مفكرة المترجم: مع أمارجي
تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم التَّرجمية وأحوال التَّرجمة إلى اللُّغة العربيَّة اليوم.
■ كيف بدأت حكايتك مع التَّرجمة؟
بدأتْ من باب الشِّعر، ولم يكن من الممكن لها أن تبدأ إلَّا من هذا الباب، فكشاعرٍ أنا عاجزٌ عن الخوض في الأشياء التي لا تسلك سُبُلَ الشِّعر. والبدايةُ، على التَّحديد، كانت عندما رشَّحني الشَّاعر أسامة إسبر لمشروع كلمة فطلبوا منِّي أن أختار عنواناً لأترجمه عن الإيطاليَّة، فاخترتُ كتاب “أفكار” للشَّاعر جاكومو ليوباردي. بعدها بفترةٍ وجيزةٍ اقترحَ عليَّ أدونيس أن أعدَّ لمجلَّة “الآخر” أنطولوجيا لشعراء إيطاليِّين معاصرين، وكانت هذه تجربةً مفصليَّةً لأنَّها وضعتني على اتِّصالٍ مع عدَّةِ لغاتٍ داخل لغةٍ واحدة، من حيث أنَّ لكلِّ شاعرٍ صوته الخاصُّ ولغته الخاصَّةُ حتَّى ضمن اللُّغة الواحدة.
■ ما هي آخر التَّرجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
قريباً ستصدر عن “منشورات المتوسِّط” ترجمتي لكتاب “القصص” لجوزيبِّه تومازي دي لامبيدوزا، صاحب رواية “الفهد”، ولرواية “زهرة القيامة: عجائب الألفيَّة الثَّالثة” لإميليو سالغاري. وكنتُ قد بدأتُ منذ مدَّةٍ بترجمة كتابٍ عنوانه “غيرة اللُّغات”، لكاتبٍ أرجنتينيٍّ يكتب بالإيطاليَّة اسمه أدريان ن. برافي، إلى جانب انشغالي المستمرِّ بترجمة مختاراتٍ لشعراء إيطاليِّين إلى العربيَّة.
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
بالنِّسبة إليَّ، كشاعرٍ يُترجم، فإنَّ العقبة الأكبر قد تكون النَّصَّ نفسَه حين يكون هذا النَّصُّ بعيداً عن اللُّغة الشِّعريَّة. وقد رفضتُ ترجمةَ العديد من الكتب لأنَّها لم تلامسني شعريَّاً. من ناحيةٍ أخرى، فإنَّ انتصارَ الرِّواية جماهيريَّاً على الشِّعر، والذي قلتُ عنه سابقاً إنَّه علامةٌ أخرى من علامات انتصار السَّطحيَّة على العُمق، قد جعل معظم النَّاشرين، الذين ينظرون إلى الكتاب كبضاعةٍ لا كعملٍ فنِّيٍّ وإبداعيٍّ، يُعرضون عن التَّرجمات الشِّعريَّة، وعن الشِّعر عموماً، ويلحقون بمجريات السُّوق.
■ هناك قولٌ بأنَّ المترجم العربيَّ لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمَّة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
المشكلة أنَّ المحرِّر يتعامل مع اللُّغة بوصفها أنساقاً محدَّدَةَ التَّركيب، ومع الكلمات بوصفها علاماتٍ محدَّدةَ الدَّلالة، في حين يذهب الشَّاعر/المترجم مع جموح اللُّغة وتفلُّتها وزوغانها، وهو لا يهتمُّ بالكلمات في حدِّ ذاتها بقدر ما يهتمُّ بوهجها وظلالها، بالتَّاريخ الخفيِّ لها. لذلك فإنَّ ما يفعله المحرِّر هنا ليس سوى هتكٍ لهذه العلاقة الحميمة بين الشَّاعر/المترجم واللُّغة. شخصيَّاً، أجدُ صعوبةً في الاعتراف بدور المحرِّر، خاصَّةً أنَّه كانت لي تجربتان سيِّئتان في هذا المجال، رسَّختا عندي هذه القناعة.
■ كيف هي علاقتك مع النَّاشر، ولا سيَّما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
أحياناً أتقدَّم أنا بعنوانٍ معيَّن، وأحياناً أخرى يقدِّم لي النَّاشر عدَّة اقتراحاتٍ لأختار من بينها، وقد يحدث أن أرفض جميع الاقتراحات فيتقدَّم النَّاشر بلائحةٍ أخرى؛ أي أنَّ حرِّيَّة الاختيار منوطةٌ بي في النِّهاية.
