الصديق الخياليّ عند البالغين… اضطراب أم شريك؟/ باسكال صوما
“عندما يأتي المساء، أعود إلى المنزل وأذهب إلى دراستي.
على العتبة أخلع ملابس العمل الموحلة، التي تفوح منها رائحة العرق، وأضع علي جلباب المحكمة والقصر، وفي هذا اللباس القاسي أدخل المحاكم العتيقة للقدماء ويرحبون بي، وهناك أتذوق الطعام الذي هو لي وحدي، والذي وُلدت من أجله. وهناك أتحدث بجرأة إليهم وأطلب دوافع لأفعالهم، وهم، في إنسانيتهم، يردون عليّ. وعلى مدى أربع ساعات، أنسى العالم، ولا أذكر أي عجز، ولا أعد أخشى الفقر، ولا أرتجف بعد الآن من الموت: فأنا أعبر في الواقع إلى عالمهم”.
هكذا كتب نيكولاس ميكيافيللي، مؤسس العلوم السياسية عن أصدقائه الوهميين، عندما تم نفيه إلى الريف الإيطالي، حيث كان وحيداً طوال النهار، فيما يمضي ليله متوهّماً بشعبيته الخيالية مع أصدقائه الوهميين.
والصداقات الخيالية هي ظاهرة نفسية واجتماعية، حيث يتخيل الطفل خصوصاً صديقاً خيالياً، يبدو له حقيقياً، يشاركه همومه وأفكاره ويومياته، وقد يقوم هذا الصديق الخيالي بأدوار كثيرة في حياة الطفل. إلا أن هذه الحالة الطفولية قد لا تكون دائماً عابرة، فبعض الأطفال يصطحبون أصدقاءهم الوهميين معهم إلى البلوغ والرشد، ويبقون معهم، لسنوات طويلة. وقد تكون لهؤلاء الأصدقاء الخياليين أسماء، وقد يتخذون شكلاً معيناً، وشخصية وطبعاً وأفكاراً.
بين الكتابة والسينما
كانت الكاتبة العالمية أغاثا كريستي تملأ أيامها في اختراع الأصدقاء الوهميين، لا سيما حين لم يرسلها ذووها إلى المدرسة الداخلية مع أختيها. فكان أصدقاء كريستي الوهميون يملأون خيالها الخصب بالحكايات والشخصيات والابتكارات، ما ساعدها على ابتكار قصصها الخيالية الرائعة. وتقول إن هؤلاء الأصدقاء المتخيلين كانوا أفضل أصدقائها.
من جهة أخرى، تناولت أفلام سينمائية طويلة وقصيرة موضوع الصديق الخيالي، وذهب بعضها إلى تصويره كمبعوث روحي كالشياطين والملائكة، فيما اعتبرته أفلام أخرى شريراً أو كائناً غريباً عن البشر، والذي قد لا يكون مجرد كائن متخيل. واكتفت أفلام أخرى بوضعه في خانة الصديق المتخيّل لدى الأطفال أو البالغين، الذي يكون بمثابة منفس للهموم وقد يلعب دوراً ما في مساعدة الشخص أو تقديم النصح والدعم.
ومن هذه الأفلام: Fight Club، The baby sitter، Immaginary friend، Don’t look under the bed، Drop dead Fred… والكثير غيرها من الأفلام التي كان أحد أبطالها أو أكثر، أصدقاء خياليين.
بين الخيال الواسع والاضطرابات
في هذا السياق، يوضح د. هادي مراد وهو طبيب وباحث في الأمراض النفسية، أن “بعض التجارب والمشاهدات أثبتت أن الصديق الخيالي قد يرافق بعض الأشخاص حتى سن الرشد، إنما بدرجة أقل بكثير مما كانت في طفولتهم. ويحصل ذلك في أحيانٍ كثيرة مع أشخاص تعرّضوا لصدمة ما في صغرهم، كالحرب أو مشاهدة جريمة قتل، ما يؤثر سلباً في شخصياتهم”. ويتابع لـ”درج”: “هذا الصديق الخيالي يشكل منفذاً للطفل حتى يخرج من حالة أو اضطراب معيّن. وهناك أطفال يعانون من حركة زائدة أو تركيز ضعيف، هؤلاء أيضاً لديهم قابلية ليبقى صديقهم الخيالي معهم حين يكبرون”.
