رؤوسهم فينزلقون إلى حربٍ ستصبح بالتأكيد عالمية وكارثية.
ماذا تفعل إيران؟
لا سبيل، على ما يبدو، إلى أن تتراجع إيران عن قرارها الاستراتيجي بناء صناعة صاروخية باليستية لسبب جوهري هو، أن الاتفاق النووي لعام 2015 منعها من بناء صناعة نووية حربية، في حين انه ترك «إسرائيل»، ومن ورائها أمريكا، حرّة وقادرة على انتاج واستعمال أسلحة نووية دونما قيود. والحال أن «إسرائيل» تعتبر إيران عدواً موصوفاً ولا تنفك تدعو الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات اقتصادية عليها وصولاً إلى إضعافها وإسقاط نظامها السياسي، كما لا يتوانى بعض قادتها عن دعوة إدارة ترامب إلى شن الحرب عليها لتدميرها وإخراجها نهائياً من حلبة الصراع الإقليمي.
ازاء تحديات معقدّة وبالغة الخطورة كالتي تحتدم حاليّاً في منطقة غرب آسيا، لا يسع إيران إلاّ أن تعوّض افتقارها إلى سلاح نووي بتوفير قوة نارية هائلة لردع اعدائها، قوة لا يمكن امتلاكها، وبالتالي استعمالها إلاّ بحيازة صواريخ باليستية بعيدة المدى لنقلها إلى أعماق أراضي أعدائها. صحيح انه من الممكن حيازة هذه الصواريخ واطلاقها من داخل ايران إلى داخل «اسرائيل»، مثلاً، لكن امتلاك قواعد لإطلاقها في سوريا المجاورة للكيان الصهيوني يقصّر المدى المطلوب لدقة التصويب، ويُنتج فرصاً اكثر لتحشيد عدد كثيف منها، الأمر الذي يؤمّن لإيران (كما لسوريا) فاعلية ردعية أكبر وأقوى.
الى ذلك، تتيح قواعد الصواريخ الباليستية الإيرانية في سوريا حجة وازنة لدمشق لتقول لـِ»إسرائيل» وراعيتها أمريكا أن لا سبيل إلى إنهاء قواعد إيران الصاروخية الباليستية في سوريا قبل إنهاء الاحتلال الصهيوني للجولان السوري.
هكذا يتضح أن خروج أمريكا من الاتفاق النووي مع بقاء «إسرائيل» مدججة بأسلحة نووية، لا يحول دون خروج ايران من سوريا فحسب، بل يُحتّم ايضاً بقاء قواعدها الصاروخية فيها لدواعٍ ردعية مشروعة.
*كاتب لبناني
القدس العربي
خيارات إدلب ومستقبلها/ عمار ديوب
[1-2]
لم تتأخر محافظة إدلب في سورية عن الانخراط في الثورة؛ فهي تشبه في ذلك حمص وبانياس وبعض أحياء اللاذقية وريف دمشق ودرعا ودير الزور، وغيرها. ظلت دمشق وحلب بعيدتين، وكذلك محافظات السويداء وطرطوس وأغلبية أحياء اللاذقية. وللانخراط والابتعاد أسبابهما المتعدّدة، وهناك نقاشات تناولها السوريون كثيراً، وتفضي إلى أسباب طبقية ودينية وطائفية. الأسباب نفسها هذه طرأت عليها تعديلات مع مرور ثمان سنوات على الثورة.
مشكلات إدلب
لمحافظة إدلب مشكلات سياسية واقتصادية؛ فسياسياً هي بحكم المهمّشة أكثر من المدن الأخرى، وحصلت فيها مجازر كبيرة تلت مجزرة حماه في الثمانينيات. وكانت من المدن المغضوب عليها اقتصادياً كما حماه؛ فلم يكن فيها أي شكل من الاستثمارات الحكومية أو حتى الخاصة. هي مدينة مهمّشة، يتكئُ النظام عليها في وظائف هامشية في الدولة، تخص الشرطة والوظائف الدنيا في الجيش والجمارك بشكل خاص. على الرغم من ذلك كله، لم يكن في هذه المدينة مواقع عسكرية ضخمة، كما حال حمص أو درعا مثلاً؛ فالقطع العسكرية كانت أيضاً هامشية، وهذا مهم لجهة كيفية تطوّر الثورة فيها.
“لمحافظة إدلب مشكلات سياسية واقتصادية؛ فسياسياً هي بحكم المهمّشة أكثر من المدن الأخرى، وحصلت فيها مجازر كبيرة”
قبل الثورة، كان هناك نهوضٌ زراعيٌّ يخصّ زراعة الأشجار، وهو أمر عام في سورية. وعلى الرغم من ذلك، عانت أغلبية سكانها من الإفقار الواسع، وكانت تتكئُ على لبنان أيضاً، فسافر إليه مئات الألوف من شبابها بقصد العمل، ومنهم مثلاً جمال معروف، الذي عاد مع بدء الثورة، ثم صار القائد العام لجبهة ثوار سورية، والأسوأ أنه ليس عسكرياً ولا حاصلاً على شهادات جامعية معتبرة! طبعاً لم تكن في سورية احتجاجات شعبية واسعة قبل الثورة، ولم يعرف السوريون بعضهم بعضاً، وبالتالي انزوت المدن بقضاياها، وعَظّمَ النظام من شأن المحليات والعائلية والتديّن والطائفية والذكورية، والانتهازية والطقوس في ذلك كله، وبالتالي أصبح النفوذ والهيبة مرتبطين بهذه العقليات وبالفساد المعمم عبر الدولة.
الثورة فاجأت الشعب
فاجأت الثورة الشعب، فليس من سوريٍّ كانت يتوقعها، وربما باستثناء قلّةٍ كانت تراقب الإفقار وسياسات الخصخصة التي تفضي إلى فوارق طبقية كبيرة؛ حتى هؤلاء المراقبين لم يكونوا واعين لتأثير تطورات ما قبل الثورة والتشكّل الاجتماعي قبلها، وشكل الوعي حينها، وكذلك لم يعوا جيداً الخيارات التي سينتهجها النظام الشمولي في مواجهة الثورة. لم تتم دراسة المسألة هذه، فما هي طبيعة النظام السوري، والتي سمحت له برفض الاستجابة لمطالب الشعب والاتكاء على الخيار الأمني والعسكري خيارا وحيدا، والاعتماد على المليشيات الطائفية الخارجية والداخلية، والتي لا علاقة لها بمؤسسات الدولة، وبالنهاية تسليم البلاد لدولٍ أجنبية، كإيران وروسيا، وذلك مقابل البقاء في السلطة، أي التضحية ليس بالشعب، بل بالبلاد، من أجل ديمومة السلطة.
إدلب المرهقة اقتصادياً، فلا استثمارات حكومية أو خاصة، المدينة المسمّاة مدينة المدن المنسية، والتي فيها أكثر من 500 موقع أثري (وفق الويكيبيديا)، لم تنل أي اهتمام سياحي، والأمر نفسه في بقية المدن، علماً أن سورية، وليس إدلب فقط، يمكنها أن تنهض وتتطور، اعتماداً على السياحة والآثار، وهي ميزةٌ ليست متوفرة في دولٍ كثيرة. المهم أنه على الرغم من ذلك الإرهاق، تأثرت المدينة بنتائج السياسة الليبرالية التي اعتمدها النظام سياسة عامة للدولة مع عام 2000. وبالتالي، تجمَّد التطور الزراعي، وأصبحت كلفته عالية، وبرز فقر كبير، وعمالة في لبنان، وأزمة سياسية لم تحل منذ الثمانينيات، ومجازر واعتقالات قديمة، لم تجد لها حلاً أبداً؛ الأسوأ من هذا كله أن النظام قدّم أجهزة أمنه كأنّها تمثل الطائفة العلوية، وبالتالي تشكّلت نقمة عامة، خافية ومنذ الثمانينيات بشكل أساسي، وتنتظر أن تتفجر.
مظاهرات إدلب وحادثة جسر الشغور
لم تتوقف المظاهرات منذ بدأت في الأشهر الأولى في إدلب، لكن ضعف وجود قطع عسكرية، وحتى الوجود الأمني الذي كان هشّاً، ساهم في تطور خاص في المدينة، ولم تستفد المعارضة من مجزرة جسر الشغور في يونيو/ حزيران 2011، وتمّت في فرع الأمن العسكري، وقتل فيها أكثر من 80 شخصا، وقتل 40 شخصا في الوقت نفسه كانوا قادمين للمؤازرة؛ وأسست تلك الحادثة لبذور طائفية لم يتم لجمها أبداً، فأغلبية القتلى من الطائفة العلوية، والذين ارتكبوا المجزرة من الطائفة السنية. تركهم النظام ليُقتلوا وليستثمر في ذلك، ولم تندّد المعارضة بشكل كامل بها، وبالتالي النظام والمعارضة سقيا الطائفية مجدّداً. طبعاً حدثت وقائع في حمص وبانياس واللاذقية، وكان هدفها كلها تغليب الطائفية على الثورة، وتحويلها إلى اقتتال طائفي، وليس شعبيا، ومن أجل نظام أفضل.
ردّ النظام حينها باجتياح جسر الشغور وأريحا ومعرّة النعمان وكانت مدينة إدلب تحت سيطرته، وكرّر اجتياحاته مرات عديدة طوال العام 2012، وبعدها لم يعد قادرا على ذلك، فانسحب وتمركز في مناطق بعيدة عن بلدات الداخل، لكنه بقي في إدلب المدينة حتى 2015، حيث تمّ طرده عبر جيش الفتح، والذي تشكل من جبهة النصرة و”أحرار الشام” بشكل رئيسي.
توسّعت المظاهرات، بعد أن بدأت في إدلب في أوائل إبريل/ نيسان، ولم تتوقف بعدها، حتى قورنت بتظاهرات درعا. وكما جرى في درعا خصوصا، بدأت تتشكل نوى صغيرة للجيش الحر، ولم ينتهِ 2011 إلا وقد ظهرت، وتلتها بالتشكل حركة أحرار الشام بقيادة جهاديين أُطلق سراحهم من سجن صيدنايا. ومع بداية 2012، ظهرت جبهة النصرة هناك. المهم ألا ننسى مسألتين هنا، فقد أطلق النظام في يونيو/ حزيران 2011 مئات الجهاديين، ومنهم من اعتقلهم إثر العام 2003، وحينها كانوا ينضوون في إطار تنظيم جند الشام، وقد انتعشت حينها الحاجة للجهاديين لتخريب المقاومة العراقية، وتسهيل مهمة الاحتلال الأميركي، وقد شارك جهاديون سوريون فيها، وبعودتهم تمّ اعتقال الأغلبية؛ هؤلاء وسواهم أُطلق سراحهم، وبرز منهم قادة جهاديون وسلفيون، شكلوا أخطر التنظيمات الإسلامية، مثل زهران علوش (جيش الإسلام)، وأبو محمد الجولاني (جبهة النصرة)، وأبو عيسى الشيخ (صقور الشام). لم يهتم الإسلاميون والسلفيون بالمظاهرات وتطويرها، ولم ينخرطوا في إطار فصائل الجيش الحر، وتمّ، في الوقت نفسه، إقصاء الضباط المنشقين، وأبعد معظمهم عن العمل العسكري. ويمكن تذكّر ظاهرة المقدم حسين هرموش و”لواء الضباط الأحرار”، وقد صُفيت حركتهم بالتعاون بين النظام وجهات إقليمية ومحلية معارضة! إذاً لنتأمل المشهد هنا، قلّة في القطع العسكرية للنظام، وتحرير معظم المناطق بأيدي الجيش الحر، وغياب أعمال مؤسّسية للثوار الأوائل؛ لدى الجهاديين والسلفيين رؤية ثابتة للحياة، تخصّ العسكرة والقضاء والأمن، وهناك الإمداد المالي الخارجي، وبذلك تقدّمت هذه الفصائل على بقية الفصائل، بسرعة وسهولة، وقضت عليها.
شعبية الثورة وآلية تخريبها
تكمن مشكلة الثورة في سورية، كاحتجاجات شعبية عارمة، وردّاً على وضع اقتصادي واجتماعي مزرٍ، في أنّها واجهت نظاماً لا يقيم للشعب ولا للبلاد وزناً، ولا يفكر بحلٍّ تصالحي مع الشعب، وكذلك لم تتبنّ المعارضة مشروعاً وطنياً لكل مشكلات سورية، فكانت “تثرثر” بالديمقراطية كأنها سحر، وبها يتحقّق النهوض والانتقال السياسي، ويُكمّل ذلك ولعها بفكرة استجلاب الدعم الخارجي. عانت الثورة في كل مدن سورية من ذلك، واعتقدت هي والمعارضة أن النظام سيسقط سريعاً، كما حال تونس ومصر. وكان طبيعيا ألا تستطيع الثورة الشعبية طرح بديل سياسي متكامل لمشكلات سورية، فقد قادها شبابٌ لم يعايشوا أية حياة سياسية أو ثقافية أو فكرية ديمقراطية، ولم يكن يُعترَف للسوريين بأية حقوق سياسية. في ظل وعيٍ كهذا، فإن الوعي الثوري بضرورة إسقاط النظام، أو إصلاحه، لم يشكل مرجعية لتطوير رؤية الثورة، وكلما تأخر سقوط النظام، راح يتقدّم الشكل السائد للوعي السابق للثورة، أي العائلية والمناطقية والدينية والطائفية والعشائرية. ومع توسع الثورة، وتحريرها مختلف المناطق، كان لا بد من محاصرتها، وهنا “تحالف” النظام والدول الإقليمية والعالمية على فتح الحدود السورية لجماعات جهادية تخريبية، جُرّبت من قبل في العراق، ودُرس دورها في تدمير البلاد في أفغانستان وسواها، وبالتالي لا يمكن إيقاف المدّ الثوري من دون ذلك. وفي هذه النقطة، يمكن قراءة التصريحات الإيرانية عن دورهم في إنقاذ النظام من السقوط وتثبيته، وكذلك التصريحات الروسية بخصوص الفكرة ذاتها، أقصد إن غياب برنامج للمعارضة وفاشية النظام والجهاديين جميعاً لم يوقِف الثورة، فكان التدخل الإقليمي والدولي، وهذا ما حاصرها وشوّهها، ولعبت فوضى المال والسلاح والأسلمة دوراً مركزياً في إفشال الثورة. إدلب النائمة على ثارات من أزمة الثمانينيات، ومعتقلين سلفيين وجهاديون منذ 2003، وتيارات سياسية معارضة قديمة “ليبرالية وشيوعية”، أقول إن كل هذه العناصر، مع غياب برنامج يجمعها أو قيادة، وهو أمرٌ عام في سورية، ومع كل ذلك التشتت، سمحت للنظام باستعادة المدينة مراتٍ، حتى سقطت نهائياً في 2015 بواسطة “جيش الفتح”، وبدعم إقليمي كبير، ولكن ذلك كله لم يسمح بنشوء تكتلات شعبية ثورية وموحدة، ولديها الأهداف نفسها.
أسباب تقدّم الجهاديين
تطورت الاحتجاجات في مدينة إدلب، وازدادت أعداد المشاركين فيها، لكن النظام فشل في استعادة البلدات، ولا سيما بعد منتصف 2012، وحدثت مجازر كبرى في البلدات، وتعاظمت أعداد المعتقلين، والأسوأ بروزعدد هائل من الفصائل. وفي كل بلدة هناك أكثر من فصيل. وطرح ظهور الفصائل، ولا سيما بعد إفشال تجربة الضباط الأحرار، واعتقال قائدها، مسألة
العلاقة بين بعضها، ومرجعتيها، وعلاقتها بالشؤون المدنية للأهالي، وكذلك العلاقة العائلية والدينية والطائفية؛ فكيف سيتم تنظيم كل هذه القضايا، والمعارضة لم تكن تمتلك برنامجاً يتناول كل هذه القضايا، ما سمح للفصائل الأكثر تنظيماً ودعماً بالتقدّم سريعاً، وترافق ذلك مع غلبة الهويات الما قبل الوطنية على العقلية والمرجعية، واعتقال شباب التنسيقيات الأولى، وتلاقى هذا مع تدخل إقليمي لصالح تغليب هذه القضايا على العقلية الثورية، وحصر الثورة في سورية وتشويهها؛ قلت إن ذلك حقق مصلحة للنظام من ناحية، ولتلك الدول من ناحية أخرى، ومن ناحيةٍ ثالثةٍ لتياراتٍ في المعارضة.
مع تشدّد النظام بالقمع وتوسع استخدام مختلف أشكال السلاح، ومنها المدفعي والدبابات والكيميائي والطيران وسواه، ورفض أية واسطة عربية أو دولية لتقديم العقل والسياسة، مالت أغلبية الفئات الثورية والمدن المحاصرة للابتعاد عن النظام. التفتُّت والفساد والقتل العشوائي والتسليح وغياب الرؤية الثورية، وتململ الشعب من تلك الممارسات، ساعد السلفيين والجهاديين بالتشكل والتوسع، ولا سيما أنهم ادّعوا التديّن، ولم يتدخلوا بشؤون الناس فوراً؛ في هذه النقطة، وباعتبار أن لإدلب امتدادا كبيرا مع تركيا، وشرقها أرياف حلب وغربها أرياف اللاذقية وشمالها ريف حماه، وكلّها خارجة عن النظام، وكذلك معظم الجغرافيا السورية، أقول ضمن هذا الإطار، كان سهلاً على الجهاديين التقدّم سريعاً، والبدء بقضم الكتائب، ولا سيما أن أغلبية الفصائل الجهادية نشأت في إطار حركة أحرار الشام، وانفصلت عنها “أو الصمت عنها”. ويشكّل ضعف التنظيم بهذه الحركة، وكذلك الدخول الخارجي على خط تشكيل فروع لتنظيم القاعدة، سبباً في تصاعد ذلك المناخ. وبالتالي تقدّمت الجهادية المالكة لمشروع إسلامي متطرّف، ويتناول كل شؤون الحياة، وهذا شكّل مرحلة جديدة في تطور الثورة، عبر حركات مضادة للثورة، وبهدف تخريبها وتشويهها، وتسهيل مهمة دحرها؛ حيث كَفّرت حركة أحرار الشام، في بداياتها، الفصائل الثورية، ورفضت الانخراط فيها، ورفعت علمها الخاص، ولم تضع نفسها في إطار العمل السياسي للمعارضة أو للثورة. فللأحرار مشروعٌ سياسيٌّ مختلف، وهو مشروعٌ جهاديٌّ، ويريد إقامة دولة إسلامية. وقد ساعد ضعف الأحرار في بروز حركات أكثر تطرّفاً، كجبهة النصرة و”داعش” وجند الأقصى، وساعد في ذلك وصول المجاهدين العرب الخبراء في كل أشكال الغلو والتطرّف.
وسمحت قوة الثورة ووجودها في مختلف بلدات إدلب وسورية، بتعدّد كبير في الفصائل الثورية، وكذلك في الحركات الجهادية والسلفية، وهذا ما منع بروز قيادة موحّدة للعمل السياسي أو العسكري أو الإغاثي أو الإعلامي. أراد النظام ذلك، والإخوان المسلمون أيضاً، ومختلف قيادات هذه الحركات، فهي تريد القيادة لها، وهناك التدخل الإقليمي والدولي، وهذا ما ساهم بالتدريج بهيمنة الجهادية وسحق الفصائل. ولم نصل إلى عام 2015 إلا وكانت مختلف فصائل الجيش الحر قد تلاشت، أو أصبحت في تركيا أو ضعفت، وهذا أدى إلى هيمنة جبهة النصرة و”فتح الشام” على معظم إدلب، وبشكل أخفّ حركة أحرار الشام التي تراجع وجودها في 2017. وسيتطرّق الجزء الثاني من هذه المطالعة إلى كيفية تشكل أحرار الشام وجبهة النصرة و”داعش” وجند الأقصى، وتلاشي بعض هذه الفصائل وتشكل مجموعات أخرى.
[2-2]
تتّجه أنظار السوريين إلى إدلب الآن؛ إذا إن مصيرها تتدارسه الدول الإقليمية والعالمية، فهل سيتم تصفية وضعيتها “خفض التصعيد”، حيث استفادت جبهة فتح الشام (جبهة النصرة) منها، وفرضت سيطرة كاملة على المدينة، وهل سيستمر ذلك لها، وكل الدول تصنفها جبهة إرهابية، ويجب الخلاص منها. الجبهة معنيةٌ بحلِّ نفسها، وتركيا معنيةٌ بشن حرب عليها، روسيا وحلفاؤها معنيون بالحرب كذلك، ولطالما شنّوا هجماتٍ مستمرّة عليها، وقد بدأوها مجدّداً في ليل 10/8/2018، وكذلك أميركا وحليفتها “قوات سورية الديمقراطية”.
