أغاني الصراع في سوريا / سلطان الجلبي -أربعة أجزاء-
أغاني الصراع في سوريا(1): الجهاديون الأكثر حزناً وغضباً/ سلطان الجلبي
هذا المقال هو الأول بين أربعة تستند إلى نتائج بحث “ادلجة الغناء” الذي درستُ خلاله مضامين عينة شملت أبرز أنماط أغاني الصراع في سوريا وهي: أغاني السلطة، الأغاني الجهادية، أغاني حزب الاتحاد الديموقراطي وأخيراً الأغاني الثورية.
وسيخصص مقال للحديث عن كل نمط غنائي منها. البحث نال منحة منظمة “اتجاهات – ثقافة مستقلة” ضمن الدورة الخامسة لبرنامج أبحاث لتعميق ثقافة المعرفة..
“أحضروا مكبرات صوت ضخمة وشغلوا نشيد (جلجلت) مرات ومرات بصوت مرتفع حتى قفزنا إلى أرض المعركة من دون أدنى اكتراث بحقيقة أننا نخاطر بحياتنا” هكذا روى (مراد) الشاب السوري ذو الخمسة وعشرين عاماً الذي قاتل سابقاً في صفوف تنظيم جبهة النصرة المعروفة بـ”هيئة تحرير الشام حالياً”. القصة حدثت عام 2014 أثناء معارك السيطرة على مدينة خان شيخون شمال البلاد، التي خاضتها النصرة إلى جانب فصائل الجيش الحر ضد جيش النظام. نجا مراد يومها من تلك المعركة ونجا لاحقاً من التنظيم الجهادي ليبقى شاهداً على خطورة استخدام الأغاني من قبل التنظيمات الجهادية، مثل نشيد جلجلت المنسوب للداعية السعودي خالد الراشد كأداة في اختراق المجتمعات المحلية المناوئة للنظام بخاصة عندما تستهدف فئات عمرية أو اجتماعية محددة.
لم يمض عام على انطلاق الثورة في سوريا عام 2011 حتى سجلت الحركة الجهادية حضورها في الصراع عبر تنظيمات مثل جبهة النصرة وتنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام، إلى جانب تنظيمات جهادية محلية كانت أبرزها حركة أحرار الشام الإسلامية. هذه التنظيمات وغيرها، على رغم الاختلافات السياسية في ما بينها، إلا أنها تبث وتنتج نمطاً غنائياً ذات ملامح متشابهة من حيث تقديم الخطاب الأيديولوجي في الأغاني ومن حيث البنية النغمية والإيقاعية. فمعظم الأغاني الجهادية لا تستخدم مطلقاً الآلات الموسيقية الإيقاعية، و تستعيض عن ذلك بطبقات متعددة من الأصوات البشرية والجوقات (كورال) والمؤثرات الصوتية كمادة لبنائها الموسيقى، والأصوات البشرية هنا هي فقط أصوات الذكور. وكذلك تكتب معظم الأغاني الجهادية بلغة عربية فصيحة ورصينة يصعب فهم كل كلماتها، والأهم مما سبق تتشارك المفاهيم المركزية ذاتها التي يقوم عليها الخطاب الجهادي كالشريعة والأمة والجهاد والنصر الموعود وغيرها.
الكلمات الأكثر تكراراً في الأغاني الجهادية
“لم يكن الموت مخيفاً في ساحة المعركة، كان خلاصاً من نوع ما… كنا نتسابق في الركض نحو السواتر الترابية للعدو ونقتل كل من يظهر في وجهنا من دون تردد، كنا نشعر بالكثير من القوة مقارنة مع من نهاجمهم” هكذا يصف مراد علاقته مع الموت، بعد أن أشبع به جراء ما سمعه من خطب وأغان تمجد “الموت في سبيل الله” موت يكتسب مشروعية أكبر وسط الجثث الكثيرة التي تخلفها الحرب. يمكن تحليل مجموعة من الأغاني التي أصدرتها حركة أحرار الشام الإسلامية عن معارك إدلب مثلا لفهم كيف يتم صوغ كلمات تلك الأناشيد.