■ هل هناك اعتباراتٌ سياسيَّةٌ لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أيِّ درجةٍ تتوقَّف عند الطَّرح السياسيِّ للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسيَّة؟
ما يهمُّني هو شعريَّة النَّصِّ لا مواقف كاتبه، ولو كنت سأتوقَّف عند هذه المواقف لما كنت ترجمتُ جوزيبِّه أونغارِتِّي وغابرييل دانُّونتسو ولويجي بيراندِللو، والثَّلاثة كانوا في مرحلةٍ ما من حياتهم من المناصرين للفاشيَّة. ولكن ما الذي بقي منهم في النِّهاية؟ الشِّعر فحسب. هذا يعني أنَّ ذاكرة السِّياسة قصيرة، وذاكرة الشِّعر أبديَّة، وما أريده كمترجمٍ هو أن أقبض على مفاتيح النَّصِّ التي تهدي إلى هذه الأبديَّة.
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
معظم الكتَّاب الذين ترجمتُ لهم هم في عِداد الموتى، ولكن بغضِّ النَّظر عمَّا إذا كانوا أمواتاً أو أحياء، فإنَّ نوعاً من الرَّابط الرُّوحيِّ الحميم والعابر للحدود ينشأ بيني وبينهم، فالتَّرجمة ليست سَفَراً نحو الآخر، بل هي سَفَرٌ في الآخر؛ ليست استنطاقاً لظاهر النَّصِّ، بل إيغالاً في بواطنه والتقاطاً لمكنوناته وخباياه؛ ولا يمكن لأحدٍ أن يبلغ هذه الدَّرجة من القرب التي تبلغ مرتبة الانصهار كما المترجم، ولا سيَّما المترجم الذي يمتلك حساسيَّةً شعريَّةً عالية.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربيُّ كاتباً، صاحب إنتاجٍ أو صاحب أسلوبٍ في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
سُئلتُ السُّؤال نفسه في حوارٍ إذاعيٍّ أجري معي قبل وقتٍ قصير، وقد أجبتُ حينها بأنَّ الشَّاعر حين يكون هو نفسه مترجِماً فإنَّه لا يعود قادراً على كتابة الشِّعر بطريقةٍ أحاديَّة اللُّغة، وهذا أمرٌ جيِّدٌ لأنَّه بالثُّنائيَّة اللُّغويَّة يمكن لكلِّ لغةٍ من اللُّغتين أن تحرِّرَ ما هو مقموعٌ في اللُّغة الأخرى، وأن تفتح للشَّاعر طاقاتٍ لم يكن منتبهاً إليها من قبل. ناهيك عن أنَّ تلك الثُّنائيَّة تخفِّف المعجم اللُّغويَّ للشَّاعر، بمعنى أنَّ القصيدة تبتعد عن الإثقالات والزَّخرفات اللُّغويَّة الزَّائدة وتقترب أكثر وأكثر من الشِّعر. ولكن أيضاً، لا يمكن للشَّاعر أن يمنع شعريَّته وصوته من التَّسلُّل إلى ترجماته والتَّذاوب معها.
■ كيف تنظر إلى جوائز التَّرجمة العربيَّة على قلَّتها؟
تبقى جيِّدةً ما دامت غير مرتبطةٍ بأجنداتٍ سياسيَّة، وما دامت تحتكم إلى القيمة الإبداعيَّة للمنتَج التَّرجميِّ لا إلى قيمته التَّسويقيَّة. شخصيَّاً، حين أترجم أو أكتب فإنَّني أفعل ذلك بدافع حبِّي لما أفعل، وليس سعياً وراء هذه الجائزة أو تلك. من الجيِّد أن تأتي الجوائز إلى المبدع، ولكن من السَّيِّئ جدَّاً أن يذهب هو إليها.