حاول الجزء الأول من هذه المطالعة إيضاح خصوصية مدينة إدلب، فقد تطرق إلى أوضاعها قبل العام 2011، وبعدها، ووصولاً إلى الوضع الراهن. يحاول الجزء الثاني إيضاح كيفية تشكيل الفصائل السلفية والجهادية والجيش الحر، والصراع بينها، وهيمنة جبهة فتح الشام في اللحظة الراهنة.
تزامن الإطلاق والتشكّل
تزامن تشكّل الجماعات السلفية والجهادية في سورية مع إطلاق النظام سراح مئات المعتقلين في الشهر الخامس من عام 2011، أي بعد بدء الثورة الشعبية بشهرين، وتربط أغلبية التحليلات سبب ذلك الإطلاق بضرورة تشويه الثورة وتخريبها وهزيمتها. انخرط أغلبية من أُطلق سراحهم في تلك الجماعات، و4 شخصيات منهم ومن مؤسسيها؛ فجيش الإسلام أسّسه زهران علوش، والفاتح الجولاني (أسامة العبسي) أسّس جبهة النصرة، وحسان عبود أسّس
كتائب أحرار الشام، ولاحقاً أصبح اسمها “جبهة أحرار الشام الإسلامية”، حينما تحالفت مع كتائب أخرى، وظلَّ في قيادتها إلى 9/9/2014، حينما لقي حتفه في تفجيرٍ كبيرٍ، هو وقرابة خمسين من قادة الصف الأول في الأحرار. الأخيرة من أكبر الجماعات السلفية / الجهادية في كل المدن السورية، وقد تهمّشت، بعد خسارتها المعركة الأخيرة مع جبهة النصرة في يوليو/ تموز 2017، وكذلك بعد فقدانها قادتها المؤسّسين 2014. يضاف إلى كل ما سبق أن قيادات تنظيم (داعش) جاءت من العراق، وللقصد ذاته، أي تخريب الثورة وتفشيلها، وخاض حروباً متعدّدة ضد كل الفصائل المعارضة للنظام، وسواء أكانت سلفية أم جهادية أم من الجيش الحر، وهناك ترابط دقيق بينه وبين النظام، حيث تندر العمليات العسكرية بينهما.
تأسّست ثلاث من الجماعات الجهادية والسلفية في إدلب، وهي مركز انطلاقتها وتطوّرها ونهايتها، أحرار الشام، وجبهة النصرة، وصقور الشام. والسؤال: لماذا وجدت هذه الحركات أرضاً خصبة لها في إدلب؟ ولماذا لم تنضوِ في جماعةٍ واحدة، وتُشكّلُ قوةً ضاربة ضد النظام؟ ولماذا ظلّت تقيم التحالفات بين بعضها، وتُحاول سحق الجماعات الأخرى في الآن نفسه! تشكلت هذه الجماعات وتوسعت في الفترة ذاتها، وأنشأت لنفسها فروعاً في مختلف مدن سورية؛ وإن ظلت “صقور الشام” مقتصرة على إدلب بشكلٍ أساسيٍّ، ولا سيما بجبل الزاوية. توسع “داعش” أيضاً وتمدّد إلى مختلف المدن، وشكّل دولة وخلافة، وشطب الحدود، وتوسّع إلى خارج سورية والعراق. يعود اختلاف هذه التجارب إلى اختلاف رؤية قادتها ومرجعياتهم الفقهية والجهادية، وارتباطاتهم الإقليمية والدولية والمحلية. الشيء الوحيد الذي يجمعهم أنهم استغلوا الواقع السوري الثائر، ليقيموا إماراتهم؛ والنظام وحلفاؤه ومعارضوه من الدول أرادوا ذلك أيضاً ليتخلصوا من الثورة أولاً، ومنهم ثانياً!
تَجاورَ محافظة إدلب الدولة التركية، وضُعف موقعها الجغرافي وبعده عن العاصمة والوسط، وقلة ثرواتها الباطنية، ووجود إرث انتقامي إخواني في الثمانينيات، أقول ربما تضافرت كل هذه العناصر لتظهر تلك المنظمات في المحافظات. والمنظمات الجهادية رفضت الاحتجاج السلمي والمظاهرات، وعلى الرغم من محاولة كل من رئيس جبهة أحرار الشام، حسّان عبود، وقائد “صقور الشام”، أبو عيسى الشيخ، القول إن تنظيماتهما شاركت ضمن المظاهرات المدنية، ثم اقتنعوا أن لا شيء يُسقط النظام إلا العسكرة، فإن الخيار العسكري كان هو الأساس في تشكيل هذه الجماعات. وهنا يفاخر حسّان عبود وصقور الشام بأنهم كانوا من أوائل دعاة العسكرة، أي أنهم لم يقتنعوا بكل مسار السلمية، وطبعاً كانوا يعلنون أنهم ليسوا مثل الثوار، وأكدوا مرّاتٍ أنهم ليسوا كالجيش الحر، أو المعارضة أو الإخوان أوالتنسيقيات. تتحدّد إشكالية هذه الجماعات في طبيعة برنامجها الجهادي والسلفي والديني المضادّ للثورة، وفي رفض تشكيل قيادة موحدة للعمل العسكري، ورفض الانصياع للمعارضة السياسية، ورفض أعلام الثورة وشعاراتها؛ وبالتالي لم تتلكأ هذه المنظمات في عدائيتها للثورة الشعبية، وتبنّت خطابَ النظام في تعريف الثورة أنها ثورة للطائفة السنية وضد النظام العلماني، أليس هذا ما عمّمه النظام؟
الهيمنة والتعدّد الفاسدان
لا يمكن لعاقل أن لا يرفض أسباب الخلاف في تشكيل منظمات مستقلة عن بعضها، فجبهة
النصرة جزء من تنظيم القاعدة بقيادة أيمن الظواهري، وجبهة أحرار الشام تشكلت تيارا سلفيا جهاديا رافضا “القاعدة” والإخوان المسلمين والجيش الحر، وتشكلت “صقور الشام” تنظيما محليا في جبل الزاوية، وظل هامشيا. أما “داعش”، فتشكل ليكون امتدادا لتنظيم القاعدة في العراق. وبرزت كتائب الجيش الحر وفقاً لتوزعات القرى والبلدات والمناطق ولحماية المظاهرات فقط، وتبنّت شعارات الثورة السلمية، وظلّت مشتتة، ولم تخضع لقرارٍ عسكري واحد، على الرغم من بروز هيئات عسكرية لها، وهو مؤشّر خطير على انعدام أي رؤية وطنية للثورة والمعارضة والكتائب؛ وقد استغل النظام هذا الأمر جيداً في خطابه المضادّ لها، وكذلك استغلته المنظمات الجهادية والسلفية، وشكّلت مجموعاتها. طبعاً، يخفي هذا التعدّد رغبة في التسلط والقيادة وإلحاق الآخرين، وهناك من يؤكّد أن الأسبقية لدى كل من “داعش” وجبهة النصرة هي للمرتدّين “والصحوات” على الكفرة “النظام”، أي المنظمات المحلية أولاً وثانياً النظام! لم يتوان عن ممارسة الهيمنة على الآخرين أي فصيل أو جماعة، وكذلك المعارضة السياسية من مجلسٍ وطنيٍ وائتلاف وهيئة تنسيق وحتى التنسيقيات. ليست المشكلة في الوحدة أو التحالف، بل في الإلحاق والسلبطة وغياب الرؤية الوطنية. هنا الإشكالية، وهي إحدى النوافذ التي ساعدت النظام، ولاحقاً روسيا، على الاستفراد بالمناطق والمدن وسحقها مدينة مدينة، حتى وصلنا إلى الحالة الراهنة من غيابٍ كبيرٍ لدور الفاعل المحلي، معارضةً ونظاما وفصائل، وتحكم الدول الإقليمية والعالمية في الشأن السوري بشكل كامل، وبالتحديد كل من إيران وروسيا وتركيا.
رؤية “أحرار الشام”
تشكلت كتائب أحرار الشام من خمسة فصائل، وبعدها توسّعت إلى ثلاثين ثم تسعين فصيلاَ، ثم تشكلت الجبهة الإسلامية واشتركت بمسمّيات كثيرة؛ فقد امتدت إلى مختلف بلدات إدلب وسورية. يؤكد “الأحرار” أن تنظيمَهم محلي ووطني، وأنهم ساعون إلى دولة سورية تستند إلى الشريعة، بينما جبهة النصرة ومختلف التنظيمات الجهادية يؤكّدون عالمية الإسلام والجهاد وتطبيق الحدود المباشرة، وليس التدرّج بها أو تأجيلها. صقور الشام أقرب إلى “الأحرار”، بينما “داعش” هو الأب الروحي لجبهة النصرة، ولنقل إن الأخيرة كانت جزءاً منها، ومعروف للجميع كيفية خروجها من رحم “داعش”، وهناك من يؤكد أن الاثنين وجند الأقصى في إدلب كلها خرجت من عباءة (ربما الأدق صمتها عنها) “أحرار الشام”. ولهذا الرأي بعض الاعتبارات، فـ “الأحرار” جمعوا في حركتهم ما لا يجتمع، أي تيارات سلفية وجهادية ومعتدلة، وقد ظهرت على حقيقتها، أي تلك التيارات حينما تصاعدت الخلافات مع “داعش” أو جبهة النصرة أو “جند الأقصى” وسواها، فاعتمد بعضها الحياد، أو حلّ نفسه، أو انشق وانضم إلى المجموعات المقاتلة لـ “الأحرار”. كان الخطأ الأكبر لهؤلاء أنهم استندوا إلى أمرين: الثأر الطائفي الشعبي القديم منذ الثمانينيات، وأفسحوا المجال لمختلف تيارات الإسلام السياسي للتعايش في داخل حركتهم. أي أنهم لم يرفضوا “القاعدة”، ولاحقاً “داعش”؛ الأمر نفسه قامت به فصائل الجيش الحر، وهو ما سَهّل نشوء الجماعات الأكثر تشدداً وجهاديّة وتمدّدها، وحينما أصبحت قوية، خاضت معارك واسعة ضد هذه الجماعات الوسطية، وحينها لم يعد مفيداً التقرّب من الثورة وشعاراتها، كما حاولت “أحرار الشام”، وحتى “جيش الاسلام”، في بعض مراحل تطورهما، فخسروا إمكانية القيادة والهيمنة، وكثيراً من المناطق، ولاحقاً تمّت تصفيتهم على يد “داعش” أو النظام، أو جبهة النصرة وقد أصبحت جبهة فتح الشام، وضمن هيئة تحرير الشام.
جاء في الجزء الأول من النص أنّ قوّة الثورة وتمدّدها إلى أغلبية الجغرافيا السورية، وضعف وجود الجيش والأمن في إدلب، ساعد الثورة السلمية والفصائل المحلية في الانتصار على النظام؛ وفي ذلك الوقت نشأت كتائب أحرار الشام وجبهة النصرة، وبدأت تحصد نتائج ذلك الانتصار، وكذلك استفادت من أخطاء فصائل الجيش الحر المحلية، والفاقدة أي مشروع وطني أو خدماتي أو سواه، وبروز ظواهر الفساد فيها. السلفيون والجهاديون محنّكون في استثمار التديّن، والمظلومية السّنية، وتلقّط الممارسات الفاسدة، وهم مدعومون إقليمياً بالدرجة الأولى، ومحلّياً بالدرجة الثانية، وكذلك لديهم رؤية سلفية لكل قضايا المجتمع.
سقوط الجهاديات و”فتح الشام”
أصبحت جبهة فتح الشام القوة الأساسية في هيئة تحرير الشام، (تشكلت أواخر 2016)، وما زالت تتحالف مع تنظيمات جهادية (الحزب الإسلامي التركستاني وجند الأقصى)، أو يوجد فيها قياديون أجانب “عرب وأوروبيون وآسيويون وسواهم”، وقد استقلت بإدلب في منتصف 2017 بعد دحر “أحرار الشام”، كما فعل “جيش الإسلام” بأغلبية غوطة دمشق قبل سقوط الغوطة الشرقية في إبريل/ نيسان 2018 بيد النظام، وبسبب تفتّت جبهات الغوطة؛ واستقل “داعش” بدير الزور والرّقة، وبعض أرياف حلب ومناطق كثيرة في درعا وحمص وحماة،
وأيضاً تشكّل تحالف دولي لتصفيته، وهو ما جرى. المهم هنا أن جبهة فتح الشام، وعلى الرغم من اندحارها من أرض الخلافة ومن غوطة دمشق، ومختلف مناطق سورية، وبحروب مع “داعش” أو “جيش الإسلام” أو النظام، فإنها سحقت في إدلب فصائل جيش الحر أولاً، وقبلها هزمت، هي و”أحرار الشام” وفصائل أخرى و”داعش” في إدلب والغوطة الشرقية، ولم تتوقف عن ذلك، وأجهزت في 2017 على حركة أحرار الشام ذاتها. كل خسارات الجيش الحر و”داعش” والسلفية والجهادية لم تُعلِّم فتح الشام شيئاً؛ إذاً أين الخلل في رؤيتها؟ أليست محاصرة إدلب حالياً، والتأكيدات الدولية المتتابعة على إسقاطها، كفيلين بدفعِها إلى البحث عن خيارٍ جديدٍ للتعامل مع الفصائل والشعب؟ لم تفعل ذلك، بل واستغلت تطبيق منطقة خفض التصعيد، واستقلال المناطق عن بعضها، بفعل المناطق الخمس لخفض التصعيد، وذلك لتُصعِدَ هي وتقضي على ما تبقى من حركة مدنية مستقلة في إدلب، ولتُنهي وجود حركة أحرار الشام بشكل كامل في 21 يوليو/ تموز 2017 كما سبق ذكره.
عمدت جبهة النصرة، بعد أن فرضت سيطرة شبه كاملة على مناطقها، وقبل الإجهاز على “الأحرار” وبعده، على محاولة إيجاد “إمارة إسلامية”، أي هي تريد دويلة لها تشبه دويلة داعش، وربما دويلة حركة طالبان، وهذا كما يبدو غرض كل حركة جهادية؛ وفرضت سيطرة كاملة على الشعب، وعلى كل المؤسسات المدنية والخدمية والسياسية والعسكرية. لهذا رفضت الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني، ورفضت استقلال المجالس المحلية والتنسيقيات، واشترطت على كل المنظمات المدنية للعمل موافقتها وختمها، وفرضت إتاواتٍ عليها، واحتكرت الحركة الاقتصادية. وبالخلاص من “الأحرار” أصبحت كل أموال معابر إدلب مع تركيا والمدن السورية تحت سيطرتها ولصالحها. حاولت “اللعب” على الشعب، فدعت إلى مؤتمرٍ عامٍ ليمثل الشعب (!)، وخرجت منه بحكومة إنقاذ بقيادة محمد الشيخ. وقد منعها الضغط الدولي والإقليمي عليها من الإبقاء على اسمها القديم، جبهة النصرة، فغيرته إلى جبهة فتح الشام، لكنها ظلّت جبهة النصرة لدى الدول الكبرى والإقليمية. تابعت خوض الحروب غير المبرّرة ضد “أحرار الشام”، حتى استاء كبار مشايخها، كالمحيسني وقيادات جهادية كثيرة، وهَجرتِ هيئة تحرير الشام، وبالتالي أصبحت شبه وحيدة في إطار هذه الهيئة. فماذا ستفعل وقد أصبحت إدلب الهدف التالي للنظام ولروسيا ولإيران، ولا سيما المناطق التي تؤمن قاعدة حميميم والطريق الدولي إلى حلب؟
محاولات جبهة فتح الشام الانفتاح على تركيا، وتأمين جنودها ومرافقتهم إلى إرساء نقاط المراقبة الـ12، وانسحابها من ريف حماة الشمالي وغربي حلب وأريافها، ولا سيما جهة ريف اللاذقية، وبالتالي تسليم مناطق واسعة للنظام، أقول إن ذلك كله جاء توافقاً مع اتفاقيات أستانة؛ ولكن ذلك ليس كافياً، فهي تنظيمٌ إرهابي، ولديه جهاديون أجانب. أصبحت جبهة فتح الشام شبه معزولة، فشعبياً لطالما خرجت المظاهرات المندّدة فيها. وسياسياً لم يعد المجلس الوطني وسواه يُغطّون عليها، ويعتبرونها فصيلاً في الثورة، وخسرت أهم حليف لها، وهو حركة أحرار الشام، وكذلك فرضت سيطرة كاملة على الفصائل؛ وبذلك وَسعت دائرة الأعداء، وكل محاولاتها التغييرية والتسويقية لنفسها (تغيير الاسم، تشكيل حكومة إنقاذ، الانفتاح على المنظمات المدنية، الانفتاح على تركيا)، لم تعد كافية، فإدلب يجب أن تصبح فارغةً من الجهاديين والإرهابيين، وكذلك عليها الموافقة الكاملة على تدخلٍ تركي واسعٍ، شبيه بمنطقة درع الفرات وغصن الزيتون. وهذا مما تمتنع عنه، وهو ما حاولته معها مراراً تركيا بالدبلوماسية والهدوء واللين والتفاوض، ولكن تسليم إدلب لقيادة تركيا لم يعد أمراً قابلاً للنقاش، وفقاً لاتفاقية أستانة وعالمياً. النقاش الدولي بين كل من تركيا وروسيا وإيران، وبدرجة أقل مع أميركا، جميع هذه الدول والشعب السوري يرفضون أي وجود لجبهة فتح الشام، وبالتالي أصبحت المهمة الراهنة هي تفكيك هذه الجبهة؛ فهل تفكّك نفسها، وتقوم بترحيل الجهاديين، وتسليم إدلب إلى أهلها أو لتركيا أو للفصائل، مثل الجبهة الوطنية للتحرير التي تتأهل لدخول إدلب، وهذا يعني أن حرباً واقعة لا محالة ضدّها. إذاً تقرّر مصير إدلب، ولن تفيد بشيء مناورات وألاعيب جديدة، فإما أن تدخل تركيا إليها أو روسيا، وربما الاثنتان تُرتبان الوضع النهائي للمدينة، وهو وضعٌ سابق للحل السياسي! ومن المستبعد دخول قوات التحالف بقيادة أميركا وحليفتها قوات سورية الديمقراطية.
أُفرج عن سجناء صيدنايا إذاً لتصفية الثورة وتخريبها وإعادة تعويم النظام؛ أليس هذا ما حصل؟ إن تحميل الأطراف الإقليمية أو الدولية أو المعارضة هزيمة الثورة، وسوى ذلك كثير لا يُفيد في التغطية على دور الحركات الجهادية، ولا سيما جبهة النصرة؛ فلهذه الأطراف نصيبها في هزيمة الثورة، وللجهادية والسلفية نصيبها، وقبل الجميع يتحمل النظام مسؤولية كل مآلات سورية الراهنة.
العربي الجديد
عن الإرهابيين والمعتدلين والمدنيين في إدلب/ بكر صدقي
كما هي الحال في أفلام التشويق، ترتفع وتيرة “الترقب” لما قد يحدث في إدلب، يوماً بعد يوم. كل الأطراف تستعد للقيامة الكبرى هناك. “يعمل” الدبلوماسيون الروس والأتراك ومن أمم أخرى بكامل طاقتهم استعداداً لمعركة إدلب. تحذر الأمم المتحدة من “كارثة إنسانية” إذا بدأت المعركة، من خلال موجة نزوح كثيفة ستصطدم بالجدار التركي على الحدود. ثلاثي “العدوان الثلاثي” في نسخته السورية، واشنطن ولندن وباريس، يحذرون من استخدام النظام السلاح الكيماوي في معركة إدلب. ثلاثة ملايين مدني معرضون للخطر.. إلى آخر هذا الكلام “التشويقي” الذي يمتلئ به الإعلام، مع أن “الفيلم” مكرور، لا جديد فيه، هو نفسه ما حدث في حلب والغوطة والجنوب وأماكن أخرى سبق أن استعادها النظام الكيماوي بهمة الطيران الروسي والبراميل المتفجرة والكلام الفارغ الذي ينتجه دي مستورا ولافروف وأشباههما.
هناك، مع ذلك، بعض التفاصيل الجديدة. كتمييز وزير الخارجية الروسي – السوري سيرغي لافروف بين “إرهابيي تحرير الشام / النصرة سابقاً” وبين الفصائل المعتدلة! نعم، هذا لافروف من يبدي شديد حرصه على التمييز، وهو وزير الدولة التي لم يميز طيرانها الحربي بين أبي بكر البغدادي وطفل واقف في الدور أمام أحد المخابز ليشتري الخبز، فقصف الطفل الإرهابي وأضاع أثر البغدادي. ولا بين مواقع جبهة النصرة والمستشفيات، فقصف الثانية المملوءة بالأطباء والجرحى الإرهابيين، وترك الأولى لعدم كفاية الأدلة على أنها إرهابية.