فالقتال والموت ومرادفاتهما شكلت الكلمات المفاتيح الأولى في الأغاني الجهادية، أي الأكثر تكراراً في نصوص الاغاني، وسميت مفتاحية كونها تشكل مفاتيح لرؤية الحركة الجهادية من المنظور الذي تقدم فيه نفسها إلى جمهورها. ومن هذا المنظور تكررت الكلمة المفتاحية الأولى بمتوسط 7.3 مرة في الأغنية الواحدة، ووردت في 8 من أصل الأغاني الجهادية العشر الأكثر شهرة وانتشاراً في سوريا والتي أخذها البحث عينةً. ذلك يعكس المكانة المركزية للعنف القاتل في سياق الخطاب الجهادي المصدر غنائياً. وهو ايضاً عنف مجيد كما تظهر الكلمة المفتاحية الثانية وهي (المجد) فقد تكررت الكلمة ومرادفاتها بمتوسط 5.3 مرات في الأغنية الواحدة، ووجهت بالدرجة الأولى إلى “المجاهدين” ومن يدعمونهم. تمجيد ممارسي العنف القاتل يستند إلى حامل عاطفي يتجسد في الكم الكبير من الألم والحزن الذي يصدره الجهاديون في أغانيهم، وذلك يظهر في الكلمة المفتاحية الثالثة وهي (الألم، العذاب) ومرادفاتها اللصيقة والتي تكررت وسطياً 4.9 مرات في الأغنية الواحدة، ووردت الكلمة في سياقات تراجيدية مثل (صرخات الايامى، دموع الثكالى، جحيم القيود) وغيرها من الصور القاسية. غير أن المفاجئ بعض الشيء بالنسبة إلى الأغاني الجهادية أن كلمتي (الله أو الدين) وغيرهما من الكلمات الدالة على الرموز المقدسة جاءت في المرتبة الرابعة من حيث حجم تكرارتها في الأغاني العشر، وتكررت وسطياً 4.3 في الاغنية الواحدة. ما يبرر الاستنتاج أن الخطاب الجهادي مؤسس على عواطف الحزن والغضب المتأججة أكثر منه على قيم الواجب الديني. وهو أيضاً خطاب يستند إلى المظلومية الإسلامية السنية وحبها للانتقام في تبرير محتوى العنف، الذي يعود للظهور في الكلمة المفتاحية الأخيرة من خلال ألفاظ التهديد حيث تكررت وسطياً 4 مرات في الأغنية الواحدة وتجسدت في كلمات مثل (نسحق، نمحق، نبيد، ندك…)، ولعل الكلمة المفتاحية الأخيرة ما هي إلا تعزيز للأولى. وكل ما سبق لعب دوراً في تشكيل علاقة (مراد) مع الموت في تلك المعركة.
ماذا تقول الأغاني الجهادية موسيقياً؟
يطغى الحزن على البنى الموسيقية للأغاني الجهادية أكثر منه في بقية الأنماط الغنائية التي درست، 9 من أغاني العينة الفرعية العشر لحنت على مقامي النهوند والكرد وهما مقامان شرقيان ذات وقع حزين، لكنهما لا يحتويان “ربع العلامة” المستخدمة في مقامات مثل البيات والراست ذات الوقع الطربي. لا طرب في الأنغام الجهادية بل شجن ذكوري قاتم، وحتى في الأغاني السريعة ذات الطابع الحماسي احتفظت الالحان بشيء من حزنها، وتجسد ذلك أيضاً في ميل الأغاني الجهادية إيقاعياً إلى السرعات المتوسطة والبطيئة بدرجة أكبر من الأنماط الغنائية الأخرى، لكن الانقلابات الإيقاعية من البطيء إلى السريع المفاجئ، تكررت أيضاً في أغان عدة دامجةً بين إثارة الحزن والحماسة العنيفة. وتنبغي إضافة نقطة أخرى بارزة هنا وهي تكرار استخدام الإيقاعات الخليجية والعراقية في الأغاني الجهادية المنتشرة في سوريا، كإيقاعات “الهيوا والدوسري” وهي ايقاعات غريبة تقريباً عن الثقافة الموسيقية التقليدية لبلاد الشام وسوريا ضمناً، وذلك يمكن أخذه كمؤشر على الحضور الثقافي لتلك البلدان في تشكيل الخطاب الجهادي المتفشي في سوريا.
تضخ الحركة الجهادية أغانيها بكثافة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام التابعة أو الداعمة لها، كما في أنشطتها التعليمية والدعوية ومعسكراتها التدريبية. أيضاً في المناطق التي تسيطر عليها هذه التنظيمات تكون الأغاني الجهادية هي الشكل الوحيد من الموسيقى التي يمكن الاستماع إليه من دون خوف من التعرض للمتاعب، لذلك يكثر أن تشغل في سيارات النقل العام أو في الأسواق أو الأماكن العامة. وقد شكلت تلك الأغاني أداة مؤثرة في اختراق ثقافة المجتمعات المحلية غير المؤدلجة في سوريا وتكريس أفكار وقيم تعزز هيمنة التنظيمات الجهادية على تلك المجتمعات في المحصلة، والأكثر تأثراً بالطبع هم المراهقون والشباب اليافع ممن وعوا على حرب تلوك مصائرهم وملتحين يبشرون بموت سعيد لا بد أن يغير العالم.
