الحروب البينية في المعارضة السورية/ سميرة المسالمة
تعدّدت خلافات السوريين، وباتت أوسع من القضية الأساسية التي أطلقوا من أجلها ثورتهم قبل ثمانية أعوام، في الوقت الذي حافظ فيه النظام على خطابه ونهجه وهدفه ووفده وأسلوبه في تفتيت إجماعات السوريين عن الدولة المنشودة، ليبقى مسار النظام واضحاً، وأدواته تعمل في سياق متسق ومتكامل، في حين بدّدت قيادات المعارضة شعبيتها وشرعيتها، وغابت عنها مسارات الطريق الصحيح لتحقيق هدف السوريين الأساسي في الحرية وبناء دولة المواطنة، الأمر الذي منح النظام فرصة السخرية من حروبٍ بيْنيةٍ معارضاتية، ليحوّلها إلى استثمار ناجح لتشويه أجسام المعارضة وتقويض شرعية الثورة، وتوسيع الفجوة بين كيانات المعارضة أولاً، ثم بينها وبين السوريين في كل أماكن وجودهم وانتشارهم الطوعي والقسري.
مثلاً، أهدر الكيان الرسمي الأول للمعارضة، أي المجلس الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، حالة الإجماع الشعبي التي حظي بها، وإلى جانبه الجيش الحر بالتوازي أواخر عام 2011، إذ أظهرت الخلافات الشخصية بين القيادات حالةً من النكران لمتطلبات الثورة في أن يكون لها تمثيل جامع لكل شرائحها، يمكن من خلاله صياغة مشروع وطني، يلتفّ حوله كل السوريين، ما أثبت عجز المجلس، وقوّض الإجماع حوله، وبرّر التدخل الدولي لإحداث الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والذي أيضاً لم يُثبت أهليته، لا في توحيد جبهة المعارضة، ولا في قيادتها، بسبب الطريقة التي بُني بها، والعقليات التي تحكّمت به والحسابات الضيقة والخاطئة التي سيطرت على أطرافه. وهكذا حل الائتلاف مكان المجلس الوطني الذي تنازعته وتحكمت فيه أطرافٌ، لا أحد يعرف كيف أتت، وكيف تحكّمت، سوى أولي الأمر من الفاعلين والداعمين الخارجيين.
لذا، لم يكن “الائتلاف” أفضل من سابقه، أي المجلس الوطني، بل ربما بدا أكثر هشاشةً وارتهاناً، ومجاملة للفصائل الإسلامية، وحتى لجبهة النصرة التي لم تخفِ عداءها للثورة وأهدافها، والتي مارست كل شيء لنزع مشروعية الثورة، وإنهاء وجود الجيش الحر، وتوارث مناطقه المسيطر عليها، وبالتالي تقويض ثقة العالم والسوريين بقدرة المعارضة على إيجاد البديل للنظام. وفي كل الأحوال، ما كان للائتلاف أن يكون حاضنة لكل قوى الثورة، ولم يكن جامعاً لكل المعارضين، ولم يفعل شيئاً لإعادة ثقة السوريين بمعارضتهم، ولا في صوغ إجماعاتٍ جديدةٍ لهم، بل كان مدعاةً للتشظّي، وسبباً في تعدّد الكيانات، وفقدان الأمل، مع كل ما أبداه من ارتهانٍ في قراراته ومساحة حركته.
وبذلك، فقد السوريون إيمانهم بكل ما أنتجته المعارضة، وتشاركت معها في ذلك القوى الدولية، ما أنتج كياناً جديداً للتفاوض عبر مؤتمري الرياض 1 والرياض 2، ووفوداً تتبدّل حسب المصالح الدولية وتبعيات أعضائها، ما أدى إلى استشعار الناس خطر ما يُحدق بهم فيما إذا استمرت الهيئة العليا للمفاوضات في مساراتها، وهكذا إلى أن وصلنا إلى يوم الجمعة 5 /10، حيث أطلق الناس، في مظاهراتٍ حاشدةٍ، شعار “هيئة التفاوض لا تمثلني”، وهي الهيئة التي حلت محل هيئة سابقة، بدون أي وجه مفاضلة بين الاثنتين، ومرّر السوريون من خلالها رسالتهم إلى قيادات المعارضة، معلنين افتراقهم عنهم في حال استمرار الأداء وفق نهج مصالح الدول، وليس المشروع الوطني البديل للنظام القائم.