هذا الوزير السبعيني القادم من العصر السوفييتي العتيق يجيد الكذب بقدر ما يجيد طيران دولته القتل والتدمير وتجريب الأسلحة الروسية الخردة على المدنيين. ها هو وقد عاد إلى هوايته المفضلة في اختراع سيناريو جديد لهجوم كيميائي سيقوم به “إرهابيو الخوذ البيضاء”، بتوجيه من بريطانيا، في إدلب، لكي يتهموا به نظام بشار الكيماوي البريء براءة الذئب من دم يوسف. إلى هذه الدرجة يعامل لافروف العالم باحتقار، ولسان حاله يقول: نعم، سوف نضرب إدلب، وبالسلاح الكيماوي إذا احتاج الأمر، وها نحن نكذب عليكم بصورة مسبقة، ولا خيار أمامكم غير التظاهر بأنكم تصدقوننا. وإلا فعليكم أن تمنعونا من ذلك، ونعرف أنكم لن تفعلوا.
هذا اللافروف نفسه، إذن، يبدي حرص طبيب جراح لاستئصال إرهابيي النصرة في إدلب، من غير إيقاع الأذى بالمعتدلين والمدنيين!
لماذا يفعل ذلك؟
لأنه، حالياً، في حوار مع نظيره التركي مولود شاويش أوغلو، فلا بأس من تسليفه بعض كلام لا يقدم ولا يؤخر، حفاظاً على ماء وجه الشريك التركي الذي سيبدو، حين يبدأ ضرب إدلب، كبالع الموس على الحدين. فلا هو قادر على إيقاف آلة الموت الروسية، ولا هو يستطيع الاستنجاد بالولايات المتحدة التي تمر علاقات بلاده معها بأخطر أزمة في تاريخ العلاقات بينهما.
والتقط الروسي لحظة الضعف التركية القصوى، حيث العلاقات مع الولايات المتحدة في أسوأ أحوالها والوضع الاقتصادي التركي ينذر بالخطر، ليفرض على أنقرة تجرع كأس المر على دفعات. لافروف شديد الارتياح لنتائج مباحثاته مع نظيره التركي. وتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين احتل مساحة أكبر، في المحادثات، من موضوع إدلب، كما نقلت وسائل الإعلام. موعد تسليم صواريخ s400، والتخفيف من إجراءات تأشيرة دخول الأتراك إلى روسيا، وغيرها من المواضيع “ذات الاهتمام المشترك” كما يقال في اللغة الإنشائية المسماة بالدبلوماسية. ولكن ما هو المقصود، في النهاية، بتمييز الإرهابيين من المعتدلين، مع العلم أن بوتين كان واضحاً بهذا الشأن، منذ بداية تدخله العسكري في سوريا، حين قال إنه ليس هناك معتدلون في الجماعات المسلحة التي تقاتل النظام، بل كلهم إرهابيون، مصيرهم هو التصفية؟
إذا قمنا باستبطان المنطق الروسي، فسنكون أمام النتيجة الآتية: كل من يوافق على الانخراط في “العملية السياسية” الروسية في آستانة وسوتشي هو معتدل، وكل من يعارض ذلك هو إرهابي. هذا هو معيار التمييز الروسي بين “نوعي البشر” في إدلب. نوع قابل للاستسلام لما تريده روسيا، ومصيره أن ينضم إلى جيش النظام الكيماوي المتهالك من أجل تقويته، ونوع يرفض هذا المصير فيعتبر إرهابياً حتى لو كان عمله طبيباً في مستشفى ميداني أو عاملاً في الإغاثة.
يخطئ من يظن أن الضغط على “تحرير الشام” أو محاربتها، من شأنهما أن ينقذا “الفصائل المعتدلة” أو المدنيين. كل ما في الأمر هو أن النظام الذي لا يملك القوات الكافية لاجتياح محافظة إدلب تحت غطاء الطيران الروسي، سيكون مرتاحاً إذا قام “المعتدلون” بتصفية “الإرهابيين” أو بالعكس. فالحرب بين الطرفين ستضعفهما معاً وقد تنتهي بتصفية أحدهما على يد الآخر، ليدخل النظام، بعد ذلك، بارتياح ويقطف الثمرة.
هذا هو مختصر الخطة الروسية التي يعبر عنها لافروف بطريقته الخاصة في التذاكي على حساب بلادة الآخرين أو عدم اهتمامهم. اقتلوا بعضكم بعضاً، لنعرف من سيفوز منكم بجائزة المليون!
أما تأخير حسم وضع إدلب المقرر وإطالة أمد “التشويق” الهوليودي بشأنها، فسببه أن موسكو تستخدم فزاعة “الكارثة الإنسانية” المتوقعة، أي تدفق 3 ملايين لاجئ جديد، لابتزاز الدول الأوروبية في موضوع إعادة الإعمار مقابل إعادة اللاجئين، ولابتزاز تركيا لكي تضغط على الفصائل المعتدلة المحسوبة عليها لكي تحارب إرهابيي النصرة.
ما الذي يمكن عمله في هذه الشروط؟
ليس الكثير. فلا الاستسلام ينفع مع عصابة التعفيش والثارات القروسطية، ولا المقاومة ممكنة في الشروط الحالية. ربما عدم تسهيل “النصر” للعدو الأسدي – الروسي هو الشيء الوحيد المتاح، مع العمل على تقليل الخسائر قدر الإمكان. وهو موقف يحتاج إلى ظُهراء دوليين أقوياء ليس هناك ما يضمن تحركهم في هذا الاتجاه. وقد رأينا الصيغة الشائنة لتحذير “ثلاثي العدوان الثلاثي” بشأن استخدام الكيماوي، تلك الصيغة التي تعني، بالنسبة للنظام وروسيا، ضوءا أخضر لضرب إدلب واجتياحها بكل أنواع الأسلحة ما عدا الكيماوي.
ويا إدلب مالك غير الله.
تلفزيون سوريا
إدلب.. محاربة الإرهاب بالإرهاب؟/ برهان غليون
بعد الهزائم القاسية التي تعرّضت لها التنظيمات التكفيرية المتطرّفة، خرج قادة “داعش” وهيئة تحرير الشام و”القاعدة”، في وقت واحد، للإعلان عن استمرارهم في العمل التخريبي الذي كرّست له المنظمات الثلاث جهودها في السنوات الطويلة الماضية في المشرق العربي، والذي كان من نتيجته تثبيت الحكم الطائفي المذهبي في بغداد، وتقديم الذريعة المطلوبة لتأليب الرأي العام العربي والعالمي ضد الثورة الشعبية السورية، ومشروع الديمقراطية عموما في المنطقة العربية، وزرع الخوف من جديد في الدول الكبرى من أي تغيير أو انتقال سياسي في الشرق الأوسط، وتخليد الحروب الداخلية التي تمزّق شعوبه، واستدعاء التدخلات والحروب الخارجية التي تتّخذ من الحرب ضد الإرهاب وسيلتها لإجهاض أي حركة تغيير، أو تقدّم، داخل المنطقة، وربما تغيير خريطتها الجيوسياسية والديمغرافية.
ليس من المؤكد أن هذه المنظمات صنيعة مباشرة لأجهزة الأمن التي تستخدمها، أو تستفيد منها في البلدان المختلفة، لتبرّر أعمالها، لكن أحدا لا يمكن أن يُنكر أنها عملت في السنوات الماضية حليفا، شرعيا أم ابن زنى، للتحالف المعادي للثورة، وكانت بمثابة الخنجر الذي غرز في ظهر الحركات الشعبية والديمقراطية العربية. ولا يغيّر شيئا من هذه الواقعة إن كان ذلك نتيجة التقاء المصالح في تدمير الدول القائمة، وزرع الفوضى واليأس عند الشعوب، أو بسبب الاختراقات الكبيرة والأكيدة التي نجحت أجهزة الأمن الإقليمية والدولية في إحداثها فيها. فليس هناك أدنى شك في أن خطط هذه المنظمات ومشاريعها كانت تسير في تناغم واسع مع خطط الثورة المضادة واستراتيجياتها. لكن الدول الغربية والشرقية التي تتخذ من هذه المنظمات ذريعةً لتبرير الحظر الذي تفرضه على ولوج الشعوب العربية عصر الحرية والديمقراطية والسلام
والتقدّم، ليست بريئة أبدا. فهي التي صنعت، بسياساتها الاستعمارية واستهتارها بمصالح الدول والشعوب، ودعمها النظم الاستبدادية، بل فرضها حكومات ظالمة وجائرة وحمايتها والدفاع عن سقطاتها وجرائمها، ومثالها الفاقع حكومة الأسد، المستنقع المنتن الذي نشأت فيه وترعرعت هذه النبتة الوحشية السامة.
وإذا كانت هذه المنظمات لا تزال، بعد ما عانته من هجماتٍ “مميتةٍ”، بحسب الروس والأميركيين، تتجرأ على تهديد الجميع، وتستطيع أن تستعيد المبادرة من جديد، فذلك لأنها تدرك أن فشل الدول التي ادّعت محاربتها في التوصل إلى حلول دائمة وعادلة في المنطقة، وفي سورية الملتهبة بشكل خاص، يترك لها هامش المناورة واسعا، كي تستعيد أنفاسها وتستمر في حربها التخريبية الدائمة. فهي تعيش في الحرب، وتتغذّى منها، والسبب الرئيسي لاستمرار الحرب في المنطقة هو اليوم تنازع الدول على السيطرة ومناطق النفوذ وتقويضها استقرار الدول والشعوب الضعيفة، وتخلّيها عن التزاماتها الدولية، وتنكّرها لقرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية التي حوّلتها إلى كلمات فارغة، ومعها القانون الدولي والتضامن الإنساني والأمل بمستقبل خالٍ من الاستبداد والاستعباد والعدوان.
يتخذ هذا التحليل أهمية خاصة اليوم، على ضوء المواجهة الجديدة المنتظرة في محافظة إدلب السورية التي يبحث فيها الروس، وأداتهم الأسد، عن ذريعة للهجوم على المحافظة، والسيطرة عليها، بصرف النظر عن النتائج الكارثية على السكان، ودول الجوار المهدّدة باستقبال ملايين اللاجئين الجدد، بل ربما من أجل ذلك. بينما تسنّ هذه المنظمات المتطرّفة أسنانها، معتقدة أن إدلب ستكون فرصتها لتكبيد خصومها هزيمة سياسية وأخلاقية منكرة، إن لم تكن هزيمة عسكرية، وبالتالي استعادة بعض ما فقدته من رصيدٍ وصدقيةٍ استراتيجية. وهي تراهن لتحقيق هذا “النصر” على استخدام المدنيين درعا لها، وتحدّي خيار التجرؤ على قتلهم وتهجيرهم من قبل خصومها.
ليس هناك حل لمسالة الإرهاب الذي يطاول المدنيين بتضخيم الإرهاب المضاد والمزاودة على المنظمات المتطرّفة بالقتل بالجملة، أو بإظهار الاستعداد لقتل عدد أكبر من المدنيين، كما حصل في السنوات الماضية، حيث تمّت التضحية بمدن ومحافظات كاملة، من أجل إجبار “داعش” وأخواتها على الانتقال من مكان إلى مكان، ونقلها أحيانا في حافلاتٍ رسمية روسية وغير روسية، ومنها ما كان مكيّفا، من محافظة إلى محافظة، واستخدامها، كما حصل أيضا في السويداء هذا الشهر، للضغط على السكان المدنيين والتسليم له، من خلال تقصّد إيقاع مئات الضحايا بين المدنيين. لا يمكن ربح الحرب على الإرهاب بالمزايدة على الإرهابيين في قتل المدنيين. بالعكس، هذا هو ما يغذّي شجرته، ويعزّز صفوفه. وهو الذي يوفّر لهم المناخ والبيئة ومنابع الحقد والكراهية وحب الانتقام التي يحتاجونها لتبرير أفعالهم الشنيعة.
لا يمكن محاربة الإرهاب باستخدامه ذريعة لتمرير أهداف أخرى، لا صلة له بها، كمقاومة الانتفاضات الشعبية والاحتجاجات الطبيعية للجماهير المهمّشة، أو الفاقدة للأمل، والخائفة من المستقبل. ولا يمكن محاربة الإرهاب باستخدام وسائله نفسها، وتحويل الدولة إلى عصابة، ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية إلى ميلشيات إرهابية مضادّة، أي بتقويض الدولة وتفريغها من مضمونها القانوني والأخلاقي، وربما إلى غير رجعة، والتشريد السياسي لملايين البشر.
لن يقلّص القضاء على بعض عناصر “تحرير الشام” لقاء تدمير إدلب على رؤوس سكانها، والتضحية بملايين المدنيين، وتدمير شروط بقائهم، قاعدة الإرهاب والتطرّف، ولن يساعد على حصاره، ولكنه سيقدّم له بالعكس المستنقع الآسن والضغائن الظاهرة والدفينة التي يحتاجها كي يستمر ويتكاثر.
الحل الوحيد لمحاصرة التطرّف والقضاء على الإرهاب هو العمل الجدّي على إيجاد الحلول السياسية التي تعيد توحيد الشعوب والمجتمعات، وتمكّنها هي نفسها من لفظ التطرّف ورفض الإرهاب والعمل على مكافحته. وهذا للأسف ما تحاول موسكو، برفضها الانتقال السياسي الذي نصّت عليه قرارات الأمم المتحدة، وأولها 2254، وإصرارها على بقاء الأسد بأي ثمن، أن تحول دونه.
من دون مشاركة المجتمعات نفسها في محاربة التطرّف، ومحاصرة الإرهاب، لن يكون هناك أي أمل في القضاء عليهما. ولا يمكن كسب مشاركة المجتمعات إلى هذه القضية، باستخدام القصف الجوي المكثف على قراها ومدنها، وتدمير بيوتها على رؤوس ساكنيها. ولا يمكن تقليص قاعدة التطرّف والإرهاب، بتجاهل المشكلات الحقيقية، والتنكّر للمطالب الحقة والتلاعب ببعض النخب الانتهازية، والإصرار على حسم الصراع على السلطة، وتوزيع الموارد بالقوة العسكرية. ولا تعزيز الميول السلمية والتصالحية، والتفاهم داخل الشعوب والمجتمعات بالدفاع حتى آخر سوري عن نظام أثبت إفلاسه، وفرضه بالقوة على شعبٍ عانى منه الأمرّين، وكان السبب الأول وراء دمار بلاده، وقتل الآلاف، وتشريد الملايين من أبنائه. وهذا بصرف النظر عن حجم المصالح القومية الروسية، وشرعية أو عدم شرعية تحدّي موسكو على حساب السوريين السياسات الغربية، كما هو الحال في سورية منذ سنوات. اللهم إلا إذا كان الهدف من محاربة الإرهاب هو بالعكس تخليد الإرهاب نفسه، وزجّ الشعوب في حروب داخلية، لا مخرج منها، وتقويض عوامل الألفة والانسجام والتفاهم بين أعضائها، من أجل السيطرة على مواردها أو التحكّم بموقعها.
العربي الجديد
روسيا وتركيا ومصير إدلب/ عمر أوزكيزيلجيك
فيما كان المسؤولون الروس يتفاوضون مع فصائل الجيش السوري الحر في جنوب غرب سورية على شروط الاستسلام في مطلع تموز/يوليو، حذّروا الثوّار المغادرين للمنطقة من مغبّة إعادة التنظّم في إدلب لأن المدينة ستكون الهدف المقبل للنظام. لكن على الرغم من رغبة روسيا في شنّ هجوم على إدلب، يحول وجود الجيش التركي في المنطقة دون قيامها بتنفيذ هجوم قد يؤدّي إلى اندلاع نزاع بين الحليفَين اللذين تجمع بينهما علاقات متشنّجة. ومع أنه لدى تركيا دوافع قوية للإبقاء على إدلب كواحدة من مناطق نفوذها، قد تتمكّن روسيا من استخدام التهديد بشن هجمات جوية من أجل الضغط على تركيا لدفعها إما إلى مغادرة المدينة وإما إلى زيادة معركتها ضد المجموعات المتشددة مثل هيئة تحرير الشام وتنظيم حراس الدين.
في أيار/مايو 2017، أنشأت عملية السلام في أستانة منطقة لخفض التصعيد في إدلب. بموجب هذا الاتفاق، أقامت روسيا وإيران وتركيا نقاط مراقبة عسكرية على طول الخطوط الأمامية في إدلب، وقد وُضِعت 12 منها تحت الإشراف التركي، و10 تحت الإشراف الروسي، و7 تحت الإشراف الإيراني. لقد حذّرت السلطات التركية روسيا ونظام الأسد من أنه من شأن أي هجوم على إدلب أن يؤدّي إلى إبطال عملية أستانة برمتها. كما أن الوجود التركي جعل الجيش التركي في احتكاك مباشر مع السلطات والفصائل المحلية التي بدأت تنظر إلى تركيا بأنها ضمانة للسلام في إدلب، ما أفضى إلى تعزيز النفوذ التركي على المعارضة السورية المسلّحة وزيادة التنسيق بين الجانبَين.
إنما لن يكون أمام تركيا من خيار سوى القضاء على العناصر الأكثر تطرفاً في هذه المعارضة إذا كانت ترغب في تجنّب التدخل الروسي في إدلب. لقد أعلن المبعوث الخاص للرئيس الروسي في سورية، ألكسندر لافرنتييف، في 31 تموز/يوليو، أن روسيا تتوقّع من تركيا التنسيق مع المعارضة السورية المعتدلة من أجل إيجاد حلول لمشكلة جبهة النصرة في إدلب. إشارة إلى أن هيئة تحرير الشام التي انبثقت عن جبهة النصرة بعد انشقاقها عن تنظيم القاعدة، هي من المجموعات الأساسية التي تحارب النظام في إدلب. لقد وافق زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، على إنشاء نقاط مراقبة تركية في إدلب. واعتبرت نواة التنظيم المنضوية في إطار القاعدة – والتي هي على خلاف مع الجولاني بسبب قرار قطع العلاقات مع القاعدة – أن القبول بمنطقة خفض التصعيد خطوة غير شرعية. وقد انشق هذا الفصيل عن هيئة تحرير الشام في أواخر شباط/فبراير وشكّل مجموعة حراس الدين التي حافظت على الروابط مع تنظيم القاعدة.
على الرغم من أن هيئة تحرير الشام تستمر في التصادم مع حراس الدين، إلا أن خصمها الأساسي هو التنظيم الإسلامي، جبهة تحرير سورية، وهو عبارة عن ائتلاف بين حركة أحرار الشام وحركة نور الدين الزنكي، والذي غالباً ما تحظى هجماته بالدعم أيضاً من الميليشيا المستقلة صقور الشام. لقد خاضت جبهة تحرير سورية وهيئة تحرير الشام قتالاً في ما بينهما من شباط/فبراير إلى أيار/مايو 2018، عندما وافق الطرفان على وقف إطلاق النار. خلال المعارك، دُفِعت هيئة تحرير الشام إلى التراجع إلى الحدود التركية، فخسرت العديد من المواقع الاستراتيجية مثل معرة النعمان التي تقع على الطريق الرئيس بين دمشق وحلب.
على الرغم من أن القوات التركية لم تتحرك بعد ضد هذه المجموعات، إلا أن تركيا جمعت، في 28 أيار/مايو، الفصائل الثورية الأخرى في إدلب تحت راية واحدة من أجل إرساء ثقل موازن في مواجهة المجموعات المتشددة الآنفة الذكر. تتضمن الجبهة الوطنية للتحرير أحد عشر فصيلاً منضوياً في إطار الجيش السوري الحر ومدعوماً من تركيا، منها فيلق الشام، وجيش النصر، وجيش إدلب الحر، والفرقة الأولى الساحلية والفرقة الثانية الساحلية، والفرقة الأولى والفرقة 23، والجيش الثاني، وجيش النخبة، ولواء شهداء الإسلام-داريا، وكتيبة الحرية. وقد انضمت إليها جبهة تحرير سورية وجيش الأحرار وصقور الشام. مع التحاق هذه التنظيمات بالجبهة الوطنية للتحرير، اجتمع جميع ثوار إدلب الذين يحظون بالقبول من روسيا وتركيا، تحت راية واحدة. حتى تاريخه، لم تشارك الجبهة الوطنية للتحرير، باستثناء عضوَيها الجديدين جبهة تحرير سورية وصقور الشام، في أي اقتتال محلي، ويُقيم عدد كبير من فصائلها علاقات جيدة مع تركيا، حتى إنه شارك في عملية “غصن الزيتون” التي شنّتها تركيا في عفرين. في حال لم تتمكن تركيا من أن تضمن حفاظ هذه الفصائل على السيطرة على الأراضي في إدلب، من شأن فصائل أخرى تحصل على الدعم التركي، لا سيما في شمال حلب وفي عفرين، أن تشكّك في جدوى هذا الدعم.