أغاني الصراع في سوريا(2): أغاني السلطة حيث القائد والولاء ولغة الطائفة/ سلطان الجلبي
هذا المقال هو الثاني بين أربعة مقالات تستند إلى نتائج بحث “ادلجة الغناء” الذي درست خلاله مضامين عينة شملت أبرز انماط أغاني الصراع في سوريا وهي: أغاني السلطة، الأغاني الجهادية، أغاني حزب الاتحاد الديموقراطي وأخيراً الأغاني الثورية. ويخصص كل مقال للحديث عن نمط غنائي منها. البحث نال منحة منظمة “اتجاهات- ثقافة مستقلة” ضمن الدورة الخامسة لبرنامج ابحاث لتعميق ثقافة المعرفة..
غنى المطرب السوري جورج وسوف أغنية “تسلم للشعب يا حافظ” في “مهرجان المحبة” عام 1992 تمجيداً للأسد الأب مؤسس النظام الاستبدادي في البلاد، وبعد اندلاع الثورة بأشهر أعاد غناءها في “مهرجان القسم” في دمشق عام 2011 لكن مع تغيير كلمة واحدة لتصبح “تسلم للشعب أبو حافظ” في إشارة إلى بشار الأسد الابن، ذلك كل ما تطلبه الأمر لتبقى الأغنية صالحة للتداول في دولة الأسد بعد ثلاثين عاماً من إنتاجها.
الصفحة الرسميّة للرئاسة السورية على فايسبوك عام 2014- AFP- وفيها تبدو زوجة الرئيس وهي تصافح الفنّان جورج وسوف بعد انتخاب بشار الأسد رئيساً لسوريا
على ذلك، يبدو توظيف الأغاني كأداة سياسية من قبل السلطة في سوريا، متشابهاً في عهدي الأسدين الأب والابن، لكن ليس تماماً، فبينما نجح حافظ الأسد في جذب كبار النجوم السوريين والعرب في زمنه ليمجدوه في أغاني أديت بلهجات والوان موسيقية مختلفة، وحملت في مضامينها قضايا الأمة العربية وفلسطين، لم ينجح الأسد الابن كثيراً في خلق ذلك المد العربي وبقي معظم المغنين له مطربين شعبيين أو نجوماً على المستوى المحلي السوري يؤلفون أغاني متشابهة في اللهجة واللون الموسيقي وغيرها. لكن التطور اللاحق والمثير في المشهد جاء مع الأغاني التي انتجت بعد اندلاع الصراع في سوريا عام 2011 حيث برز أكثر الوجه الطائفي للنظام ووصل التمجيد إلى حدود مبتذلة.
الكلمات الأكثر تكراراً في أغاني السلطة
تم تحليل عشرة من الأغاني الأكثر شهرة وانتشاراً من أغاني السلطة خلال البحث، ونتج عن التحليل اللغوي للأغاني أن الكلمات الخمس الأكثر تكراراً من حيث الكم في نصوص هذه الأغاني هي بالترتيب: “بشار الأسد، رجالك، سوريا، الكرامة، الدم والروح”.
الكلمة المفتاحية الأولى كانت “بشار الأسد” ومرادفاتها حيث تكررت بشكل صريح في 8 من أصل 10 أغاني في سياق التمجيد، وبلغ متوسط تكراراتها 10.6 مرات في كل أغنية. أما عدد المرات التي أشير فيها إلى الأسد من دون ذكره صراحة فكان أعلى بكثير. وتلك إشارة إلى درجة تمركز خطاب السلطة حول شخص الأسد كرمز أعلى كما في أغنية “يا بشار متلك مين” للمغني علي الديك.
