العُزَّاب بريئون من وباء الوحدة
لطالما شعَرَ الأميركيّون بالقلق من أنّ بَني جلدتهم يعانون من الوحدة، لكن هذا القلق البسيط تحوَّل أخيراً حالة من الذعر التام. فعام 2017، حذّر كبيرُ الأطباء السابق في الولايات المتحدة فيفيك مورثي من أنّ الوحدة في الولايات المتحدة وصلت إلى مستويات وبائيّة. وليس الأميركيّون وحدهم من يعاني من القلق. في كانون الثاني/ يناير السابق، عيّنت رئيسة الوزراء البريطانيّة تيريزا ماي أولَ وزيرة للوحْدَة في البلاد.
وبينما يتمحور هذا الشعور بالقلق بشكل خاص حول كبار السن -ذلك الجدّ الهَرِم الذي يعيش بمفرده، ولم يتحدث إلى أحد لأيّام قد أصبح قالباً متكرِّراً في القصص المتعلّقة بالأزمة- إلّا أنّ كلّ الفئات معرَّضة للأمر ذاته: فقد توصَّلت دراسة حديثة إلى احتمالية مثيرة تقول إن فئة الشباب هم الأكثر شعوراً بالوحدة على الإطلاق في المجتمع الأميركي.
تكثر تفسيرات طاعون الشعور بالوحدة هذا، والتي تتراوح بين تدنّي المشاركة في الأنشطة الاجتماعيّة المنظَّمة والهيئات الدينيّة، وصولاً إلى انتشار التكنولوجيا، مثل وسائل التواصل الاجتماعيّ والهواتف الخلويّة التي تستحوذ على انتباه الناس. إلّا أنه في كثير من الأحيان يشتبه صانعو السياسات والخبراء في احتمالَين للأزمة: إمّا تراجع معدّلات الزواج أو العدد المتزايد للأميركيّين الذين يعيشون بمفردهم.
وفي خضَمّ هذا الصخب الشعبيّ، عقدت لجنة الشيوخ المعنيّة بالشيخوخة جلسةَ استماع في نيسان/ أبريل الماضي حول الوحدة وعواقبها المُحتملَة. بين الخبراء الذين أدلوا بشهادتهم، كانت البروفيسور جوليان هولت- لونستاد، من جامعة بريغهام يونغ، شرحَت المشكلة لمجموعةٍ من أعضاء مجلس الشيوخ مصرّحة بأنّ “أكثرَ من ربع سكان الولايات المتحدة (28 في المئة من البالغين الأكبر سناً) يعيشون بمفردهم، وأكثرَ من نصف سكان الولايات المتحدة البالغين غير متزوجين، وواحداً من كل خمسة لم يتزوج قط”.
في الواقع، جاءت المؤشّرات على مدى نصف القرن الماضي لافتة للنظر. فعام 1960، كان 72 في المئة من الأميركيّين البالغين متزوّجين، و13 في المئة فقط من المنازل يسكنها شخص واحد.
قد يبدو من الواضح أنّ غيرَ المتزوجين والمقيمين بمفردهم يعيشون في عزلة، وبالتالي يكونون عُرضة للإِحساس بالوحدة. في الواقع، يستخدم بعض الباحثين العيشَ وحيداً مقياساً موضوعيّاً للعزلة. إلّا أنّ النظرَ عن كثب في حياة تلك المجموعة تكشف لنا أمراً مختلفاً تماماً. بالنسبة إلى مجموعة كبيرة من المقيمين بمفردهم، فإنّ العيشَ وحيداً لا يشكِّل عبئاً؛ فالأبحاث تُظهِر أنّ الكثير من الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم يَبرَعون في خلق علاقات شخصيّة والحفاظ عليها. فبدلاً من الامتناع عن الدخول في علاقات، يُعيد هؤلاء الأشخاص تعريفَ العلاقات بطرائق أكثر شموليّة وسعة. وينطبقُ الشيءُ نفسُه على العُزَّاب الأميركيين، بغض النظر عما إذا كانوا يعيشون بمفردهم.