تتيح هذه الديناميكيات الفوضوية لموسكو فرصة الضغط على أنقرة. ففي حين أنه من شأن نظام الأسد أن يفضّل استعادة السيطرة على إدلب بكاملها، قد تكتفي روسيا بقيام تركيا بالتنسيق مع الجبهة الوطنية للتحرير من أجل طرد هيئة تحرير الشام وتنظيم حراس الدين من إدلب. لكن في حال شكّكت روسيا في استعداد تركيا للإقدام على هذه الخطوة، فسوف تستخدم تهديد الهجمات الجوية للضغط على تركيا بغية الانسحاب من إدلب كي يتمكّن النظام من التحضير لشن هجوم برّي كامل. على الرغم من أن الوجود العسكري التركي المحدود عند نقاط المراقبة يحول دون قدرة النظام والميليشيات المتحالفة معه على التقدّم على طول الخطوط الأمامية، إلا أن النظام وروسيا تمكّنا من قصف إدلب على هواهما خلال العام المنصرم. وقد تعمد تركيا إلى توسيع وجودها العسكري المحدود ليشمل منطقة إدلب بكاملها، الأمر الذي من شأنه أن يردع روسيا عن شن هجمات جوية ضد أهداف تابعة للثوّار خوفاً من سقوط قذائف على القوات التركية بطريقة غير متعمّدة، والتسبّب بأزمة دبلوماسية. إلا أن هذا التوسيع قد يؤدّي أيضاً إلى زيادة عدد الأهداف التي يمكن أن تطالها الهجمات والاغتيالات التي ينفّذها الجهاديون. كما أن الانسحاب من إدلب بكاملها قد يشجّع روسيا على استخدام التكتيكات نفسها في عفرين وشمال حلب، الأمر الذي من شأنه أن يُهدّد موثوقية تركيا في موقع الضامِنة لعملية أستانة.
هذا فضلاً عن أن القصف الجوي لإدلب قد يُقوّض الضمانة التي تؤمّنها تركيا لحفظ سلامة المدنيين. فإلى جانب مجموعات المعارضة المسلّحة، تؤوي منطقة إدلب واحدة من أكبر مجموعات النازحين داخلياً في سورية. لذلك قد تؤدّي الهجمات الجوية على المحافظة إلى تشريد 2.5 مليونَي نسمة، إذ “لن يعود لديهم مكان ليقصدوه”. لقد شكّك المدنيون في بلدة اللطامنة الواقعة شمال حماه – على مقربة من إحدى نقاط المراقبة التركية ضمن منطقة خفض التصعيد الأوسع في إدلب، والتي تعرّضت لقصف متزايد من النظام في أواخر أيار/مايو – بقدرة تركيا على ضمان سلامتهم. غير أن المسؤولين الأتراك في إدلب طمأنوا السكان المحليين إلى أن تركيا ستبقى من أجل ضمان منطقة خفض التصعيد. وفقاً لتقارير صادرة عن شبكة نداء سورية، بدأت تركيا ببناء مهبط للمروحيات ومستشفيين كبيرَين من أجل خدمة جنودها عند نقاط المراقبة، وتحصين مواقعها بصورة أكبر، في مؤشر عن أنها تنوي فعلاً البقاء. لكن في حال لم يثق السكان المحليون بهذا الوعد، قد يفضّل أبناء إدلب المجازفة بالاستسلام للنظام تجنّباً لسقوط عدد أكبر من الضحايا. وفي حال حذا أبناء عفرين وشمال حلب حذوهم، فسوف تخسر تركيا قدرتها على إرساء السلام على الأرض – وتفقد بالتالي أي نفوذ في عملية السلام السورية.
لكن حتى لو انسحبت تركيا من إدلب تحت تأثير الضغوط الروسية، بإمكانها أن تجعل حملة استعادة السيطرة على المنطقة باهظة التكلفة بالنسبة إلى النظام على الرغم من الدعم الروسي. واقع الحال هو أن سيطرة تركيا المباشرة على عفرين والمنطقة الواقعة شمال حلب تؤمّن لها رابطاً مباشراً يخوّلها تزويد الجبهة الوطنية للتحرير في إدلب بالأسلحة والذخائر والعنصر البشري. قد يشجّع ذلك روسيا على استنفاد خيارات أخرى قبل محاولة طرد تركيا كي تتمكّن من شن هجوم جوي واسع النطاق. هذا فضلاً عن أن التعاون الروسي مع تركيا في مشاريع الطاقة، مثل خط أنابيب التيار التركي، ومحطة أكويو النووية – والروابط العسكرية الأوثق التي تظهر ليس في عفرين وحسب إنما أيضاً من خلال قيام تركيا بشراء نظم روسية للدفاع الجوي الصاروخي من طراز “إس-400” في كانون الأول/ديسمبر 2017 – سوف يجعل روسيا حريصة على عدم إلحاق الضرر بعلاقاتها مع تركيا عبر الامتناع عن شن هجوم واسع النطاق على إدلب.
يبدو أنه بإمكان تركيا وروسيا التوصل إلى تسوية من خلال التركيز على مجموعات المعارضة المتطرّفة. لقد سرت شائعات على لسان الأنصاري البرقاوي، وهو عضو بارز في تنظيم حراس الدين، بأن تركيا تحاول تعيين مواقع التنظيم التابع للقاعدة وأماكن تواجد قادته كي تتمكن من استهدافه والقضاء عليه. قد تنجح تركيا، عبر استعمال الفصائل الثورية المتحالفة معها لمحاربة المجموعات المتشددة، في إقناع روسيا بأن تترك مجموعات المعارضة الأكثر اعتدالاً وشأنها. يبقى أن نرى إذا كانت تركيا ستتمكّن من القضاء على تنظيم حراس الدين وهيئة تحرير الشام. إنما بغض النظر عن ذلك، وكي تتمكّن تركيا من الحفاظ على تأثيرها والحؤول دون اندلاع أزمة لاجئين جديدة، سوف تبذل جهوداً حثيثة كي تبقى إدلب خارج سيطرة النظام.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
عمر أوزكيزيلجيك محلل في مؤسسة الشرق الأوسط ورئيس تحرير الموقع الإخباري التركي Suriye Gündemi. لمتابعته عبر تويتر: OmerOzkizilcik@
https://carnegieendowment.org/sada/77000
نكتة التحذير الثلاثي/ عمر قدور
قبل خمسة أيام، بالتزامن مع ذكرى الهجوم بغاز السارين على الغوطة، أصدرت واشنطن ولندن وباريس بياناً يحذّر الأسد من استخدام الكيماوي مجدداً. هنا تنتهي النكتة السمجة، النكتة التي يصر أصحابها على إسماعنا إياها كل مرة بالطريقة ذاتها، ومن المحتمل جداً أنها لا تضحك أحداً سوى الأسد نفسه الذي ربما قهقه طويلاً وهو يقرأ الخبر، إذا كانت مهامه تسمح له بمتابعة مثل هذه الأخبار!
لا يخفى أن التحذير الثلاثي أتى مع التجهيز لمعركة إدلب، وهو إذ يرسم خطاً أحمر للممنوع في المعركة فإنه يقرّ بشرعية استخدام كافة أسلحة الدمار الأخرى، ويعلن قبل ذلك موافقة هذه الدول على المعركة. موسكو من جانبها لم تتلكأ عن استكمال النكتة، إذ سرعان ما نقلت وكالة سبوتنيك الروسية عن مصادر “خاصة بها” من إدلب قيام عناصر من “الخوذ البيضاء” بنقل ثماني سيارات فان مغلقة محملة بغاز الكلور، تمهيداً لهجوم كيماوي يشنه عناصر الدفاع المدني بإشراف من جبهة النصرة، ويتم اتهام تنظيم الأسد به! أي أن موسكو أيضاً تكرر لنا النكتة السمجة التي سبق إطلاقها قبل معركة الغوطة، وتكاد لا تترك لنا فرصة التكهن حول استخدام الكيماوي مرة أخرى أو عدمه.
النكتة السمجة التالية، في حال استُخدم الكيماوي، لن يتأخر بها من هنا وهناك أسديون أو بوتينيون، وستأتي بمثابة سؤال استنكاري مفاده: لماذا يستخدم الأسد الكيماوي معرّضاً قواته لرد غربي، بخاصة أن قدرته على القتل والتدمير المرخّص بهما بأسلحة أخرى تفوق ذلك الاستخدام المحدود للسلاح الكيماوي؟! وهذا تساؤل لا يعوزه المنطق الشكلي، إذ بات يستند إلى سابقتين، قامت واشنطن في أولهما بضرب مطار الشعيرات، وفي المرة الثانية قصفت واشنطن ولندن وباريس مجموعة مواقع مخصصة لإنتاج السلاح الكيماوي. وقبل أن نغادر المجال الاستباقي لهذه النكتة لا بأس في استكمال السيناريو بأشد حالاته تطرفاً، إذا أعلنت العواصم الثلاث عن امتلاكها أدلة على استخدام الأسد الكيماوي، وأعلنت تالياً أن الغاية من العقوبة تقتصر على ردعه عن استخدامه مرة أخرى، وأنها كانت في منتهى الحرص عندما اختارت بنك أهدافها بحيث لا تصيب طائراتها أو صواريخها سوى تلك التي تتعلق بإنتاج هذا السلاح، وبالطبع تم إخطار موسكو بالهجمات مسبقاً.
زيادةً في اصطناع الإثارة، وفق سيناريو استخدام الكيماوي، قد يشتم ترامب الأسد على حسابه في تويتر، لكن كما نعلم أصبحت هذه نكتة سمجة أخرى، فترامب لم يتوقف عن شتم آخرين بمن فيهم شخصيات كانت مقرّبة منه. ولا يُستبعد من رئيس مثله أن “يلحس” تحذيره متذرعاً بثمن الصواريخ التي سيطلقها على منشآت الأسد، لولا العامل الشخصي جداً الذي يدفعه في هذه المناسبة إلى إثبات أنه ليس ضعيفاً مثل أوباما الذي مرر اجتياز خطه الأحمر بلا عقوبة.
لا حاجة للتأكيد على أن هذه الاستعراضات السمجة يدفع ثمنها السوريون، إلا أن تكرارها، والإصرار عليها من قبل جميع الأطراف لا يخلو من إشارات يُستحسن التوقف عندها. ولعل أولها إصرار الأسد على استخدام الكيماوي، بعد اختبار إرادة ترامب وتلقي الرد في مناسبتين. شكلياً يبدو قرار استخدام الكيماوي فيه ما فيه من التهور أو الغباء، وفي ميزان الربح والخسارة هو قرار خاسر لأن مردوده العسكري أقل من كلفته. لكن هذا المنطق المبسّط يغفل عمّا يريد الأسد وحلفاؤه تكريسه بعد صفقة الكيماوي مع أوباما، فالأساس هنا إشهار الاحتفاظ بالسلاح الكيماوي وبالقدرة على إنتاجه مجدداً، وأيضاً إشهار الاستهتار بالقانون والاتفاقيات الدولية بعد انضمام تنظيم الأسد إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية. رمزية هذا الأمر فيها من المكسب ما يفوق الخسارة المحدودة التي سيوقعها القصف الغربي ببعض المنشآت، بخاصة مع وجود فرصة للتخفيف من الخسائر بسبب إخطار موسكو مسبقاً بعمليات القصف.
وفق المنطق الشكلي أيضاً يبدو من الغباء أو التهور أن يستثير الأسد غضب الغرب في التوقيت الذي يبدو فيه الأخير راعياً إعادة تدويره، إلا أن ما يريده الأسد تحت الطاولة غير ما يريده فوقها. لقد دأب الأسد منذ اندلاع الثورة على تصويرها مؤامرة غربية-إقليمية على نظامه، رغم معرفته الجيدة بعدم وجود نية أمريكية لإسقاطه. القصف الغربي المحدود بسبب الكيماوي يفيد الأسد داخلياً وضمن جمهور الممانعة في تعزيز روايته تلك عن المؤامرة. فوق ذلك يستفيد الأسد من شيوع الظن بأن الإصرار الغربي في قضية الكيماوي تحديداً مرده العامل الإسرائيلي، فبحسب هذه القناعة التي لا يندر وجودها حتى بين خصومه يصبح استخدام الكيماوي ضد السوريين شأناً ثانوياً بالقياس إلى خطره على إسرائيل، رغم معرفتنا بأن إسرائيل لا تفتقر إلى إمكانيات الردع والمبادرة بحيث تبطل هذا الخطر المزعوم. وأهم ما يكسبه الأسد من هذه الرواية التغطية على أن بقاءه شخصياً مصدر ترحيب إسرائيلي، والخلاف الوحيد المتبقي اليوم يتعلق بطلب إسرائيل خروجه من تحت الوصاية الإيرانية.
بالتأكيد يكسب الأسد أيضاً من ذلك الإحساس المتفاقم بالقهر لدى السوريين، إذ يبيح الغرب له استخدام كافة أسلحة الإبادة الأخرى، بما فيها أسلحة محظورة دولياً. فالواضح في النهج الغربي أنه لا يعبأ بحيوات السوريين، لكن الأهم هنا أن الغرب يتولى تكذيب نفسه بنفسه عندما يتذرع بالفيتو الروسي لعدم حماية السوريين، وفي الوقت نفسه يتصرف خارج الأمم المتحدة عندما يتعلق الأمر باستخدام السلاح الكيماوي. هذه الانتقائية الغربية في الاحترام الكاذب لمنظمة الأمم المتحدة هي أفضل هدية يقدّمها الغرب لبشار، لا لأنها مبرر جيد كي يتهرب من القرارات الدولية وإنما لأنها تمعن في احتقار السوريين، فوق أنها تمعن في احتقار العقل البشري، بما في ذلك احتقار عقول المواطنين الغربيين الذين تنطلي عليهم أكاذيب النخبة الحاكمة. ينبغي ألا نستثني غربياً تلك الشريحة التي قد تستنكر استخدام حكوماتها القوة خارج تفويض من الأمم المتحدة، فهذه الشريحة لا تطرح على حكوماتها السؤال الأهم إنسانياً حول عدم استخدام القوة نفسها من أجل إنقاذ السوريين.
من جهته يبدو الغرب كأنه تورط في الخط الأحمر الشهير الذي وضعه أوباما، والذي من المرجح ألا تتجاوز وظيفته آنذاك ما هو رمزي فقط، أي عزم الغرب على التدخل عند حد كان من المستبعد تجاوزه. وضع ذلك الخط يؤدي منذ البداية إلى تشريع التغاضي عن سواه حتى إذا كان يفوقه وحشية، والمعني الأساسي بتلك الرسالة هو المواطن الغربي الذي كان حينها أكثر متابعة لمشاهد وحشية الأسد التي تبثها شبكات التلفزيون. وفق الرواية الأمريكية المبكرة كان ما يحدث بمثابة حرب أهلية، ومن المألوف في مثل هذه الحروب أن يستخدم “الطرفان” الأسلحة التقليدية، أما استخدام الكيماوي فهو يكسر تلك الرواية التي ترمي إلى المساواة بين الطرفين. ولعل ما يكشف زيف الخط الأحمر أصلاً هو ذلك التدني المتواصل جراء انتهاكه، من صفقة الكيماوي التي نصت على تسليم أداة الجريمة وإبقاء المجرم طليقاً، وصولاً إلى الإقرار بكذب التسليم المزعوم لأداة الجريمة والاكتفاء بالتحذير من استخدامها مرة أخرى.
السؤال المنطقي جداً الذي يمكن أن يسأله شخص، إذا استطاع إنسانياً وأخلاقياً أن يضع نفسه مكان بشار الأسد، هو: لماذا لا أستخدم الكيماوي؟!
المدن
“عقدة إدلب” بين المقاتلين الأجانب ودول ترفض عودة أبنائها الضالين/ منهل باريش
تعتبر مسألة المقاتلين الأجانب في سوريا واحدة من أكبر العقبات أمام حل “عقدة إدلب” باعتبارها إحدى دعامات “جبهة “النصرة” وسبب تماسكها.
وإذ يكشف مصدر في التحالف الدولي للقضاء على ““داعش””, أن عدد المقاتلين الأسرى من التنظيم وعوائلهم في منطقة سيطرة التحالف في سوريا دون العراق يبلغ نحو 600 شخص, تبقى الأرقام غير واضحة في منطقة سيطرة فصائل المعارضة في درع الفرات. ذلك أنه بالإضافة إلى تكتم كل فصيل عن أعداد الأسرى لديه، فإن غياب مركزية أمنية وعسكرية حقيقة تمتلك إحصاءات وبيانات شاملة يجعل المهمة شبه مستحيلة. ولكن تذهب بعض التقديرات المحلية إلى القول إن إجمالي الأسرى وذويهم يعدون قرابة 300 شخص, وهم موزعون على مراكز الاحتجاز الأمنية ومراكز إقامة وإيواء العوائل التابعة لفصائل “درع الفرات”.
وبحسب المصدر نفسه, تقدر أعداد العائدين إلى بلدانهم من مقاتلي ““داعش”” بقرابة أربعة آلاف شخص، وهو الرقم الأقرب لما يمكن مقاطعته مع بعض التقارير الأمنية والتصريحات الرسمية للبلدان المصدرة للمقاتلين.
وحالياً ترفض 86 دولة ينحدر منها ما صار يعرف بـ”شعوب تنظيم “داعش” عودة أبنائها الذين قاتلوا في بؤر التوتر كـ سوريا والعراق وبشكل أقل في ليبيا. فتلك يكاد ينحصر المقاتلون الأجانب فيها على دول الجوار وخصوصاً تونس ومصر ولا يتجاوز عددهم العشرات.
واعتقلت الدول الأساسية المصدرة لمقاتلي التنظيم مئات العائدين فيما يخضع آلاف آخرون إلى مراقبة شديدة، لكن الخوف الأكبر يظل من الأطفال الذين تتلمذوا لدى جيش “أشبال الخلافة” وغسلت عقولهم وتربوا على تكفير كل مجتمع ليس مجتمع الخلافة.
والحال أنه في إدلب لا يوجد إحصاء دقيق لعدد لهؤلاء، لكن يقدر وجود أكثر من سبعة آلاف مع عوائلهم, وهو رقم ليس بالقليل. وبعكس الشائع, بأن التركستان (الإيغور الصينيون) هم أكبر كتل” المهاجرين”, تتحدر غالبية المقاتلين الأجانب من الجمهوريات الروسية من شيشان وطاجيك وأوزبك يشكلون قرابة ثلث المقاتلين الأجانب لكن ذلك الانطباع تشكل بسبب هجرة “الإيغور” منذ البداية كـ عوائل كاملة، وتمركزهم في مناطق محددة شكلت حالة مجتمعية واضحة منغلقة على نفسها وتحديداً في قرى جسر الشغور بريف إدلب الغربي.
وبعد انشقاق بعض المبايعين لتنظيم “القاعدة” عن “تحرير الشام” وتشكيلهم “حراس الدين”، انحصر وجود المقاتلين الأجانب في أربعة تنظيمات في إدلب هي:
1- الحزب الإسلامي التركستاني (الإيغور)، والذي نأى بنفسه عن أي عمليات اقتتال داخلي بين الفصائل.
2- كتيبة “الإمام البخاري” الأوزبكية أصغر فصائل “المهاجرين”, ولكنها صنفت على لوائح الإرهاب الأمريكية في آذار (مارس) الماضي بسبب قتالها إلى جانب “جبهة “النصرة””، وقد اغتيل قائدها، صلاح الدين الأوزبكي بعملية نفذها أحد مرافقيه الموالين لتنظيم “داعش” شهر نيسان (أبريل) 2017.
3- تنظيم “حراس الدين”: ويضم أعداداً متنوعة من المقاتلين الأجانب بعضهم فر من مناطق “داعش”، وآخرون انشقوا عن ““النصرة”” وشكلوا “جيش البادية”، وبقايا تنظيم “جند الأقصى” و”جند الملاحم”، و”جيش الساحل” ، ويغلب على قيادته العناصر الأردنيون، مثل ” إياد الطوباسي” الملقب بـ”أبو جليبيب”, وهو ليس إلا صهر أبو مصعب الزرقاوي، بالإضافة إليه, هناك بلال خريسات المعروف بـ”أبو خديجة الأردني” وهو القائد الأمني والشرعي “لجبهة “النصرة”” في جنوب سوريا, ومحمد سليم الخطيب المعروف باسم “أبو حسين الأردني” والذي شغل منصب قائد “جيش “النصرة”” أو “القوة المركزية” فيها سابقاً, والشرعي العام السابق لجبهة “النصرة” سامي العريدي. ويبارك التنظيم الجديد أبرز منظري السلفية الجهادية الفلسطيني الأردني عصام البرقاوي الملقب بـ”أبو محمد المقدسي”. ويبايع تنظيم القاعدة بقيادة أيمن الظواهري.