الكلمة المفتاحية الثانية كانت “رجالك، جنودك” وغيرها من الألفاظ الدالة على الولاء الشديد للأسد، وقد تكررت في 7 من أصل 10 أغاني. بمتوسط 10.1 مرة في كل أغنية، وهذه الكلمة نوعاً ما امتداد لما قبلها وتشكلان معاً القيمة الأرفع في خطاب أغاني السلطة وهي الولاء للقائد. وإذا ما تذكرنا أن الأسد هو نفسه الذي تكررت مواقف اذلاله على يد حليفه الروسي بدءاً من وصول وزير الدفاع الروسي إلى قصره في دمشق من دون علمه، وصولاً إلى استدعائه إلى سوتشي على متن طائرة شحن روسية من دون وفد مرافق وغيرها من المواقف، يتضح درجة التزييف الفج للواقع الذي يتضمنه خطاب أغاني السلطة.
أما كلمة “سوريا أو الوطن” فأتت في المرتبة الثالثة بمتوسط 7.6 مرات في كل أغنية، لكنها تكررت فعلياً في 6 أغاني فقط. والبارز هنا أن كلمة سوريا لم ترد بمفردها إلا في أغنية واحدة، بينما رافقتها كلمة “الأسد” أو مرادفاتها بشكل دائم في سياق الأغاني الـ5 المتبقية، وفي ذلك تجسيد لنزعة قوية لدى صانعي خطاب أغاني السلطة لربط الكلمتين معاً في الخيال الجمعي للمتأثرين بها وتثبيت فكرة لا سوريا من دون الأسد ولا وطن من دون القائد ( اغنية يريدو رحيلك صاحبة أعلى معدل مشاهدات بين أغاني السلطة للمغني كنان حمود)
في ما يتعلق بتوصيف طبيعة الصراع في سوريا لوحظ أن 7 من أصل الأغاني الـ10 وصفت الصراع بأنه “دفاع عن القائد والوطن” بشكل متلازم أيضاً. لكن الملفت في أغاني السلطة هو تجاهلها شبه الكامل لتوصيف “الآخر” الذي تخوض الصراع ضده، فمن يستمع لأغاني السلطة لا يكاد يعرف من هو العدو الذي تواجهه، حيث لم تتضمن 8 أغاني من أصل الأغاني الـ10، أي إشارة تدل إلى من هو العدو، ثمة تعمد هنا بإبقاء “الآخر العدو” مجهولاً وربما كان الهدف هو محو كل أثر له حتى لو كان ذماً في أغنية. وهي بالمناسبة سمة تتشاركها أغاني السلطة مع أغاني حزب الاتحاد الديموقراطي، عكس الحال مع الأغاني الجهادية والثورية. أغنيتان فقط من أغاني السلطة تضمنتا إشارة إلى الآخر، الأولى ذكرت “الخائن والمحتل” أما الأخرى فقد كانت أكثر جرأة وذكرت “الجيش الحر” في سياق التهديد بالإبادة، والأخيرة هي أغنية “يابو شامة” التي حصدت ثاني أعلى معدل مشاهدات بين أغاني السلطة ولعلها كانت الأغنية الأكثر تعبيراً عن ماهية نظام الأسد وخطابه الموجه إلى السوريين، فمثلا أغنية يابو شامة، نالت ثاني أعلى معدل مشاهدات بين أغاني السلطة وهي للمغني بهاء اليوسف..
موسيقى الطائفة في أغاني السلطة:
يتجلى الوجه الطائفي لنظام الأسد بوضوح عند تحليل أغاني السلطة وذلك من ناحيتين، أولاً من حيث هوية الأغنية حيث طغت سمات التراث الموسيقي الشعبي للطائفة العلوية في سوريا على معظم أغاني السلطة، وهي الطائفة التي ينتمي إليها بشار الأسد. 7 من بين الأغاني الـ10 الأكثر شهرة حملت سمات موسيقى الطائفة من حيث الإيقاع والنغم والآلات الموسيقية المستخدمة ولهجة الغناء، وهو ما تمكن ملاحظته في الروابط السابقة. أما الناحية الأخرى لتجلي العنصر الطائفي فهي حقيقة أن أكثر المغنين للسلطة مطربون ينتمون إلى الطائفة نفسها، ومن خلفهم طبعاً هناك موسيقيون وملحنون وكتاب وآخرون. قد لا يعني ذلك أن الطائفة هي الأكثر غناءً للسلطة بمقدار ما يعبر عن درجة الاهتمام الخاص لدى السلطة نفسها في استغلال الطائفة العلوية، واستخدام الألحان واللهجة الأكثر تأثيراً فيها، لبث خطاب “الولاء للأسد الحامي”.