لمعرفة ما إذا كان المُقيمون بمفردهم يشعرون الوحدة أكثر من الأشخاص الذين يعيشون مع الآخرين، عادةً ما يقوم الباحثون فقط بمقارنة الوحدة بين هاتَين المجموعتين. لكن هذه المقارنة تتجاهل مسألة الاختيار – فالناس الذين لم يرغبوا أبداً في العيش بمفردهم غالباً ما يختلطون مع أولئك الذين يفضّلون الحفاظ على مساحتِهم الخاصّة. وهناك مشكلة أخرى، هي أنّ المقيمين بمفردهم يختلفون عن أولئك الذين يعيشون مع الآخرين من أوجه مهمة كثيرة. فعلى سبيل المثال، في أوساط الأكبر سنّاً، يعتبر المقيمون بمفردهم أقل أماناً من الناحية المالية من أولئك الذين يعيشون مع الآخرين. ففي دراسة كبرى، مخطّطة إحصائيّاً للاختلافات المالية، قورن أولئك الذين عاشوا بمفردهم بأشخاص مماثِلين عاشوا مع آخرين، كانت النتائج مذهلة: تبيّن أنّ المقيمين بمفردهم يشعرون بدرجة أقل من الوحدة.
واجهت دراسةُ الوحدة بين العُزَّاب مشكلات مماثلة. فكثيراً ما يتم خلط أولئك الذين يريدون العيش عازبين، بأولئك الذين يتوقون للزواج. (في استطلاع أُجرِيَ عام 2017، قال 58 في المئة من البالغين الذين لم يسبق لهم الزواج و23 في المئة ممن كانوا متزوجين سابقاً إنهم كانوا يرغبون في الزواج). يقارن الباحثون، في بعض الأحيان، البالغين الذين ليس لديهم حالياً رفيق أو شريك رومانسيّ ببالغين مرتبطين، كما لو كان المطلّقون حديثاً أو الأرامل -والذين قد يشعرون بالفعل بالوحدة الشديدة- لا يختلفون عن الأشخاص العازبين طوال حياتهم.
الآن يصبح من الواضح أنّ العيش وحيداً ليس الدافع الكبير للشعور بالوحدة، كما نعتقد عادةً. قبل القرن العشرين، لم يكن هناك مَن يعيش وحيداً في أميركا. ولكن هذا ما اختاره كثر من كبار السن في الولايات المتحدة الأميركيّة بمجرّد أن منحهم الضمان الاجتماعيّ والرعاية الطبيّة القليلَ من الحرية المالية. وهذا ما اختارته النساء بمجرد عدم ارتباطهنَّ بأزواجهنّ اقتصاديّاً.
لا تزال الأسباب ذاتها سارية إلى يومنا هذا. يمكن أن يشكّل العيش وحيداً تحدّياً لكبار السن الذين يعانون من مشكلات في الحركة أو الصحة؛ ومع ذلك، يرغب ما حوالى 90 في المئة من كبار السن في التقدّم في العمر بمفردهم، بعد أن ارتبطوا بمنازلهم واستقلاليّتِهم. وفي دراسة حديثة، طُلِب من النساء العازبات في الثلاثينات وأوائل الأربعينات من العمر تحديد أهمّ أولوياتهن، وكان جواب 44 في المئة منهنّ، أنها العيش بمفردهنّ، مقابل 20 في المئة فقط قلن إنّ الزواج يكمن في أهم الأولويات. بالنسبة إلى من هم في سنّ الشباب، يعدّ العيش وحيداً مسألة فخر. وما يقرب من 6 في المئة من المرتبطين الأميركيّين بشكل جادّ يعيشون في منازلهم منفصلين، لا بسبب قيود العمل القاهرة، ولكن لأنهم يريدون ذلك.