وتضم هيئة ” تحرير الشام” العدد الأكبر من المقاتلين الأجانب بعد انحسار دور “داعش” في سوريا والعراق، وتحتكر المقاتلين الآسيويين ومقاتلي الخليج العربي وأفريقيا وبعض الأوروبيين, علماً أن المقاتلين العرب, وتحديداً المصريين يحتلون مكاناً متقدماً في التنظيم.
وفي سياق الضغط الكبير الذي يمارس على “جبهة “النصرة”” من قبل تركيا و “الجبهة الوطنية للتحرير” بهدف حَل نفسها واندماجها ضمن الأخيرة ونزع الحجة الروسية بمحاربة الإرهاب, يعود إلى الواجهة المقاتلون الأجانب و”مجتمعهم” الذي أنشؤوه على ضفاف المجتمعات السورية.
ففي إطار الحديث عن حل التنظيم لنفسه واندماجه مع بقية الفصائل لا يمكن إغفال تلك الأعداد الكبيرة من المقاتلين الأجانب أو المهاجرين، وعائلاتهم لا سيما وأن المشكلة الأعمق تتعلق بترسيخهم لتيارات السلفية الجهادية شمال غرب البلاد.
فشرط حل “جبهة النصرة” لنفسها من دون تقديم ضمانات دولية تحفظ حياة المقاتلين وسلامتهم في بلدانهم لن يجدي نفعاً, خصوصاً وأن تجريمهم دولياً بصفتهم إرهابيين سهل وقائم بحسب قرار مجلس الأمن 2178 الصادر في 24/09/2014. لذلك فإن إخراجهم من سوريا سالمين, يحتاج تحركا سياسياً حثيثاً ومبادرة جدية حيث تتحمل المعارضة السياسية جزءا من المسؤولية فيها. فاستمرارها بتجاهل قضية المقاتلين الأجانب، أو “المهاجرين” وصمتها المطبق حيالهم حمل الثورة السورية عبئاً كبيراً ، بحيث كانت وحشية السلفية الجهادية سبباً للانفضاض عن الثورة ووقف دعمها السياسي والعسكري.
ومعلوم أن وجود “مقاتلين أجانب” هو واحد من جملة أسباب تخفف من احتمال عملية عسكرية كبيرة للنظام في إدلب، وستوكل موسكو حليفتها أنقرة لحل “عقدة إدلب” في فترة زمنية غير قصيرة, وربما تتشارك دول الاتحاد الأوروبي والدول المصدرة للمقاتلين هذه الرغبة.
لكن الصحيح أيضاً أن أية عملية عسكرية في إدلب, مهما كان حجمها ومن يقف وراءها تشكل تهديداً مباشراً على أمن تركيا والاتحاد الأوروبي معاً. فمن الذي يضمن عدم تدفق الآلاف من التكفيريين بين مئات آلاف مِن اللاجئين الجدد إلى تركيا؟ أوليس هؤلاء تهديداً كبيراً لتركيا وأمنها، وهو خطر لا ترغب به أنقرة بعد عملية “درع الفرات” ضد تنظيم “داعش”، و”غصن الزيتون” في عفرين ضد وحدات “حماية الشعب” الكردية.
ولا يفوت المتتبع لعمل “التحالف الدولي” أن يلحظ سياق العمليات ضد “داعش” وكيف أن هدفها هو القتل أولاً، والقتل ثانياً. فالهدف هو القضاء على مقاتلي التنظيم وعدم اتخاذهم كأسرى ثم تحمل عبء بقائهم قنابل موقوتة.
وفي جردة حساب تقريبة للبلدان المصدرة، يمكن إدراك صعوبة التعامل مع هذا الملف. فدول القوقاز الموالية لموسكو لن تقبل عودة أي من مواطنيها الذين وسموا بصفة “الإرهاب” وسيلاقي هؤلاء مصيرهم السيء، والصين أساساً تمارس حملات اعتقال وإعدامات مستمرة بحق أكثر من أربعين مليون مسلم ولن تقبل بعودة هؤلاء بأي حال من الأحوال. وحدها تركيا، يمكن أن تتدخل من أجل إجلاء الأقلية الإيغورية، وربما إعادة دمجها ضمن جاليات التركستان الهاربة من إقليم سنجان (تركستان الشرقية) والتي تتمتع بالحماية المؤقتة بوصفها جزء من الأمة التركية.
أما نحن السوريون, فربما حان الوقت لنا وفيما نتداول مصير إدلب أن نعي وندرك خطورة ملف “المقاتلين الأجانب” وربما نبدأ بمفاوضاتنا حوله. فهؤلاء هم بيادق المحادثات في لعبة الشطرنج الدولية, حيث الحكومات تمنح الأولوية لإبعاد خطرهم عن بلدانها ومنع عبورهم إليها, وليس سلامة أربعة ملايين سوري في إدلب.
تلفزيون سوريا
رسالة من البغدادي/ بيار عقيقي
لم تكن إدلب في الشمال السوري تنتظر سوى “مداخلة” زعيم تنظيم داعش، أبو بكر البغدادي، للدفع أكثر نحو مواجهة حملة عسكرية بقيادة النظام السوري وروسيا. وكأن البغدادي مكلّف حكماً بإشعال المعارك، وتزخيمها، حين تكون مفصليةً أو محاطة بالضبابية. في رسالته الأولى له منذ نحو عام، والمتزامنة مع عيد الأضحى، قال البغدادي إن “ميزان النصر أو الهزيمة عند المجاهدين ليس مرهوناً بمدينةٍ أو بلدةٍ سلبت. ومتى تخلوا عن دينهم وصبرهم وجهاد عدوهم ويقينهم بوعد خالقهم هزموا وذلّوا”. وفي كلامه تأكيد على إعادة معنويات رجاله الذين سقطوا في جبهات عدة، في العراق وسورية وليبيا والفيليبين. كما شنّ هجوماً على الولايات المتحدة وروسيا، قائلاً “ما إن أفشل المجاهدون، بتوفيق الله ومنه، ما كانت تحلم به أميركا من السيطرة وبسط النفوذ، حتى أقبلت روسيا الصليبية تزاحمها في المنطقة، وتنكد عليها استفرادها بها”. وكأنه في ذلك يختار نهج تنظيم القاعدة الذي هاجم المصالح الروسية والأميركية في مختلف أنحاء العالم. كما أضاف متوعّداً البلدين “ونحن في دولة الإسلام قد أعدْدنا لكم، يا حماة الصليب، وقتلى أهل السّنّة، على أرض الشام، وكل مكان، ما سينسيكم بإذن الله أهوال العراق وخراسان”.
لا يعني كلام البغدادي مجرّد خطوة مفصلية للتنظيم، بقدر ما أنه محاولةٌ يائسةٌ لتبرير الهزائم المتتالية له. “داعش” انتهى، وما تبقّى ليس سوى جيوبٍ يُمكن السيطرة عليها سريعاً، وسط حروب استخباراتية قاتلة، تورّط فيها الجميع تقريباً. لم يعد التنظيم كما كان، أقلّه في عامي 2015 و2016، لكن الأرضية تبقى جاهزةً لنشوء تنظيم آخر على أنقاضه. لذلك سعى البغدادي، من الآن، إلى الإمساك بالتنظيم العتيد، أو فرض شروطه عليه، في حال لم يُغتَل البغدادي نفسه، أو يتم توقيفه.
التحوّل إلى أيمن الظواهري آخر ليس الشكل الذي يمكن أن ينجح فيه البغدادي. الفوارق كثيرة بين الطرفين، لأسبابٍ مرتبطة بتوجهاتهما. لا تخوض “القاعدة” معارك “قومية”، بقدر ما تخوض معارك أيديولوجية. أما “داعش” فأكثر فوضويةً على حساب الأيديولوجيا. يمكن بسهولة الانخراط بـ”داعش”، عكس “القاعدة”. “داعش” عملي أكثر في الأرضين، السورية والعراقية. “القاعدة” أكثر تركيزاً على هدف لا منطقة واحدة.
هل يمكن فعلياً الحديث عن “عودة داعش إلى ما كان عليه سابقاً؟”. أكيد لا. فرضت التحوّلات السورية والعراقية تغييرات جذرية، لمصلحة قوات البلدين والتحالف الدولي وروسيا وإيران. يمكن طرح فرضية تنظيم جديد، يعيد إشعال الجبهات الميدانية قليلاً، من دون تحقيق التغيير العملاني على الأرض، غير أن ما يثير المخاوف حقاً هو قدرة “داعش” على التحوّل إلى أوروبا، قبل انتخاباتها العامة العام المقبل. صحيحٌ أن هجماته هناك ستُحفّز قوة الأحزاب اليمينية المتطرّفة التي باتت تهدّد عملياً العرش اليساري ـ الاشتراكي، إلا أن التنظيم يحتاج مثل هذه الهجمات أيضاً التي ستمنحه “شرعية الهجوم والدفاع عن مصالح المسلمين”، وفقاً لأدبياته.
السؤال التالي: كيف يمكن أن ينجو البغدادي مراراً من محاولات الاغتيال، ومحاولات القبض عليه، مع العلم أن منطقة سيطرته باتت أضعف بكثير مما كانت عليه سابقاً؟ تقترح نظريات المؤامرة أن “هناك دوراً لم ينتهِ للبغدادي والتنظيم”، وأن “الاستخدامات المتعدّدة لأجهزة الاستخبارات الإقليمية والعالمية تمنع قتله أو إمساكه”. أما عملياً فإن الصراع الدولي أكبر من أن يتمّ الإمساك بالبغدادي، كي لا يُجيّر أي طرفٍ هذا “النصر” لصالحه، وانعكاسه على دوره في سورية والعراق، أو انعكاسه السلبي من ردّة فعل أنصار “داعش” ضد الطرف الذي يُمسك بالبغدادي، وتحوّل بلاده إلى ساحةٍ من العمليات الانتحارية والتفجيرية.
حتى يحين وقت بروز ملامح المرحلة الجديدة، أو الجيل الجديد من المتشدّدين، سيبقى البغدادي فارّاً وقادراً على توجيه رسائله، كما ستبقى مخاطر التفجيرات تهدّد القارة العجوز. سيكون الشتاء الآتي مختلفاً قليلاً.
العربي الجديد
إدلب في انتظار معركة/ عروة خليفة
يتواصل حديث وسائل الإعلام التابعة للنظام السوري عن معركة مرتقبة في محافظة إدلب، والحشود العسكرية التابعة للنظام والتي بدأت بالتجمع في محيط المنطقة تؤكد وجود هذه النوايا. إلا أن مصير المنطقة التي تقع تحت سيطرة المعارضة السورية شمال غرب سوريا لن يكون رهن هذه الحشود، التي لا تمتلك على أرض الواقع القدرة على بدء مواجهة واسعة مع أكثر من سبعين ألف مقاتل -هو الحجم التقديري للقوات الفاعلة التابعة للفصائل في إدلب-. وحده التفاهم بين موسكو وأنقرة يمتلك مفاتيح المعادلة ومصيرها هنا، دون أن تغيب الولايات المتحدة عن مجريات الأحداث بشكل كامل.
توحي الزيارات المتكررة لوزير الدفاع التركي خلوصي أكار -بمرافقة رئيس جهاز المخابرات حقان فيدان- إلى موسكو خلال الأسبوع الفائت، واللقاءات التي عقدها وزيرا خارجية روسيا وتركيا في ذات التوقيت، بعملية تفاوضية معقدة بين البلدين لحسم مصير إدلب، في وقت لا تمتلك فيه أنقرة قدرة كبيرة على ممانعة الرغبات الروسية، ما قد يؤدي إلى تراجع تركيا عن حمايتها للمحافظة التي تأوي اليوم أكثر من ثلاثة ملايين سوري بين مواطنيها والنازحين إليها. وعلى الرغم من تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو يوم الجمعة الفائت، وتحذيره من كارثة إنسانية، لا يقتصر خطرها على إدلب، بل يؤثر مصير سوريا ككل في حال اندلعت معارك واسعة في المحافظة، إلا أن الرغبات الروسية المعلنة والضغط الذي تمارسه موسكو سيؤدي بالنهاية إلى تراجع تركيا عن موقفها، أو على الأقل تجاهلها للعمليات العسكرية الروسية في بعض مناطق إدلب. لكن تأثير ذلك سيكون أوسع من مجرد سيطرة النظام على المساحات التي تهدد من خلالها قوات المعارضة قاعدة حميميم بصواريخ الغراد أو طائرات الدرون، فدخول قوات النظام دون مقاومة كبيرة إلى بعض المناطق في إدلب قد يقود إلى سيناريو «أحجار الدومينو» الذي حصل في درعا، حين أدّت سيطرة النظام السريعة على الريف الشرقي إلى تسارع بسط سيطرته على درعا البلد والريف الغربي، مستغلاً الانقسامات الحاصلة بين قوات المعارضة سابقاً هناك.
يحمل الواقع الميداني في المحافظة تأثيراته أيضاً على المحادثات بين تركيا وروسيا حول إدلب، فالاستعصاء الذي يخلقه وجود هيئة تحرير الشام، والتي لا يبدو أنها مستعدة للدخول في أي عملية تفضي إلى حلها أو اندماجها في الجبهة الوطنية للتحرير، يقابله عجز الأخيرة عن التحرك عسكرياً ضد الهيئة، لعدّة أسبابٍ يتصدّرها أن الجبهة الوطنية للتحرير لم تُظهر حتى اللحظة تماسكاً كافياً يظهر اندماجاً للقطاعات العسكرية التي تتبع للفصائل المنضوية تحت راية الجبهة، مثل حركة نور الدين الزنكي أو حركة أحرار الشام أو فيلق الشام، كما لا يبدو أن حجم القوة الفاعلة لدى هذه الفصائل قد استطاع حسم أي معركة مع الهيئة خلال الفترة الماضية، مما يجعل فرصه بحسم معركة مقبلة مع الهيئة أمراً مستبعداً. مثل هذا الوضع سيشجع موسكو على الضغط أكثر على أنقرة للقبول بدخول قوات النظام على خط المعركة مع الهيئة، ما سيؤدي إلى انقسامات واسعة في قوات المعارضة شمال غرب سوريا نتيجة مثل هذا المشهد.
ثمة عامل ميداني آخر نجده في قدرات قوات المعارضة التي تقع خارج هذا التقسيم بين الجبهة الوطنية للتحرير وهيئة تحرير الشام، كما في حالة جيش العزة، الذي يسيطر على مناطق في ريف حماة الشمالي، فبوجود هذه الانقسامات واستمرارها لن يستطيع جيش العزة الصمود لوحده على جبهات ريف حماة الاستراتيجية في مواجهة ضغط كبير من قوات النظام والطيران الروسي.
وتُظهر التعزيزات التي تستقدمها قوات النظام إلى محيط محافظة إدلب والأرياف المتصلة بها، أن المعركة لن تشمل فقط جسر الشغور وريف اللاذقية، فالنظام يحشد أيضاً في ريف حماة عند بلدة أبو دالي وفي ريف إدلب الجنوبي الشرقي عند مطار أبو ظهور، ما يعني أن أي معركة مقبلة ستشمل كل تلك الجبهات. ومن المتوقع أن يقوم النظام بتنفيذ ذات الخطة التي اتبعها في درعا والغوطة، وهي التركيز على الجبهات الأكثر ضعفاً وخلق ممرات تقسّم مناطق المعارضة وتحاول عزل ريف حلب الغربي، الذي يضم كتلة وازنة تتبع للجبهة الوطنية للتحرير، عن باقي إدلب، ليُسيطر أولاً على ريف إدلب الجنوبي شرق أوتوستراد حلب-حماه الدولي خلال المرحلة الأولى، ويحقق تأثيراً مشابهاً لما حدث بعد سيطرته على ريف درعا الشرقي.
بالمحصلة، فإن مثل هذا السيناريو يبدو الآن الأكثر ترجيحاً إذا لم يُبنَ ضغط دولي واسع تقوده واشنطن لوقف العمليات في المنطقة، فتركيا لوحدها لن تكون قادرة، وربما لن تريد، أن تقف بوجه نوايا روسيا بإنهاء ملف قوات المعارضة المسلحة بشكل نهائي في سوريا، إلا أن نتائج مثل هذا السيناريو أكبر من التي حملتها انتصارات النظام الميدانية بدعم من أوصيائه في طهران وموسكو خلال السنتين الماضيتين، إذ يحمل هذا السيناريو نتائج مديدة على الوضع في سوريا. ستكون الأوضاع الناشئة عن سيطرة النظام عن إدلب الرصاصة الأخيرة التي توجه إلى المسار السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة، لصالح تخريجة روسية مشابهة لما جرى في مؤتمر سوتشي -لن تكون موسكو مضطرة لتجميلها أكثر من ذلك- وستؤدي إلى فرض أمر واقع في سوريا. قد يغيب الاعتراف الغربي بهذا الأمر الواقع في البداية، لكن موسكو تراهن على أن أوروبا ستعترف بهذا الأمر الواقع لاحقاً تحت ضغط مسألة اللاجئين، ولا يبدو أن منع أموال إعادة الإعمار من قبل الولايات المتحدة سيشكل ضغطاً كبيراً على نظام حوّل سوريا إلى أنقاض، ولا على حلفائه الذين يبحثون عن نصر سياسي وعسكري لا عن إعادة إعمار أو خلق استقرار في المنطقة، والوضع في العراق، أحد أكبر الدول النفطية في العالم، مثالٌ ساطع على الخراب الذي تعتاش عليه الميليشيات الموالية لطهران.
موقع الجمهورية
عن ثلاثة ممرات آمنة إلى إدلب/ مصطفى أبو شمس
«هذه المرة لم نحزم حقائبنا، إلى أين سنهرب؟» يقول أبو حسين وهو يضم صغاره، «ربما ستكون هذه المرة مقبرة الأسد»، في الوقت الذي يتناقل موالون لنظام الأسد فرحهم بالمعركة القادمة لإبادة الملايين من «الإرهابيين»، بينما يكتفي أبو محمد (نازح من حمص) بالحوقلة «هذه المرة لن أغادر معرة النعمان» حيث حط به الرحال. «تعبنا من كل شي، تعبنا من الموت والقصف، لكن التهجير كان التعب الأكبر والأشد قسوة»، تضم أم محمد أحفادها التي نجت بهم من حلب بعد استشهاد ولديها لتخبرنا «هدول الأطفال بلا ذاكرة، كل ما جينا على مكان بيهجرونا منو، ما عاد فيه حلب، وما بعرف إذا رح يضل فيه إدلب، وين بدنا نروح؟».
ليست جديدة علينا تلك المشاعر المتناقضة، ولم يفارقنا القلق خلال الثورة السورية منذ بدايتها وحتى اليوم، ذلك القلق الذي رافقنا قبل الدخول في كل معركة، وعند انتظارنا لكل مؤتمر دولي يُعقد حول قضيتنا السورية، ونكون نحن الغائبين الوحيدين عن مجرياته، تُميّع قضايانا وتغيب المحاسبة عن أذهان المجتمع الدولي ليقتصر حديثهم عن إيجاد ممرات آمنة للمدنيين، إن سمحت لهم قوات الأسد وحلفاؤها، واستجابة طارئة لا تتعدى خيمة، إن وجدت أيضاً، وبعض السلال الإغاثية.
هذه المرة، ومع تصاعد الحديث حول معركة سيخوضها نظام الأسد وميليشياته في إدلب وعلى مراحل، يتكرر السيناريو الدولي بل يكاد يتطابق من حيث ردود الأفعال بما حدث منذ أشهر قليلة في درعا وقبلها في الغوطة الشرقية وحلب، ليطل علينا ديمستورا ثانيةً وهو يعرض خدماته بمرافقة المدنيين عبر الممرات الآمنة التي سيجري الاتفاق عليها مع حكومة الأسد، وبمباركة تركية روسية، وليرسل لنا من خلال مؤتمر صحفي رسائل تفيد أن «جبهة النصرة سابقاً»، هي من حالت دون وجوده مع قوافل المهجّرين قسراً من حلب آنذاك. الفارق الوحيد هنا، هو نسيان تحديد وجهة هذه الممرات!