أغاني السلطة الكثيرة والمتشابهة ما زالت تصدح هناك على حواجز الجيش وفي الكراجات ووسائل النقل وعبر الإعلام الرسمي والموالي لها، فتكرر اسم بشار بما لا يحصى من مرات كل يوم، تمجيداً لرئيس نظام قتل بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية وبالتعذيب في المعتقلات مئات آلاف السوريين، ويبدو أن هذه الوظيفة ستستمر بينما يجبر المجتمع الدولي مزيداً من السوريين على العودة والرقص على أنغام تلك الأغاني مجدداً.
هل تنجح كلمات “بشار” الملحنة في تحويل المجرم إلى بطل في ذهن السوريين؟ في ذهن جيل جديد منهم ربما؟
أغاني الصراع في سوريا(3):الاتحاد الديموقراطي الكردي وأسطرة المقاتلين/ سلطان الجلبي
هذا المقال هو الثالث بين أربعة مقالات تستند إلى نتائج بحث “ادلجة الغناء” الذي درست خلاله مضامين عينة شملت أبرز أنماط أغاني الصراع في سوريا وهي: أغاني السلطة، الأغاني الجهادية، أغاني حزب الاتحاد الديموقراطي وأخيراً الأغاني الثورية..
البحث نال منحة منظمة “اتجاهات ثقافية مستقلة” ضمن الدورة الخامسة لبرنامج أبحاث لتعميق ثقافة المعرفة..
يتطلب الأمر الكثير من الشجاعة والإخلاص لدى المرء ليقف مكان أولئك المسنين العفرينيين، وهم يقاومون بصوتهم وحركاتهم الراقصة نيران قذائف تتساقط على بعد عشرات الأمتار فقط من حيث يقفون. لكن الأمر يتطلب أيضاً وجود الأغنية المناسبة ليبتلع صخبها ارتجافات الخوف داخلهم. إنها قصة صنع الأغاني وتوظيفها، من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي كأداة للتأثير في أفكار جمهوره وسلوكه من الأكراد بالدرجة الأولى وبقية السوريين بالدرجة الثانية. وهي قصة شاسعة نأخذ منها جانب المضمون.
لا يمكن فهم المسائل المتعلقة بحزب الاتحاد الديمقراطي PYD من دون الإحاطة بعلاقته العضوية مع حزب العمال الكردستاني PKK، والأخير يصنف كحزب يساري ثوري كردي، نشأ أواخر السبعينات في تركيا وأطلق “الكفاح المسلح لتحرير كردستان” وكعادة الأحزاب اليسارية في ذاك الزمن برع العمال الكردستاني في تجنيد شعراء وموسيقيين أكراد ليغنوا خطاب الحزب، ويحشدوا جمهوره في تركيا وسوريا وغيرها على مدى عقود. والاتحاد الديموقراطي استند منذ تأسيسه في سوريا عام 2003 إلى التراث الغنائي للمنظمة الأم، لكن التداعيات الناجمة عن اندلاع الثورة في سوريا عام 2011، مكنت الحزب من لعب أدوار جديدة في الخارطة السورية بعيداً من دوره التقليدي المتمثل في ردف المعركة الكردية في تركيا. وعلى ذلك، أنتج الحزب عدداً كبيراً من الأغاني الداعمة لمشروعه الطارئ في سوريا، معظم تلك الأغاني باللغة الكردية، لكن الحزب ينتج أيضاً أغاني باللغة العربية وحتى بالسريانية في بعض الحالات تماشياً مع توسيع نطاق جمهوره المستهدف.
https://youtu.be/B3LMmEtwPoo
منتجو أغاني الحزب في معظمهم فرق موسيقية مؤسسة أو مدعومة من قبله، ومن أشهرها فرقة بوطان، بعض تلك الفرق يعمل من داخل سوريا وبعضها الآخر من تركيا أو في بلدان أوروبية. وتبث أغانيها بكثافة عبر وسائل الإعلام التابعة للحزب وفي كل تجمع يقيمه بدءاً من الاحتفالات، وصولاً إلى مناسبات التأبين والتشييع. لكن ماذا عن محتوى تلك الأغاني وما الرسائل التي تبثها؟
الكلمات الأكثر تكراراً في أغاني حزب الاتحاد الديمقراطي
من تحليل نصوص الأغاني العشر الأكثر شهرة لحزب الاتحاد الديمقراطي، تبين أن الكلمات الخمس الأكثر تكراراً هي بالترتيب: (وحدات حماية الشعب YPG، أبطال أو أسود، الحلم يتحقق، الشعب الكردي، الثورة أو الانتفاضة).