أي أننا أمام ملامح إنذار شديد اللهجة من أهل الثورة إلى من يتولّى قيادة المفاوضات عنها، لكن الأمر تجاوز ذلك إلى أبعد من هذا، ما يجعلنا نستشعر أن ثمّة حرباً قاسية أخرى تحدث اليوم بين عموم مناهضي نظام الأسد، بأسلحة وسائط التواصل الحديثة، في مجاراة الحرب المسلحة الدائرة على السوريين، أحدها بين النظام السوري وكل فئات الشعب المناهضة له، برعاية وأدوات دولية يتسلح بها طرفان، مقابل أطراف دولية تشن حربها الخاصة في سورية، تحت أجندات وطنية شعاراتية غير حقيقية، وحرب ثانية عميقة مجتمعياً، وهي تتساوى بحجم خسائرها التراكمية مع الأولى، ما يعني أننا أمام حربين، أولاهما تزهق الأرواح، والأخرى تذهب بآخر ما تبقى للسوريين من قدرة على التعايش المشترك، وتحمل المسؤولية الجمعية في استعادة الحياة السورية، بعيداً عن تنميط السوريين إلى قومياتٍ وأحزابٍ وتجمعاتٍ ومذاهب، وأخيراً بين شريحة قيادات معارضة وثوار.
لقد دمّرت الحرب العسكرية البنية التحتية السورية، وحصدت أرواح ما يفوق عن مليون سوري، وشرّدت نحو نصف الشعب السوري بين لاجئ ونازح داخلياً وخارجياً، لكن الحرب البينية بين قيادات، وشخصيات، ومعارضين، وثوار على النظام، قد تذهب بما يمكن تسميتها مبادئ العيش المشترك، فحيث يتحصن بعضهم طائفياً وفق آلية تشظٍّ داخلية أيضاً، يلجأ كل من السوريين إلى خصوماتٍ شخصية، ومهاتراتٍ غير مسؤولة، من شأنها أن تكون قيمة مضافة لنصر عسكري على الثورة، وليس لها ما يجعل التساؤلات مطروحةً عن الاصطفافات الأفقية والعامودية التي أصبحت اليوم الشغل الشاغل لرواد وسائل التواصل الاجتماعي على امتداد مساحة الدولة الافتراضية، التي تفوق مساحتها مجموع دول الحدود الجغرافية على تعددها.
أي أن السوريين اليوم، قيادات وقواعد، بأمس الحاجة للبحث من جديد عما يجمع بينهم، مناهضين لحكم الاستبداد، من دون إنكار حقهم في الاختلاف، وإبداء الرأي واحترامه من الآخر الذي يفترض أنه يمثلهم “كيانياً”، وهو ليس فوق النقد والمساءلة، وحتى المحاسبة التي طالبت بها المظاهرات، كما أنه ليس من حق أحد أن يمارس على الشعب دور الوريث للحكم قبل حتى استلامه، وتمثل خطاب النظام في مواجهة المظاهرات وادّعاء أنها مخترقة و”مندسّة” بين صفوف السوريين، ما يعني أن الحاجة إلى إعادة النظر في هيكلية الجسم التفاوضي، وتمثيله وتمثّله مشروع “النظام البديل”، باتت ملحةً قبل أن ينبت من جديد كيان معارضاتي، تؤسسه الدول عن السوريين، لمواجهة مظاهراتهم بالحجج والإدانات نفسها.
العربي الجديد