أثناء الحملة الهمجية من قبل قوات النظام على مناطق حلب الشرقية نهاية عام 2013، والتي سُميت «حملة البراميل»، حزم كثر من أهالي هذه المناطق ما تيسر لهم من أمتعتهم وتوجهوا إلى محافظة إدلب، ليجدوا ملاذاً شبه آمن في بلداتها وقراها، وبعض قرى الريف الغربي من حلب، ومع اختلاف وجهات النظر للنازحين حول الحياة في إدلب، بين الشكر والسباب نظراً للغلاء واستغلال بعض أصحاب المنازل لحاجة النازحين الجدد، إلّا أن الجميع وجد في هذه البقعة الجغرافية ملاذاً آمناً لعوائلهم يقيهم شر البراميل المتفجرة، ويمنع عنهم التفكير في العودة إلى «حضن الوطن» كخيار وحيد وُجد فيما بعد، واختاره الكثير من أبناء الثورة السورية في مناطق مختلفة، على مضض، فـ «العودة إلى حضن الوطن تعني اللجوء إلى القاتل» وما حدث بعدها من اعتقالات قام بها عناصر الأمن والشبيحة للعائدين، أو قتلهم أو الزج بفئة الشباب منهم في معارك جديدة يخوضها النظام ضد شركاء الأمس في الثورة والحرية، ليكونوا وقود هذه المعارك وصفوفها الأولى.
«طريق الكاستيلو باتجاه كفر حمره للوصول إلى الريف الغربي من حلب وقرى إدلب كان متاحاً، واتخاذ القرار بالخروج من الأحياء الشرقية في حلب لم يكن يحتاج إلّا للحظات وبعض الثياب التي كانت دائماً محزومة بحقائب جاهزة، كنا نجلس على حقائبنا» يقول أبو حسين الذي خرج بعائلته إلى بلدة الدانا وقتها، وخيار العودة أيضاً كان متاحاً، فـ «كلما ساد بعض الهدوء في مناطقنا، شاهدت النازحين يعودون إلى مدينتهم وبيوتهم»، كانت قرى إدلب «المحطة التي نهرب إليها حينما يشتد بنا الخوف»، وعلى الرغم من استهدافها الدائم «كانت آمنة بشكل غريب، ربما للمساحات الترابية الكبيرة التي تمتلكها وغياب الأبنية الطابقية، ولكن الأكيد أن الإنسان يحتاج إلى مكان آخر، أي مكان، كي يتخلص من عقدة الذنب تجاه أطفاله، يهرب بهم من الجحيم ويسلم أمره لله».
استهدفت براميل الأسد دوار الحيدرية في حلب، الدوار الذي تحول في هذه الفترة لما يشبه «كراج الانطلاق» يضم حافلات وسيارات تقلّ النازحين إلى خارج المدينة. الحصيلة كانت عشرات الشهداء، إلّا أنهم «قتلوا وهم مبتسمون» يحكي أبو حسين، بعد أن بات خيار الخروج من المدينة يشبه إلى حد ما الوصول إلى الجنة.
الممر الآمن الوحيد كان من صناعتنا، فالمناطق الممتدة على طول الطريق كانت محررة، أعلام الثورة كانت تقف على الحواجز، ليس مهماً من كان يقف على تلك الحواجز، ما هي انتماءاتهم أو خلفياتهم الفكرية والدينية، كنا نكتفي بذلك الشعور الآمن الذي يمنحنا إياه ذلك العلم، فالممر آمن والطريق صحيح والوجهة كانت إدلب المحررة.
في نهاية شهر آذار من عام 2015، أصبحت إدلب ثاني المحافظات السورية المحررة بشكل كامل من قوات الأسد، بعد الرقة، إلّا أن التحرير هذه المرة كان بطعم مختلف، فلتحرير إدلب أهمية استراتيجية كونها تمثل الامتداد الجغرافي الوسطي بين مدينة حلب وحماة واللاذقية، يضاف إلى ذلك اتحاد معظم الفصائل المسلحة فيها تحت مسمى «جيش الفتح»، الذي شكل حلقة أمان ودعم في نفوس المدنيين والمقاتلين، على حد سواء، وبات الحديث عن تحرير سوريا انطلاقاً من إدلب يعلو في الأوساط الثورية لتشكل إدلب وقتها القاعدة العسكرية الأكبر. يقول أحمد سليمان «مع تشكيل جيش الفتح وتحرير إدلب، كان الحلم بالنصر أقرب ما يكون، في متناول اليد، رأينا فيه مشروعاً سورياً يختلف عن تنظيم الدولة ببنيته المختلفة عن مبادئ الثورة، وعلى الرغم من وجود فصائل إسلامية (متشددة) في تكوين جيش الفتح، إلّا أن الرهان كان مشروعاً على التماهي ضمن مشروع وطني، وجيش وطني، يقود دفة الثورة السورية».
لم يكن أهالي حلب وحدهم من وجدوا في إدلب ذلك الملاذ الآمن، بل ضمت المحافظة عدداً ليس بقليل من ثوار مدينة حماه، والهاربين من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة (ريف حلب الشرقي –الرقة –دير الزور)، إضافة إلى النازحين القادمين من مختلف المناطق التي تسيطر عليها قوات الأسد.
الممر الثاني
طُرحت مدينة إدلب ومنذ عام 2016، ومع حصار قوات الأسد للكثير من مناطق المعارضة كورقة حل وملجأ للثوار وعائلاتهم، وكل من لا يريد إبرام مصالحة مع قوات الأسد أو البقاء تحت حكمها، وتحوّل النزوح إلى إدلب إلى خيار إجباري تفرضه القوى المسيطرة على الملف السوري (روسيا –إيران –تركيا) بمباركة من المجتمع الدولي والأمم المتحدة وعرّابها ديمستورا، ولتغدو إدلب مكاناً لتجمع الثوار والمقاتلين وعائلاتهم، وبنداً دائماً في اتفاقيات المصالحات والتهجير القسري بينما عدّها موالون لنظام الأسد «مكاناً لتجميع الإرهابيين، ريثما يتم لقواتهم السيطرة على باقي المناطق، ومن ثم التفرغ لإحراقها بمن فيها».
البداية كانت من حلب، إذ وثقت وحدة التنسيق والدعم خروج 37500 نسمة إلى إدلب وريف حلب الغربي في كانون الأول 2016، إلّا أن عدد المهجرين من حلب يفوق 400 ألف نسمة، توزعوا على قرى وبلدات ومخيمات محافظة إدلب.
تلا ذلك خروج 2500 نسمة في أيلول 2016 من معضمية الشام نحو إدلب؛ و1400 نسمة من قدسيا والهامة (شمال غرب دمشق) في تشرين الأول 2016؛ و8000 نسمة بينهم 700 مقاتلاً من داريا بموجب اتفاق آب 2016 والذي استمر حتى بداية 2017.
في عام 2017 استقبلت إدلب 26000 نسمة من حي الوعر بحمص (آذار 2017)؛ و158 مقاتلاً من الزبداني (شمال غرب دمشق) في نيسان من العام نفسه؛ و3350 نسمة من مضايا بمحافظة ريف دمشق (ضمن اتفاقية المدن الأربعة) بينهم 400 مقاتلاً و1000 نسمة من مخيم اليرموك بدمشق.
كما هُجّر باتجاه إدلب 1022 نسمة من حي برزة في دمشق بينهم 568 مقاتلاً في أيار 2017؛ و 1500 نسمة من حي القابون الدمشقي في الشهر نفسه؛ و2100 نسمة من وادي بردى (شمال غرب دمشق) في كانون لثاني 2017.
ودخلت إدلب في 15 أيلول 2017 ضمن مناطق خفض التصعيد بعد توصّل الدول الضامنة لمسار أستانة (روسيا –تركيا –إيران) إلى اتفاق على إنشاء منطقة خفض توتر في المحافظة، ونشر مراقبين فيها لضمان احترام وقف إطلاق النار بين المعارضة وقوات النظام، وعملت تركيا (الضامن لقوى المعارضة) منذ بداية الاتفاق على نشر نقاط مراقبة (12 نقطة متوزعة في إدلب وريف حلب الجنوبي وريف حماه الشمالي)، إلّا أن هذه النقاط لم تستطع إيقاف الضربات الجوية التي استهدفت قرى وبلدات المحافظة دون أي رد.
الممر الأخير
مع بداية 2018، شهدت مناطق المعارضة السورية انحساراً كبيراً، فسيطرت قوات الأسد على غوطة دمشق، وتم تهجير أبنائها بموجب اتفاق مصالحة قضى بخروج من لا يريد البقاء تحت حكم الأسد إلى الشمال السوري، كما سيطرت تلك القوات على ريف حمص الشمالي والجنوب السوري الثائر (درعا –القنيطرة) لتشهد إدلب موجة نزوح جديدة: 48633 من جنوب دمشق؛ و32257 من ريف حمص الشمالي و10516 من الجنوب السوري. إضافة إلى سيطرة قوات الأسد بداية عام 2018 على مناطق واسعة في ريفي إدلب وحلب الجنوبيان أدت إلى نزوح مئات الآلاف من أبناء هذه القرى إلى إدلب وريفها الشمالي وقرى جبل الزاوية.
وبلغ عدد سكان المحافظة بحسب منسقي الاستجابة في الشمال السوري 3867633 نسمة بينهم 829437 نازحاً حديثاً خلال عام 2018 و600 ألف نازح في المخيمات و53 ألف نازح (عراقي وفلسطيني) و550 ألف نازح قديم.
يسرّب نظام الأسد في كل يوم مقاطع فيديو حول الحشود والتجهيزات العسكرية على أطراف مدينة إدلب، ويكرس المجتمع الدولي هذه المخاوف من خلال إطلاق يد روسيا في التعامل مع الملف السوري، بينما لا تقنع التطمينات التركية المدنيين في إدلب، الذين يعيشون حالة من الخوف والترقب أدت إلى شلل شبه كامل في الحياة العامة لأبناء المدينة ومهجريها، وتستعد الفصائل العسكرية لخوض معركة وجود هذه المرة، فلا ممرات آمنة ولا إدلب جديدة يستطيع المجتمع الدولي نقل ما يقارب 4 ملايين نسمة إليها.
موقع الجمهورية
هروب الأسد وروحاني إلى «إدلب»/ سميرة المسالمة
لم تعد إدلب ملجأً لمعارضي الأسد من مقاتلي الفصائل المسلحة فحسب، ولا هي فقط التجمع السكاني الأكبر لحاضنة الثورة الشعبية، ممن رفضوا التسويات التي أجبرت عليها مناطق حمص وحلب وريف دمشق ودرعا، وليست إدلب «المنطقة المحررة» الأخيرة التي يريد نظام الأسد استرجاعها تحت سيطرته، لاستكمال مشروعه بإعادة إنتاج نفسه أمام المجتمع الدولي، كما أنها ليست فقط المجال الحيوي لتسوية دولية تجمع بين روسيا وتركيا، مقابل بقاء الأخيرة كضامن لقبول المعارضة إملاءات التسوية الروسية في مساري»آستانا» و»سوتشي»، في مواجهة الحلف الأميركي – الغربي، لقلب الطاولة على المسار الأممي في جنيف المدعوم بقرارات دولية لحل الصراع في سورية… إدلب في حقيقة الأمر هي ذلك كله وأكثر، إلا أنها أيضاً في هذا الوقت، هي طوق النجاة الذي يبحث عنه كل من الأسد وروحاني إيران، في مواجهة حملة الترحيل المستعجلة التي تعلنها الولايات المتحدة الأميركية عليهما.
فحيث يبني النظام السوري قدراته على تأخير الحل السياسي المبني على بيان جنيف1، ولاحقاً القرارات الأممية ومنها القرار 2254، وإرادة الولايات المتحدة الأميركية التي أعلن عنها وزير خارجيتها «أن ما يحدث في سورية حرب أهلية ويجب ألا يكون للأسد مستقبل في أي حل سوري مقبل»، ما يجعل وسيلته لتمديد بقائه في السلطة استمرار وجود المعارك البينية مع المعارضة من جهة (وهذه يمكن القول إنها انتهت مع آخر معاركه في درعا)، قبل عملية التسوية الروسية مع الفصائل، وأيضاً معاركه ضد الإرهاب المتمثل في كل من «داعش» وجبهة «النصرة»، وهو يدرك تماماً أن الحل السياسي المقبل يعني إنهاء شكل النظام الحالي بكل ما يمثله، بدءاً من رأس النظام، وانتهاء بشكل الجيش، وبنية الحكم، وطبيعة الانتخابات التشريعية والرئاسية، أي أن استمراره زمنياً ووظيفياً مرتبط:
أولاً، بقدرته على استثمار الوقت اللازم «محلياً» لإعادة تأهيل المناطق التي استولى عليها النظام، مما سُمي سابقاً «مناطق خفض التصعيد»، عبر عملياته القتالية التي استبقت فرض التسويات الاستسلامية للفصائل المسلّحة، ومن ثم قبول بعض تلك الفصائل بدخولها مرحلة التدجين، تحت مسميات تحوّلها إلى شرطة محلية، أو تطوعها في خدمة الفيلق الخامس ذي المرجعية الروسية، أو اندماجها مع الفرقة الرابعة ذات التبعية الإيرانية، وهذا يعني إعادة تنشيط حاضنته الشعبية وتوسيعها أيضاً.
ثانياً، استمرار المعارك في سورية تحت شعار محاربة المتطرفين، لاستثمار الوقت «دولياً» والحاجة الى النظام السوري كقوة مقاتلة على الأرض، تعمل وفق التوجهات الروسية من جهة، وبما يتوافق واتفاقات خفض التصعيد الموقعة في آستانا بضمانة كل من روسيا وتركيا وإيران، التي تتيح للنظام استمرار ادعاء شن الحرب على المتطرفين في أي منطقة في سورية، من جهة ثانية، ما يعني أن شرعية استمرار النظام الحالي يستمدها من شرعية معاركه المفتعلة ضد ما يسمى المتطرفين في «النصرة»، ومن هو في سياق المتحالف معها، ومن هنا يمكن القول إن ظهور أمير النصرة «الجولاني» في المناطق التي يريد النظام إدارة معركته ووقته الأطول فيها، هو خدمة جلية ومأجورة وواضحة لإمهال النظام وتمكينه من تلك المعارك عسكرياً، قبل خوضه معركة التفاوض سياسياً، ما يجعل من إدلب الملجأ الأخير لـ»الأسد» ليهرب إليها من تسارع الوقت الذي تفرضه الولايات المتحدة على روسيا لإنهاء الصراع في سورية وفق مسار جنيف الأممي.
أما النظام الإيراني الذي يراهن ليبقي على وجوده في سورية، ومعركة إدلب هي فرصته الأخيرة لخوض معركة بقائه في المعادلة، ومن خلالها في المنطقة عبر أذرعه الميليشياوية الطائفية، بزعم أنه جاء بطلب من الحكومة السورية، وهو ما نفاه الأسد في لقائه مع قناة «روسيا اليوم» في 31 أيار (مايو) الماضي، معتبراً أن دعوته اقتصرت على القوات الروسية فقط. ورفضت إيران الانسحاب في تصريح لوزارة خارجيتها في (21 أيار 2018)، رداً على دعوة الرئيس بوتين كل القوات الأجنبية للخروج من سورية، مؤكدة عكس ما صرح به الأسد لاحقاً، «بأن وجودها هو بناء على طلب من حكومة دمشق»، ومن ثم إعلان روسيا عجزها عن تأدية التزاماتها بإقناع إيران بالانسحاب. ما وضعها أمام مأزق شرعنة وجود قواتها دولياً، واضطرارها لأن تختبئ في عباءة النظام تارة، وتحت ظل اتفاقات آستانا وثغراتها القانونية تارة أخرى، لتمدد من ضرورة بقائها كقوة حليفة في الحرب على التطرف الذي تمثله جبهة «النصرة» في إدلب.
وسواء بقصد تسريع الحل في سورية، أو إزاحة إيران من المشهد تنفيذاً للمطالب الأميركية – الإسرائيلية والعربية، فإن تصريحات موسكو عن عدم قدرتها على إلزام إيران بالخروج من سورية، هو في مثابة الضوء الأخضر للإدارة الأميركية في إعلان حربها على إيران اقتصادياً وعسكرياً، حتى عندما تكون الضربات مموّهة بالهوية الإسرائيلية، والتي تقف روسيا صامتة تجاهها، على رغم منظومات دفاعها الجوية التي أخذت وضعية الصمت المريب، الذي لم تتجاهله إيران على ما يبدو، وأسست لعرقلة اتفاقات حليفها الروسي بوتين مع نظيره الأميركي ترامب، عبر الدخول في حروب متتالية تصنع لها مسببات تأجيل عملية ترحيلها من سورية، والمنطقة عموماً، وتأجيج الخلافات الداخلية بفعلها، أو بفعل أذرعها كما يحدث في لبنان واليمن.
من هنا، يمكن فهم تصريحات وزير الدفاع الأميركي منذ يومين، بأن خروج إيران من سورية «ضمانة لنزع العامل الأقوى في زعزعة الاستقرار في المنطقة»، والتي تأتي في سياق تأكيد النقاط 12 التي طرحها مايك بومبيو في أيار الماضي، ومنها الانسحاب من سورية، وإنهاء دعم إيران للميليشيات الطائفية، ومنها حزب الله في لبنان والقوى الطائفية في العراق، والحوثيون في اليمن، ما يعني خروج الأمر بما يتعلق بإيران من مجال التفاوض عبر وسيط (الروسي)، إلى رحاب الرسائل الجدية من قوى التحالف الغربي – الأميركي، الذي يستعرض قواه في الطرف المقابل للحشود الإيرانية وقوات النظام في إدلب.
ويأتي هذا التصعيد على جانبي الصراع الدولي، ليس من باب التقليل من حجم التفاهمات الروسية – الأميركية، بما يتعلق بحل الصراع في سورية، وإنما ضمن سلسلة الإجراءات المتفق عليها بين الجانبين، والتي تمر بحالة استعصاء أحياناً، بسبب «الوهم الروسي»، الذي رافق بداية الاتفاق مع الجانب الأميركي، حول قدرتها على عقد اتفاقات تتعلق بمصير إيران في سورية، وإلزام النظام السوري بكامل رموزه الاتجاه خلف الإرادة الروسية في تبني الحل السياسي، الذي يعتمد مبدأ التسويات، مقابل التغيير السياسي الهادئ عبر الدستور، والانتخابات، وخروج القوات الإيرانية، بضمانة الوجود الروسي، «كشرطي منطقة» لا يخرج في اجتهاداته عن سيناريوات الحل التي تضمن مصالح القوى المتصارعة، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية، بما في ذلك ما يتعلق بعقود الإعمار التي أوقف ترامب تدفق فاتحات الشهية عليها، التي وزعتها روسيا على أوروبا، تحت مسمى عودة اللاجئين وتوطينهم.
* كاتبة سورية
الحياة
خريطة التقاسم الجديد في سورية/ وليد شقير
قريباً تنتهي مناطق «خفض التصعيد» التي كانت موسكو وأنقرة وطهران، ومعها واشنطن من تحت الطاولة، قد اتفقت عليها مطلع أيار (مايو) عام 2017 ، مع اقتراب تصفية آخرها في إدلب، بعد أن تمت العودة عن ذلك الاتفاق وتصفية 3 منها تباعاً هي: شمال محافظة حمص، الغوطة الشرقية، بعض المناطق جنوب سورية، أي محافظتا درعا والقنيطرة. أما منطقة إدلب، فكان «خفض التصعيد» فيها يشمل، وفق الخرائط السورية، أقساماً من ريف اللاذقية وحماة وحلب هي التي تستهدفها الحملة العسكرية التي يتهيأ الروس وجيش النظام ومعه الميليشيات الإيرانية لشنها.
على مدى الأشهر الماضية من عام 2018، أسفرت الحملة على المناطق الثلاث السابقة عن مزيد من الدمار والتهجير والمآسي للسوريين، وبدلاً من تطبيق مبدأ «خفض التصعيد» تمت ممارسة «الحسم بالتصعيد» والقصف المجنون، حيث استخدم النظام الغازات السامة والكيماوي، لاسيما في الغوطة الشرقية. وكانت التقارير أفادت باستخدامه أيضاً في ريف حلب.