(وحدات حماية الشعب) القوة العسكرية التابعة للحزب في سوريا شكلت القيمة الأعلى في خطابه الغنائي، حيث تكرر ذكرها بشكل صريح في ثمانية من الأغاني العشر، بينما بلغ متوسط تكرارتها أكثر من 14 مرة في كل من الأغاني العشر. وردت الكلمة دائماً في سياق المدح التمجيد وهو ما تدلل عليه الكلمة المفتاحية الثانية المتجسدة في ألفاظ المديح منها (أبطال، أسود)، وهي أيضاً تكررت في 8 أغاني بمتوسط 11 مرة في كل أغنية، أغلبية ألفاظ المديح وجهت إلى المقاتلين في صفوف الوحدات ما يجعل من الكلمة المفتاحية الثانية امتداداً وتعزيزاً للأولى، وتعكس الكلمتان معاً العقيدة العسكرية للحزب ودرجة ارتكاز خطابه على صورة المقاتل والقوة العسكرية التي هي “الأسطورية”.
ترتبط الكلمة المفتاحية الثالثة في أغاني الحزب بالمظلومية الكردية، حيث استخدمت كلمات مثل (الحلم يتحقق، النور يبزغ، الحرية قادمة) وغيرها من الألفاظ التي تدل على زوال تلك المظلومة في 7 من الأغاني الـ10 بمتوسط 10 مرات في الأغنية الواحدة. ما يعكس مكانة تلك المظلومية التي تشكل أحد أعمدة شرعنة وجود الحزب. وذلك ما تؤكده الكلمة المفتاحية الرابعة وهي (الكرد، الشعب الكردي) التي تكررت في 7 أغاني بمتوسط 7.1 في الأغنية الواحدة. وبخلاف الرداء الوطني أحياناً الأممي الذي يرتديه الحزب في بعض الأحيان، تعكس الكلمات المفتاحية أن المسألة القومية تحتل الحيز الأكبر من الخطاب المصدر غنائياً، إذ لم ترد كلمات مثل سوريا أو الشعب السوري نهائياً في أي من أغاني الحزب الأكثر شهرة المتخذة كعينة.
أما الكلمة المفتاحية الأخيرة التي شكلت سمة ملفتة في خطاب الحزب فتجسدت في مترادفات مثل (الثورة، الانتفاضة) وهي تشير إلى “ثورة روجافا” التي يزعمها ويتزعمها الحزب في سوريا، وتكرارها جاء في سبعة أغاني بمعدل 6.2 مرة في كل من أغاني العينة ما يجعل منها أحد المفاهيم الأساسية التي يبني عليها خطابه. وفي خطاب الحزب تلك هي الثورة الحقيقية الوحيدة في سوريا، لا الثورة السورية التي لم يرد ذكرها نهائياً في أي من أغانيه الأكثر شهرة.
أغاني الحزب موسيقياً
السرعة الحماسية هي أبرز السمات الموسيقية لأغاني الحزب، فمن بين الأغاني الـ10 في العينة كان 9 منها ذات سرعات ايقاعية عالية، منها 7 أغانٍ على ايقاع “اللف” الذي تنتظم على دقاته الرقصات الشعبية الكردية، والملامح الشعبية الكردية لأغاني الحزب تتضح أكثر في البنية النغمية، فمعظم الحان أغاني الحزب مستلهمة من التراث الكردي الجبلي مع لمسة تحديث تطغى عليها ملامح الموسيقى العسكرية التي تجسدت في الاستخدام المتكرر للكورال مثلاً، أو في استخدام ايقاع “فوكس”. اما الآلات الموسيقية الأكثر استخداماً فكانت هي نفسها الآلات الموسيقية الأكثر استخداماً في الموسيقى التراثية الشعبية مثل “الطنبور” المستخدم في 9 أغاني و”الزورنا” المستخدمة في 5 أغاني الأقل. وهنا أيضاً تحول التراث الموسيقي إلى حصان طرواده المحمل بأفكار الحزب وقيمه.
يبقى أن نضيف أن أغاني حزب الاتحاد أظهرت الدرجة الأكبر في تماسك الخطاب من بين الأنماط الغنائية الأربعة التي درست خلال البحث، وهو ما تم الاستدلال عليه من درجة تشارك الأغاني في بث الرسائل نفسها ضمن كل نمط. وذلك يعكس بشكل ما درجة نجاح الحزب في استخدام سلاح الأغنية في معاركه السورية، وما مشهد المسنين الراقصين أمام القذائف سوى تعبير عن ذاك النجاح.