ويوضح أن “نتائج وجود الصديق الخيالي عند الكبار لا تكون خطيرة أو ذات انعكاسات مهمة، إلا في حال تجسد هذا الصديق الوهمي للشخص بأمور غريبة عجيبة وأصبح يعطيه أوامر، وأصبح أهم من الأشخاص الآخرين الموجودين في حياة الشخص، كعائلته والمقربين منه. إذا أصبح الصديق الخيالي يتحكم بحياة الشخص، هنا الخطر”، ناصحاً “بزيارة معالج نفسي إذا أصبحت المسائل خطير، ليس لمعالجة فكرة الصديق النفسي، بل الأسباب التي دفعت الشخص إلى اختراعه واللجوء إليه”.
ويؤكد مراد أن “الدواء ليس الحل لمعالجة مشكلة الصديق الخيالي، لأ هذا الأخير ليس مسألة ذهانية إلا إذا تطورت، العلاج يكون سلوكياً، ويحتاج الشخص بين 6 و12 جلسة عند مختص”. ويضيف: “طبعاً نحن لا نشجع على قطع العلاقة فوراً مع الصديق الخيالي، لأن ذلك قد يسبب له قلقاً أو انزعاجاً ما، نحن نشجع على اللجوء إلى العلاج السلوكي الإدراكي”.
ويقول: “ليست هناك نسب دقيقة، لكن تقريباً 20 في المئة من الأطفال الذين لديهم صديق خياليّ، يرافقهم إلى سن الرشد”، مشيراً إلى أن “الصديق الخيالي ينمي القدرة الفكرة ويوسّع خيال الطفل، أما عند الكبار فهناك بعض البالغين لديهم سمة نفسية تسمى الشخصية الاضطرابية المتجنبة، هؤلاء أكثرهم لديهم قابلية لوجود هذا الصديق الخيالي، وهناك اضطرابات أخرى أيضاً، قد يؤشر لها وجود صديق خيالي، مثل الأشخاص المتمتعين بخيال واسع ويؤمنون بأمور غير مألوفة كالتنجيم والفلك، هؤلاء قد يصاحبون صديقاً خيالياً يناسب أفكارهم وتوجهاتهم”.
كان كل ما أحتاج إليه…
كتبت ريتشال غودريش في كتابها“The Dandelions: Disappearance of Annabelle Fanche”، هذا الحوار مع صديقها الخيالي “كيفن”:
“حسناً كيفن عليّ أن أتوقف عن التحدّث معك، الناس يقولون إنني مجنونة”، فردّ صديقي الخيالي: لكنك تتحدّثين إلي الآن.
قلت: “حسناً عليّ أن أتوقف عن ذلك”. فأجاب: “أشك في أنك تستطيعين ذلك”.
وكان على حق، لم أكن أريد شيئاً في العالم أكثر من منح اهتمامي كله لظلٍّ متخيّل، وأتجاهل كل من تجاهلني في العالم الحقيقي. كنت أريد أن أتحدّث مع كيفن، وأن ألعب معه وأضحك معه. في الحلم، ربما كان يمكن أن أبرّر هذا السلوك، إنما في العالم الواقعي سُعتبر ذلك هلوسة، وسأكون مجرد فاقدة للصواب”.
وتقول أيضاً في معرض حديثها عن صديق متخيل: “كان كل شيء أحتاج إليه، لأن طبعه كان متجانساً مع رغباتي الدفينة، كان صخرتي حين كنت أبكي، ورفيقي في الضحك، وبطلي حين كنت أحتاج أن أتخيّل بطلاً وُجِد من أجلي”.
درج