بات واضحاً أن اختراع «خفض التصعيد» في تلك المناطق، الذي تلازم مع 8 جولات مفاوضات في جنيف بين النظام والمعارضة، كان للتهيئة لاستعادتها الواحدة تلو الأخرى. جرى عزل المناطق بعضها عن بعض وتوزيع إمكانات المعارضة وترحيل المقاتلين (وعائلاتهم من المدنيين) من كل منها إلى التالية، وخصوصاً إدلب بالنسبة إلى «النصرة» (هيئة تحرير الشام). وحين شمل الاتفاق على المناطق الأربع أن تكون مدته في البداية 6 أشهر يتم تجديدها تلقائياً، كان محسوباً أن هذا يعطي حرية توقيت إنهاء الاتفاق وفق عقارب الساعة الروسية. على الأقل هذا ما كشفته العودة المبرمجة إلى التصعيد. كانت اللازمة الروسية السورية الإيرانية بأن هدف العمليات العسكرية «ضرب الإرهاب» جاهزةً في كل هذه المراحل، ووسيلة للفصل بين التنظيمات الإرهابية وبين التشكيلات العسكرية المعتدلة والمدنيين. لم تتح الحملات العسكرية التمييز بينها، طالما كان يجري نقل مقاتلي «النصرة» و «داعش» في كل مرة يتم فيها الحسم في إحدى المناطق، إلى واحدة من مناطق خفض التصعيد المرشحة سلفاً للحسم، وخصوصاً إدلب. كان يمكن الحل السياسي، لو حصل تقدم في مفاوضاته، أن يقود إلى هذا التمييز، فالفصائل العسكرية المعتدلة اصطدمت بالتشكيلات المصنفة إرهابية أصلاً، وكانت مستعدة لمجابهة هذه التشكيلات لو حصل تقدم في مفاوضات الحل السياسي.
لن ينفع الصراخ الدولي المرتفع منذ أسبوعين للتحذير من كارثة إنسانية في إدلب ومحيطها في الحؤول دون العملية العسكرية في إدلب. والأرجح أن التحذير الأميركي من استخدام النظام السلاح الكيماوي سيقف عند حد التحذير. أما الاعتراض التركي على العملية العسكرية بحجة سعي أنقرة إلى تحييد «النصرة»، فإنه يدل على المأزق الذي بلغته الأخيرة، لأن انتهاء العملية العسكرية هذه المرة بترحيل مقاتليها إلى منطقة أخرى ليس متوافراً، إلا إذا كانت تركيا ستضمن نقل مقاتليها إلى الشمال ومناطق «درع الفرات» التي تسيطر هي عليها، ليصبح عناصر «القاعدة» السوريين تحت جناحها بالكامل. والسيناريو نفسه سيتكرر كما حصل في درعا والمنطقة الجنوبية: قصف عنيف وتدمير المستشفيات والبنى التحتية وتهجير ومجازر بحق المدنيين، بحيث يدخل قادة التنظيمات المقاتلة في مفاوضات و «مصالحات» مع قوات النظام لتنضم تركيا إلى الإشراف على كل ذلك هذه المرة، مع الشرطة العسكرية الروسية.
حين أنجز اتفاق «خفض التصعيد» السنة الماضية ارتسمت صورة لتقاسم النفوذ بين القوى الدولية والإقليمية تبين أن خارطته غير ثابتة. ومع إسقاط هذا الاتفاق بدا أن الأميركيين الذين تعايشوا مع هذا الاتفاق بالتناغم مع العمليات العسكرية للقضاء على «داعش» في العراق وسورية، تاركين لموسكو هندسته، أخذوا يتخلون عن السياسة القائمة على المبدأ القائل إن «الخطة في سورية هي اللاخطة».
تزامن الإعلان الأميركي عن عدم النية في الانسحاب من سورية مع تعيين إدارة دونالد ترامب السفير السابق جيم جيفري ممثلاً خاصاً إلى سورية وإحدى إشارات المرحلة الجديدة للصراع على تقاسم النفوذ في سورية، بدلاً من السياسة الأميركية السابقة التي اعتمدت مبدأ ترك روسيا تغرق في وحولها فقط. لكنها سياسة لا تعني دفع الأمور نحو الحلول في كل الأحوال، فجيفري الذي خبر العراق من خلال خدمته في العراق، واحد من 9 سفراء سابقين، بينهم دنيس روس، وباحثين استراتيجيين أصدروا وثيقة بعنوان «نحو سياسة أميركية جديدة في سورية» لـ «معهد واشنطن للشرق الأدنى»، توصي ببقاء القوات فيها، وحظر الطيران والتنقل إليها على الإيرانيين، ودعم الضربات الإسرائيلية لقواتهم، مع تشديد العقوبات على المصارف التي تسهل حصول النظام السوري على المال.
المرحلة الجديدة ستشهد اشتداد التنافس على السيطرة على مناطق التواجد الإيراني والأميركي.
الحياة
سر الضجّة حول إدلب/ طوني فرنسيس
ماذا وراء الضجيج السياسي والعسكري تحضيراً لمعركة إدلب؟ القصة بدأت رسمياً خلال معركة الجنوب السوري عندما سربت المصادر الروسية أن اجتياح إدلب سيتم في أيلول (سبتمبر). وبين نهاية حزيران (يونيو) وأوائل تموز (يوليو)، كانت عمليات الجنوب السوري قد حسمت لمصلحة النظام السوري بقيادة روسيا، وأرسيت في تلك المنطقة ترتيبات أبرزها إبعاد الإيرانيين نحو مئة كيلومتر عن الجولان المحتل وقيام الروس بحركة مدروسة فحواها تأكيد الالتزام بأمن سرائيل، عندما سيروا دوريات شرطتهم العسكرية على خط «الحدود» لمواكبة عودة مراقبي الهدنة الدوليين (الأندوف) الى مواقعهم.
واكبت أميركا تطورات الجنوب السوري وباركتها سلفاً، وفي هذا الجنوب بالذات دارت أعقد المفاوضات حول أعقد القضايا. فهنا حيث تلتقي إسرائيل وإيران والأردن في الزاوية السورية الأكثر حساسية، تمكنت روسيا بدعم أميركي تكرس في قمة هلسنكي، من كسب دعم إسرائيل للأسد وإرضائها بإبعاد الإيرانيين عن خطوطها، ووضعت مصيرهم في كل سورية على الطاولة بما يرضي الأميركيين والإسرائيليين معاً، وقبلهم غالبية الشعب السوري المهجر والنازح الذي يرى في إيران وأذرعتها جسماً تدميرياً على مختلف المستويات.
على أهميتها الاستراتيجية، لم تحظ مواجهات الجنوب بالضجيج الحاصل اليوم حول إدلب. وغالبية هذا الضجيج تأتي من الجانب الروسي. فمنذ أيام، بدأت موسكو حملة استباقية تتهم المخابرات البريطانية بالإعداد لهجمة كيماوية في جسر الشغور تكون مبرراً لضربة أميركية على مواقع النظام، وأرفقت هذه الحملة بإرسال المزيد من القوات الى سورية، وحشدت أضخم أساطيلها أمام الساحل السوري، فيما تكرر ليلاً نهاراً أن واشنطن ستضرب وهي تتهيأ عسكرياً عبر نشر صواريخها في البحر المتوسط والخليج العربي.
الغريب في هذه التمهيدات الروسية أنها لم تثر سوى الحد الأدنى من التعليقات الأميركية، فيما لم تغب عن الذاكرة الاتصالات الودية منذ قمة ترامب – بوتين بين ممثليهما، بما في ذلك لقاء مسؤولي الأمن القومي في البلدين الأسبوع الماضي في سويسرا، وبديهي أن هذه الاتصالات لم تكن مخصصة للبحث في جنس الملائكة، وإنما لمعاجة قضايا مشتركة، بينها خصوصاً سير الأمور في سورية تحت سقف القرارات الدولية التي جرى تأكيدها مجدداً، وضمن عنوانين تشدد عليهما أميركا ولا تمانعهما روسيا: أمن إسرائيل وإبعاد إيران.
كان يمكن الجنوب السوري أن يثير إشكالات سياسية جدية، ففيه تجمعت أطراف ما يسمى بالمعارضة المعتدلة، وانزوت المجموعات «الإرهابية» في معازل محصورة، ومع ذلك لم يظهر أن معركته أثارت أياً من تلك الإشكالات. في المقابل، لا يفترض أن تثير المعركة المفترضة في إدلب الكثير من الجدال، خصوصاً أن المعنيين الدوليين بها يعتبرون أن المنطقة باتت نقطة تجمع لعناصر «القاعدة» وتنظيمات إرهابية رديفة. إلا أن الضجة حول إدلب، أخذاً بالاعتبار المخاوف على المدنيين، بلغت حداً يجعل التساؤل حول ما تخفيه مشروعاً ومطروحاً بقوة. ولعل أبرز الأسئلة في هذا المجال يتعلق بمصير حليفي آستانا ودورهما بعد إدلب وخلال معركتها: إيران من جهة… وتركيا التي ستخسر الكثير من جهة أخرى.
الحياة
إدلب بين طبول الحرب والحلول الصعبة/ خالد أبو صلاح
يجبُ الاعتراف، أولا، بأن التغرير بالناس، والمخاطرة بأرواحهم، بلا طائل، عملٌ لا أخلاقي، وأن الذهاب إلى مواجهة عسكرية في إدلب، من دون تغيير قواعد اللعبة، لن نجني منه سوى مزيد من الشهداء والجرحى والأرامل والمشرّدين، فلا بديل من رفع صوت العقل، والتحلّي بالإيمان لقول الحقيقة، والعمل، في الوقت نفسه؛ لتجنيب الشعب السوري أهوال احتلال النظام إدلب، وسيطرته عليها عسكريًا، أو المضي في معركة خاسرة بالأدوات التقليدية نفسها.
إن تغيير قواعد الاشتباك، وخلط الأوراق، هي أولى محطات صمود إدلب التي تُعدّ آخر معاقل الثورة جغرافيًا، وبإمكان جميع القوى، مدنية وعسكرية، أن تقف موقف مسؤولية أمام ما يحصل، بدل الركون إلى الزوايا، وممارسة الشجب واللطم والنحيب.
لقد شهدت الأيام الماضية تراشقًا إعلاميًا بين واشنطن وموسكو، حيث أكد مستشار البيت الأبيض للأمن القومي، جون بولتون، الأربعاء الماضي، أن واشنطن سترد “بقوة” في حال استخدم نظام الأسد أسلحة كيميائية في عملية استعادة إدلب.
فردت روسيا، السبت 25 آب/أغسطس، باتهام فصائل المعارضة السورية بالتحضير لـ “هجوم كيميائي” في محافظة إدلب، وزعمت، في بيان أذيع على لسان الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية، إيغور كوناشينكوف: أن “هيئة تحرير الشام تُعِدّ لاستفزاز آخر، يتعلق
واتهم كوناشينكوف أجهزة بريطانية خاصة بـ “التورط تورطًا مباشرًا” في “الاستفزاز” الذي “سيشكل مسوغًا جديدًا للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا؛ لتنفذ ضربات جوية ضد أهداف تابعة لنظام الأسد”.
إن هذا التصعيد الأخير يدلّ على نية روسيا المبيّتة لاحتلال إدلب، وفي ظل احتدام المواقف وتشابكها، يصعبُ التكهن بما ستؤول إليه الأمور؛ فتركيا التي تُعدّ المعنية الأولى بالملف، تسعى -جاهدة- لإبرام اتفاق طال انتظاره مع روسيا بخصوص إدلب، من خلال زيارات مكوكية بين أنقرة وموسكو، وعلى أرفع المستويات، كان آخرها زيارة وفد تركي موسكو، يتألف من وزير الخارجية، ووزير الدفاع، ورئيس جهاز الاستخبارات، هاكان فيدان، والتقى الوفد بنظرائه في الحكومة الروسية، بحضور بوتين نفسه، وبحسب ما تناقلته وسائل الإعلام، فقد اتفق الطرفان -مبدئيًا- على ضرورة إنهاء ملف المنظمات الإرهابية، وفي طليعتها “هيئة تحرير الشام”. ومن جهتها، ردت “هيئة تحرير الشام” بأنها ماضية في التحضير للمواجهة العسكرية، وأنّها على أهبة الاستعداد!
وفي ظل هذا الصخب، تقف المعارضة السورية، بشقيها العسكري والسياسي، عاجزة عن الفعل، بل عاجزة عن فهم المواقف المتعلقة بمصير أكثر من ثلاثة ملايين مدني، كدسهم نظام الأسد وحلفاؤه في محافظة إدلب، بعد أن هجّرهم من مدنهم وقراهم، بينما تسعى روسيا -في الآونة الأخيرة- سعيًا محمومًا؛ لإعادة اللاجئين السوريين من دول الجوار، بعد سيطرتها على الجنوب السوري؛ كي يتسنى لها فتح باب إعادة الإعمار الذي يفتحُ شهية الجميع!
ولكي تتمكن من فرض هذا الملف دوليًا، لا بدّ من أن تقنع الجميع بأنها انتصرت كليًا في الحرب السورية، ولم يبقَ هناك ما يحول دون عودة الاستقرار إلى البلاد، ومباشرة إعادة الإعمار. لكنّ وجود مناطق خارجة عن سيطرتها، كمحافظة إدلب، بوصفها رمزًا للمعارضة، ومعقلًا أخيرًا لها، يحولُ دون نجاحها التام في فرض أجندتها على نظرائها في المجتمع الدولي، ويجعل باب المفاوضات مفتوحًا أمام تأجيل عودة اللاجئين، وإرجاء إعادة الإعمار إلى ما بعد حل مسألة الدستور والانتخابات، وهذا ما يرد به الأوروبيون والأميركيون على الروس في اجتماعاتهم.
وبالطبع، فإن روسيا التي لم تؤمن -يومًا- بالحلول السياسية، تسعى لإنهاء ملف إدلب العالق الذي يحولُ بينها وبين طموحها، وهذا -بدوره- يجعل شهيتها للمعركة أشد، سواء أكانت معركةً جزئية، بعد تفاهمات مرحلية مع تركيا، كما يشاع في الأوساط السياسية؛ بحيث تمنح المناطق القريبة من الساحل، ومناطق شمالي حماة؛ حتى جنوبي إدلب للروس، في مقابل محافظة المعارضة على ما تبقى من المنطقة، بعد القضاء على “التنظيمات الإرهابية”، أم كانت معركة مفتوحة، لا يبدو أنها تتورع عن خوضها، ولا سيما بعد تصريحاتها الأخيرة.
وعلى هذا؛ فإن اعتماد المعارضة السورية اعتمادًا كلياً على حليفتها تركيا التي تعاني أزمة سياسية مع واشنطن، وأخرى اقتصادية، هو خيارٌ غير صائب، سيكلفها كثيرًا، إذا لم تبادر إلى تجنيب المدنيين هول الكارثة المحدقة بهم.
لقد ضاقت خيارات السوريين في كل المجالات؛ لأسباب كثيرة، بات معظمها معروفًا، ولا مجال لذكره هنا، ولكن لا يستطيع أحد منعهم من الدفاع عن أنفسهم؛ ولكي لا تتحول معركتهم إلى جولة خاسرة، يجب إجراء تغيير جوهري داخلي، يمكن التعبير عنه في نقطتين أساسيتين، لا يمكن الفصل بينهما؛ فالأولى مرتبطة ارتباطًا عضويًا بالثانية:
تتمثل النقطة الأولى بالعمل لعلى إنشاء “هيئة الدفاع عن إدلب”، وهو تشكيل تبنيه كل الفاعليات المدنية والعسكرية، والشخصيات الاعتبارية في المحافظة بأسرها، وينحصر هدف هذا التشكيل بالدفاع عن إدلب، وتجنيبها الاستقطاب الفصائلي، والصراعات السياسية. وبما أن الخطر محدق بالجميع، فعلى هذه الهيئة المرتقبة إعلان النفير العام، وفتح باب التجنيد الطوعي في صفوفها لجميع أبناء المحافظات المهجّرة، وعلى رأسهم -بالطبع- أبناء محافظة إدلب.
وهذا سيضفي عليها شرعية شعبية، ويضعف الاستقطاب الفصائلي والسياسي، ويكسبها خاضنًا شعبيًا في الخارج، تستطيعُ -من خلاله- الفاعليات المدنية في دول اللجوء التحرك والضغط؛ لإيقاف الروس عن مسعاهم، وسحب ذريعة سيطرة “القاعدة” على إدلب.
أما النقطة الثانية، فهي حلّ “هيئة تحرير الشام” نفسها، وتسليم عتادها للتشكيل الجديد؛ فوجود
“هيئة تحرير الشام” هو الذريعة الأولى للنظام وللروس؛ كي يشرعوا في عمليتهم العسكرية، وحلّها سيؤخر خطط الروس، وسيخلط الأوراق من جديد؛ فيتسنى للمعارضة السورية وحلفائها -بذلك- إعادة تشكيل المواقف، والمحافظة على إدلب تحت سيطرتهم.
ومن دون حلّ “هيئة تحرير الشام” نفسها، لا يمكن إيقاف العدوان على إدلب، وتجنيب المدنيين هول ما سيحصل، والمتابع لتسارع الأحداث يدرك أنْ لا مستقبل لـ “هيئة تحرير الشام” في هذا المنطقة، وأن سيناريوهات عدة وُضعت لإنهائها، وعلى رأسها العمل العسكري ضدها، سواء من الأتراك أم من الروس، أم من فصائل المعارضة نفسها، بدعم من تركيا؛ لذلك، فأسلم الحلول وأفضلها هو حلّها، وتسليم عتادها للتشكيل الجديد الذي سيسعى للدفاع عن المحافظة، وينهي حالة الانقسام الفصائلي إلى حين.
وبالطبع، لا يبدو الأمر يسيرًا؛ إذ ثمّة سباق مع الوقت، فتركيا الضامنة لاتفاق أستانة ليست في أفضل أحوالها، ولا سيما بعد أزمتها الاقتصادية الأخيرة، وخلافها مع الولايات المتحدة الأميركية، و”هيئة تحرير الشام” ترفضُ حلّ نفسها؛ بحجة غياب البديل الذي يستطيعُ الذود عن إدلب وأهلها، وروسيا تسعى، جاهدةً، للاستفادة من تعنت “هيئة تحرير الشام”، وتوجيه ضربتها في أسرع وقت ممكن، وفي ظل هذه المعضلة، فإن إنشاء تشكيل شعبي، يسعى للدفاع عن المدنيين، ويخرج إدلب من حالة الاستقطاب الفصائلي، سيخلق البديل الشرعي الذي سيدفعُ “هيئة تحرير الشام” إلى حلّ نفسها، وعندئذ، فحسب، سيكون بإمكان إدلب أن تقلب المعادلة، وأن تواجهَ معركتها بأدوات جديدة، لم يتوقعها خصومها، وعندئذ، أيضًا، سيتمكن السوريون، مجدّدًا، من جذب أنظار العالم إلى قضيتهم، بوصفها قضية شعب يسعى لتحقيق حريته، وقد حمل السلاح ليدافع به عن نفسه، بعد أن سفك النظام دماء أبنائه، وخذلهُ المجتمع الدولي بصمته.
العربي الجديد
إدلب تعيد روسيا إلى حجمها/ بسام مقداد
يقال ، أنه حين وقعت روسيا معاهدة الصلح مع اليابان ، إثر هزيمتها في حرب العام 1905 صعُبَ الأمر على طائفة الروم الأرثوذوكس في لبنان ، ونُقل عن أحد وجهائها قوله في حينها “إذا كان القيصر نقولا الثاني قد قبل الصلح مع اليابان ، فنحن نرفضه” .
شيئ من هذا القبيل يمكن قوله الآن ، بالنسبة لأولئك اللبنانيين ، الذين تعزز تأييدهم للدور الروسي في الحرب السورية ، بعد المبادرة الروسية لإعادة المهجرين السوريين إلى سوريا “الآمنة”. ومن دون أن يلتفت هؤلاء إلى ما حل بهذه المبادرة ، وما واجهته من صد أجبر روسيا على تخطيها ، مرحلياً على الأقل ، يستمرون ، ليس في دفع المهجرين السوريين إلى المغادرة اليومية فحسب ، بل ويدفعون لبنان بأسره إلى الآتون السوري ، الذي لا يزال متوقداً .
الصخب الإعلامي، الذي حرصت روسيا على إحاطة مبادرتها به ، خبا بشكل شبه كلي تقريباً . وغابت عن الإعلام الروسي في الأيام الأخيرة بيانات المجالس المتشعبة المولجة بمتابعة المبادرة ، وتقارير السفارات والممثليات الروسية في البلدان المتعددة المضيفة للمهجرين السوريين ، حول أعداد هؤلاء وتصنيفهم بين راغب في العودة ورافض لها . كما خفتت تصريحات المسؤولين الروس ، على مختلف مستوياتهم ، في تصنيف البلدان والمسؤولين السياسيين في العالم بين “مؤيد” للسلام في سوريا ، و”داعم” للإرهاب واستمراره في تدمير سوريا وقتل السوريين ، واستقر الإتهام للمجتمع الدولي ككل عند منظمة الأمم المتحدة و”تعميمها السري” على كافة مؤسساتها بعرقلة إعادة إعمار سوريا وعودة مهجريها .