وكما بدأ الكثير من العُزَّاب يدركون، فإنّ الكبار ليسوا في حاجة إلى زوج في المنزل لحمايتهم من الشعور بالوحدة. إنّ الحماية من الوحدة واضحة إلى حد كبير: فالأشخاص الذين لديهم أصدقاء أكثر -أو مقرّبون يلجأون إليهم في أوقات الحاجة- يميلون إلى أن يكونوا أقلّ شعوراً بالوحدة. ويميل كلٌّ من العُزَّاب وأولئك الذين يعيشون بمفردهم إلى القيام بالأمر ذاته بكفاءة بالنسبة إلى إنشاء الصداقات والحفاظ على العلاقات مع الآخرين.
بينما يَرثي البعض كيف أنّ تراجع معدّلات الزواج يفسِد النسيج الاجتماعي، فإن نتائج الدراسات الاستقصائيّة القوميّة تُظهِر أنّ هذا القلق في غير محلِّه. بالمقارنة مع كل من المتزوجين حالياً ومَن سبَقَ لهم الزواج، فإنّ الأشخاص العُزَّاب طوال حياتهم يبقون على اتصال مع أشقائهم وآبائهم أكثر ويكونون أكثر اجتماعيّةً مع أصدقائهم وجيرانهم. مِن المرجَّح بشكل خاص أنّ يقدّم العُزَّاب المساعدة حين يكون الآخرون في أمَسّ الحاجة إلى العون. عندما يحتاج الآباء الكبار في السن إلى المساعدة، فمن الأرجح أن يحصلوا عليها من أبنائهم الذين يعيشون بمفردهم أكثر من المتزوجين بينهم.
والزواج ليس إكسيراً سحريّاً لإصلاح العزلة الاجتماعيّة: فالمرتبطون الذين يتنقلون للعيش معاً أو يتزوّجون يُصبحون أكثر عزلةً بمرور الوقت. فإنهم على اتصال أقلّ مع أشقّائهم وآبائهم ويقضون وقتاً أقلّ مع أصدقائهم.
ليس بالضرورة أن يكون الأشخاصُ الذين يعيشون بمفردهم والعُزَّاب معزولين اجتماعياً. في كثير من الحالات، ليسوا حتى معزولين بدنيّاً. عندما سافرت في أنحاء أميركا لإعداد البحث لكتابي “كيف نعيش الآن”، وجدت أنّ الذين يعيشون بمفردهم يتعاملون مع جميع أنواع ترتيبات المعيشة. يعيش صديقان جنباً إلى جنب في الشارع ذاته، وكلاهما يعيش منفرداً، ولكنهما لا يكادان يكونان معزولَين؛ إذْ يرى كلٌّ منهما الآخر طوالَ الوقت. لقد أصبحت الحياة المشتركة -بشكلٍ يشبه السكن الجامعيّ- خياراً رائجاً بشكل متزايد لدى البالغين في المدن الكبرى.
مع تزايد الضجة حول الوحدة في الولايات المتحدة، ربّما يبالِغ النقّاد في تقدير مدَى خطورة المشكلة وانتشارها. توصّل تقرير صدر هذا الشهر من اللجنة الاقتصادية المشتركة للكونغرس إلى أنّ “هناك القليل من الأدلة على أن الوحدة قد ازدادت”. ومع ذلك، انتشرت نتائج مخيفة بين الناس، تقول إن الشعور بالوحدة أكثر خطورة من التدخين! وما زالت تنتشر دراسات كاشفة توضح أنّ الأميركيين صاروا -بشكلٍ خَطِر- يحظون بعددٍ أقل من المقرَّبين عن ذي قبل! في غضون ذلك، لا يزال ملايين العُزَّاب والأشخاص المقيمين بمفردهم يعيشون حياتهم سعداء وبشكلٍ جيّد.
هذا المقال مترجم عن موقع theatlantic.com ولقراءة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي
https://www.theatlantic.com/family/archive/2018/08/single-people-arent-to-blame-for-the-loneliness-epidemic/568786/
درج