درج
أغاني الصراع في سوريا(4) : الثورة وتشتت الخطاب وهيمنة المحلية/ سلطان الجلبي
هذا المقال هو الأخير بين مقالات تستند إلى نتائج بحث “أدلجة الغناء” الذي درستُ خلاله مضامين عينة شملت أبرز أنماط أغاني الصراع في سوريا وهي: أغاني السلطة، الأغاني الجهادية، أغاني حزب الاتحاد الديموقراطي وأخيراً الأغاني الثورية.
. البحث نال منحة منظمة “اتجاهات ثقافية مستقلة” ضمن الدورة الخامسة لبرنامج أبحاث لتعميق ثقافة المعرفة..
كان كثر من السوريين ما زالوا يتهامسون سراً حول ما يحدث في درعا ومناطق أخرى ربيع 2011 حين غنى الفنان السوري سميح شقير أغنيته الأشهر “يا حيف” لتكون أولى الأغاني المناصرة للمحتجين وأكثرها شهرة ومشاهدة حتى اليوم.
عقب “يا حيف” ظهرت مئات الأغاني التي اشتركت في تبنيها مفهوم الثورة ضد نظام بشار الأسد، وتكاد تكون تلك الفكرة المشترك الوحيد بينها. جملة تلك الأغاني سميت لاحقاً الأغاني الثورية وهي النمط الغنائي الوحيد الذي ظهر فعلياً بعد عام 2011 بخلاف بقية الأنماط الغنائية التي عرضت في المقالات السابقة والتي تمتد جذورها إلى أزمنة سابقة داخل سوريا وخارجها.
معظم الأغاني الثورية أنتجت بين عامي 2011 و2012 وهي فترة ذروة الاحتجاجات السلمية ضد النظام، وخلافاً لأغنية “يا حيف” فإن معظم تلك الأغاني لم يؤلفها موسيقيون محترفون، بل تطورت عفوياً من الشعارات والأهازيج التي كان يرددها المتظاهرون في مختلف المناطق السورية، ومن بين الأغاني العشر الأكثر شهرة التي اتخذت عينة للبحث كان هناك 7 من أغاني التظاهرات. كانت هناك مجموعات من الناشطين الشباب غالباً تكتب وتؤدي تلك الأغاني في التظاهرات فيحفظها الآلاف وتنتقل من منطقة إلى أخرى، حتى باتت تلك الأغاني هي السمة الأبرز للتظاهرات في سوريا. لم تكن هذه الأغاني مؤدلجة بالمعنى المألوف للكلمة لكنها عبرت عن انفعالات سوريي الساحات الذين انتجوها، ونطقت بلغة الشارع السوري غير المسيس والذي امتلك لأول مرة فرصة للتعبير عن أفكاره بعد عقود من الاستبداد.
من أشهر كتاب أغاني التظاهرات إبراهيم القاشوش، وهو من كتب أغنية “يلا ارحل” التي رددها مئات آلاف المتظاهرين في ساحة العاصي بحماة منتصف عام 2011 قبل أن تنتقل إلى ساحات التظاهر في كل المدن والقرى السورية تقريباً. دفع القاشوش حياته ثمناً لتلك الأغنية بعد أسابيع حين اختطفته ميليشيات تابعة للنظام، ثم رمت جثته منزوعة الحنجرة على ضفّة نهر العاصي في المدينة لتوصل رسالة النظام إلى معارضيه. قالت وسائل إعلام لاحقاً أن القاشوش لم يقتل وهو الآن لاجئ في ألمانيا واسمه الحقيقي هو عبد الرحمن فرهود، لكن الواقع أن فرهود كان المنشد الذي أدى الأغنية ولم يكن مؤلفها.
الكلمات الأكثر تكراراً في الأغاني الثورية
أظهرت الأغاني الثورية الدرجة الأضعف في تماسك خطابها مقارنة بالأنماط الغنائية الباقية، فبينما كان من السهل ملاحظة ارتكاز الأنماط الغنائية الثلاثة الأخرى على كلمات أو رموز أو قيم بذاتها وتكرارها باستمرار، بدا الأمر أقل وضوحاً في الأغاني الثورية التي مالت نحو التشتت وطغى عليها الطابع المحلي. ومن تحليل الأغاني العشر الأكثر شهرة بين الأغاني الثورية تبين أن الكلمة المفتاحية الأولى والأكثر تكراراً كانت “أسماء المناطق السورية المنتفضة” مثل درعا وحمص ودير الزور وغيرها، لقد واظبت ست من أصل الأغاني العشر على تكرار أسماء المناطق المنتفضة في سياق التضامن والتشجيع، بمتوسط بلغ 7.7 مرات في كل من أغاني العينة، وهو ليس معدلاً كبيراً بالمقارنة مع تكرار الكلمات المفتاحية الاولى في بقية الأنماط الغنائية. لكنه يحمل دلالات عدة منها أن الاحتجاجات كانت فعلاً مارسته مجتمعات محلية سورية تكاتفت في مواجهة سلطة استبدادية مركزية، لذلك كان محتجو حمص يغنون لدرعا ومحتجو دير الزور ينادون حلب، وضم خطاب أغاني الثورة مكونات مختلفة ومتنافية أحياناً.