يبدو من خلال الإنعطافة الروسية الأخيرة ، أن روسيا كانت “تصدق” فعلاً أنها قادرة على فرض النهاية ، التي تراها للحرب السورية ، وأن الجميع سوف يخضع لابتزازها ويسارع إلى المساهمة في إعادة إعمار سوريا “الروسية” هذه . ولذا حرصت على أن تبدو وكأنها قد “فوجئت” بالرد الحازم من قبل الولايات المتحدة ، الذي أبلغه مستشار الأمن القومي الأميركي ريتشارد بولتون إلى زميله الروسي في لقائهما في جنيف ، وأكد عليه لاحقاً المسؤولون الأميركيون ، على مختلف المستويات ، كما أعلنت الناطقة باسم الخارجية الأميركية في 29 من الجاري .
في ردها على الخطاب الأميركي المتشدد هذا ، والذي اعتبرته روسيا بأنه محاولة لحرمانها من كل “منجزاتها” في سوريا ، حسب صحيفة “NG” الروسية ، تعمدت روسيا تصعيد لهجتها إلى مستويات مرتفعة جداً ، وإرفاقها بتحريك أساطيلها إلى الشواطئ السورية ، والحديث عن مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة ، بل والتلميح إلى نصب سلاح نووي في سوريا .
فقد نقل موقع “cursorinfo” الإسرائيلي الناطق بالروسية ، في 26 آب/أغسطس الجاري ، عن النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الإقتصادية في مجلس الدوما فلاديمير غوتييف قوله ، بأن على روسيا أن تفكر في نصب سلاح نووي في سوريا “رداً على العقوبات الأميركية” الجديدة . ونقل الموقع عن الرجل قوله ، بأن الولايات المتحدة ، في سياسة الضغط على روسيا” ، تخطت “الخط الأحمر” ، ولذلك ينبغي على روسيا التفكير برد متكافئ ، مثل نصب سلاح نووي تكتيكي خارج البلاد ، على غرار ما تقوم به الولايات المتحدة . وقال غوتييف ، بأنه يعتبر أن روسيا ملزمة الآن برسم “خطوطها الحمر” أيضاً ، وأن الوقت قد حان لتختبر روسيا ما يقترحه الخبراء من ردود بديلة على الولايات المتحدة ، لا تلغي مفعول عقوباتها فحسب ، بل وتلحق بها ضررا مقابلهاً .
من جانب آخر ، نقلت وكالة نوفوستي ، في 29 من الجاري ، عن عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الدوما سيرغي جيلزنياك ، في تعليقه على أنباء قيام البنتاغون بنصب أجهزة مضادة للصواريخ في بعض مدن الشمال السوري ، قوله أن أعمال العسكريين الأميركيين في سوريا تبدو وكأنها محاولة لإثارة دورة جديدة من النزاع المسلح في سوريا ، وتثبيت أقدامهم في سوريا ، وخلق مركز نفوذ لهم في هذه البلاد . ولا تفوت الرجل الإشارة إلى دور “الخوذ البيضاء” في تمثيل هجوم بالسلاح الكيميائي ونسبه إلى النظام لكي يتسلح به الأميركيون وحلفاؤهم الفرنسيون والإنكليز لتبرير الضربة ، التي هددوا بتوجيهها إلى النظام السوري في حال استخدام السلاح الكيميائي . ويقول النائب المذكور ، بأن تحليل الوضع الراهن في سوريا الآن يقدم صورة واضحة عن العملية ، التي يتم الإعداد لها ، والتي ترمي إلى زعزعة النظام القائم ، وضرب المفاوضات السلمية الجارية مع المعارضة . كما ترمي أيضاً ، على قوله ، إلى تشويه مساعي روسيا وحلفائها للتسوية في سوريا .
ويتوجه نائب الدوما المذكور إلى المنظمات الدولية ، والأمم المتحدة على رأسها ، بضرورة “التنبه” إلى الخطوات التخريبية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط ، وإلى ضرورة بذل أقصى الجهود من جانب المجتمع الدولي للحؤول دون الهجوم المحتمل على “سوريا المستقلة” ، تحت ذريعة مفبركة، ما يضع الحالة الإنسانية في البلاد على حافة الكارثة .
تحرص روسيا في ردها على التهديدات الغربية بتوجيه ضربة إلى النظام السوري في إدلب ، في حال إصراره على تنفيذ هجومه على هذه المحافظة ، بأنها لن تقف هذه المرة مكتوفة الأيدي ، ودعمت كلامها هذا بتحريك سفنها الحربية باتجاه البحر المتوسط واستنفار قواتها الجوية في قاعدة حميميم . وتولت صحيفة “NG” الروسية المقارنة بين القدرات الحربية، التي تحركها روسيا ، والقدرات المتوفرة لدى الولايات المتحدة في البحر المتوسط وعلى الأراضي السورية نفسها. وخلصت الصحيفة إلى القول بأن القاعدة الجوية الأميركية، التي يجري توسيعها في الحسكة، تتفوق بمواصفاتها على القاعدة الروسية في حميميم ، وأن السفن الحربية الروسية قديمة الصنع في المتوسط ، ليست متكافئة القوة مع الأسطول السادس الأميركي .
من جانب آخر ، تقول صحيفة “kommersant” المعروفة بصلاتها مع وزارة الدفاع الروسية ، بأن الولايات المتحدة الأميركية لن تلتفت إلى طبيعة الهجوم الكيميائي في حال حصوله ، ما إن كان مفبركاً من قبل المعارضة ، أو حقيقياً من جانب النظام ، بل ستقوم بتوجيه ضربتها في حال حصوله . وتقول الصحيفة ، بان التوتر “بل الجنون” ، يميز سلوك كل من روسيا والولايات المتحدة ، مما يشي ، في حال عدم التوصل إلى توافق ما ، بوضع العالم على حافة مجابهة شاملة في سوريا .
لكن ما كشفته نوفوستي الخميس في 30 من الجاري ، عن لقاءات سرية للسفير الروسي في واشنطن مع عدد من المسؤولين الأميركيين ، وبطلب من السفير نفسه ، يشير إلى أن الخطاب الروسي مرتفع اللهجة يترافق مع استعداد دائم للتوصل مع الولايات المتحدة إلى توافق ما يستبعد المواجهة المباشرة معها في إدلب ، والتي، في حال حصولها ، تعيد روسيا إلى حجمها الفعلي .
المدن
إدلب الروسية-التركية-الإيرانية/ مهند الحاج علي
تستضيف طهران في السابع من سبتمبر المقبل قمة بين الرؤساء الروسي فلاديمير بوتين والإيراني حسن روحاني والتركي رجب طيب أردوغان. هي قمة استثنائية قد تحمل قرارات مصيرية حول سوريا، لكنها، وبشكل لافت، خالية من السوريين. ذاك أن الرئيسين الإيراني والروسي اليوم هما اليوم والدا الرئيس السوري بشار الأسد، بالتبني، في حين يُمسك أردوغان بخيوط بقايا المعارضة والثورة السورية. للنظام والدان، لكن المعارضة والثورة أضحت نصف يتيمة.
القمة مصيرية. هي كذلك لأنها ستُحدد مصير إدلب وحوالى مليونين يقيمون في مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة و”هيئة تحرير الشام”. كما أنها قد تحسم شكل الحل السياسي المرتقب في مفاوضات أستانة التي تحظى برعاية هذا الثلاثي. والسؤال الأكبر هنا هو هل تحمل هذه القمة مفاجآت من النوع الثقيل، مثل حل سياسي لم نتوقعه، أو تنازل لأنقرة في إدلب لمصلحة روسيا؟ هناك 3 نقاط يجب أخذها في الاعتبار عند بحث هذه الأسئلة.
أولاً، هناك مؤشرات أولية إلى ثبات تركيا، تُقابلها إعلانات رنّانة روسية ونظامية عن العملية العسكرية “المرتقبة”. العملية أشبه بمفاوضات البازار، وكل هذا الكلام التصعيدي خاضع للمفاوضات والتنازلات. وزير الدفاع التركي خلوصي أكار تحدث بوضوح عن هدف تركيا الحفاظ على نظام خفض التصعيد في إدلب، وبالتالي على الأمن البشري فيها، وإيصال المساعدات الإنسانية. لكن أكار أشار أيضاً الى دفع الأطراف الى طاولة المفاوضات لتجنب الحرب في إدلب، وكذلك أكد بوضوح “إن شاء الله، سنمنع هجوماً على إدلب”.
المؤشرات الأخرى عسكرية، من تحصين نقاط المراقبة التركية في محافظة إدلب، وإرسال قوات إضافية، وأيضاً رفع منسوب الدعم العسكري للمعارضة، وفقاً لمصادر تركية معنية. لكن النقاط نفسها ليست كافية من الناحية العسكرية لخوض معركة متكافئة مع الجانب الآخر، ووقف حملته المرتقبة.
ثانياً، الأوراق الروسية في التفاوض مع الجانب التركي متنوعة، وزادت قوة بعد الإجراءات الإقتصادية الأميركية ضد أنقرة. ذاك أن تركيا اليوم إن لم تكُ تحتاج إلى أسواق جديدة لتعويض خسائرها، لن تفتح أبواب أزمة اقتصادية جديدة مع روسيا، وهي شريكة تجارية وسياحية أساسية لأنقرة. نتحدث هنا عن مئتي مليون دولار شهرياً من الصادرات التركية إلى روسيا، تُضاف اليها العائدات السياحية الكبيرة. والواقع أن المفاوض الروسي يضع اليوم تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري على طاولة بحث واحدة، إلى جانب إدلب، ما يجعل المرء يتساءل عمّا إذا كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب جزءاً من الماكينة الروسية. من المنطقي توقع مرونة تركية ما على طاولة المفاوضات، سيما لو قدم الروس تسهيلات اقتصادية.
ثالثاً، هناك قاعدة للحل راسخة بين روسيا وإيران من جهة، وبين تركيا من جهة ثانية. تقضي هذه القاعدة بتبادل أراضٍ، أي السماح للأتراك بتوسيع رقعة المنطقة الخاضعة لإدارتهم (درع الفرات وتوابعها)، مقابل السماح للروس والإيرانيين والنظام المدعوم منهما، بالتقدم في محافظة إدلب. في موازاة ذلك، تبعث تركيا بعض المعارضين السوريين إلى أستانة للمشاركة مع معارضي روسيا ومصر في مفاوضات مع ممثلي النظام السوري. أليس من المنطقي أن تتكرر هذه المعادلة في المأزق الحالي، وبخاصة أن حلفاء تركيا فشلوا حتى الآن في التخلص من “هيئة تحرير الشام”؟
ومثل هذه المعادلة تسمح أيضاً بإقامة منطقة آمنة لاستيعاب أي أعداد جديدة من اللاجئين الوافدين من إدلب، وربما أيضاً بتقدم تركي جديد باتجاه المناطق الكردية.
كل هذه المسائل المصيرية للسوريين ستُبحث في غيابهم، وفي طهران، للأسف!
المدن
إدلب بين التفاهمات الإقليمية والمساومات الدولية/ د.باسل الحاج جاسم
يخيم الترقب والقلق على أهالي إدلب وسكان الكثير من البلدات المحيطة بها وتتوزع بين أرياف حلب واللاذقية وحماة، في الوقت الذي تستعد الأطراف الأخرى للهجوم على آخر معاقل المعارضة المعتدلة باستغلال ذريعة محاربة الإرهاب، مع استمرار انتشار عناصر جبهة النصرة هناك.
لم يعد سرا أن منطقة خفض التصعيد الرابعة المتبقية، والممتدة بين أرياف إدلب وحلب وحماة واللاذقية، تعتبر الأكثر تعقيدا اليوم، لما فيها من تداخل بين ملفات الأمن والمشاريع الاقتصادية والانتقال السياسي، وكونها ساحة الاختبار الأبرز للتفاهمات الإقليمية، والمساومات الدولية.
تريد موسكو حماية قاعدتها العسكرية في حميميم، بتأمين المنطقة المجاورة – حيث اتهمت وزارة الدفاع الروسية جماعات مسلحة متواجدة في منطقة خفض التصعيد الرابعة بالقيام بعمليات القصف التي تستهدف قاعدتها العسكرية – من أجل الانتقال إلى الخطوة التالية في المسار السياسي، بعد إنهاء ملف جبهة النصرة والجماعات الأخرى المشابهة، وهو ما قد يمهد وفق الكثير من المصادر إلى جعل طريق حلب- دمشق الدولي آمناً، بكل ما يحمله ذلك من دلالات ورسائل اقتصادية سياسية في الوقت نفسه.
المتابع لتسلسل الأحداث على الأرض السورية في الأشهر القليلة الماضية، لا يمكنه تجاهل خارطة طريق، أبرز ملامحها، اتفاق إقليمي، دولي واضح بإنهاء أي عمل عسكري في سورية، مع إيجاد حل اليوم لانتشار عشرات آلاف المقاتلين هناك، وهذا يشكل جزءا من اتفاق، روسي – أميركي أيضا.
تتجه الأنظار إلى قمة رؤساء الدول الضامنة لمحادثات أستانا (روسيا، تركيا، إيران) المقررة في السابع من أيلول، القادم في العاصمة الإيرانية طهران، وكان آخر لقاء جمع رؤساء هذه الدول، في نيسان أبريل الماضي، في العاصمة التركية أنقرة، بحثوا خلاله تطورات الملف السوري، حيث كانت الدول الثلاث، باعتبارها «ضامنة»، توصلت في محادثات «أستانة» إلى اتفاق «خفض التوتر» في عدد من المناطق السورية، وما يزال الاتفاق نسبياً نافذًا في محافظة إدلب التي يجري الحديث مؤخرًا عن حملة عسكرية قد يشنها النظام عليها.
تعتبر هذه القمة استمراراً لاجتماعات قادة الدول الضامنة لمحادثات أستانة والتي بدأت في سوتشي الروسية، واستضافت تركيا القمة الثانية، وإشارة المحافظة على رابطة الأستانة، الرسالة الأبرز في هذا الاجتماع خاصة في ظل السياق الاقتصادي الدولي الراهن وما يفرضه من أزمات على تلك الدول.
أهمية هذه القمة الثلاثية تنبع من توقيتها ولاسيما مع دخول محادثات أستانة مرحلة جديدة في ظل بقاء منطقة خفض تصعيد واحدة فقط في إدلب، وللقمة أهمية جوهرية إضافية، أن ثلاثي أستانة (روسيا تركيا إيران) مازال هناك الكثير أمامه في الساحة السورية وخصوصاً إدلب التي يخيم الغموض على مصيرها حتى اليوم في ظل استمرار وجود منظمات مصنفة على قائمة الإرهاب فيها وهو ما يجعلها هدفاً عسكرياً لأكثر من طرف.
فعلى الرغم من تعرض مسار أستانة السوري، بين أنقرة وموسكو وطهران، لهزات عدة في الآونة الأخيرة،
إلا أنه يبقى حاجة مشتركة ثلاثية، تتقاطع في أكثر من جانب مع حاجة سورية – سورية (نظام وفصائل عسكرية معارضة) في شق منها لوقف التمدد الانفصالي الاستيطاني الذي تدعمه واشنطن، تحت غطاء محاربة “داعش”.
كثير من الغموض يخيّم على مصير مناطق كثيرة في الشمال السوري الممتد على أربع محافظات، إدلب وحلب وحماة واللاذقية، لا سيما بعد سيناريو درعا وتخلي واشنطن العلني عن دعم المعارضة في الجنوب السوري، بعد أن كانت طرفاً ضامناً في اتفاق التهدئة هناك، إلا أن مستقبل إدلب بات يتصدر معظم التصريحات السياسية والإعلامية، بالإضافة إلى تحذيراتٍ من مختلف الأطراف بشأن الكارثة الإنسانية التي تتربص بالمدينة، في حال شن أي هجوم عسكري عليها.
ولعل أبرز تعقيدات شن عملية عسكرية واسعة على إدلب تكمن في المساحة الشاسعة للمحافظة، وامتلاك المعارضة هناك أعدادا كبيرة من المقاتلين، وكميات ضخمة من السلاح الثقيل، وتعزّزت قوتها أكثر، بعد نزوح آلاف المقاتلين إليها من مناطق كانت تحت سيطرة المعارضة سابقاً، وهو الشيء الذي يجعل أي هجوم عسكري عليها باهظ الثمن للطرف المهاجم.
استشعرت أنقرة مبكراً، الخطر الذي يحيق بإدلب، وبعض مناطق الشمال، واتصال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل أسابيع، بنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، وإشارته إلى أن تقدُّم قوات النظام السوري نحو الشمال، بشكل مماثل لما حصل في الجنوب، يعني تدمير جوهر اتفاق أستانة، لم يكن سوى خطوة استباقية، في ظل التركيز الإعلامي الكبير على مصير الشمال السوري، وفي ضوء التقارير التي تعلن محافظة إدلب وجهة عسكرية مقبلة.
لا يرضي الوضع في إدلب اليوم وانتشار المنظمات المصنفة على قوائم الإرهاب تركيا، لكن ما تخشاه أنقرة، هو وقوع كارثة إنسانية هناك، بذريعة وجود تلك المنظمات، خصوصا بعد حشر كل أصناف المعارضة فيها، بالإضافة إلى كل الرافضين أي تسوياتٍ وتهجيرهم إلى إدلب من باقي المناطق والمدن السورية.
وبالتأكيد العواصم الأوروبية الفاعلة أقرب إلى تسوية بإشراف تركي، حتى لا تشهد المنطقة موجة نزوحٍ جديدة، على غرار ما حصل في العام 2015، إلا أن هناك صعوبة كبيرة أمام المهمة التركية، وخصوصا في ما يتعلق بمصير عناصر هيئة تحرير الشام الأجانب.
ومن الواضح أن الروس أعطوا الأتراك الكثير من الوقت للتعامل مع ما يجري داخل منطقة خفض التصعيد الوحيدة المتبقية في إدلب من انتشار لمجموعات مصنفة ضمن قوائم الإرهاب الدولي فيها، والكرة لم تزل حتى اليوم في الملعب التركي، إلا أن الواضح كذلك أن أنقرة لا تريد الدخول في صدام مباشر مع تلك المجموعات على الرغم من أنها أيضاً تقع ضمن التصنيف التركي بأنها إرهابية.
ولا يخفى أن المعارضة السورية لم تعد تتحكم باتجاه الأوضاع داخل سورية،
منذ ظهور التنظيمات الإرهابية، المتطرّفة منها والانفصالية، وسيطرتها على مناطق واسعة في الجغرافيا السورية، وهو ما جعل الأولويات تتغيّر لدى القوى العظمى والإقليمية في تعاملها مع الحالة السورية.
كل من تركيا وروسيا بحاجة للسلام في المنطقة، ويشكل هذا الأمر نقطة تلاقٍ رئيسية، بالإضافة إلى الشق الاقتصادي والطاقة، وهو ما يصبح أساساً للتعاون السياسي بين البلدين، ومزيد من استمرار الحرب في سورية يجلب مزيدا من الخسائر في الجنود الروس، وكذلك انتشار الإرهاب والانفصال وعدم الاستقرار في تركيا، وفي المنطقة، على نطاق أوسع.
وتدرك موسكو أنها تغوص، يوماً بعد يوم، أكثر فأكثر، في التفاصيل السورية التي تتحول إلى مستنقع، ولدى بوتين قلق من أن أكثر من طرف إقليمي ودولي يرغب في أن يتحول التدخل الروسي في سورية، مع مرور الوقت، إلى استنزاف.
أجلت تركيا وروسيا بعض المشاكل في الملف السوري (الانتقال السياسي، وضع المعارضة العسكرية المدعومة تركياً، علاقة موسكو بالامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، وأزمة إدلب) وتمكنت الدولتان من العمل بشكل “منسجم”، ما أوصل إلى المرحلة الحالية من الحرب السورية.
من المؤكد، أن انتشار نقاط عسكرية تركية حول إدلب ومناطق أخرى تسبب بالإزعاج لطهران، في حين أن روسيا دعمت الوجود التركي في المنطقة لأنها تنظر إلى الأمور من منظور مختلف، يكشف أن التفاهمات التركية الروسية في أفضل أحوالها، وقد تجاوزت الملف السوري و تعقيداته.
يبقى القول، بينما أفسدت الحروب السورية ذات بين تركيا والولايات المتحدة، عززت وعمقت علاقات أنقرة- موسكو على نحو غير مسبوق.
تلفزيون سوريا