■ التَّرجمة عربيَّاً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع التَّرجمة المؤسَّساتيَّة وما الذي ينقصها برأيك؟
لا يمكن فصل واقع التَّرجمة عن الواقع الثَّقافيِّ والحضاريِّ للأمم، ولذلك تبقى حركة التَّرجمة عربيَّاً متخلِّفةً قياساً بحالها في الغرب. لدينا مشاريع مؤسَّساتيَّة رائدة وعريقة، ولكنَّها محدودةٌ وتحتاج إلى طفرةٍ في المنهجيَّة والأداء والرُّؤية الاستراتيجيَّة. وفي المقابل هناك مشاريع يبدو أنَّها تتخبَّط بلا هدفٍ معيَّن، وهي تعطي انطباعاً بأنَّها تتوخَّى الكسب الماديَّ على حساب الكسب الثَّقافيِّ، والصُّوَريِّ على حساب الجوهريِّ، لِما تحفل به الكتب الصَّادرة عنها من أخطاءٍ لغويَّةٍ ونحويَّةٍ واصطلاحيَّة لا يمكن التَّسامح معها.
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معيَّنة في الترجمة؟
أحبُّ وصف ريلكه للتَّرجمة بأنَّها “عملٌ خيميائيٌّ”، وهذه هي القاعدة التي أنطلق منها إزاء كلِّ نصٍّ أترجمه. فأنا أسيرُ في التَّرجمة وفقاً للتَّفسير الصُّوفيِّ لمراحل الخيمياء الأربع، من مرحلة الإحاطة بجميع عناصر النَّصِّ في حالتها الظِّلاليَّة (ما يقابل مرحلة النيجريدو في الخيمياء)، إلى مرحلة كشف الرُّؤى الكامنة في تلك الظِّلال (مرحلة الألبيدو)، فمرحلة التَّنوُّر بالوهج المتأصِّل في تلك الرُّؤى (مرحلة السِّيترينيتاس)، وانتهاءً بمرحلة الانصهار والتَّوحُّد مع تلك العناصر (مرحلة الرُّوبيدو) التي يمكن القول عندها إنَّه تمَّ الإمساك بحجر الفيلسوف، المفتاح اللَّازم لعمليَّة التَّحويل من لغةٍ إلى لغة.
■ كتابٌ أو نصٌّ ندمت على ترجمته ولماذا؟
لم يحدث إلى الآن أن ندمتُ على كتابٍ أو نصٍّ ترجمته، ولكن ندمتُ أكثر من مرَّةٍ على نشر كتابٍ لدى ناشرٍ لم يقدِّر قيمته ويوفه حقَّه.
■ ما الذي تتمنَّاه للتَّرجمة إلى اللُّغة العربيَّة وما هو حلمك كمترجم؟
أتمنَّى دعم الجهود الفرديَّة لأنَّ المترجمَ كفردٍ يبقى هو النَّواة الأصل في أيِّ عملٍ ترجميٍّ سواءٌ كان يعمل بشكلٍ مستقلٍّ أو ضمن أطرٍ مؤسَّساتيَّة، كما أتمنَّى إيجاد هيئاتٍ حقوقيَّةٍ أو نقابيَّةٍ تدافع عن حقوق المترجم. أمَّا عن حلمي الشَّخصيِّ فما يزال هناك في الأدب الإيطاليِّ الكثير من أمَّهات الكتب التي لم تُترجم بعد وآملُ أن تساعدني الظُّروف على نقل بعضٍ منها إلى العربيَّة.
بطاقة
أمارجي (رامي يونس) شاعرٌ ومترجم سوري من مواليد اللاذقيَّة 1980، صدرت له أربعة دواوين شعرية. من ترجماته: “أفكار” لجاكومو ليوباردي (2009)؛ و”الأرض الميِّتة” لغابرييل دانُّونتسو (2012)؛ و”الأعمال الأدبيَّة” لليوناردو دافنشي (2015)؛ و”الآثار الشِّعريَّة الكاملة” لدينو كامبانا (2016)؛ و”مَن يوسِّع لي البحر” لميكيل كاكَّامو (2016)؛ و”شجرة القنفذ والرَّسائل الجديدة” لأنطونيو غرامشي (2016)؛ و”خبزٌ ونبيذٌ وقصائد أخرى” لهولدرلن (2016)؛ و”جسدٌ وسماء” لبيير باولو بازوليني (2016)؛ و”البحر المحيط” لألِسَّاندرو باريكُّو (2017)؛ و”واحدٌ ولا أحد ومِائة ألف” للويجي بيراندِللو (2017)، و”زهرة القيامة: عجائب الألفيَّة الثَّالثة” لإميليو سالغاري 2018؛ و”القصص” لجوزيبِّه تومازي دي لامبيدوزا (2018).
العربي الجديد