أما الكلمة المفتاحية الثانية في الأغاني الثورية فتجسدت في ألفاظ المظلومية مثل “قصفونا، قتلونا، آلامنا” وتلك حققت أعلى ثاني تكرار في 5 أغان بمعدل 7.4 مرات في الأغنية الواحدة ضمن العينة، يمكن اعتبار محتوى المظلومية في الأغاني الثورية نتيجة طبيعية للعنف المفرط الذي تعرضت له المجتمعات المحلية المنتفضة ضد السلطة، لكن تجدر الإشارة أيضاً إلى أن “الآلام” شكلت نقطة تقاطع بين خطاب الأغاني الثورية والخطاب الجهادي في ورودها ككلمة مفتاحية في النمطين الغنائيين.
في المرتبة الثالثة جاءت كلمة “سوريا أو الوطن” ككلمة مفتاحية تكررت في 5 من الأغاني العشر بمتوسط تكرار بلغ 5.2 مرات في الأغنية الواحدة، وهنا نقطة تقاطع الأغاني الثورية مع أغاني السلطة، لكن على عكس أغاني السلطة التي دأبت على ربط كلمة سوريا بكلمة الأسد أو القائد لم يلاحظ ربط مشابه في كلمة سوريا في الأغاني الثورية. كلمة “الكرامة” ومرادفاتها شكلت الكلمة المفتاحية الرابعة ووردت في 4 أغان بمتوسط 4.9 مرات. والجدير بالذكر أن كلمة الكرامة ومرادفاتها القريبة كالعزّ والمجد والاباء شكلت كلمة مفتاحية مشتركة بين كل الأنماط الغنائية.
أخيراً كانت كلمة “الأسد” وما يشير اليها من نعوت أو سباب هي الكلمة المفتاحية الخامسة. حضور كلمة “الأسد” وإشاراتها في سياق التحقير والشتم أحياناً، تكررت في 4 أغان بمتوسط 4.7 مرات في كل من أغاني العينة، وهو أمر ملفت فبينما تجاهلت معظم أغاني السلطة ذكر الخصم أو حتى نعته بأي من الصفات، تبرز الأغاني الثورية اسم خصمها ككلمة مفتاحية تتصدر خطابها، وتلك إشارة إلى المسافة الكبيرة بين الذهنية التي تصنع خطاب أغاني السلطة وبين صناع خطاب الأغاني الثورية العديدين.
وامتداداً للفكرة السابقة تكاد تكون الأغاني الثورية هي النمط الغنائي الوحيد الذي وصّف بل وشخّص بدقة “الآخر” الخصم في الصراع، إذ وردت كلمات “النظام أو الأسد” صراحةً في 7 من الأغاني العشر. أما في ما يتعلق بصورة الذات أو ما اصطلح على تسميته في البحث “النحن”، فقد استخدمت 7 من الأغاني كلمة “سوريا” للتعبير عن الذات وذلك في سياقات مثل “الشعب السوري، أبناء سوريا، أبناء المناطق المنتفضة” بينما استخدمت بقية الأغاني كلمات “الثوار، المندسين”.
أخيراً ينبغي القول إن الأغاني الثورية شكلت الصرخة الأولى لسوريين حالمين بالتغيير، صرخة حملت مطالبهم وانفعالاتهم بل وحتى جهلهم بالسياسة في بعض الأحيان. لكن سرعان ما أخمدت تلك الصرخة وتلاشت أصوات المنشدين خلف أصوات البنادق والانفجارات، لقد انقطع زخم إنتاج الأغاني الثورية منذ السنة الثانية للثورة تقريباً، المرحلة ذاتها التي ازداد فيها إنتاج أغاني السلطة وحزب الاتحاد الديمقراطي والأغاني الجهادية التي ما زالت تضخ خطاباتها في آذان السوريين حتى اليوم من دون توقف.
درج